الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي

وقوله: { لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } أي من القرى. قال (1) ابن عباس: يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى. كما قال تعالى: { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الأحقاف : 27] ، ومنه قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } الآية [الرعد : 41 ] ، على أحد الأقوال، فالمراد: لما بين يديها وما خلفها في المكان، كما قال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى. وكذا قال سعيد بن جبير { لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } [قال] (2) من بحضرتها من الناس يومئذ.
وروي عن إسماعيل بن أبي خالد، وقتادة، وعطية العوفي: { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْها [وَمَا خَلْفَهَا] } (3) قال: ما [كان] (4) قبلها من الماضين في شأن السبت.
وقال أبو العالية والربيع وعطية: { وَمَا خَلْفَهَا } لما (5) بقي بعدهم من الناس من بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم.
وكان هؤلاء يقولون: المراد بما بين يديها وما خلفها في الزمان.
وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس أن يكون أهل تلك القرية عبرة لهم، وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلام أن تفسر الآية به وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم؟ هذا لعل أحدًا من الناس لا يقوله بعد تصوره، فتعين أن المراد بما بين يديها وما خلفها في المكان، وهو ما حولها من القرى؛ كما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير، والله أعلم.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع عن أبي العالية: { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } أي: عقوبة لما خلا من ذنوبهم.
وقال ابن أبي حاتم (6) وروى عن عكرمة، ومجاهد، والسدي، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، نحو ذلك.
وحكى القرطبي، عن ابن عباس والسدي، والفراء، وابن عطية { لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } بين ذنوب القوم { وَمَا خَلْفَهَا } لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب، وحكى فخر الدين ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المراد بما بين يديها وما خلفها: من تقدمها من القرى، بما عندهم من العلم بخبرها، بالكتب المتقدمة ومن بعدها.
الثاني: المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم.
__________
(1) في جـ، ط، ب، أ، و: "قاله".
(2) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "لمن".
(6) في أ: "وقال ابن أبي جرير".

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)

والثالث: أنه جعلها تعالى عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده، قال: وهذا قول الحسن. قلت: وأرجح الأقوال أن المراد بما بين يديها وما خلفها: من بحضرتها من القرى التي يبلغهم خبرها، وما حل بها، كما قال: { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الأحقاف : 27] وقال تعالى: { وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ } [الرعد : 31] ، وقال { أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } [الأنبياء : 44 ] ، فجعلهم عبرة ونكالا لمن في زمانهم، وعبرة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم، ولهذا قال: { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ }
وقوله تعالى: { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } قال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } الذين من بعدهم إلى يوم القيامة.
وقال الحسن وقتادة: { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } بعدهم، فيتقون نقمة الله، ويحذرونها.
وقال السدي، وعطية العوفي: { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قلت: المراد بالموعظة هاهنا الزاجر، أي: جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله، وما تحيلوا به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم، كما قال الإمام أبو عبد الله بن بطة: حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو [عن أبي سلمة] (1) عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترتكبوا ما ارتكب (2) اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" (3) .
وهذا إسناد جيد، وأحمد بن محمد بن مسلم هذا وثقه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي، وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح. والله أعلم.
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) }
يقول تعالى: واذكروا -يا بني إسرائيل-نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها وإحياء الله المقتول، ونصه على من قتله منهم. [مسألة الإبل تنحر والغنم تذبح واختلفوا في البقر فقيل: تذبح، وقيل: تنحر، والذبح أولى لنص القرآن ولقرب منحرها من مذبحها. قال ابن المنذر: ولا أعلم خلافا صحيحًا بين ما ينحر أو نحر ما يذبح، غير أن مالكا كره ذلك. وقد يكره الإنسان ما لا يحرم، وقال أبو عبد الله: أعلم أن نزول قصة البقرة على موسى،
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "ما ارتكبت".
(3) جزء الخلع وإبطال الحيل لابن بطة (ص24).

عليه السلام، في أمر القتيل قبل نزول القسامة في التوراة.
بسط القصة] (1) -كما قال ابن أبي حاتم-:
حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن (2) عبيدة السلماني، قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيمًا لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان (3) ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا، وركب بعضهم إلى (4) بعض، فقال ذوو الرأي منهم والنهى: علام يقتل بعضكم بعضًا وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى، عليه السلام، فذكروا ذلك له، فقال: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } قال: فلو لم يعترضوا [البقر] (5) لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم (6) شددوا فشدد عليهم، حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا، فأخذوها بملء جلدها ذهبًا فذبحوها، فضربوه ببعضها فقام فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا، لابن أخيه. ثم مال ميتًا، فلم يعط من ماله شيئًا، فلم يورث قاتل بعد.
ورواه ابن جرير من حديث أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة (7) بنحو من ذلك (8) والله أعلم.
ورواه عبد بن حميد في تفسيره: أنبأنا يزيد بن هارون، به.
ورواه آدم بن أبي إياس في تفسيره، عن أبي جعفر -هو الرازي-عن هشام بن حسان، به. وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره: أنبأنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، في قول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان غنيًا، ولم يكن له ولد، وكان له قريب وكان وارثه، فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع الطريق، وأتى موسى، عليه السلام، فقال له: إن قريبي قتل وإني إلى أمر عظيم، وإني لا أجد أحدًا يبين [لي] (9) من قتله غيرك يا نبي الله. قال: فنادى موسى في الناس، فقال: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا بينه لنا، [قال] (10) : فلم يكن عندهم علم، فأقبل القاتل على موسى عليه السلام، فقال له: أنت نبي الله فاسأل لنا ربك أن يبين لنا، فسأل ربه فأوحى الله إليه: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } فعجبوا من
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(2) في جـ: "بن".
(3) في ط، ب: "وكان له".
(4) في جـ: "على".
(5) زيادة من ب.
(6) في جـ: "ولكن".
(7) في جـ: "عبدة".
(8) تفسير ابن أبي حاتم (1/214) وتفسير الطبري (1/337).
(9) زيادة من ط، ب، أ، و.
(10) زيادة من أ.

ذلك، فقالوا: { أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ* قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ } يعني: لا هرمة { وَلا بِكْرٌ } يعني: ولا صغيرة { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } أي: نصف بين البكر والهرمة { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا } أي: صاف لونها { تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } أي: تعجب الناظرين { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ } أي: لم يذللها (1) العمل { تُثِيرُ الأرْضَ } يعني: وليست بذلول تثير الأرض { وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ } يقول: ولا تعمل في الحرث { مُسَلَّمَةٌ } يعني: مسلمة من العيوب { لا شِيَةَ فِيهَا } يقول: لا بياض فيها { قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } قال: ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها، لكانت إياها، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: { وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } لما هدوا إليها أبدًا. فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم إلا عند عجوز عندها يتامى، وهي القيمة عليهم، فلما علمت أنه لا يزكو لهم (2) غيرها، أضعفت عليهم الثمن. فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألتهم أضعاف ثمنها. فقال لهم موسى: إن الله قد كان خفف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا، واشتروها (3) فذبحوها، فأمرهم موسى، عليه السلام، أن يأخذوا عظمًا (4) منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتًا كما كان، فأخذ قاتله -وهو الذي كان أتى موسى فشكا إليه [مقتله] (5) -فقتله الله على أسوأ (6) عمله.
وقال محمد بن جرير: حدثني ابن سعد (7) حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه [عن جده] (8) عن ابن عباس، في قوله في شأن البقرة: وذلك أن شيخًا من بني إسرائيل على عهد موسى، عليه السلام، كان مكثرًا من المال، وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم، وكان الشيخ لا ولد له وبنو أخيه ورثته فقالوا: ليت (9) عمنا قد مات فورثنا ماله، وإنه لما تطاول عليهم ألا يموت عمهم، أتاهم الشيطان فقال لهم: هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم، فترثوا ماله، وَتُغْرِمُوا أهل المدينة التي لستم بها ديته، وذلك أنهما كانتا مدينتين، كانوا في إحداهما وكان القتيل إذا قتل فطرح بين المدينتين (10) قيس ما بين القتيل والقريتين فأيهما (11) كانت أقرب إليه غرمت الدية، وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك، وتطاول عليهم ألا يموت عمهم عمدوا إليه فقتلوه، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها. فلما أصبح أهل المدينة جاء بنو أخي الشيخ، فقالوا: عمنا قتل على باب مدينتكم، فوالله
__________
(1) في ب، أ، و: "لم يذلها".
(2) في أ: "أنهم لا يتركوا".
(3) في ط: "واشتروا".
(4) في جـ: "عظمها".
(5) زيادة من و.
(6) في جـ: "أشر"، وفي أ: "سوء".
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "ابن أبي سعيد".
(8) زيادة من أ، و.
(9) في جـ: "يا ليت".
(10) في ب: "القريتين".
(11) في جـ، ط، ب، أ، و: "فأيتهما".

لتغرمن لنا دية عمنا. قال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا (1) قاتلا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا. وإنهم عمدوا إلى موسى، عليه السلام، فلما أتوه قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولا على باب مدينتهم. وقال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلناه ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا، وإنه جبريل (2) جاء بأمر (3) السميع العليم إلى موسى، عليه السلام، فقال: قل لهم: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } فتضربوه ببعضها.
وقال السدي: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثرًا من المال وكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج، فخطب إليه ابن أخيه ابنته، فأبى أن يزوجه، فغضب الفتى، وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته. فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل، فقال: يا عم (4) انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم، لعلي أن أصيب منها (5) فإنهم إذا رأوك معي أعطوني. فخرج العم مع الفتى ليلا فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى، ثم رجع إلى أهله. فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه، كأنه لا يدري أين هو، فلم يجده. فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه، فأخذهم وقال: قتلتم عمي، فأدوا إليّ ديته فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه، وينادي: واعماه. فرفعهم إلى موسى، فقضى عليهم بالدية، فقالوا له: يا رسول الله، ادع الله لنا (6) حتى يبين لنا من صاحبه، فيؤخذ صاحب الجريمة (7) فوالله إن ديته علينا لهينة، ولكنا نستحيي أن نعير به فذلك حين يقول الله تعالى: { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } فقال لهم موسى، عليه السلام: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } قالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله، وتقول: اذبحوا بقرة. أتهزأ بنا! { قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا [على] (8) موسى فشدد الله عليهم. فقالوا: { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } والفارض: الهرمة التي لا تلد، والبكر التي لم تلد إلا ولدًا واحدًا. والعوان: النصف التي بين ذلك، التي قد ولدت وولد ولدها { فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ* قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا } قال: نقي لونها { تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } قال: تعجب الناظرين { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ* قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا } من بياض ولا سواد ولا حمرة { قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } فطلبوها فلم يقدروا عليها.
__________
(1) في جـ: "ما قتلناه ولا علمناه".
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "وإن جبريل".
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "بأمر ربه".
(4) في جـ: "يا عمي".
(5) في جـ: "فيها".
(6) في ب، أ، و: "ادع لنا الله".
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "الفرصة".
(8) زيادة من جـ، أ.

وكان رجل في (1) بني إسرائيل، من أبر الناس بأبيه، وإن رجلا مر به معه لؤلؤ يبيعه، وكان أبوه نائمًا تحت رأسه المفتاح، فقال له الرجل: تشتري (2) مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفًا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفًا. فقال الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفًا، فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفًا، وزاد الآخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مائة ألف، فلما أكثر عليه قال: والله لا أشتريه منك بشيء أبدًا، وأبى أن يوقظ أباه، فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة، فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة وأبصروا البقرة عنده، فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة، فأبى، فأعطوه ثنتين فأبى، فزادوه حتى بلغوا عشرا، فأبى، فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك. فانطلقوا به إلى موسى، عليه السلام، فقالوا: يا نبي الله، إنا وجدناها عند هذا فأبى أن يعطيناها وقد أعطيناه ثمنًا فقال له موسى: أعطهم بقرتك. فقال: يا رسول الله، أنا أحق بمالي. فقال: صدقت. وقال للقوم: أرضوا صاحبكم، فأعطوه وزنها ذهبًا، فأبى، فأضعفوا (3) له مثل ما أعطوه وزنها، حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهبًا، فباعهم إياها وأخذ ثمنها، فذبحوها. قال: اضربوه ببعضها، فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فعاش، فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي، قال: أقْتُلُهُ، فآخذُ مالَه، وأنكح ابنتَه. فأخذوا الغلام فقتلوه (4) .
وقال سنيد: حدثنا حجاج، هو ابن محمد، عن ابن جريج، عن مجاهد، وحجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس -دخل حديث بعضهم في حديث بعض-قالوا: إن سبطًا من بني إسرائيل لما رأوا كثرة شرور الناس، بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدًا منهم خارجًا إلا أدخلوه، وإذا افتتحوا (5) قام رئيسهم فنظر وأشرف، فإذا لم ير شيئًا فتح المدينة، فكانوا مع الناس حتى يمسوا. قال: وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير، ولم يكن له وارث غير أخيه، فطال عليه حياته فقتله ليرثه، ثم حمله فوضعه على باب المدينة، ثم كمن في مكان هو وأصحابه. قال: فأشرف (6) رئيس المدينة على باب المدينة فنظر، فلم ير شيئًا ففتح الباب، فلما رأى القتيل رد الباب، فناداه أخو المقتول وأصحابه: هيهات! قتلتموه ثم تردون الباب. وكان موسى لما رأى القتل كثيرًا في أصحابه بني إسرائيل، كان إذا رأى القتيل بين ظهراني القوم أخذهم، فكاد يكون بين أخى المقتول وبين أهل المدينة قتال، حتى لبس الفريقان السلاح، ثم كف بعضهم عن بعض، فأتوا موسى فذكروا له شأنهم. قالوا: يا رسول الله، إن هؤلاء قتلوا قتيلا ثم ردوا الباب، وقال أهل المدينة: يا رسول الله قد عرفت اعتزالنا الشرور (7) وبنينا مدينة، كما رأيت، نعتزل شرور الناس، والله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا. فأوحى الله تعالى إليه أن يذبحوا بقرة فقال لهم موسى:
__________
(1) في جـ: "من".
(2) في أ: "اشترى".
(3) في جـ، ط، ب: "فأضعفوه".
(4) تفسير الطبري (2/185).
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "وإذا أصبحوا".
(6) في و: "فتشرف".
(7) في جـ: "اعتزالنا عن الناس الشرور".

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)

{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } (1) .
وهذه السياقات [كلها] (2) عن عبيدة (3) وأبي العالية والسدي وغيرهم، فيها اختلاف ما، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل وهي مما يجوز نقلها (4) ولكن لا نصدق ولا نكذب (5) فلهذا لا نعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا، والله أعلم.
{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) }
أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم. ولهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق عليهم، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم، كما قال ابن عباس وعبيدة وغير واحد، ولكنهم شددوا فشدد عليهم، فقالوا: { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ } ما هذه البقرة؟ وأي شيء صفتها؟
قال (6) ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا عثام (7) بن علي، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم (8) .
إسناد صحيح، وقد رواه غير واحد عن ابن عباس. وكذا قال عبيدة، والسدي، ومجاهد، وعكرمة، وأبو العالية وغير واحد.
وقال ابن جريج: قال [لي] (9) عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم. قال ابن جريج: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم؛ وايم الله لو أنهم لم يستثنوا ما بينت لهم آخر الأبد" (10) .
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ } أي: لا كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلحقها (11)
__________
(1) ورواه الطبري في تفسيره (2/188) من طريق سنيد.
(2) زيادة من جـ.
(3) في أ: "أبي عبيدة".
(4) في أ: "فعله".
(5) في ط، ب: "لا تصدق ولا تكذب".
(6) في ط: "وقال".
(7) في جـ: "هشام".
(8) تفسير الطبري (2/204).
(9) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(10) رواه الطبري في تفسيره (2/205).
(11) في جـ، ط: "يلقحها"، وفي أ: "ينكحها".

الفحل، كما قاله أبو العالية، والسدي، ومجاهد، وعكرمة، وعطية العوفي، وعطاء الخراساني (1) ووهب بن منبه، والضحاك، والحسن، وقتادة، وقاله ابن عباس أيضًا.
وقال الضحاك، عن ابن عباس { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } [يقول: نصف] (2) بين الكبيرة والصغيرة، وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر وأحسن ما تكون. وروي عن عكرمة، ومجاهد، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وعطاء الخراساني، والضحاك نحو ذلك.
وقال السدي: العوان: النصف التي بين ذلك التي ولدت، وولد ولدها.
وقال هشيم، عن جويبر، عن كثير بن زياد، عن الحسن في البقرة: كانت بقرة وحشية.
وقال ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: من لبس نعلا صفراء لم يزل في سرور ما دام لابسها، وذلك قوله (3) تعالى: { صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } وكذا قال مجاهد، ووهب بن منبه أنها كانت صفراء.
وعن ابن عمر: كانت صفراء الظلف. وعن سعيد بن جبير: كانت صفراء القرن والظلف.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، حدثنا نوح بن قيس، أنبأنا أبو رجاء، عن الحسن في قوله: { بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا } قال: سوداء شديدة السواد.
وهذا غريب، والصحيح الأول، ولهذا أكد صفرتها بأنه { فَاقِعٌ لَوْنُهَا }
وقال عطية العوفي: { فَاقِعٌ لَوْنُهَا } تكاد تسود من صفرتها.
وقال سعيد بن جبير: { فَاقِعٌ لَوْنُهَا } قال: صافية اللون. وروى عن أبي العالية، والربيع بن أنس، والسدي، والحسن، وقتادة نحوه.
وقال شريك، عن مَغْراء (4) عن ابن عمر: { فَاقِعٌ لَوْنُهَا } قال: صاف (5) .
وقال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس: { فَاقِعٌ لَوْنُهَا } شديدة الصفرة، تكاد من صفرتها تبيض.
وقال السدي: { تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } أي: تعجب الناظرين (6) وكذا قال أبو العالية، وقتادة، والربيع بن أنس.
[وفي التوراة: أنها كانت حمراء، فلعل هذا خطأ في التعريب أو كما قال الأول: إنها كانت شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد، والله أعلم] (7) .
__________
(1) في جـ: "الخراساني وسيأتي".
(2) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(3) في جـ، ب: "قول الله تعالى"، وفي ط: "قول الله.
(4) في أ: "عن ابن عباس".
(5) في جـ، ط، ب: "صافي".
(6) في جـ: "أي تعجبهم".
(7) زيادة من جـ، ط، ب، و.

وقال وهب بن منبه: إذا نظرت إلى جلدها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها.

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)

{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) }
وقوله: { إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } أي: لكثرتها، فميز لنا هذه البقرة وصفها وحِلَّها لنا { وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ } إذا بينتها لنا { لَمُهْتَدُونَ } إليها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن يحيى الأودي (1) الصوفي، حدثنا أبو سعيد أحمد بن داود الحداد، حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي، ابن أخي منصور بن زاذان، عن عباد بن منصور، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن بني إسرائيل قالوا: { وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } لما أعطوا، ولكن استثنوا" (2) .
ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من وجه آخر، عن سرور بن المغيرة، عن (3) زاذان، عن عباد بن منصور، عن الحسن، عن حديث أبي رافع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن بني إسرائيل قالوا: { وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } ما أعطوا أبدًا، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوا لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا، فشدد الله عليهم" (4) .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة، كما تقدم مثله (5) عن السدي، والله أعلم.
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) }
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ } أي: إنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في السانية، بل هي مكرمة حسنة صبيحة { مُسَلَّمَةٌ } صحيحة لا عيب فيها { لا شِيَةَ فِيهَا } أي: ليس فيها لون غير لونها.
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة { مُسَلَّمَةٌ } يقول: لا عيب فيها، وكذا قال أبو العالية والربيع، وقال مجاهد { مُسَلَّمَةٌ } من الشية.
وقال عطاء الخراساني: { مُسَلَّمَةٌ } القوائم والخلق { لا شِيَةَ فِيهَا } قال مجاهد: لا بياض ولا سواد. وقال أبو العالية والربيع، والحسن وقتادة: ليس فيها بياض. وقال عطاء الخراساني: { لا شِيَةَ فِيهَا } قال: لونها واحد بهيم. وروي عن عطية العوفي، ووهب بن منبه، وإسماعيل بن أبي خالد، نحو ذلك. وقال السدي: { لا شِيَةَ فِيهَا } من بياض ولا سواد ولا حمرة، وكل هذه الأقوال متقاربة [في المعنى، وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى: { إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ } ليست بمذللة بالعمل ثم استأنف فقال: { تُثِيرُ الأرْضَ } أي: يعمل عليها بالحراثة لكنها لا تسقي الحرث، وهذا ضعيف؛ لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث كذا قرره القرطبي وغيره] (6)
__________
(1) في جـ، ط: "الأزدي".
(2) تفسير ابن أبي حاتم (1/223).
(3) في جـ، ط، ب: "بن".
(4) قال الحافظ ابن حجر: "فيه عباد بن منصور وهو ضعيف".
(5) في جـ، ط: "نقله".
(6) زيادة من جـ، ط، ب، أ.

{ قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } قال قتادة: الآن بَيَّنْتَ لنا، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: وقبل ذلك -والله (1) -قد جاءهم الحق.
{ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } قال الضحاك، عن ابن عباس: كادوا ألا يفعلوا، ولم يكن ذلك الذي أرادوا، لأنهم أرادوا ألا يذبحوها.
يعني أنَّهم مع هذا البيان (2) وهذه الأسئلة، والأجوبة، والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد، وفي هذا ذم لهم، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت، فلهذا ما كادوا يذبحونها.
وقال محمد بن كعب، ومحمد بن قيس: { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } لكثرة ثمنها.
وفي هذا نظر؛ لأن كثرة ثمنها لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل، كما تقدم من حكاية أبي العالية والسدي، ورواه العوفي عن ابن عباس. وقال عبيدة، ومجاهد، ووهب بن منبه، وأبو العالية، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنهم اشتروها بمال كثير (3) وفيه اختلاف، ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك. وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عيينة، أخبرني محمد بن سوقة، عن عكرمة، قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير (4) وهذا إسناد جيد عن عكرمة، والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضًا.
وقال ابن جرير: وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة، إن اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه.
ولم يسنده عن أحد، ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها، وللفضيحة. وفي هذا نظر، بل الصواب -والله أعلم-ما تقدم من رواية الضحاك، عن ابن عباس، على ما وجهناه. وبالله التوفيق.
مسألة: استدل بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الإطلاق على صحة السلم في الحيوان كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنعت المرأةُ المرأةَ لزوجها كأنه ينظر إليها" (5) . وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم إبل الدية في قتل الخطأ وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث، وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون: لا يصح السلم في الحيوان لأنه لا تنضبط أحواله، وحكى مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم.
__________
(1) في جـ، ط: "والله أعلم".
(2) في جـ: "الشأن".
(3) في ب: "بثمن كثير".
(4) تفسير عبد الرزاق (1/71).
(5) صحيح البخاري برقم (5241).

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) }
قال البخاري: { فَادَّارَأْتُمْ } اختلفتم. وهكذا قال مجاهد فيما رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي حذيفة، عن شبْل عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، أنه قال في قوله تعالى: { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } اختلفتم.
وقال عطاء الخراساني، والضحاك: اختصمتم فيها. وقال ابن جريج { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } قال: قال بعضهم أنتم قتلتموه.
وقال آخرون: بل أنتم قتلتموه. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
{ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } قال مجاهد: ما تُغَيبُون. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن مسلم البصري، حدثنا محمد بن الطفيل العبدي، حدثنا صدقة بن رستم، سمعت المسيب بن رافع يقول: ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وتصديق ذلك في كلام الله: { وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ* فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا } هذا البعض أيُّ شيء كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به.
وخرق العادة به كائن، وقد كان معينا في نفس الأمر، فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا، ولكن أبهمه، ولم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه (1) فنحن نبهمه كما أبهمه الله.
ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عفَّان بن مسلم، حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له، وكانت بقرة تعجبه، قال: فجعلوا يعطونه بها فيأبى، حتى أعطوه ملء مَسْكها دنانير، فذبحوها، فضربوه -يعني القتيل-بعضو منها، فقام تَشْخُب أوداجه دمًا [فسألوه] (2) فقالوا له: من قتلك؟ قال: (3) قتلني فلان (4) .
وكذا قال الحسن، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنه ضرب ببعضها.
وفي رواية عن ابن عباس: إنهم ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، قال: قال أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة: ضربوا القتيل ببعض لحمها. وقال معمر: قال قتادة: فضربوه بلحم فخذها فعاش، فقال: قتلني فلان.
وقال أبو أسامة، عن النضر بن عربي، عن عكرمة: { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا } [قال] (5) فضرب
__________
(1) في جـ: "عن معصوم حدثنا به".
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ: "فقال".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/229).
(5) زيادة من جـ، أ، و.

بفخذها فقام، فقال: قتلني فلان.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد، وقتادة، نحو ذلك.
وقال السدي: فضربوه بالبَضْعة التي بين الكتفين فعاش، فسألوه، فقال: قتلني ابن أخي.
وقال أبو العالية: أمرهم موسى، عليه السلام، أن يأخذوا عظمًا من عظامها، فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: فضربوه ببعض آرابها [وقيل: بلسانها، وقيل: بعجب ذنبها] (1) .
وقوله: { كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى } أي: فضربوه فحيى. ونَبَّه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل: جعل تبارك وتعالى ذلك الصنع حجة لهم على المعاد، وفاصلا ما كان بينهم من الخصومة والفساد (2) ، والله تعالى قد ذكر في هذه السورة ما خلقه في (3) إحياء الموتى، في خمسة مواضع: { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ } [البقرة: 56]. وهذه القصة، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم والطيور الأربعة.
ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها (4) رميما، كما قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، أخبرني يعلى بن عطاء، قال: سمعت وَكِيع بن عُدُس، يحدث عن أبي رَزِين العُقَيلي، قال: قلت: يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى؟ قال: "أما مررت بواد مُمْحِل، ثم مررت به خَضِرًا؟" قال: بلى. قال: "كذلك النشور". أو قال: "كذلك يحيي الله الموتى" (5) . وشاهد هذا قوله تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ* وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُون* لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ } [يس:33-35] .
مسألة: استدل لمذهب مالك في كون قول الجريح: فلان قتلني لوثًا بهذه القصة؛ لأن القتيل لما حيي سئل عمن قتله فقال: قتلني فلان، فكان ذلك مقبولا منه؛ لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق، ولا يتهم والحالة هذه، ورجحوا ذلك بحديث أنس: أن يهوديًا قتل جارية على أوضاح لها، فرضخ رأسها بين حجرين فقيل: من فعل بك هذا؟ أفلان؟ أفلان؟ حتى ذكر اليهودي، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي، فلم يزل به حتى اعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد رأسه بين حجرين (6) وعند مالك: إذا كان لوثًا حلف أولياء القتيل قسامة، وخالف الجمهور في ذلك ولم يجعلوا قول القتيل في
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "والعناد".
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "من".
(4) في جـ، ط، ب، أ، و: "بعد صيرورتها".
(5) مسند الطيالسي برقم (1089).
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (6885).

