الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)

{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) }
يخبر تعالى عما قاله جهلة بني إسرائيل لموسى، عليه السلام، حين جاوزوا البحر، وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا، { فَأَتَوْا } أي: فمروا { عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ } قال بعض المفسرين: كانوا من الكنعانيين. وقيل: كانوا من لخم.
قال ابن جريج: وكانوا يعبدون أصناما على صور البقر، فلهذا أثار (1) ذلك شبهة لهم في عبادتهم العجل بعد ذلك، فقالوا: { يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } أي: تجهلون عظمة الله وجلاله، وما يجب أن ينزه (2) عنه من الشريك والمثيل.
{ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ } أي: هالك { وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
وروى الإمام أبو جعفر بن جرير [رحمه الله] (3) تفسير هذه الآية من حديث محمد بن إسحاق وعَقِيل، ومعمر كلهم، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي: أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، قال: وكان للكفار سدرة (4) يعكفون عندها، ويعلقون بها أسلحتهم، يقال لها: "ذات أنواط"، قال: فمررنا بسدرة خضراء عظيمة، قال: فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال: "قلتم والذي نفسي بيده، كما قال قوم موسى لموسى: { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (5)
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان الدِّيلي، عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، فمررنا بسدرة، فقلت: يا نبي الله (6) اجعل لنا هذه "ذات أنواط"، كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة، ويعكفون حولها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ] } (7) إنكم تركبون (8) سنن من قبلكم" (9)
ورواه ابن أبي حاتم، من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه عن جده مرفوعا (10)
__________
(1) في أ: "أثر".
(2) في د: "تنزيهه".
(3) زيادة من أ.
(4) في م: "سدة".
(5) تفسير الطبري (13/81 ، 82).
(6) في أ: "رسول الله".
(7) زيادة من د.
(8) في م: "لتركبون".
(9) المسند (5/218) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11185) من طريق عبد الرزاق به ورواه الترمذي في السنن برقم (2180) من طريق سفيان عن الزهري بنحوه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
(10) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (17/21) من طريق ابن أبي فديك، عن كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده مرفوعا، قال الهيثمي في المجمع (7/24): "فيه كثير بن عبد الله وقد ضعفه الجمهور وحسن الترمذي حديثه.

قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

{ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) }
يذكِّرهم موسى، عليه السلام، بنعمة الله عليهم، من إنقاذهم من أسر فرعون وقهره، وما كانوا فيه من الهوان والذلة، وما صاروا إليه من العزة والاشتفاء من عدوهم، والنظر إليه في حال هوانه وهلاكه، وغرقه ودماره. وقد تقدم تفسيرها في [سورة] (1) البقرة.
{ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) }
يقول تعالى ممتنا على بني إسرائيل، بما حصل لهم من الهداية، بتكليمه موسى، عليه السلام، وإعطائه التوراة، وفيها أحكامهم وتفاصيل شرعهم، فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة.
قال المفسرون: فصامها موسى، عليه السلام، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره الله تعالى أن يكمل بعشر (2) أربعين.
وقد اختلف المفسرون في هذه العشر ما هي؟ فالأكثرون على أن الثلاثين هي ذو القعدة، والعشر عشر ذي الحجة. قاله مجاهد، ومسروق، وابن جريج. وروي عن ابن عباس. فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر، وحصل فيه التكليم لموسى، عليه السلام، وفيه أكمل الله الدين لمحمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } [المائدة:3]
فلما تم الميقات عزم (3) موسى على الذهاب إلى الطور، كما قال تعالى: { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ } الآية [طه : 80]، فحينئذ استخلف موسى على بني إسرائيل أخاه هارون، وأوصاه بالإصلاح وعدم الإفساد. وهذا تنبيه وتذكير، وإلا فهارون، عليه السلام، نبي شريف كريم على الله، له وجاهة وجلالة، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى سائر الأنبياء (4)
{ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) }
يخبر تعالى عن موسى، عليه السلام، أنه لما جاء لميقات الله تعالى، وحصل له التكليم من الله [تعالى] (5) سأل الله تعالى أن ينظر إليه فقال: { رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي }
__________
(1) زيادة من م، أ.
(2) في أ: "العشرة".
(3) في د، ك، م: "وعزم".
(4) في ك، أ: "أنبياء الله".
(5) زيادة من ك، أ.

وقد أشكل حرف "لن" هاهنا على كثير من العلماء؛ لأنها موضوعة لنفي التأبيد، فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة. وهذا أضعف الأقوال؛ لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة، كما سنوردها عند قوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } [القيامة:22 ، 23] .
وقوله تعالى إخبارًا عن الكفار: { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } [المطففين:15]
وقيل: إنها لنفي التأبيد في الدنيا، جمعا بين هذه الآية، وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة.
وقيل: إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى: { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } وقد تقدم ذلك في الأنعام [الآية:103].
وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى، عليه السلام: "يا موسى، إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده"؛ ولهذا قال تعالى: { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا }
قال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية: حدثنا أحمد بن سُهَيْل الواسطي، حدثنا قُرَّة بن عيسى، حدثنا الأعمش، عن رجل، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما تجلى ربه للجبل، أشار بإصبعه فجعله دكًا" وأرانا أبو إسماعيل بإصبعه السبابة (1)
هذا الإسناد فيه رجل مبهم لم يسم، ثم قال (2)
حدثني المثنى، حدثنا حجَّاج بن مِنْهال، حدثنا حَمَّاد، عن لَيْث، عن أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } قال: "هكذا بإصبعه -ووضع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر-فساخ الجبل" (3)
هكذا وقع في هذه الرواية "حماد بن سلمة، عن ليث، عن أنس". والمشهور: "حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس"، كما قال ابن جرير:
حدثني المثنى، حدثنا هُدْبَة بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } قال: وضع الإبهام قريبًا من طرف خنصره، قال: فساخ الجبل -قال حميد لثابت: تقول هذا؟ فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد، وقال: يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقوله أنس وأنا أكتمه؟ (4)
وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده: حدثنا أبو المثنى، معاذ بن معاذ العنبري، حدثنا حماد بن
__________
(1) تفسير الطبري (13/98).
(2) في أ: "وقال".
(3) تفسير الطبري (13/99).
(4) تفسير الطبري (13/99).

سلمة، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [ جَعَلَهُ دَكًّا ] } (1) قال: قال هكذا -يعني أنه خرج طرف الخنصر -قال أحمد: أرانا معاذ، فقال له حميد الطويل: ما تريد إلى هذا يا أبا محمد؟ قال: فضرب صدره ضربة شديدة وقال: من أنت يا حميد؟! وما أنت يا حميد؟! يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول أنت: ما تريد إليه؟!
وهكذا رواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن عبد الوهاب بن الحكم الوراق، عن معاذ بن معاذ به. وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن سليمان بن حرب، عن حماد [بن سلمة] (2) به (3) ثم قال: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث حماد.
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طرق، عن حماد بن سلمة، به. وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه (4) (5)
ورواه أبو محمد الحسن (6) بن محمد الخلال، عن محمد بن علي بن سُوَيْد، عن أبي القاسم البغوي، عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة، فذكره وقال: هذا إسناد صحيح لا علة فيه.
وقد رواه داود بن المحبر، عن شعبة، عن ثابت، عن أنس مرفوعًا [وهذا ليس بشيء، لأن داود ابن المحبر كذاب ورواه الحافظان أبو القاسم الطبراني وأبو بكر] (7) بنحوه (8)
وأسنده ابن مردويه من طريقين، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن أنس مرفوعا (9) بنحوه، وأسنده ابن مردويه من طريق ابن البيْلِمِاني، عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعا، ولا يصح أيضًا.
وقال السُّدِّي، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قول الله تعالى: { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } قال: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر { جَعَلَهُ دَكًّا } قال: ترابا { وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } قال: مغشيًا عليه. رواه ابن جرير.
وقال قتادة: { وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } قال: ميتًا.
وقال سفيان الثوري: ساخ الجبل في الأرض، حتى وقع في البحر فهو يذهب معه (10)
وقال سُنَيْد، عن حجاج بن محمد الأعور، عن أبي بكر الهذلي: { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } انقعر فدخل تحت الأرض، فلا يظهر إلى يوم القيامة.
وجاء في بعض الأخبار أنه ساخ في الأرض، فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة، رواه ابن مردويه.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) المسند (3/125) وسنن الترمذي برقم (3074) ورواه ابن خزيمة في التوحيد برقم (113) من طريق معاذ بن جبل به.
(4) في أ: "يخرجه".
(5) المستدرك (2/320) ورواه ابن خزيمة في التوحيد برقم (114) وابن الأعرابي في معجمه برقم (405) من طريق عفان بن مسلم عن حماد بن سلمة به.
(6) في أ ك : "أبو محمد بن الحسن".
(7) زيادة من أ.
(8) ورواه ابن منده في الرد على الجهمية برقم (59) من طريق شعبة به.
(9) ورواه ابن عدي في الكامل (1/350) من طريق أيوب بن خوط عن قتادة عن أنس مرفوعا وأيوب بن خوط متروك الحديث.
(10) في أ: "بعد".

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن شَبَّة، حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن معاوية بن عبد الله، عن الجلد بن أيوب، عن معاوية بن قُرَّة، عن أنس بن مالك؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما تجلى الله للجبال (1) طارت لعظمته ستة أجبل، فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة، بالمدينة: أحد، وورقان، ورضوى. ووقع بمكة: حراء، وثَبِير، وثور".
وهذا حديث غريب، بل منكر (2)
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج، حدثنا الهَيْثَم بن خارجة، حدثنا عثمان بن حُصَين بن عَلاق، عن عُرْوة بن رُوَيم قال: كانت الجبال قبل أن يتجلى الله لموسى على الطور صُمًا مُلْسا، فلما تجلى الله لموسى على الطور دك (3) وتفطرت الجبال فصارت الشقوق والكهوف.
وقال الربيع بن أنس: { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور، صار مثل دك من الدكاك. وقال بعضهم: { جَعَلَهُ دَكًّا } أي: فتته.
وقال مجاهد في قوله: { وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } فإنه أكبر منك وأشد خلقا، { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } فنظر إلى الجبل لا يتمالك، وأقبل الجبل فدك على أوله، ورأى موسى ما يصنع الجبل، فخر صعقًا.
وقال عكرمة: { جَعَلَهُ دَكًّا } قال: نظر الله إلى الجبل، فصار صحراء ترابًا.
وقد قرأ بهذه القراءة بعض القراء، واختارها ابن جرير، وقد ورد فيها حديث مرفوع، رواه بن مردويه.
والمعروف أن "الصَّعْق" هو الغشي هاهنا، كما فسره ابن عباس وغيره، لا كما فسره قتادة بالموت، وإن كان ذلك صحيحًا في اللغة، كقوله تعالى: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } [الزمر:68] فإن هناك قرينة تدل على الموت كما أن هنا قرينة تدل على الغشي، وهي قوله: { فَلَمَّا أَفَاقَ } والإفاقة إنما تكون من (4) غشي.
{ قَالَ سُبْحَانَكَ } تنزيها وتعظيما وإجلالا أن يراه أحد من الدنيا إلا مات.
وقوله: { تُبْتُ إِلَيْكَ } قال مجاهد: أن أسألك الرؤية.
__________
(1) في أ: "للجبل".
(2) ورواه ابن الأعرابي في معجمه (166/2) والمحاملي في أماليه (1/172/1) كما في االسلسة الضعيفة للشيخ ناصر الألباني برقم (162) والخطيب االبغدادي في تاريخ بغداد (10/441) كلهم من طريق عبد العزيز بن عمران عن معاوية بن عبد الله به.
قال الخطيب: "هذا الحديث غريب جدا لم أكتبه إلا بهذا الإسناد" وأورده ابن الجوزي في الموضوعات (1/120) وقال: "قال ابن حبان: موضوع، وعبد العزيز متروك يروى المناكير عن المشاهير".
(3) في أ: "صارت دكا".
(4) في ك، م: "عن".

{ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } قال ابن عباس ومجاهد: من بني إسرائيل. واختاره ابن جرير. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } أنه لا يراك أحد. وكذا قال أبو العالية: قد كان قبله مؤمنون، ولكن يقول: أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة.
وهذا قول حسن له اتجاه. وقد ذكر محمد بن جرير في تفسيره هاهنا أثرًا طويلا فيه غرائب وعجائب، عن محمد بن إسحاق بن يسار [رحمه الله] (1) وكأنه تلقاه من الإسرائيليات (2) والله [تعالى] (3) أعلم.
وقوله: { وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } فيه أبو سعيد وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فأما حديث أبي سعيد، فأسنده البخاري في صحيحه هاهنا، فقال:
حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه، فقال: يا محمد، إن رجلا من أصحابك من الأنصار لطم وجهي. قال: "ادعوه" فدعوه، قال: "لم لطمت وجهه؟" قال: يا رسول الله، إني مررت باليهودي فسمعته يقول: والذي اصطفى موسى على البشر.
قال: قلت: وعلى محمد؟ فأخذتني غضبة (4) فلطمته، قال: "لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور".
وقد رواه البخاري في أماكن كثيرة من صحيحه، ومسلم في أحاديث الأنبياء من صحيحه، وأبو داود في كتاب "السنة" من سننه من طرق، عن عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي الحسن المازني الأنصاري المدني، عن أبيه، عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري، به (5)
وأما حديث أبي هريرة فقال الإمام أحمد في مسنده:
حدثنا أبو كامل، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: استب رجلان: رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين. وقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فغضب المسلم على اليهودي فلطمه، فأتى اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فأخبره، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعترف بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تخيروني على موسى؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى ممسكًا بجانب العرش، فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي، أم كان ممن استثناه الله، عز وجل". أخرجاه في الصحيحين، من حديث
__________
(1) زيادة من أ.
(2) انظر: تفسير الطبري (13/91).
(3) زيادة من م.
(4) في د: "غيظة".
(5) صحيح البخاري برقم (4638 ، 2412 ، 6917 ، 3398 ، 7427 ، 6518) وصحيح مسلم برقم (2374) وسنن أبي داود برقم (4668).

الزهري، به (1)
وقد روى الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا، رحمه الله: أن الذي لطم اليهودي في هذه القضية هو أبو بكر الصديق، رضي الله عنه (2) ولكن تقدم في الصحيحين أنه رجل من الأنصار، وهذا هو أصح وأصرح، والله أعلم.
والكلام في قوله، عليه السلام: "لا تخيروني على موسى"، كالكلام على قوله: "لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متى"، قيل: من باب التواضع. وقيل: قبل أن يعلم بذلك. وقيل: نهى أن يفضل بينهم على وجه الغضب والتعصب. وقيل: على وجه القول بمجرد الرأي والتشهي، والله أعلم.
وقوله: "فإن الناس يصعقون يوم القيامة"، الظاهر أن هذا الصعق يكون في عرصات القيامة، يحصل أمر يصعقون منه، والله أعلم به. وقد يكون ذلك إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء، وتجلى للخلائق الملك الديان، كما صعق موسى من تجلي الرب، عز وجل، ولهذا قال، عليه السلام: "فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور" ؟
وقد روى القاضي عياض في أوائل كتابه "الشفاء" بسنده عن محمد بن محمد بن مرزوق: حدثنا قتادة، حدثنا الحسن، عن قتادة، عن يحيى بن وثاب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما تجلى الله لموسى، عليه السلام، كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء، مسيرة عشرة فراسخ" (3) ثم قال: "ولا يبعد على هذا أن يختص نبيا بما ذكرناه من هذا الباب، بعد الإسراء والحظوة بما رأى من آيات ربه الكبرى.
انتهى ما قاله، وكأنه صحح هذا الحديث، وفي صحته نظر، ولا يخلو رجال إسناده من مجاهيل لا يعرفون، ومثل هذا إنما يقبل من رواية العدل الضابط عن مثله، حتى ينتهي إلى منتهاه، والله أعلم.
__________
(1) المسند (2/264) وصحيح البخاري برقم (3408 ، 2411) وصحيح مسلم برقم (2373).
(2) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (6/443) : "وأما كون اللاطم في هذه القصة الصديق فهو مصرح به فيما أخرجه سفيان بن عيينة في جامعة وابن أبي الدنيا في "كتاب البعث" من طريقه عن عمرو بن دينار، عن عطاء وابن جدعان، عن سعيد بن المسيب قال: كان بين رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبين رجل من اليهود كلام في شيء فقال عمرو بن دينار: هو أبو بكر الصديق".
(3) الشفا (1/165).

قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)

{ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) }
يذكر تعالى أنه خاطب موسى [عليه السلام] (1) بأنه اصطفاه على عالمي زمانه برسالاته وبكلامه (2) تعالى ولا شك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم من الأولين والآخرين؛ ولهذا اختصه الله بأن
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ك، م: "وكلامه".

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)

جعله خاتم الأنبياء والمرسلين، التي (1) تستمر شريعته إلى قيام الساعة، وأتباعه أكثر من أتباع سائر الأنبياء والمرسلين كلهم، وبعده في الشرف والفضل إبراهيم الخليل، عليه السلام، ثم موسى [بن عمران] (2) كليم الرحمن، عليه السلام؛ ولهذا قال الله تعالى له: { فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ } أي: من الكلام [والوحي] (3) والمناجاة { وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } أي: على ذلك، ولا تطلب ما لا طاقة لك به.
ثم أخبر تعالى أنه كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء، قيل: كانت الألواح من جوهر، وأن الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكاما مفصلة مبينة للحلال والحرام، وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة التي قال الله [تعالى] (4) فيها: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } [القصص:43]
وقيل: الألواح أعطيها موسى قبل التوراة، فالله أعلم. وعلى كل تقدير كانت (5) كالتعويض له عما سأل من الرؤية ومنع منه، والله أعلم.
وقوله: { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } أي: بعزم على الطاعة { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } قال سفيان بن عيينة: حدثنا أبو سعد (6) عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أمر موسى -عليه السلام -أن يأخذ بأشد ما أمر قومه.
وقوله: { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } أي: سترون (7) عاقبة من خالف أمري، وخرج عن طاعتي، كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب؟
قال ابن جرير: وإنما قال: { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } كما يقول القائل لمن يخاطبه: "سأريك غدا إلام يصير إليه حال من خالف أمري"، على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره.
ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد، والحسن البصري.
وقيل: معناه { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } أي: من أهل الشام، وأعطيكم إياها. وقيل: منازل قوم فرعون، والأول أولى، والله أعلم؛ لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر، وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه، والله أعلم.
{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) }
يقول تعالى: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي: سأمنع فهم (8) الحجج
__________
(1) في أ: "الذي".
(2) زيادة من م، أ.
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من ك، م، أ.
(5) في، م، ك، أ: "فكانت".
(6) في أ: "أبو سعيد".
(7) في أ: "أي: ستروا".
(8) في أ: "منهم".

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)

والأدلة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي، ويتكبرون على الناس (1) بغير حق، أي: كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل، كما قال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام:110] وقال تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف:5]
وقال بعض السلف: لا ينال العلم حيي ولا مستكبر.
وقال آخر: من لم يصبر على ذل التعلم ساعة، بقي في ذل الجهل أبدا.
وقال سفيان بن عُيَينة في قوله: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } قال: أنزع عنهم فهم القرآن، وأصرفهم عن آياتي.
قال ابن جرير: وهذا يدل على أن هذا خطاب لهذه الأمة (2)
قلت: ليس هذا بلازم؛ لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة، ولا فرق بين أحد وأحد في هذا، والله أعلم.
وقوله: { وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا } كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس:96 ، 97] .
وقوله: { وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا } أي: وإن ظهر لهم سبيل الرشد، أي: طريق النجاة لا يسلكوها، وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلا.
ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } أي: كذبت بها قلوبهم، { وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } أي: لا يعلمون شيئًا مما فيها.
وقوله: { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي: من فعل منهم ذلك واستمر عليه إلى الممات، حبط عمله.
وقوله: { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي: إنما نجازيهم بحسب (3) أعمالهم التي أسلفوها، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، وكما تدين تدان.
{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) }
يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل، الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط، الذي كانوا استعاروه منهم، فشكل لهم منه عجلا ثم ألقى فيه القبضة من التراب التي أخذها من أثر فرس جبريل، عليه السلام، فصار عجلا جسدا له خوار، و"الخوار" صوت البقر.
__________
(1) في أ: "على الله".
(2) تفسير الطبري (13/113).
(3) في أ: "نجازيهم إلا بحسب".

وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى [عليه السلام] (1) لميقات ربه تعالى، وأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور، حيث يقول تعالى إخبارا عن نفسه الكريمة: { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } [طه:85]
وقد اختلف المفسرون في هذا العجل: هل صار لحما ودما له خوار؟ أو استمر على كونه من ذهب، إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر؟ على قولين، والله أعلم. ويقال: إنهم لما صَوّت لهم العجل رَقَصُوا حوله وافتتنوا به، { فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } [طه:88] فقال الله تعالى: { أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا } [طه:89]
وقال في هذه الآية الكريمة: { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا } ينكر تعالى عليهم في ضلالهم بالعجل، وذُهُولهم عن خالق السماوات والأرض وربّ كل شيء ومليكه، أن عبدوا (2) معه عجلا جسدًا له خُوَار لا يكلمهم، ولا يرشدهم إلى خير. ولكن غَطَّى على أعيُن بصائرهم (3) عَمَى الجهل والضلال، كما تقدم من رواية الإمام أحمد وأبو داود، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حبك الشيء يُعْمي ويُصِم" (4)
وقوله: { وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ } أي: ندموا على ما فعلوا، { وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } وقرأ بعضهم: "لئن لم ترحمنا" بالتاء المثناة من فوق، "ربنا" منادى، "وتَغْفِر لنا"، { لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي: من الهالكين وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى الله عز وجل.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في م: "يعبدوا".
(3) في م: "أبصارهم".
(4) المسند (5/194) وسنن أبي داود برقم (5130) وقد رواه الإمام أحمد في مسنده (6/450) موقوفا، قال الحافظ ابن حجر في أجوبته عن أحاديث المصابيح: "الموقوف أشبه".

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)

{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) }
يخبر تعالى أن موسى، عليه السلام، رجع إلى قومه من مناجاة ربه تعالى وهو غضبان أسف.
قال أبو الدرداء "الأسف": أشد الغضب.
{ قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي } يقول: بئس ما صنعتم في عبادتكم العجل بعد أن ذهبت وتركتكم.
وقوله: { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } ؟ يقول: استعجلتم مجيئي إليكم، وهو مقدر من الله تعالى.
وقوله: { وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } قيل: كانت الألواح من زُمُرُّد. وقيل: من

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)

ياقوت. وقيل: من بَرَد وفي هذا دلالة على ما جاء في الحديث: "ليس الخبر كالمعاينة" (1)
ثم ظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضبًا على قومه، وهذا قول جمهور العلماء سلفا وخلفا. وروى ابن جرير عن قتادة في هذا قولا غريبًا، لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة، وقد رَدّه ابن عطية وغير واحد من العلماء، وهو جدير بالرد، وكأنه تَلَقَّاه قتادة عن بعض أهل الكتاب، وفيهم كذابون ووَضّاعون وأفاكون وزنادقة.
وقوله: { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } خوفًا أن يكون قد قَصَّر في نهيهم، كما قال في الآية الأخرى: { قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي . قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [طه:92-94] وقال هاهنا: { ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي: لا تَسُقني مَسَاقهم، ولا تخلطني معهم. وإنما قال: { ابْنَ أُمَّ } ؛ لتكون (2) أرأف وأنجع عنده، وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمه. فلما تحقق موسى، عليه السلام، براءة ساحة هارون [عليه السلام] (3) كما قال تعالى: { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي } [طه:90] فعند ذلك قال موسى: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عفان، حدثنا أبو عَوَانة، عن أبي بِشْر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال النبي (4) صلى الله عليه وسلم "يرحم (5) الله موسى، ليس المعاين كالمخبر؛ أخبره ربه، عز وجل، أن قومه فتنوا بعده، فلم يلق الألواح، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح" (6)
{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) }
أما الغضب الذي نال بني إسرائيل في عبادة العجل، فهو أن الله تعالى لم يقبل لهم توبة، حتى قَتَل بعضهم بعضًا، كما تقدم في سورة البقرة: { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة:54]
وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلا وصغارًا (7) في الحياة الدنيا، وقوله: { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } نائلة
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (1/271) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر كالمعاينة إن الله، عز وجل، أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت".
(2) في ك، م: "ليكون".
(3) زيادة من ك، أ.
(4) في ك، أ: "رسول الله"
(5) في م: "رحم".
(6) ورواه الحاكم في المستدرك (2/380) من طريق أبي بشر، به. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" وفي تلخيص الذهبي: "سمعه من أبي بشر ثقتان".
(7) في أ: "فأعقبهم ذل وصغار".

وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

لكل من افترى بدعة، فإن ذُلَّ البدعة ومخالفة الرسالة (1) متصلة من قلبه على كتفيه، كما قال الحسن البصري: إن ذل البدعة على أكتافهم، وإن هَمْلَجَت بهم البغلات، وطقطقت بهم البراذين.
وهكذا روى أيوب السَّخْتَيَاني، عن أبي قِلابة الجَرْمي، أنه قرأ هذه الآية: { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } قال: هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة.
وقال سفيان بن عيينة: كل صاحب بدعة ذليل.
ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل توبة عباده من أي ذنب كان، حتى ولو كان من كفر أو شرك أو نفاق أو شقاق؛ ولهذا عقب هذه القصة بقوله: { وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ } أي: يا محمد، يا رسول الرحمة ونبي النور (2) { مِنْ بَعْدِهَا } أي: من بعد تلك الفعلة { لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا أبان، حدثنا قتادة، عن عَزْرَة (3) عن الحسن العُرَفي، عن عَلْقَمة، عن عبد الله بن مسعود؛ أنه سئل عن ذلك -يعني عن الرجل يزني بالمرأة، ثم يتزوجها -فتلا هذه الآية: { وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } فتلاها عبد الله عشر مرات، فلم يأمرهم (4) بها ولم ينههم عنها.
{ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) }
يقول تعالى: { وَلَمَّا سَكَتَ } أي: سكن { عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ } أي: غضبه على قومه { أَخَذَ الألْوَاحَ } أي: التي كان ألقاها من شدة الغضب على عبادتهم العجل، غيرةً لله وغضبًا له { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ }
يقول كثير من المفسرين: إنها لما ألقاها تكسرت، ثم جمعها بعد ذلك؛ ولهذا قال بعض السلف: فوجد فيها هدى ورحمة. وأما التفصيل فذهب، وزعموا أن رضاضها لم يزل موجودا في خزائن الملوك لبني إسرائيل إلى الدولة الإسلامية، والله أعلم بصحة هذا. وأما الدليل القاطع على أنها تكسرت حين ألقاها، وهي من جوهر الجنة (5) فقد (6) أخبر [الله] (7) تعالى أنه لما أخذها بعد ما ألقاها وجد فيها هدى ورحمة.
{ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } ضمن الرهبة معنى الخضوع؛ ولهذا عدَّاها باللام. وقال قتادة: في قوله تعالى: { أَخَذَ الألْوَاحَ } قال: رب، إني أجدُ في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فاجعلهم (8) أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب، إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون -أي آخرون في الخَلْقِ -السابقون (9) في دخول الجنة،
__________
(1) في م: "الرسل".
(2) في ك، م، أ: "التوبة".
(3) في م: "عروة".
(4) في ك، م: "يأمر".
(5) في أ: "من جوهر من الجنة".
(6) في ك: "وقد".
(7) زيادة من أ.
(8) في د، ك، م، أ: "اجعلهم".
(9) في د، أ: "سابقون".

