الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي

ورواه أبو داود من غير وجه، عن صفية بنت شيبة، به (1) .
وقال ابن جرير: حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أن قُرَّةَ بن عبد الرحمن أخبره، عن ابن شهاب، عن عُرْوَة، عن عائشة؛ أنها قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأوَل، لما أنزل الله: { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } شَقّقن أكثَف مروطهن فاختمرن به. ورواه أبو داود من حديث ابن وهب، به (2) .
وقوله: { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ } يعني: أزواجهن، { أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } كل هؤلاء محارم المرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها، ولكن من غير اقتصاد وتبهرج (3) .
وقال ابن المنذر: حدثنا موسى -يعني: ابن هارون -حدثنا أبو بكر -يعني ابن أبي شيبة -حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا داود، عن الشعبي وعِكْرمَة في هذه الآية: { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ } -حتى فرغ منها قال: لم يذكر العم ولا الخال؛ لأنهما ينعَتان (4) لأبنائهما، ولا تضع خمارها عند العم والخال فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله، فتتصنع له ما لا يكون بحضرة غيره.
وقوله: { أَوْ نِسَائِهِنَّ } يعني: تُظهر زينتها أيضًا للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة؛ لئلا تصفهن لرجالهن، وذلك -وإن كان محذورًا في جميع النساء -إلا أنه في نساء أهل الذمة أشدّ، فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع، وأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تباشر المرأةَ المرأةَ، تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها". أخرجاه في الصحيحين، عن ابن مسعود (5) .
وقال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن هشام بن الغاز، ، عن عبادة بن نُسَيّ، عن أبيه، عن الحارث بن قيس قال: كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة: أما بعد، فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، فانْهَ مَنْ قِبَلَك فلا (6) يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها (7) .
وقال مجاهد في قوله: { أَوْ نِسَائِهِنَّ } قال: نساؤهن المسلمات، ليس المشركات من نسائهن، وليس للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي المشركة.
وروى عَبد في تفسيره (8) عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: { أَوْ نِسَائِهِنَّ } ، قال: هن المسلمات لا تبديه ليهودية ولا نصرانية، وهو النَّحْر والقُرْط والوٍشَاح، وما لا يحل أن يراه إلا محرم.
__________
(1) سنن أبي داود برقم (4100 ، 4101).
(2) تفسير الطبري (18/94) وسنن أبي داود برقم (4102).
(3) في أ: "بهرج".
(4) في أ: "يتبعان".
(5) صحيح البخاري برقم (5241).
(6) في ف، أ: "فإنه لا".
(7) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (7/95) من طريق سعيد بن منصور، به.
(8) في ف: "تفسير".

وروى سعيد: حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قال: لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة؛ لأن الله تعالى يقول: { أَوْ نِسَائِهِنَّ } فليست (1) من نسائهن.
وعن مكحول وعبادة بن نُسَيّ: أنهما كرها أن تقبل النصرانيةُ واليهودية والمجوسية المسلمة.
فأما ما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو عمير، حدثنا ضَمْرَة قال: قال ابن عطاء، عن أبيه: ولما قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس، كان قَوَابل نسائهم اليهوديات والنصرانيات فهذا -إن صح -مَحمولٌ على حال الضرورة، أو أن ذلك من باب الامتهان، ثم إنه ليس فيه كشف عورة ولا بد، والله أعلم.
وقوله: { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } قال ابن جُرَيج (2) : يعني: من نساء المشركين، فيجوز لها أن تظهر [زينتها لها وإن كانت مشركة؛ لأنها أمتها. وإليه ذهب سعيد بن المسيَّب. وقال الأكثرون: بل يجوز لها أن تظهر] (3) على رقيقها من الرجال والنساء، واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود:
حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا أبو جميع سالم بن دينار، عن ثابت، عن أنس، أن النبي (4) صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها. قال: وعلى فاطمة ثوب إذا قَنَّعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: "إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغلامك" (5) .
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه [في] (6) ترجمة حُدَيْج الخَصِيّ -مولى معاوية -أن عبد الله بن مَسْعَدَة الفزاري كان أسود شديد الأدمة، وأنه قد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهبه لابنته فاطمة، فربته ثم أعتقته، ثم قد كان بعد ذلك كله مع معاوية أيام صفين، وكان من أشد الناس على عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه (7) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة، عن الزهري، عن نَبْهَان، عن أم سلمة، ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان لإحداكن مُكَاتَب، وكان له ما يؤدي، فلتحتجب منه".
ورواه أبو داود، عن مُسَدَّد، عن سفيان، به (8) .
وقوله: { أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ } يعني: كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء، وهم مع ذلك في عقولهم وَله وخَوَث (9) ، ولا همَّ لهم إلى النساء ولا يشتهونهن.
قال ابن عباس: هو المغفل الذي لا شهوة له.
وقال مجاهد: هو الأبْلَه.
وقال عكرمة: هو المخَنَّث الذي لا يقوم زُبُّه. وكذلك قال غير واحد من السلف.
وفي الصحيح من حديث الزهري، عن عُرْوَةَ، عن عائشة؛ أن مخنثًا كان يدخل على أهل
__________
(1) في ف: "فليس"، وفي أ: "فلسن".
(2) في أ: "جرير".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ف: "نبي الله".
(5) سنن أبي داود برقم (4106).
(6) زيادة من ف، أ.
(7) تاريخ دمشق (4/278 "المخطوط").
(8) المسند (6/289) وسنن أبي داود برقم (3928).
(9) في ف، أ: "وحوب".