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

ذلك لوثًا.
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) }
يقول تعالى توبيخًا لبني إسرائيل، وتقريعًا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى، وإحيائه الموتى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } كله { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ } التي لا تلين أبدًا. ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 16].
وقال العوفي، في تفسيره، عن ابن عباس: لما ضُرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط، فقيل له: من قتلك؟ فقال: بنو أخي قتلوني. ثم قبض. فقال بنو أخيه حين قبض: والله ما قتلناه، فكذبوا بالحق بعد إذا رأوا (1) . فقال (2) الله: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } يعني: بني (3) أخي الشيخ { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } فصارت قلوب بني (4) إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة، فإن من الحجارة ما تتفجر منها العيون الجارية بالأنهار، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء، وإن لم يكن جاريا، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله، وفيه إدراك لذلك بحسبه، كما قال: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [الإسراء: 44].
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أنه كان يقول: كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، لمن خشية الله، نزل بذلك القرآن.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عَمَّا تدعون إليه من الحق { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
[وقال أبو علي الجبائي في تفسيره: { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } هو سقوط البرد من
__________
(1) في أ، و "إذ رأوه".
(2) في جـ: "ثم قال".
(3) في أ، و: "يعني ابن".
(4) في جـ: "قلوب بنوا" وهو خطأ.

السحاب. قال القاضي الباقلاني: وهذا تأويل بعيد وتبعه في استبعاده فخر الدين الرازي وهو كما قالا؛ فإن هذا خروج عن ظاهر اللفظ بلا دليل، والله أعلم] (1) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الحكم بن هشام الثقفي، حدثني يحيى بن أبي طالب -يعني يحيى بن يعقوب-في قوله تعالى: { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ } قال: هو كثرة البكاء { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ } قال: قليل البكاء { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } قال: بكاء القلب، من غير دموع العين.
وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز؛ وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله: { يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة: ولا حاجة إلى هذا فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } الآية، وقال: { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } و { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ } الآية، { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } { لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ } الآية، { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ } الآية، وفي الصحيح: "هذا جبل يحبنا ونحبه"، وكحنين الجذع المتواتر خبره، وفي صحيح مسلم: "إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن" وفي صفة الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلمه بحق يوم القيامة، وغير ذلك مما في معناه. وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير؛ أي مثلا لهذا وهذا وهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين.. وكذا حكاه الرازي في تفسيره وزاد قولا آخر: إنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزًا أو تمرًا، وهو يعلم أيهما أكل، وقال آخر: إنها بمعنى قول القائل كل حلوًا أو حامضًا؛ أي لا يخرج عن واحد منهما؛ أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين. والله أعلم.
تنبيه:
اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى: { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } بعد الإجماع على استحالة كونها للشك، فقال بعضهم: "أو" هاهنا بمعنى الواو، تقديره: فهي كالحجارة وأشد قسوة كقوله تعالى: { وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } [الإنسان: 24] ، وكما قال النابغة الذبياني:
قالت ألا ليتما هذا الحمامُ لنا ... إلى حَمامتنا أو نِصفُه فَقدِ (2)
تريد: ونصفه، قاله ابن جرير. وقال جرير بن عطية:
نال الخِلافَةَ أو كانت له قدرًا ... كما أتى ربَّه مُوسى على قَدَرِ (3)
قال ابن جرير: يعني نال الخلافة، وكانت له قدرًا.
وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير في مفهومها بهذا أو بهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، وكذا حكاه فخر الدين في تفسيره وزاد قولا آخر وهو: أنها للإبهام وبالنسبة إلى المخاطب، كقول القائل: أكلت خبزًا أو تمرا وهو يعلم أيهما أكل، وقولا آخر وهو أنها بمعنى قول القائل: أكلي حلو أو حامض، أي: لا يخرج عن واحد منهما، أي: وقلوبكم صارت في قسوتها كالحجارة أو أشد قسوة منها لا يخرج عن واحد من هذين الشيئين والله أعلم.
وقال آخرون: "أو" هاهنا بمعنى بل، تقديره (4) فهي كالحجارة بل أشد قسوة، وكقوله: { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [النساء: 77]{ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات: 147]{ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [النجم: 9] وقال آخرون: معنى (5) ذلك { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } عندكم. حكاه ابن جرير.
وقال آخرون: المراد بذلك الإبهام على المخاطب، كما قال أبو الأسود:
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) البيت في تفسير الطبري (2/236).
(3) البيت في تفسير الطبري (2/236).
(4) في جـ، ط، ب: "فتقديره".
(5) في جـ: "بمعنى".

أحبّ محمدًا حُبا شديدًا ... وعبَّاسا وحمزةَ والوصيا (1)
فإن يك حُبّهم رشدا أصبه ... ولست (2) بمخطئ إن كان غيّا (3)
قال ابن جرير: قالوا: ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكًّا في أن حُبّ من سَمَّى رَشَدٌ، ولكنه أبهم على من خاطبه، قال: وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له: شككت؟ فقال: كلا والله. ثم انتزع بقول الله تعالى: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } فقال: أوَ كان شاكًّا من أخبر بهذا في الهادي منهم من الضلال (4) ؟
وقال بعضهم: معنى ذلك: فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين، إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة وإما أن تكون أشد منها قسوة.
قال ابن جرير: ومعنى ذلك على هذا التأويل: فبعضها كالحجارة قسوة، وبعضها أشد قسوة من الحجارة. وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره.
قلت: وهذا القول الأخير يبقى شبيها بقوله تعالى: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } [البقرة: 17] مع قوله: { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ } [البقرة: 19] وكقوله: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } [النور: 39] مع قوله: { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ } [النور: 40]، الآية أي: إن منهم من هو هكذا، ومنهم من هو هكذا، والله أعلم.
قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن أيوب، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي الثلج، حدثنا علي بن حفص، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن حاطب، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي".
رواه الترمذي في كتاب الزهد من جامعه، عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج، صاحب الإمام أحمد، به. ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن حاطب، به، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم (5) .
[وروى البزار عن أنس مرفوعا: "أربع من الشقاء: جمود العين، وقسي القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا" (6) ]. (7) .
__________
(1) في جـ، ط، ب: "أو عليا".
(2) في جـ، ط، ب: "وليس".
(3) البيتان في تفسير الطبري (2/235، 236).
(4) في جـ، ط، ب، و: "من الضال".
(5) سنن الترمذي برقم (2411) وأورده الإمام مالك في الموطأ (2/986) بلاغًا عن عيس عليه السلام.
(6) مسند البزار برقم (3230) من طريق هانئ بن المتوكل، عن عبد الله بن سليمان وأبان عن أنس به مرفوعًا، وقال البزار: "عبد الله بن سليمان حدث بأحاديث لم يتابع عليها"، وقال الهيثمي في المجمع (10/226): "وفيه هانئ بن المتوكل، وهو ضعيف".
(7) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)

{ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) }

أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)

{ أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) }
يقول تعالى: { أَفَتَطْمَعُونَ } أيها المؤمنون { أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ } أي: ينقاد (1) لكم بالطاعة، هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود، الذين شاهد آباؤهم (2) من الآيات البينات ما شاهدوه (3) ثم قست قلوبهم من بعد ذلك { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } أي: يتأولونه على غير تأويله { مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } أي: فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه على بصيرة { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله؟ وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } [المائدة: 13]. (4) .
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ } وليس قوله: { يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ } يسمعون التوراة. كلهم قد سمعها. ولكن الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها.
قال محمد بن إسحاق: فيما حدثني بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى: يا موسى، قد حيل بيننا وبين رؤية الله تعالى، فأسمعنا كلامه حين يكلمك. فطلب ذلك موسى إلى ربه تعالى فقال: نعم، مُرْهم فليتطهروا، وليطهروا ثيابهم ويصوموا ففعلوا، ثم خرج بهم حتى أتوا الطور، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى أن يسجدوا، فوقعوا سجودًا، وكلمه ربه تعالى، فسمعوا (5) كلامه يأمرهم وينهاهم، حتى عقلوا عنه ما سمعوا. ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل، فلما جاءوهم حَرَّف فريق منهم ما أمرهم به، وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل: إن الله قد أمركم بكذا وكذا. قال ذلك الفريق الذين ذكرهم الله: إنما قال كذا وكذا خلافًا لما قال الله عز وجل لهم، فهم الذين عنى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال السدي: { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } قال: هي التوراة، حرفوها.
وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس وابن إسحاق، وإن كان قد اختاره ابن جرير لظاهر السياق. فإنه ليس يلزم من سماع كلام الله أن يكون منه (6) كما سمعه الكليم موسى بن
__________
(1) في جـ، ط: "ينقادوا".
(2) في جـ: "ما آتاهم".
(3) في ط: "مما شاهدوه".
(4) في أ: "من بعد" وهو خطأ.
(5) في جـ، ط، ب: "فلما سمعوا".
(6) في جـ: "لمن يكون منه" ، وفي ط: "لمن تكون منه".

عمران، عليه الصلاة والسلام (1) ، وقد قال الله تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } [التوبة: 6]، أي: مبلَّغًا إليه؛ ولهذا قال قتادة في قوله: { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال: هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه.
وقال مجاهد: الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم.
وقال أبو العالية: عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم، من نعت (2) محمد صلى الله عليه وسلم، فحرفوه عن مواضعه.
وقال السدي: { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي أنهم أذنبوا. وقال ابن وهب: قال ابن زيد في قوله: { يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } قال: التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها يجعلون الحلال فيها حرامًا، والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقًا؛ إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل (3) برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب، فهو فيه محق، وإن جاءهم أحد يسألهم شيئًا ليس فيه حق، ولا رشوة، ولا شيء، أمروه بالحق، فقال الله لهم: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة: 44].
وقوله: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } الآية .
قال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } أي بصاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة. { وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا } لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فكان منهم. فأنزل الله: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } أي: تقرون بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر، ونجد في كتابنا. اجحدوه ولا تقروا به. يقول الله تعالى: { أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } .
وقال الضحاك، عن ابن عباس: يعني المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا.
وقال السدي: هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا. وكذا قال الربيع بن أنس، وقتادة وغير واحد من السلف والخلف، حتى قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فيما رواه ابن وهب عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: "لا يدخلن (4) علينا قصبة المدينة إلا مؤمن". فقال رؤساؤهم (5) من أهل الكفر والنفاق: اذهبوا فقولوا: آمنا، واكفروا إذا رجعتم إلينا، فكانوا يأتون المدينة بالبُكَر، ويرجعون إليهم بعد العصر. وقرأ قول الله تعالى: { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [آل عمران: 72]
__________
(1) في جـ: "كما سمعه الكليم عليه السلام"، وفي ط: "كما سمعه الكليم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام".
(2) في جـ، ط: "من نص".
(3) في جـ: "الباطل".
(4) في جـ: "لا يدخل".
(5) في جـ: "فقال رؤسائهم" وهو خطأ.

وكانوا يقولون، إذا دخلوا المدينة: نحن مسلمون. ليعلموا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره. فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر. فلما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون. وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون (1) فيقولون: أليس قد قال الله لكم كذا وكذا؟ فيقولون: بلى. فإذا رجعوا إلى قومهم [يعني الرؤساء] (2) قالوا: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } الآية (3) .
وقال أبو العالية: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } يعني: بما أنزل الله عليكم في كتابكم من نعت (4) محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } قال: كانوا يقولون: سيكون نبي. فخلا بعضهم ببعض (5) فقالوا: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } (6) .
قول آخر في المراد بالفتح: قال ابن جُرَيج: حدثني القاسم بن أبي بَزَّة، عن مجاهد، في قوله تعالى: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم، فقال: "يا إخوان (7) القردة والخنازير، ويا عبدة الطاغوت"، فقالوا: من أخبر بهذا (8) الأمر محمدًا؟ ما خرج هذا القول (9) إلا منكم { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } بما حكم الله، للفتح، ليكون لهم حجة عليكم. قال ابن جريج، عن مجاهد: هذا حين أرسل إليهم عليا (10) فآذوا محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وقال السدي: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } من العذاب { لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا وكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عُذِّبوا به. فقال بعضهم لبعض: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } من العذاب، ليقولوا: نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم.
وقال عطاء الخراساني: { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } يعني: بما قضى [الله] (11) لكم وعليكم.
وقال الحسن البصري: هؤلاء اليهود، كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض، قال بعضهم: لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم، فيحاجوكم (12) به عند ربكم، فيخصموكم.
__________
(1) في جـ: "أنهم يؤمنون".
(2) زيادة من جـ، ب، أ، و.
(3) رواه الطبري في تفسيره (2/254) عن يونس عن ابن وهب به.
(4) في أ: "من بعث".
(5) في جـ، ط، ب: "فخلا بعضهم ببعض".
(6) تفسير عبد الرزاق (1/71).
(7) في جـ: "أيا إخوان".
(8) في جـ، ط، ب: "من أخبر هذا".
(9) في أ، و: "هذا الأمر".
(10) في جـ: "حين أرسل عليًا إليهم".
(11) زيادة من جـ، أ.
(12) في جـ، ط، ب: "ليحاجوكم".

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)

وقوله: { أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } قال أبو العالية: يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به، وهو (1) يجدونه مكتوبًا عندهم. وكذا قال قتادة.
وقال الحسن: { أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } قال: كان ما أسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وخلا بعضهم إلى بعض، تناهوا أن يخبر أحد (2) منهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما فتح الله عليهم مما في كتابهم، خشيةَ أن يحاجهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما في كتابهم عند (3) ربهم. { وَمَا يُعْلِنُونَ } يعني: حين قالوا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: آمنا. وكذا قال أبو العالية، والربيع، وقتادة .
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) }
يقول تعالى: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } أي: ومن أهل الكتاب، قاله مجاهد: والأميون جمع أمي، وهو: الرجل الذي لا يحسن الكتابة، قاله أبو العالية، والربيع، وقتادة، وإبراهيم النَّخَعي، وغير واحد (4) وهو ظاهر في قوله تعالى: { لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ [إِلا أَمَانِيَّ] } (5) أي: لا يدرون ما فيه. ولهذا في صفات النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمي؛ لأنه لم يكن يحسن الكتابة، كما قال تعالى: { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } [العنكبوت: 48] وقال عليه الصلاة والسلام: "إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا" الحديث. أي: لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتها إلى كتاب ولا حساب وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ } [الجمعة: 2] .
وقال ابن جرير: نسبت العرب من لا يكتب ولا يَخُط من الرجال إلى أمِّه في جهله بالكتاب دون أبيه، قال: وقد روي عن ابن عباس، رضي الله عنهما (6) قول خلاف هذا، وهو ما حدثنا به أبو كُرَيب: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } قال: الأميون قوم لم يصدِّقوا رسولا أرسله الله، ولا كتابًا أنزله الله، فكتبوا كتابًا بأيديهم، ثم قالوا لقوم سَفلة جُهَّال: { هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميين، لجحودهم كتب الله ورسله. ثم قال ابن جرير: وهذا التأويل (7) على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم. وذلك أن الأمي عند العرب: الذي لا يكتب (8) .
قلت: ثم في صحة هذا عن ابن عباس، بهذا الإسناد، نظر. والله أعلم.
__________
(1) في جـ، ط، ب، أ، و: "وهم".
(2) في جـ: "يخبروا واحدًا"، وفي أ: "يخبروا أحد".
(3) في جـ: "وعند".
(4) في أ: "وإبراهيم النخغي وغيرهم".
(5) زيادة من جـ، ط، ب.
(6) في ط: "رضي الله عنه".
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "وهذا التأويل تأويل".
(8) تفسير الطبري (2/259).

قوله (1) تعالى: { إِلا أَمَانِيَّ } قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: { إِلا أَمَانِيَّ } إلا أحاديث.
وقال الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: { إِلا أَمَانِيَّ } يقول: إلا قولا يقولونه بأفواههم كذبًا. وقال مجاهد: إلا كذبًا. وقال سنيد، عن حجاج، عن ابن جريج عن مجاهد: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ } قال: أنَاس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا، وكانوا يتكلمون بالظن (2) بغير ما في كتاب الله، ويقولون: هو من الكتاب، أمانيّ يتمنونها. وعن الحسن البصري، نحوه.
وقال أبو العالية، والربيع وقتادة: { إِلا أَمَانِيَّ } يتمنون على الله ما ليس لهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { إِلا أَمَانِيَّ } قال: تمنوا فقالوا: نحن من أهل الكتاب. وليسوا منهم.
قال ابن جرير: والأشبه بالصواب قول الضحاك عن ابن عباس، وقال مجاهد: إن الأميين الذين وصفهم الله أنهم لا يفقهون من الكتاب -الذي أنزل (3) الله على موسى -شيئًا، ولكنهم يَتَخَرَّصُون الكذب ويتخرصون الأباطيل كذبًا وزورًا. والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه. ومنه الخبر المروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: "ما تغنيت ولا تمنيت". يعني ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب (4) .
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } ولا يدرون ما فيه، وهم يجحدون (5) نبوتك بالظن.
وقال مجاهد: { وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } يكذبون.
وقال قتادة: وأبو العالية، والربيع: يظنون الظنون بغير الحق.
وقوله: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا } الآية: هؤلاء صنف (6) آخر من اليهود، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله، وأكل أموال الناس بالباطل.
والويل: الهلاك والدمار، وهي كلمة مشهورة في اللغة. وقال سفيان الثوري، عن زياد بن فياض: سمعت أبا عياض يقول: ويل: صديد في أصل جهنم.
وقال عطاء بن يسار. الويل: واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت.
__________
(1) في جـ، ط: "وقوله".
(2) في جـ: "يتكلمون الظن".
(3) في جـ، ط، ب: "الذي أنزله".
(4) تفسير الطبري (1/262).
(5) في أ، و: "وهم يجدون".
(6) في جـ: "هو صنف".

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ويل واد في جهنم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره".
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن الحسن بن موسى، عن ابن لهيعة، عن دراج، به (1) . وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.
قلت: لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى، ولكن الآفة ممن بعده، وهذا الحديث بهذا الإسناد -مرفوعًا-منكر، والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح العشيري (2) حدثنا علي بن جرير، عن حماد بن سلمة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي، عن عثمان بن عفان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } قال: "الويل جبل في النار. وهو الذي أنزل في اليهود؛ لأنهم حَرَّفوا التوراة، زادوا فيها ما أحبوا، ومحوا منها ما يكرهون، ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة. ولذلك غضب الله عليهم، فرفع بعض التوراة، فقال: { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } (3) .
وهذا غريب أيضا جدًا.
[وعن ابن عباس: الويل: السعير من العذاب، وقال الخليل بن أحمد: الويل: شدة الشر، وقال سيبويه: ويل: لمن وقع في الهلكة، وويح لمن أشرف عليها، وقال الأصمعي: الويل: تفجع والويل ترحم، وقال غيره: الويل الحزن (4) . وقال الخليل: وفي معنى ويل: ويح وويش وويه وويك وويب، ومنهم من فرق بينها، وقال بعض النحاة: إنما جاز الابتداء بها وهي نكرة؛ لأن فيها معنى الدعاء، ومنهم من جوز نصبها، بمعنى: ألزمهم ويلا. قلت: لكن لم يقرأ بذلك أحد] (5) .
وعن عكرمة، عن ابن عباس: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ } قال: هم أحبار اليهود. وكذا قال سعيد، عن قتادة: هم اليهود.
وقال سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن علقمة: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ } قال: نزلت في المشركين وأهل الكتاب.
وقال السدي: كان ناس من اليهود كتبوا كتابًا من عندهم، يبيعونه من العرب، ويحدثونهم أنه من عند الله، ليأخذوا (6) به ثمنًا قليلا.
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/243) وسنن الترمذي برقم (3164).
(2) في جـ: "العيري".
(3) تفسير الطبري (2/268).
(4) في أ: "الخوف".
(5) زيادة من جـ، ط، ب.
(6) في جـ، ط، ب: "فيأخذوا".

وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)

وقال الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أنه قال: يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل الله على نبيه، أحدث أخبار الله تقرؤونه (1) محضًا (2) لم يشب؟ وقد حَدَّثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلا؛ أفلا (3) ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مُسَاءلتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم أحدًا قط سألكم عن الذي أنزل إليكم. رواه البخاري (4) من طرق عن الزهري.
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: الثمن القليل: الدنيا بحذافيرها.
وقوله تعالى: { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } أي: فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب (5) والبهتان، والافتراء، وويل لهم مما أكلوا به من السحت، كما قال الضحاك عن ابن عباس: { فَوَيْلٌ لَهُمْ } يقول: فالعذاب عليهم، من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب، { وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } يقول: مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم.
{ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80) }
يقول تعالى إخبارًا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم، من أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودة، ثم ينجون منها، فرد الله عليهم ذلك بقوله: { قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا } (6) أي: بذلك؟ فإن كان قد وقع عهد فهو لا يُخْلِف عهده (7) .
ولكن هذا ما جرى ولا كان. ولهذا أتى بـ"أم" التي بمعنى: بل، أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه.
قال (8) محمد بن إسحاق، عن سيف بن سليمان (9) عن مجاهد، عن ابن عباس: أن اليهود كانوا يقولون: هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نُعَذَّب بكل ألف سنة يومًا في النار، وإنما هي سبعة أيام معدودة (10) . فأنزل الله تعالى: { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } إلى قوله: { خَالِدُونَ } [البقرة: 82].
ثم رواه عن محمد، عن سعيد -أو عكرمة-عن ابن عباس، بنحوه.
وقال العوفي عن ابن عباس: { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } اليهود قالوا (11) : لن
__________
(1) في ط: "يعرفونه"، وفي و: "تعرفونه".
(2) في جـ، ط، و: "غضًا".
(3) في جـ: "أفلم".
(4) صحيح البخاري برقم (2685 ، 7363 ، 7523).
(5) في جـ: "من الكتب".
(6) بعدها في جـ: "فلن يخلف الله عهده".
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "وعده".
(8) في جـ، ط: "وقال".
(9) في جـ: "سلمان".
(10) في جـ، ط، ب، أ، و: "أيام معدودات".
(11) في جـ: "وقالوا".

تمسنا النار إلا أربعين ليلة، [زاد غيره: هي مدة عبادتهم العجل، وحكاه القرطبي عن ابن عباس وقتادة] (1) .
وقال الضحاك: قال ابن عباس: زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبًا: أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، التي هي نابتة في أصل الجحيم. وقال أعداء الله: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك. فذلك قوله تعالى: { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً }
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } يعني: الأيام التي عبدنا فيها العجل (2) .
وقال عكرمة: خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا إليها (4) قوم آخرون، يعنون (5) محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم: "بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم إليها أحد". فأنزل الله: { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } الآية.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن جعفر، حدثنا محمد بن محمد بن صخر، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، حدثنا ليث بن سعد، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال (6) رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا" فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أبوكم؟" قالوا: فلان (7) . قال: "كذبتم، بل أبوكم فلان". فقالوا: صدقت وبَرِرْت، ثم قال لهم: "هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟". قالوا: نعم، يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أهل النار؟" فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخسأوا، والله لا نخلفكم فيها أبدًا". ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟". قالوا: نعم يا أبا القاسم. فقال: "هل جعلتم في هذه الشاة سمًّا؟". فقالوا: نعم. قال (8) : "فما حملكم على ذلك؟". فقالوا: أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك، وإن كنت نبيًا لم يضرك.
ورواه أحمد، والبخاري، والنسائي، من حديث الليث بن سعد، بنحوه (9) .
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(2) تفسير عبد الرزاق (1/71، 72).
(3) في جـ: "رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه".
(4) في جـ: "فيها".
(5) في جـ، ط، أ، و: "يعني"، وفي ب: "تعني".
(6) في ط، ب: "فقال لهم".
(7) في جـ: "قالوا: أبونا فلان".
(8) في جـ، ط، ب: "فقال".
(9) المسند (2/451) وصحيح البخاري برقم (3161، 4249) وسنن النسائي الكبرى برقم (11355).

بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)

{ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) }
يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم، ولا كما تشتهون، بل الأمر: أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته، وهو من وافى يوم القيامة وليس له حسنة، بل جميع عمله سيئات، فهذا من أهل النار، والذين آمنوا بالله ورسوله (1) وعملوا الصالحات -من العمل الموافق للشريعة-فهم (2) من أهل الجنة. وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا* وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا } [النساء: 123 ، 124].
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد -أو عكرمة-عن ابن عباس: { بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً } أي: عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط به كفره (3) فما له من حسنة.
وفي رواية عن ابن عباس، قال: الشرك.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي وائل، وأبي العالية، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، نحوه (4) .
وقال الحسن -أيضًا-والسدي: السيئة: الكبيرة من الكبائر.
وقال ابن جريج، عن مجاهد: { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } قال: بقلبه.
وقال أبو هريرة، وأبو وائل، وعطاء، والحسن: { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } قالوا: أحاط به شركه.
وقال الأعمش، عن أبي رزين، عن الربيع بن خُثَيم: { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } قال: الذي يموت على خطايا (5) من قبل أن يتوب. وعن السدي، وأبي رزين، نحوه.
وقال أبو العالية، ومجاهد، والحسن، في رواية عنهما، وقتادة، والربيع بن أنس: { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } الكبيرة الموجبة.
وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، والله أعلم. ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال:
حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عمرو بن قتادة (6) عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عبد الله
__________
(1) في أ: "ورسله".
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "فهو".
(3) في جـ: "فمتى يحيط عمله".
(4) في جـ: "بنحوه".
(5) في أ، و: "على خطاياه".
(6) في أ: "عن عمر بن صادق".