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)

رب اجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب، إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها -كتابهم -وكان من قبلهم يقرءون كتابهم نظرا، حتى إذا رفعوها لم يحفظوا [منها] (1) شيئًا، ولم يعرفوه. قال قتادة: وإن الله أعطاهم أيتها الأمة من الحفظ شيئا لم يعطه (2) أحدًا من الأمم. قال: رب، اجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب، إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول، وبالكتاب الآخر، ويقاتلون فصول الضلالة، حتى يقاتلوا (3) الأعور الكذاب، فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب، إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم، ويؤجرون عليها -وكان مَنْ قبلهم من الأمم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه، بعث الله عليها نارًا فأكلتها، وإن ردت عليه تُركَت، فتأكلها السباع والطير، وإن الله أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم (4) -قال: رب، اجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال رب، إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بحسنة ثم لم يعملها، كتبت له حسنة، فإن عملها، كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة [ضعف] (5) رب اجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب، إني أجد في الألواح أمة إذا هَم أحدهم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها، فإذا عملها كتبت عليه سيئة واحدة، فاجعلهم أمتي: قال: تلك أمة أحمد. قال: رب، إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم، فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب، إني أجد في الألواح أمة هم المشفَّعون والمشفوع لهم، فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: قتادة فذكر لنا أن نبي الله موسى [عليه السلام] (6) نبذ الألواح، وقال اللهم اجعلني من أمة أحمد (7)
{ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ك، م، أ: "يعط".
(3) في ك، م: "يقاتلون" وهو خطأ.
(4) في ك: "غنيهم لفقيرهم".
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من أ.
(7) تفسير الطبري (13/124).

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)

{ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) }
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: كان الله أمرَه أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختار سبعين رجلا فبرز بهم ليدعوا ربهم، فكان فيما دَعَوُا الله قالوا: اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا ولا تعطه أحدا بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم، فأخذتهم الرجفة، قال موسى: { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ } الآية.
وقال السُّدِّي: إن الله أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدا، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا. فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة، فإنك قد كلمته، فأرناه. فأخذتهم

الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم (1) وقد أهلكت خيارهم؟ { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ }
وقال محمد بن إسحاق: اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخيّرَ فالخيّر، وقال: انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم، وسَلُوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهَّروا، وطهِّروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طُور سَيْناء، لميقات وقَّته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم -فقال له السبعون -فيما ذكر لي -حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا معه للقاء ربه، [فقالوا] (2) لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا. فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه عمودُ الغمام، حتى تَغَشَّى الجبل كله. ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه (3) الله وقع على جبهة موسى نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه. فضرب دونه بالحجاب. ودنا القوم، حتى إذا دخلوا وقعوا سُجُودا (4) فسمعوه وهو يكلم موسى، يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل. فلما فرغ إليه من أمره، انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فأخذتهم الرجفة -وهي الصاعقة -فافتُلتَت (5) أرواحهم، فماتوا جميعا. فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول: { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ } قد سفهوا، أفنهلك من ورائي من بني إسرائيل.
وقال سفيان الثوري: حدثني أبو إسحاق، عن عمارة بن عبد السَّلُولي، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: انطلق موسى وهارون وشبر وشبير، فانطلقوا إلى سفح جَبَل، فنام (6) هارون على سرير، فتوفاه الله، عز وجل. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له: أين هارون؟ قال: توفاه الله، عز وجل. قالوا [له] (7) أنت قتلته، حَسَدتنا على خُلقه ولينه -أو كلمة نحوها -قال: فاختاروا من شئتم. قال: فاختاروا سبعين رجلا. قال: فذلك قوله تعالى: { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا } فلما انتهوا إليه قالوا: يا هارون، من قتلك؟ قال: ما قتلني أحد، ولكن توفاني الله. قالوا: يا موسى، لن تعصى بعد اليوم. قال: فأخذتهم الرجفة. قال: فجعل موسى، عليه السلام، يرجع يمينًا وشمالا وقال: يا { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ } قال: فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلهم.
هذا أثر غريب جدا، وعمارة بن عبد (8) هذا لا أعرفه. وقد رواه شعبة، عن أبي إسحاق عن رجل من بني سلول عن علي، فذكره (9)
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جُرَيْج: إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم العجل، ولا نهوهم، ويتوجه هذا القول بقول موسى: { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا }
__________
(1) في أ: "أتيتهم".
(2) زيادة من أ.
(3) في ك: "كلم".
(4) في أ: "سجدا".
(5) في أ: "فالتقت".
(6) في أ: "فقام".
(7) زيادة من ك.
(8) في ك: "عبيد".
(9) تفسير الطبري (13/142) وفي إسناده عمارة بن عبد السلولي. قال الذهبي في ميزان الاعتدال: "عمارة بن عبد، عن علي، مجهول لا يحتج به. قاله أبو حاتم. وقال أحمد: مستقيم الحديث لا يروى عنه غير أبي إسحاق".

وقوله: { إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ } أي: ابتلاؤك واختبارك وامتحانك. قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبو العالية، وربيع بن أنس، وغير واحد من علماء السلف والخلف. ولا معنى له غير ذلك؛ يقول: إن الأمرُ إلا أمرُك، وإن الحكمُ إلا لك، فما شئت كان، تضل من تشاء، وتهدي من تشاء، ولا هادي لمن أضللت، ولا مُضِل لمن هَدَيت، ولا مُعطِي لما مَنَعت، ولا مانع لما أعطيت، فالملك كله لك، والحكم كله لك، لك الخلق والأمر.
وقوله: { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } الغَفْر هو: الستر، وترك المؤاخذة بالذنب، والرحمة إذا قرنت مع الغفر، يراد بها ألا يوقعه في مثله في المستقبل، { وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } أي: لا يغفر الذنوب إلا أنت، { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ } هناك الفصل الأول من الدعاء دفع المحذور، وهذا لتحصيل المقصود { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ } أي: أوجب لنا وأثبت لنا فيهما حسنة، وقد تقدم [تفسير] (1) ذلك في سورة البقرة. [الآية:201]
{ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } أي: تبنا ورجعنا وأنبنا إليك. قاله ابن عباس، وسعيد بن جُبَير، ومجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وإبراهيم التيمي، والسُّدِّي، وقتادة، وغير واحد. وهو كذلك لُغَة.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبي، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن نُجيَّ (2) عن علي [رضي الله عنه] (3) قال: إنما سميت اليهود لأنهم قالوا: { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ }
جابر -هو ابن يزيد الجُعْفي -ضعيف.
قال تعالى مجيبا لموسى في قوله: { إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ [ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ ] } (4) الآية: { عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ] } (5) أي: أفعل ما أشاء، وأحكم ما أريد، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك، سبحانه لا إله إلا هو.
وقوله تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } آية عظيمة الشمول والعموم، كقوله إخبارًا عن حَمَلة العرش ومن حوله أنهم يقولون: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [غافر:7]
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا الجُرَيري، عن أبي عبد الله الجُشَمي، حدثنا جُنْدُب -هو ابن عبد الله البَجَلي، رضي الله عنه -قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عَقَلها ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلق عقالها، ثم ركبها، ثم نادى: اللهم، ارحمني ومحمدًا، ولا تشرك في رحمتنا أحدًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتقولون هذا أضل أم بعيره؟ ألم تسمعوا ما قال؟" قالوا: بلى. قال: "لقد حَظَرْت (6) رحمةً واسعة؛ إن الله، عز
__________
(1) زيادة من ك، م، أ.
(2) في أ: "يحيى".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من ك، م، أ.
(5) زيادة من م.
(6) في د: "حجرت".

وجل، خلق مائة رحمة، فأنزل رحمة واحدة يتعاطف بها الخلق؛ جنّها وإنسها وبهائمها، وأخَّرَ عنده تسعًا وتسعين (1) رحمة، أتقولون هو أضل أم بعيره؟ " .
رواه أبو داود عن علي بن نصر، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، به (2)
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا يحيى بن سعيد عن سليمان، عن أبي عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله عز وجل، مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحمُ بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعًا وتسعين إلى يوم القيامة".
تفرد (3) بإخراجه مسلم، فرواه من حديث سُلَيمان -هو ابن طِرْخان -وداود بن أبي هند كلاهما، عن أبي عثمان -واسمه عبد الرحمن بن مل (4) -عن سلمان، هو الفارسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، به (5)
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، عن عاصم بن بَهْدَلَة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة؛ أن النبي (6) صلى الله عليه وسلم قال: "لله مائة رحمة، عنده تسعة وتسعون، وجعل عندكم واحدة تتراحمون بها بين (7) الجن والإنس وبين الخلق، فإذا كان يوم القيامة ضمها إليه". تفرد به أحمد من هذا الوجه (8)
وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله مائة رحمة، فقسم منها جزءًا واحدًا بين الخلق، فيه يتراحم الناس والوحش والطير".
ورواه ابن ماجه من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، به (9)
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا سعد أبو غَيْلان الشيباني، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن صلة بن زُفَر، عن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، ليدخلن الجنة الفاجرُ في دينه، الأحمق في معيشته. والذي نفسي بيده، ليدخلن الجنة الذي قد مَحَشته النار بذنبه. والذي نفسي بيده، ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه".
هذا حديث غريب (10) جدا، "وسعد" هذا لا أعرفه (11)
وقوله: { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الآية، يعني: فسأوجب حُصُول رحمتي مِنَّةً مني وإحسانا إليهم، كما قال تعالى: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [الأنعام:54]
__________
(1) في ك، م: "تسعا وتسعون"، وفي أ: "تسع وتسعون".
(2) المسند (4/312) وسنن أبي داود برقم (4885).
(3) في ك، م، أ: "انفرد".
(4) في أ: "بن مثل".
(5) المسند (5/439) وصحيح مسلم برقم (2753).
(6) في ك، أ: "عن النبي"، وفي م: "عن رسول الله".
(7) في أ: "من".
(8) المسند (3/55).
(9) المسند (3/55)، وسنن ابن ماجة برقم (4294).
(10) في أ: "هذا الأثر".
(11) المعجم الكبير (3/168) وقال الهيثمي في المجمع (10/216): "سعيد بن طالب أبو غيلان وثقه أبو زرعة وابن حبان، وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات".

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

وقوله: { لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي: سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يتقون، أي: الشرك والعظائم من الذنوب.
{ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } قيل: زكاة النفوس. وقيل: [زكاة] (1) الأموال. ويحتمل أن تكون عامة لهما؛ فإن الآية مكية { وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } أي: يصدقون.
{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) }
{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } وهذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء بشروا أممهم ببعثه (2) وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم كما قال الإمام أحمد:
حدثنا إسماعيل، عن الجُرَيري، عن أبي صخر العقيلي، حدثني رجل من الأعراب، قال: جلبت جَلُوبَةً إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغت من بيعتي (3) قلت: لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه، قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعتهم في أقفائهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرًا التوراة يقرؤها، يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجد (4) في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟" فقال برأسه هكذا، أي: لا. فقال ابنه، إي: والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومَخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك (5) رسول الله فقال: "أقيموا اليهودي عن أخيكم". ثم ولى كفنه (6) والصلاة عليه (7)
هذا حديث جيد قوي له شاهد في الصحيح، عن أنس.
وقال الحاكم صاحب المستدرك: أخبرنا أبو محمد -عبد الله بن إسحاق البغوي، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي (8) حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن إدريس، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن شُرَحْبِيل بن مسلم، عن أبي أمامة الباهلي، عن هشام بن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة -يعني غوطة دمشق -فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني، فدخلنا عليه، فإذا هو على سرير له، فأرسل إلينا برسوله نكلمه، فقلنا: والله لا نكلم رسولا إنما بعثنا إلى الملك، فإن أذن لنا كلمناه (9) وإلا لم نكلم
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ك، م، أ: "ببعثته".
(3) في د: "بيعي".
(4) في أ: "هل تجدني".
(5) في ك: "وأشهد أنك".
(6) في ك، م، أ: "ثم ولى كفنه وحنطه".
(7) المسند (5/411).
(8) في أ: "البكري".
(9) في د: "تكلمنا".

الرسول (1) فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك، قال: فأذن لنا فقال: تكلموا (2) فكلّمه هشام بن العاص، ودعاه إلى الإسلام، فإذا عليه ثيابُ سوادٍ (3) فقال له هشام: وما هذه التي عليك؟ فقال: لبستها وحلفت ألا أنزعها حتى أخرجكم من الشام. قلنا: ومجلسك هذا، والله (4) لنأخذنه منك، ولنأخذن ملك الملك الأعظم، إن شاء الله، أخبرنا بذلك نبينا (5) صلى الله عليه وسلم. قال: لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار، ويقومون بالليل، فكيف صومكم؟ فأخبرناه، فمُلئ وجهه سوادًا فقال: قوموا. وبعث معنا رسولا إلى الملك، فخرجنا، حتى إذا كنا قريبًا من المدينة، قال لنا الذي معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال؟ قلنا: والله لا ندخل إلا عليها، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك. فدخلنا على رواحلنا متقلدين سيوفنا، حتى انتهينا إلى غرفة (6) فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا الله، والله أكبر فالله يعلم لقد تَنَفَّضَت الغرفة حتى صارت كأنها عِذْق تصَفّقه الرياح، فأرسل (7) إلينا: ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم. وأرسل إلينا: أن ادخلوا فدخلنا عليه وهو على فراش له، وعنده بطارقته من الروم، وكل شيء في مجلسه أحمر، وما حوله حمرة، وعليه ثياب من الحمرة، فدنونا منه فضحك، فقال: ما كان عليكم لو حييتموني بتحيتكم فيما بينكم؟ وإذا عنده رجل فصيح بالعربية، كثير الكلام، فقلنا: إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تُحيى بها لا تحل (8) لنا أن نحييك بها. قال: كيف تحيتكم فيما بينكم؟ قلنا: السلام عليك. قال: وكيف تحيون ملككم؟ قلنا: بها. قال: وكيف يرد عليكم؟ قلنا: بها. قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله إلا الله، والله أكبر فلما تكلمنا بها والله يعلم -لقد تَنَفَّضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها، قال: فهذه الكلمة التي قلتموها حيث تنفضت الغرفة، كلما قلتموها في بيوتكم تنفضت عليكم غرفكم؟ قلنا: لا ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك. قال: لوددت أنكم كلما قلتم تَنَفَّضَ كل شيء عليكم. وإني خرجت (9) من نصف ملكي. قلنا: لم؟ قال: لأنه كان أيسر لشأنها، وأجدر ألا تكون من أمر النبوة، وأنها (10) تكون من حيل الناس. ثم سألنا عما أراد فأخبرناه. ثم قال: كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه، فقال: قوموا فقمنا. فأمر لنا بمنزل حسن ونزل كَثير، فأقمنا ثلاثًا.
فأرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا، فأعدناه. ثم دعا بشيء كهيئة الرَّبْعَةِ العظيمة مذهبة، فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح بيتا وقفلا فاستخرج حريرة سوداء، فنشرها، فإذا فيها صورة حمراء، وإذا فيها رجل ضخم العينين. عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله. قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا آدم، عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس شعرًا.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، وإذا له شعر كشعر القطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن اللحية، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا
__________
(1) في ك: "الرسل".
(2) في ك: "فتكلموا".
(3) في أ: "سود".
(4) في د، ك، م: "فوالله".
(5) في أ: "نبينا محمد".
(6) في أ: "غرفة له".
(7) في د: "قال فأرسل".
(8) في د، م: "لا يحل".
(9) في د. "وأني قد خرجت".
(10) في ك، م: "أن".

نوح، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج (1) حريرة سوداء، وإذا فيها رجل شديد البياض، حسن العينين، صَلْت الجبين، طويل الخد، أبيض اللحية كأنه يبتسم، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا إبراهيم، عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر (2) فإذا فيه صورة بيضاء، وإذا -والله -رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (3) أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وبكينا. قال: والله يعلم أنه قام قائما ثم جلس، وقال: والله إنه لهو؟ قلنا: نعم، إنه لهو، كأنك تنظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إليها، ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت، ولكني عَجَّلته لكم لأنظر ما عندكم.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فإذا فيها صورة أدماء سحماء (4) وإذا رجل جعد قطط، غائر العينين، حديد النظر، عابس متراكب الأسنان، مقلَّص (5) الشفة كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا موسى (6) عليه السلام. وإلى جانبه صورة تشبهه، إلا أنه مُدْهَان الرأس، عريض الجبين، في عينيه قبل، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا هارون بن عمران، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل آدم سَبْط رَبْعَة، كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا لوط، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أبيض مُشْرَب حُمرة، أقنى، خفيف العارضين، حسن الوجه فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال هذا إسحاق، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج (7) حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة تشبه إسحاق، إلا أنه على شفته خال، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. [قال] (8) هذا يعقوب، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة رجل أبيض، حسن الوجه، أقنى الأنف، حسن القامة، يعلو وجهه نور، يعرف في وجهه الخشوع، يضرب إلى الحمرة، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا إسماعيل جد نبيكم، عليهما السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج (9) حريرة بيضاء، فيها صورة كأنها آدم، عليه السلام، كأن وجهه الشمس، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا يوسف، عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر فاستخرج (10) حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أحمر حَمْش الساقين، أخفش العينين ضخم البطن، رَبْعة متقلد سيفا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا داود، عليه السلام.
__________
(1) في د، ك، أ: "فاستخرج منه".
(2) في أ: "آخر فاستخرج منه حريرة سوداء".
(3) في د، م: "قال".
(4) في أ: "جسماء".
(5) في د: "مفلطس".
(6) في م: "موسى بن عمران".
(7) في د، ك، أ: "فاستخرج منه".
(8) زيادة من أ.
(9) في ك، م، أ: "فاستخرج منه".
(10) في ك، م، أ: "فاستخرج منه".

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج (1) حريرة بيضاء، فيها صورة رجل ضخم الأليتين، طويل الرجلين، راكب فرسًا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا سليمان بن داود، عليه (2) السلام.
ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة بيضاء، وإذا شابٌّ (3) شديد سواد اللحية، كثير الشعر، حسن العينين، حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا عيسى ابن مريم، عليه السلام.
قلنا: من أين لك هذه الصور؟ لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء، عليهم السلام، لأنا رأينا صورة نبينا عليه السلام مثله. فقال: إن آدم، عليه السلام، سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، فكان في خزانة آدم، عليه السلام، عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال. ثم قال: أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وإني كنت عبدًا لأشركم ملكه، حتى أموت. ثم أجازنا فأحسن جائزتنا، وسرحنا، فلما أتينا أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، فحدثناه بما أرانا، وبما قال لنا، وما أجازنا، قال: فبكى أبو بكر وقال: مسكين! لو أراد الله به خيرًا لفعل. ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم عندهم.
هكذا أورده الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي، رحمه الله، في كتاب "دلائل النبوة"، عن الحاكم إجازة، فذكره (4) وإسناده لا بأس به.
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا عثمان بن عُمَر، حدثنا فُلَيْح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل والله، إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله ويفتح به قلوبا غُلفا، وآذانًا صمًا، وأعينًا عميًا" قال عطاء: ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك، فما اختلف حرفا، إلا أن كعبا قال بلغته، قال: "قلوبًا غُلوفيًا وآذانًا صموميًا وأعينًا عموميًا".
وقد رواه البخاري في صحيحه، عن محمد بن سِنَان، عن فُلَيْح، عن هلال بن علي -فذكر بإسناده نحوه (5) وزاد بعد قوله: "ليس بفظ ولا غليظ": "ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح".
ويقع في كلام كثير من السلف إطلاق "التوراة" على كتب أهل الكتاب. وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا، والله أعلم.
__________
(1) في ك، م، أ: "فاستخرج منه".
(2) في أ: "عليهما".
(3) في د: "وإذا رجل شاب".
(4) دلائل النبوة (1/385).
(5) تفسير الطبري (13/164) وصحيح البخاري برقم (2125).

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا موسى بن هارون، حدثنا محمد بن إدريس ورَّاق الحميدي (1) حدثنا محمد بن عمر بن إبراهيم -من ولد جبير بن مطعم -قال: حدثتني أم عثمان بنت سعيد -وهي جدتي -عن أبيها سعيد بن محمد بن جبير، عن أبيه محمد بن جبير، عن أبيه جبير بن مطعم، قال: خرجت تاجرًا إلى الشام، فلما كنت بأدنى الشام، لقيني رجل من أهل الكتاب، فقال: هل عندكم رجل نبيًا؟ قلت: نعم. قال: هل تعرف صورته إذا رأيتها؟ قلت: نعم. فأدخلني بيتا فيه صور، فلم أر صورة النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا كذلك إذ دخل رجل منهم علينا، فقال: فيم أنتم؟ فأخبرناه، فذهب بنا إلى منزله، فساعة ما دخلت نظرت إلى صورة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رجل آخذ بعقب النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: من هذا الرجل القابض على عقبه؟ قال: إنه لم يكن نبي إلا كان بعده نبي إلا هذا النبي، فإنه لا نبي بعده، وهذا الخليفة بعده، وإذا صفة أبي بكر، رضي الله عنه (2)
وقال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير (3) حدثنا حماد بن سلمة أن سعيد بن إياس الجريري أخبرهم، عن عبد الله بن شقيق العقيلي، عن الأقرع مؤذن عمر بن الخطاب قال: بعثني عمر إلى الأسقف، فدعوته، فقال له عمر: هل تجدني في الكتاب؟ قال: نعم. قال: كيف تجدني؟ قال: أجدك قَرْنا. قال: فرفع عمر الدرة وقال (4) قرن مه؟ قال: قرن حديد، أمير شديد. قال: فكيف تجد الذي بعدي؟ قال: أجد خليفة صالحا، غير أنه يؤثر قرابته قال عمر: يرحم الله عثمان، ثلاثا. قال: كيف تجد الذي بعده؟ قال: أجد صدأ حديد. قال: فوضع عمر يده على رأسه وقال: يا دفراه، يا دَفْراه! قال: يا أمير المؤمنين، إنه خليفة صالح، ولكنه يُستخلف حين يُستخلف والسيف مسلول، والدم مهراق (5)
وقوله تعالى { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } هذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم (6) في الكتب المتقدمة، وهكذا كان (7) حاله، عليه الصلاة والسلام، لا يأمر إلا بخير، ولا ينهى إلا عن شر، كما قال عبد الله بن مسعود: إذا سمعت الله يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فَأرْعها سمعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. ومن أهم ذلك وأعظمه، ما بعثه الله [تعالى] (8) به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة من سواه، كما أرسل به جميع الرسل قبله، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل:36] وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر -هو العقدي عبد الملك بن عمرو -حدثنا سليمان -هو ابن بلال -عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عبد الملك بن سعيد، عن أبي حميد وأبي أسيد، رضي
__________
(1) في هـ: "محمد بن إدرس بن الحميدي"، وفي بقية النسخ: "محمد بن إدريس بن وراق بن الحميدي" والمثبت من الجرح والتعدل 213/204 مستفاد من هامش ط. الشعب.
(2) المعجم الكبير (2/125) ورواه أيضا في الأوسط برقم (3496) "مجمع البحرين" وقال: "لا يروى عن جبير إلا بهذا الإسناد، تفرد به محمد بن إدريس". قال الهيثمي في المجمع (8/233): "فيه من لم أعرفهم".
(3) في جميع النسخ: "عمر بن حفص أبو عمر الضرير"، والمثبت من سنن أبي داود.
(4) في أ: "فقال".
(5) سنن أبي داود برقم (4656)، "والدفر: النتن".
(6) في م: "صلوات الله وسلامه عليه".
(7) في ك، م، أ: "كانت".
(8) زيادة من م.

الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به. وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه" (1)
هذا [حديث] (2) جيد الإسناد، لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب [الستة] (3)
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي، رضي الله عنه، قال: إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، فظنوا به الذي هو أهدى، والذي هو أهنا، [والذي هو أنجي] (4) والذي هو أتقى (5) (6)
ثم رواه عن يحيى عن بن سعيد، عن مسعر، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي عبد الرحمن، عن علي، رضي الله عنه، قال: إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، فظنوا به الذي هو أهداه وأهناه وأتقاه (7)
وقوله: { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } أي: يحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر، والسوائب، والوصائل، والحام، ونحو ذلك، مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم، ويحرم عليهم الخبائث.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: كلحم الخنزير والربا، وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى.
وقال بعض العلماء: كل ما أحل الله تعالى، فهو طيب نافع في البدن والدين، وكل ما حرمه، فهو خبيث ضار في البدن والدين.
وقد تمسك بهذه الآية الكريمة من يرى التحسين والتقبيح العقليين، وأجيب عن ذلك بما لا يتسع هذا الموضع له.
وكذا احتج بها من ذهب من العلماء إلى أن المرجع في حل المآكل التي لم ينص على تحليلها ولا تحريمها، إلى ما استطابته العرب في حال رفاهيتها، وكذا في جانب التحريم إلى ما استخبثته. وفيه (8) كلام طويل أيضا.
وقوله: { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } أي: إنه جاء بالتيسير والسماحة، كما ورد الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت بالحنيفية السمحة". وقال لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري، لما (9) بعثهما إلى اليمن: "بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا". وقال صاحبه أبو برزة الأسلمي: إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت تيسيره.
__________
(1) المسند من حديث أبي أسيد (3/497) ومن حديث أبي حميد (5/425).
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في أ: "أبقى".
(6) المسند (1/122).
(7) المسند (1/130).
(8) في م: "وفي ذلك".
(9) في أ: "حين".