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يعدّونه من غير أولي الإربة، فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ينَعت امرأة: يقول إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا، لا يدخلَنّ عليكُنَ" فأخرجه، فكان بالبيداء يدخل يوم كل جمعة يستطعم (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عُرْوَةَ، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة قالت: دخل عليها [رسول الله صلى الله عليه وسلم] (2) وعندها مخنث، وعندها [أخوها] (3) عبد الله بن أبي أمية [والمخنث يقول لعبد الله: يا عبد الله بن أبي أمية] (4) إن فتح الله عليكم الطائف غدًا، فعليك بابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر (5) بثمان. قال: فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأم سلمة: "لا يدخلن هذا عليك" .
أخرجاه في الصحيحين، من حديث هشام بن عروة، به (6) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث، وكانوا يَعُدّونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة. فقال: إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا؟ لا يدخلَنَّ عليكم هذا" فحجبوه.
ورواه مسلم، وأبو داود، والنسائي من طريق عبد الرزاق، به (7) .
وقوله: { أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } يعني: لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهنّ من كلامهن (8) الرخيم، وتعطفهن في المشية وحركاتهن، فإذا كان الطفل صغيرًا لا يفهم ذلك، فلا بأس بدخوله على النساء .فأما إن كان مراهقا أو قريبا منه، بحيث يعرف ذلك ويدريه، ويفرق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكن من الدخول على النساء. وقد ثبت في الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياكم والدخول على النساء". قالوا: يا رسول الله، أفرأيت الحَمْو؟ قال: "الحَمْو الموت".
وقوله: { وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت (9) تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت -لا يسمع صوته -ضربت برجلها الأرض، فيعلم الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك. وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستورًا، فتحركت بحركة لتظهر (10) ما هو خفي، دخل في هذا النهي؛ لقوله تعالى: { وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } : ومن ذلك أيضا أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليَشْتَمَّ (11) الرجال طيبها، فقد قال أبو عيسى الترمذي:
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2181) وزيادة: "فأخرجه، فكان بالبيداء يدخل كل يوم جمعة .... الحديث" أخرجها أبو داود في السنن برقم (4109) من طريق الزهري، به، وليست في صحيح مسلم.
(2) زيادة من ف، أ، والمسند.
(3) زيادة من ف، أ، والمسند.
(4) زيادة من ف، أ، والمسند.
(5) في ف، أ: "وتذهب".
(6) المسند (6/290) وصحيح البخاري برقم (5887) وصحيح مسلم برقم (2180).
(7) المسند (6/152) وصحيح مسلم برقم (2181) وسنن أبي داود برقم (4108) والنسائي في السنن الكبرى (9247).
(8) في ف: "كلامهم".
(9) في ف: "كانت المرأة إذا كانت في الجاهلية".
(10) في ف: "ليظهر".
(11) في أ: "ليشم".

حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد القَّطَّان، عن ثابت بن عُمَارة الحنفي، عن غُنَيْم بن قيس، عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرَّت بالمجلس فهي كذا وكذا" يعني زانية (1) .
قال: وفي الباب، عن أبي هريرة، وهذا حسن صحيح.
رواه أبو داود والنسائي،من حديث ثابت بن عمارة، (2) به.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن عاصم بن (3) عبيد الله، عن عبيد مولى أبي رُهْم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: لقيتْه امرأة وجد منها ريح الطيب، ولذيلها إعصار فقال: يا أمة الجبار، جئت من المسجد؟ قالت: نعم. قال لها: [وله] (4) تَطَيَّبتِ؟ قالت: نعم. قال: إني سمعت حبي أبا القاسم (5) صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقبل الله صلاة امرأة تَطَيبت لهذا المسجد، حتى ترجع فتغتسل غُسلها من الجنابة".
ورواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان -هو ابن عيينة - (6) به.
وروى الترمذي أيضًا من حديث موسى بن عُبَيدة، عن أيوب بن خالد، عن ميمونة بنت سعد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الرافلة في الزينة في غير أهلها، كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها" (7) .
ومن ذلك أيضا أنهن يُنهَين عن المشي في وسط الطريق؛ لما فيه من التبرج. قال أبو داود:
حدثنا القَعْنَبِيّ، حدثنا عبد العزيز -يعني: ابن محمد -عن (8) أبي اليمان، عن شداد بن أبي عمرو بن حماس، عن أبيه، عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري، عن أبيه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد -وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق -فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: "استأخرن، فإنه ليس لكن أن تَحْققْن (9) الطريق، عليكن بحافات الطريق"، فكانت المرأة تلصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار، من لصوقها به (10) .
وقوله: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي: افعلوا ما آمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة، فإن الفَلاح كل الفَلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهيا (11) عنه، والله تعالى هو المستعان [وعليه التكلان] (12) .
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2786).
(2) سنن أبي داود برقم (4173) وسنن النسائي (8/153).
(3) في ف: "عن".
(4) زيادة من ف، أ، وأبي داود.
(5) في ف: "رسول الله".
(6) سنن أبي داود برقم (4174) وسنن ابن ماجه برقم (4002).
(7) سنن الترمذي برقم (1167) وقال الترمذي: "وهذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث من قبل حفظه وهو صدوق، وقد رواه بعضهم عن موسى بن عبيدة ولم يرفعه".
(8) في ف: "ابن".
(9) في ف: "تحتضن"، وفي أ: "تختص".
(10) سنن أبي داود برقم (5272).
(11) في أ: "ما نهاه".
(12) زيادة من ف، أ.

وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

{ وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) }
اشتملت هذه الآيات الكريمات المبينة على جمل من الأحكام المحكمة، والأوامر المبرمة، فقوله تعالى: { وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } : هذا أمر بالتزويج. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه، على كل من قَدَر عليه. واحتجوا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء". أخرجاه من حديث ابن مسعود (1) .
وجاء في السنن -من غير وجه -أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تَزَوَّجوا، توالدوا، تناسلوا، فإني مُبَاهٍ بكم الأمم يوم القيامة" (2) وفي رواية: "حتى بالسقط".
الأيامى: جمع أيِّم، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها، وللرجل الذي لا زوجة له. وسواء كان قد تزوج ثم فارق، أو لم يتزوج واحد منهما، حكاه الجوهري عن أهل اللغة، يقال: رجل أيّم وامرأة أيّم أيضا.
وقوله تعالى: { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: رغبهم الله في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى، فقال: { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمود بن خالد الأزرق، حدثنا عمر بن عبد الواحد، عن سعيد -يعني: ابن عبد العزيز -قال: بلغني أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، ينجز [لكم] (3) ما وعدكم من الغنى، قال: { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } .
وعن ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح، يقول الله تعالى: { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } رواه (4) ابن جرير، وذكر البغوي عن عمر بنحوه.
وعن الليث، عن محمد بن عَجْلان، عن سعيد المقْبُرِي، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة حَقٌّ على الله عَوْنهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتَب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله". رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (5)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5066) وصحيح مسلم برقم (1400).
(2) سنن أبي داود برقم (2050) وسنن النسائي (6/65).
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ف، أ: "ورواه".
(5) المسند (2/251) وسنن الترمذي برقم (1655) وسنن النسائي (6/61) وسنن ابن ماجه برقم (2518).

وقد زوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد إلا إزاره (1) ، ولم يقدر على خاتم من حديد، ومع هذا فزوّجه بتلك المرأة، وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما يحفظه من القرآن.
والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه [وإياها] (2) ما فيه كفاية له ولها. فأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث: "تزوجوا فقراء يغنكم الله"، فلا أصل له، ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الآن، وفي القرآن غنية عنه، وكذا (3) هذا الحديث الذي أوردناه. ولله الحمد.
وقوله تعالى : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضله } . هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجًا [بالتعفف] (4) عن الحرام، كما قال -عليه الصلاة والسلام (5) -: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغَضُّ للبصر، وأحْصَنُ للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء".
وهذه (6) الآية مطلقة، والتي في سورة النساء أخص منها، وهي قوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } ، إلى أن قال: { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [النساء: 25] أي صبركم عن تزويج الإماء خير؛ لأن الولد يجيء رقيقا، { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
قال عكرمة في قوله: { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا } قال: هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي، فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض (7) حاجته منها، وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السموات [والأرض] (8) حتى يغنيه الله.
وقوله: { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب منهم عبيدهم الكتابة أن يكاتبوا (9) ، بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيِّده المال الذي شارطه على أدائه. وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمرُ إرشاد واستحباب، لا أمر تحتم وإيجاب، بل السيد مخير، إذا طلب منه عبده الكتابة إن شاء كاتبه، وإن شاء لم يكاتبه.
وقال الثوري، عن جابر، عن الشعبي: إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه.
وقال ابن وهب، عن إسماعيل بن عياش، عن رجل، عن عطاء بن أبي رَبَاح: إن يشأ يكاتبه وإن لم يشأ لم يكاتبه (10) ، وكذا قال مُقاتل بن حَيَّان، والحسن البصري.
وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبدُه ذلك، أن يجيبه إلى ما طلب؛ أخذًا بظاهر هذا الأمر:
قال البخاري: وقال روح، عن ابن جُرَيْج قلت لعطاء: [أواجب عليّ إذا علمت له مالا أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلا واجبًا. وقال عمرو بن دينار: قلت لعطاء] (11) ، أتأثُرُه عن أحد؟ قال: لا. ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره، أن سيرين سأل أنسًا المكاتبةَ -وكان كثير المال، فأبى.
__________
(1) في أ: "الإزارة".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في ف: "وكذلك".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ف: "صلى الله عليه وسلم".
(6) في ف: "فهذه".
(7) في ف: "فليقض".
(8) زيادة من ف، أ.
(9) في ف: "يكاتبوهم".
(10) في ف، أ: "إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه".
(11) زيادة من ف، أ، والبخاري.