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إيَّاكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه". وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهُنَّ مثلا كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا (1) ، وأججوا نارًا، فأنضجوا ما قذفوا فيها (2) .
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد، عن سعيد -أو عكرمة-عن ابن عباس: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي من آمن بما كفرتم به، وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها. يخبرهم أن الثواب بالخير والشرّ مقيم على أهله، لا انقطاع له أبدًا (3) .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) }
يُذكّر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر، وأخذ ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصدًا وعمدًا، وهم يعرفونه ويذكرونه، فأمرهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25] وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل: 36] وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها، وهو حق الله تعالى، أن يعبد وحده لا شريك له، ثم بعده حق المخلوقين، وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين، ولهذا يقرن الله تعالى بين حقه وحق الوالدين، كما قال تعالى: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [لقمان: 14] وقال تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } الآية إلى أن قال: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } [الإسراء: 23-26] وفي الصحيحين، عن ابن مسعود، قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة على وقتها". قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين". قلت: ثم أيّ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" (4) . ولهذا جاء في الحديث الصحيح: أن رجلا قال: يا رسول الله، من أبر؟ قال: "أمك". قال: ثم من (5) ؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "أباك . ثم أدناك أدناك" (6) .
__________
(1) في جـ: "جمعوا أعوادًا".
(2) المسند (1/402).
(3) في جـ، ط، ب: "أبدًا لا انقطاع له".
(4) صحيح البخاري برقم (527، 5970، 7534) وصحيح مسلم برقم (85).
(5) في ط: "ثم قال من".
(6) جاء من حديث معاوية بن حيدة، رواه أبو داود في السنن برقم (5139)، ومن حديث كليب بن منفعة عن أبيه عن جده، رواه أبو داود في السنن برقم (5140).

[وقوله: { لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ } قال الزمخشري: خبر بمعنى الطلب، وهو آكد. وقيل: كان أصله: ألا تعبدوا كما قرأها بعض السلف (1) فحذفت أن فارتفع، وحكي عن أبي وابن مسعود، رضي الله عنهما، أنهما قرآها: "لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّه". وقيل: { لا تَعْبُدُونَ } مرفوع على أنه قسم، أي: والله لا تعبدون إلا الله، ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن سيبويه. وقال: اختاره المبرد والكسائي والفراء] (2) .
قال: { وَالْيَتَامَى } وهم: الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء. [وقال أهل اللغة: اليتيم في بني آدم من الآباء، وفي البهائم من الأم، وحكى الماوردي أن اليتيم أطلق في بني آدم من الأم أيضا] (3) { وَالْمَسَاكِينَ } الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء، التي أمرنا الله تعالى بها صريحًا في قوله: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } الآية [النساء: 36].
وقوله تعالى: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } أي: كلموهم طيبًا، ولينُوا لهم جانبًا، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف، كما قال الحسن البصري في قوله: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } فالحُسْن من القول: يأمُر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم، ويعفو، ويصفح، ويقول للناس حسنًا كما قال الله، وهو كل خُلُق حسن رضيه الله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا أبو عامر الخَزَّاز، عن أبي عمران الجَوْني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تحقرن من المعروف شيئًا، وإن لم تجد فَالْقَ أخاك بوجه منطلق (4) " .
وأخرجه مسلم في صحيحه، والترمذي [وصححه] (5) من حديث أبي عامر الخزّاز، واسمه صالح بن رستم، به (6) .
وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسنًا، بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي. ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمُعيّن (7) من ذلك، وهو الصلاة والزكاة، فقال: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله، أي: تركوه وراء ظهورهم، وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به، إلا القليل منهم، وقد أمر تعالى هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء، بقوله: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا } [النساء: 36]
__________
(1) في أ: "كما قرأها من قرأها من السلف".
(2) زيادة من جـ، ط، ب، أ.
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ.
(4) في ط: "بوجه طلق".
(5) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(6) المسند (5/173) وصحيح مسلم برقم (2626) وسنن الترمذي برقم (1833).
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "بالمتعين".

فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها، ولله الحمد والمنة.
ومن النقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره:
حدثنا أبي، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني، حدثنا عبد الله بن يوسف -يعني التِّنِّيسِي-حدثنا خالد بن صَبِيح، عن حميد بن عقبة، عن أسد بن وَدَاعة: أنه كان يخرج من منزله فلا يلقى يهوديًا ولا نصرانيًا إلا سلم عليه، فقيل له: ما شأنك؟ تسلم على اليهودي والنصراني. فقال: إن الله يقول: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } وهو: السلام. قال: وروي عن عطاء الخراساني، نحوه.
قلت: وقد ثبت في السنة أنهم لا يبدؤون بالسلام، والله أعلم (1) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2166) عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه".

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) }
يقول، تبارك وتعالى، منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج، وهم الأنصار، كانوا في الجاهلية عُبَّاد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاثَ قبائل: بنو قينقاع. وبنو النضير حلفاء الخزرج. وبنو قريظة حلفاء الأوس. فكانت الحرب إذا نشبت (1) بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهوديّ الآخرُ من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم في دينه ونص كتابه، ويخرجونهم من بيوتهم وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملا بحكم التوراة؛ ولهذا قال تعالى: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } ولهذا قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يخرجه من منزله، ولا يظاهر عليه، كما قال تعالى: { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } [البقرة: 54]
__________
(1) في أ: "نشئت".

وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
[وقوله] (1) { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } أي: ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به.
{ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } قال محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير -أو عكرمة-عن ابن عباس: { ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } الآية، قال: أنبهم الله (2) من فعلهم، وقد حرّم عليهم في التوراة سفك دمائهم (3) وافترض عليهم فيها فدَاء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وإنهم (4) حلفاء الخزرج، والنضير، وقريظة وإنهم (5) حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر (6) كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم. والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، ولا يعرفون جنة ولا نارًا، ولا بعثًا ولا قيامة، ولا كتابًا، ولا حلالا ولا حرامًا، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم، تصديقًا لما في التوراة، وأخذًا به؛ بعضهم من بعض، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي (7) الأوس، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي (8) الخزرج منهم، ويطلبون (9) ما أصابوا من دمائهم (10) وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى ذكره حيث أَنَّبهم (11) بذلك: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } أي: يفاديه بحكم التوراة ويقتله، وفي حكم التوراة ألا يفعل، ولا يُخرج (12) من داره، ولا يُظَاهَر عليه من يُشْرك بالله، ويعبد الأوثان من دونه، ابتغاء عرض الدنيا. ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج -فيما بلغني-نزلت هذه القصة (13) .
وقال أسباط عن السدي: كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب سُمَير، فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضيرَ وحلفاءهم، وكانت النضير تقاتل قريظة
__________
(1) زيادة من جـ، ط، أ.
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "أنبأهم الله بذلك".
(3) في جـ: "سفك الدماء".
(4) في جـ: "وهم".
(5) في جـ: "وهم".
(6) في جـ، ط، ب: "فظاهر".
(7) في جـ: "يدي".
(8) في جـ: "يدي".
(9) في جـ، ط، أ: "يطلبون".
(10) في جـ، ط، ب، أ، و: "من الدماء وقتلوا".
(11) في جـ، ط، ب، أ، و: "حين أنبأهم".
(12) في جـ، ط، ب: "ويخرجه".
(13) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/540) وتفسير الطبري (2/305).

وحلفاءها، ويغلبونهم، فيخربون ديارهم، ويخرجونهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين كليهما، جمعوا له حتى يفدوه. فتعيرهم العرب بذلك، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم، وحرّم علينا قتالهم، قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنَّا نستحيى أن تُسْتَذلّ حلفاؤنا (1) . فذلك حين عيَّرهم الله، فقال: { ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ }
وقال شعبة، عن السدي: نزلت هذه الآية في قيس بن الخَطيم: { ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ }
وقال أسباط، عن السدي، عن عبد خير، قال: غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهلي بَلَنْجَر (2) فحاصرنا أهلها ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة، فلما مرّ برأس الجالوت نزل به، فقال له عبد الله: يا رأس الجالوت، هل لك في عجوز هاهنا من أهل دينك، تشتريها مني؟ قال: نعم. قال: أخذتها بسبعمائة درهم. قال: فإني أرْبحُك سبعمائة أخرى. قال: فإني قد حلفت ألا أنقصها من أربعة آلاف. قال: لا حاجة لي فيها، قال: والله لتشترينها مني، أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه. قال: ادن مني، فدنا منه، فقرأ في أذنه التي في التوراة: إنك لا تجد مملوكًا من بني إسرائيل إلا اشتريته فأعتقته { وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } قال: أنت عبد الله بن سلام؟ قال: نعم. قال: فجاء بأربعة آلاف، فأخذ عبد الله ألفين، ورد عليه ألفين.
وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره: حدثنا أبو جعفر يعني الرازي، حدثنا الربيع بن أنس، أخبرنا أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليها العرب، ولا يفادي من وقع عليها العرب، فقال (3) عبد الله بن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن.
والذي أرشدت إليه الآية الكريمة، وهذا السياق، ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها، ومخالفة شرعها، مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما يكتمونه من صفة رسول الله (4) صلى الله عليه وسلم ونعته، ومبعثه ومخرجه، ومهاجره، وغير ذلك من شؤونه، التي قد أخبرت بها الأنبياء قبله. واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى { فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي: بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } جزاء على ما كتموه من كتاب الله الذي بأيديهم { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ } أي: استحبوها على الآخرة واختاروها { فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } أي: لا يفتر عنهم ساعة واحدة { وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ }
__________
(1) في أ، و: "نستذل بحلفائنا".
(2) في جـ: "بكنجر".
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "فقال له".
(4) في جـ: "صفة محمد".

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)

أي: وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي، ولا يجيرهم منه.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) }
ينعت، تبارك وتعالى، بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة، والاستكبار على الأنبياء، وأنهم إنما يتبعون أهواءهم، فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب -وهو التوراة-فحرفوها وبدلوها، وخالفوا أوامرها وأولوها. وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته، كما قال تعالى: { إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } الآية [المائدة: 44]، ولهذا قال: { وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } قال السدي، عن أبي مالك: أتبعنا. وقال غيره: أردفنا. والكل قريب، كما قال تعالى: { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا } [المؤمنون: 44] حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم، فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام، ولهذا أعطاه الله من البينات، وهي: المعجزات. قال ابن عباس: من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن الله، وإبرائه الأسقام، وإخباره بالغيوب، وتأييده بروح القدس، وهو جبريل عليه السلام -ما يدلهم (1) على صدقه فيما جاءهم به. فاشتد تكذيب بني إسرائيل له وحَسَدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في البعض، كما قال تعالى إخبارًا عن عيسى: { وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } الآية [آل عمران: 50]. فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء عليهم السلام (2) أسوأ المعاملة، ففريقًا يكذبونه. وفريقًا يقتلونه، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم وبإلزامهم بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها، فلهذا كان يشق ذلك عليهم، فيكذبونهم، وربما قتلوا بعضهم؛ ولهذا قال تعالى: { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ }
والدليل على أن روح القدس هو جبريل، كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية، وتابعه على ذلك [ابن عباس و] (3) محمد بن كعب القرظي، وإسماعيل بن أبي خالد، والسدي، والربيع بن أنس، وعطية العوفي، وقتادة مع قوله تعالى: { نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* [بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ] (4) } [الشعراء: 193-195] ما قال البخاري: وقال ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لحسان بن ثابت منْبرًا في المسجد، فكان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك" (5) . وهذا من
__________
(1) في جـ، ط، ب، أ، و: "يدلهم به".
(2) في جـ: "عليهم الصلاة والسلام".
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(4) زيادة من جـ.
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "عن نبيه".

البخاري تعليق (1) .
وقد رواه أبو داود في سننه، عن لُوَين، والترمذي، عن علي بن حجر، وإسماعيل بن موسى الفزاري، ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه وهشام بن عروة، كلاهما عن عروة، عن عائشة به (2) . وقال الترمذي: حسن صحيح، وهو حديث أبي الزناد (3) .
وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن عمر مر بحسان، وهو ينشد الشعر في المسجد (4) فلحظ إليه، فقال: قد كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك. ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أجب عني، اللهم أيده بروح القدس"؟. فقال: اللَّهُمَّ نعم (5) .
وفي بعض الروايات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: "أهجهم -أو: هاجهم-وجبريل معك".
[وفي شعر حسان قوله:
وجبريل رسول الله ينادي ... وروح القدس ليس به خفاء] (6)
وقال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي، عن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفرًا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الروح. فقال: "أنشدكم بالله وبأيامه (7) عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل؟ وهو الذي يأتيني؟" قالوا: نعم (8) .
[وفي صحيح ابن حبان أظنه عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن روح القدس نفخ (9) في روعي: إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" (10) ] (11) .
أقوال أخر:
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا منْجاب بن الحارث، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: { بِرُوحِ الْقُدُسِ } قال: هو الاسم الأعظم الذي كان عيسى يُحيي به
__________
(1) وكذا عزاه المزي في تحفة الأشراف (12/10) للبخاري، وقال الحافظ ابن حجر في "النكت الظراف": "لم أر هذا الموضع في صحيح البخاري، وقد وصله أحمد والطبراني وصححه الحاكم".
(2) سنن أبي داود برقم (5015) وسنن الترمذي برقم (2846).
(3) في ط، ب، أ، و: "وهو حديث ابن أبي الزناد".
(4) في جـ: "وهو في المسجد ينشد".
(5) صحيح البخاري برقم (3212) وصحيح مسلم برقم (2485).
(6) زيادة من جـ، ط، ب، أ.
(7) في جـ، أ: "وبآياته".
(8) ورواه الطبري في تفسيره (2/320) من طريق سلمة عن ابن إسحاق به.
(9) في و: "نفث".
(10) ورواه البغوي في شرح السنة (14/304) من طريق أبي عبيد عن هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد اليامي، عمن أخبره، عن ابن مسعود به مرفوعًا.
(11) زيادة من جـ، ط، ب، و.

الموتى. وقال ابن جرير: حُدثت عن المنجاب. فذكره. قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك. [ونقله القرطبي عن عبيد بن عمير -أيضا-قال: وهو الاسم الأعظم] (1) .
وقال ابن أبي نَجِيح: الروح هو حفظة على الملائكة.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: القدس هو الرب تبارك وتعالى. وهو قول كعب. وقال السدي: القدس: البركة. وقال العوفي، عن ابن عباس: القدس: الطهر.
[وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا القدس: هو الله تعالى، وروحه: جبريل، فعلى هذا يكون القول الأول] (2) .
وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب قال: قال ابن زيد (3) في قوله تعالى: { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } قال: أيد الله عيسى بالإنجيل روحًا كما جعل القرآن روحًا، كلاهما روح من الله، كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52] .
ثم قال ابن جرير: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قولُ من قال: الروح في هذا الموضع جبريل، لأن الله، عز وجل، أخبر أنه أيد عيسى به، كما أخبر في قوله: { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ } الآية [المائدة: 110] . فذكر أنه أيده به، فلو كان الروح الذي أيده به هو الإنجيل، لكان قوله: { إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ } تكرير قول لا معنى له، والله أعز أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به.
قلت: ومن الدليل على أنه جبريل ما تقدم في أول السياق؛ ولله الحمد (4) .
وقال الزمخشري { بِرُوحِ الْقُدُسِ } بالروح المقدسة، كما يقول: حاتم الجود ورجل صدق ووصفها بالقدس كما قال: { وَرُوحٌ مِنْهُ } فوصفه بالاختصاص والتقريب تكرمة، وقيل: لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث، وقيل: بجبريل، وقيل: بالإنجيل، كما قال في القرآن: { رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52] وقيل باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره، وتضمن كلامه قولا آخر وهو أن المراد روح عيسى نفسه المقدسة المطهرة.
وقال الزمخشري في قوله: { فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } إنما لم يقل: وفريقًا قتلتم؛ لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل -أيضًا-لأنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والسحر، وقد قال، عليه السلام، في مرض موته: "ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري"، وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره (5) .
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(3) في جـ: "قال ابن أبي زيد".
(4) في جـ، ط: "ولله الحمد والمنة".
(5) صحيح البخاري برقم (2617) وصحيح مسلم برقم (2190).

وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)

{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ (88) }
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي: في أكنة.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي: لا تفقه.
وقال العوفي، عن ابن عباس: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } [قال] (1) هي القلوب المطبوع عليها.
وقال مجاهد: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } عليها غشاوة.
وقال عكرمة: عليها طابع. وقال أبو العالية: أي لا تفقه. وقال السدي: يقولون: عليها غلاف، وهو الغطاء.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } هو كقوله: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [فصلت: 5] .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قوله: { غُلْفٌ } قال: يقول: قلبي في غلاف فلا يَخْلُص إليه ما تقول، قرأ (2) { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ }
وهذا هو الذي رجحه ابن جرير، واستشهد مما روي من حديث عمرو بن مُرّة الجملي، عن أبي البختري، عن حذيفة، قال: القلوب أربعة. فذكر منها: وقلب أغلف مَغْضُوب عليه، وذاك قلب الكافر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الرحمن العَرْزَمي، أنبأنا أبي، عن جدي، عن قتادة، عن الحسن في قوله: { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قال: لم تختن.
هذا (3) القول يرجع معناه إلى ما تقدم من عدم طهارة قلوبهم، وأنها بعيدة من الخير.
قول آخر:
قال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قال قالوا: قلوبنا مملوءة علمًا لا تحتاج إلى علم محمد، ولا غيره.
وقال عطية العوفي: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي: أوعية للعلم.
وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض الأنصار (4) فيما حكاه ابن جرير: "وقالوا قلوبنا غُلُف" بضم اللام، أي: جمع غلاف، أي: أوعية، بمعنى أنهم ادعوا (5) أن قلوبهم مملوءة بعلم لا يحتاجون معه إلى علم آخر. كما كانوا يَمُنُّون (6) بعلم التوراة. ولهذا قال تعالى: { بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ } ، أي: ليس الأمر كما ادعوا بل
__________
(1) زيادة من جـ، ط.
(2) في جـ، ط، ب: "وقرأ".
(3) في جـ، ط، ب: "وهذا".
(4) في أ، و: "بعض الأمصار".
(5) ف جـ: "أنهم زعموا".
(6) في أ: "كما كانوا يكتمون".

قلوبهم ملعونة مطبوع عليها، كما قال في سورة النساء: { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } [النساء: 155] . وقد اختلفوا في معنى قوله: { فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ } وقوله: { فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } ، فقال بعضهم: فقليل من يؤمن منهم [واختاره فخر الدين الرازي وحكاه عن قتادة والأصم وأبي مسلم الأصبهاني] وقيل: فقليل إيمانهم. بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب، ولكنه إيمان لا ينفعهم، لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء، وإنما قال: { فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ } وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب: قلما رأيت مثل هذا قط. تريد: ما رأيت مثل هذا قط. [وقال الكسائي: تقول العرب: من زنى بأرض قلما تنبت، أي: لا تنبت شيئًا]. (1) .
حكاه (2) ابن جرير، والله أعلم.
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) في جـ، ط، ب: "حكاها".

وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)

{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) }
يقول تعالى: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ } يعني اليهود { كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } وهو: القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ } يعني: من التوراة، وقوله: { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم، كما قال محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عُمَر عن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم قال: قالوا: فينا والله وفيهم -يعني في الأنصار-وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم، نزلت هذه القصة يعني: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ } قالوا (1) كنا قد علوناهم دهرًا في الجاهلية، ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون: إن نبيًا من [الأنبياء] (2) يبعث الآن نتبعه، قد أظل زمانه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما بعث الله رسوله من قريش [واتبعناه] (3) كفروا به. يقول الله تعالى: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [النساء : 155] .
وقال الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } قال: يستظهرون يقولون: نحن نعين محمدًا عليهم، وليسوا كذلك، يكذبون.
__________
(1) في جـ، ط، ب: "قال".
(2) زيادة من جـ.
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.

وقال محمد بن إسحاق: أخبرني محمد بن أبي محمد، أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن يَهود (1) كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه. فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن مَعْرُور، أخو بني سلمة (2) يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفُونه لنا بصفته. فقال سَلام بن مِشْكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله في ذلك من قولهم: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } (3)
وقال العوفي، عن ابن عباس: { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } يقول: يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب -يعني بذلك أهل الكتاب-فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه.
وقال أبو العالية: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم. فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، ورأوا أنه (4) من غيرهم، كفروا به حسدًا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }
وقال قتادة: { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } قال: كانوا يقولون: إنه سيأتي نبي. { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ }
وقال مجاهد: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } قال: هم اليهود.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمود بن لبيد، أخي بني عبد الأشهل عن سلمة بن سلامة بن وقش، وكان من أهل بدر قال: كان لنا جار يهودي في بني عبد الأشهل قال: فخرج علينا يومًا من بيته قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير، حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل. قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيهم سنًّا على بردة مضطجعًا فيها بفناءٍ أصلي. فذكر البعث والقيامة والحسنات والميزان والجنة والنار. قال ذلك لأهل شرك أصحاب أوثان لا يرون بعثًا كائنًا بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم؟ فقال: نعم، والذي يحلف به، لود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غدًا. قالوا له: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبي
__________
(1) في جـ، ط، ب، أ، و: "أن يهودًا".
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "وداود بن سلمة".
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/547) وتفسير الطبري (2/233).
(4) في جـ: "ورأوه".

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)

يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن. قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سنًّا، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه. قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغيًا وحسدًا.
فقلنا: ويلك يا فلان، ألست بالذي قلت لنا؟ قال: بلى وليس به. تفرد به أحمد (1) .
وحكى القرطبي وغيره عن ابن عباس، رضي الله عنهما: أن يهود خيبر اقتتلوا في زمان الجاهلية مع غطفان فهزمتهم غطفان، فدعا اليهود عند ذلك، فقالوا: اللهم إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا بإخراجه في آخر الزمان، إلا نصرتنا عليهم. قال: فنصروا عليهم. قال: وكذلك كانوا يصنعون يدعون الله فينصرون على أعدائهم ومن نازلهم. قال الله تعالى: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا } أي من الحق وصفة محمد صلى الله عليه وسلم "كَفَرُوا به" فلعنة الله على الكافرين.
{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) }
قال مجاهد: { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ } يهودُ شَرَوُا الحقَّ بالباطل، وكتمانَ مَا جاءَ به مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه.
وقال السدي: { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ } يقول: باعوا به أنفسهم، يعني: بئسما اعتاضوا لأنفسهم ورضوا به [وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم إلى تصديقه ومؤازرته ونصرته] (2) .
وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية { أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } ولا حسد أعظم من هذا.
قال ابن إسحاق عن محمد، عن عكرمة أو سعيد، عن ابن عباس: { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي: إن الله جعله من غيرهم { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } قال ابن عباس: فالغضب على الغضب، فغضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم.
قلت: ومعنى { بَاءُوا } استوجبوا، واستحقوا، واستقروا بغضب على غضب. وقال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضب عليهم بكفرهم بمحمد، وبالقرآن (3) عليهما السلام، [وعن عكرمة وقتادة مثله] (4) .
__________
(1) المسند (3/467).
(2) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "بكفرهم بمحمد والقرآن".
(4) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)

قال السدي: أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العِجْل، وأما الغضب الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم [وعن ابن عباس مثله] (1) .
وقوله: { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } لما كان كفرهم سببه البغي والحسد، ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر: 60]، [أي: صاغرين حقيرين ذليلين راغمين] (2) .
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، حدثنا ابن عَجْلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنًا في جهنم، يقال له: بُولَس فيعلوهم نار الأنيار يسقون (3) من طينة الخبال: عصارة أهل النار" (4) .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) }
يقول تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } أي: لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب { آمِنُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ } [أي] (5) : على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه { قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ عَلَيْنَا } أي: يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك، { وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } يعنى: بما بعده { وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ } أي: وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم الحق (6) { مُصَدِّقًا } (7) منصوب على الحال، أي في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل، فالحجة قائمة عليهم بذلك، كما قال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة: 146] ثم قال تعالى: { [قُلْ] (8) فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي: إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها، وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم بغيًا [وحسدًا] (9) وعنادًا واستكبارًا على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء، والآراء والتشهي (10) كما قال تعالى { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } [البقرة: 87].
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(3) في جـ، ط: "ويسقون".
(4) المسند (2/179).
(5) زيادة من ط، ب، و.
(6) في و: "هو الحق".
(7) في جـ: "مصدقا لما معهم".
(8) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(9) زيادة من جـ.
(10) في جـ: "والشهوة".

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

وقال السدي: في هذه الآية يعيرهم الله تعالى: { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
وقال أبو جعفر بن جرير: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل -[الذين] (1) إذا قلت لهم: آمنوا بما أنزل الله قالوا: { نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ عَلَيْنَا } -: لم تقتلون (2) -إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنزل الله عليكم-أنبياءه وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم فيه باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم، وذلك من الله تكذيب لهم في قولهم: { نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ عَلَيْنَا } وتعيير لهم.
{ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ } أي: بالآيات الواضحات (3) والدلائل القاطعة (4) على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله. والبينات هي: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، وفَلْق البحر، وتظليلهم بالغمام، والمن والسلوى، والحجر، وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها { ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } أي: معبودًا من دون الله في زمان موسى وآياته. وقوله { مِنْ بَعْدِهِ } أي: من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله كما قال تعالى: { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ } [الأعراف: 148]، { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } [أي وأنتم ظالمون] (5) في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل، وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: { وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف: 149].
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) }
يعدد، تبارك وتعالى، عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم عنه، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه؛ ولهذا قال: { قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } وقد تقدم تفسير ذلك.
{ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [بِكُفْرِهِمْ] (6) } قال: أشربوا [في قلوبهم] (7) حبه، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم. وكذا قال أبو العالية، والربيع بن أنس.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عصام بن خالد، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني، عن خالد بن محمد الثقفي، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حُبُّك
__________
(1) زيادة من ب.
(2) في جـ، ط: "تقتلون أنبياء الله من قبل".
(3) في جـ، ط، ب: "الواضحة".
(4) في أ: "القاطعات".
(5) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(6) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(7) زيادة من جـ، ط، ب، و.