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)

وقد كانت الأمم الذين (1) كانوا قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم، فوسع الله على هذه الأمة أمورها، وسهلها لهم؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تقل أو تعمل" (2) وقال: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (3) ؛ ولهذا قد أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا: { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [البقرة:286] وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى قال بعد كل سؤال من هذه: قد فعلت، قد فعلت (4)
وقوله: { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ } أي: عظموه ووقروه، { وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزلَ مَعَهُ } أي: القرآن والوحي الذي جاء به مبلغًا إلى الناس، { أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي: في الدنيا والآخرة.
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) }
يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم { قُلْ } يا محمد: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } وهذا خطاب للأحمر والأسود، والعربي والعجمي، { إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } أي: جميعكم، وهذا من شرفه وعظمته أنه خاتم النبيين، وأنه مبعوث إلى الناس كافة، كما قال تعالى: { قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام:19] وقال تعالى: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [هود:17] وقال تعالى: { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ } [آل عمران:20] والآيات في هذا كثيرة، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه، صلوات الله وسلامه عليه، رسول الله إلى الناس كلهم.
قال البخاري، رحمه الله، في تفسير هذه الآية: حدثنا عبد الله، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن وموسى بن هارون قالا حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الله بن العلاء بن زَبْر (5) حدثني بسر (6) ابن عبيد الله، حدثني أبو إدريس الخولاني قال: سمعت أبا الدرداء، رضي الله عنه، يقول: كانت بين أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، محاورة، فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عمر عنه مغضبا، فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -فقال أبو الدرداء: ونحن عنده -فقال (7) رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما صاحبكم هذا فقد غامر" -أي:
__________
(1) في ك: "التي".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (5269) ومسلم في صحيحه برقم (127) من حديث أبي هريرة.
(3) رواه ابن ماجة في السنن برقم (2045) من حديث أبي ذر، رضي الله عنه، وقد سبق تخريجه وذكر شواهده.
(4) صحيح مسلم برقم (126) من حديث ابن عباس، رضي الله عنه.
(5) في أ: "زيد".
(6) في أ: "بشر".
(7) في ك، م، أ: "قال".

غاضب وحاقد -قال: وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر -قال أبو الدرداء: وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل أبو بكر يقول: والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ إني قلت: يأيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعا، فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدقت". انفرد به البخاري (1)
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس [رضي الله عنه] (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي -ولا أقوله فخرًا: بعثت إلى الناس كافة: الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئا" (3) إسناده جيد، ولم يخرجوه.
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا بكر بن مضر، عن أبي الهاد، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك، قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه (4) يحرسونه، حتى إذا صلى انصرف إليهم فقال لهم: "لقد أعطيت الليلة خمسًا ما أعطيهن أحد قبلي، أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة (5) وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ مني رعبا، وأحلت لي الغنائم آكلها (6) وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مساجد (7) وطهورًا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم، والخامسة هي ما هي، قيل لي: سل؛ فإن كل نبي قد سأل. فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله" (8) إسناد جيد قوي أيضا ولم يخرجوه.
وقال أيضا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، عن رسول الله (9) صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني، فلم يؤمن بي، لم يدخل الجنة" (10)
وهذا الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي رجل (11) من هذه الأمة: يهودي ولا (12) نصراني، ثم لا يؤمن (13) بي إلا دخل النار" (14)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4640).
(2) زيادة من أ.
(3) المسند (1/301) قال الهيثمي في المجمع (8/258): "رجال أحمد رجال الصحيح غير يزيد بن أبي زياد وهو حسن الحديث".
(4) في أ: "من الأنصار".
(5) في ك: "كافة".
(6) في أ: "كلها".
(7) في ك: "مسجدا".
(8) المسند (2/222).
(9) في م: "عن النبي".
(10) المسند (4/496).
(11) في م: "أحد".
(12) في م: "أو".
(13) في م: "ثم يموت ولا يؤمن".
(14) هذا لفظ حديث أبي هريرة وقد رواه مسلم في صحيحه برقم (153) وحديث أبي موسى الأشعري بهذا اللفظ رواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11241).

وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)

وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس -وهو سليم بن جبير -عن أبي هريرة، عن رسول الله (1) صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي أو نصراني، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار" . تفرد به أحمد (2)
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بُرْدَة، عن أبي موسى، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسًا: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل (3) لمن كان قبلي، ونصرت بالرعب شهرًا (4) وأعطيت الشفاعة -وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة، وإني قد اختبأت شفاعتي، ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك بالله شيئا" (5)
وهذا أيضا إسناد صحيح، ولم أرهم خرجوه، والله أعلم، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين أيضا، من حديث (6) جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي [صلى الله عليه وسلم] (7) يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة" (8)
وقوله: { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ } صفة الله تعالى، في قوله (9) { رَسُولُ اللَّهِ } أي: الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه، الذي بيده الملك والإحياء والإماتة، وله الحكم.
وقوله: { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ } أخبرهم أنه رسول الله إليهم، ثم أمرهم باتباعه والإيمان به، { النَّبِيِّ الأمِّيِّ } أي: الذي وعدتم به وبشرتم به في الكتب المتقدمة، فإنه منعوت بذلك في كتبهم؛ ولهذا قال: { النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ } أي: يصدق قوله عمله، وهو يؤمن بما أنزل إليه من ربه { وَاتَّبِعُوهُ } أي: اسلكوا طريقه واقتفوا أثره، { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي: إلى الصراط المستقيم.
{ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) }
يقول تعالى مخبرًا عن بني إسرائيل أن منهم طائفة يتبعون الحق ويعدلون به، كما قال تعالى: { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [آل عمران:113]، وقال تعالى: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [آل عمران:199]، وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [ وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ] (10) } [القصص:52-54] ،
__________
(1) في ك: "عن النبي".
(2) المسند (2/350).
(3) في أ: "ولم تحل لأحد".
(4) في ك: "مسيرة شهر".
(5) المسند (4/416) وقال الهيثمي في المجمع (8/258): "رجاله رجال الصحيح".
(6) في ك، م، أ: "رواية".
(7) زيادة من أ.
(8) صحيح البخاري برقم (335) وصحيح مسلم برقم (521).
(9) في ك: "قول".
(10) زيادة من م، وفي هـ: "الآية".

وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } الآية [البقرة:121]، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [الإسراء:107-109]
وقد ذكر ابن جرير في تفسيرها خبرًا عجيبًا، فقال: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله: { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } قال: بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم، وكفروا -وكانوا اثني عشر سبطا -تبرأ سبط منهم مما صنعوا، واعتذروا، وسألوا الله، عز وجل، أن يفرق بينهم وبينهم، ففتح الله لهم نفقا في الأرض، فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين، فهم هنالك حنفاء مسلمين يستقبلون قبلتنا. قال ابن جريج: قال ابن عباس: فذلك قوله: { وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } [الإسراء:104] و"وعد الآخرة": عيسى ابن مريم (1) -قال ابن جريج: قال ابن عباس: ساروا في السرب سنة ونصفًا.
وقال ابن عيينة، عن صدقة أبي الهذيل، عن السُّدِّي: { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } قال: قوم بينكم وبينهم نهر من شُهْد (2)
__________
(1) تفسير الطبري (13/173).
(2) في أ: "سهل".

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)

{ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) }
تقدم تفسير هذا كله في سورة "البقرة"، وهي مدنية، وهذا السياق مكي، ونبهنا على الفرق بين هذا السياق وذاك بما أغنى عن إعادته، ولله الحمد والمنة (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية: 60 .

وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)

{ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) }
هذا السياق هو بسط لقوله تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة:65] يقول [الله] (1) تعالى، لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: { وَاسْأَلْهُمْ } أي: واسأل هؤلاء اليهود الذين بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله، ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم؛ لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم. وهذه القرية هي "أيلة" وهي على شاطئ بحر القلزم.
قال محمد بن إسحاق: عن داود بن الحُصَين، عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ } قال: هي قرية يقال لها "أيلة" بين مدين والطور. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وقتادة، والسُّدِّي.
وقال عبد الله بن كثير القارئ، سمعنا أنها أيلة. وقيل: هي مدين، وهو رواية عن ابن عباس وقال ابن زيد: هي قرية يقال لها. "مقنا" بين مدين وعَيدُوني.
وقوله: { إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ } أي: يعتدون فيه ويخالفون أمر الله فيه لهم بالوصاة به إذ ذاك. { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا } قال الضحاك، عن ابن عباس: أي ظاهرة على الماء.
وقال العوفي، عن ابن عباس: { شُرَّعًا } من كل مكان.
قال ابن جرير: وقوله: { وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ } أي: نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائه (2) عنهم في اليوم المحلل لهم صيده { كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ } نختبرهم { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } يقول: بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها.
وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله، بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام.
وقد قال الفقيه الإمام أبو عبد الله بن بطة، رحمه الله: حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت (3) اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" (4)
وهذا إسناد جيد، فإن أحمد بن محمد بن مسلم هذا (5) ذكره الخطيب في تاريخه (6) ووثقه، وباقي رجاله مشهورون ثقات، ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد كثيرًا.
__________
(1) زيادة من م.
(2) في ك، م، أ: "إخفائها".
(3) في أ: "ارتكب".
(4) جزء في الخلع وإبطال الحيل لابن بطة (42).
(5) في م: "هكذا".
(6) في تاريخ بغداد (5/98، 99) أحمد بن محمد بن مسلم البغدادي ولكن لم يتكلم عليه الخطيب ولم يوثق.

وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)

{ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) }
يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة (1) ارتكبت المحذور، واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، كما تقدم بيانه في سورة البقرة. وفرقة نهت عن ذلك، [وأنكرت] (2) واعتزلتهم. وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكرة: { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا } ؟ أي: لم تنهون هؤلاء، وقد علمتم أنهم هلكوا واستحقوا العقوبة من الله؟ فلا فائدة في نهيكم إياهم. قالت لهم المنكرة: { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } قرأ بعضهم بالرفع، كأنه على تقديره: هذا معذرة وقرأ آخرون بالنصب، أي: نفعل ذلك { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } أي: فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } يقولون: ولعل بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم.
قال تعالى: { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } أي: فلما أبى الفاعلون المنكر قبول النصيحة، { أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي: ارتكبوا المعصية { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين، وسكت عن الساكتين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا، ولا ارتكبوا عظيما فيذموا، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم: هل كانوا من الهالكين أو من الناجين؟ على قولين:
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا } [قال:] (3) هي قرية على شاطئ البحر بين مصر والمدينة، يقال لها: "أيلة"، فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم، وكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعًا في ساحل البحر، فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها. فمضى على ذلك ما شاء الله، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم، فنهتهم طائفة وقالوا: تأخذونها وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم؟ فلم يزدادوا إلا غيًا وعتوًا، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم، فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة: تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب، { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ [ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ] } (4) وكانوا أشد غضبا لله من الطائفة الأخرى؟ فقالوا: { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } وكل قد كانوا ينهون ، فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا: { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ } والذين قالوا: { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان، فجعلهم قردة.
وروى العوفي، عن ابن عباس قريبًا من هذا.
وقال حماد بن زيد، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا }
__________
(1) في ك، م، أ: "ففرقة".
(2) زيادة من ك، م، أ.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.

قال: ما أدري أنجا الذين قالوا: "أتعظون قوما الله مهلكهم"، أم لا ؟ قال: فلم أزل به حتى عرَّفته أنهم نجوا، فكساني حلة.
قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جُرَيْج، حدثني رجل، عن عكرمة قال: جئت ابن عباس يوما وهو يبكي، وإذا (1) المصحف في حجره، فأعظمت أن أدنو، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست، فقلت: ما يبكيك يا أبا عباس، جعلني الله فداك؟ قال: فقال: هؤلاء الورقات. قال: وإذا هو في "سورة الأعراف"، قال: تعرف (2) أيلة قلت: نعم. قال: فإنه كان بها حي من يهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت، ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كد ومؤنة شديدة، كانت تأتيهم يوم السبت شرعا بيضًا سمانًا كأنها الماخض، تتبطح (3) ظهورها لبطونها بأفنيتهم. فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال: إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت، فخذوها فيه، وكلوها في غيره من الأيام. فقالت ذلك طائفة منهم، وقالت طائفة: بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت. فكانوا كذلك، حتى جاءت الجمعة المقبلة، فغدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها، واعتزلت طائفة ذات اليمين، وتنحت واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت. وقال الأيمنون: ويلكم، الله، الله ننهاكم أن (4) تتعرضوا لعقوبة الله. وقال الأيسرون: { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا } ؟ قال الأيمنون: { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } إن ينتهوا فهو أحب إلينا ألا يصابوا ولا يهلكوا، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم. فمضوا على الخطيئة، وقال الأيمنون: فقد (5) فعلتم، يا أعداء الله. والله لا نبايتكم (6) الليلة في مدينتكم، والله ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب. فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا، فلم يجابوا، فوضعوا سلما، وأعلوا سور المدينة رجلا فالتفت إليهم فقال: أي عباد الله، قردة والله تعاوي لها أذناب. قال: ففتحوا فدخلوا عليهم، فعرفت القرود أنسابها (7) من الإنس، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة، فجعلت القرود يأتيها نسيبها (8) من الإنس فتشم ثيابه وتبكي، فتقول: ألم ننهكم عن كذا؟ فتقول برأسها، أي نعم. ثم قرأ (9) ابن عباس: { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } قال: فأرى الذين نهوا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها؟. قال: قلت: جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه، وخالفوهم وقالوا: { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ } ؟ قال: فأمر لي فكسيت ثوبين غليظين (10)
وكذا روى مجاهد، عنه.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس، أخبرنا أشهب بن عبد العزيز، عن مالك، قال: زعم ابن رومان
__________
(1) في أ: "إن".
(2) في أ: "قال هل تعرف".
(3) في م: "حتى تنبطح".
(4) في أ: "الله، الله ينهاكم عن ذلك ولا".
(5) في أ: "قد".
(6) في م: "لنأتينكم".
(7) في م: "أنسابهم" .
(8) في أ: "تأت نسبها".
(9) في أ: "ثم فسر".
(10) تفسير عبد الرزاق (1/226).

أن قوله تعالى: { تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ } قال: كانت تأتيهم يوم السبت، فإذا كان المساء ذهبت، فلا يرى منها شيء إلى يوم السبت الآخر، فاتخذ -لذلك -رجل خيطًا ووتدًا، فربط حوتا منها في الماء يوم السبت، حتى إذا أمسوا ليلة الأحد، أخذه فاشتواه، فوجد الناس ريحه، فأتوه فسألوه عن ذلك، فجحدهم، فلم يزالوا به حتى قال لهم: "فإنه جلد حوت وجدناه". فلما كان السبت (1) الآخر فعل مثل ذلك -ولا أدري لعله قال: ربط حوتين -فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه، فوجدوا رائحة، فجاءوا (2) فسألوه (3) فقال لهم: لو شئتم صنعتم كما أصنع. فقالوا له: وما صنعت؟ فأخبرهم، ففعلوا مثل ما فعل، حتى كثر ذلك. وكانت لهم مدينة لها ربض يغلقونها عليهم، فأصابهم من المسخ ما أصابهم. فغدوا (4) عليهم جيرانهم مما كانوا (5) حولهم، يطلبون منهم ما يطلب الناس، فوجدوا المدينة مغلقة عليهم، فنادوا فلم يجيبوهم، فتسوروا عليهم، فإذا هم قردة، فجعل القرد يدنو يتمسح بمن كان يعرف قبل ذلك، ويدنو منه ويتمسح به (6)
وقد قدمنا في سورة "البقرة" (7) من الآثار في خبر هذه القرية ما فيه مقنع وكفاية، ولله الحمد والمنة.
القول الثاني: أن الساكتين كانوا من الهالكين.
قال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أنه قال: ابتدعوا السبت فابتلوا فيه، فحرمت عليهم فيه الحيتان، فكانوا إذا كان يوم السبت، شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر. فإذا انقضى السبت، ذهبت فلم تر حتى السبت المقبل، فإذا جاء السبت جاءت شرعا، فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك، ثم إن رجلا منهم أخذ حوتًا فخزم أنفه ثم، ضرب له وتدًا في الساحل، وربطه وتركه في الماء. فلما كان الغد، أخذه فشواه فأكله، ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون، ولا ينهاه منهم أحد، إلا عصبة منهم نهوه، حتى ظهر ذلك في الأسواق، ففعل علانية. قال : فقالت طائفة للذين ينهونهم: { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } فقالوا: سخط أعمالهم { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } إلى قوله: { قِرَدَةً خَاسِئِينَ } قال ابن عباس: كانوا أثلاثًا: ثلث نهوا، وثلث قالوا: { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ } وثلث أصحاب الخطيئة، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم.
وهذا إسناد جيد عن ابن عباس، ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين، أولى من القول بهذا؛ لأنه تبين حالهم بعد ذلك، والله أعلم.
وقوله تعالى: { وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } فيه دلالة بالمفهوم على أن الذين بقوا نجوا.
و { بَئِيسٍ } فيه قراءات كثيرة، ومعناه في قول مجاهد: "الشديد"، وفي رواية: "أليم". وقال قتادة: موجع. والكل متقارب، والله أعلم.
__________
(1) في م: "فلما كان يوم السبت".
(2) في م: "فأتوه".
(3) في م: "فسألوه عن ذلك فجحدهم".
(4) في م: "فعدا".
(5) في ك، م: "ممن كان".
(6) تفسير الطبري (13/193).
(7) سورة البقرة الآية: 60 .

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)

وقوله: { خاسئين } أي: ذليلين حقيرين مهانين.
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) }
{ تَأَذَّنَ } تَفَعَّل من الإذن أي: أعلم، قاله مجاهد. وقال غيره: أمر.
وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم من هذه اللفظة، ولهذا تُلُقِّيَت باللام في قوله: { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } أي: على اليهود { إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } أي: بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه واحتيالهم على المحارم.
ويقال: إن موسى، عليه السلام، ضرب عليهم الخراج سبع سنين -وقيل: ثلاث عشرة سنة، وكان أول من ضرب الخراج. ثم كانوا في قهر الملوك من اليونانيين والكشدانيين والكلدانيين، ثم صاروا في (1) قهر النصارى وإذلالهم وإياهم، أخذهم منهم الجزية والخراج، ثم جاء الإسلام، ومحمد، عليه أفضل الصلاة والسلام، فكانوا تحت صفاره وذمته يؤدون الخراج والجزى (2)
قال العوفي، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال: هي المسكنة، وأخذ الجزية منهم.
وقال علي بن أبي طلحة، عنه: هي الجزية، والذين يسومهم سوء العذاب: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، إلى يوم القيامة.
وكذا قال سعيد بن جبير، وابن جُرَيْج، والسُّدِّي، وقتادة.
وقال عبد الرزاق: عن مَعْمَر، عن عبد الكريم الجزري، عن سعيد بن المسيب قال: يستحب أن تبعث الأنباط في الجزية.
قلت: ثم آخر أمرهم أنهم يخرجون أنصار الدجال، فيقتلهم المسلمون مع عيسى ابن مريم، عليه السلام، وذلك آخر الزمان.
وقوله: { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ } أي: لمن عصاه وخالف [أمره و] (3) شرعه، { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: لمن تاب إليه وأناب.
وهذا من باب قرن الرحمة مع العقوبة، لئلا يحصل اليأس، فيقرن [الله] (4) تعالى بين الترغيب والترهيب كثيرا؛ لتبقى النفوس بين الرجاء والخوف.
__________
(1) في ك، م، أ: "إلى".
(2) في م: "الجزية".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من م.

وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)

{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) }
يذكر تعالى أنه فرقهم في الأرض أمما، أي: طوائف وفرقًا، كما قال [تعالى] (1) { وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } [الأسراء:104]
{ مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ } أي: فيهم الصالح وغير ذلك، كما قالت الجن: { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } [الجن:11]، { وَبَلَوْنَاهُمْ } أي: اختبرناهم { بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ } أي: بالرخاء والشدة، والرغبة والرهبة، والعافية والبلاء، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
ثم قال تعالى: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } يقول تعالى: فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح، خلف آخر لا خير فيهم، وقد ورثوا دراسة [هذا] (2) الكتاب وهو التوراة -وقال مجاهد: هم النصارى -وقد يكون أعم من ذلك، { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى } أي: يعتاضون عن بذل الحق ونشره بعَرَض الحياة الدنيا، ويسرفون أنفسهم ويعدونها بالتوبة، وكلما لاح لهم مثل الأول وقعوا فيه؛ ولهذا قال: { وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } كما قال سعيد بن جبير: يعملون الذنب، ثم يستغفرون الله منه، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه.
وقول مجاهد في قوله: { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى } قال: لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه، حلالا كان أو حرامًا، ويتمنون المغفرة، ويقولون: { سَيُغْفَرُ لَنَا } وإن يجدوا عَرَضًا مثله يأخذوه.
وقال قتادة في: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } أي: والله، لخلف سوء، ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم، ورثهم الله وعهد إليهم، وقال الله في آية أخرى: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } [مريم:59]، قال { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } تمنوا على الله أماني، وغرَّة يغترون بها، { وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } لا يشغلهم شيء عن شيء، ولا ينهاهم شيء عن ذلك، كلما هف لهم شيء من [أمر] (3) الدنيا أكلوه، ولا يبالون حلالا كان أو حرامًا.
وقال السُّدِّي [في] (4) قوله: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } إلى قوله: { وَدَرَسُوا مَا فِيهِ } قال: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم، وإن خيارهم اجتمعوا، فأخذ بعضهم على بعض العهود ألا يفعلوا ولا يرتشى، فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى، فيقال له: ما شأنك ترتشي في الحكم، فيقول: "سيغفر لي"، فتطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع، فإذا مات، أو نزع، وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه، فيرتشي. يقول: وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من م.

قال الله تعالى: { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ } يقول تعالى منكرًا عليهم في صنيعهم هذا، مع ما أخذ عليهم من الميثاق ليبينن الحق للناس، ولا يكتمونه كقوله: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [آل عمران:187]
وقال ابن جُرَيْج: قال ابن عباس: { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } قال: فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها، ولا يتوبون منها.
وقوله تعالى: { وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } يرغبهم تعالى في جزيل ثوابه، ويحذرهم من وبيل عقابه، أي: وثوابي وما عندي خير لمن اتقى المحارم، وترك هوى نفسه، وأقبل على طاعة ربه.
{ أَفَلا تَعْقِلُونَ } يقول: أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعَرَض الدنيا عما عندي عقل يردعهم عما هم فيه من السفه والتبذير؟ ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما هو مكتوب فيه، فقال تعالى { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ } أي: اعتصموا به واقتدوا بأوامره، وتركوا زواجره { وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ }

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

{ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) }
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ } يقول: رفعناه، وهو قوله: { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ } [النساء:154]
وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رفعته الملائكة فوق رءوسهم.
وقال القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ثم سار بهم موسى، عليه السلام، متوجها نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمره (1) الله تعالى [به] (2) -أن يبلغهم من الوظائف، فثقلت عليهم، وأبوا أن يقربوها حتى ينتق (3) الله الجبل فوقهم كأنه ظلة، قال: رفعته الملائكة فوق رءوسهم. رواه النسائي بطوله (4)
وقال سنيد بن داود في تفسيره، عن حجاج بن محمد، عن أبي بكر بن عبد الله قال: هذا كتاب، أتقبلونه بما فيه، فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم، وما أمركم وما نهاكم؟ قالوا: انشر علينا ما فيها، فإن كانت فرائضها يسيرة، وحدودها خفيفة قبلناها. قال: اقبلوها بما فيها. قالوا: لا حتى نعلم ما فيها، كيف حدودها وفرائضها؟ فراجعوا موسى مرارا، فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء، حتى إذا كان بين رءوسهم وبين السماء قال لهم موسى: ألا ترون ما يقول ربي،
__________
(1) في م: "أمر".
(2) زيادة من أ.
(3) في د، ك، م: "نتق".
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (11326) وهو حديث الفتون وسيأتي إن شاء الله في سورة طه.

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

عز وجل؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها، لأرمينكم بهذا الجبل. قال: فحدثني الحسن البصري قال: لما نظروا إلى الجبل خر كل رجلٍ ساجدًا على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل، فرقًا من أن يسقط [عليه] (1) فكذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر، يقولون: هذه السجدة التي رفعت بها العقوبة. قال أبو بكر: فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده، لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز، فليس اليوم يهودي على وجه الأرض صغير، ولا كبير، تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونفض لها رأسه. [أي: حرك كما قال تعالى: { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ } [الإسراء:51] أي يحركونها] (2)
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) }
يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو. كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، قال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [الروم:30] وفي الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة -وفي رواية: على هذه الملة -فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء" وفي صحيح مسلم، عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله [تعالى] (3) إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم (4) الشياطين فاجتالتهم، عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم" (5)
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني السري بن يحيى: أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم، عن الأسود بن سريع من بني سعد، قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات، قال: فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتد عليه، ثم قال: "ما بال أقوام يتناولون الذرية؟" قال رجل: يا رسول الله، أليسوا أبناء المشركين؟ فقال: "إن خياركم أبناء المشركين! ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها، فأبواها يهودانها أو (6) ينصرانها". قال الحسن: والله لقد قال الله في كتابه: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ] } (7) الآية (8)
__________
(1) زيادة من ك، أ.
(2) زيادة من ك، م.
(3) زيادة من ك، م.
(4) في م: "فجاءت".
(5) صحيح مسلم برقم (2865)، وسبق تخريجه هو والذي قبله عند الآية: 30.
(6) في م: "و".
(7) زيادة من أ.
(8) تفسير الطبري (13/321).

وقد رواه الإمام أحمد، عن إسماعيل بن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن البصري (1) به. وأخرجه النسائي في سننه من حديث هُشَيْم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن قال: حدثنا الأسود ابن سَرِيع، فذكره، ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك (2)
وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلْب آدم، عليه السلام، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين و[إلى] (3) أصحاب الشمال، وفي بعضها (4) الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا حَجَّاج، حدثنا شُعْبة، عن أبي عمران الجَوْني، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟" قال: "فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم (5) ألا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تشرك بي".
أخرجاه في الصحيحين، من حديث شعبة، به (6)
حديث آخر: وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا جرير -يعني ابن حازم -عن كلثوم بن جابر (7) عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (8) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم، عليه السلام، بنعمان. يعني (9) عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قبلا قال: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } إلى قوله: { الْمُبْطِلُونَ }
وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من سننه، عن محمد بن عبد الرحيم -صاعقة -عن حسين بن محمد المروزي، به. ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد (10) به. إلا أن ابن أبي حاتم جعله موقوفا. وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد وغيره، عن جرير بن حازم، عن كلثوم بن جَبْر، به. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبير (11) (12) هكذا قال، وقد رواه عبد الوارث، عن كلثوم بن جبر (13) عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فوقفه (14) وكذا رواه إسماعيل بن علية ووَكِيع، عن ربيعة بن كلثوم، عن جبير، عن أبيه، به. (15) وكذا رواه عطاء بن السائب، وحبيب بن أبي ثابت، وعلي بن بَذِيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (16) قوله، وكذا رواه العَوْفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن
__________
(1) المسند (3/435).
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (8616).
(3) زيادة من ك، م، أ.
(4) في أ: "وفي بعض".
(5) في أ: "ظهر أبيك".
(6) المسند (3/127) وصحيح البخاري برقم (3334) وصحيح مسلم برقم (2805).
(7) في ك، م: "جبر"، وفي أ: "جبير".
(8) زيادة من أ.
(9) في ك، م، أ: "يوم".
(10) المسند (1/272) وسنن النسائي الكبرى برقم (11191) وتفسير الطبري (13/222) وقال النسائي: "كلثوم هذا ليس بالقوى، وحديثه ليس بالمحفوظ".
(11) في ك، م: "جبر".
(12) المستدرك (1/27).
(13) في أ: "جبير".
(14) أخرجه الطبري في تفسيره (13/172).
(15) رواه الطبري في تفسيره (13/224) من طريق ابن علية ورواه (13/229) من طريق وكيع.
(16) تفسير الطبري (13/227 - 229).