فانطلق إلى عمر بن الخطاب فقال: كاتبه. فأبى، فضربه بالدّرة، ويتلو عمر، رضي الله عنه: { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } (1) ، فكاتبه (2)
هكذا ذكره البخاري تعليقا (3) . ورواه عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: أواجب عليّ إذا علمت له مالا أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلا واجبًا. وقال عمرو (4) بن دينار، قال: قلت لعطاء: أتأثره عن أحد؟ قال: لا (5)
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بَشَّار، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن سيرين أراد أن يكاتبه، فتلكأ عليه، فقال له عمر: لتكاتِبَنَّه. إسناد صحيح (6) .
وقال سعيد بن منصور: حدثنا هُشَيْم بن جُوَيْبِر، عن الضحاك قال: هي عَزْمة.
وهذا هو القول القديم من قولي الشافعي، رحمه الله، وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (7) لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه" (8) .
وقال ابن وهب: قال مالك: الأمر عندنا أنْ ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك، ولم أسمع أحدًا من الأئمة أكره أحدًا على أن يكاتب عبده. قال مالك: وإنما ذلك أمر من الله، وإذن منه للناس، وليس بواجب.
وكذا قال الثوري، وأبو حنيفة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم. واختار ابن جرير قول الوجوب لظاهر الآية.
وقوله: { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } ، قال بعضهم: أمانة. وقال بعضهم: صدقا. [وقال بعضهم: مالا] (9) وقال بعضهم: حيلة وكسبا.
وروى أبو داود في كتاب المراسيل، عن يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } قال: "إن علمتم فيهم حرفة، ولا ترسلوهم كَلا (10) على الناس".
وقوله: { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } اختلف المفسرون فيه، فقال قائلون: معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها، ثم قال بعضهم: مقدار الربع. وقيل: الثلث. وقيل: النصف. وقيل: جزء من الكتابة من غير واحد.
وقال آخرون: بل المراد من قوله: { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكوات. وهذا قول الحسن، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأبيه، ومقاتل بن حيان. واختاره ابن جرير.
__________
(1) في ف: "وكاتبوهم" وهو خطأ.
(2) صحيح البخاري (5/184) "فتح".
(3) في أ: "معلقا".
(4) في أ: "عمر".
(5) ورواه الطبري في تفسيره (18/98) من طريق عبد الرزاق به.
(6) تفسير الطبري (18/98).
(7) في ف: "صلى الله عليه وسلم".
(8) رواه أحمد في مسنده (5/72) من حديث عم أبي حرة الرقاشي، وفي (5/425) من حديث أبي حميد الساعدي، وفي (3/423) من حديث عمرو بن يثربي.
(9) زيادة من ف، أ.
(10) في ف، أ: "كلايا".

وقال إبراهيم النَّخَعِيّ في قوله: { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } قال: حَثَّ الناس عليه (1) مولاه وغيره. وكذلك قال بُرَيْدة بن الحُصَيب الأسلمي، وقتادة.
وقال ابن عباس: أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقد تقدَّمَ في الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاثة حق على الله عونهم": فذكر منهم المكاتَب يريد الأداء، والقول الأول أشهر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا وَكِيع، عن ابن شَبِيب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عمر؛ أنه كاتب عبدًا له، يكنى أبا أمية، فجاء بنجمه حين حل، فقال: يا أبا أمية، اذهب فاستعن به في مكاتبتك. قال: يا أمير المؤمنين، لو تركتَه حتى يكون من آخر نجم؟ قال: أخاف ألا أدرك ذلك. ثم قرأ: { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } قال عكرمة: كان (2) أول نجم أدّي في الإسلام.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسَةَ، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتَبه لم يضع عنه شيئا من أول نجومه، مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته. ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته، وضع عنه ما أحب (3) .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } قال: يعني: ضعوا عنهم من مكاتبتهم. وكذلك قال مجاهد، وعطاء، والقاسم بن أبي بَزَّة، وعبد الكريم بن مالك الجَزَريّ، والسدي.
وقال محمد بن سيرين في قوله: { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } : كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتَبه طائفة من مكاتبته.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الفضل بن شاذان المقرئ، أخبرنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن ابن جُرَيْج، أخبرني عطاء بن السائب: أن عبد الله بن جندب أخبره، عن علي، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ربع الكتابة" (4) .
وهذا حديث غريب، ورفعه منكر، والأشبه أنه موقوف على عليّ، رضي الله عنه، كما رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله (5) .
وقوله: { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } الآية: كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة، أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كلّ وقت. فلما جاء الإسلام، نهى الله المسلمين (6) عن ذلك.
وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة -فيما ذكره غير واحد من المفسرين، من السلف والخلف -في شأن عبد الله بن أبي بن سلول [المنافق] (7) فإنه كان له إماء، فكان يكرههن على البِغاء طلبا لخَراجهن، ورغبة في أولادهن، ورئاسة منه فيما يزعم [قبحه الله ولعنه] (8)
__________
(1) في ف، أ: "على".
(2) في ف، أ: "فكان".
(3) تفسير الطبري (18/101).
(4) ورواه عبد الرزاق في المصنف برقم (15589) من طريق ابن جريج، به. وقال: "قال ابن جريج: وأخبرني غير واحد، عن عطاء بن السائب أنه كان يحدث بهذا الحديث، لا يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم".
(5) ورواه عبد الرزاق في مصنفه برقم (15590) من طريق معمر، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، به.
(6) في ف، أ: "المؤمنين".
(7) زيادة من ف، أ.
(8) زيادة من ف، أ.