الشيء يُعْمِي ويُصم".
ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح عن بَقِيَّة، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به (1) وقال السدي: أخذ موسى، عليه السلام، العجل فذبحه ثم حرقه بالمبرد، ثم ذراه في البحر، فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه، ثم قال لهم موسى: اشربوا منه. فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب. فذلك حين يقول الله تعالى: { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ }
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل (2) عن أبي إسحاق، عن عمارة بن عبد (3) وأبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب، قال: عمد موسى إلى العجل، فوضع عليه المبارد، فبرده بها، وهو على شاطئ نهر، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب (4) .
وقال سعيد بن جبير: { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } قال: لما أحرق العجل بُرِدَ ثم نسف، فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران.
وحكى القرطبي عن كتاب القشيري: أنه ما شرب منه أحد ممن عبد العجل إلا جنَّ [ثم قال القرطبي] (5) وهذا شيء غير ما هاهنا؛ لأن المقصود من هذا السياق، أنه ظهر النقير على شفاههم ووجوههم، والمذكور هاهنا: أنهم أشربوا في قلوبهم حب العجل، يعني: في حال عبادتهم له، ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة:
تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير ...
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور ...
أكاد إذا ذكرت العهد منها ... أطير لو أن إنسانا يطير ...
وقوله: { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي: بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه، من كفركم بآيات الله ومخالفتكم الأنبياء، ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم -وهذا أكبر ذنوبكم، وأشد الأمور عليكم-إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين، فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة، من نقضكم المواثيق، وكفركم بآيات الله، وعبادتكم العجل؟!
__________
(1) المسند (5/194) وسنن أبي داود برقم (5130).
(2) في أ: "حدثنا إسماعيل".
(3) في هـ: "عبد الله" وهو خطأ.
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/282).
(5) زيادة من أ، و.

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)

{ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) }
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب. فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } أي: بِعِلْمِهِم بما عندهم من العلم بك، والكفر بذلك، ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: { فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ } فسلوا الموت.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، قوله: { فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال: قال ابن عباس: لو تمنى اليهود الموت لماتوا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسِي، حدثنا عثام، سمعت الأعمش -قال: لا أظنه إلا عن المِنْهال، عن سعيد بن جبير-عن ابن عباس، قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه.
وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس.
وقال ابن جرير في تفسيره: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا. ولرأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يُباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون (1) أهلا ولا مالا". حدثنا بذلك أبو كُرَيْب، حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا عبيد الله (2) بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد (3) الرقي [أبي يزيد] (4) حدثنا فرات، عن عبد الكريم، به (5) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أحمد [قال] (6) : حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار،
__________
(1) في جـ: "ولا يجدون".
(2) في أ: "عبد الله".
(3) في جـ: "عن إسماعيل عن زيد"، وفي أ، و: "عن إسماعيل بن يزيد".
(4) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(5) تفسير الطبري (2/362) والمسند (1/248).
(6) زيادة من جـ.

حدثنا سرور بن المغيرة، عن عباد بن منصور، عن الحسن، قال: قول الله ما كانوا ليتمنوه بما قدمت أيديهم. قلت: أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم: تمنوا، أتراهم كانوا ميتين؟ قال: لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت، وما كانوا ليتمنوه، وقد قال الله ما سمعت: { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }
وهذا غريب عن الحسن. ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الآية هو المتعين، وهو الدعاء على أي الفريقين أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة، ونقله (1) ابن جرير عن قتادة، وأبي العالية، والربيع بن أنس، رحمهم الله.
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة: { قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجمعة: 6-8] فهم -عليهم لعائن الله-لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى، دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم، أو من المسلمين. فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد (2) أنهم ظالمون؛ لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا علم كذبهم. وهذا (3) كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة، وعتوّهم وعنادهم إلى المباهلة، فقال تعالى: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [آل عمران: 61] فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض: والله لئن باهلتم هذا النبيّ لا يبقى منكم عين تطرف. فعند ذلك جنحوا للسلم وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فضربها عليهم. وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه، أمينًا. ومثل هذا المعنى أو قريب منه قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: { قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا } [مريم: 75]، أي: من كان في الضلالة منا أو منكم، فزاده الله مما هو فيه ومَدّ له، واستدرجه، كما سيأتي تقريره في موضعه، إن شاء الله (4) .
فأما من فسر الآية على معنى: { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي: إن كنتم صادقين في دعواكم، فتمنوا الآن الموت. ولم يتعرض هؤلاء للمباهلة كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم، ومال إليه ابن جرير بعد ما قارب القول الأول؛ فإنه قال: القول في تفسير (5) قوله تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وهذه الآية مما احتج الله به لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا
__________
(1) في جـ: "ونقل".
(2) في أ: "واحد".
(3) في جـ: "وهكذا".
(4) في جـ: "إن شاء الله وبه الثقة".
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "في تأويله".

بين ظهراني مُهَاجَره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم؛ وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم إلى قضية عادلة بينه وبينهم، فيما كان بينه وبينهم من الخلاف، كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إذا خالفوه في عيسى ابن مريم، عليه السلام، وجادلوه فيه، إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة. فقال لفريق [من] (1) اليهود: إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضار بكم (2) إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله، بل أعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها، والفوز بجوار الله في جناته (3) إن كان الأمر كما تزعمون: من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا. وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا، وانكشف أمرنا وأمركم لهم فامتنعت اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها (4) أنها إن تمنت الموت هلكت، فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها، كما امتنع فريق [من] (5) النصارى.
فهذا الكلام منه أوله حسن، وأما آخره فيه نظر؛ وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على هذا التأويل، إذ يقال: إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أنهم يتمنوا الموت فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت، وكم من صالح لا يتمنى الموت، بل يود أن يعمر ليزداد خيرًا وترتفع درجته في الجنة، كما جاء في الحديث: "خيركم من طال عمره وحسن عمله" (6) . [وجاء في الصحيح النهي عن تمني الموت، وفي بعض ألفاظه: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنًا فلعله أن يزداد، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب" (7) ] (8) . ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا: فها أنتم تعتقدون -أيها المسلمون-أنكم أصحاب الجنة، وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت؛ فكيف تلزمونا بما لا نُلزمكم؟
وهذا كله إنما نشأ من تفسير الآية على هذا المعنى، فأما على تفسير ابن عباس فلا يلزم عليه شيء من ذلك، بل قيل لهم كلام نَصَف: إن كنتم تعتقدون أنكم (9) أولياء الله من دون الناس، وأنكم أبناء الله وأحبّاؤه، وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم [من] (10) أهل النار، فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة. فلما تيقَّنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ونعته، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه. فعلم كل أحد باطلهم، وخزيهم، وضلالهم وعنادهم
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) في أ، و: "غير ضايركم".
(3) في جـ: "وجنانه".
(4) في جـ، ط، ب، أ، و: "لعلمهم".
(5) زيادة من جـ.
(6) جاء من حديث عبد الله بن يسر، وأبي بكرة، وأبي هريرة رضي الله عنهم، فأما حديث عبد الله بن بسر، فرواه الترمذي في السنن برقم (2329) وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه" وأما حديث أبي بكرة، فرواه الترمذي في السنن برقم (2330) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وأما حديث أبي هريرة، فرواه أحمد في المسند (2/235).
(7) صحيح البخاري برقم (5671) وصحيح مسلم برقم (2680) من حديث أنس رضي الله عنه.
(8) زيادة من جـ، ب، أ، و.
(9) في و: "أنهم".
(10) زيادة من أ.

-عليهم لعائن الله المتتابعة (1) إلى يوم القيامة.
[وسميت هذه المباهلة تمنيًا؛ لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له فيها بيان حقه وظهوره، وكانت المباهلة بالموت؛ لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت] (2) .
ولهذا قال تعالى: { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } : أي: [أحرص الخلق على حياة أي] (3) : على طول عُمْر، لما يعلمون من مآلهم السيئ وعاقبتهم عند الله الخاسرة؛ لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم. وما يحذرون (4) واقع بهم لا محالة، حتى وهم أحرص [الناس] (5) من المشركين الذين لا كتاب لهم. وهذا من باب عطف الخاص على العام.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } قال: الأعاجم.
ورواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري، وقال: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه. قال: وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي (6) . وقال الحسن البصري: { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } قال: المنافق أحرص الناس على حياة، وهو أحرص على الحياة من المشرك { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } أي: أحد اليهود كما يدل عليه نظم السياق.
وقال أبو العالية: { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } يعني : المجوس، وهو يرجع إلى الأول.
{ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال: هو كقول الفارسي: "زه هزارسال" يقول: عشرة آلاف سنة. وكذا روي عن سعيد بن جبير نفسه أيضًا.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت أبي يقول: حدثنا أبو حمزة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله تعالى: { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال: هو الأعاجم: "هزارسال نوروزر مهرجان".
وقال مجاهد: { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال: حببت إليهم الخطيئة طول العمر.
__________
(1) في جـ، ط، ب: "التابعة"، وفي أ: "البالغة".
(2) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(3) زيادة من جـ، ب، أ، و.
(4) في أ: "وما يجدون".
(5) زيادة من ط.
(6) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 286) والمستدرك (2/ 263).

قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس: { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ } أي: ما هو بمنجيه من العذاب. وذلك أن المشرك لا يرجو بعثًا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة (1) وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما صنع (2) بما عنده من العلم.
وقال العوفي، عن ابن عباس: { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ } قال: هم الذين عادوا جبريل.
وقال أبو العالية وابن عمر (3) فما ذاك بمغيثه (4) من العذاب ولا منجيه منه.
وقال عبد الرحمن بن زيد (5) بن أسلم [في هذه الآية] (6) يهود أحرص على [هذه] (7) الحياة من هؤلاء، وقد ود هؤلاء أن (8) يعمر أحدهم ألف سنة، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عمر، كما عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافرًا.
{ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي: خبير بما يعمل عباده من خير وشر، وسيجازي كل عامل بعمله.
{ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) }
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعًا [على] (9) أن هذه الآية نزلت جوابًا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك. فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جَرَت بينَهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في (10) أمر نبوته. ذكر من قال ذلك
حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا يونس بن بُكَيْر، عن عبد الحميد بن بَهرام، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن ابن عباس أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن، لا يعلمهن إلا نبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا عما شئتم، ولكن اجعلوا لي
__________
(1) في أ: "طول العمر".
(2) في ب: "بما ضيع".
(3) في جـ، ط، ب: "وإن عمر".
(4) في جـ: "لا ذاك بمغنيه".
(5) في جـ: "بز يزيد".
(6) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(7) زيادة من جـ.
(8) في ط، ب، أ، و: "هؤلاء لو".
(9) زيادة من جـ، ط.
(10) في جـ، ط، ب، أ: "من".

ذمة وما أخذ يعقوب على بنيه، لئن أنا حدثتكم شيئًا فعرفتموه لتتابِعُنِّي على الإسلام". فقالوا: ذلك لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوني عما شئتم". فقالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن: أخبرنا أيّ الطعام حرم (1) إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء (2) المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم (3) ووليه من الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعنِّي؟" فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق. فقال: "نشدتكم (4) بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضًا شديدًا فطال سقمه منه، فنذر لله نذرًا لئن عافاه الله من سقمه ليحرّمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحوم (5) الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها؟". فقالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشهد (6) عليهم. وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله، وإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرًا بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله؟". قالوا: اللهم نعم. قال: "اللهم اشهد". قال: "وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟". قالوا: اللهم نعم. قال: "اللهم اشهد". قالوا: أنت الآن، فحدثنا من وليك من الملائكة، فعندها نجامعك أو نفارقك. قال: "فإن وليي جبريل، ولم يبعث الله نبيًا قط إلا وهو وليُّه". قالوا: فعندها نفارقك، لو كان وليّك سواه من الملائكة تابعناك (7) وصدقناك. قال: "فما مَنَعكم أن تصدقوه؟" قالوا: إنه عدونا. فأنزل الله عز وجل: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } إلى قوله: { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [البقرة: 103] فعندها باؤوا بغضب على غضب (8) .
وقد رواه الإمام أحمد في مسنده، عن أبي النضر هاشم بن القاسم وعبد بن حميد في تفسيره، عن أحمد بن يونس، كلاهما عن عبد الحميد بن بَهرام، به (9) .
ورواه الإمام أحمد -أيضاً-عن الحسين بن محمد المروزي، عن عبد الحميد، بنحوه [به] (10) (11) .
وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن شهر بن حوشب، فذكره مرسلا وزاد فيه: قالوا: فأخبرنا عن الروح قال: "أنشدكم بالله وبآياته (12)
__________
(1) في جـ، ط: "الذي حرم".
(2) في جـ: "كيف يكون ماء".
(3) في جـ، ط، ب، أ: "في التوراة".
(4) في جـ: "أنشدكم".
(5) في جـ: "لحم"، وفي ط، ب، أ، و: "لحمان".
(6) في جـ: "اللهم أشهدك".
(7) في جـ: "لتابعناك" وفي ط: : "بايعناك".
(8) تفسير الطبري (2/377).
(9) المسند (1/278).
(10) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(11) المسند (1/273).
(12) في ط، ب: "وبأيامه".

عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل، وهو الذي يأتيني؟" قالوا: نعم، ولكنه لنا عدو، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء، فلولا ذلك اتبعناك (1) . فأنزل الله فيهم: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } إلى قوله: { كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [البقرة: 101] .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد (2) حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي، عن بكير بن شهاب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك. فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال: { اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [يوسف:66] قال: "هاتوا" . قالوا: أخبرنا عن علامة النبي. قال: "تنام عيناه ولا ينام قلبه". قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف يذكر الرجل؟ قال: "يلتقي الماءان فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت"، قالوا: أخبرنا ما (3) حرّم إسرائيل على نفسه. قال: "كان يشتكي عِرْق النَّساء، فلم يجد شيئًا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا" -قال أحمد: قال بعضهم: يعني الإبل، فحرم لحومها -قالوا: صدقت. قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال "ملك من ملائكة الله، عز وجل، موكل بالسحاب بيديه-أو في يده-مِخْراق من نار يزجر به السحاب، يسوقه حيث أمره الله عز وجل". قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمعه؟ قال: "صوته". قالوا: صدقت. إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا (4) إنه ليس من نبي إلا وله مَلَك يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال: "جبريل عليه السلام"، قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان (5) فأنزل الله عز وجل: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } إلي آخر الآية.
ورواه الترمذي، والنسائي من حديث عبد الله بن الوليد، به (6) . وقال الترمذي: حسن غريب.
وقال سُنَيْد في تفسيره، عن حجاج بن محمد، عن ابن جُرَيْج: أخبرني القاسم بن أبي بَزَّة أن يهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحبه الذي ينزل (7) عليه بالوحي. قال: "جبريل". قالوا: فإنه لنا عدو، ولا يأتي إلا بالشدة والحرب والقتال. فنزل: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } الآية. قال ابن جريج: وقال مجاهد: قالت يهود: يا محمد، ما ينزل (8) جبريل إلا بشدة وحرب وقتال، وإنه لنا عدو. فنزل: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } الآية.
وقال البخاري: قوله: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } قال عكرمة: جبر، وميك، وإسراف: عبد. وإيل: الله. حدثنا عبد الله بن مُنير (9) سَمِع عبد الله بن بكر (10) حدثنا حُمَيد، عن أنس بن مالك،
__________
(1) في جـ: "لتبعناك".
(2) في جـ: "أبو عمر".
(3) في جـ، ط: "أخبرنا عما".
(4) في ب "أخبرتنا بها".
(5) في جـ: "لكنا تابعناك".
(6) المسند (1/274) وسنن الترمذي برقم (3117) وسنن النسائي الكبرى برقم (9072).
(7) في أ: "نزل".
(8) في جـ، ط، أ: "ما نزل".
(9) في جـ، ط، ب، أ، و: "بن نمير".
(10) في أ: "بن بكير".

قال: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن (1) إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: "أخبرني بِهن جبريل آنفًا". قال: جبريل؟ قال: "نعم". قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } "أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة [ماء الرجل] (2) نزعت". قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك (3) رسول الله. يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهُت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني (4) . فجاءت اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟" قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. قال: "أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام". فقالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا. فانتقصوه.
قال (5) هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.
انفرد به البخاري من هذا الوجه (6) وقد أخرجه من وجه آخر، عن أنس بنحوه (7) وفي صحيح مسلم، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريب من هذا السياق (8) كما سيأتي في موضعه (9) .
وحكاية البخاري عن عكرمة هو المشهور أن "إيل" هو الله. وقد رواه سفيان الثوري، عن خَصِيف، عن عكرمة.
ورواه عبد بن حميد، عن إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن عكرمة، ورواه ابن جرير، عن الحسين بن يزيد الطحان، عن إسحاق بن منصور، عن قيس، عن عاصم، عن عكرمة، أنه قال: إن جبريل اسمه عبد الله وميكائيل: عبيد الله. إيل: الله.
ورواه يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله سواء. وكذا قال غير واحد من السلف، كما سيأتي قريبا.
__________
(1) في أ: "لا يعرفهن".
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ، ط: "وأن محمدًا".
(4) في جـ: "بهتوني".
(5) في جـ: "فقال".
(6) صحيح البخاري برقم (4480).
(7) صحيح البخاري برقم (3329) من طريق مروان بن معاوية عن حميد، عن أنس، وصحيح البخاري برقم (3938) من طريق بشر ابن المفضل، عن حميد، عن أنس.
(8) صحيح مسلم برقم (315).
(9) في جـ: "كما سيأتي في موضعه إن شاء الله".

[وقال الإمام أحمد في أثناء حديث سمرة بن جندب: حدثنا محمد بن سلمة، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال: قال لي علي بن الحسين: اسم جبريل عبد الله ، واسم ميكائيل: عبيد الله] (1) .
ومن الناس من يقول: "إيل" عبارة عن عبد، والكلمة الأخرى هي اسم الله؛ لأن كلمة "إيل" لا تتغير في الجميع، فوزانه: عبد الله، عبد الرحمن، عبد الملك، عبد القدوس، عبد السلام، عبد الكافي، عبد الجليل. فعبد موجودة في هذا كله، واختلفت الأسماء المضاف إليها، وكذلك جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ونحو ذلك، وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف، والله أعلم.
ثم قال ابن جرير: وقال آخرون: بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بين عمر بن الخطاب وبينهم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن المثنى، حدثني ربعي بن عُلَيّة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، قال: نزل عمر الروحاء، فرأى رجالا يبتدرون أحجارًا يصلون إليها، فقال: ما بال هؤلاء؟ قالوا: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى هاهنا. قال: فكفر ذلك. وقال: إنما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد صلاها ثم ارتحل، فتركه. ثم أنشأ يحدثهم، فقال: كنت أشهد اليهود يوم مِدْرَاسهم (2) فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان ومن الفرقان كيف يصدق التوراة؟ فبينما أنا عندهم ذات يوم، قالوا: يا ابن الخطاب، ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك. قلت: ولم ذلك؟ قالوا: إنك تغشانا وتأتينا. فقلت: إني آتيكم فأعجب من الفرقان (3) كيف يصدق التوراة، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان. قال: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا ابن الخطاب، ذاك صاحبكم فالحق به، قال: فقلت لهم عند ذلك: نشدتكم (4) بالله الذي لا إله إلا هو، وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه: أتعلمون أنه رسول الله؟ قال: فسكتوا. فقال لهم عالمهم وكبيرهم: إنه قد غَلَّظ عليكم فأجيبوه. فقالوا: فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت. قال: أما إذ نشدتنا بما نشدتنا به فإنا نعلم أنه رسول الله، قال: قلت: ويحكم فأنَّي هلكتم؟! قالوا (5) إنا لم نهلك (6) [قال] (7) : قلت: كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله [ثم] (8) ولا تتبعونه ولا تصدقونه؟ قالوا: إن لنا عدوا من الملائكة وسِلْمًا من الملائكة، وإنه قرن بنبوته عدونا من الملائكة. قال: قلت: ومن عدوكم ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل، وسلمنا ميكائيل. قال: قلت: وفيم عاديتم جبريل، وفيم سالمتم ميكائيل؟ قالوا: إن جبريل مَلَك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا، وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا.
__________
(1) زيادة من جـ، ط.
(2) في جـ، أ: "يوم مدارستهم".
(3) في أ، و: "القرآن".
(4) في أ: "أنشدكم".
(5) في جـ: "فقالوا".
(6) في جـ، ط: "إياكم يهلك".
(7) زيادة من أ.
(8) زيادة من ط.

قال: قلت: وما منزلتهما من ربهما عز وجل؟ قالوا: أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره. قال: قلت: فو [الله] (1) الذي لا إله إلا هو، إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما وما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبريل. ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته وهو خارج من خَوْخة لبني فلان، فقال: يا ابن الخطاب، ألا أقرئك آيات نزلن (2) قبل؟" فقرأ عليّ: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } حتى قرأ هذه الآيات. قال: قلت: بأبي وأمي يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر (3) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن مجالد، أنبأنا عامر، قال: انطلق عمر بن الخطاب إلى اليهود، فقال: أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى: هل تجدون محمدًا في كتبكم؟ قالوا: نعم. قال: فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا: إن الله لم يبعث رسولا (4) إلا جعل له من الملائكة كفْلا وإن جبريل كَفَل محمَّدًا، وهو الذي يأتيه، وهو عدونا من الملائكة، وميكائيل سلمنا؛ لو كان ميكائيل هو الذي يأتيه أسلمنا. قال: فإني أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى: ما منزلتهما من رب العالمين؟ قالوا: جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله. قال عمر. وإني أشهد ما ينزلان إلا بإذن الله، وما كان ميكائيل ليسالم عدو جبريل، وما كان جبريل ليسالم عدو ميكائيل. فبينما هو عندهم إذ مر النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا صاحبك يا ابن الخطاب: فقام إليه عمر، فأتاه، وقد أنزل الله، عز وجل، عليه: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } (5) .
وهذان الإسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به عن عمر، ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر، فإنه لم يدرك وفاته (6) ،والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثنا بشر (7) حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة، قال: ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود. فلما أبصروه (8) رحبوا به، فقال لهم عمر: أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم، ولكن جئت لأسمع منكم. فسألهم وسألوه. فقالوا: من صاحب صاحبكم (9) ؟ فقال لهم: جبريل. فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء، يُطلع محمدًا على سرنا، وإذا جاء جاء الحرب والسَّنَة، ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل، وكان إذا جاء جاء الخصب والسلم. فقال لهم عمر: هل تعرفون جبريل وتنكرون محمدًا صلى الله عليه وسلم؟ ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) زيادة من جـ، ب، أ، و.
(2) في جـ: "نزلت".
(3) تفسير الطبري (2/ 382).
(4) في جـ: "نبيا رسولا".
(5) تفسير ابن أبي حاتم (1/290).
(6) في جـ، ط، ب، أ، و: "زمانه".
(7) في أ: "محمد بن بشر".
(8) في جـ، ط، ب، أ، و: "فلما انصرف".
(9) في أ، و: "صاحبكم".

ليحدثه حديثهم، فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } (1) .
ثم قال: حدثني المثنى، حدثنا آدم، حدثنا أبو جعفر عن قتادة، قال: بلغنا أن عمر أقبل إلى اليهود يومًا، فذكر نحوه. وهذا -أيضًا-منقطع، وكذلك رواه أسباط، عن السدي، عن عمر مثل هذا أو نحوه، وهو (2) منقطع أيضًا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عبد الرحمن -يعني الدَّشْتَكي-حدثنا أبو جعفر، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا أتي (3) عمر بن الخطاب، فقال: إن جبريل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا. فقال عمر: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } قال: فنزلت على لسان عمر، رضي الله عنه (4) .
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن، عن ابن أبي ليلى في قوله: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } قال: قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل كان الذي ينزل عليكم اتبعناكم، فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة، فإنه لنا عدو (5) قال: فنزلت هذه الآية.
حدثني يعقوب قال: حدثنا هُشَيْم، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء، بنحوه. وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } قال: قالت اليهود: إن جبريل عدونا، لأنه ينزل بالشدة والسَّنَة، وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب، فجبريل عدونا. فقال الله تعالى: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } [الآية] (6) .
وأما تفسير الآية فقوله تعالى: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } أي: من عادى جبريل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل الله مَلَكي [عليه وعلى سائر إخوانه من الملائكة السلام] (7) ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل، وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا* أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } [النساء:150، 151] فحكم عليهم بالكفر المحقّق، إذْ آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم (8) وكذلك من عادى جبريل فإنه عدو لله؛
__________
(1) تفسير الطبري (2/383).
(2) في أ: "وهذا".
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "لقي".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 291) وهذا منقطع، ابن أبي ليلي لم يدرك عمر.
(5) في جـ: "فإنه عدونا".
(6) زيادة من جـ.
(7) زيادة من جـ.
(8) في أ: "وكفروا ببعض".

لأن جبريل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه، وإنما ينزل بأمر ربه كما قال: { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [مريم: 64] وقال تعالى: { وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } [الشعراء: 192-194] وقد روى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب" (1) . ولهذا غضب الله لجبريل على من عاداه، فقال: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي: مِنَ الكتب المتقدمة { وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي: هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة، وليس ذلك إلا للمؤمنين. كما قال تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت: 44] ، وقال تعالى: { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [الإسراء: 82] .
ثم قال تعالى: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } يقول تعالى: من عاداني وملائكتي ورسلي -ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر، كما قال تعالى: { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ } [الحج: 75] .
{ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } (2) وهذا من باب عطف الخاص على العام، فإنهما دخلا في الملائكة، ثم (3) عموم الرسل، ثم خصصا بالذكر؛ لأن السياق في الانتصار لجبريل وهو السفير بين الله وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ؛ لأن اليهود زعموا أن جبريل عدوهم وميكائيل وليهم، فأعلمهم أنه من عادى واحدًا منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضًا؛ لأنه -أيضًا-ينزل على الأنبياء بعض الأحيان، كما قُرن (4) برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر، ولكن جبريل أكثر، وهي وظيفته، وميكائيل موكل بالقطر والنبات، هذاك بالهدى وهذا بالرزق، كما أن إسرافيل موكل بالصور للنفخ للبعث يوم (5) القيامة؛ ولهذا جاء في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول (6) "اللهم رب جبريل وإسرافيل وميكائيل (7) ، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" (8) . وقد تقدم ما حكاه البخاري، ورواه ابن جرير (9) عن عكرمة أنه قال: جبر، وميك، وإسراف: عُبَيد. وإيل: الله.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6502).
(2) في جـ، ط، ب: "وميكائيل".
(3) في أ: "في".
(4) في أ: "كما مر".
(5) في ط، ب: "ليوم".
(6) في جـ، ط: "قال".
(7) في جـ، ط، ب: "رب جبريل وميكائيل وإسرافيل".
(8) صحيح مسلم برقم (770) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(9) في ب: "وغيره".