عباس (1) فهذا أكثر وأثبت، والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبي، عن أبي هلال، عن أبي جَمْرَة الضبعي، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (2) قال: أخرج الله ذرية آدم [عليه السلام] (3) من ظهره كهيئة الذر، وهو في آذى من الماء.
وقال أيضا: حدثنا علي بن سهل، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة، حدثنا أبو مسعود عن جُوبير قال: مات ابن للضحاك بن مُزَاحِم، [وهو] (4) ابن ستة أيام. قال: فقال: يا جابر، إذا أنت وضعت ابني في لحده، فأبرز وجهه، وحُلّ عنه عقده، فإن ابني مُجْلَس، ومسئول. ففعلت به الذي أمر، فلما فرغت قلت: يرحمك الله، عمّ يُسأل ابنك؟ من يسأله إياه؟ قال: يُسْأل عن الميثاق الذي أقر به في (5) صلب آدم. قلت: يا أبا القاسم، وما هذا الميثاق الذي أقر به في (6) صلب آدم؟ قال: حدثني ابن عباس [رضي الله عنه] (7) ؛ أن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خلقها (8) إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وتكفل لهم بالأرزاق، ثم أعادهم في صلبه. فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطي الميثاق يومئذ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به، نفعه الميثاق الأول. ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يف (9) به، لم ينفعه الميثاق الأول. ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر، مات على الميثاق الأول على الفطرة (10)
فهذه الطرق كلها مما تقوِّي وَقْف هذا على ابن عباس، والله أعلم.
حديث آخر: وقال ابن جرير: حدثنا عبد الرحمن بن الوليد، حدثنا أحمد بن أبي طيبة، عن سفيان بن سعيد، عن الأجلح، عن الضحاك وعن (11) -منصور، عن مجاهد -عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } قال: "أخذ من ظهره، كما يؤخذ بالمشط من الرأس، فقال لهم: { ألست بربكم قالوا بلى } قَالَتِ الْمَلائِكَةُ { شهدنا أن يقولوا } (12) يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (13)
أحمد بن أبي طيبة هذا هو: أبو محمد الجرجاني قاضي قومس، كان أحد الزهاد، أخرج له النسائي في سننه، وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه. وقال ابن عَدِيّ: حدث بأحاديث أكثرها (14) غرائب.
وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مَهْدِيّ، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد،
__________
(1) تفسير الطبري (13 / 236 ، 237).
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من م.
(5) في ك، م، أ: "من".
(6) في ك، م، أ: "من".
(7) زيادة من أ.
(8) في ك، م، أ: "خالقها".
(9) في ك، م: "يقر".
(10) تفسير الطبري (13/230).
(11) في م: "بن".
(12) في أ: "تقولوا".
(13) تفسير الطبري (13/232) قال الطبري: "ولأعلمه صحيحا؛ لأن الثقات الذين يعتمد على حفظهم واتقانهم، حدثوا بهذا الحديث عن الثوري فوقفوه على عبد الله بن عمرو، ولم يرفعوه ولم يذكروا في الحديث هذا الحرف الذي ذكره أحمد بن أبي طيبة عنه".
(14) في ك، م، أ: "كثيرة".

عن عبد الله بن عمرو، قوله، وكذا رواه جرير، عن منصور، به. وهذا أصح (1) والله أعلم.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا روح -هو ابن عبادة -حدثنا مالك، وحدثنا إسحاق، أخبرنا مالك، عن زيد بن أبي أُنَيْسةَ: أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، أخبره، عن مسلم بن يَسار الجُهَني: أن عمر بن الخطاب سُئِل عن هذه الآية: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } الآية، فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سُئل عنها، فقال: "إن الله خلق آدم، عليه السلام، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون". فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خلق الله العبد للجنة، استعمله بأعمال (2) أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله (3) به الجنة. وإذا خلق العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله (4) به النار".
وهكذا رواه أبو داود عن القَعْنَبي -والنسائي عن قتيبة -والترمذي (5) عن إسحاق بن موسى، عن مَعْن. وابن أبي حاتم، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب. وابن جرير من حديث روح ابن عبادة وسعيد بن عبد الحميد بن جعفر. وأخرجه ابن حبان في صحيحه، من رواية أبي مصعب الزبيري، كلهم عن الإمام مالك بن أنس، به (6)
قال الترمذي: وهذا حديث حسن، ومسلم بن يَسَار لم يسمع (7) عُمَر. وكذا قاله أبو حاتم وأبو زُرْعَة. زاد أبو حاتم: وبينهما نُعَيْم بن ربيعة.
وهذا الذي قاله أبو حاتم، رواه أبو داود في سننه، عن محمد بن مصفى، عن بَقِيَّةَ، عن عمر ابن جُعْثُم (8) القرشي، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن مسلم بن يَسَار الجهني، عن نعيم بن ربيعة قال: كنت عند عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (9) وقد سئل عن هذه الآية: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } فذكره (10)
وقال الحافظ الدارقطني: وقد تابع عمر بن جُعْثُم بن زيد بن سِنان أبو فَرْوَة الرَّهَاوي، وقولهما أولى بالصواب من قول مالك، والله أعلم (11)
قلت: الظاهر أن الإمام مالكا إنما أسقط ذكر "نعيم بن ربيعة" عمدًا؛ لما جهل حاله ولم يعرفه،
__________
(1) تفسير الطبري (13/233).
(2) في ك، م، أ: "بعمل".
(3) في ك، م، أ: "فيدخل".
(4) في أ: "فيدخل".
(5) في ك، م، أ: "والترمذي في تفسيرهما".
(6) المسند (1/44) وسنن أبي داود برقم (4703) وسنن النسائي الكبرى برقم (11190) وسنن الترمذي برقم (3075) وتفسير الطبري (13/233).
(7) في أ: "لم يسمع من" .
(8) في أ: "عمرو بن خثعم".
(9) زيادة من أ.
(10) سنن أبي داود برقم (4704) ورواه الطبري في تفسيره (13/235) من طريق محمد بن مصفى، به.
(11) العلل للدارقطني (2/221 - 223).

فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث، وكذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم؛ ولهذا يرسل كثيرًا من المرفوعات، ويقطع كثيرًا من الموصولات، والله أعلم.
حديث آخر: قال الترمذي عند تفسيره هذه الآية: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا أبو نُعَيْم، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله [عز وجل] (2) آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نَسَمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وَبيصًا من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذرّيتك. فرأى رجلا منهم فأعجبه وَبِيص ما بين عينيه، فقال: أي رب، من هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذُرّيتك، يقال له: داود. قال: رب، وكم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة. قال: أي رب، زده من عمري أربعين سنة. فلما انقضى عمر آدم، جاءه ملك الموت قال: أو لم يبق من عمري أربعون (3) سنة؟ قال: أوَ لم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته".
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد رُوي من غير وجه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث أبي نُعَيْم الفضل بن دُكَيْن، به. وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه (4)
ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره، من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، أنه حدثه عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو ما تقدم، إلى أن قال: "ثم عرضهم على آدم فقال: يا آدم، هؤلاء ذريتك. وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى، وأنواع الأسقام، فقال آدم: يا رب، لم فعلت هذا بذريتي؟ قال: كي تشكر نعمتي. وقال آدم: يا رب، من هؤلاء الذين أراهم أظْهَرَ الناس نورا؟ قال: هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك". ثم ذكر قصة داود، كنحو ما تقدم (5)
حديث آخر: قال عبد الرحمن بن قتادة النَّصْري (6) عن أبيه، عن هشام بن حكيم، رضي الله عنه، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أتبدأ الأعمال، أم قد قُضِي القضاء؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم، ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه" ثم قال: "هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فأهل الجنة مُيَسَّرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار مُيَسَّرون لعمل أهل النار".
رواه ابن جرير، وابن مردويه من طرق عنه (7)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في د، أ: "أربعين".
(4) سنن الترمذي برقم (3076) والمستدرك (2/325).
(5) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (1015) من طريق محمد بن شعيب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، به. وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف.
(6) في أ: "البصري".
(7) تفسير الطبري (13/244) وقد توسع الشيخ محمود شاكر في الكلام عليه في الحاشية بما يغني عن إعادته هنا.

حديث آخر: روى جعفر بن الزبير -وهو ضعيف -عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله الخلق، وقضى القضية، أخذ أهل اليمين بيمينه وأهل الشمال بشماله، فقال: يا أصحاب اليمين. فقالوا: لبيك وسعديك. قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. قال: يا أصحاب الشمال. قالوا: لبيك وسعديك. قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى ثم خلط بينهم، فقال قائل: يا رب، لم خلطت بينهم؟ قال: لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، ثم ردهم في صلب آدم [عليه السلام] (1) . رواه ابن مردويه (2)
أثر آخر: قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب [رضي الله عنه] (3) في قول الله تعالى (4) { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الآية والتي بعدها، قال: فجمعهم له يومئذ جميعا، ما هو كائن منه إلى يوم القيامة، فجعلهم أرواحًا ثم صورهم ثم استنطقهم فتكلموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى، الآية. قال: فإني أشهد عليكم السماوات السبع، والأرَضِين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، فلا تشركوا بي شيئًا، وإني سأرسل إليكم رسلا يذكرونكم (5) عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي. قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك. فأقروا له يومئذ بالطاعة، ورفع أباهم آدم فنظر إليهم، فرأى فيهم الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك. فقال: يا رب، لو سَويت بين عبادك؟ قال: إني أحببت أن أشكر. ورأى فيهم الأنبياء مثل السرُج عليهم النور، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة، فهو الذي يقول تعالى (6) { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ [وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ] (7) } [الأحزاب:7] وهو الذي يقول: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ [ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ] } (8) الآية [الروم:30] ، ومن ذلك قال: { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى } [النجم:56] ومن ذلك قال: { وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ [ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ] (9) } [الأعراف:102] .
رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مَرْدُويه في تفاسيرهم، من رواية ابن جعفر الرازي، به. وروي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والسدي، وغير واحد من علماء السلف، سياقات توافق هذه الأحاديث، اكتفينا بإيرادها عن التطويل في تلك الآثار كلها، وبالله المستعان.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/287) من طريق عثمان بن االهيثم، عن جعفر بن الزبير به. وجعفر بن الزبير ضعيف جدا، وقد توبع:
تابعه بشر بن نمير عن القاسم عن أبي أمامة بنحوه. ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (228) والعقيلي في الضعفاء الكبير (1/51)، ولكن لم يفرح بهذه المتابعة فإن بشر بن نمير متروك متهم.
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "الله عز وجل".
(5) في أ: "ينذرونكم".
(6) في أ: "عز وجل".
(7) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(8) زيادة من ك، م، أ.
(9) زيادة من د، ك، م، أ، وفي هـ: "الآية".

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)

فهذه الأحاديث دالة على أن الله، عز وجل، استخرج ذرية آدم من صلبه، وميز بين أهل الجنة وأهل النار، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم، فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر (1) عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (2) وفي حديث عبد الله بن عمرو [رضي الله عنهما] (3) وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان، كما تقدم. ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فَطْرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمَار المُجَاشعي، ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سَرِيع. وقد فسر الحسن البصري الآية بذلك، قالوا: ولهذا قال: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ } ولم يقل: "من آدم" ، { مِنْ ظُهُورِهِمْ } ولم يقل: "من ظهره" { ذُرِّيَّاتِهِمْ } أي: جعل نسلهم جيلا بعد جيل، وقرنًا بعد قرن، كما قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ } [الأنعام:165] وقال: { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } [النمل:62] وقال: { كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } [الأنعام:133]
ثم قال: { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } أي: أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالا وقالا. والشهادة تارة تكون بالقول، كما قال [تعالى] (4) { قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } [الأنعام:130] الآية، وتارة تكون حالا كما قال تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } [التوبة:17] أي: حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك، وكذلك (5) قوله تعالى: { وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } [العاديات:7] كما أن السؤال تارة يكون بالقال، وتارة يكون بالحال، كما في قوله: { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } [إبراهيم:34] قالوا: ومما يدل على أن المراد بهذا هذا، أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قاله من قال (6) لكان كل أحد يذكره، ليكون حجة عليه. فإن قيل: إخبار الرسول به كاف في وجوده، فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره. وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فُطِروا عليها من الإقرار بالتوحيد؛ ولهذا قال: { أَنْ يَقُولُوا } (7) أي: لئلا يقولوا يوم القيامة: { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا } أي: [عن] (8) التوحيد { غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا } (9) الآية.
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) }
قال عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن الأعمش ومنصور، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق،
__________
(1) في أ: "جبير".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في ك: "وكذا" ، وفي م: "وهذا كقوله".
(6) في م، أ: "قاله".
(7) في ك، م، أ: "تقولوا".
(8) زيادة من م، أ.
(9) في م: "تقولوا".

عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في قوله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا [ فَأَتْبَعَهُ ] } (1) الآية، قال: هو رجل من بني إسرائيل، يقال له: بَلْعم بن أبَرَ. وكذا رواه شعبة وغير واحد، عن منصور، به.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (2) هو صيفي بن الراهب.
قال قتادة: وقال كعب: كان رجلا من أهل البلقاء، وكان يعلم الاسم الأكبر، وكان مقيما ببيت (3) المقدس مع الجبارين.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (4) هو رجل من أهل اليمن، يقال له: بَلْعَم، آتاه الله آياته فتركها.
وقال مالك بن دينار: كان من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدعوة، يقدمونه في الشدائد، بعثه نبي الله موسى إلى ملك مَدْين يدعوه إلى الله، فأقطعه وأعطاه، فتبع دينه وترك دين موسى، عليه السلام.
وقال سفيان بن عيينة، عن حُصَين، عن عمران بن الحارث، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (5) هو بلعم بن باعر. وكذا قال مجاهد وعكرمة.
وقال ابن جرير: حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا إسرائيل، عن مغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (6) قال: هو بلعام -وقالت ثقيف: هو أمية بن أبي الصلت.
وقال شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن نافع بن عاصم، عن عبد الله بن عمرو [رضي الله عنهما] (7) في قوله: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ [ آيَاتِنَا ] } (8) قال: هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت.
وقد روي من غير وجه، عنه وهو صحيح إليه، وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة، ولكنه لم ينتفع بعلمه، فإنه أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته، وظهرت لكل من له بصيرة، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم، ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة، قبحه الله [تعالى] (9) (10) وقد جاء في بعض الأحاديث: "أنه ممن آمن لسانه، ولم يؤمن قلبه"؛ فإن له أشعارا ربانية وحكما وفصاحة، ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن أبي سعيد الأعور، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا } قال: هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت: اجعل لي منها واحدة. قال:
__________
(1) زيادة من ك.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "بيت".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من أ.
(8) زيادة من ك، م، أ.
(9) زيادة من أ.
(10) انظر: العقيدة في السيرة النبوية لابن هشام (2/30).

فلك واحدة، فما الذي تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل. فدعا الله، فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل، فلما علمت أن (1) ليس فيهم مثلها رغبت عنه، وأرادت شيئًا آخر، فدعا الله أن يجعلها كلبة، فصارت كلبة، فذهبت دعوتان. فجاء بنوها فقالوا: ليس بنا على هذا قرار، قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها، فدعا الله، فعادت كما كانت، فذهبت الدعوات الثلاث، وسميت البسوس. (2) غريب.
وأما المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة، فإنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو رجل من مدينة الجبارين، يقال له: "بلعام" (3) وكان يعلم اسم الله الأكبر.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيره من علماء السلف: كان [رجلا] (4) مجاب الدعوة، ولا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه.
وأغرب، بل أبعد، بل أخطأ من قال: كان قد (5) أوتي النبوة فانسلخ منها. حكاه ابن جرير، عن بعضهم، ولا يصح (6)
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: لما نزل موسى بهم -يعني بالجبارين -ومن معه، أتاه يعني بلعام (7) -أتاه بنو عمه وقومه، فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه. قال: إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه، ذهبت دنياي وآخرتي. فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله ما كان عليه، فذلك قوله تعالى: { فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ [ مِنَ الْغَاوِينَ ] } (8)
وقال السدي: إن الله لما انقضت الأربعون سنة التي قال الله: { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [المائدة:26] بعث يوشع بن نون نبيا، فدعا بني إسرائيل، فأخبرهم أنه نبي، وأن الله [قد] (9) أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه. وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له: "بلعم" وكان عالمًا، يعلم الاسم الأعظم المكتوم، فكفر -لعنه الله -وأتى الجبارين وقال لهم: لا ترهبوا بني إسرائيل، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم ادعوا عليهم دعوة فيهلكون! وكان عندهم فيما شاء من الدنيا، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء، يعظمهن (10) فكان ينكح أتانا له، وهو الذي قال الله تعالى (11) { فَانْسَلَخَ مِنْهَا }
__________
(1) في أ: "أنه".
(2) ورواه أبو الشيخ في تفسيره كما في الدر المنثور (3/608).
(3) في د، ك، م، أ: "بلعم".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ: "من قال أنه".
(6) تفسير الطبري (13/259).
(7) في د، ك، م، أ: "بلعم".
(8) زيادة من د، ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".
(9) زيادة من د، أ.
(10) في أ: "لعظمهن".
(11) في أ: "الله عز وجل".

وقوله: { فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ } أي: استحوذ عليه وغلبه على أمره، فمهما أمره امتثل وأطاعه؛ ولهذا قال: { فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } أي: من الهالكين الحائرين (1) البائرين.
وقد ورد في معنى هذه الآية حديث رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حيث قال: حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا محمد بن بكر، عن الصلت بن بَهْرام، حدثنا الحسن، حدثنا جُنْدُب البجلي في هذا المسجد؛ أن حذيفة -يعني بن اليمان، رضي الله عنه -حدثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مما أتخوف عليكم رجُل قرأ القرآن، حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رِدْء الإسلام اعتراه (2) إلى ما شاء الله، انسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك". قال: قلت: يا نبي الله، أيهما أولى بالشرك: المرمي أو الرامي؟ قال: "بل الرامي".
هذا إسناد جيد (3) والصلت بن بهرام كان من ثقات الكوفيين، ولم يرم بشيء سوى الإرجاء، وقد وثقه الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وغيرهما.
وقوله تعالى: { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } يقول تعالى: { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } أي: لرفعناه من التدنس عن (4) قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها، { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ } أي: مال إلى زينة الدنيا وزهرتها، وأقبل على لذاتها ونعيمها، وغرّته كما غرت غيره من غير أولي البصائر (5) والنهى.
وقال أبو الزاهرية في قوله تعالى: { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ } قال: تراءى له الشيطان على غَلْوة من قنطرة بانياس، فسجدت الحمارة لله، وسجد بلعام للشيطان. وكذا قال عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نُفَير، وغير واحد.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله: وكان من قصة هذا الرجل: ما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه: أنه سُئل عن هذه الآية: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [ فَانْسَلَخَ مِنْهَا ] } (6) فحدث عن سيار أنه كان رجلا يقال له بلعام، وكان قد أوتي النبوة وكان مجاب الدعوة، قال: وإن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام -أو قال: الشام -قال فرُعب الناس منه رعبًا شديدًا، قال: فأتوا بلعام، فقالوا: ادع الله على هذا الرجل وجيشه! قال: حتى أوَامر ربي -أو: حتى أؤامر -قال: فوامر في الدعاء عليهم، فقيل له: لا تدع عليهم، فإنهم عبادي، وفيهم نبيهم. قال: فقال لقومه: إني قد آمرت ربي في الدعاء عليهم، وإني قد نهيت. فأهدوا له هدية فقبلها، ثم راجعوه فقالوا: ادع عليهم. فقال: حتى أوامر. فوامر، فلم يَحُر إليه شيء. فقال: قد وامرت فلم يَحُر إلى شيء! فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك المرة الأولى. قال: فأخذ يدعو عليهم، فإذا دعا عليهم، جرى على لسانه الدعاء على قومه، وإذا أراد أن يدعو أن يفتح
__________
(1) في أ: "الجائرين".
(2) في أ: "اعتره".
(3) ورواه البزار في مسنده برقم (175) من طريق: حدثنا محمد بن مرزوق والحسن بن أبي كبشة، حدثنا محمد بن بكر البرساني به. قال الهيثمي في المجمع (1/188): "إسناده حسن".
(4) في أ: "من".
(5) في أ: "الأبصار".
(6) زيادة من أ.

لقومه (1) دعا أن يفتح لموسى وجيشه -أو نحوًا من ذا إن شاء الله. قال (2) ما نراك تدعو إلا علينا. قال: ما يجري على لساني إلا هكذا، ولو دعوت عليه أيضا ما استجيب لي، ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم. إن الله يبغض الزنا، وإنهم إن وقعوا بالزنا هلكوا، ورجوت أن يهلكهم الله، فأخرجوا النساء يَسْتقبلنهم (3) ؛ فإنهم قوم مسافرون، فعسى أن يزنوا فيهلكوا. قال: ففعلوا. قال: فأخرجوا النساء يستقبلنهم. قال: وكان للملك ابنة، فذكر من عظمها ما الله أعلم به! قال: فقال أبوها -أو بلعام-: لا تمكني نفسك إلا من موسى! قال: ووقعوا في الزنا. قال: وأتاها رأس سبط من أسباط بني إسرائيل، قال: فأرادها على نفسه، فقالت: ما أنا بممكنة نفسي إلا من موسى. قال: فقال: إن منزلتي (4) كذا وكذا، وإن من حالي كذا وكذا. قال: فأرسلت إلى أبيها تستأمره، قال: فقال لها: فأمكنيه قال: ويأتيهما رجل من بني هارون ومعه الرمح فيطعنهما. قال: وأيده الله بقوة. فانتظمهما جميعا، ورفعهما على رمحه (5) فرآهما الناس -أو كما حدَّث -قال: وسلط الله عليهم الطاعون، فمات منهم سبعون ألفا.
قال أبو المعتمر: فحدثني سَيَّار: أن بلعامًا ركب حمارة له حتى (6) أتى العلولي (7) -أو قال: طريقا من العلولي (8) -جعل يضربها ولا تُقْدم، وقامت عليه فقالت: علام تضربني؟ أما ترى هذا الذي بين يديك؟ فإذا الشيطان بين يديه، قال: فنزل وسجد له، قال الله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا } إلى قوله: { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }
قال: فحدثني بهذا سيار، ولا أدري لعله قد دخل فيه شيء من حديث غيره.
قلت: هو بلعام -ويقال: بلعم -بن باعوراء، ابن أبر. ويقال: ابن باعور بن شهوم (9) بن قوشتم ابن ماب بن لوط بن هاران -ويقال: ابن حران -بن آزر. وكان يسكن قرية من قرى البلقاء.
قال ابن عساكر: وهو الذي كان يعرف اسم الله الأعظم، فانسلخ من دينه، له ذكر في القرآن. ثم أورد (10) من قصته نحوا مما ذكرنا هاهنا، وأورده عن وهب وغيره، والله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن سالم أبي النضر؛ أنه حدث: أن موسى، عليه السلام، لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام، أتى قوم بلعام إليه فقالوا له: هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل، قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وإنا قومك، وليس لنا منزل، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج فادع الله عليهم. قال: ويلكم! نبي الله معه الملائكة والمؤمنون، كيف أذهب أدعو عليهم، وأنا أعلم من الله ما أعلم؟! قالوا له: ما لنا من منزل! فلم يزالوا به يرققونه ويتضرعون إليه، حتى فتنوه فافتتن، فركب حمارة (11) له متوجهًا إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل، وهو جبل حُسْبان، فلما سار عليها غير كثير، ربضت به، فنزل عنها فضربها، حتى إذا
__________
(1) في م: "على قومه".
(2) في أ: "فقالوا له".
(3) في أ: "تستقبلهم".
(4) في أ: "إن من منزلتي".
(5) في م: "على رأس رمحه".
(6) في أ: "حتى إذا".
(7) في ك: "العلوي".
(8) في ك: "العلوي".
(9) في أ: "شهتوم".
(10) في أ: "ثم ذكر".
(11) في م، أ: "حمارا".

أذلقها قامت فركبها. فلم تسر به كثيرًا حتى ربضت به، فضربها حتى إذا أذلقها أذن الله لها فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم: أين تذهب؟ أما (1) ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا؟ أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين لتدعو (2) عليهم؟ فلم ينزع عنها يضربها، فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك. فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان، على عسكر موسى وبني إسرائيل، جعل يدعو عليهم، ولا يدعو عليهم بشر إلا صرف الله لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل. فقال له قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم، وتدعو علينا! قال: فهذا ما لا أملك، هذا شيء قد غلب الله عليه! قال: واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، ولم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جَمِّلوا النساء وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنهم إن زنى رجل منهم واحد كُفِيتموهم، ففعلوا. فلما دخل النساء العسكر، مرت امرأة من الكنعانيين اسمها "كسبي ابنة صور، رأس أمته" برجل من عظماء بني إسرائيل، وهو "زمرى بن شلوم"، رأس سبط بني سمعان بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السلام، فقام إليها، فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها، ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى، عليه السلام، فقال: إني أظنك ستقول هذا حرام عليك؟ قال: أجل، هي حرام عليك، لا تقربها. قال: فوالله لا نطيعك في هذا. ثم دخل بها قبته فوقع عليها. وأرسل الله، عز وجل، الطاعون في بني إسرائيل، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون، صاحب أمر موسى، وكان غائبا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يجوس في بني إسرائيل، فأخبر الخبر، فأخذ حربته، وكانت من حديد كلها، ثم دخل القبة وهما متضاجعان، فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لَحْيَيْه -وكان بكر العيزار -وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك. ورفع الطاعون، فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتله فنحاص، فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفا -والمقلل لهم يقول: عشرون ألفا -في ساعة من النهار. فمن هنالك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللَّحَى -لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه، وإسناده إياها إلى لحييه -والبكر من كل أموالهم وأنفسهم؛ لأنه كان بكر أبيه العيزار. ففي بلعام بن باعوراء أنزل الله: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا [ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ] } (3) -إلى قوله: { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (4)
وقوله تعالى: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ } اختلف المفسرون في معناه (5) فأما على سياق ابن إسحاق، عن سالم بن أبي النضر: أن بلعاما اندلع لسانه على صدره -فتشبيهه بالكلب في لهثه (6) في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك. وقيل: معناه: فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه، وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان وعدم الدعاء، كالكلب في لهثه (7) في حالتيه، إن
__________
(1) في ك، م: "ألا".
(2) في أ: "تدعو".
(3) زيادة من أ.
(4) رواه الطبري في تفسيره (13/264).
(5) في أ: "في معنى هذا".
(6) في د، ك، م: "لهيثه".
(7) في د، ك، م، "لهيثه".

مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)

حملت عليه وإن تركته، هو يلهث في الحالين، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه؛ كما قال تعالى: { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [البقرة:6]، { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [التوبة:80] ونحو ذلك.
وقيل: معناه: أن قلب الكافر والمنافق والضال، ضعيف فارغ من الهدى، فهو كثير الوجيب (1) فعبر عن هذا بهذا، نقل نحوه عن الحسن البصري وغيره.
وقوله تعالى: { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ } أي: لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام، وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته، بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه -في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب -في غير طاعة ربه، بل دعا به على حزب الرحمن، وشعب الإيمان، أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان، كليم الله موسى بن عمران، [عليه السلام] (2) ؛ ولهذا قال: { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أي: فيحذروا أن يكونوا مثله؛ فإن الله قد أعطاهم علمًا، وميزهم على من عداهم من الأعراب، وجعل بأيديهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته، كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به؛ ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد، أحل الله به ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة.
وقوله: { سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ } يقول تعالى ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، أي: ساء مثلهم أن شبهوا بالكلاب التي (3) لا همة لها (4) إلا في تحصيل أكلة أو شهوة، فمن خرج عن حَيِّز العلم والهدى وأقبل على شهوة نفسه، واتبع هواه، صار شبيها بالكلب، وبئس المثل مثله؛ ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" (5)
وقوله: { وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ } أي: ما ظلمهم الله، ولكن هم ظلموا أنفسهم، بإعراضهم عن اتباع الهدى، وطاعة المولى، إلى الركون إلى دار البلى، والإقبال على تحصيل اللذات وموافقة الهوى.
{ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) }
يقول تعالى: من هداه الله فإنه لا مضل له، ومن أضله فقد خاب وخسر وضل لا محالة، فإنه تعالى ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ ولهذا جاء في حديث ابن مسعود: "إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".
__________
(1) في أ: "الوجيف".
(2) زيادة من ك.
(3) في د، ك: "الذين".
(4) في ك، م: "لهم".
(5) صحيح البخاري برقم (2622).

الحديث بتمامه رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وغيرهم (1)
__________
(1) المسند (1/392) وسنن أبي داود برقم (1097) وسنن النسائي (6/89) وسنن ابن ماجة برقم (1892).

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)

{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) }
يقول تعالى: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا } أي: خلقنا وجعلنا { لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ } أي: هيأناهم لها، وبعمل أهلها يعملون، فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلائق، علم ما هم عاملون قبل كونهم، فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ورد في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء" (1)
وفي صحيح مسلم أيضا، من حديث عائشة بنت طلحة، عن خالتها عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، أنها قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله طوبى له، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. فقال [رسول الله صلى الله عليه وسلم] (2) أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق الجنة، وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار، وخلق لها (3) أهلا وهم في أصلاب آبائهم" (4)
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود [رضي الله عنه] (5) ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيكتب: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم (6) سعيد".
وتقدم أن الله [تعالى] (7) لما استخرج ذرية آدم من صلبه وجعلهم فريقين: أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، قال: "هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي".
والأحاديث في هذا كثيرة، ومسألة القدر كبيرة ليس هذا موضع بسطها.
وقوله تعالى: { لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا } يعني: ليس ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله [سببا للهداية] (8) كما قال تعالى: { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ] (9) } [الأحقاف:26] وقال تعالى: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [البقرة:18] هذا في حق المنافقين، وقال في حق الكافرين: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } [البقرة:171] ولم يكونوا صمًا بكمًا عميًا إلا عن الهدى، كما قال تعالى: { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [الأنفال:23] ،
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2653).
(2) زيادة من د.
(3) في د، ك، م: "للنار".
(4) صحيح مسلم برقم (2662).
(5) زيادة من أ.
(6) في ك، م، أ: "أو".
(7) زيادة من أ.
(8) زيادة من د، ك، م، أ.
(9) زيادة من أ. وفي هـ: "الآية".

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)

وقال: { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج:46]، وقال { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [الزخرف:36 ، 37] .
وقوله تعالى: { أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ } أي: هؤلاء الذين لا يسمعون الحق ولا يعونه ولا يبصرون الهدى، كالأنعام السارحة التي لا تنتفع (1) بهذه الحواس منها إلا في الذي يعيشها من ظاهر الحياة الدنيا كما قال تعالى: { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً [ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ] (2) } [البقرة:171] أي: ومثلهم -في حال دعائهم إلى الإيمان -كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها لا تسمع إلا صوته، ولا تفقه (3) ما يقول؛ ولهذا قال في هؤلاء: { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } أي: من الدواب؛ لأن الدواب قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا أبس بها، وإن لم تفقه كلامه، بخلاف هؤلاء؛ ولأن الدواب تفقه (4) ما خلقت له إما بطبعها وإما بتسخيرها، بخلاف الكافر فإنه إنما خلق ليعبد الله ويوحده، فكفر بالله وأشرك به؛ ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من مثله من الملائكة في معاده، ومن كفر به (5) من البشر، كانت الدواب أتم منه؛ ولهذا قال تعالى: { أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }
{ وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) }
عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعا وتسعين اسما مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر".
أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عنه (6) رواه البخاري، عن أبى اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد به (7) وأخرجه الترمذي، عن الجوزجاني، عن صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم، عن شعيب فذكر بسنده مثله، وزاد بعد قوله: "يحب الوتر": هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر،
__________
(1) في ك، م: "لا ينتفع".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "لا تفهم".
(4) في أ: "تفعل".
(5) في أ: "بالله".
(6) صحيح البخاري برقم (6410) وصحيح مسلم برقم (2677).
(7) صحيح البخاري برقم (7392).

الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفوّ، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور (1)
ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (2) ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث.
ورواه ابن حبان في صحيحه، من طريق صفوان، به (3) وقد رواه ابن ماجه في سننه، من طريق آخر (4) عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعا (5) فسرد الأسماء كنحو ما تقدم بزيادة ونقصان.
والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني، عن زهير بن محمد: أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك، أي: أنهم جمعوها من القرآن كما رود (6) عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي، والله أعلم.
ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في التسعة والتسعين (7) بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده، عن يزيد بن هارون، عن فضيل بن مرزوق، عن أبي سلمة الجهني، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أعلمته (8) أحدًا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحًا". فقيل: يا رسول الله، أفلا نتعلمها؟ فقال: "بلى، ينبغي لكل من سمعها (9) أن يتعلمها".
وقد أخرجه الإمام أبو حاتم بن حبان البستي في صحيحه بمثله (10)
وذكر الفقيه الإمام أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية في كتابه: "الأحوذي في شرح الترمذي"؛ أن بعضهم جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم، فالله أعلم.
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } قال: إلحاد الملحدين: أن دعوا "اللات (11) في أسماء الله.
__________
(1) بعدها في م: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير".
(2) زيادة من أ.
(3) سنن الترمذي برقم (3507).
(4) في أ: "أخرى".
(5) سنن ابن ماجة برقم (3861)، وقال البوصيري: "إسناد طريق ابن ماجة ضعيف لضعف عبد الملك بن محمد الصنعاني".
(6) في ك، م، أ: "روى".
(7) في د: "تسعة وتسعين".
(8) في م: "علمته".
(9) في أ: "ينبغي لمن سمعها".
(10) المسند (1/392)، وصحيح ابن حبان برقم (2372) "موارد".
(11) في أ: "اللات والعزى".

وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)

وقال ابن جريج، عن مجاهد: { وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } قال: اشتقوا "اللات" من الله، واشتقوا "العزى" من العزيز.
وقال قتادة: { يُلْحِدُونَ } يشركون. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الإلحاد: التكذيب. وأصل الإلحاد في كلام العرب: العدل عن القصد، والميل والجور والانحراف، ومنه اللحد في القبر، لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر.
{ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) }
يقول تعالى: { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا } أي: ومن الأمم { أُمًّةٌ } قائمة بالحق، قولا وعملا { يَهْدُونَ بِالْحَقِّ } يقولونه ويدعون إليه، { وَبِهِ يَعْدِلُونَ } يعملون ويقضون.
وقد جاء في الآثار: أن المراد بهذه الأمة المذكورة في الآية، هي هذه الأمة المحمدية.
قال سعيد، عن قتادة في تفسير هذه الآية: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية: "هذه لكم، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها: { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } (1) [ الأعراف : 159 ]
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس في قوله تعالى: { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أمتي قومًا على الحق، حتى ينزل عيسى ابن مريم متى ما نزل". (2)
وفي الصحيحين، عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى تقوم الساعة -وفي رواية -: حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك -وفي رواية -: وهم بالشام" (3)
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) }
يقول تعالى: { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ } ومعناه: أنه يفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا، حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا (4) أنهم على شيء، كما قال تعالى: { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام:44، 45] ؛ ولهذا قال تعالى: { وَأُمْلِي لَهُمْ } أي: وسأملي لهم، أطول لهم ما هم فيه { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أي: قوي شديد.
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (13/286)، وهو مرسل.
(2) رواه الثعلبي في تفسيره كما في تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (1/474).
(3) صحيحح البخاري برقم (3641) وصحيح مسلم برقم (1037).
(4) في أ: "ويعتقدون".

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)

{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) }
يقول تعالى: { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا } هؤلاء المكذبون بآياتنا { مَا بِصَاحِبِهِمْ } يعني محمدًا -صلوات الله وسلامه عليه (1) { مِنْ جِنَّةٍ } أي: ليس به جنون، بل هو رسول الله حقًا دعا إلى حق، { إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي: ظاهر لمن كان له قلب ولب يعقل به ويعي به، كما قال تعالى: { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } [التكوير:22]، وقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [سبأ:46] يقول إنما أطلب منكم أن تقوموا لله قياما خالصا لله، ليس فيه تعصب ولا عناد، { مَثْنَى وَفُرَادَى } أي: مجتمعين ومتفرقين، { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } في هذا الذي جاءكم بالرسالة من الله: أبه جنون أم لا؟ فإنكم إذا فعلتم ذلك، بان لكم وظهر أنه رسول [الله] (2) حقًا وصدقًا.
وقال قتادة بن دعامة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان على الصفا، فدعا قريشًا فجعل يُفَخِّذهم فَخِذًا فَخِذًا: "يا بني فلان، يا بني فلان"، فحذرهم بأس الله ووقائع الله، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون. بات يصوت إلى الصباح -أو: حتى أصبح، فأنزل الله تعالى: { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ } (3)
{ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) }
يقول تعالى: { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا } -هؤلاء المكذبون بآياتنا -في ملك الله وسلطانه في السماوات والأرض، وفيما خلق [الله] (4) من شيء فيهما، فيتدبروا ذلك ويعتبروا به، ويعلموا أن ذلك لمن لا نظير له ولا شبيه، ومِنْ فِعْل من لا ينبغي أن تكون (5) العبادة. والدين الخالص إلا له. فيؤمنوا به، ويصدقوا رسوله، وينيبوا إلى طاعته، ويخلعوا الأنداد والأوثان، ويحذروا أن تكون آجالهم قد اقتربت، فيهلكوا على كفرهم، ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه.
وقوله: { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } ؟ يقول: فبأي تخويف وتحذير وترهيب -بعد تحذير محمد وترهيبه، الذي أتاهم به من عند الله في آي كتابه -يصدقون، إن لم يصدقوا بهذا الحديث الذي جاءهم به محمد من عند الله، عز وجل؟! .
وقد روى الإمام أحمد عن حسن بن موسى وعفان (6) بن مسلم وعبد الصمد بن عبد الوارث، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جُدْعَان، عن أبي الصلت، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي، لما انتهينا إلى السماء السابعة، فنظرت فوقي، فإذا أنا برعد وبرق وصواعق"، قال: "وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، قلت: من
__________
(1) في أ: "صلى الله عليه وسلم"
(2) زيادة من د، ك، م، أ.
(3) رواه الطبري في تفسيره (13/289).
(4) زيادة من م.
(5) في ك، أ: "يكون".
(6) في أ: "عثمان".

مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)

هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا. فلما نزلت إلى السماء الدنيا فنظرت إلى أسفل مني، فإذا أنا برَهج ودخان وأصوات (1) فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الشياطين (2) يُحَرِّفون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب".
علي بن زيد بن جدعان له منكرات (3) .
ثم قال تعالى:
{ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) }
يقول تعالى: من كُتِب عليه الضلالة فإنه لا يهديه أحد، ولو نظر لنفسه فيما نظر، فإنه لا يجزي (4) عنه شيئا، { وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } [المائدة:41] قال تعالى: { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } [يونس:101]
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) }
يقول تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ } كما قال تعالى: { يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ } [الأحزاب:63] قيل: نزلت في قريش. وقيل: في نفر من اليهود. والأول أشبه؛ لأن الآية مكية، وكانوا يسألون عن وقت الساعة، استبعادًا لوقوعها، وتكذيبًا بوجودها؛ كما قال تعالى: { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [الأنبياء:38]، وقال تعالى: { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } [الشورى:18]
وقوله: { أَيَّانَ مُرْسَاهَا } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "منتهاها" أي: متى محطها؟ وأيان آخر مدة الدنيا الذي هو أول وقت الساعة؟
{ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ } أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن وقت الساعة، أن يرُدَّ علمها إلى الله تعالى؛ فإنه هو الذي يجليها لوقتها، أي: يعلم جلية أمرها، ومتى يكون على التحديد، [أي] (5) لا يعلم ذلك [أحد] (6) إلا هو تعالى؛ ولهذا قال: { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ }
قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله: { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قال: ثقل علمها على أهل السماوات والأرض أنهم لا يعلمون. قال معمر: قال الحسن: إذا جاءت، ثقلت على أهل السماوات والأرض، يقول: كَبُرَت عليهم .
__________
(1) في م: "وأصوات عالية".
(2) في أ: "هذه أصوات الشياطين".
(3) المسند (2/353).
(4) في م، ك: "لا يجدى".
(5) زيادة من م.
(6) زيادة من أ.

وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قال: ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة.
وقال ابن جُرَيْج: { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قال: إذا جاءت انشقت السماء (1) وانتثرت النجوم، وكورت الشمس، وسيرت الجبال، وكان ما قاله الله، عز وجل (2) فذلك ثقلها.
واختار ابن جرير، رحمه الله: أن المراد: ثَقُلَ علم وقتها على أهل السماوات والأرض، كما قال (3) قتادة.
وهو كما قالاه، كقوله تعالى: { لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } ولا ينفي ذلك ثقل مجيئها على أهل السماوات والأرض، والله أعلم.
وقال السدي [في قوله تعالى] (4) { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } يقول: خفيت في السماوات والأرض، فلا يعلم قيامها حين تقوم ملك مقرب، ولا نبي مرسل.
{ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } [قال] (5) يبغتهم قيامها، تأتيهم على غفلة.
وقال قتادة في قوله تعالى: { لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } قضى الله أنها { لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال (6) "إن الساعة تهيج بالناس، والرجل يصلح حوضه، والرجل يسقي ماشيته، والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه" (7)
وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، حدثنا أبو الزناد عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما (8) بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه. ولتقومَنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقْحَته فلا يَطْعَمُه. ولتقومَنّ الساعة وهو يَلِيط حوضه فلا يسقي فيه. ولتقومَنّ الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها" (9)
وقال مسلم في صحيحه: حدثني زهير بن حرب، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تقوم الساعة والرجل يحلب اللِّقْحَة، فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم الساعة. والرجلان (10) يتبايعان الثوب فما يتبايعانه حتى تقوم. والرجل يلوط حوضه فما يصدر حتى تقوم" (11)
وقوله [تعالى] (12) { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } اختلف المفسرون في معناه، فقيل: معناه: كما قال (13) العوفي عن ابن عباس: { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } يقول: كأن بينك وبينهم مودة،
__________
(1) في أ: "السموات".
(2) في أ: "الله تعالى".
(3) في م، أ: "قاله".
(4) زيادة من م.
(5) زيادة من أ.
(6) في م: "كان يقول".
(7) رواه الطبري في تفسيره (13/297) والثعلبي في تفسيره كما في "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/475) وهو مرسل.
(8) في م: "ثوبا".
(9) صحيح البخاري برقم (6506).
(10) في ك: "والرجل".
(11) صحيح مسلم برقم (2954).
(12) زيادة من ك، م، أ.
(13) في ك، م، أ: "فقيل معناه: كأنك حفى بها كما قال".

كأنك صديق لهم. قال ابن عباس: لما سأل الناس محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الساعة، سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا حفي بهم، فأوحى الله إليه: إنما علمها عنده، استأثر بعلمها، فلم يطلع الله عليها ملكًا مقربًا ولا رسولا.
وقال قتادة: قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن بيننا وبينك قرابة، فأسرّ إلينا متى الساعة. فقال الله، عز وجل: { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا }
وكذا روي عن مجاهد، وعكرمة، وأبي مالك، والسُّدِّي، وهذا قول. والصحيح عن مجاهد -من رواية ابن أبي نَجِيح وغيره -: { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } قال: استَحْفَيت عنها السؤال، حتى علمت وقتها.
وكذا قال الضحاك، عن ابن عباس: { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } يقول: كأنك عالم بها، لست تعلمها، { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ }
وقال معمر، عن بعضهم: { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } كأنك عالم بها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } كأنك عالم بها، وقد أخفى الله علمها على خلقه، وقرأ: { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } الآية [لقمان:34] .
ولهذا القول أرجح في المعنى من الأول، والله أعلم؛ ولهذا قال: { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }
ولهذا لما جاء جبريل، عليه السلام، في صورة أعرابي، يعلم الناس أمر دينهم، فجلس من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس السائل المسترشد، وسأله عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، ثم قال: فمتى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" أي: لست أعلم بها منك ولا أحد أعلم بها من أحد، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } الآية (1)
وفي رواية: فسأله عن أشراط الساعة، ثم قال: "في خمس لا يعلمهن إلا الله". وقرأ هذه الآية، وفي هذا كله يقول له بعد كل جواب: "صدقت"؛ ولهذا عجب الصحابة من هذا السائل يسأله ويصدقه، ثم لما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم (2) دينكم" (3)
وفي رواية قال: "وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها، إلا صورته هذه".
وقد ذكرت هذا الحديث بطرقه وألفاظه من الصحاح والحسان والمسانيد، في أول شرح صحيح البخاري، ولله الحمد والمنة (4)
ولما سأله ذلك الأعرابي وناداه بصوت جهوري فقال: يا محمد، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هاء (5) -
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (50) ومسلم في صحيحه برقم (9).
(2) في م، أ: "يعلمكم أمر".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (50) ومسلم في صحيحه برقم (9).
(4) وانظر هذا المطلب في: شرح الحافظ ابن حجر "فتح الباري" (1/114).
(5) في أ: "هاؤم".

على نحو من صوته -قال: يا محمد، متى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويحك إن الساعة آتية، فما أعددت لها؟" قال: ما أعددت لها كبير (1) صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب". فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث (2)
وهذا له طرق متعددة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "المرء مع من أحب" (3) وهي متواترة عند كثير من الحفاظ المتقنين.
ففيه أنه، عليه السلام، كان إذا سئل عن هذا الذي لا يحتاجون إلى علمه، أرشدهم إلى ما هو الأهم في حقهم، وهو الاستعداد لوقوع ذلك، والتهيؤ له قبل نزوله، وإن لم يعرفوا تعيين وقته.
ولهذا قال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كانت الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سألوه عن الساعة: متى الساعة؟ فنظر (4) إلى أحدث إنسان (5) منهم فقال: "إن يعش هذا لم يدركه الهرم حتى قامت عليكم ساعتكم" (6) يعني بذلك موتهم الذي يفضي بهم إلى الحصول في برزخ الدار الآخرة.
ثم قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يونس بن محمد، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس؛ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة، وعنده غلام من الأنصار يقال له محمد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يعش هذا الغلام فعسى ألا يدركه الهَرَم حتى تقوم الساعة". انفرد به مسلم (7)
وحدثنا حجاج بن الشاعر، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا معبد بن هلال العنزي (8) عن أنس بن مالك، رضي الله عنه؛ أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: متى الساعة؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم هُنَيهة، ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شنوءة، فقال: "إن عُمِّرَ هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" -قال أنس: ذلك الغلام من أترابي (9)
وقال: حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أنس قال: مر غلام للمغيرة بن شعبة -وكان من أقراني (10) -فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن يؤخر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" (11)
__________
(1) في أ: "كثير".
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (2639) من حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه.
(3) جاء من حديث أنس بن مالك وصفوان بن عسال وعبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري:.
أما حديث أنس بن مالك فهو السابق ذكره.
وأما حديث صفوان بن عسال فرواه الترمذي في السنن برقم (3535).
وأما حديث عبد الله بن مسعود فرواه البخاري في صحيحه برقم (6169) ومسلم في صحيحه برقم (2640).
وأما حديث أبي موسى الأشعري فرواه البخاري في صحيحه برقم (6170) ومسلم في صحيحه برقم (2641).
(4) في ك، م: "فينظر".
(5) في ك، م، أ: "أسنان".
(6) صحيح مسلم برقم (2952).
(7) صحيح مسلم برقم (2953).
(8) في ك، م، أ: "سعيد بن أبي هلال المصري".
(9) صحيح مسلم برقم (2953).
(10) في ك، م: "أترابي".
(11) صحيح مسلم برقم (2953).

ورواه البخاري في كتاب "الأدب" من صحيحه، عن عمرو بن عاصم، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس؛ أن رجلا من أهل البادية قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فذكر الحديث، وفي آخره: "فمر غلام للمغيرة بن شعبة"، وذكره (1)
وهذا الإطلاق في هذه الروايات محمول على التقييد ب"ساعتكم" في حديث عائشة، رضي الله عنها.
وقال ابن جُرَيْج: أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل (2) أن يموت بشهر، قال: "تسألوني عن الساعة، وإنما علمها عند الله. وأقسم بالله ما على ظهر الأرض اليوم من نفس منفوسة، تأتي عليها مائة سنة" رواه مسلم (3)
وفي الصحيحين، عن ابن عمر مثله، قال ابن عمر: وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم انخرام ذلك القرن.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، أنبأنا العوام، عن جبلة بن سحيم، عن مؤثر بن عَفَازة (4) عن ابن مسعود، رضي الله عنه، عن رسول الله (5) صلى الله عليه وسلم قال: "لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى"، قال:"فتذاكروا أمر الساعة"، قال: "فردوا أمرهم إلى إبراهيم، عليه السلام، فقال: لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى موسى، فقال: لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى عيسى، فقال عيسى: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، عز وجل، وفيما عهد إليَّ ربي، عز وجل، أن الدجال خارج"، قال: "ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص"، قال: "فيهلكه الله، عز وجل، إذا رآني، حتى إن الحجر والشجر يقول: يا مسلم، إن تحتي كافرًا تعالى فاقتله". قال: "فيهلكهم الله، عز وجل، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم"، قال: "فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيطئون بلادهم، لا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه"، قال: "ثم يرجع الناس إليَّ فيشكونهم، فأدعو (6) الله، عز وجل، عليهم فيهلكهم ويميتهم، حتى تَجْوَى الأرض من نتن ريحهم -أي: تُنْتِن -" قال: "فينزل الله المطر، فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في (7) البحر".
قال أحمد: قال يزيد بن هارون: ثم تنسف الجبال، وتمد الأرض مد الأديم -ثم رجع إلى حديث هشيم قال: ففيما عهد إلي ربي، عز وجل، أن ذلك إذا كان كذلك، فإن (8) الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها (9) ليلا أو نهارا (10)
ورواه ابن ماجه، عن بُنْدَار عن يزيد بن هارون، عن العوام بن حَوْشَب بسنده، نحوه (11)
فهؤلاء أكابر أولي العزم من المرسلين، ليس عندهم علم بوقت الساعة على التعيين، وإنما ردوا
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6167).
(2) في ك: "يقول قبل".
(3) صحيح مسلم برقم (2538).
(4) في م: "غفارة"، وفي ك: "عفان".
(5) في م: "عن النبي".
(6) في م: "وأدعوا".
(7) في أ: "إلى".
(8) في أ: "تكون".
(9) في د، ك: "بولادتها".
(10) المسند (1/375).
(11) سنن ابن ماجة برقم (4081) وقال البوصيري في الزوائد (3/261): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، مؤثر بن عفازة ذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد ثقات".

الأمر إلى عيسى عليه السلام، فتكلم على أشراطها؛ لأنه ينزل في آخر هذه الأمة منفذًا لأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقتل المسيح الدجال، ويجعل الله هلاك يأجوج ومأجوج ببركة دعائه، فأخبر بما أعلمه الله تعالى به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر (1) حدثنا عُبيد الله بن إياد بن لَقِيط (2) قال: سمعت أبي يذكر عن حذيفة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: "علمها عند ربي لا يُجَلِّيها لوقتها إلا هو، ولكن سأخبركم (3) بمشاريطها، وما يكون بين يديها: إن بين يديها فتنة وهرجًا"، قالوا: يا رسول الله، الفتنة قد عرفناها، فالهرج ما هو؟ قال بلسان الحبشة: "القتل". قال (4) وَيُلقَى بين الناس التَّنَاكرُ، فلا يكاد أحد يعرف أحدًا" (5) لم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه.
وقال وَكِيع: حدثنا ابن أبي خالد، عن طارق بن شهاب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكر من شأن (6) الساعة حتى نزلت: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } الآية [النازعات:42].
ورواه النسائي من حديث عيسى بن يونس، عن إسماعيل بن أبي خالد، به (7) وهذا إسناد جيد قوي.
فهذا النبي الأمي سيد الرسل وخاتمهم [محمد] (8) صلوات الله عليه وسلامه (9) نبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، والعاقب والمُقَفَّي، والحاشر الذي تحشر (10) الناس على قدميه، مع قوله فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس وسهل بن سعد، رضي الله عنهما: "بعثت أنا والساعة كهاتين" (11) وقرن بين إصبعيه السبابة والتي تليها. ومع هذا كله، قد أمره الله تعالى أن يَرُد علم وقت الساعة إليه إذا سئل عنها، فقال: { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }
__________
(1) في م: "مليكة".
(2) في أ: "عبد الله بن زياد بن لقيط".
(3) في ك، م: "أخبركم".
(4) في م: "وقال".
(5) المسند (5/389) قال الهيثمي في المجمع (7/309): "رجاله رجال الصحيح".
(6) في أ: "أمر".
(7) سنن النسائي الكبرى برقم (11645).
(8) زيادة من م، أ.
(9) في م:" صلى الله عليه وسلم "
(10) في أ: "يحشر".
(11) أما حديث أنس بن مالك:
فأخرجه البخاري في صحيحه برقم (6504) ومسلم في صحيحه برقم (2951).
وأما حديث سهل بن سعد:
فأخرجه البخاري في صحيحه برقم (4936) ومسلم في صحيحه برقم (2950).

قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)

{ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) }
أمره الله تعالى أن يفوّض الأمور إليه، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب، ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه، كما قال تعالى: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا .[ إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ] } [الجن:26، 27] (1)
__________
(1) زيادة من م، أ.