[ذكر الآثار (1) الواردة في ذلك] (2)
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزَّار، رحمه الله، في مسنده: حدثنا أحمد بن داود الواسطي، حدثنا أبو عمرو اللخمي -يعني: محمد بن الحجاج -حدثنا محمد ابن إسحاق، عن الزهري قال: كانت جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول، يقال لها: معاذة، يكرهها على الزنى، فلما جاء الإسلام نزلت: { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } إلى قوله: { فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (3)
وقال الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر في هذه الآية: { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } قال: نزلت في أمة لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها: مُسَيْكَة، كان يكرهها على الفجور -وكانت لا بأس بها -فتأبى. فأنزل الله، عز وجل، هذه الآية إلى قوله { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (4) .
وروى النسائي، من حديث ابن جُرَيْج، عن أبي الزبير، عن جابر نحوه (5)
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا علي بن سعيد، حدثنا الأعمش، حدثني أبو سفيان، عن جابر قال: كان لعبد الله بن أُبَيٍّ ابنِ سلولَ جارية يقال لها: مسيكة، وكان يكرهها على البغاء، فأنزل الله: { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } ، إلى قوله: { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
صرح الأعمش بالسماع من أبي سفيان طلحة بن نافع، فدل على بطلان قول من قال: "لم يسمع منه، إنما هو صحيفة" حكاه البزار.
قال أبو داود الطيالسي، عن سليمان بن معاذ، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس؛ أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية، فولدت أولادًا من الزنى، فقال لها: ما لك لا تزنين؟ قالت (6) لا والله لا أزني. فضربها، فأنزل الله عز وجل: { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } (7)
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري: أن رجلا من قريش أُسر يوم بدر، وكان عند عبد الله بن أُبَيّ أسيرًا، وكانت لعبد الله بن أُبيّ جارية يقال لها: معاذة، وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها، وكانت مسلمة (8) . وكانت تمتنع منه لإسلامها، وكان عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك ويضربها، رجاء أن تحمل للقرشي، فيطلب فداء ولده، فقال تبارك وتعالى: { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } (9)
__________
(1) في أ: "الأحاديث".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) مسند البزار برقم (2240) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/83): "فيه محمد بن الحجاج اللخمي وهو كذاب".
(4) رواه الطبري في تفسيره (18/103) من طريق الأعمش، به.
(5) النسائي في السنن الكبرى برقم (11365) من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، به.
(6) في ف: "فقالت".
(7) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (11/284) من طريق أبي داود الطيالسي، به.
(8) في أ: "تسلم".
(9) تفسير عبد الرزاق (2/50).

وقال السدي: أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، وكانت له جارية تدعى معاذة، وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها، إرادة الثواب منه والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر، رضي الله عنه فشكت إليه ذلك، فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمره بقبضها. فصاح عبد الله بن أبي: من يَعْذُرني من محمد، يغلبنا على مملوكتنا؟ فأنزل الله فيهم هذا.
وقال مُقَاتِل بن حَيَّان: بلغنا -والله أعلم -أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما، إحداهما اسمها مُسَيْكَة، وكانت للأنصاريّ، وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبي، وكانت معاذة وأروى بتلك المنزلة، فأتت مسيكة وأمها النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرتا ذلك له، فأنزل الله في ذلك { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } يعني: الزنى.
وقوله: { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } هذا خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له.وقوله: { لِتَبْتَغُوا عَرَضَ [الْحَيَاةِ] الدُّنْيَا } (1) أي: من خَرَاجهن ومهورهن وأولادهن. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن كسب الحجَّام، ومهر البَغيّ وحُلْوان الكاهن (2) -وفي رواية: "مهر البغي خبيث، وكسب الحجَّام خبيث، وثمن الكلب خبيث" (3)
وقوله: { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [أي: لهن، كما تقدم في الحديث عن جابر.
وقال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم] (4) وإثمهن على من أكرههن: وكذا قال مجاهد، وعطاء الخراساني، والأعمش، وقتادة.
وقال أبو عبيد: حدثني إسحاق الأزرق، عن عَوْف، عن الحسن في هذه الآية: { فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } قال: لهن والله. لهن والله.
وعن الزهري قال: غفور لهن ما أُكْرهْن عليه.
وعن زيد بن أسلم قال: غفور رحيم للمكرهات.
حكاهن ابن المنذر في تفسيره بأسانيده.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله، حدثني ابن لَهِيعَة، حدثني عطاء، عن سعيد بن جُبَيْر قال: في قراءة عبد الله بن مسعود: "فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لَهُنَّ غَفُورٌ (5) رَّحِيمٌ" وإثمهن على من أكرههن.
وفي الحديث المرفوع، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رُفِع عن أمَّتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه". (6)
__________
(1) زيادة من ف، أ. وهو الصواب.
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (2237) ومسلم في صحيحه برقم (1567) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن" وأما كسب الحجام، فروى ابن ماجه في السنن برقم (2165) من حديث عقبة بن عمرو: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن كسب الحجام".
(3) رواه أحمد في مسنده (3/464) من حديث رافع بن خديج، رضي الله عنه.
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ف: "غفور لهن".
(6) رواه ابن ماجه في السنن برقم (2043) وقد سبق الكلام عليه في سورة الأعراف.