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير (1) مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: إنما قوله: "جبريل" كقوله: "عبد الله" و "عبد الرحمن". وقيل (2) جبر: عبد. وإيل: الله.
وقال محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن علي بن الحسين، قال: أتدرون (3) ما اسم جبرائيل (4) من أسمائكم؟ قلنا: لا. قال: اسمه عبد الله، قال: فتدرون ما اسم ميكائيل من أسمائكم؟ قلنا: لا. قال: اسمه عبيد الله (5) . وكل اسم مرجعه إلى "يل" (6) فهو إلى الله.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد وعكرمة والضحاك ويحيى بن يعمر نحو ذلك. ثم قال: حدثني أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحَوَارِي، حدثني عبد العزيز بن عمير قال: اسم جبريل في الملائكة خادم الله. قال: فحدثت (7) به أبا سليمان الداراني، فانتفض وقال: لهذا الحديث أحبّ إليَّ من كل شيء [وكتبه] (8) في دفتر كان بين يديه.
وفي جبريل وميكائيل لغات وقراءات، تذكر في كتب اللغة والقراءات، ولم نطوّل كتابنا هذا بسَرد ذلك إلا أن يدور فهم المعنى عليه، أو يرجع الحكم في ذلك إليه، وبالله الثقة، وهو المستعان.
وقوله تعالى: { فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل: فإنه عدو للكافرين. قال: { فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } كما قال الشاعر:
لا أرى الموتَ يسبق (9) الموتَ شيء ... نَغَّص (10) الموتُ ذا الغنى والفقيرا ...
وقال آخر:
ليتَ الغرابَ غداة ينعَبُ (11) دائبا ... كان الغرابُ مقطَّع الأوداج (12)
وإنما أظهر الاسم هاهنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره، وإعلامهم أن من عادى أولياء الله فقد عادى الله، ومن عادى الله فإن الله عدو له، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة، كما تقدم الحديث: "من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالحرب". وفي الحديث الآخر: "إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب". وفي الحديث الصحيح: "وَمَن كنتُ خَصْمَه خَصَمْتُه".
__________
(1) في أ: "عمر".
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "وقال".
(3) في جـ، ط، ب، أ، و: "تدرون".
(4) في جـ، ط، ب: "جبريل".
(5) في جـ: "عبد الله".
(6) في أ، و: "إيل".
(7) في جـ: "فحدث".
(8) زيادة من جـ.
(9) في جـ: "سوى".
(10) في جـ، ط، ب: "سبق"، وفي أ: "مسبق" وفي و: "يسبق".
(11) في جـ: "ينعق".
(12) البيت في تفسير الطبري (2/396) وهو لجرير بن عطية.

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)

{ وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) }

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)

{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) }
قال الإمام أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي: أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات [دلالات] (1) على نبوتك، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود، ومكنونات سرائر أخبارهم، وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارُهم وعلماؤهم، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم، التي كانت في التوراة. فأطلع الله في كتابه الذي أنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف نفسه، ولم يَدْعُه إلى هلاكها الحسد (2) والبغي، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديقُ من أتى بمثل (3) ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وَصَفَ، من غير تعلُّم تعلَّمه من بَشَريٍّ (4) ولا أخذ شيئًا (5) منه عن آدمي. كما قال الضحاك، عن ابن عباس: { وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } يقول: فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية، وبين ذلك، وأنت عندهم أمي لا تقرأ (6) كتابًا، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه. يقول الله: في ذلك لهم عبرة وبيان، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال ابن صُوريا الفطْيُوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك. فأنزل الله في ذلك من قوله: { وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ }
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) في جـ: "هلاكه بالحسد".
(3) في جـ: "تصديق ذلك من أن يمثل".
(4) في جـ: "من بشر".
(5) في جـ، ط، ب: "شيء" وهو خطأ.
(6) في جـ، ط، ب: "لم تقرأ".

وقال مالك بن الصيف -حين بُعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وذكرهم (1) ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم في محمد صلى الله عليه وسلم (2) والله ما عَهِد إلينا في محمد صلى الله عليه وسلم ولا أخذ [له] (3) علينا ميثاقًا. فأنزل الله: { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ }
وقال الحسن البصري في قوله: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } قال: نَعَم، ليس في الأرض عَهْدٌ يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه، يعاهدون اليوم، وينقضون غدًا.
وقال السدي: لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: { نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ } أي: نقضه فريق منهم.
وقال ابن جرير: أصل النبذ: الطرح والإلقاء، ومنه سمي اللقيط: منبوذًا، ومنه سمي النبيذ، وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء. قال أبو الأسود الدؤلي:
نظرتُ إلى عنوانه فنبذْتُه كنبذك نَعْلا أخْلقَتْ من نعَالكا (4)
قلت: فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم اللهُ إليهم في التمسك بها والقيام بحقها. ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، الذي في كتبهم نعتُه وصفتُه وأخبارُه، وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ومناصرته، كما قال: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } الآية [الأعراف: 157]، وقال هاهنا: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي: اطَّرَحَ طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم، مما فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، أي: تركوها، كأنهم لا يعلمون ما فيها، وأقبلوا على تعلم السحر واتباعه. ولهذا أرادوا كيْدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسَحَروه في مُشْط ومُشَاقة وجُفّ طَلْعَة ذَكر، تحت راعوثة بئر ذي أروان. وكان الذي تولى ذلك منهم رجل، يقال له: لبيد بن الأعصم، لعنه الله، فأطلع الله على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، وشفاه منه وأنقذه، كما ثبت ذلك مبسوطًا في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، كما سيأتي بيانه (5) قال (6) السدي: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ } قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت، فلم يوافق القرآن، فذلك قوله: { كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ }
وقال قتادة في قوله: { كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } قال: إن القوم كانوا يعلمون، ولكنهم نبذوا علمهم، وكتموه وجحدوا به.
__________
(1) في أ: "وما ذكر لهم".
(2) في أ: "وما عهد الله إليهم فيه".
(3) زيادة من أ.
(4) البيت في تفسير الطبري (2/401).
(5) في جـ: "كما سيأتي بيانه إن شاء الله وبه الثقة"، وفي أ: "كما سيأتي بيانه إن شاء اله تعالى".
(6) في جـ، ط: "وقال".

وقال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } وكان حين ذهب مُلْكُ سليمان ارتد فِئَامٌ من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، فلما رجع (1) اللهُ إلى سليمان ملكَه، وقام الناس على الدين كما كان أوان سليمان، ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان، عليه السلام، حدثان ذلك، فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتاب من الله نزل (2) على سليمان وأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوه دينًا. فأنزل الله: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } واتبعوا الشهوات، [أي]: (3) التي كانت [تتلو الشياطين] (4) وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان آصف كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم "الأعظم"، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجه (5) الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحرًا وكفرًا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها (6) . قال: فأكفره جُهَّالُ الناس وسبّوه، ووقف علماؤهم فلم يزل جهالهم يسبونه، حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } (7) .
وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب سلم (8) بن جنادة السوائي، حدثنا أبو معاوية، حدثنا عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان سليمان، عليه السلام، إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئًا من نسائه، أعطى الجرادة -وهي امرأة-خاتمه. فلما أراد الله أن يبتلي سليمان، عليه السلام، بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات يوم خاتَمه، فجاء (9) الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي. فأخذه فلبسه. فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان، فقال: هاتي خاتمي فقالت: كذبت، لست سليمان. قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبًا فيها سحر وكفر. ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها وقرؤوها (10) على الناس، وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب. قال: فبرئ الناس من سليمان، عليه السلام، وأكفروه حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }
ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير،عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمران،
__________
(1) في جـ: "فلما أرجع".
(2) في جـ: "أنزل".
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(5) في جـ، ط، أ، و: "أخرجته".
(6) في هـ: "به"، والصواب ما أثبتناه من جـ، ط، ب، أ، و.
(7) تفسير ابن أبي حاتم (1/297).
(8) في جـ، ط، ب: "مسلم".
(9) في جـ: "فجاءها".
(10) في جـ، ط، ب، أ: "فقرؤوها".

وهو ابن الحارث قال: بينا نحن عند ابن عباس -رضي الله عنهما (1) -إذ جاء (2) رجل فقال له: مِنْ أين جئت؟ قال: من العراق. قال: من أيِّه؟ قال: من الكوفة. قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم. ففزع ثم قال: ما تقول؟ لا أبا لك! لو شعرنا ما نكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه، أما إني سأحدثكم (3) عن ذلك: إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء، فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها، فإذا جُرِّبَ منه صدق كذب معها سبعين كذْبة، قال: فَتَشْرَبُها قلوب الناس. فأطلع الله عليها سليمان. عليه السلام، فدفنها تحت كرسيه. فلما توفي سليمان، عليه السلام، قام شيطانُ الطريق، فقال: أفلا أدلكم على كنزه الممنَّع (4) الذي لا كنز له مثله؟ تحت الكرسي. فأخرجوه، فقالوا هذا سحره (5) فتناسخا الأمم-حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق-وأنزل الله عز وجل (6) { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }
ورواه الحاكم في مستدركه، عن أبي زكريا العَنْبري، عن محمد بن عبد السلام، عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، به (7) .
وقال السدي في قوله تعالى: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي: على عهد سليمان. قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فتقعد منها مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة مما يكون في الأرض من موت أو غيب (8) أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم. فتحدِّث الكهنة الناسَ فيجدونه كما قالوا. حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم. وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناسُ ذلك الحديثَ في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب. فبُعث سليمانُ في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق. ثم دفنها تحت كرسيه. ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق. وقال: لا أسمع أحدًا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه. فلما مات سليمان، عليه السلام، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف من بعد ذلك خَلْف تمثل شيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفرًا من بني إسرائيل، فقال لهم: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدًا؟ قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي. وذهب معهم وأراهم المكان، وقام ناحية، فقالوا له: فَادْنُ. قال (9) لا ولكنني هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني. فحفروا فوجدوا تلك الكتب. فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين (10) والطير بهذا السحر. ثم طار وذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان
__________
(1) في ط: "عنه".
(2) في ط، ب، أ، و: "إذ جاءه".
(3) في جـ، ط: "سأحدثك"
(4) في جـ: "الممتنع".
(5) في ب، أ، و: "هذا سحر".
(6) في جـ: "الله تعالى".
(7) تفسير الطبري (2/ 415) والمستدرك (2/ 265).
(8) في جـ: "أو عبس".
(9) في جـ: "فقال".
(10) في جـ: "والجن".

ساحرًا. واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها (1) ؛ فذلك حين يقول الله تعالى: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }
وقال الربيع بن أنس: إن اليهود سألوا محمدًا صلى الله عليه وسلم زمانًا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله تعالى عليه ما سألوه عنه، فيخصمهم (2) ، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا. وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله عز وجل: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } وإن الشياطين عَمَدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت مجلس سليمان، وكان [سليمان] (3) عليه السلام، لا يعلم الغيب. فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس، وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد (4) الناس عليه. فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وأدحض الله حجتهم.
وقال مجاهد في قوله: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } قال: كانت الشياطين تستمع (5) الوحي فما سمعوا من كلمة [إلا] (6) زادوا فيها مائتين مثلها. فأرسِل سليمان، عليه السلام، إلى ما كتبوا من ذلك. فلما توفي سليمان وجدته الشياطين فعلمته الناس [به] (7) وهو السحر.
وقال سعيد بن جبير: كان سليمان، عليه السلام، يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم، فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته، فلم يقدر الشياطين أن يصلوا إليه، فدبَّت (8) إلى الإنس، فقالوا لهم: أتدرون ما العلم (9) الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم. قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه. فاستثار به (10) الإنسُ واستخرجوه فعملوا (11) بها. فقال أهل الحجا: كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر. فأنزل الله تعالى على [لسان] (12) نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام، فقال: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }
وقال محمد بن إسحاق بن يسار (13) عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود، عليه السلام (14) فكتبوا أصناف السحر: "من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليقل كذا وكذا". حتى إذا صنفوا أصناف السحر جعلوه في كتاب. ثم ختموا بخاتم على نقش خاتم سليمان، وكتبوا في
__________
(1) في جـ: "بهذا".
(2) في جـ: "فيخصهم".
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(4) في جـ: "ويحشر"، وفي ط: "ففسد".
(5) في جـ، ط، أ، و: "تسمع".
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من ط.
(8) في جـ، ب، أ، و: "فدنت".
(9) في جـ: "أن العلم".
(10) في جـ، ط، ب، أ، و: "فاستثارته".
(11) في جـ: "فعلموا".
(12) زيادة من جـ، ط، ، أ، و.
(13) في جـ، ط: "بشار".
(14) في جـ، ب: "عليهما السلام".

عُنْوانه: "هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود، عليهما السلام (1) من ذخائر كنوز العلم". ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته (2) بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا. فلما عثروا عليه قالوا: والله ما كان سليمان بن داود إلا بهذا. فأفشوا السحر في الناس [وتعلموه وعلموه] (3) . وليس هو في أحد أكثر (4) منه في اليهود لعنهم الله. فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله، سليمان بن داود، وعده فيمن عَدَّه من المرسلين، قال من كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون من محمد! يزعم أن ابن داود كان نبيًا، والله ما كان إلا ساحرًا. وأنزل الله [في] (5) ذلك من قولهم: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } الآية.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا حسين، حدثنا الحجاج (6) عن أبي بكر، عن شَهْر بن حَوشب، قال: لما سلب سليمان، عليه السلام، ملكه، كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان. فكتبت: "من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس، وليقل كذا وكذا (7) ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا. فكتبته وجعلت عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان [بن داود] (8) من ذخائر كنوز العلم". ثم دفنته تحت كرسيه. فلما مات سليمان، عليه السلام، قام إبليس، لعنه الله، خطيبًا، [ثم] (9) قال: يا أيها الناس، إن سليمان لم يكن نَبيًّا، إنما كان ساحرًا، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته. ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه. فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحرًا! هذا (10) سحره، بهذا تَعَبدنا، وبهذا قهرنا. وقال المؤمنون: بل كان نبيًا مؤمنًا. فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم جعل يذكر الأنبياء حتى ذكر داود وسليمان. فقالت اليهود [لعنهم الله] (11) انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل. يذكر سليمان مع الأنبياء. إنما كان ساحرًا يركب الريح، فأنزل الله تعالى: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } الآية.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عمران بن حُدَير، عن أبي مِجْلَز، قال: أخذ سليمان، عليه السلام، من كل دابة عهدًا، فإذا أصيب رجل فسأل بذلك العهد، خلى عنه. فزاد الناس السجع والسحر، وقالوا: هذا يعمل به
__________
(1) في ط: "عليه السلام".
(2) في ط: "واستخرجه".
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(4) في جـ: "اكبر".
(5) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(6) في جـ، ط، ب، أ، و: "حجاج".
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "كذا وكذا".
(8) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(9) زيادة من جـ.
(10) في جـ: "وهذا".
(11) زيادة من جـ.

سليمان. فقال الله تعالى: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } (1) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رَوّاد، حدثنا آدم، حدثنا المسعودي، عن زياد مولى ابن مصعب، عن الحسن: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ } قال: ثلث الشعر، وثلث السحر، وثلث الكهانة.
وقال: حدثنا الحسن بن أحمد، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي، حدثني سُرور بن المغيرة، عن عباد بن منصور، عن الحسن: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } واتبعته اليهود على ملكه. وكان السحر قبل ذلك في الأرض لم يزل بها، ولكنه إنما اتبع على ملك سليمان.
فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام، ولا يخفى ملخص القصة والجمع بين أطرافها، وأنه لا تعارض بين السياقات على اللبيب الفَهِم، والله الهادي. وقوله تعالى: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي: واتبعت اليهود -الذين أوتوا الكتاب بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم ما تتلوه (2) الشياطين، أي: ما ترويه وتخبر به وتُحدثه الشياطين على ملك سليمان. وعداه بعلى؛ لأنه تضمن تتلو: تكذب. وقال ابن جرير: "على" (3) هاهنا بمعنى "في"، أي: تتلو في ملك سليمان. ونقله عن ابن جُرَيج، وابن إسحاق.
قلت: والتضمن أحسن وأولى، والله أعلم.
وقول الحسن البصري، رحمه الله: "قد كان السحر قبل زمان (4) سليمان بن داود" صحيح لا شك فيه؛ لأن السحرة كانوا في زمان (5) موسى، عليه السلام، وسليمان بن داود بعده، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الآية [البقرة: 246]، ثم ذكر القصة بعدها، وفيها: { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ } [البقرة: 251] . وقال قوم صالح -وهم قبل إبراهيم الخليل، عليه السلام، لنبيهم صالح: { إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } [الشعراء: 153] أي: [من] (6) المسحورين على المشهور.
وقوله تعالى: { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } اختلف الناس في هذا المقام، فذهب بعضهم إلى أن "ما" نافية، أعني التي في قوله: { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } قال القرطبي: "ما" نافية ومعطوفة على قوله: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } ثم قال: { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزلَ } أي: السحر { عَلَى الْمَلَكَيْنِ } وذلك أن اليهود -لعنهم الله-كانوا يزعمون أنه نزل
__________
(1) تفسير الطبري (2/ 414).
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "ما تتلوه".
(3) في جـ، ط،: "وعلي".
(4) في جـ، ط، ب، أ، و: "قبل زمن".
(5) في جـ: "زمن".
(6) زيادة من جـ، ط.

به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله في ذلك وجعل قوله: { هَارُوتَ وَمَارُوتَ } بدلا من: { الشياطين } قال: وصح ذلك، إما لأن الجمع قد يطلق على الاثنين كما في قوله: { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } [النساء: 11] أو يكون لهما أتباع، أو ذكرا من بينهم لتمردهما، فتقدير الكلام عنده: تعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت. ثم قال: وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه.
وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي، عن ابن عباس، في قوله: { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } يقول: لم ينزل الله السحر. وبإسناده، عن الربيع بن أنس، في قوله: { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } قال: ما أنزل الله عليهما السحر.
قال ابن جرير: فتأويل الآية على هذا: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان، ولا أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت. فيكون قوله: { بِبَابِلَ هَارُوتَ [وَمَارُوت (1) ] } من المؤخر الذي معناه المقدم. قال: فإن قال لنا قائل: وكيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } -"من السحر"- { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } وما أنزل الله "السحر" على الملكين، { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } ببابل وهاروت وماروت فيكون معنيا بالملكين: جبريل وميكائيل، عليهما السلام؛ لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك، وأخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر، وبرأ سليمان، عليه السلام، مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان، اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت، فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس، وردًا عليهم.
هذا لفظه بحروفه (2) .
وقد قال ابن أبي حاتم: حُدّثت عن عُبَيد الله بن موسى، أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن عطية { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } قال: ما أنزل الله على جبريل وميكائيل السحر.
حدثنا (3) الفضل بن شاذان، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا يعلى -يعني ابن أسد-حدثنا بكر (4) -يعني ابن مصعب-حدثنا الحسن بن أبي جعفر: أن عبد الرحمن بن أبزى كان يقرؤها: "وما أنزل على الملكين داود وسليمان".
وقال أبو العالية: لم ينزل عليهما السحر، يقول: علما الإيمان والكفر، فالسحر من الكفر، فهما ينهيان عنه أشد النهي. رواه ابن أبي حاتم.
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) تفسير الطبري (2/ 419، 420).
(3) في و: "وقال ابن أبي حاتم: حدثنا".
(4) في جـ، ط، ب: "بكير".

ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول، وأن "ما" بمعنى الذي، وأطال القول في ذلك، وادعى (1) أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض، وأذن لهما في تعليم السحر اختبارًا لعباده وامتحانًا، بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك؛ لأنهما امتثلا ما أمرا به.
وهذا الذي سلكه غريب جدًا! وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن [كما زعمه ابن حزم] (2) !
وروى ابن أبي حاتم بإسناده. عن الضحاك بن مزاحم: أنه كان يقرؤها: { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } ويقول: هما علجان من أهل بابل.
وَوَجَّه أصحابُ هذا القول الإنزال بمعنى الخَلْق، لا بمعنى الإيحاء، في قوله: { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } كما قال تعالى: { وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [الزمر: 6]، { وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } [الحديد: 25] ، { وَيُنزلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا } [غافر: 13] . وفي الحديث: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء". وكما يقال: أنزل الله الخير والشر.
[وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن البصري: أنهم قرؤوا: "وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ" بكسر اللام. قال ابن أبزى: وهما داود وسليمان. قال القرطبي: فعلى هذا تكون "ما" نافية أيضًا] (3) .
وذهب آخرون إلى الوقف على قوله: { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } [و "ما" نافية] (4) قال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا الليث، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، وسأله رجل عن قول الله تعالى: { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } قال الرجل: يعلمان الناس السحر، ما أنزل عليهما (5) أو يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما؟ فقال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت.
ثم روى عن يونس، عن أنس بن عياض، عن بعض أصحابه: أن القاسم قال في هذه القصة: لا أبالي أيّ ذلك كان، إني آمنت به.
وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أنزلا إلى الأرض، فكان من أمرهما ما كان. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده كما سنورده إن شاء الله تعالى. وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ثبت من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا، فيكون تخصيصًا لهما، فلا تعارض حينئذ، كما سبق في علمه من أمر إبليس
__________
(1) في جـ: "وادعى على".
(2) زيادة من جـ، ط.
(3) زيادة من جـ، ط.
(4) زيادة من جـ، ط، ب، و.
(5) في جـ : "إليهما".

ما سبق، وفي قول: إنه كان من الملائكة، لقوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى } [طه: 116] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك. مع أن شأن هاروت وماروت -على ما ذكر-أخف مما وقع من إبليس لعنه الله.
[وقد حكاه القرطبي عن على، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وكعب الأحبار، والسدي، والكلبي] (1) .
ذكر الحديث الوارد في ذلك -إن صح سنده ورفعه-وبيان الكلام عليه:
قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، في مسنده: حدثنا يحيى بن [أبي] (2) بكير، حدثنا زهير بن محمد، عن موسى بن جبير، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن آدم -عليه السلام-لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة: أي رب (3) { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 30] ، قالوا: ربنا، نحن أطوع لك من بني آدم. قال الله تعالى للملائكة: هَلُموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض، فننظر كيف يعملان؟ قالوا: برَبِّنا، هاروتَ وماروتَ. فأهبطا إلى الأرض ومثُلت لهما (4) الزُّهَرة امرأة من أحسن البشر، فجاءتهما، فسألاها نفسها. فقالت: لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك. فقالا والله (5) لا نشرك بالله شيئًا أبدًا. فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله، فسألاها نفسها. فقالت: لا والله حتى تقتلا هذا الصبي. فقالا لا والله لا نقتله أبدًا. ثم ذهبت فرجعت (6) بقَدَح خَمْر تحمله، فسألاها نفسها. فقالت: لا والله حتى تشربا هذا الخمر. فشربا فسكرا، فوقعا عليها، وقتلا الصبي. فلما أفاقا قالت المرأة: والله ما تركتما شيئًا أبيتماه عليّ إلا قد (7) فعلتماه حين سكرتما. فخيرَا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا".
وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه، عن الحسن عن سفيان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن بكير، به (8) .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين، إلا موسى بن جبير هذا، وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء، رَوَى عن ابن عباس وأبي أمامة بن سهل بن حنيف، ونافع، وعبد الله بن كعب بن مالك. وروى عنه ابنه عبد السلام، وبكر بن مضر، وزهير بن محمد، وسعيد بن سلمة، وعبد الله بن لَهِيعة، وعمرو بن الحارث، ويحيى بن أيوب. وروى له أبو داود، وابن ماجه، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل، ولم يحك فيه شيئًا
__________
(1) زيادة من جـ، ط.
(2) زيادة من ط.
(3) في جـ: "يا رب".
(4) في جـ: "لهم".
(5) في جـ، ط: "لا والله".
(6) في ج، ط، ب: "فذهبت ثم رجعت".
(7) في جـ: "وقد".
(8) المسند (2/ 134) وصحيح ابن حبان برقم (1717) "موارد" وقال أبو حاتم في العلل (2/ 69): "هذا حديث منكر".

من هذا ولا هذا، فهو مستور الحال (1) وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروي له متابع من وجه آخر عن نافع، كما قال ابن مَرْدُويه: حدثنا دَعْلَجُ بن أحمد، حدثنا هشام [بن علي بن هشام] (2) حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا سعيد بن سلمة، حدثنا موسى بن سَرْجِس، عن نافع، عن ابن عمر: سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول. فذكره بطوله.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين -وهو سنيد بن داود صاحب التفسير-حدثنا الفرج بن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن نافع، قال: سافرت مع ابن عمر، فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع، انظر، طلعت الحمراء؟ قلت: لا -مرتين أو ثلاثًا-ثم قلت: قد طلعت. قال: لا مرحبًا بها ولا أهلا؟ قلت: سبحان الله! نجم مسخر سامع مطيع. قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم -أو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم-: "إن الملائكة قالت: يا رب، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا (3) والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك. قال: فاختاروا ملكين منكم. قال: فلم يألوا جهدًا أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت" (4) .
وهذان -أيضاً-غريبان جدًّا. وأقرب ما في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر، عن كعب الأحبار، لا عن النبي (5) صلى الله عليه وسلم، كما قال عبد الرزاق في تفسيره، عن الثوري، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن كعب، قال (6) ذكرت الملائكة أعمال بني آدم، وما يأتون من الذنوب، فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت. فقال (7) لهما: إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول، انزلا لا تشركا بي شيئًا ولا تزنيا ولا تشربا الخمر. قال كعب: فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه.
ورواه ابن جرير من طريقين، عن عبد الرزاق، به (8) .
ورواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن عصام، عن مُؤَمَّل، عن سفيان الثوري، به (9) .
ورواه ابن جرير أيضًا: حدثني المثنى، حدثنا المعلى -وهو ابن أسد-حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن موسى بن عقبة، حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث، عن كعب الأحبار، فذكره (10) .
فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين، وسالم أثبت في أبيه من مولاه
__________
(1) الجرح والتعديل (8/ 139) وذكره ابن حبان في الثقات (7/451) وقال: "يخطئ ويخالف".
(2) زيادة من جـ، ط، و.
(3) في ط، ب: "الخطأ".
(4) تفسير الطبري (2/433).
(5) في جـ: "رسول الله".
(6) في ط: "وقال".
(7) في جـ، ط، ب، و: "فقيل".
(8) تفسير عبد الرزاق (1/ 73، 74). وتفسير الطبري (2/429).
(9) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 306).
(10) تفسير الطبري (2/ 430).