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)

وقوله: { وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ } قال عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد. { وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ } قال: لو كنت أعلم متى أموت، لعملت عملا صالحا.
وكذلك روى ابن أبي نجِيح عن مجاهد: وقال مثله ابن جُرَيْج.
وفيه نظر؛ لأن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دَيمة. وفي رواية: كان إذا عمل عملا أثبته (1)
فجميع عمله كان على منوال واحد، كأنه ينظر إلى الله، عز وجل، في جميع أحواله، اللهم إلا أن يكون المرادُ أن يرشد غيره إلى الاستعداد لذلك، والله أعلم.
والأحسن في هذا ما رواه الضحاك، عن ابن عباس: { وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ } أي: من المال. وفي رواية: لعلمت إذا اشتريت شيئًا ما (2) أربح فيه، فلا أبيع شيئًا إلا ربحت فيه، وما مسني السوء، قال: ولا يصيبني الفقر.
وقال ابن جرير: وقال آخرون: معنى ذلك: لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة، ولعرفت (3) الغَلاء من الرخص، فاستعددت له من الرخص.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } قال: لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون، واتقيته.
ثم أخبر أنه إنما هو نذير وبشير، أي: نذير من العذاب، وبشير للمؤمنين بالجنات، كما قال تعالى: { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } [مريم:97]
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) }
ينبه تعالى على أنه خلق جميع الناس من آدم، عليه السلام، وأنه خلق منه زوجه (4) حواء، ثم انتشر الناس منهما، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات:13] وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً ] (5) } الآية [النساء:1] .
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (783) من حديث عائشة، رضي الله عنها.
(2) في م: "مما".
(3) في أ: "ولوقت".
(4) في د: "زوجته".
(5) زيادة من م، أ.

وقال في هذه الآية الكريمة: { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } أي: ليألفها ويسكن بها، كما قال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } [الروم:21] فلا ألفة بين زَوْجين أعظم مما بين الزوجين؛ ولهذا ذكر تعالى أن الساحر ربما توصل بكيده إلى التفرقة بين المرء وزوجه.
{ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } أي: وطئها { حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا } وذلك أول الحمل، لا تجد المرأة له ألما، إنما هي النُّطفة، ثم العَلَقة، ثم المُضغة.
وقوله: { فَمَرَّتْ بِهِ } قال مجاهد: استمرت بحمله. وروي عن الحسن، وإبراهيم النَّخَعَي، والسُّدِّي، نحوه.
وقال ميمون بن مهران: عن أبيه استخفته.
وقال أيوب: سألت الحسن عن قوله: { فَمَرَّتْ بِهِ } قال: لو كنت رجلا عربيًا لعرفت ما هي. إنما هي: فاستمرت به.
وقال قتادة: { فَمَرَّتْ بِهِ } واستبان حملها.
وقال ابن جرير: [معناه] (1) استمرت بالماء، قامت به وقعدت.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس: استمرت به، فشكت: أحملت (2) أم لا.
{ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ } أي: صارت ذات ثقل (3) بحملها.
وقال السدي: كبر الولد في بطنها.
{ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا } أي: بشرا سويا، كما قال الضحاك، عن ابن عباس: أشفقا أن يكون بهيمة.
وكذلك (4) قال أبو البَخْتري وأبو مالك: أشفقا ألا يكون إنسانًا.
وقال الحسن البصري: لئن آتيتنا غلامًا.
{ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ . فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ذكر المفسرون هاهنا آثارا وأحاديث سأوردها وأبين ما فيها، ثم نتبع ذلك بيان الصحيح في ذلك، إن شاء الله وبه الثقة.
قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عمر بن إبراهيم، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي (5) صلى الله عليه وسلم قال: "ولما ولدت حواء طاف بها إبليس -وكان لا يعيش لها ولد -فقال: سميه عبد الحارث؛ فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث، فعاش وكان ذلك من وحي
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في د، ك، م، أ: "أحبلت".
(3) في م: "أثقل".
(4) في أ: "وكذا".
(5) في د: "رسول الله".

الشيطان وأمره".
وهكذا رواه (1) ابن جرير، عن محمد بن بشار، بُنْدَار، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، به.
ورواه الترمذي في تفسيره (2) هذه الآية عن محمد بن المثنى، عن عبد الصمد، به وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم، عن قتادة، ورواه بعضهم عن عبد الصمد، ولم يرفعه.
ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث عبد الصمد مرفوعًا ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ورواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره، عن أبي زُرْعَة الرازي، عن هلال بن فياض، عن عمر بن إبراهيم، به مرفوعًا.
وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه في تفسيره من حديث شاذ بن فياض، عن عمر بن إبراهيم، به مرفوعا (3)
قلت: "وشاذ" [هذا] (4) هو: هلال، وشاذ لقبه. والغرض أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري، وقد وثقه ابن معين، ولكن قال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به. ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر، عن أبيه، عن الحسن، عن سمرة (5) مرفوعا فالله أعلم.
الثاني: أنه قد روي من قول سمرة نفسه، ليس مرفوعًا، كما قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه. وحدثنا ابن علية (6) عن سليمان التيمي، عن أبي العلاء بن الشخير، عن سمرة بن جندب، قال: سمى آدم ابنه "عبد الحارث".
الثالث: أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا، فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعًا، لما عدل عنه.
قال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن: { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } قال: كان هذا في بعض أهل الملل، ولم يكن بآدم (7)
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: قال الحسن: عنى بها ذرية آدم، ومن أشرك منهم بعده -يعني: [قوله] (8) { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } (9)
__________
(1) في أ: "وروي".
(2) في د، ك، م، أ: "تفسير".
(3) المسند (5/11) وتفسير الطبري (13/309)، وسنن الترمذي برقم (3077)، والمستدرك (2/545).
(4) زيادة من أ.
(5) في أ: "حمزة".
(6) في د، ك، م: "بكر بن عبد الله".
(7) تفسير الطبري (13/314).
(8) زيادة من ك، م، أ.
(9) تفسير الطبري (13/314).

وحدثنا بشر (1) حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادًا، فهوّدوا ونَصَّروا (2)
وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن، رحمه الله، أنه فسر الآية بذلك، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت (3) عليه الآية، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عدل عنه هو ولا غيره، ولا سيما مع تقواه لله وَوَرَعه، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب، من آمن منهم، مثل: كعب أو وهب بن مُنَبّه وغيرهما، كما سيأتي بيانه إن شاء الله [تعالى] (4) إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع، والله أعلم.
فأما (5) الآثار فقال محمد بن إسحاق بن يسار، عن داود بن الحُصَين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت حواء تلد لآدم، عليه السلام، أولادا فيعبدهم لله ويُسَمّيه: "عبد الله" و"عبيد الله"، ونحو ذلك، فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس وآدم فقال: إنكما لو تسميانه بغير الذي تُسميانه به لعاش (6) قال: فولدت له رجلا (7) فسماه "عبد الحارث" ، ففيه أنزل الله، يقول الله: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } إلى قوله: { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } إلى آخر الآية.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس قوله في آدم: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } إلى قوله: { فَمَرَّتْ بِهِ } شَكَّت (8) أحَبَلتْ أم لا؟ { فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } فأتاهما الشيطان، فقال: هل تدريان ما يولد لكما؟ أم هل تدريان ما يكون؟ أبهيمة (9) يكون أم لا ؟ وزيَّن لهما الباطل؛ إنه غوي مبين، وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا، فقال لهما الشيطان: إنكما إن لم تسمياه بي، لم يخرج سويا، ومات كما مات الأولان (10) فسميا ولدهما "عبد الحارث" ، فذلك قول الله [تعالى] (11) { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } الآية.
وقال عبد الله بن المبارك، عن شريك، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } قال: قال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } آدم { حَمَلَتْ [ حَمْلا خَفِيفًا ] } (12) فأتاهما إبليس -لعنه الله -فقال: إنى صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لَتطيعُنِّي أو لأجعلنَّ قرني له (13) أيل فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلنَّ ولأفعلنَّ -يخوفهما -فسمِّياه "عبد الحارث" فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت الثانية، فأتاهما أيضا فقال: أنا صاحبكما الذي فعلت ما فعلت، لتفعلُنَّ أو لأفعلَنَّ -يخوفهما -فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت الثالثة فأتاهما أيضا، فذكر لهما، فأدركهما حبُّ الولد، فسمياه "عبد الحارث" ، فذلك قوله: { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } رواه ابن أبي حاتم.
__________
(1) في أ: "بشير".
(2) تفسير الطبري (13/315).
(3) في أ: "ما دلت".
(4) زيادة من م.
(5) في د، م: "وأما".
(6) في ك: "فعاش".
(7) في أ: "ولدا".
(8) في م، أ: "فشكت".
(9) في ك: "بهيمة".
(10) في ك، م، أ: "الأول".
(11) زيادة من ك.
(12) زيادة من أ.
(13) في م، ك: "له قرن".

وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه، كمجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة. ومن الطبقة الثانية: قتادة، والسدي، وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف، ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة، وكأنه -والله أعلم -أصله مأخوذ من أهل الكتاب، فإن ابن عباس رواه عن أُبي بن كعب، كما رواه ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا أبو الجماهر (1) حدثنا سعيد -يعني ابن بشير -عن عقبة، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أُبي بن كعب قال: لما حملت حواء أتاها الشيطان، فقال (2) لها: أتطيعيني ويَسْلَم لك ولدك؟ سميه "عبد الحارث"، فلم تفعلْ، فولدت فمات، ثم حملت فقال لها مثل ذلك، فلم تفعل. ثم حملت الثالث فجاءها فقال: إن تطيعيني يسلم، وإلا فإنه يكون بَهِيمة، فهيَّبهما فأطاعا.
وهذه الآثار يظهر عليها -والله أعلم -أنها من آثار أهل الكتاب، وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا حَدَّثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم"، ثم أخبارهم على ثلاثة أقسام: فمنها: ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله. ومنها ما علمنا كذبه، بما دُلَّ على خلافه من الكتاب والسنة أيضًا. ومنها: ما هو مسكوت عنه، فهو المأذون في روايته، بقوله، عليه السلام: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حَرج" وهو الذي لا يصدَّق ولا يكذب، لقوله: "فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم". وهذا الأثر: [هل] (3) هو من القسم الثاني أو الثالث؟ فيه نظر. فأما من حدث به من صحَابي أو تابعي، فإنه يراه من القسم الثالث، وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري، رحمه الله، في هذا [والله أعلم] (4) وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته؛ ولهذا قال الله: { فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ثم قال:
__________
(1) في أ: "أبو الجماهير".
(2) في م، ك: "قال".
(3) زيادة من ك، م، أ.
(4) زيادة من ك.

أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)

{ أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) }

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)

{ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نزلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) }
هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره، من الأنداد والأصنام والأوثان، وهي مخلوقة لله مربوبة مصنوعة، لا تملك شيئا من الأمر، ولا تضر ولا تنفع، [ولا تنصر] (1) ولا تنتصر لعابديها، بل هي جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر، وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم؛ ولهذا قال: { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي: أتشركون (2) به من المعبودات ما لا يخلق شيئًا ولا يستطيع ذلك، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج:73 ، 74] أخبر تعالى أنه لو اجتمعت آلهتهم كلها، ما استطاعوا خلق ذبابة، بل لو أستَلبتهم (3) الذبابة شيئا من حَقير المطاعم (4) وطارت، لما استطاعوا إنقاذ ذلك منها، فمن هذه صفته وحاله، كيف يعبد ليرزق ويستنصر؟ ولهذا قال تعالى: { لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي: بل هم مخلوقون مصنوعون كما قال الخليل: { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * [ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ] (5) } [الصافات:95 ، 96]
ثم قال تعالى: { وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا } أي: لعابديهم { وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } يعني: ولا لأنفسهم ينصرون ممن أرادهم بسوء، كما كان الخليل، عليه الصلاة والسلام، يكسر أصنام قومه ويهينُها غاية الإهانة، كما أخبر تعالى عنه في قوله: { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ } [الصافات:93] وقال تعالى: { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } [الأنبياء:58] وكما كان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل، رضي الله عنهما -وكانا شابين قد أسلما لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة -فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبا للأرامل، ليعتبر قومهما بذلك، ويرتئوا لأنفسهم، فكان لعمرو بن الجموح -وكان سيدًا في قومه -كان له صنم يعبده ويطيبه، فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه، ويلطخانه بالعَذِرة، فيجيء عمرو بن الجموح فيرى ما صنع به فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا، ويقول له: "انتصر". [ثم] (6) يعودان لمثل ذلك، ويعود إلى صنيعه أيضا، حتى أخذاه مرة فقرنا معه جرو كلب ميت، ودلَّياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك، نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل، وقال:
تَالله لو كُنتَ إِلَها مُسْتَدن ... لم تَكُ والكَلْبُ جَمِيعًا في قَرنْ (7)
ثم أسلم فَحسُن إسلامه، وقتل يوم أحد شهيدًا، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل جنة الفردوس مأواه.
وقوله: { وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ [ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ] } (8) يعني: أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها، وسواء لديها من دعاها ومن دحاها، كما قال إبراهيم: { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } [مريم:42] ؟
ثم ذكر تعالى أنها عبيد مثل عابديها، أي: مخلوقات مثلهم، بل الأناسي أكمل منها، لأنها
__________
(1) زيادة من د، ك، م، أ.
(2) في م، أ: "أيشركون".
(3) في د: "سلبتهم".
(4) في د، م: "الطعام".
(5) زيادة من د، ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".
(6) زيادة من د، م، أ.
(7) انظر: الرجز في السيرة النبوية لابن هشام (1/354).
(8) زيادة من أ، وفي هـ: "الآية".

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)

تسمع وتبصر وتبطش، وتلك لا تفعل شيئا من ذلك.
وقوله: { قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ } (1) أي: استنصروا بها علي، فلا تؤخروني طرفة عين، واجهدوا جهدكم! { إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نزلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } أي: الله حسبي وكافىّ، وهو نصيري وعليه متكلي، وإليه ألجأ، وهو وليي في الدنيا والآخرة، وهو ولي كل صالح بعدي. وهذا كما قال هود، عليه السلام، لما قال له قومه: { إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُون * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [هود:54-56] وكقول الخليل [عليه السلام] (2) { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * [ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ] (3) } [الشعراء:75-80] الآيات، وكقوله لأبيه وقومه { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الزخرف:26-28]
وقوله: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } إلى آخر الآية، مؤكد لما تقدم، إلا أنه بصيغة الخطاب، وذلك بصيغة الغيبة؛ ولهذا قال: { لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ }
وقوله: { وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } كقوله تعالى: { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ [ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (4) ] } [فاطر:14]
وقوله: { وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } إنما قال: { يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ } أي: يقابلونك بعيون مصورة كأنها ناظرة، وهي جماد؛ ولهذا عاملهم معاملة من يعقل؛ لأنها على صور مصورة كالإنسان، [فقال] (5) { وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ } فعبر عنها بضمير من يعقل.
وقال السدي: المراد بهذا (6) المشركون وروي عن مجاهد نحوه. والأول أولى، وهو اختيار ابن جرير، وقاله قتادة.
{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) }
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { خُذِ الْعَفْوَ } يعني: خذ ما عفا لك من أموالهم، وما أتوك به من شيء فخذه. وكان هذا قبل أن تنزل "براءة" بفرائض الصدقات وتفصيلها، وما انتهت إليه الصدقات. قاله السدي.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: { خُذِ الْعَفْوَ } أنفق الفضل. وقال سعيد (7) بن جبير عن ابن عباس: قال الفضل.
__________
(1) زيادة من د، ك، م، أ، وفي هـ: "الآية".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ. وفي هـ: "الآية".
(5) زيادة من د، أ.
(6) في أ: "بها".
(7) في م: "حميد".

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: { خُذِ الْعَفْوَ } أمره الله بالعفو والصفح عن المشركين عشر سنين، ثم أمره بالغلظة عليهم. واختار هذا القول ابن جرير.
وقال غير واحد، عن مجاهد في قوله تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ } قال: من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تحسس (1)
وقال هشام بن عُرْوة، عن أبيه: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس. وفي رواية قال: خذ ما عفي لك من أخلاقهم.
وفي صحيح البخاري، عن هشام، عن أبيه عروة، عن أخيه (2) عبد الله بن الزبير قال: إنما أنزل (3) { خُذِ الْعَفْوَ } من أخلاق الناس (4) وفي رواية لغيره: عن هشام، عن أبيه، عن ابن عمر. وفي رواية: عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أنهما قالا مثل ذلك (5) والله أعلم.
وفي رواية سعيد بن منصور، عن أبي معاوية، عن هشام، عن وهب بن كيسان، عن ابن (6) الزبير: { خُذِ الْعَفْوَ } قال: من أخلاق الناس، والله لآخذنه منهم ما صحبتهم. وهذا أشهر الأقوال، ويشهد له ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم جميعا: حدثنا يونس حدثنا سفيان -هو ابن عيينة -عن أمي قال: لما أنزل الله، عز وجل، على نبيه صلى الله عليه وسلم: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا يا جبريل؟" قال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك.
وقد رواه ابن أبي حاتم أيضا، عن أبي يزيد القراطيسي كتابة، عن أصْبَغ بن الفرج، عن سفيان، عن أُمَيّ عن الشعبي. نحوه، وهذا -على كل حال -مرسل، وقد روي له شاهد (7) من وجوه أخر، وقد روي مرفوعا عن جابر وقيس بن سعد بن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أسندهما ابن مردويه (8)
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معاذ بن رفاعة، حدثني علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة الباهلي، عن عقبة بن عامر، رضي الله عنه، قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته، فأخذت بيده، فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال. فقال: "يا عقبة، صل من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرض عمن ظلمك".
وروى الترمذي نحوه، من طريق عبيد الله بن زَحْر (9) عن علي بن يزيد، به. وقال حسن (10)
قلت: ولكن "علي بن يزيد" وشيخه "القاسم أبو عبد الرحمن"، فيهما ضعف.
__________
(1) في د، ك، م: "تحسيس"، وفي أ: "تجسيس".
(2) في أ: "عن أبيه".
(3) في أ: "أنزل الله".
(4) صحيح البخاري برقم (4643 ، 4644).
(5) قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (8/305): "وقال عبيد الله بن عمر، عن هشام، عن أبيه، عن ابن عمر، أخرجه البزار والطبراني وهي شاذة، وكذا رواية حماد بن سلمة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة عند ابن مردويه".
(6) في أ: "عن أبي".
(7) في ك، م: "شواهد".
(8) ذكره السيوطي في الدر المنثور (3/628).
(9) في م: "أحمد"، وفي أ: "نحر".
(10) المسند (4/148) وسنن الترمذي برقم (2406).

وقال البخاري قوله: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } "العرف": المعروف. حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن ابن عباس قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس -وكان من النفر الذين يدنيهم عمر -وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته -كُهولا كانوا أو شبابا -فقال عيينة لابن أخيه: يابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر [رضي الله عنه] (1) فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وَقَّافًا عند كتاب الله، عز وجل. انفرد بإخراجه البخاري (2)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس، عن عبد الله بن نافع؛ أن سالم بن عبد الله بن عمر مر على عير لأهل الشام وفيها جرس، فقال: إن هذا منهي عنه، فقالوا: نحن أعلم بهذا منك، إنما يكره الجُلْجُل الكبير، فأما مثل هذا فلا بأس به. فسكت سالم وقال: { وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }
وقول البخاري: "العرف: المعروف" نص عليه عروة بن الزبير، والسُّدِّي، وقتادة، وابن جرير، وغير واحد. وحكى ابن جرير أنه يقال: أوليته عرفًا، وعارفًا، وعارفة، كل ذلك بمعنى: "المعروف". قال: وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف، ويدخل في ذلك جميع الطاعات، وبالإعراض عن الجاهلين، وذلك وإن كان أمرا لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنه تأديب لخلقه باحتمال من ظلمهم واعتدى عليهم، لا بالإعراض عمن جهل الحق الواجب من حق الله، ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته، وهو للمسلمين حرب.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة في قوله: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } قال: هذه أخلاق أمر الله [عز وجل] (3) بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ودله عليها.
وقد أخذ بعض الحكماء هذا المعنى، فسبكه في بيتين فيهما جناس فقال:
خُذ العفو وأمر بعُرفٍ كَمَا ... أُمِرتَ وأعْرض عن الجَاهلينْ ...
وَلِنْ في الكَلام لكُلِّ الأنام ... فَمُسْتَحْسَن من ذَوِي الجاه لين ...
وقال بعض العلماء: الناس رجلان: فرجل محسن، فخذ ما عفا لك من إحسانه، ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه. وإما مسيء، فمره بالمعروف، فإن تمادى على ضلاله، واستعصى عليك، واستمر في جهله، فأعرض عنه، فلعل ذلك أن يرد كيده، كما قال تعالى: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [المؤمنون:96-98]
__________
(1) زيادة من أ.
(2) صحيح البخاري برقم (4642).
(3) زيادة من أ.

وقال تعالى: { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا} أي هذه الوصية { إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [فصلت:34-36] وقال في هذه السورة الكريمة أيضا: { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فهذه الآيات الثلاث في "الأعراف" و "المؤمنون" و "حم السجدة" ، لا رابع لهن، فإنه تعالى يرشد فيهن إلى معاملة العاصي من الإنس بالمعروف والتي هي أحسن، فإن ذلك يكفه عما هو فيه من التمرد بإذنه تعالى؛ ولهذا قال: { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } ثم يرشد تعالى إلى الاستعاذة به من شيطان الجان، فإنه لا يكفه (1) عنك الإحسان، وإنما يريد هلاكك ودمارك بالكلية، فإنه عدو مبين لك ولأبيك من قبلك.
قال ابن جرير في تفسير قوله: { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ } وإما يُغْضبَنَّك من الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهلين (2) ويحملك على مجازاتهم { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } يقول: فاستجر بالله من نزغه { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يقول: إن الله الذي تستعيذ به من نزغ الشيطان سميع لجهل الجاهل عليك، والاستعاذة به من نزغه، ولغير ذلك من كلام خلقه، لا يخفى عليه منه شيء، عليم بما يذهب عنك نزغ الشيطان، وغير ذلك من أمور خلقه.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما نزل: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رب، كيف بالغضب؟" فأنزل الله: { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (3)
قلت: وقد تقدم في أول الاستعاذة حديث الرجلين اللذين تسابا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب أحدهما حتى جعل أنفه يتمزع غضبًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". فقيل له، فقال: ما بي من جنون (4)
وأصل "النزغ": الفساد، إما بالغضب أو غيره، قال الله تعالى: { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ } [الإسراء:53] و"العياذ": الالتجاء والاستناد والاستجارة من الشر، وأما "الملاذ" ففي طلب الخير، كما قال أبو الطيب [الحسن بن هانئ] (5) المتنبي:
يَا مَنْ ألوذُ به فيمَا أؤمِّلُه ... وَمَنْ أعوذُ به مما أحَاذرُه ...
لا يَجْبر الناس عَظمًا أنت كاسرُه ... ولا يَهِيضُون عَظمًا أنت جَابِره (6) ...
وقد قدمنا أحاديث الاستعاذة في أول التفسير، بما أغنى عن إعادته هاهنا.
__________
(1) في ك، م: "لا يكفيه"، وفي أ: "لا يكفيك".
(2) في د، ك، م: "الجاهل".
(3) تفسير الطبري (13/333).
(4) انظر: الحديث وتخريجه في الكلام على الاستعاذة.
(5) زيادة من ك، م، أ.
(6) ديوان المتنبي (2/272).
قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (11/275): "وقد بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، رحمه الله، أنه كان ينكر على المتنبي هذه المبالغة في مخلوق ويقول: إنما يصلح لجناب الله سبحانه وتعالى.
وأخبرني العلامة شمس الدين بن القيم، رحمه الله، أنه سمع الشيخ تقي الدين المذكور يقول: ربما قلت هذين البيتين في السجود، أدعوا الله بما تضمناه من الذل والخضوع".

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)

{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) }
يخبر تعالى عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر، وتركوا ما عنه زجر، أنهم { إِذَا مَسَّهُمْ } أي: أصابهم "طيف" وقرأ آخرون: "طائف"، وقد جاء فيه حديث، وهما قراءتان مشهورتان، فقيل: بمعنى واحد. وقيل: بينهما فرق، ومنهم من فسر ذلك بالغضب، ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه، ومنهم من فسره بالهم بالذنب، ومنهم من فسره بإصابة الذنب.
وقوله: { تَذَكَّرُوا } أي: عقاب الله وجزيل ثوابه، ووعده ووعيده، فتابوا وأنابوا، واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب. { فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } أي: قد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه.
وقد أورد (1) الحافظ أبو بكر بن مردويه هاهنا حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: جاءت امرأة إلى النبي (2) صلى الله عليه وسلم وبها طيف فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يشفيني. فقال: "إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك". فقالت: بل أصبر، ولا حساب علي.
ورواه غير واحد من أهل السنن، وعندهم: قالت (3) يا رسول الله، إني أصرع وأتكشف، فادع الله أن يشفيني. فقال (4) إن شئت دعوت الله أن يشفيك، وإن شئت صبرت ولك الجنة؟" فقالت: بل أصبر، ولي الجنة، ولكن (5) ادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها، فكانت لا تتكشف.
وأخرجه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه (6)
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة "عمرو بن جامع" من تاريخه: أن شابًا كان يتعبد في المسجد، فهويته امرأة، فدعته إلى نفسها، وما (7) زالت به حتى كاد يدخل معها المنزل، فذكر هذه الآية: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } فخر مغشيًا عليه، ثم أفاق فأعادها، فمات. فجاء عمر فَعزَّى فيه أباه (8) وكان قد دفن ليلا فذهب فصلى على قبره بمن معه، ثم ناداه عمر فقال: يا فتى (9) { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن:46] وأجابه الفتى من داخل القبر: يا عمر، قد أعطانيهما ربي، عز وجل، في الجنة مرتين (10)
وقوله: { وَإِخْوَانِهِمْ } أ:ي وإخوان الشياطين من الإنس، كقوله: { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } [الإسراء:27] وهم أتباعهم والمستمعون (11) لهم القابلون (12) لأوامرهم { يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ } أي: تساعدهم الشياطين على [فعل] (13) المعاصي، وتسهلها عليهم وتحسنها لهم.
__________
(1) في ك: "روى".
(2) في أ: "رسول الله".
(3) في م، أ: "فقالت".
(4) في أ: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(5) في أ: ولكن يا رسول الله".
(6) المستدرك (4/218).
(7) في د: "فما".
(8) في أ: "أهله".
(9) في د، ك، أ: "يا فلان".
(10) تاريخ دمشق لابن عساكر (13/ 411 ، 412) "القسم المخطوط". ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (19/190، 191).
(11) في ك، م، أ: "المستمعين".
(12) في أ: "القائلون".
(13) زيادة من أ.

وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)

وقال ابن كثير: المد: الزيادة. يعني: يزيدونهم في الغي، يعني: الجهل والسفه.
{ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ } قيل: معناه إن الشياطين تمد، والإنس لا تقصر في أعمالهم بذلك . كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ } قال: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم.
قيل: معناه كما رواه العوفي، عن ابن عباس في قوله: { يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ } قال: هم الجن، يوحون إلى أوليائهم من الإنس { ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ } يقول: لا يسأمون.
وكذا قال السُّدِّي وغيره: يعني إن الشياطين يمدون أولياءهم من الإنس ولا تسأم من إمدادهم في الشر؛ لأن ذلك طبيعة لهم وسَجِيَّة، لا تفتر فيه ولا تبطل عنه، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } [مريم:83] قال ابن عباس وغيره: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا.
{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) }
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: { قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا } يقول: لولا تلقيتها. وقال مرة أخرى: لولا أحدثتها فأنشأتها.
وقال ابن جرير (1) عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد في قوله [تعالى] (2) { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا } قال: لولا اقتضيتها، قالوا: تخرجها عن نفسك. وكذا قال قتادة، والسدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير.
وقال العوفي، عن ابن عباس [رضي الله عنه] (3) { لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا } يقول: تلقيتها من الله، عز وجل (4)
وقال الضحاك: { لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا } يقول: لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء.
ومعنى قوله تعالى: { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ } أي: معجزة، وخارق، كما قال تعالى: { إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [الشعراء:4] يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: ألا تجهد نفسك في طلب الآيات [من الله] (5) حتى نراها ونؤمن بها، قال الله تعالى له: { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي } أي: أنا لا أتقدم إليه تعالى في شيء، وإنما أتبع ما أمرني به فأمتثل ما يوحيه إلي، فإن بعث آية قبلتها، وإن منعها لم أسأله ابتداء إياها؛ إلا أن يأذن لي في ذلك، فإنه حكيم عليم.
ثم أرشدهم إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات، وأبين الدلالات، وأصدق الحجج والبينات، فقال: { هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
__________
(1) في د، أ: "جريج".
(2) زيادة من ك، أ.
(3) زيادة من أ.
(4) في د، ك، أ: "تعالى".
(5) زيادة من م.

وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)

{ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) }
لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة، أمر تعالى بالإنصات عند تلاوته إعظامًا له واحترامًا، لا كما كان يعتمده كفار قريش المشركون (1) في قولهم: { لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ] (2) } [فصلت:26] ولكن يتأكد ذلك في الصلاة المكتوبة إذا جهر الإمام بالقراءة كما ورد الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، من حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا" (3) وكذلك رواه أهل السنن من حديث أبي هريرة (4) وصححه مسلم بن الحجاج أيضا، ولم يخرجه في كتابه (5) وقال إبراهيم بن مسلم الهجري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة قال: كانوا يتكلمون في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [ وَأَنْصِتُوا ] } (6) والآية الأخرى، أمروا بالإنصات (7)
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن المسيب بن رافع، قال ابن مسعود: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة: سلام على فلان، وسلام على فلان، فجاء القرآن { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
وقال أيضا: حدثنا أبو كريب، حدثنا المحاربي، عن داود بن أبي هند، عن بشير بن جابر قال: صلى ابن مسعود، فسمع ناسًا يقرءون مع الإمام، فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفهموا؟ أما آن لكم أن تعقلوا؟ { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } كما أمركم (8) الله (9)
قال: وحدثني أبو السائب، حدثنا حفص، عن أشعث، عن الزهري قال: نزلت هذه الآية في فتى من الأنصار، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ شيئا قرأه، فنزلت: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا }
وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث الزهري، عن أبي أُكَيْمضة الليثي، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: "هل قرأ أحد منكم معي آنفا؟" قال رجل: نعم يا رسول الله. قال (10) إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟" قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلوات (11) حين سمعوا ذلك من
__________
(1) في أ: "المشركين".
(2) زيادة من د.
(3) صحيح مسلم برقم (404).
(4) رواه النسائي في السنن (12/141) ، وابن ماجة في السنن برقم (846).
(5) انظر الكلام على هذه الزيادة في: سورة الفاتحة.
(6) زيادة من م.
(7) رواه الطبري في تفسيره (13/345).
(8) في أ: "كما أمر".
(9) تفسير الطبري (13/346).
(10) في ك، م: "فقال".
(11) في د: "الصلاة"

رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)
وقال الترمذي: "هذا حديث حسن". وصححه أبو حاتم الرازي.
وقال عبد الله بن المبارك، عن يونس عن الزهري قال: لا يقرأ من وراء الإمام فيما يجهر به الإمام، تكفيهم قراءة الإمام وإن لم يسمعهم صوته، ولكنهم يقرءون فيما لا يجهر به سرًا في أنفسهم، ولا يصلح لأحد خلفه أن يقرأ معه فيما يجهر به سرًا ولا علانية، فإن الله تعالى قال: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
قلت: هذا مذهب طائفة من العلماء: أن المأموم لا يجب عليه في الصلاة الجهرية قراءة فيما جهر فيه الإمام لا الفاتحة ولا غيرها، وهو أحد قولي الشافعي، وهو القديم كمذهب مالك، ورواية عن أحمد بن حنبل، لما ذكرناه من الأدلة المتقدمة. وقال في الجديد: يقرأ الفاتحة فقط في سكتات الإمام، وهو قول طائفة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل: لا يجب على المأموم قراءة أصلا في السرية ولا الجهرية، لما ورد في الحديث: "من كان له إمام فقراءته له قراءة". وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده عن جابر مرفوعًا، وهو في موطأ مالك عن وهب بن كيسان، عن جابر موقوفًا، وهذا أصح. وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع (2) وقد أفرد لها الإمام أبو عبد الله البخاري مصنفًا على حدة (3) واختار وجوب القراءة خلف الإمام في السرية والجهرية أيضا، والله أعلم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } يعني: في الصلاة المفروضة. وكذا روي عن عبد الله بن المغفل.
وقال ابن جرير: حدثنا حُمَيْد بن مَسْعَدة، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا الجريري، عن طلحة بن عبيد الله بن كَرِيزَ قال: رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدثان، والقاص يقص، فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود؟ قال: فنظرا إلي، ثم أقبلا على حديثهما. قال: فأعدت (4) فنظرا إلي، وأقبلا (5) على حديثهما. قال: فأعدت الثالثة، قال: فنظرا إلي فقالا إنما ذلك في الصلاة: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا }
وقال سفيان الثوري، عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير، عن مجاهد في قوله: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } قال: في الصلاة. وكذا رواه غير واحد عن مجاهد.
وقال عبد الرزاق، عن الثوري، عن ليث، عن مجاهد قال: لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم.
__________
(1) المسند (2/301) وسنن أبي داود برقم (826) وسنن الترمذي برقم (312) وسنن النسائي (2/140) وسنن ابن ماجة برقم (848).
(2) انظر الكلام مبسوطا في: مقدمة سورة الفاتحة.
(3) سماه "جزء القراءة خلف الإمام" مطبوع في مؤسسة الرسالة ببيروت.
(4) في أ: "فأعدت الكلام".
(5) في أ: "ثم أقبلا".

وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)

وكذا قال سعيد بن جبير، والضحاك، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والشعبي، والسدي، وعبد الرحمن ابن زيد بن أسلم: أن المراد بذلك في الصلاة.
وقال شعبة، عن منصور، سمعت إبراهيم بن أبي حرة يحدث أنه سمع مجاهدا يقول في هذه الآية: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } قال: في الصلاة والخطبة يوم الجمعة.
وكذا روى ابن جريج (1) عن عطاء، مثله.
وقال هُشَيْم، عن الربيع بن صبيح، عن الحسن قال: في الصلاة وعند الذكر.
وقال ابن المبارك، عن بَقِيَّة: سمعت ثابت بن عجلان يقول: سمعت سعيد بن جبير يقول في قوله: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } قال: الإنصات يوم الأضحى، ويوم الفطر، ويوم الجمعة، وفيما يجهر به الإمام من الصلاة.
وهذا اختيار ابن جرير أن المراد بذلك [الإنصات في الصلاة وفي الخطبة؛ لما جاء في الأحاديث من الأمر بالإنصات] (2) خلف الإمام وحال الخطبة.
وقال عبد الرزاق، عن الثوري، عن ليث، عن مجاهد أنه كره إذا مر الإمام بآية خوف أو بآية رحمة أن يقول أحد من خلفه شيئا، قال: السكوت.
وقال مبارك بن فَضَالة، عن الحسن: إذا جلست إلى القرآن، فأنصت له.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عباد بن ميسرة، عن الحسن، عن أبي هريرة، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من استمع إلى آية من كتاب الله، كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نورًا يوم القيامة". تفرد به أحمد (3) رحمه الله.
{ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) }
يأمر تعالى بذكره أول النهار وآخره، كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قوله: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } [ق:39] وقد كان هذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء، وهذه الآية مكية.
وقال هاهنا بالغدو -وهو أوائل النهار: { وَالآصَالِ } جمع أصيل، كما أن الأيمان جمع يمين.
وأما قوله: { تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } أي: اذكر ربك في نفسك رهبة ورغبة، وبالقول لا جهرًا؛ ولهذا
__________
(1) في د، أ: "ابن جرير".
(2) زيادة من م، أ.
(3) المسند (2/341) وفي إسناده عباد بن ميسرة وهو ضعيف.

قال: { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } وهكذا يستحب أن يكون الذكر لا يكون نداء و[لا] (1) جهرًا بليغًا؛ ولهذا لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة:186] (2)
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا؛ إن الذي تدعونه سميع قريب" (3)
وقد يكون المراد من هذه الآية كما في قوله تعالى: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } [الإسراء:110] فإن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن سبوه، وسبوا من أنزله، و[سبوا] (4) من جاء به؛ فأمره الله تعالى ألا يجهر به، لئلا ينال منه المشركون، ولا يخافت به عن أصحابه فلا يسمعهم، وليتخذ سبيلا بين الجهر والإسرار. وكذا قال في هذه الآية الكريمة: { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ }
وقد زعم ابن جرير وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم قبله: أن المراد بهذه الآية: أمر السامع للقرآن في حال استماعه بالذكر على هذه الصفة. وهذا بعيد مناف للإنصات المأمور به، ثم المراد بذلك في الصلاة، كما تقدم، أو الصلاة والخطبة، ومعلوم أن الإنصات إذ ذاك أفضل من الذكر باللسان، سواء كان سرًا أو جهرًا، فهذا الذي قالاه لم يتابعا عليه، بل المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال، لئلا يكونوا من الغافلين؛ ولهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فقال: { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ [ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ] } (5) وإنما ذكرهم بهذا ليتشبه بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم؛ ولهذا شرع لنا السجود هاهنا لما ذكر سجودهم لله، عز وجل، كما جاء في الحديث: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها، يتمون الصفوف الأوَل، ويتَراصُّون في الصف" (6)
وهذه أول سجدة في القرآن، مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع. وقد ورد في حديث رواه ابن ماجة، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عدها في سجدات القرآن (7)
آخر [تفسير] (8) سورة الأعراف، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) رواه الطبري في تفسيره (3/480) من طريق عبدة السجستاني، عن الصلت بن حكيم، عن أبيه، عن جده فذكره، وقد سبق الكلام عليه عند الآية: 186 من سورة البقرة.
(3) صحيح البخاري برقم (4205) وصحيح مسلم برقم (2704).
(4) زيادة من د.
(5) زيادة من ك، م، أ، وفي هـ: "الآية".
(6) رواه مسلم في صحيحه برقم (430) من حديث جابر بن سمرة، رضي الله عنه.
(7) سنن ابن ماجة برقم (1056).
(8) زيادة من ك، م.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)

تفسير سورة الأنفال
وهي مدنية (1) آياتها سبعون وست آيات (2) كلماتها ألف كلمة، وستمائة كلمة، وإحدى (3) وثلاثون كلمة، حروفها خمسة آلاف ومائتان، وأربعة وتسعون (4) حرفا، والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) }
قال البخاري : قال ابن عباس الأنفال: الغنائم: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا سعيد بن سليمان، أخبرنا هُشَيْم، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: سورة الأنفال؟ قال نزلت في بدر.
أما ما عَلَّقه عن ابن عباس، فكذلك رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال: "الأنفال": الغنائم، كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة، ليس لأحد منها (5) شيء. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وعطاء، والضحاك، وقتادة، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حَيَّان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد أنها الغنائم (6)
وقال الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه قال : الأنفال: الغنائم، قال فيها لَبِيدُ:إِنَّ تَقْوَى رَبّنَا خيرُ نَفَلوَبِإِذْنِ اللهِ رَيثي وَعَجَلْ (7)
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن القاسم بن محمد قال: سمعت رجلا يسأل ابن عباس عن "الأنفال"، فقال ابن عباس، رضي الله عنهما: الفرس من النَّفل، والسلب من النفل. ثم عاد لمسألته، فقال ابن عباس ذلك أيضا. ثم قال الرجل: الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي؟ قال القاسم: فلم يزل يسأله حتى كاد يُحرجه، فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا، مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب (8)
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن القاسم بن محمد قال: قال ابن عباس: كان
__________
(1) في د: "مكية".
(2) في د،م: "ستة وأربعون"، وفي أ: "أربعون وست آيات".
(3) في د: "واحد".
(4) في د: "سبعون".
(5) في د: "فيها".
(6) في د، ك، م: "المغانم".
(7) البيت في تفسير الطبري (13/366) ولسان العرب مادة (نفل).
(8) تفسير الطبري (13/364).

عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذا سئل عن شيء قال: لا آمرك ولا أنهاك. ثم قال ابن عباس : والله ما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلا زاجرا آمرا محلا محرما. قال القاسم: فَسُلِّطَ على ابن عباس رجل يسأله (1) عن الأنفال، فقال ابن عباس: كان الرجل ينفل فرس الرجل وسلاحه. فأعاد عليه الرجل، فقال له مثل ذلك، ثم أعاد عليه حتى أغضبه، فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا ؟ مثل صَبِيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب، حتى سالت الدماء على عقبيه -أو على: رجليه فقال الرجل: أما أنت فقد انتقم الله لعمر منك (2)
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس: أنه فسر النفل بما ينفله الإمام لبعض الأشخاص من سلب أو نحوه، بعد قسم أصل المغنم، وهو المتبادر إلى فهم كثير من الفقهاء من لفظ النفل، والله أعلم.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس، فنزلت: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ } (3)
وقال ابن مسعود ومسروق: لا نفل يوم الزحف، إنما النفل قبل التقاء الصفوف. رواه ابن أبي حاتم عنهما.
وقال ابن المبارك وغير واحد، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ } قال: يسألونك فيما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال، من دابة أو عبد أو أمة أو متاع، فهو نفل للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يشاء.
وهذا يقتضي أنه فسر الأنفال بالفيء، وهو ما أخذ من الكفار من غير قتال.
وقال ابن جرير: وقال آخرون: هي أنفال السرايا، حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا علي بن صالح بن حيي قال: بلغني في قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ } قال: السرايا.
ويعني (4) هذا: ما ينفله الإمام لبعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية
الجيش، وقد صرح بذلك الشعبي، واختار ابن جرير أنها الزيادات على القسم، ويشهد لذلك ما ورد في سبب نزول الآية، وهو ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا أبو إسحاق الشيباني، عن محمد بن عبد الله (5) الثقفي، عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر، وقتل أخي عُمَيْر، وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه، وكان يسمى "ذا الكتيفة" ، فأتيت به نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "اذهب فاطرحه في القبض" . قال: فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي. قال: فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب فخذ سيفك" (6)
__________
(1) في د، ك، م: "فسأله" وفي أ: "سأله".
(2) تفسير عبد الرزاق (1/231) وصبيغ هو "ابن عسل" ويقال "ابن سهل" التميمي. انظر قصته في: الإصابة (2/198).
(3) رواه الطبري في تفسيره (13/365).
(4) في د: "ومعنى".
(5) في أ: "عبيد الله".
(6) المسند (1/180).

وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أسود بن عامر، أخبرنا أبو بكر، عن عاصم بن أبي النَّجود، عن مصعب بن سعد، عن سعد بن مالك قال: قال: يا رسول الله، قد شفاني الله اليوم من المشركين، فهب لي هذا السيف. فقال: "إن هذا السيف لا لك ولا لي، ضعه" قال: فوضعته، ثم رجعت، قلت: عسى أن يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي! قال: رجل (1) يدعوني من ورائي، قال: قلت: قد أنزل الله في شيئا؟ قال: "كنت سألتني السيف، وليس هو لي وإنه قد وهب لي، فهو لك" قال: وأنزل الله هذه الآية: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ }
ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي من طرق، عن أبي [بكر] (2) بن عياش، به (3) وقال الترمذي: حسن صحيح.
وهكذا رواه أبو داود الطيالسي: أخبرنا شعبة، أخبرنا سماك بن حرب، قال: سمعت مصعب بن سعد، يحدث عن سعد قال: نزلت في أربع آيات: أصبت سيفا يوم بدر، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: نَفِّلْنِيه. فقال: "ضعه من حيث أخذته" مرتين، ثم عاودته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ضعه من حيث أخذته" ، فنزلت هذه الآية: "يسألونك عن الأنفال: (4)
وتمام الحديث في نزول: { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } [العنكبوت: 8] (5) وقوله تعالى: { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } [المائدة : 90]وآية الوصية. وقد رواه مسلم في صحيحه، من حديث شعبة، به (6)
وقال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن بعض بني ساعدة قال: سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة يقول: أصبت سيف ابن عائذ يوم بدر، وكان السيف يدعى بالمرزبان، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يردوا ما في أيديهم من النفل، أقبلت به فألقيته في النفل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئا يسأله، فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، فسأله رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (7) فأعطاه إياه (8)
ورواه ابن جرير من وجه آخر.
[سبب آخر في نزول الآية]:
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الرحمن، عن (9) سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي أمامة قال: سألت عبادة عن الأنفال، فقال: فينا -أصحاب بدر-
__________
(1) في أ: "إذا رجل".
(2) زيادة من ك، م، أ.
(3) المسند (1/178) وسنن أبي داود برقم (2740) وسنن الترمذي برقم (3079) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11196).
(4) مسند الطيالسي برقم (208).
(5) في أ: :إحسانا".
(6) صحيح مسلم برقم (1748).
(7) زيادة من ك، أ.
(8) رواه الطبري في تفسيره (13/374) من طريق ابن إسحاق به.
(9) في د: "بن".

نزلت، حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه الله من أيدينا، وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء -يقول: عن سواء (1)
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا معاوية بن عمرو، أخبرنا أبو (2) إسحاق، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش (3) بن أبي ربيعة، عن سليمان بن موسى، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فشهدت معه بدرا، فالتقى الناس، فهزم الله [تعالى] (4) العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأكبت (5) طائفة على العسكر يحوونه ويجمعونه. وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها، فليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق به منا، نحن منعنا (6) عنها (7) العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: لستم بأحق منا، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وخفنا أن يصيب العدو منه غرة، فاشتغلنا به، فنزلت: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين -وكان رسول الله إذا غار في أرض العدو نفل الربع، فإذا أقبل وكل الناس راجعا، نفل الثلث، وكان يكره الأنفال ويقول: "ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم" .
ورواه الترمذي وابن ماجه، من حديث سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن الحارث به نحوه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن بن الحارث (8) وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وروى أبو داود والنسائي، وابن جرير، وابن مردويه -واللفظ له -وابن حبان، والحاكم من طرق، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا، فتسارع (9) في ذلك شبان الرجال، وبقي الشيوخ تحت الرايات، فلما كانت المغانم، جاءوا يطلبون الذي جعل لهم، فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنا كنا ردءًا لكم، لو انكشفتم لفئتم (10) إلينا. فتنازعوا فأنزل الله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ } إلى قوله: { وَأَطِيعُوااللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (11)
وقال الثوري، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله
__________
(1) المسند (5/322).
(2) في م، د: "ابن".
(3) في أ: "عباس".
(4) زيادة من د، م.
(5) في د: "وأقبلت".
(6) في د، ك، م، أ: "نفينا".
(7) في د: "عنه".
(8) المسند (5/324) وسنن الترمذي برقم (1561) وسنن ابن ماجة برقم (2852) وصحيح ابن حبان برقم (1693) "موارد" . والمستدرك (2/136).
(9) في جميع النسخ: "فتنازع"، والمثبت من الطبري
(10) في د: "لنتبتم".
(11) سنن أبي داود برقم (2737) وسنن النسائي الكبرى برقم (11197) وتفسير الطبري (13/368) والمستدرك (2/326)

صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أتى بأسير فله كذا وكذا". فجاء أبو اليَسَر بأسيرين، فقال: يا رسول الله، (1) وعدتنا، فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إن أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر، ولا جبن عن العدو، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك، نخاف أن يأتوك من ورائك، فتشاجروا، ونزل القرآن: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } قال: ونزل القرآن: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ [وَلِلرَّسُولِ] } (2) إلى آخر الآية [الأنفال: 41] (3)
وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام، رحمه الله، في كتاب "الأموال الشرعية وبيان جهاتها ومصارفها": أما الأنفال: فهي المغانم، وكل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب، فكانت الأنفال الأولى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } فقسمها يوم بدر على ما أراده الله من غير أن يخمسها على ما ذكرناه في حديث سعد، ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس، فنسخت الأولى (4)
قلت: هكذا روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، سواء. وبه قال مجاهد، وعكرمة والسُّدِّيّ.
وقال ابن زيد: ليست منسوخة، بل هي محكمة.
قال أبو عبيد: وفي ذلك آثار، والأنفال أصلها جمع (5) الغنائم، إلا أن الخمس منها مخصوص لأهله على ما نزل به الكتاب، وجرت به السنة. ومعنى الأنفال في كلام العرب: كل إحسان فعله فاعل تفضلا من غير أن يجب ذلك عليه، فذلك النفل الذي أحله الله للمؤمنين من أموال عدوهم وإنما هو شيء خصه الله به تطولا منه عليهم بعد أن كانت المغانم محرمة على الأمم قبلهم، فنفلها الله هذه الأمة فهذا أصل النفل.
قلت: شاهد هذا في الصحيحين عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي" فذكر الحديث، إلى أن قال: "وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي"، وذكر تمام الحديث (6)
ثم قال أبو عبيد: ولهذا سمى ما جعل الإمام للمقاتلة نفلا وهو تفضيله بعض الجيش على بعض بشيء سوى سهامهم، يفعل ذلك بهم على قدر الغناء عن الإسلام والنكاية في العدو. وفي النفل الذي ينفله الإمام سنن أربع، لكل واحدة منهن موضع غير موضع الأخرى:
__________
(1) في أ: "يا رسول الله إنك".
(2) زيادة من أ.
(3) رواه عبد الرزاق في المصنف برقم (9483) عن الثوري به.
(4) الأموال (ص 426).
(5) في د، ك، أ: "جماع".
(6) انظر: تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية: 43 من سورة النساء.

فإحداهن: في النفل لا خمس فيه، وذلك السلب.
والثانية: في النفل الذي يكون من الغنيمة بعد إخراج الخمس، وهو أن يوجه الإمام السرايا في أرض الحرب، فتأتي بالغنائم فيكون للسرية مما جاءت به الربع أو الثلث بعد الخمس.
والثالثة: في النفل من الخمس نفسه، وهو أن تحاز الغنيمة كلها، ثم تخمس، فإذا صار الخمس في يدي الإمام نفل منه على قدر ما يرى.
والرابعة: في النفل في جملة الغنيمة قبل أن يخمس منها شيء، وهو أن يعطى الأدلاء ورعاة الماشية والسَّوَّاق لها، وفي كل ذلك اختلاف.
قال الربيع: قال الشافعي: الأنفال: ألا يخرج من رأس الغنيمة قبل الخمس شيء غير السلب.
قال أبو عبيد: والوجه الثاني من النفل هو شيء زيدوه غير الذي كان لهم، وذلك من خمس النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن له خمس الخمس من كل غنيمة، فينبغي للإمام أن يجتهد، فإذا كثر العدو واشتدت شوكتهم، وقل من بإزائه من المسلمين، نفل منه اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يكن ذلك لم ينفل.
والوجه الثالث من النفل: إذا بعث الإمام سرية أو جيشًا، فقال لهم قبل اللقاء: من غنم شيئا فله بعد الخمس، فذلك لهم على ما شرط الإمام؛ لأنهم على ذلك غزوا، وبه رضوا. انتهى كلامه (1)
وفيما تقدم من كلامه وهو قوله: "إن غنائم بدر لم تخمس"، نظر. ويرد عليه حديث علي بن أبي طالب في شارفيه اللذين حصلا له من الخمس يوم بدر، وقد بينت ذلك في كتاب السيرة بيانًا شافيا (2) ولله الحمد [والمنة] (3)
وقوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } أي: اتقوا الله في أموركم، وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا؛ فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه، { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي: في قسمه بينكم على ما أراده الله، فإنه قسمه (4) كما أمره الله من العدل والإنصاف.
وقال ابن عباس: هذا تحريج من الله على المؤمنين أن يتقوا [الله] (5) ويصلحوا ذات بينهم. وكذا قال مجاهد.
وقال السدي: { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } أي: لا تستبوا. ونذكر هاهنا حديثا أورده الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي، رحمه الله، في مسنده، فإنه قال: حدثنا مجاهد
__________
(1) الأموال (ص 431).
(2) السيرة لابن كثير (2/466).
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "يقسمه".
(5) زيادة من أ.

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)

بن موسى، حدثنا عبد الله بن بكر (1) حدثنا عباد بن شيبة الحبطي (2) عن سعيد بن أنس، عن أنس، رضي الله عنه، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال: "رجلان جثيا من أمتي بين يدي رب العزة، تبارك وتعالى، فقال أحدهما: يا رب، خذ لي مظلمتي من أخي. قال الله تعالى: أعط أخاك مظلمتك. قال: يا رب، لم يبق من حسناتي شيء. قال: رب، فليحمل عني من أوزاري" قال: وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء، ثم قال: "إن ذلك (3) ليوم عظيم، يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله تعالى للطالب: ارفع بصرك فانظر في الجنان، فرفع رأسه فقال: يا رب، أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذا؟ لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال: هذا لمن أعطى الثمن. قال: يا رب، ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه. قال: ماذا يا رب؟ قال: تعفو عن أخيك. قال: يا رب، فإني قد عفوت عنه. قال الله تعالى: خذ بيد أخيك فأدخله الجنة". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة" (4)
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) }
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } قال: المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون، ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فأدوا فرائضه . { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } يقول: تصديقا { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } يقول: لا يرجون غيره.
وقال مجاهد: { وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فرقت، أي: فزعت وخافت. وكذا قال السدي وغير واحد.
وهذه صفة المؤمن حق المؤمن، الذي إذا ذكر الله وجل قلبه، أي: خاف منه، ففعل أوامره، وترك زواجره. كقوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران: 135]وكقوله تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [النازعات: 40 ، 41]ولهذا قال سفيان الثوري: سمعت السدي يقول في قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }
__________
(1) في أ: "كثير".
(2) في د، أ: الحنظلي".
(3) في د، م: "وذلك".
(4) ورواه الحاكم في المستدرك (4/576) من طريق عبد الله بن بكر السهمي به، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي فقال: "عباد بن شيبة الحبطي، عن سعيد، والأول ضعيف، وشيخه لا يعرف".