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

ولما فصل تعالى (1) هذه الأحكام وبَيَّنها قال: { وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ } يعني: القرآن فيه آيات واضحات مفسرات، { وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } أي: خبرا عن الأمم الماضية، وما حلَّ بهم في مخالفتهم أوامرَ الله تعالى (2) ، كما قال تعالى: { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ } [الزخرف: 56]
{ وَمَوْعِظَةً } أي: زاجرًا عن ارتكاب المآثم والمحارم { لِلْمُتَّقِينَ } أي: لمن اتقى الله وخافه.
قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في صفة القرآن: فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وهو الفَصْل ليس بالهَزْل، مَنْ تركه من جَبَّار قَصَمَه الله، ومن ابتغى الهدى من (3) غيره أضله الله.
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) }
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { اللَّهُ نُورُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ } يقول: هادي أهل السموات والأرض.
وقال ابن جُرَيْج: قال مجاهد وابن عباس في قوله: { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } يدبر الأمر فيهما، نجومهما وشمسهما وقمرهما.
وقال ابن جرير: حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرَقِّي، حدثنا وهب بن راشد، عن فَرْقَد، عن أنس بن مالك قال: إن إلهي يقول: نوري هداي.
واختار هذا القول ابن جرير، رحمه الله.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن كعب في قول الله تعالى: { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } قال: هو المؤمن الذي جعل [الله] (4) الإيمان والقرآن في صدره، فضرب الله مثله فقال: { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } فبدأ بنور نفسه، ثم ذكر نور المؤمن فقال: مثل نور من آمن به. قال: فكان أُبي بن كعب يقرؤها: "مثل نور من آمن به (5) فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره.
وهكذا قال (6) سعيد بن جُبير، وقيس بن سعد، عن ابن عباس أنه قرأها كذلك: "نور من آمن بالله".
وقرأ بعضهم:"اللَّهُ نَوَّر السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ" ".
وعن الضحاك: "اللَّهُ نَوَّر السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ".
__________
(1) في ف، أ: "ولما فصل تبارك وتعالى".
(2) في ف، أ: "عز وجل".
(3) في أ: "في".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في أ: "بالله".
(6) في ف: "روى".

وقال السدي في قوله: { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } : فبنوره أضاءت السموات والأرض.
وفي الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق في السيرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في دعائه يوم آذاه أهل الطائف: "أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي غَضبك أو ينزل بي سَخَطُك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك (1) " (2) .
وفي الصحيحين، عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه سلم إذا قام من الليل يقول: "اللهم لك الحمد، أنت قَيّم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن" الحديث (3) .
وعن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه.
وقوله: { مَثَلُ نُورِهِ } في هذا الضمير قولان:
أحدهما: أنه عائد إلى الله، عز وجل، أي: مثل هداه في قلب المؤمن، قاله ابن عباس { كمشكاة } .
والثاني: أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام: تقديره: مثل نور المؤمن الذي في قلبه، كمشكاة. فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى، وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه، كما قال تعالى: { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } [هود: 17] ، فشبه قلب (4) المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري، وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل، الذي لا كدر فيه ولا انحراف.
فقوله (5) : { كَمِشْكَاةٍ } : قال ابن عباس، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وغير واحد: هو موضع الفتيلة من القنديل. هذا هو المشهور؛ ولهذا قال بعده: { فِيهَا مِصْبَاحٌ } ، وهو الذُّبالة التي تضيء.
وقال العوفي، عن ابن عباس [في] (6) قوله: { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } : وذلك أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: كيف يخلص نور الله من دون السماء؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره، فقال: { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ } . والمشكاة: كوَّة في البيت -قال: وهو مثل ضَرَبه الله لطاعته (7) . فسمَّى الله طاعَتَه نُورًا، ثم سَمَاها أنواعا شَتَّى.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: الكوة بلُغة الحبشة. وزاد غيره فقال: المشكاة: الكوة التي لا منفذ لها. وعن مجاهد: المشكاة: الحدائد التي يعلق بها القنديل.
والقول الأول أولى، وهو: أن المشكاة هي موضع الفَتيلة من القنديل؛ ولهذا قال: { فِيهَا مِصْبَاحٌ } وهو النور الذي في الذُّبالة.
__________
(1) في ف، أ: "بالله".
(2) رواه ابن هشام في السيرة النبوية (1/420)، عن ابن إسحاق.
(3) صحيح البخاري برقم (1120) وصحيح مسلم برقم (769).
(4) في ف، أ: "القلب".
(5) في أ: "وقوله".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في ف: "لأهل طاعته".