نافع. فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار، عن كتب بني إسرائيل، والله أعلم.
ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين:
قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا الحجاج (1) حدثنا حماد، عن خالد الحذاء، عن عمير بن سعيد، قال: سمعت عليًا، رضي الله عنه، يقول: كانت الزُّهَرة امرأة جميلة من أهل فارس، وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت، فراوداها (2) عن نفسها، فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكَلَّم [المتكلم] (3) به يُعْرج به إلى السماء. فعلماها فتكلمت به فعرجت إلى السماء. فمسخت كوكبًا!
وهذا الإسناد [جيد و] (4) رجاله ثقات، وهو غريب جداً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الفضل بن شاذان، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا أبو معاوية، عن [ابن أبي] (5) خالد، عن عمير بن سعيد، عن علي قال: هما ملكان من ملائكة السماء. يعني: { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } (6) .
ورواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره بسنده، عن مغيث، عن مولاه جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي -مرفوعًا. وهذا لا يثبت من هذا الوجه.
ثم رواه من طريقين آخرين، عن جابر، عن أبي الطفيل، عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الزّهَرة، فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت". وهذا أيضًا لا يصح (7) وهو منكر جدًا. والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثني المثنى بن إبراهيم، حدثنا الحجاج بن مِنْهال، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا جميعًا: لما كثر (8) بنو آدم وعصوا، دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال ربنا لا تهلكهم (9) فأوحى الله إلى الملائكة: إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، ولو نزلتم لفعلتم أيضًا. قال: فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض، وأنزلت الزُّهَرة إليهما في صورة (10) امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت. قال: فوقعا بالخطيَّة (11) . فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [غافر: 7]
__________
(1) في جـ: "المثنى بن الحجاج".
(2) في جـ: "فراودوها".
(3) زيادة من جـ، ط.
(4) زيادة من جـ.
(5) زيادة من ط، ب، و.
(6) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 303).
(7) ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (654) من طريق عيسى بن يونس عن أخيه إسرائيل عن جابر عن أبي الطفيل عن علي به.
(8) في جـ: "كثر سواد".
(9) في جـ، ط: "تمهلهم".
(10) في جـ: "في أحسن صورة".
(11) في جـ: "بالخطيئة".

فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم. فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختاروا (1) عذاب الدنيا (2) .
وقال: ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، أخبرنا عبيد الله -يعني ابن عمرو-عن زيد بن أبي أنيسة، عن المِنْهال بن عمرو ويونس بن خباب، عن مجاهد، قال: كنت نازلا على عبد الله بن عمر في سفر، فلما كان (3) ذات ليلة قال لغلامه: انظر، هل طلعت الحمراء، لا مرحبًا بها ولا أهلا ولا حياها الله هي صاحبة الملكين. قالت الملائكة: يا رب، كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض! قال: إني ابتليتهم، فعلَّ (4) إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون. قالوا: لا. قال: فاختاروا من خياركم اثنين. فاختاروا هاروت وماروت. فقال لهما: إني مهبطكما إلى الأرض، وعاهد إليكما ألا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا. فأهبطا إلى الأرض وألقي عليهما الشَّبَق، وأهبطت لهما الزُّهَرة في أحسن صورة امرأة، فتعرضت لهما، فراوداها (5) عن نفسها. فقالت: إني على دين لا يصح (6) لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله. قالا وما دينك؟ قالت: المجوسية. قالا الشرك! هذا شيء لا نقر به. فمكثت عنهما ما شاء الله. ثم تعرضت لهما فأراداها عن نفسها. فقالت: ما شئتما، غير أن لي زوجًا، وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح، فإن أقررتما لي بديني، وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت. فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان، ثم صعدا بها إلى السماء. فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما، وقطعت أجنحتهما (7) فوقعا خائفين نادمين يبكيان، وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين، فإذا كان يوم الجمعة أجيب. فقالا لو أتينا فلانًا فسألناه فطلب (8) لنا التوبة فأتياه، فقال: رحمكما الله (9) كيف يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء! قالا إنا قد ابتلينا. قال: ائتياني (10) يوم الجمعة. فأتياه، فقال: ما أجبت فيكما بشيء، ائتياني في الجمعة الثانية. فأتياه، فقال: اختارا، فقد خيرتما، إن أحببتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة، وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله. فقال أحدهما: إن الدنيا لم يمض منها إلا القليل. وقال الآخر: ويحك؟ إني قد أطعتك في الأمر الأول فأطعني الآن، إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى. وإننا يوم القيامة على حكم الله، فأخاف أن يعذبنا. قال: لا إني أرجو إن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة لا يجمعهما علينا. قال: فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا في بكرات من حديد في قَلِيب مملوءة من نار، عَاليهُمَا
__________
(1) في جـ، ط، ب: "فاختارا".
(2) تفسير الطبري (2/ 428)
(3) في جـ: "فلما كانت".
(4) في جـ: "بفعل".
(5) في جـ: "فأراداها".
(6) في جـ، ط، ب: "لا يصلح".
(7) في جـ: "أجنحتها".
(8) في جـ، ط، ب: "يطلب".
(9) في جـ: "ما رحمكم الله".
(10) في جـ: "فأتياني".

سافلَهما (1) .
وهذا إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر. وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية بن صالح، عن نافع، عنه رفعه. وهذا أثبت وأصح إسنادًا. ثم هو -والله أعلم-من رواية ابن عمر عن كعب، كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه. وقوله: إن الزُّهَرة نزلت في صورة امرأة حسناء، وكذا في المروي عن علي، فيه غرابة جدًا.
وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن روّاد، حدثنا آدم، حدثنا أبو جعفر، حدثنا الربيع بن أنس، عن قيس بن عباد، عن ابن عباس، رضي الله عنهما (2) قال: لما وقع الناس من بعد آدم، عليه السلام، فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله، قالت الملائكة في السماء: يا رب، هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك، قد وقعوا فيما وقعوا فيه وركبوا الكفر وقتل النفس وأكل المال الحرام، والزنا والسرقة وشرب الخمر. فجعلوا يدعون عليهم، ولا يعذرونهم، فقيل: إنهم في غَيْب. فلم يعذروهم. فقيل لهم: اختاروا منكم من أفضلكم ملكين، آمرهما وأنهاهما. فاختاروا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض، وجعل لهما شهوات بني آدم، وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئًا، ونهيا عن قتل النفس الحرام وأكل المال الحرام، وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر. فلبثا في الأرض زمانًا يحكمان بين الناس بالحق وذلك في زمان إدريس عليه السلام. وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزُّهَرة في سائر الكواكب، وأنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها، فسألاها (3) عن دينها، فأخرجت لهما صنمًا فقالت: هذا أعبده. فقالا لا حاجة لنا في عبادة هذا. فذهبا فغَبَرا ما شاء الله. ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها، ففعلت مثل ذلك. فذهبا، ثم أتيا عليها فراوداها (4) على نفسها، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم قالت لهما: اختارا إحدى الخلال الثلاث: إما أن تعبدا هذا الصنم، وإما أن تقتلا هذه النفس، وإما أن تشربا هذا الخمر. فقالا كل هذا لا ينبغي، وأهون هذا شرب الخمر. فشربا الخمر فأخذت فيهما فواقعا (5) المرأة، فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه (6) فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء، فلم يستطيعا، وحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه، فعجبوا كل العجب، وعَرَفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض، فنزل في ذلك: { وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ } [الشورى: 5] فقيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة فقالا أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 306، 307).
(2) في جـ، ط: "عنه".
(3) في جـ، ط، ب: "فسألا".
(4) في جـ، ط، ب: "فأراداها".
(5) في جـ: "فوقعا".
(6) في جـ: "فقتلاها".

ويذهب، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل، فهما يعذبان (1) .
وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولا عن أبي زكريا العنبري، عن محمد بن عبد السلام، عن إسحاق بن راهويه، عن حكام بن سلم (2) الرازي، وكان ثقة، عن أبي جعفر الرازي، به. ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. فهذا أقرب ما روي في شأن الزُّهَرة، والله أعلم (3) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا مسلم، حدثنا القاسم بن الفضل الحُدَّاني (4) حدثنا يزيد -يعني الفارسي-عن ابن عباس [قال] (5) أن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون المعاصي (6) فقالوا: يا رب أهل الأرض كانوا يعملون بالمعاصي! فقال الله: أنتم معي، وهم غُيَّب عني. فقيل لهم: اختاروا منكم ثلاثة، فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا إلى الأرض، على أن يحكموا بين أهل الأرض، وجعل فيهم شهوة الآدميين، فأمروا ألا يشربوا خمرًا ولا يقتلوا نفسا، ولا يزنوا، ولا يسجدوا لوثن. فاستقال منهم واحد، فأقيل. فأهبط اثنان إلى الأرض، فأتتهما امرأة من أحسن الناس (7) يقال لها: مناهية (8) . فَهَويَاها جميعًا، ثم أتيا منزلها فاجتمعا عندها، فأراداها فقالت لهما: لا حتى تشربا خمري، وتقتلا ابن جاري، وتسجدا لوثني. فقالا لا نسجد. ثم شربا من الخمر، ثم قتلا ثم سجدا. فأشرف أهل السماء عليهما. فقالت (9) لهما: أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما. فأخبراها فطارت فمسخت جمرة. وهي هذه الزهَرة. وأما هما فأرسل إليهما سليمان بن داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فاختارا عذاب الدنيا. فهما مناطان بين السماء والأرض (10) .
وهذا السياق فيه زيادات كثيرة وإغراب ونكارة، والله أعلم بالصواب.
وقال عبد الرزاق: قال مَعْمَر: قال قتادة والزهري، عن عبيد الله بن عبد الله: { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } كانا ملكين من الملائكة، فأهبطا ليحكما بين الناس. وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم، فحاكمت إليهما امرأة، فحافا لها. ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك، ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا. وقال مَعْمَر: قال قتادة: فكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما ألا يعلما أحدا حتى يقولا { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } (11) .
وقال أسباط عن السدي أنه قال: كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 305).
(2) في و: "بن سالم".
(3) وقد أبطل الإمام ابن حزم قصة هاروت وماروت ورد على من ادعى شربهما الخمر وارتكابهما الزنا والقتل في كتابه الفصل (3 / 303-308، 4/ 61-65).
(4) في جـ: "الحراني".
(5) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(6) في جـ، ط، أ، و: "بالمعاصي".
(7) في جـ: "النساء".
(8) في أ: "أناهيد".
(9) في جـ، ط، ب،: "وقالت.
(10) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 308).
(11) تفسير عبد الرزاق (1/ 73).

أحكامهم، فقيل لهما: إني أعطيت بني آدم عشرًا من الشهوات، فبها (1) يعصونني. قال هاروت وماروت: ربنا، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل. فقال لهما: انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر، فاحكما بين الناس. فنزلا ببابل دَنْباوَند، فكانا يحكمان، حتى إذا أمسيا عرجا، فإذا أصبحا هبطا، فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها، فأعجبهما (2) حسنها -واسمها بالعربية "الزّهَرة"، وبالنبطية "بيذخت" وبالفارسية "أناهيد"-فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبني. قال الآخر: قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك. فقال الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال: نعم ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر: إنا لنرجو رحمة الله. فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها، فقالت: لا حتى تقضيا لي على زوجي. فقضيا لها على زوجها، ثم واعدتهما خَربة من الخَرِب يأتيانها فيها، فأتياها لذلك. فلما أراد الذي يواقعها قالت: ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء، وبأي كلام تنزلان منها؟ فأخبراها، فتكلمت فصعدت، فأنساها الله ما تنزل به، فبقيت (3) مكانها، وجعلها (4) الله كوكبًا. فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها، فقال: هذه التي فتنت هاروت وماروت، فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يطيقا، فعرفا الهلكة فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فاختارا عذاب الدنيا، فعلقا ببابل، وجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو السحر.
وقال ابن أبي نَجِيح (5) عن مجاهد: أما شأن هاروت وماروت، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم، وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات، فقال لهم ربهم تعالى: اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بنى آدم فاختاروا فلم يألوا [إلا] (6) هاروت وماروت، فقال لهما حين أنزلهما: أعجبتما (7) من بني آدم من ظلمهم ومن معصيتهم، وإنما تأتيهم الرسل والكتب [والبينات] (8) من وَرَاء وَرَاء، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول، فافعلا كذا وكذا، ودعا كذا وكذا، فأمرهما بأمر ونهاهما، ثم نزلا على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما، فحكما فعدلا. فكانا يحكمان في النهار بين بني آدم، فإذا أمسيا عرجا فكانا مع الملائكة، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان، حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تُخَاصم، فقضيا عليها. فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه، فقال أحدهما لصاحبه: وجدتَ مثل الذي وجدتُ؟ قال: نعم. فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك. فلما رجعت قالا وقضيا لها، فأتتهما فتكشفا لها عن عورتيهما، وإنما كانت شهوتهما (9) في أنفسهما، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها. فلما بلغا ذلك واستحلا افتُتنا، فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت. فلما أمسيا عَرَجا فزُجرا فلم يؤذن لهما، ولم تحملهما أجنحتهما. فاستغاثا برجل من بني آدم
__________
(1) في ط، ب: "فما".
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "فأعجبهما من ".
(3) في ب، أ، و: "فثبتت".
(4) في أ: "وخلقها".
(5) في ط: "جريج".
(6) زيادة من جـ.
(7) في جـ، ط، ب: "أعجبتم".
(8) زيادة من جـ.
(9) في أ، و: "سوآتهما".

فأتياه، فقالا ادع لنا ربك. فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء. فوعدهما يومًا، وغدا يدعو لهما، فدعا لهما، فاستجيب له، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فنظر أحدهما إلى صاحبه، فقال: ألا تعلم أن أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد، وفي الدنيا تسع مرات مثلها؟ فأمرا أن ينزلا ببابل، فثَمَّ عذابهما. وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان، يصفقان بأجنحتهما.
وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين، كمجاهد والسدي والحسن [البصري] (1) وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال.
وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك أحببنا أن ننبه عليه، قال: الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله: حدثنا الربيع بن سليمان، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي الزناد، حدثني هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم [رضي الله عنها وعن أبيها] (2) أنها قالت: قدمت امرأة عليَّ من أهل دومة الجندل، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حَدَاثة ذلك، تسأله عن شيء (3) دخلت فيه من أمر السحر، ولم تعمل به. قالت عائشة، رضي الله عنها، لعُرْوَة: يا ابن أختي، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها كانت تبكي حتى إني لأرحمها، وتقول: إني أخاف أن أكون قد هلكت. كان لي زوج فغاب عني، فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك. فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين، فركبتُ أحدهما (4) وركبت الآخر، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل، وإذا برجلين معلقين بأرجلهما. فقالا ما جاء بك؟ فقلتُ: أتعلم (5) السحر. فقالا إنما نحن فتنة فلا تكفري، فارجعي. فأبيت وقلت: لا. قالا فاذهبي (6) إلى ذلك التنور، فبولي فيه. فذهبت ففزعتُ ولم أفعل، فرجعت إليهما، فقالا أفعلت؟ فقلت: نعم. فقالا هل رأيت شيئًا؟ فقلت: لم أر شيئًا. فقالا لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري [فإنك على رأس أمري] (7) . فأرْبَبْت وأبيت (8) . فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت فاقشعررت [وخفت] (9) ثم رجعت إليهما فقلت: قد فعلت. فقالا فما رأيت؟ فقلت: لم
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) زيادة من جـ.
(3) في أ، و: "عن أشياء".
(4) في جـ: "فركبت إحداهما".
(5) في جـ، ب، أ، و: "فقلنا نتعلم".
(6) في أ: "فقالا فاذهبا".
(7) زيادة من جـ.
(8) في جـ: "فأبت وأبيت".
(9) زيادة من جـ، ب، أ، و.

أر شيئًا. فقالا كذبت، لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري (1) ؛ فإنك على رأس أمرك. فأرببتُ وأبيتُ. فقالا اذهبي إلى ذلك التنور، فبولي فيه. فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارسًا مقنعًا (2) بحديد خَرَج مني، فذهب في السماء وغاب [عني] (3) حتى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت. فقالا فما رأيت؟ قلت: رأيت فارسًا مقنعًا خرج مني فذهب في السماء، حتى ما أراه. فقالا صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي. فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئًا وما قالا لي شيئًا. فقالت: بلى، لم تريدي شيئًا إلا كان، خذي هذا القمح فابذري، فبذرت، وقلت: أطلعي (4) فأطلعت (5) وقلت: أحقلي فأحقلت (6) ثم قلت: أفْركي فأفرَكَتْ. ثم قلت: أيبسي فأيبست (7) . ثم قلت: أطحني فأطحنت (8) . ثم قلت: أخبزي فأخبزت (9) . فلما رأيتُ أني لا أريد شيئًا إلا كان، سقط في يدي وندمت -والله-يا أم المؤمنين والله ما فعلت شيئًا قط ولا أفعله أبدًا (10) .
ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان، به مطولا كما تقدم (11) . وزاد بعد قولها: ولا أفعله أبدًا: فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يومئذ متوافرون، فما دَرَوا ما يقولون لها، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه، إلا أنه قد قال لها ابن عباس -أو بعض من كان عنده-: لو كان أبواك حيين أو أحدهما [لكان يكفيانك] (12) .
قال هشام: فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان [قال] (13) : قال ابن أبي الزناد: وكان هشام يقول: إنهم كانوا أهل الورع والخشية (14) من الله. ثم يقول هشام: لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم.
فهذا إسناد جيد إلى عائشة، رضي الله عنها.
وقد استدل بهذا الأثر من ذهب إلى أن (15) الساحر له تمكن في قلب الأعيان؛ لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال.
وقال آخرون: بل ليس له قدرة إلا على التخييل، كما قال [الله] (16) تعالى: { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [الأعراف: 116] وقال تعالى: { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [طه: 66]
__________
(1) في جـ: "ولم تكفري".
(2) في جـ: "معلقا".
(3) زيادة من أ.
(4) في جـ، ط: "اطلع فطلع".
(5) في جـ: "احقل فأحقل"، وفي أ، و: "فطلعت".
(6) في ط: "احقلى فأجعلت".
(7) في جـ: "أيبس فيبس".
(8) في جـ: "اطحن فطحن".
(9) في جـ: "اختبز فاختبز".
(10) تفسير الطبري (2/ 439-441).
(11) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 312) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (8/ 137) من طريق الربيع بن سليمان به مطولا، وهذه الزيادة لم ترد في المطبوع من تفسير ابن أبي حاتم، وقد نبه إلى ذلك المحقق الفاضل، جزاه الله خيرًا.
(12) زيادة من أ.
(13) زيادة من أ.
(14) في جـ: "وأهل خشية".
(15) في أ: "من ذهب بأن".
(16) زيادة من أ.

واستدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق، لا بابل دُنْباوَنْد (1) كما قاله السدي وغيره. ثم الدليل على أنها بابل العراق ما قال (2) ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أحمد بن صالح، حدثني ابن وهب، حدثني ابن لَهِيعة ويحيى بن أزهر، عن عمار بن سعد المرادي، عن أبي صالح الغفاري أن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه [مر ببابل وهو يسير، فجاء المؤذن يُؤْذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة، فلما فرغ] قال: إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي [بأرض المقبرة، ونهاني أن أصلي] ببابل فإنها ملعونة (3) .
وقال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا ابن وهب، حدثني ابن لَهِيعة ويحيى بن أزهر، عن عمار بن سعد المرادي، عن أبي صالح الغفاري: أن عليا مر ببابل، وهو يسير، فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال: إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي بأرض بابل، فإنها ملعونة.
حدثنا أحمد بن صالح: حدثنا ابن وهب، أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة، عن الحجاج بن شداد، عن أبي صالح الغفاري، عن علي، بمعنى حديث سليمان بن داود، قال: فلما "خرج" مكان "برز" (4) .
وهذا الحديث حسن عند الإمام أبي داود، لأنه رواه وسكت عنه (5) ؛ ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل، كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى منازلهم، إلا أن يكونوا باكين.
قال أصحاب الهيئة: وبُعْدُ ما بين بابل، وهي من إقليم العراق، عن البحر المحيط الغربي، ويقال له: أوْقيانُوس (6) سبعون درجة، ويسمون هذا طولا وأما عرضها وهو بعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب، وهو المسامت لخط الاستواء، اثنان (7) وثلاثون درجة، والله أعلم.
وقوله تعالى: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن قيس (8) بن عباد، عن ابن عباس، قال: فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي، وقالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر، وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر (9) . [قال] (10) فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا، فإذا أتاه عاين الشيطان فَعلمه، فإذا تعلم خرج منه النور، فنظر (11) إليه ساطعًا في السماء، فيقول: يا حسرتاه!
__________
(1) في ط، ب، أ، و: "ديناوند".
(2) في أ: "ما قاله".
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 304)، وما بين المعقوفين ليس في تفسير ابن أبي حاتم.
(4) سنن أبي داود برقم (490، 491).
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "وسكت عليه".
(6) في ب: "أوليانوس".
(7) في ب، أ، و: "ثنتان".
(8) في أ: "عن بشر".
(9) في ب: "أن الكفر من السحر".
(10) زيادة من جـ، أ، و.
(11) في أ: "فينظر".

يا ويله! ماذا أصنع (1) ؟.
وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: نعم، أنزل الملكان بالسحر، ليعلما (2) الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحدًا حتى يقولا { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } رواه ابن أبي حاتم، وقال قتادة: كان أخذ عليهما ألا يعلما أحدًا حتى يقولا { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } -أي: بلاء ابتلينا به-{ فَلا تَكْفُرْ }
وقال [قتادة و] (3) السدي: إذا أتاهما إنسان يريد السحر، وعظاه، وقالا له: لا تكفر، إنما نحن فتنة. فإذا أبى قالا له: ائت هذا الرماد، فبُلْ عليه. فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء، وذلك الإيمان. وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكلِّ شيء [منه] (4) . وذلك غضب الله. فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر، فذلك قول الله تعالى: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } الآية.
وقال سُنَيد، عن حجاج، عن ابن جريج في هذه الآية: لا يجترئ على السحر إلا كافر.
وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار، ومنه قول الشاعر:
وقد فُتن النَّاسُ في دينهم ... وخَلَّى ابنُ عفان شرًا طويلا (5)
وكذلك (6) قولُه تعالى إخبارًا عن موسى، عليه السلام، حيث قال: { إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ } أي: ابتلاؤك واختبارك وامتحانك { تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ } [الأعراف: 155] (7) .
وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر، ويُستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، عن عبد الله، قال: من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا إسناد جيد (8) وله شواهد أخر.
وقوله تعالى: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } أي: فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر ما يتصرفون به فيما يتصرفون فيه من الأفاعيل المذمومة، ما إنهم ليفَرِّقُون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف. وهذا من صنيع الشياطين، كما رواه مسلم في صحيحه، من حديث الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع، عن جابر بن عبد الله، رضي الله
__________
(1) في أ، و: "ماذا صنع".
(2) في أ، و: "ليعلموا" وهو خطأ.
(3) زيادة من و.
(4) زيادة من أ، و.
(5) البيت في تفسير الطبري (2/ 444) وانظر هناك الاختلاف في قائله.
(6) في ط، ب، أ، و: "وكذا".
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "وتهدي من تشاء الآية".
(8) في جـ، ط، ب، أ، و: "إسناد صحيح".

عنه (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الشيطان ليضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة، يجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا. فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئًا. ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله (2) قال: فيقربه ويدنيه ويلتزمه، ويقول: نِعْم أنت (3) .
وسبب التفرق بين الزوجين بالسحر: ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر، أو خلق أو نحو ذلك أو عَقد أو بَغْضه، أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة.
والمرء عبارة عن الرجل، وتأنيثه امرأة، ويثنى كل منهما ولا يجمعان، والله أعلم.
وقوله تعالى: { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } قال سفيان الثوري: إلا بقضاء الله. وقال محمد بن إسحاق إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد. وقال الحسن البصري: { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } قال: نَعَم، من شاء الله سلطهم عليه، ومن لم يشأ الله لم يسلط، ولا يستطيعون ضر أحد إلا بإذن الله، كما قال الله تعالى، وفي رواية عن الحسن أنه قال: لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه.
وقوله تعالى: { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ } أي: يضرهم في دينهم، وليس له نفع يوازي ضرره.
{ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } أي: ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول (4) صلى الله عليه وسلم لمن فعل فعلهم ذلك، أنه ما له في الآخرة من خلاق.
قال ابن عباس ومجاهد والسدي: من نصيب. وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: ما له في الآخرة من جهة عند الله (5) وقال: وقال الحسن: ليس له دين.
وقال سعد (6) عن قتادة: { مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } قال: ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة.
وقوله تعالى: { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ* وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } يقول تعالى: { ولبئس } البديل ما استبدلوا به من السحر عوضًا عن الإيمان، ومتابعة الرسل (7) لو كان لهم علم بما وعظوا به { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ } أي: ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم، لكان مثوبة الله على ذلك خيرا لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به، كما قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ } [القصص: 80] .
__________
(1) في ب: "عنهما".
(2) في جـ: "وبين زوجه".
(3) صحيح مسلم برقم (2813).
(4) في أ: "متابعة الرسل".
(5) في أ: "ما له في الآخرة من خلاق".
(6) في ط، ب، و: "سعيد".
(7) في أ: "الرسول".