قال: هو الرجل يريد أن يظلم -أو قال: يهم بمعصية-فيقال له: اتق الله فَيجل (1) قلبه.
وقال الثوري أيضًا: عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء في قوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } قالت: الوجل في القلب إحراق (2) السعفة، أما تجد له قشعريرة؟ قال: بلى. قالت لي: إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك، فإن الدعاء يذهب ذلك.
وقوله: { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] } (3) كقوله: { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [التوبة: 124]
وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها، على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب، كما هو مذهب جمهور الأمة، بل قد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من الأئمة، كالشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبي عبيد، كما بينا ذلك مستقصى في أول الشرح (4) البخاري، ولله الحمد والمنة.
{ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي: لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك، وحده لا شريك له، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب؛ ولهذا قال سعيد بن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان.
وقوله { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ينبه بذلك على أعمالهم، بعد ما ذكر اعتقادهم، وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها، وهو إقامة الصلاة، وهو حق الله تعالى.
وقال قتادة: إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها (5) ووضوئها، وركوعها، وسجودها.
وقال مقاتل بن حَيَّان: إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، هذا إقامتها.
والإنفاق مما رزقهم الله يشمل خراج (6) الزكاة، وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب، والخلق كلهم عيال الله، فأحبهم (7) إلى الله أنفعهم لخلقه.
قال قتادة في قوله { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فأنفقوا مما أعطاكم الله، فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم، أوشكت أن تفارقها.
وقوله { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } أي: المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان.
__________
(1) في م: "فيوجل".
(2) في أ: "كإحراق".
(3) زيادة من ك.
(4) في أ: "شرح".
(5) في م: "أوقاتها".
(6) في ك، م: "إخراج"
(7) في د: "أحبكم".

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثنا ابن لَهِيعَة، عن خالد بن يزيد (1) السَّكْسَكِيّ، عن سعيد بن أبي هلال، عن محمد بن أبي الجهم، عن الحارث بن مالك الأنصاري؛ أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "كيف أصبحت يا حارث؟" قال: أصبحت مؤمنا حقا. قال: "انظر ماذا (2) تقول، فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟" فقال: عَزَفَت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلى، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يَتَضاغَوْن فيها، فقال: "يا حارث، عرفت فالزم" ثلاثا (3)
وقال عمرو بن مُرَّة في قوله: { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } إنما أُنزلَ (4) القرآن بلسان العرب، كقولك: فلان سيد حقا، وفي القوم سادة، وفلان تاجر حقا، وفي القوم تجار، وفلان شاعر حقا، وفي القوم شعراء.
وقوله: { لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي: منازل ومقامات ودرجات في الجنات، كما قال تعالى: { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [آل عمران: 163]
{ ومغفرة } أي: يغفر لهم السيئات، ويشكر لهم الحسنات.
وقال الضحاك في قوله: { لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أهل الجنة بعضهم فوق بعض، فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه، ولا يرى الذي هو أسفلُ أنه فُضّل عليه أحد.
ولهذا جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل علِّيين ليراهم من أسفل منهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق من آفاق السماء" ، قالوا (5) يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء، لا ينالها غيرهم؟ فقال: "بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" (6)
وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد [و] (7) أهل السنن من حديث عَطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الدرجات العلى كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنْعَمَا" (8)
__________
(1) في د، م: "زيد".
(2) في م، أ: "ما".
(3) المعجم الكبير (3/266) قال الهيثمي في المجمع (1/57): "فيه ابن لهيعة وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه".
(4) في د، ك، م: "نزل".
(5) في أ: "فقالوا".
(6) صحيح البخاري برقم (3256) وصحيح مسلم برقم (2831) من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه.
(7) زيادة من د، ك، م، أ.
(8) المسند (3/61) وسنن أبي داود برقم (3987) وسنن الترمذي برقم (3658) وسنن ابن ماجة برقم (96).

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)

{ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) }
قال الإمام أبو جعفر الطبري: اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه "الكاف" في قوله: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } فقال بعضهم: شُبِّه به في الصلاح للمؤمنين، اتقاؤهم ربهم، وإصلاحهم ذات بينهم، وطاعتهم الله ورسوله.
ثم روى عن عكرمة نحو هذا.
ومعنى هذا أن الله تعالى يقول: كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها فانتزعها الله منكم، وجعلها إلى قسمه وقسم رسوله صلى الله عليه وسلم (1) فقسمها على العدل والتسوية، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة -وهم النفير (2) النفير الذين خرجوا لنصر دينهم، وإحراز عيرهم -فكان عاقبة، كراهتكم للقتال -بأن قدَّره لكم، وجَمَع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد -رَشَدَا وهدى، ونصرا وفتحا، كما قال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 216]
قال ابن جرير: وقال آخرون: معنى ذلك: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ } على كره من فريق من المؤمنين، كذلك هم كارهون للقتال، فهم يجادلونك فيه بعد ما تبين لهم، ثم روى نحوه عن مجاهد أنه قال: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } قال: كذلك يجادلونك في الحق.
وقال السُّدِّي: أنزل الله في خروجه (3) إلى بدر ومجادلتهم إياه فقال: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } لطلب المشركين { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ }
وقال بعضهم: يسألونك عن الأنفال مجادلة، كما جادلوك يوم بدر فقالوا: أخرجتنا للعِير، ولم تعلمنا قتالا فنستعد له.
قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج من المدينة طالبا لعير أبي سفيان، التي بلغه خبرها أنها صادرة من الشام، فيها أموال جزيلة لقريش فاستنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من خَف منهم، فخرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا وطلب نحو الساحل من على طريق بدر، وعلم أبو سفيان بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه، فبعث ضَمْضَم بن عمرو نذيرا إلى مكة، فنهضوا في قريب من ألف مُقَنَّع، ما بين التسعمائة إلى الألف، وتيامن أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر فنجا، وجاء النفير فوردوا ماء بدر، وجمع الله المسلمين والكافرين على غير ميعاد، لما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين
__________
(1) في ك، م، أ: "صلوات الله وسلامه عليه".
(2) في د: "وهو".
(3) في د: "خروجهم".

ونصرهم على عدوهم، والتفرقة (1) بين الحق والباطل، كما سيأتي بيانه.
والغرض: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خروج النفير، أوحى الله إليه يَعدهُ إحدى الطائفتين: إما العير وإما النَّفير، ورغب كثير من المسلمين إلى العير؛ لأنه كسب بلا قتال، كما قال تعالى: { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ }
قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره: حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني، حدثنا بكر بن سهل، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران حدثه أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله يُغْنمناهَا؟ " فقلنا: نعم، فخرج وخرجنا، فلما سِرْنا يوما أو يومين قال لنا: " ما ترون في قتال القوم؛ فإنهم قد أخبروا بمخرجكم؟ " فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو، ولكنا أردنا العير، ثم قال: " ما ترون في قتال القوم؟ " فقلنا مثل ذلك فقال المقداد بن عمرو: إذًا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [المائدة: 24]قال: فتمنينا -معشر الأنصار-أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم، قال: فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } وذكر تمام الحديث (2)
ورواه ابن أبي حاتم، من حديث ابن لهيعة، بنحوه.
ورواه ابن مَرْدُوَيْه أيضًا من حديث محمد بن عمرو بن عَلْقَمة بن وقاص الليثي، عن أبيه، عن جده قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، حتى إذا كان بالرَّوْحاء، خطب الناس فقال: " كيف تَرَون؟ " فقال أبو بكر: يا رسول الله، بلغنا أنهم بمكان كذا وكذا. قال: ثم خطب الناس فقال: " كيف ترون؟ " فقال عمر مثل قول أبي بكر. ثم خطب الناس فقال: " كيف ترون ؟ " فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله إيانا تريد؟ فو الذي أكرمك [بالحق] (3) وأنزل عليك الكتاب، ما سلكتها قط ولا لي بها علم، ولئن سرت [بنا] (4) حتى تأتي "بَرْك الغماد" من ذي يمن لنسيرن معك، ولا نكون كالذين قالوا لموسى { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون، ولعلك أن تكون خرجت لأمر، وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك، فامض له، فَصِلْ حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، فنزل القرآن على قول سعد: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } الآيات.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس: لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء العدو، وقال له سعد بن عبادة ما قال
__________
(1) في د: "التفريق".
(2) رواه الطبراني في المعجم الكبير (4/174).
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من أ.

وذلك يوم بدر، أمر الناس فعبئوا للقتال، وأمرهم بالشوكة، فكره ذلك أهل الإيمان، فأنزل الله: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ }
وقال مجاهد: يجادلونك في الحق: في القتال. وقال محمد بن إسحاق: { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ [بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ] } (1) أي: كراهية للقاء المشركين، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم.
وقال السُّدِّي: { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } أي: بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله به.
قال ابن جرير: وقال آخرون: عنى بذلك المشركين.
حدثني يونس، أنبأنا ابن وَهْب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ } قال: هؤلاء المشركون، جادلوه في الحق { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ } حين يدعون إلى الإسلام { وَهُمْ يَنْظُرُونَ } قال: وليس هذا من صفة الآخرين، هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر.
ثم قال ابن جرير: ولا معنى لما قاله؛ لأن الذي قبل قوله: { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ } خبر عن أهل الإيمان، والذي يتلوه خبر عنهم، والصواب قول ابن عباس وابن إسحاق أنه خبر عن المؤمنين.
وهذا الذي نصره ابن جرير هو الحق، وهو الذي يدل عليه سياق الكلام، والله أعلم..
وقال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا يحيى بن أبي بكير وعبد الرزاق قالا حدثنا إسرائيل، عن سِمَال، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس بن عبد المطلب -قال عبد الرزاق: وهو أسير في وثاقه -ثم اتفقا: إنه لا يصلح لك، قال: ولم؟ قال: لأن الله عز وجل إنما وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك (2)
إسناد جيد، ولم يخرجه (3)
ومعنى قوله تعالى { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } أي: يحبون أن الطائفة التي لا حَدَّ لها ولا منعة ولا قتال، تكون لهم وهي العير { وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } أي: هو يريد أن يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال، ليُظَفِّرَكم بهم ويظهركم عليهم، ويظهر دينه، ويرفع كلمة الإسلام، ويجعله غالبا على الأديان، وهو أعلم بعواقب الأمور، وهو الذي دبركم
__________
(1) زيادة من أ.
(2) المسند (1/229) من رواية يحيى بن أبي بكير و (1/314) من رواية عبد الرزاق.
(3) في ك، م، أ: "يخرجوه".

بحسن تدبيره، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم، كما قال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ] [البقرة: 216] } (1)
وقال محمد بن إسحاق، رحمه الله: حدثني محمد بن مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن عُرْوَة بن الزبير وغيرهم من علمائنا، عن عبد الله بن عباس -كل قد حدثني بعض هذا الحديث، فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر -قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام نَدب المسلمين إليهم، وقال: "هذه عيرُ قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن يُنْفلكُموها" فانتدب الناسُ، فخف بعضهم وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا، وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار، ويسأل من لقى من الركبان، تخوفا على أمر الناس، حتى أصاب خبرًا من بعض الركبان: أن محمدًا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك، فَحَذِرَ عند ذلك، فاستأجر ضَمْضَم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى أهل مكة، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديا يقال له "ذَفرَان"، فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل، وأتاه الخبر عن قُريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر، رضي الله عنه، فقال فأحسن، ثم قام عمر، رضي الله عنه، فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله به، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [المائدة: 24]ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما (2) مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى "بَرْك الغِماد" -يعني مدينة الحبشة -لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشيروا علي أيها الناس" -وإنما يريد الأنصار -وذلك أنهم كانوا عَدد الناس، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله، إنا برآء من ذِمَامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمَمنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة، من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل" قال: فقال: فقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت. فوالذي بعثك بالحق، إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصُبُر عند الحرب، صُدُق عند اللقاء، ولعل الله [أن] (3) يريك منا ما تَقَرّ به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله. فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونَشَّطه
__________
(1) زيادة من م، أ.
(2) في د، ك، م: "معكم".
(3) زيادة من م.

ذلك، ثم قال: " سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم" (1)
وروى العَوْفي عن ابن عباس نحو هذا، وكذلك قال السدي، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد من علماء السلف والخلف، اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق.
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (13/399).

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)

{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) }
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نوح قُرَاد، حدثنا عكرمة بن عَمَّار، حدثنا سماك الحَنَفي أبو زُميل، حدثني ابن عباس (1) حدثني عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: لما كان يوم بدر نظر النبي (2) صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وهم ثلاثمائة ونَيّف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه، وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: " اللهم أين ما وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا"، قال: فما زال يستغيث ربه [عز وجل] (3) ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال : يا رسول الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله، عز وجل: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } فلما كان يومئذ والتقوا، فهزم الله المشركين، فقُتِل منهم سبعون رجلا وأسر منهم سبعون رجلا واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعليًّا وعمر (4) فقال أبو بكر: يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قُوَّةً لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عَضُدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ترى يا ابن الخطاب؟ " قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تُمْكنَني من فلان -قريب لعمر -فأضرب عنقه، وتُمكن عليًّا من عقيل فيضربَ عنقه، وتُمكن حمزة من فلان -أخيه -فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أن ليس (5) في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم، فَهَوَى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد -قال عمر-غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، [أخبرني] (6) ما (7) يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدتُ بكاء بَكَيتُ، وإن لم أجد بكاء تَبَاكيتُ لبكائكما! قال النبي صلى الله عليه وسلم: " للذي عَرض على أصحابك من أخذهم الفداء، قد عرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة -لشجرة قريبة" ، وأنزل الله [عز وجل] (8) { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ }
__________
(1) في ك: "ابن عياش".
(2) في أ: "رسول الله".
(3) زيادة من أ.
(4) في م: "أبا بكر وعمر وعليا".
(5) في ك: "ليست" وفي أ: "أنه ليست".
(6) زيادة من أ.
(7) في أ: "ماذا".
(8) زيادة من د، ك، م، أ.

إلى قوله: { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ } [الأنفال: 67 ، 68] من الفداء، ثم أحل لهم الغنائم، فلما كان يوم أحد من العام المقبل، عوقبوا مما صنعوا يوم بدر، من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون، وفَرَّ أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت ربَاعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله [عز وجل] (1) { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران: 165 ]بأخذكم الفداء..
ورواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن جرير، وابن مَرْدُويه، من طرق عن عكرمة بن عمار، به. وصححه علي بن المديني والترمذي، وقالا لا يعرف إلا من حديث عكرمة بن عمار اليماني (2)
وهكذا رَوَى علي بن أبي طلحة والعَوْفي، عن ابن عباس: أن هذه الآية الكريمة قوله: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ] } (3) أنها في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وكذا قال يزيد (4) بن يُثيَع، والسُّدِّي، وابن جريج.
وقال أبو بكر بن عياش، عن أبي حُصَين، عن أبي صالح قال: لما كان يوم بدر، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يناشد ربه أشد النِّشدة يدعو، فأتاه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، بعض (5) نِشْدَتِك، فوالله ليفيَن الله لك بما وعدك (6)
وقال البخاري في "كتاب المغازي"، باب قول الله عز وجل: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } إلى قوله: { فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } حدثنا أبو نُعَيم، حدثنا إسرائيل، عن مُخَارق، عن طارق بن شهاب قال: سمعت ابن مسعود يقول: شهدت من المقداد بن الأسود مَشْهدًا لأن أكون صاحبه أحبَّ إلي مما عدل به: أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول (7) كما قال قوم موسى لموسى: { اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا } [المائدة: 24]ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك، وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره -يعني قوله (8)
وحدثنا محمد بن عبد الله بن حَوْشَب، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا خالد الحَذَّاء، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "اللهم أنشدك عَهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تُعْبَد" ، فأخذ أبو بكر بيده، فقال : حسبك! فخرج وهو يقول: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [القمر: 45].
ورواه النسائي عن بُندار عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي (9)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) المسند (1/30) وصحيح مسلم برقم (1763) وسنن أبي داود برقم (2690) وسنن الترمذي برقم (3081) وتفسير الطبري (13/409).
(3) زيادة من أ.
(4) في د، م: "زيد".
(5) في أ: "يا رسول الله، تدعو بعض".
(6) رواه الطبري في تفسيره (13/411).
(7) في أ: "لا نقول لك".
(8) صحيح البخاري برقم (3952) .
(9) صحيح البخاري برقم (3953) وسنن النسائي الكبرى برقم (11557).

وقوله تعالى: { بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } أي: يُرْدفُ بعضُهم بعضًا، كما قال هارون بن عنترة (1) عن ابن عباس: { مُرْدِفِينَ } متتابعين.
ويحتمل أن [يكون] (2) المراد { مُرْدِفِينَ } لكم، أي: نجدة لكم، كما قال العوفي، عن ابن عباس: { مُرْدِفيِنَ } يقول: المدَدَ، كما تقول: ائت الرجل فزده كذا وكذا.
وهكذا قال مجاهد، وابن كثير القارئ، وابن زيد: { مُرْدِفِينَ } ممدين.
وقال أبو كُدَيْنة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: { مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } قال: وراء كل ملك ملك.
وفي رواية بهذا الإسناد: { مُرْدِفِينَ } قال: بعضهم على أثر بعض. وكذا قال أبو ظِبْيَان، والضحاك، وقتادة.
وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثني عبد العزيز بن عمران، عن الزَّمْعِي، عن أبي الحويرث، عن محمد بن جُبَيْر، عن علي رضي الله عنه، قال: نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا في الميسرة.
وهذا يقتضي -لو صح إسناده -أن الألف مردفة بمثلها؛ ولهذا قرأ بعضهم: "مُرْدَفِين" بفتح الدال، فالله أعلم.
والمشهور ما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مُجَنِّبة، وميكائيل في خمسمائة مُجَنِّبة.
وروى الإمام أبو جعفر بن جرير، ومسلم، من حديث عكرمة بن عمار، عن أبي زُمَيل سِمَاك بن وليد الحَنَفي، عن ابن عباس، عن عمر، الحديث المتقدم. ثم قال أبو زُمَيل (3) حدثني (4) ابن عباس قال: بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوتَ الفارس يقول: "أقدم حَيْزُوم (5) إذ نظر إلى المشرك أمامه، فخر مستلقيا قال: فنظر إليه، فإذا هو قد خُطِم أنفه، وشُقَّ وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "صدقتَ، ذلك (6) من مَدَد السماء الثالثة" ، فقَتَلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين.
وقال البخاري: "باب شهود الملائكة بدرا ": حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا جرير، عن يحيى بن سعيد، عن معاذ بن رِفاعة بن رافع الزُّرَقي، عن أبيه -وكان أبوه من أهل بدر -قال: جاء جبريل
__________
(1) في أ: "هبيرة".
(2) زيادة من أ.
(3) في م: "أبو زميل سماك بن الوليد الحنفي".
(4) في م: "عن".
(5) في م: "حزوم".
(6) في د، ك، م: "ذاك".

إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: " من أفضل المسلمين" -أو كلمة نحوها -قال: "وكذلك من شهد بدرا من الملائكة.
انفرد بإخراجه البخاري (1) وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير من حديث رافع بن خَدِيج، وهو خطأ (2) والصواب رواية البخاري، والله [تعالى] (3) أعلم.
وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بَلْتَعَة: "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد (4) غفرت لكم " (5)
قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى [وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ] } (6) الآية أي: وما جعل الله بعث الملائكة وإعلامه إياكم بهم إلا بُشرى، { وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } ؛ وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم بدون ذلك، ولهذا قال: { وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } كما قال تعالى: { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } [محمد: 4-6] وقال تعالى: { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } [آل عمران: 140 ، 141]فهذه حكم شَرَع الله جهاد الكفار بأيدي المؤمنين لأجلها، وقد كان تعالى إنما يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم تلك الأمة المكذبة، كما أهلك قوم نوح بالطوفان، وعادًا الأولى بالدَّبُور، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل (7) وقوم شعيب بيوم الظلة، فلما بعث الله تعالى موسى [عليه السلام] (8) وأهلك عدوه فرعون وقومه بالغرق في اليمّ، ثم أنزل (9) على موسى التوراة، شرع فيها قتال الكفار، واستمر الحكم في بقية الشرائع بعده على ذلك، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ [لِلنَّاسِ] } [القصص: 43] (10) وقتل المؤمنين الكافرين أشد إهانة للكافرين، وأشفى لصدور المؤمنين، كما قال تعالى للمؤمنين من هذه الأمة: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ] } [التوبة: 14 ، 15]؛ (11) ولهذا كان قَتلُ صناديد قريش بأيدي أعدائهم الذين ينظرون إليهم بأعين ازدرائهم، أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الإيمان. فَقَتْلُ أبي جهل في معركة القتال وحومة الوغى، أشد إهانة له من أن
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3992).
(2) المعجم الكبير (4/277).
(3) زيادة من م.
(4) في د: "قد".
(5) صحيح البخاري برقم (3983) وصحيح مسلم برقم (2494).
(6) زيادة من د، ك، م.
(7) في ك، أ: "السجين".
(8) زيادة من أ.
(9) في ك: "أنزل الله".
(10) زيادة من م.
(11) زيادة من أ.

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)

يموت على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك، كما مات أبو لهب -لعنه الله-بالعَدَسة (1) بحيث لم يقربه أحد من أقاربه، وإنما غسلوه بالماء قذفًا من بعيد، ورجموه حتى دفنوه؛ ولهذا قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } أي: له العزة ولرسوله وللمؤمنين بهما في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ [يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ] } [غافر: 51 ، 52] (2) { حَكِيم } فيما شرعه من قتال الكفار، مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم، بحوله وقوته، سبحانه وتعالى.
{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) }
يذكرهم الله (3) بما أنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم، أمانا من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عَدُوِّهم وقلة عَدَدهم، وكذلك فعل تعالى بهم يوم أُحُد، كما قال تعالى: { ثُمَّ أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } [آل عمران: 154].
قال أبو طلحة (4) كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد، ولقد سقط السيف من يدي مرارا يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه، ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحَجَف.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا زُهَيْر، حدثنا ابن مَهْدِي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضَرِّب، عن علي، رضي الله عنه، قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح (5)
وقال سفيان الثوري، عن عاصم عن أبي رَزِين، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أنه قال: النعاس في القتال أمنة من الله، وفي الصلاة من الشيطان.
وقال قتادة: النعاس في الرأس، والنوم في القلب.
قلت: أما النعاس فقد أصابهم يوم أحد، وأمر ذلك مشهور جدا، وأما يوم بدر في هذه الآية الشريفة (6) إنما هي في سياق قصة بدر، وهي دالة على وقوع ذلك أيضا وكأن ذلك كان سجية
__________
(1) قال ابن الأثير في النهاية (3/190) في حديث أبي رافع: "أن أبا لهب رماه الله بالعدسة" وهي بثرة تشبه العدسة تخرج في مواضع من الجسد، من جنس الطاعون، تقتل صاحبها غالبا".
(2) زيادة من أ.
(3) في ك، م: "تعالى".
(4) في أ: "قال على بن أبي طلحة".
(5) مسند أبي يعلى (1/242) ورواه أحمد في مسنده (1/125) من طريق عبد الرحمن بن مهدي بهذا الإسناد.
(6) في ك، م: "الكريمة".

للمؤمنين عند شدة البأس لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله. وهذا من فضل الله ورحمته بهم ونعمه عليهم، وكما قال تعالى: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [الشرح: 5 ، 6]؛ ولهذا [جاء] (1) في الصحيح (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق، رضي الله عنه، وهما يدعوان، أخذت رسول الله سنة من النوم، ثم استيقظ متبسما فقال: "أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع" ثم خرج من باب العريش، وهو يتلو قوله تعالى: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [القمر: 45].
وقوله: { وَيُنزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: نزل النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: حين سار إلى بدر -والمسلمون (3) بينهم وبين الماء رملة دعصة (4) وأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، يوسوس بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مجنبين! فأمطر الله عليهم مطرا شديدا، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وانشف (5) الرمل حين أصابه المطر ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة مُجَنِّبَة، وميكائيل في خمسمائة مُجَنِّبة.
وكذا قال العوفي عن ابن عباس: إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير وليقاتلوا (6) عنها، نزلوا على الماء يوم بدر، فغلبوا المؤمنين عليه. فأصاب المؤمنين الظمأ، فجعلوا يصلون مجنبين محدثين، حتى تعاظموا ذلك في صدورهم، فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي، فشرب المؤمنون، وملئوا الأسقية، وسقوا الركاب (7) واغتسلوا من الجنابة، فجعل الله في ذلك طهورا، وثبت الأقدام. وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة، فبعث الله المطر عليها، فضربها حتى اشتدت، وثبتت عليها الأقدام.
ونحو ذلك رُوِي عن قتادة، والضحاك، والسدي.
وقد روى عن سعيد بن المسيب، والشعبي، والزهري، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنه طش (8) أصابهم يوم بدر.
والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر، نزل على أدنى ماء هناك أي: أول ماء وجده، فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال: يا رسول الله، هذا المنزل الذي نزلته منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نجاوزه، أو منزل نزلته للحرب والمكيدة؟ فقال: " بل منزل نزلته للحرب والمكيدة". فقال: يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل، ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب،
__________
(1) زيادة من م.
(2) في أ: "الصحيحين".
(3) في ك، م، أ: "المشركون".
(4) في أ: "وعصمة".
(5) في ك: "وانكشف".
(6) في ك، م: "ويقاتلوا".
(7) في م: "الركائبط.
(8) في ك، م: "طس".

ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل كذلك (1)
وفي مغازي " الأموي" أن الحباب لما قال ذلك نزل ملك من السماء وجبريل جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ذلك الملك: يا محمد، إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن الرأي ما أشار به "الحباب بن المنذر" (2) فالتفت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (3) إلى جبريل، عليه (4) السلام، فقال: هل تعرف هذا؟ فنظر إليه فقال: ما كل الملائكة أعرفهم، وإنه ملك وليس بشيطان.
وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب "المغازي" ، رحمه الله: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء -وكان الوادي دهسا -فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه (5)
وقال مجاهد: أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس، فأطفأ بالمطر الغبار، وتلبدت به الأرض، وطابت نفوسهم (6) وثبتت به أقدامهم.
وقال ابن جرير: حدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا مصعب بن المقدام، حدثنا إسرائيل، حدثنا أبو إسحاق، عن جارية، عن علي، رضي الله عنه، قال: أصابنا من الليل طش (7) من المطر -يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر -فانطلقنا تحت الشجر والحَجَف نستظل تحتها من المطر. وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض"! فلما أن طلع الفجر، نادى: "الصلاة، عباد الله"، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرض على القتال.
وقوله: { لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } أي: من حدث أصغر أو أكبر، وهو تطهير (8) الظاهر { وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ } أي: من وسوسة أو (9) خاطر سيئ، وهو تطهير الباطن، كما قال تعالى في حق أهل الجنة: { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ } فهذا زينة الظاهر { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا } [الإنسان: 21]أي: مطهرا لما كان من غل أو حسد أو تباغض، وهو زينة الباطن وطهارته.
{ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ } أي: بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء، وهو شجاعة الباطن، { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ } وهو شجاعة الظاهر، والله أعلم.
__________
(1) في م: "ذلك".
(2) ورواه الواقدي في المغازي (1/54) إلى هذا الموضع. فقال: "حدثني ابن أبي حبيبة، عن رواد بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نزل جبريل. . فذكره".
(3) زيادة من ك، م، أ.
(4) في ك: "عليهما".
(5) السيرة النبوية لابن هشام (1/620).
(6) في ك، م: "طابت به أنفسهم".
(7) في ك، م: "طس".
(8) في م: "طهارة".
(9) في م: "و".

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49