وقد استدل بقوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا } من ذهب إلى تكفير الساحر، كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف. وقيل: بل لا يكفر، ولكن حَده ضَرْبُ عنقه، لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل، رحمهما الله: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، أنه سمع بجالة بن عَبَدَةَ يقول: كتب [أمير المؤمنين] (1) عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر (2) . وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضًا (3) . وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها، فأمرت بها فقتلت (4) . قال أحمد بن حنبل: صح من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم [أذنوا] (5) في قتل الساحر.
وروى الترمذي من حديث إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن جندب الأزدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حد الساحر ضَرْبُه بالسيف" (6) .
ثم قال: لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه. وإسماعيل بن مسلم يُضعَّف في الحديث، والصحيح: عن الحسن عن جُنْدُب موقوفًا.
قلت: قد رواه الطبراني من وجه آخر، عن الحسن، عن جندب، مرفوعًا (7) . والله أعلم.
وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس: سبحان الله! يحيي الموتى! ورآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان الغد جاء مشتملا على سيفه، وذهب يلعب لعبه ذلك، فاخترط الرجل سيفه فضرب (8) عنق الساحر، وقال: إن كان صادقا (9) فليحي نفسه. وتلا قوله تعالى: { أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ } [الأنبياء: 3] فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثم أطلقه، (10) والله أعلم.
وقال (11) أبو بكر الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثني أبو إسحاق، عن حارثة قال: كان عند بعض الأمراء رجل يلعب فجاء جندب مشتملا
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) رواه عبد الله بن أحمد في مسائل أبيه، ط. المكتب الإسلامي برقم (1542) عن أبيه عن سفيان به.
(3) صحيح البخاري برقم (3156).
(4) رواه عبد الله بن أحمد في مسائل أبيه، ط. المكتب الإسلامي برقم (1543) عن أبيه عن يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: أن حفصة سحرتها جاريتها، فذكره.
(5) زيادة من جـ.
(6) سنن الترمذي برقم (1460).
(7) المعجم الكبير (2/ 161) من طريق محمد بن الحسن بن سيار، عن خالد العبد عن الحسن عن سمرة به.
(8) في جـ: "وضرب".
(9) في أ، و: "إن كان ساحرًا".
(10) الرجل الذي قتله هو جندب بن كعب، انظر القصة في: أسد الغابة لابن الأثير في ترجمة جندب بن كعب (1 /361) وفي الإصابة للحافظ ابن حجر (1/ 251).
(11) في و: "وقال الإمام".

على سيفه فقتله، فقال: أراه كان ساحرًا، وحمل الشافعي، رحمه الله، قصة عمر، وحفصة (1) على سِحْر يكون شركا. والله أعلم. فصل
حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر، قال: وربما كفروا من اعتقد وجوده. قال: وأما أهل السنة فقد جَوَّزُوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء، ويقلب الإنسان حمارًا، والحمار إنسانًا، إلا أنهم قالوا: إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى و [تلك] (2) الكلمات المُعَيَّنة، فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فلا خلافًا للفلاسفة والمنجمين الصابئة، ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق الله تعالى، بقوله تعالى: { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } ومن الأخبار بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحِر، وأن السحر عَمِل فيه، وبقصة تلك المرأة مع عائشة، رضي الله عنها، وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلمها السحر، قال: وبما يذكر (3) في هذا الباب من الحكايات الكثيرة، ثم قال بعد هذا:
المسألة الخامسة في أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور: اتفق المحققون على ذلك؛ لأن (4) العلم لذاته شريف وأيضًا لعموم قوله تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9] ؛ ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة، والعلم بكون المعجز مُعْجِزًا واجب، وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب؛ فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبًا، وما يكون واجبًا فكيف يكون حرامًا وقبيحًا؟!
هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة، وهذا الكلام فيه نظر من وجوه، أحدها: قولُهُ: "العلم بالسحر ليس بقبيح". إن عنى به ليس بقبيح عقلا فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا (5) وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعًا، ففي هذه الآية الكريمة تبشيع (6) لتعلم السحر، وفي الصحيح: "من أتى عرافًا أو كاهنًا، فقد كفر بما أنزل على محمد" (7) . وفي السنن: "من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر" (8) . وقوله: ولا محظور اتفق المحققون على ذلك". كيف لا يكون محظورًا مع ما ذكرناه من الآية والحديث؟! واتفاق المحققين (9) يقتضي أن يكون قد نص على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم، وأين نصوصهم على ذلك؟ ثم إدخاله [علم] (10) السحر في عموم قوله: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } فيه نظر؛ لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين بالعلم الشرعي، ولم
__________
(1) في جـ: "في قصة حفصة وعمر".
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ: "وما يذكر".
(4) في جـ، ط: "فإن".
(5) في جـ: "ذلك".
(6) في أ: "متسع".
(7) صحيح مسلم برقم (2230) من حديث بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيه: "كاهنًا" والعراف من جملة أنواع الكهان.
(8) رواه النسائي في السنن (7/ 112) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(9) في أ: "المحدثين".
(10) زيادة من جـ، ب، أ، و. وفي ط "تعلم".

قلتَ إن هذا منه؟ ثم تَرَقيه (1) إلى وجوب تعلمه بأنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به، ضعيف بل فاسد؛ لأن معظم (2) معجزات رسولنا، عليه الصلاة والسلام (3) هي القرآن العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. ثم إن العلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلا ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم، كانوا يعلمون المعجز، ويفرّقُون بينه وبين غيره، ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه، والله أعلم.
ثم قد ذكر أبو عبد الله الرازي أن أنواع السحر ثمانية:
الأول: سحر الكلُدْانيين والكُشْدانيين، الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة، وهي السيارة، وكانوا يعتقدون أنها مُدَبّرة العالم (4) وأنها تأتي بالخير والشر، وهم الذين بَعث (5) إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم مبطلا لمقالتهم ورادا لمذهبهم (6) وقد استقصى في "كتاب السر المكتوم، في مخاطبة الشمس والنجوم" المنسوب إليه فيما (7) ذكره القاضي ابن خلكان وغيره (8) ويقال: إنه تاب منه. وقيل (9) إنه (10) صنفه على وجه إظهار الفضيلة لا على سبيل الاعتقاد. وهذا هو المظنون به، إلا أنه ذكر فيه طرائقهم في مخاطبة كل من هذه الكواكب السبعة، وكيفية ما يفعلون وما يلبسونه، وما يتنسكون به.
قال: والنوع الثاني: سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، ثم استدلّ على أن الوهم له تأثير، بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض، ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدودًا على نهر أو نحوه. قال: وكما أجمعت الأطباء على نهي المَرْعُوف (11) عن النظر إلى الأشياء الحُمْر، والمصروع إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران، وما ذاك إلا لأن النفوس خلقت مُطِيعة (12) للأوهام.
قال: وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق.
وله أن يستدل على ذلك بما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "العين حَقّ، ولو كان شيء سَابِقَ القدر لسبقته العين" (13) .
قال: فإذا عرفت هذا، فنقول: النفس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جدًا، فتستغني في هذه الأفاعيل (14) عن الاستعانة بالآلات والأدوات، وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه
__________
(1) في أ: "فرقته".
(2) في جـ، ب، أ، و: "لأن أعظم".
(3) في جـ: "صلى الله عليه وسلم".
(4) في جـ: "مدبرة للعالم".
(5) في جـ، ب، أ: "بعث الله".
(6) في جـ، ط، ب، أ، و: "لمذاهبهم".
(7) في ب: "كما".
(8) وفيات الأعيان (3/ 381).
(9) في جـ، ط: "ويقال".
(10) في جـ، ط، ب: "بل".
(11) في جـ: "المرفوع"، وفي ط: "الموضوع".
(12) في جـ، ط، ب، و: "منطبعة"، وفي أ: "منطبقة".
(13) صحيح مسلم برقم (2188) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
(14) في جـ، ط، ب، أ، و: "هذه الأفعال".

الآلات. وتحقيقه أن النفس إذا كانت مستعلية (1) على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السماوات، صارت كأنها رُوح من الأرواح السماوية، فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم. وإذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه الذات (2) البدنية، فحينئذ لا يكون لها تصرف البتة إلا في هذا البدن. ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء، والانقطاع عن الناس والرياء (3) .
قلت: وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال، وهو على قسمين: تارة تكون حالا صحيحة شرعية يتصرف بها فيما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويترك ما نهى الله عنه ورسوله، وهذه الأحوال مواهب من الله تعالى وكرامات للصالحين من هذه الأمة، ولا يسمى هذا سحرًا في الشرع. وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا يتصرف بها في ذلك. فهذه (4) حال الأشقياء المخالفين للشريعة، ولا يدل إعطاء الله (5) إيَّاهم هذه الأحوال على محبته لهم، كما أن الدجَّال -لعنه الله-له من الخوارق العادات (6) ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة، مع أنه مذموم شرعًا لعنه الله. وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وبسط هذا يطول جدًا، وليس هذا موضعه.
قال: النوع الثالث من السحر: الاستعانة بالأرواح الأرضية، وهم الجن، خلافًا للفلاسفة والمعتزلة: وهم على قسمين: مؤمنون، وكفار، وهم الشياطينُ. قال: واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية، لما بينهما من المناسبة (7) والقرب، ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقى والدخل (8) والتجريد. وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير (9) .
النوع الرابع من السحر: التخيلات، والأخذ بالعيون والشعبذة، ومبناه [على] (10) أن البصر قد يخطئ ويشتغل بالشيء المعين دون غيره، ألا ترى أن المشعبذ الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به، ويأخذ عيونهم إليه، حتى إذا استفرغهم (11) الشغل بذلك الشيء بالتحديق ونحوه، عمل شيئًا آخر عَمَلا بسرعة شديدة، وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه. فيتعجَّبون منه جدًا، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما (12) يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه، لفطن الناظرون لكل ما يفعله.
قال: وكلما كانت الأحوال تفيد حسن البصر نوعًا من أنواع الخلل (13) أشد، كان العمل
__________
(1) في جـ، ط، ب، و: "مشتغلة"، وفي أ: "مستقبلة".
(2) في جـ، ط، ب، أ، و: "اللذات".
(3) في جـ، ط، ب، و: "والرياضة".
(4) في جـ: "فهذا".
(5) في جـ: "أعطاهم الله"، وفي أ: "على عطاء الله".
(6) في جـ: "والعادات".
(7) في جـ: "من المناسب".
(8) في جـ، ط، ب، أ، و: "والدخن".
(9) في ط، ب، أ، و: "وعمل تسخير".
(10) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(11) في جـ: "إذا استقر".
(12) في ط: "مما".
(13) في جـ: "الخلال".

أحسنَ، مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جدًا، أو مظلم، فلا تقف القوة الناظرة (1) على أحوالها بكلالها (2) والحالة هذه.
قلت: وقد قال بعض المفسرين: إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب الشعبذة، ولهذا قال تعالى: { فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [الأعراف: 116] وقال تعالى: { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [طه: 66] قالوا: ولم تكن تسعى في نفس الأمر. والله أعلم.
النوع الخامس من السحر: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة من النسب الهندسية، كفارس على فرس في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار ضرب (3) بالبوق، من غير أن يمسه أحد. ومنها الصور التي تُصَوِّرها الرومُ والهند، حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، حتى يصورونها ضاحكة وباكية.
إلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف أمور المخاييل. قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل.
قلت: يعني ما قاله بعض المفسرين: أنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي، فحشوها زئبقًا فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق، فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها.
قال الرازي: ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات، ويندرج في هذا الباب علم جَرِّ الأثقال بالآلات الخفيفة.
قال: وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر؛ لأن لها أسبابًا (4) معلومة يقينية (5) من اطلع عليها قدر عليها.
قلت: ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم، بما يُرُونَهم إياه من الأنوار، كقضية قُمَامة الكنيسة التي لهم ببلد (6) المقدس، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على العوام (7) [منهم] (8) وأما الخواص فهم يعترفون بذلك، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم، فيرون ذلك سائغًا لهم. وفيه شبه (9) للجهلة الأغبياء من متعبدي (10) الكَرّامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب، فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم (11) : "من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من
__________
(1) في جـ، ط، ب: "الباصرة".
(2) في جـ، ط، ب: "لكلالها" وفي أ: "بكمالها".
(3) في جـ، ط: "ضرب مرة".
(4) في أ: "أنسابًا".
(5) في ط، أ: "متيقنة".
(6) في جـ: "ببيت" وفي و: "بالبلد".
(7) في جـ، ط، ب: "الطعام".
(8) زيادة من جـ، ط، ب.
(9) في جـ: "وفيه شبهة"، في أ: "وفيهم شبه".
(10) في أ: "متعدي".
(11) في جـ: "من قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم".

النار (1) ". وقوله: "حدثوا عني ولا تكذبوا عَلَيّ فإنه من يكذب عليّ يلج النار" (2) .
ثم ذكر ههنا حكاية عن بعض الرهبان، وهو أنه سمع صوت طائر حزين (3) الصوت ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطيور تَرِقّ له فتذهب فتلقي في وَكْره من ثمر الزيتون، ليتبلغ (4) به، فعَمَد هذا الراهبُ إلى صنعة طائر على شكله، وتوصل إلى أن جعله أجوف، فإذا دخلته الريح يسمع له (5) صوت كصوت ذلك الطائر، وانقطع في صومعة ابتناها، وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم، وعلق ذلك الطائر في مكان منها، فإذا كان زمان الزيتون فتح بابًا من ناحيه، فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة، فَيُسْمَعُ صوتها كذلك الطائر في شكله أيضًا، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئًا كثيرًا فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة، ولا يدرون ما سببه؟ ففتنهم بذلك، وأوهم (6) أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر، عليهم لعائن الله المتتابعة (7) إلى يوم القيامة.
قال الرازي: النوع السادس من السحر: الاستعانة بخواص الأدوية يعني في الأطعمة والدهانات (8) . قال: واعلم أن لا سبيل إلى إنكار الخواص، فإن أثر المغناطيس مشاهد.
قلت: يدخل في هذا القبيل كثير ممن يَدّعي الفقر ويتخيل على جهلة الناس بهذه الخواص، مدعيًا أنها أحوال له (9) من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحالات.
قال: النوع السابع من السحر: تعليق (10) القلب، وهو أن يدعي الساحرُ أنه عرف الاسم الأعظم، وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور، فإذا اتفق أن يكون ذلك السامع لذلك ضعيف العقل (11) قليل التمييز اعتقد أنه حق، وتعلق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوع من الرهب والمخافة، فإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة (12) فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء.
قلت: هذا النمط يقال له التنبلة، وإنما يروج على الضعفاء العقول من بني آدم. وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه، فإذا كان المُتَنْبِلُ حاذقًا في علم الفراسة عرف من ينقاد له مِنَ الناس مِنْ غيره.
قال: النوع الثامن من السحر: السعي بالنميمة والتضريب (13) من وجوه خفيفة لطيفة، وذلك شائع في الناس.
__________
(1) هذا الحديث رواه جمع من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم عدهم الإمام الطبراني في جزء له فأوصلهم فوق الستين، وانظره في: صحيح البخاري برقم (107) من حديث الزبير رضي الله عنه، وفي مقدمة صحيح مسلم برقم (2-4) من حديث أنس وأبي هريرة والمغيرة رضي الله عنهم".
(2) رواه مسلم في مقدمة صحيحه برقم (1) من حديث علي رضي الله عنه.
(3) في أ، و ك: "حنين".
(4) في جـ، أ: "ليبتلع".
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "يسمع منه".
(6) في جـ: "وأوهمهم".
(7) في جـ، ط، ب: "التابعة"، وفي أ: "البالغة".
(8) في جـ: "في الأطعمة والدهان".
(9) في جـ: "أنها أحواله".
(10) في جـ: "تعلق".
(11) في ب، أ، و: "القلب".
(12) في جـ: "القوى الحسية".
(13) في ب: "التضرب".

قلت: النميمة على قسمين، تارة تكون على وجه التحريش [بين الناس] (1) وتفريق قلوب المؤمنين، فهذا حرام متفق عليه. فأما إذا (2) كانت على وجه الإصلاح [بين الناس] (3) وائتلاف كلمة المسلمين، كما جاء في الحديث: "ليس بالكذاب من يَنمّ خيرًا" أو يكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة" فهذا أمر مطلوب، كما جاء في الحديث: "الحرب خدعة". وكما فعل نعيم بن مسعود (4) في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبين (5) قريظة، وجاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلامًا، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئًا آخر، ثم لأم بين ذلك، فتناكرت النفوس وافترقت. وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء والبصيرة النافذة. والله المستعان.
ثم قال الرازي: فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه.
قلت: وإنما أدخل كثيرًا من هذه الأنواع المذكورة في فَنّ السحر، للطافة مداركها؛ لأن السحر في اللغة: عبارة عما لطُف وخفي سببه. ولهذا جاء في الحديث: "إن من البيان لسحرًا (6) . وسمي السحور لكونه يقع خفيًا آخر الليل (7) والسَّحْر: الرئة، وهي محل الغذاء، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه، كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة: انتفخ سحرك (8) أي: انتفخت رئته من الخوف. وقالت عائشة، رضي الله عنها: توفي رسول صلى الله عليه وسلم بين سَحْري ونَحْري. وقال: { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ } أي: أخفوا عنهم عملهم، والله أعلم (9) .
[فصل] (10) وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن هَبيرة بن محمد بن هبيرة في كتابه: "الإشراف على مذاهب الأشراف" بابًا في السحر، فقال: أجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة، فإنه قال: لا حقيقة له عنده. واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يكفر بذلك. ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر، ومن تعلمه معتقدًا جوازه أو أنه ينفعه كَفَر. وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر. وقال الشافعي، رحمه الله: إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك. فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها، فهو كافر. وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر.
قال ابن هبيرة: وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله؟ فقال مالك وأحمد: نعم. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا. فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه يُقْتل عند مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و:"فأما إن".
(2) في جـ، ط، ب، أ، و.
(3) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(4) في جـ: "ابن الأسود".
(5) في جـ، ط، ب، أ، و: "وبني".
(6) في جـ، ط، ب، أ، و: "سحرًا".
(7) في جـ: "الليلة".
(8) في جـ، ب، أ، و: "سحره".
(9) في جـ: "والله تبارك وتعالى أعلم".
(10) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.

يقتل حتى يتكرر منه ذلك (1) أو يقر بذلك في حَقّ شخص (2) معين. وإذا قُتل فإنه يُقْتَل حدًا عندهم إلا الشافعي، فإنه قال: يقتل -والحالة هذه-قصاصًا.
قال: وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟ فقال مالك، وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهما: لا تقبل. وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى: تقبل. وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل، كما يقتل الساحر المسلم. وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يقتل. يعني لقصة لبيد بن أعصم (3) .
واختلفوا في المسلمة الساحرة، فعند أبي حنيفة (4) لا تقتل، ولكن تحبس. وقال الثلاثة: حكمها حكم الرجل، والله أعلم.
وقال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي، قال: قَرَأ على أبي عبد الله -يعني أحمد بن حنبل-عُمَرُ بن هارون، حدثنا يونس، عن الزهري، قال: يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها.
وقد نقل القرطبي عن مالك، رحمه الله، أنه قال في الذمي إذا سحر يقتل إن قتل سحره، وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر: إحداهما: أنه يستتاب فإن أسلم وإلا قتل، والثانية: أنه يقتل وإن أسلم، وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفرًا كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم لقوله تعالى: " وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ " . لكن قال مالك: إذا ظهر عليه لم تقبل توبته لأنه كالزنديق، فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائبًا قبلناه ولم نقتله، فإن قتل سحره قتل. قال الشافعي: فإن قال: لم أتعمد القتل فهو مخطئ تجب عليه الدية.
مسألة: وهل يسأل الساحر حل سحره؟ فأجاز سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري، وقال عامر الشعبي: لا بأس بالنشرة، وكره ذلك الحسن البصري، وفي الصحيح عن عائشة: أنها قالت: يا رسول الله، هلا تنشرت، فقال: "أما الله فقد شفاني، وخشيت أن أفتح على الناس شرًا" (5) . وحكى القرطبي عن وهب: أنه قال: يؤخذ سبع ورقات من سدر فتدق بين حجرين ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به، وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته.
قلت: أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في إذهاب ذلك وهما المعوذتان، وفي الحديث: "لم يتعوذ المتعوذون بمثلهما" (6) وكذلك قراءة آية الكرسي فإنها مطردة للشيطان. وقال أبو عبد الله القرطبي: وعندنا أن السحر حق، وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء.
__________
(1) في جـ: "منه الفعل".
(2) في أ: "في حق رجل".
(3) في أ: "لقضية لبيد بن الأعصم".
(4) في جـ، ط، ب، أ، و: "فعند أبي حنيفة أنها".
(5) صحيح البخاري برقم (5766) وصحيح مسلم برقم (2189).
(6) رواه النسائي في السنن (8/ 251) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

خلافًا للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية حيث قالوا: إنه تمويه وتخيل. قال: ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة والشعوذي البريد؛ لخفة سيره. قال ابن فارس: هذه الكلمة من كلام أهل البادية. قال القرطبي: ومنه ما يكون كلامًا يحفظ ورقى من أسماء الله تعالى، وقد يكون من عهود الشياطين ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك. قال: وقوله، عليه السلام: "إن من البيان لسحرا" (1) يحتمل أن يكون مدحًا كما تقوله طائفة، ويحتمل أن يكون ذمًا للبلاغة. قال: وهذا الأصح. قال: لأنها تصوب الباطل حين يوهم السامع أنه حق كما قال: "فلعل بعضكم أن يكون ألحن لحجته من بعض" فاقتضى له، الحديث.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) }
نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص -عليهم لعائن الله-فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا. يورون (2) بالرعونة، كما قال تعالى: { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } [النساء: 46] وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم، بأنهم كانوا إذا سَلَّموا إنما يقولون: السامُ عليكم. والسام هو: الموت. ولهذا (3) أمرنا أن نرد عليهم بـ "وعليكم". وإنما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا.
والغرض: أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا. فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت، حدثنا حسان بن عطية، عن أبي مُنيب الجُرَشي، عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يُعبد الله وحده لا شريك له. وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصَّغارُ على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم".
وروى أبو داود، عن عثمان بن أبي شيبة، عن أبي النضر هاشم بن القاسم به (4) "من تشبه بقوم فهو منهم"
__________
(1) رواه أبو داود في السنن برقم (5011) والترمذي في السنن برقم (2845) من حديث ابن عباس رضي الله عنه، ورواه أبو داود في السنن برقم (5012) من حديث بريده رضي الله عنه.
(2) في جـ، ط، ب: "ويورون"، وفي أ: "ويرون".
(3) في جـ: "ولقد".
(4) المسند (2/92) وسنن أبي دواد برقم (4031).

ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد، على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم، ولباسهم وأعيادهم، وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نُقَرر عليها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا مِسْعَر، عن مَعْن وعَوْن -أو أحدهما-أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود، فقال: اعهد إلي. فقال: إذا سمعت الله يقول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فأرعها سَمْعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه (1) .
وقال الأعمش، عن خيثمة، قال: ما تقرؤون في القرآن: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فإنه في التوراة: "يا أيها المساكين".
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: { راعنا } أي: أرعنا (2) سمعك.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا } قال: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أرعنا سمعك. وإنما { راعنا } كقولك: عاطنا.
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية، وأبي مالك، والربيع بن أنس، وعطية العوفي، وقتادة، نحو ذلك.
وقال مجاهد: { لا تَقُولُوا رَاعِنَا } لا تقولوا خلافا. وفي رواية: لا تقولوا: اسمع منا ونسمع منك.
وقال عطاء: { لا تَقُولُوا رَاعِنَا } كانت لُغة تقولها الأنصار فنهى الله عنها.
وقال الحسن: { لا تَقُولُوا رَاعِنَا } قال: الراعن من القول السخري منه. نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم، وما يدعوهم إليه من الإسلام. وكذا روي عن ابن جُرَيج أنه قال مثله.
وقال أبو صخر: { لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا } قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين، فيقول: أرعنا (3) سمعك. فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له (4) .
وقال السدي: كان رجل من اليهود من بني قينقاع، يدعى رفاعة بن زيد (5) يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مُسْمع. وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تُفَخم بهذا، فكان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع: غَيْرَ صاغر. وهي كالتي (6) في سورة النساء. فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا: راعنا.
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (1/317).
(2) في أ: "أى راعنا".
(3) في أ: "فيقول راعنا".
(4) في جـ: "أن يقال له ذلك".
(5) في جـ: "بن يزيد".
(6) في جـ: "هي التي".

وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، بنحو من هذا.
قال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم: راعنا؛ لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولها لنبيه صلى الله عليه وسلم، نظير الذي ذكر عن النبي قال: "لا تقولوا للعنب الكرم، ولكن قولوا: الحَبَلَة. ولا تقولوا: عبدي، ولكن قولوا: فتاي". وما أشبه ذلك.
وقوله تعالى: { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ } يبين بذلك تعالى شدة عداوة (1) الكافرين من أهل الكتاب والمشركين، الذين حذر تعالى من مشابهتهم للمؤمنين؛ ليقطع المودة بينهم وبينهم. وينبِّه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل، الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقول تعالى: { وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
__________
(1) في أ: "شدة عداوته".

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)

{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) }
قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما نبدل من آية.
وقال ابن جُرَيج، عن مجاهد: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } أي: ما نمح من آية.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } قال: نثبت خطها ونبدل حكمها. حَدَّث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود.
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية، ومحمد بن كعب القرظي، نحو ذلك.
وقال الضحاك: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما نُنْسِكَ. وقال عطاء: أما { مَا نَنْسَخْ } فما نترك (1) من القرآن. وقال ابن أبي حاتم: يعني: تُرِكَ فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال السدي: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } نسخها: قبضها. وقال ابن أبي حاتم: يعني: قبضها: رفعها، مثل قوله: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. وقوله: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثًا".
وقال ابن جرير: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن يُحوَّل الحلالُ حرامًا والحرام حلالا والمباح محظورًا، والمحظور مباحًا. ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة. فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ. وأصل النسخ من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره،
__________
(1) في أ: "فما ترك".

إنما هو تحويله ونقل عبَادَة إلى غيرها. وسواء نسخ حكمها أو خطها، إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة. وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ، والأمر في ذلك قريب؛ لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولخَّص (1) بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر. فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل، وعكسه، والنسخ لا إلى بدل. وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوط في فَنِّ أصول الفقه.
وقال الطبراني: حدثنا أبو شبيل (2) عبيد الله بن عبد الرحمن بن واقد، حدثنا أبي، حدثنا العباس بن الفضل، عن سليمان بن أرقم، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يصليان، فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها مما نسخ وأنسي، فالهوا عنها". فكان الزهري يقرؤها: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } (3) بضم النون خفيفة (4) . سليمان بن أرقم ضعيف.
[وقد روى أبو بكر بن الأنباري، عن أبيه، عن نصر بن داود، عن أبي عبيد، عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يونس وعبيد وعقيل، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف مثله مرفوعًا، ذكره القرطبي (5) ] (6) .
وقوله تعالى: { أَوْ نُنْسِهَا } (7) فقرئ على وجهين: "ننسأها ونُنْسها". فأما من قرأها: "نَنسأها" -بفتح النون والهمزة بعد السين-فمعناه: نؤخرها. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسئهَا } يقول: ما نبدل من آية، أو نتركها لا نبدلها.
وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود: { أَوْ نُنسِئَهَا } نثبت خطها ونبدل حكمها. وقال (8) عبيد بن عمير، ومجاهد، وعطاء: { أَوْ نُنسِئَهَا } نؤخرها ونرجئها. وقال عطية العوفي: { أَوْ نُنسِئَهَا } نؤخرها فلا ننسخها. وقال السدي مثله أيضا، وكذا [قال] (9) الربيع بن أنس. وقال الضحاك: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِئَهَا } يعني: الناسخ من المنسوخ. وقال أبو العالية: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِئَهَا } أي: نؤخرها عندنا.
وقال ابن حاتم: حدثنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي، حدثنا خلف، حدثنا الخفاف، عن إسماعيل -يعني ابن مسلم-عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:
__________
(1) في ط: "ويخص".
(2) في هـ: "أبو سنبل" وهو خطأ.
(3) في ط: "أو ننسيها".
(4) المعجم الكبير (12/288).
(5) ورواه الطحاوى في مشكل الآثار برقم (2034) من طريق ابن وهب، عن يونس عن ابن شهاب، عن أبي أمامة به، وبرقم (2035) من طريق شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن أبي أمامة به.
(6) زيادة من جـ، ط.
(7) في ط، ب، أ: "أو ننساها".
(8) في جـ، ط، أ: "وكما قال".
(9) زيادة من أ.

خطبنا عمر، رضي الله عنه، فقال: يقول الله عز وجل: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } أي: نؤخرها.
وأما على قراءة: { أَوْ نُنْسِهَا } فقال عبد الرزاق، عن قتادة في قوله: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } قال: كان الله تعالى ينسي نبيه ما يشاء وينسخ ما يشاء.
وقال ابن جرير: حدثنا سواد (1) بن عبد الله، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله: { أَوْ نُنْسِهَا } (2) قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا ثم نسيه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن نُفَيل، حدثنا محمد بن الزبير الحراني، عن الحجاج -يعني الجزري (3) -عن عِكرمة، عن ابن عباس، قال: كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار، فأنزل الله، عز وجل: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا }
قال أبو حاتم: قال لي أبو جعفر بن نفيل: ليس هو الحجاج بن أرطاة، هو شيخ لنا جَزَري.
وقال عبيد بن عمير: { أَوْ نُنْسِهَا } نرفعها من عندكم.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم، عن يعلى بن عطاء، عن القاسم بن ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ: " ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَو تَنْسَهَا" قال: قلت له: فإن سعيد بن المسيَّب يقرأ: "أَو تُنْسَأها". قال: فقال (4) سعد: إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب، قال الله، جل ثناؤه: { سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى } [الأعلى: 6]{ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [الكهف: 24]. (5) .
وكذا رواه عبد الرزاق، عن هشيم (6) وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي حاتم الرازي، عن آدم، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء، به. وقال: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن محمد بن كعب، وقتادة وعكرمة، نحو قول سعيد.
وقال الإمام أحمد: أخبرنا يحيى، حدثنا سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال عمر: عليٌّ أقضانا، وأُبيٌّ أقرؤنا، وإنا لندع بعض ما يقول أُبيُّ، وأبيّ يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فلن أدعه لشيء. والله يقول: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِئَها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } .
قال البخاري: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال عمر: أقرؤنا أُبيٌّ، وأقضانا علي، وإنا لندع من قول أبيّ، وذلك أن
__________
(1) في جـ، ط، ب، أ، و: "حدثنا سوار".
(2) في جـ، ب، أ: "أو ننسئها".
(3) في جـ: "الجوزي".
(4) في جـ: "فقال قال".
(5) تفسير الطبري (2/475).
(6) تفسير عبد الرزاق (1/75).

أبيا يقول: لا أدع شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } (1)
وقوله: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } أي: في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم.
وقال أبو العالية: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } فلا نعمل بها، { أَوْ نُنسئهَا } أي: نرجئها (2) عندنا، نأت بها أو نظيرها.
وقال السدي: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } يقول: نأت بخير من الذي نسخناه، أو مثل الذي تركناه.
وقال قتادة: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } يقول: آية فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي.
وقوله: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } يرشد تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر وهو المتصرف، فكما خلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من يشاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه. ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى.. فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا. وامتثال ما أمروا. وترك ما عنه زجروا. وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر (3) اليهود وتزييف شبهتهم -لعنهم الله (4) -في دعوى استحالة النسخ إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا،ً وإما نقلا كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا.
قال الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله: فتأويل الآية: ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء، وأقر فيهما ما أشاء.
ثم قال: وهذا الخبر وإن كان من الله تعالى خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه تكذيب لليهود الذين أنكروا نَسْخَ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد، عليهما الصلاة
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4481).
(2) في جـ: "نؤخرها"، وفي أ: "نركثها".
(3) في أ: "لكفار".
(4) في أ: "لعنة الله عليهم".

والسلام، لمجيئهما (1) بما جاءا به من عند الله بتغير ما غير الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه.
[وأمر إبراهيم، عليه السلام، بذبح ولده، ثم نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور بنى إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم، ثم رفع عنهم القتل كيلا يستأصلهم القتل (2) ].
قلت: الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ، إنما هو الكفر والعناد، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى؛ لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرم ذلك، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات، ثم نسخ حِلُّ بعضها، وكان نكاح الأختين مباح لإسرائيل وبنيه، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها. وأشياء كثيرة يطول ذكرها، وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه. وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية، فلا تصرف الدلالة في المعنى، إذ هو المقصود، وكما في كتبهم مشهورا من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه، فإنه يفيد وجوب متابعته، عليه والسلام، وأنه لا يقبل عمل إلا على شريعته. وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة مُغَيَّاة إلى بعثته، عليه السلام، فلا يسمى ذلك نسخًا كقوله: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [البقرة: 187] ، وقيل: إنها مطلقة، وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسختها، فعلى كل تقدير فوجوب اتباعه معين (3) لأنه جاء بكتاب هو آخر (4) الكتب عهدا بالله تبارك وتعالى.
ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ، ردا على اليهود، عليهم لعائن الله، حيث قال تعالى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } الآية، فكما أن له الملك بلا منازع، فكذلك له الحكم بما يشاء، { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ } [الأعراف: 54] وقرئ في سورة آل عمران، التي نزل صدرها خطابًا مع أهل الكتاب، وقوع النسخ عند اليهود في وقوله تعالى: { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ } الآية [آل عمران: 93] كما سيأتي تفسيرها، والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى، لما له في ذلك من الحكم البالغة، وكلهم قال بوقوعه. وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر: لم يقع شيء من ذلك في القرآن، وقوله هذا ضعيف مردود مرذول. وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ، فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشرا بعد الحول لم يجب على ذلك بكلام مقبول، وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة، عن بيت المقدس لم يجب
__________
(1) في جـ، ط: "بمجيئها".
(2) زيادة من جـ، ط.
(3) في ط، ب: "متعين".
(4) في ط: "هو أحدث".

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)

بشيء، ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين، ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، والله أعلم.
{ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) }
نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة، عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } [المائدة: 101] أي: وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه؛ فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة. ولهذا جاء في الصحيح: "إن أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته" (1) . ولما سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكتَ سكتَ على مثل ذلك؛ فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها. ثم أنزل الله حكم الملاعنة (2) . ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال (3) وفي صحيح مسلم: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن (4) نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" (5) . وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج. فقال رجل: أكُل عام يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا. ثم قال، عليه السلام: "لا ولو قلت: نعم لوجَبَتْ، ولو وَجَبَتْ لما استطعتم". ثم قال: "ذروني ما تركتكم" الحديث. وهكذا قال أنس بن مالك: نُهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي (6) الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع (7) .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي سنان، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: إن كان ليأتي علَيَّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فأتهيب منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب.
وقال البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثنْتَي
__________
(1) صحيح البخاري برقم (7289) وصحيح مسلم برقم (2358) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (5308، 5259) ومسلم في صحيحه برقم (1492) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(3) صحيح البخاري برقم (1477) وصحيح مسلم برقم (593).
(4) في ط، ب، أ، و: "وإذا".
(5) صحيح مسلم برقم (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) في جـ: "أن يجيء".
(7) رواه مسلم في صحيحه برقم (12).

عشرة مسألة، كلها في القرآن: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } [البقرة:219] ، و { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } [البقرة: 217] ، و { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } [البقرة: 220] يعني: هذا وأشباهه (1) .
وقوله تعالى: { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } أي: بل تريدون. أو هي (2) على بابها في الاستفهام، وهو إنكاري، وهو يعم المؤمنين والكافرين، فإنه، عليه السلام، رسول الله إلى الجميع، كما قال تعالى: { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ } [النساء: 153] .
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد [بن جبير] (3) عن ابن عباس، قال: قال رافع بن حُرَيْمَلة -أو وهب بن زيد-: يا محمد، ائتنا بكتاب تُنزلُه علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك. فأنزل الله من قولهم: { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ }
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله تعالى: { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } (4) قال: قال رجل: يا رسول الله، لو كانت كَفَّاراتنا كَفَّارات (5) بني إسرائيل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا نبغيها -ثلاثًا-ما أعطاكم الله خَيْر مما أعطى بني إسرائيل، كانت (6) بنو إسرائيل إذا أصاب أحدُهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفَّارتها، فإن كفرها كانت له خزْيًا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيًا في الآخرة. فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل". قال: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [النساء: 110] ، وقال: "الصلوات الخمس من الجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن". وقال: "من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة واحدة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك". فأنزل الله: { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ }
وقال مجاهد: { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } أن يريهم الله جهرة، قال: سألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصَّفَا ذهبًا. قال: "نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم"، فأبوا ورجعوا.
وعن السدي وقتادة نحو هذا، والله أعلم.
والمراد أن الله ذمَّ من سأل الرسولَ صلى الله عليه وسلم عن شَيء، على وجه التعنُّت والاقتراح، كما سألت بنو إسرائيل موسى، عليه السلام، تعنتًا وتكذيبًا وعنادًا، قال الله تعالى: { وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ } أي:
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (11/454) من طريق عبد الله بن عمر بن أبان، عن محمد بن فضيل به مطولاً.
(2) في جـ: "وقيل بل هي".
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ، ط.
(5) في أ، و: "ككفارات".
(6) في جـ: "قال: كانت".

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)

من يَشْتَر الكفر بالإيمان { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } أي: فقد خرج عن (1) الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد لهم، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها، على وجه التعنت والكفر، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [إبراهيم: 28، 29] .
وقال أبو العالية: يتبدل الشدة بالرخاء.
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) }
يحذر تعالى (2) عباده المؤمنين عن سلوك طَرَائق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم. ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح. ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه، كما قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان حُيَيُّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهودَ للعرب حسدًا، إذْ خَصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم وكانا جَاهدَين في ردِّ الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ } الآية.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر عن الزهري، في قوله تعالى: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } قال: هو كعب بن الأشرف.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه: أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرًا، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه (3) أنزل الله: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ } إلى قوله: { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا }
وقال الضحاك، عن ابن عباس: أن رسولا أميا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل (4) والآيات، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم، ولكنهم جحدوا ذلك كفرًا وحسدًا وبغيًا؛ ولذلك قال
__________
(1) في أ: "من".
(2) في جـ: "يحذر تبارك وتعالى".
(3) في ط، ب: "وفيهم".
(4) في جـ، ط، ب: "من الرسل والكتب".

الله تعالى: { كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } يقول: من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئا، ولكن الحسد حملهم على الجحود، فعيرَّهم ووبخهم ولامهم أشدَّ الملامة، وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل (1) عليهم وما أنزل من قبلهم، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم.
وقال الربيع بن أنس: { مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } من قبل أنفسهم. وقال أبو العالية: { مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } من بعد ما تبين [لهم] (2) أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فكفروا به حسدا وبغيًا؛ إذ كان من غيرهم. وكذا قال قتادة والربيع والسدي.
وقوله: { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } مثل قوله تعالى: { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ } [آل عمران: 186] .
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } نسخ ذلك قوله: { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وقوله: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ } إلى قوله: { وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة: 29] فنسخ هذا عفوه عن المشركين. وكذا قال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي: إنها منسوخة بآية السيف، ويرشد إلى ذلك أيضًا قوله: { حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ }
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان (3) أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عُرْوَة بن الزبير: أن أسامة بن زيد أخبره، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله: { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأوَّل من العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم بقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش (4) .
وهذا إسناده (5) صحيح، ولم أره في شيء من الكتب الستة [ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما] (6) .
وقوله تعالى: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ } يَحُثُّ (7) تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتَعُودُ عليهم عاقبتُه يوم القيامة، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة،
__________
(1) في جـ، ط، أ، و: "أنزل الله".
(2) زيادة من ب، أ، و.
(3) في أ: "أبو الوليد".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/333).
(5) في ط، ب: "وهذا إسناد".
(6) زيادة من جـ، ط.
(7) في جـ، ط، ب، أ، و: "يحثهم".

وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)

حتى يمكن لهم الله (1) النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد { يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [غافر: 52] ؛ ولهذا قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يعني: أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل، ولا يضيع لديه، سواء كان خيرًا أو شرًا، فإنه سيجازي كل عامل بعمله.
وقال أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } وهذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين، أنهم مهما فعلوا من خير أو شر، سرا أو علانية، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء، فيجزيهم بالإحسان خيرًا، وبالإساءة مثلها. وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر، فإن فيه وعدًا ووعيدًا وأمرًا وزجرًا. وذلك أنه أعْلَم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مُدَّخرًا (2) لهم عنده، حتى يثيبهم عليه، كما قال: { وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ } وليحذروا معصيته.
قال: وأما قوله: { بصير } فإنه مبصر صرف إلى "بصير" كما صرف مبدع إلى "بديع"، ومؤلم إلى "أليم"، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا ابن بُكَير، حدثني ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر (3) في هذه الآية { سَمِيعٌ بَصِيرٌ } يقول: بكل شيء بصير (4) .
{ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) }
__________
(1) في جـ، ط، ب: "يمكن الله لهم".
(2) في ب، أ، و: "مذخورا".
(3) في جـ، ط، ب، أ: "يقرأ"، وفي و: "يقترئ".
(4) تفسير ابن أبي حاتم (1/336).

وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) }
يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه، حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا: { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة: 18] . فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك، وكما تقدم من (1) دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة، ثم ينتقلون إلى الجنة. وردَّ عليهم تعالى في ذلك، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة
__________
(1) في جـ، ط: "في".

ولا بينة، فقال { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ }
وقال أبو العالية: أماني تمنوها على الله بغير حق. وكذا قال قتادة والربيع بن أنس.
ثم قال: { قُلْ } أي: يا محمد، { هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ }
وقال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس: حجتكم. وقال قتادة: بينتكم على ذلك. { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } كما تدعونه (1) .
ثم قال تعالى: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي: من أخلص العمل لله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } الآية [آل عمران: 20].
وقال أبو العالية والربيع: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } يقول: من أخلص لله.
وقال سعيد بن جبير: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ } أخلص، { وَجْهَهُ } قال: دينه، { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي: متبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن للعمل (2) المتقبل شرطين، أحدهما: أن يكون خالصًا لله وحده والآخر: أن يكون صوابًا موافقا للشريعة. فمتى كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يتقبل؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". رواه مسلم من حديث عائشة، عنه، عليه السلام.
فعمل الرهبان ومن شابههم -وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله-فإنه لا يتقبل منهم، حتى يكون ذلك متابعًا للرسول [محمد] (3) صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، وفيهم وأمثالهم، قال الله تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان: 23] ، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } [النور: 39] .
وروي عن أمير المؤمنين عمر أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي.
وأما إن كان العمل موافقًا للشريعة في الصورة الظاهرة، ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضًا مردود على فاعله وهذا حال المنافقين والمرائين، كما قال تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } [النساء: 142] ، وقال تعالى: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ* وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [الماعون: 4 -7] ، ولهذا قال تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاَءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف: 110] . وقال في هذه الآية الكريمة: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ }
وقوله: { فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور، وآمنهم مما يخافونه من المحذور فـ { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلونه، { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما مضى مما يتركونه، كما قال سعيد بن جبير: فـ { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } يعني: في الآخرة { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }
__________
(1) في جـ، ط، ب، و: "أي فيما تدعونه"، وفي أ: "أي مما تدعونه".
(2) في أ: "في العمل".
(3) زيادة من جـ، ط، ب.

[يعني: لا يحزنون] (1) للموت.
وقوله تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } يبين به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم. كما قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حُرَيْملة (2) ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى وبالإنجيل. وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء. وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة. فأنزل الله في ذلك من قولهما (3) { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } قال: إن كلا يتلو في كتابه تصديق من كفر به، أي: يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة، فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى، وما جاء (4) من التوراة من عند الله، وكل يكفر بما في يد (5) صاحبه.
وقال مجاهد في تفسير هذه الآية: قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء.
وقال قتادة: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ } قال: بلى، قد كانت أوائل النصارى على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا. { وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } قال: بلى قد كانت أوائل اليهود على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا.
وعنه رواية أخرى كقول أبي العالية، والربيع بن أنس في تفسير (6) هذه الآية: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى. ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه، مع علمهم بخلاف ذلك؛ ولهذا قال تعالى: { وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } أي: وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل، كل منهما قد كانت مشروعة في وقت، ولكن تجاحدوا فيما بينهم عنادًا وكفرًا (7) ومقابلة للفاسد بالفاسد، كما تقدم عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة في الرواية الأولى عنه في تفسيرها، والله أعلم.
وقوله تعالى: { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } يُبَيِّن بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوا من القول، وهذا من باب الإيماء والإشارة. وقد اختلف فيما عنى بقوله تعالى: { الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ }
__________
(1) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(2) في أ: "بن خزيمة".
(3) في جـ: "من قوله".
(4) في أ، و: "جاء به".
(5) في جـ، ط، ب: "بما في يدي".
(6) في أ، و: "في تفسيره".
(7) في جـ: "كفرا وعنادا".

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)

فقال الربيع بن أنس وقتادة: { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } قالا وقالت النصارى مثل قول اليهود وقيلهم. وقال ابن جُرَيج: قلت لعطاء: من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال: أمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل. وقال السدي: { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } فهم: العرب، قالوا: ليس محمد على شيء.
واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع، وليس ثمَّ دليل قاطع يعين واحدًا من هذه الأقوال، فالحمل على الجميع أولى، والله أعلم.
وقوله تعالى: { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي: أنه تعالى يجمع (1) بينهم يوم المعاد، ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة. وهذا كقوله تعالى في سورة الحج: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [الحج: 17] ، وكما قال تعالى: { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [ سبأ:26] .
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) }
اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله (2) وسَعَوا في خرابها على قولين:
أحدهما: ما رواه العوفي في تفسيره، عن ابن عباس في قوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } قال: هم النصارى. وقال مجاهد: هم النصاري، كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله: { وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } هو بُخْتَنَصَّر وأصحابه، خَرَّب بيت المقدس، وأعانه على ذلك النصارى.
وقال سعيد، عن قتادة: قال: أولئك أعداء الله النصارى، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس.
وقال السدي: كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس حتى خربه، وأمر به أن تطرح فيه الجيف، وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا. وروي نحوه عن الحسن البصري.
القول الثاني: ما رواه ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب قال: قال ابن
__________
(1) في أ: "يحكم".
(2) في جـ: "مساجد الله أن يذكر فيها اسمه".

زيد في قوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } قال: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طُوَى وهادنهم، وقال لهم: ما كان أحد يَصُد عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده. فقالوا: لا يدخل علينا مَنْ قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق.
وفي قوله: { وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } قال: إذ قطعوا من يَعْمُرُها بذكره ويأتيها للحج والعمرة.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن سلمة قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن قُرَيشًا منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل الله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ }
ثم اختار ابن جرير القول الأول، واحتج بأن قريشًا لم تسع في خراب الكعبة. وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس.
قلت: الذي (1) يظهر -والله أعلم-القول الثاني، كما قاله ابن زيد، وروي عن ابن عباس؛ لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس، كأن دينهم أقوم من دين اليهود، وكانوا أقرب منهم، ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولا إذ ذاك؛ لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. وأيضا فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى، شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة، فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم، كما قال تعالى: { وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [الأنفال:34] ، وقال تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ* إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [التوبة:17 ، 18] ، وقال تعالى: { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فتَصُيِبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [الفتح: 25] ، فقال تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ } [التوبة: 18] ، فإذا كان من هو كذلك مطرودًا منها مصدودًا عنها، فأي خراب لها أعظم من ذلك؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط، إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها، ورفعها عن الدنس والشرك.
__________
(1) في ط، ب: "قلت والذي".

وقوله تعالى: { أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ } هذا خبر معناه الطلب، أي لا تُمَكِّنوا هؤلاء -إذا قَدَرُتم عليهم-من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية. ولهذا لما فتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى: "ألا لا يَحُجَّن (1) بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عُريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته". وهذا كان تصديقًا وعملا بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } الآية [التوبة: 28] ، وقال بعضهم: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال التهيب، وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم، فضلا أن يستولوا عليها ويمنعوا (2) المؤمنين منها. والمعنى: ما كان الحق والواجب إلا ذلك، لولا ظلم الكفرة وغيرهم.
وقيل: إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيُظْهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفا، يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم. وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان، وأن تجلى اليهود والنصارى منها، ولله الحمد والمنة. وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة [المباركة] (3) التي بعث [الله] (4) فيها رسوله إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا صلوات الله وسلامه عليه (5) . وهذا هو الخزي لهم في الدنيا؛ لأن الجزاء من جنس العمل. فكما صدوا المؤمنين (6) عن المسجد الحرام، صُدوا عنه، وكما أجلوهم من مكة أجلوا منها { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } على ما انتهكوا من حرمة البيت، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله، والدعاء إلى غير الله عنده والطواف به عريا، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله.
وأما من فَسَّر بيت (7) المقدس، فقال كعب الأحبار: إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه (8) فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل عليه: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ } الآية، فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفا.
وقال السدي: فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يُضْرَب (9) عُنُقُه، أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها.
__________
(1) في ب، و: "ألا لا يحج"، وفي أ: "أن لا يحج".
(2) في جـ، ط، ب: "ويمنعوا".
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(5) في جـ، ب، و: "صلوات الله وسلامه عليه".
(6) في أ: "المسلمين".
(7) في ط، ب: "ببيت".
(8) في أ: حرقوه".
(9) في جـ، ط، ب: "أن تضرب".

وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)

وقال قتادة: لا يدخلون المساجد إلا مسارقة.
قلت: وهذا لا ينفي أن يكون داخلا في معنى عموم الآية فإن النصارى ما ظلموا بيت المقدس، بامتهان الصخرة التي كانت يصلي (1) إليها اليهود، عوقبوا شرعًا وقَدَرا بالذلة فيه، إلا في أحيان من الدهر امتحن (2) بهم بيت المقدس وكذلك اليهودُ لما عَصَوا الله فيه أيضا أعظم من عصيان النصارى كانت عقوبتهم أعظم والله أعلم.
وفسر هؤلاء الخزي من الدنيا، بخروج المهدي عند السدي، وعكرمة، ووائل بن داود. وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون.
والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله، وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة كما قال الإمام أحمد: حدثنا الهيثم بن خارجة، حدثنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حَلبس (3) سمعت أبي يحدث، عن بُسْر (4) بن أرطاة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: "اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة" (5) .
وهذا حديث حسن، وليس في شيء من الكتب الستة، وليس لصحابيه وهو بسر (6) بن أرطاة -ويقال: ابن أبي أرطاة-حديث سواه، وسوى [حديث] (7) "لا تقطع الأيدي في الغزو".
{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) }
وهذا -والله أعلم-فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه
الذين أخرجوا (8) من مكة وفارقوا مسجدهم ومُصَلاهم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكةَ إلى بيت المقدس والكعبةُ بين يديه. فلما قدم المدينة وُجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، ثم صرفه الله إلى الكعبة بعدُ، ولهذا يقول (9) تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
قال أبو عبيد القاسم بن سلام، في كتاب الناسخ والمنسوخ: أخبرنا حجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا -والله أعلم-شأنُ القبلة: قال (10) تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } فاستقبل
__________
(1) في جـ، ب، و: "كانت تصلى"، وفي أ: "كانت تصل".
(2) في أ: "سخر".
(3) في جـ، ط، ب: "بن حابس".
(4) في أ: "عن بشر".
(5) المسند (4/181).
(6) في أ: "وهو بشر".
(7) زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
(8) في أ: "الذين خرجوا".
(9) في جـ: "يقول الله".
(10) في جـ، ب، و: "قال الله".

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49