قال أبيً بن كعب: المصباح: النور، وهو القرآن والإيمان الذي في صدره.
وقال السُّدِّي: هو السراج.
{ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } أي: هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية.
قال أبيّ بن كعب وغير واحد: وهي نظير قلب المؤمن. { الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } : قرأ بعضهم بضم الدال من غير همزة، من الدّر، أي: كأنها كوكب من دُرّ.
وقرأ آخرون: "دِرّيء" و"دُرِّيء" بكسر الدال وضمها مع الهمز، من الدَرْء وهو الدفع؛ وذلك أن النجم إذا رُمي به يكون أشدّ استنارة من سائر الأحوال، والعرب تسمي ما لا يعرف من الكواكب دراريّ.
قال أبيّ بن كعب: كوكب مضيء. وقال قتادة: مضيء مبين ضخم. { يُوقَدُ (1) مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } أي : يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة { زيتونة } بدل أو عطف بيان { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } أي: ليست في شرقي بقعتها فلا تصل إليها الشمس من أول النهار، ولا في غربيها فيتقلّص عنها الفيء قبل الغروب، بل هي في مكان وسط، تَفْرَعه (2) الشمس من أول النهار إلى آخره، فيجيء زيتها معتدلا صافيا مشرقا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد، أخبرنا عمرو بن أبي قيس، عن سِمَاك بن حرب، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قوله: { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال: شجرة بالصحراء، لا يظلها جبل ولا شجر ولا كهف، ولا يواريها شيء، وهو أجود لزيتها.
وقال يحيى بن سعيد القَطَّان، عن عمران بن حُدَيْر، عن عكرمة، في قوله: { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال: هي بصحراء، وذلك أصفى لزينتها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نُعَيْم، حدثنا عُمَر بن فَرُّوخ، عن حبيب بن الزبير، عن عكرمة -وسأله رجل عن: { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال (3) تلك [زيتونة] (4) بأرض فلاة، إذا أشرقت الشمس أشرقت عليها، وإذا غربت غربت عليها فذاك أصفى ما يكون من الزيت.
وقال مجاهد في قوله: { [ زَيْتُونَةٍ ] لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } (5) قال: ليست بشرقية، لا تصيبها الشمس إذا غربت، ولا غربية لا تصيبها الشمس إذا طلعت، [ولكنها شرقية وغربية، تصيبها إذا طلعت] (6) وإذا غربت.
وقال سعيد بن جُبَيْر في قوله { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ } قال: هو أجود الزيت. قال: إذا طلعت الشمس أصابتها من صوب المشرق، فإذا أخذت في الغروب أصابتها الشمس، فالشمس تصيبها بالغداة والعَشِيّ، فتلك لا تعد شرقية ولا غربية.
وقال السدي [في] (7) قوله: { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } يقول: ليست بشرقية يحوزها
__________
(1) في ف، أ: "توقد".
(2) في هـ، أ: "تقصرها" والمثبت من ف.
(3) في ف، أ: "فقال".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) زيادة من ف، أ.
(6) زيادة من ف، أ.
(7) زيادة من ف، أ.

المشرق، ولا غربية يحوزها المغرب دون المشرق، ولكنها على رأس جبل، أو في صحراء، تصيبها الشمس النهارَ كلَّه.
وقيل: المراد بقوله: { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } أنها في وسط الشجر، وليست بادية للمشرق ولا للمغرب.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب، في قول الله تعالى: { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال: فهي خضراء ناعمة، لا تصيبها الشمس على أي حال كانت، لا إذا طلعت ولا إذا غربت. قال: فكذلك هذا المؤمن، قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن، وقد ابتلي بها فيثبته الله فيها، فهو بين أربع خلال: إن قال صَدَق، وإن حكم عدل، وإن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا مُسَدَّد قال: حدثنا أبو عَوَانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال: هي وسط الشجر، لا تصيبها الشمس شرقا ولا غربا.
وقال عطية العوفي: { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال: هي شجرة في موضع من الشجر، يرى ظل ثمرها في ورقها، وهذه من الشجر لا تطلع عليها الشمس ولا تغرب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عبد الرحمن الدَّشْتَكِي، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، في قوله تعالى: { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } ليست شرقية ليس فيها غرب، ولا غربية ليس فيها شرق، ولكنها شرقية غربية.
وقال محمد بن كعب القُرَظي: { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال: هي القبْلية.
وقال زيد بن أسلم: { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال: الشام.
وقال الحسن البصري: لو كانت هذه الشجرة في الأرض لكانت شرقية أو غربية، ولكنه مثل ضربه الله لنوره.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: { توقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } قال: رجل صالح { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال: لا يهودي ولا نصراني.
وأولى هذه الأقوال القولُ الأول، وهو أنها في مستوى من الأرض، في مكان فسيح بارز ظاهر ضاح للشمس، تَفْرعه من أول النهار إلى آخره، ليكون ذلك أصفى لزينتها وألطف، كما قال غير واحد ممن تقدم؛ ولهذا قال: { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني: لضوء إشراق الزيت.
وقوله: { نُورٌ عَلَى نُورٍ } قال العوفي، عن ابن عباس: يعني بذلك إيمان العبد وعمله.
وقال مجاهد، والسدي: يعني نور النار ونور الزيت.
وقال أبي بن كعب: { نُورٌ عَلَى نُورٍ } فهو يتقلب في خمسة من النور، فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة.
وقال شِمْر بن عَطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: حدثني عن قول الله: { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ }

قال: يكاد محمد يبين للناس، وإن (1) لم يتكلم، أنه نبي، كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء.
وقال السُّدِّي في قوله: { نُورٌ عَلَى نُورٍ } قال: نور النار ونور الزيت، حين اجتمعا أضاءا، ولا يضيء واحد بغير صاحبه [كذلك نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا، فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه] (2)
وقوله: { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } أي: يرشد الله إلى هدايته من يختاره، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري، حدثنا الأوزاعي، حدثني ربيعة بن يزيد، عن عبد الله [بن] (3) الديلمي، عن عبد الله بن عمرو، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ، فمن أصاب يومئذ من نوره اهتدى، ومن أخطأه ضل. فلذلك أقول: جفَّ القلم على علم الله عز وجل" (4)
طريق أخرى عنه: قال البزار: حدثنا أيوب (5) بن سُوَيْد، عن يحيى بن أبي عمرو الشَّيباني، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم نورًا من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه (6) ضل .[ورواه البزار، عن عبد الله بن عمرو من طريق آخر، بلفظه وحروفه] (7) (8) .
وقوله تعالى: { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } لما ذكر تعالى هذا مثلا لنور هداه في قلب المؤمن، ختم الآية بقوله: { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي: هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الإضلال.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر: حدثنا أبو معاوية -يعني (9) شيبان -، عن ليث، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي البَخْتَري، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يُزهرُ، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مُصْفَح: فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره. وأما القلب الأغلف فقلب الكافر. وأما القلب المنكوس فقلب [المنافق] (10) عَرَفَ ثم أنكر. وأما القلب المُصْفَح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يَمُدّها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القُرحة يَمُدَّها القيح والدم، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه" . إسناده جيد (11) ولم يخرجوه.
__________
(1) في ف، أ: "ولو".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) زيادة من ف، أ، والمسند.
(4) المسند (2/176).
(5) في ف، أ: "قال البزار: حدثنا شهاب بن عثمان حدثنا أيوب" .
(6) في ف، أ: "أخطأ".
(7) زيادة من ف، أ.
(8) مسند البزار برقم (2145) "كشف الأستار" ورواه أحمد في مسنده (2/197) من طريق محمد بن مهاجر، عن عروة بن رويم، عن ابن الديلمي، عن عبد الله بن عمرو، به.
(9) في هـ: "حدثنا" والمثبت من ف، أ، والمسند.
(10) زيادة من ف، أ، والمسند.
(11) المسند (3/17).

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)

{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) }

رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)

{ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) }
لما ضرب الله تعالى [مثل] (1) قلب المؤمن، وما فيه من الهدى والعلم، بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقّد من زيت طيب، وذلك كالقنديل، ذكر محلها وهي المساجد، التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض، وهي بيوته التي يعبد فيها ويُوَحّد، فقال: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } أي: أمر الله تعالى برفعها، أي: بتطهيرها من الدنس واللغو، والأفعال والأقوال التي لا تليق فيها، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية الكريمة: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } قال: نهى الله سبحانه عن اللغو فيها. وكذا قال عكرمة، وأبو صالح، والضحاك، ونافع بن جبير، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حَثْمة (2) وسفيان بن حسين، وغيرهم من علماء المفسرين. (3)
وقال قتادة: هي هذه المساجد، أمر الله، سبحانه، ببنائها ورفعها، وأمر بعمارتها وتطهيرها. وقد ذكر لنا أن كعبًا كان يقول: إن في التوراة مكتوبًا: " ألا إن بيوتي في الأرض المساجد، وإنه من توضأ فأحسن وضوءه، ثم زارني في بيتي أكرمته، وحَقّ على المَزُور كرامةُ الزائر" . رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره.
وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد، واحترامها وتوقيرها، وتطييبها وتبخيرها. وذلك له محل مفرد يذكر فيه، وقد كتبت في ذلك جزءًا على حدَة، ولله الحمد والمنة. ونحن بعون الله تعالى نذكر (4) هاهنا طرفا من ذلك، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان:
فعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنة". أخرجاه في الصحيحين (5) .
وروى ابن ماجه، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله، بنى الله له بيتا في الجنة" (6) .
وللنسائي عن عمرو بن عَبَسَة (7) مثله (8) . والأحاديث في هذا كثيرة جدا.
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ف، أ: "خيثمة".
(3) في ف، أ: "التفسير".
(4) في ف: "سنذكر".
(5) صحيح البخاري برقم (450) وصحيح مسلم برقم (533).
(6) سنن ابن ماجه برقم (735) من طريق الوليد بن أبي الوليد عن عثمان بن عبد الله عن عمر. وقال البوصيري في الزوائد (1/260): "هذا إسناد مرسل، عثمان بن عبد الله بن سراقة روى عن عمر وهو جده لأمه، ولم يسمع منه. قاله المزي".
(7) في أ: "عنبسة".
(8) سنن النسائي (2/31).

وتطيب (1) . رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي. ولأحمد وأبي داود، عن سَمُرة بن جُنْدب نحوه. (2)
وقال البخاري: قال عمر: ابن للناس ما يكنهم، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس (3) .
وروى ابن ماجه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ساء عملُ قوم قطّ إلا زخرفوا مساجدهم". (4) وفي إسناده ضعف.
وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أمِرْتُ بتشييد المساجد". قال ابن عباس: لَتُزَخرفُنّها كما زَخْرَفت اليهود والنصارى (5)
وعن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد". رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي (6)
وعن بُرَيْدَةَ أن رَجُلا أنشدَ في المسجد، فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا وجدت، إنما بُنِيت المساجد لما بنيت له". رواه مسلم. (7)
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن البيع والابتياع، وعن تناشد الأشعار في المساجد. رواه أحمد وأهل السنن (8) ، وقال الترمذي: حسن.
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه سلم: قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك. وإذا رأيتم من يَنشُد ضالة في المسجد، فقولوا: لا رَدَّ الله عليك". رواه الترمذي، وقال: حسن غريب. (9)
وقد روى ابن ماجه وغيره، من حديث ابن عمر مرفوعًا، قال: "خصال لا تنبغي في المسجد: لا يُتَّخذُ طريقًا، ولا يُشْهَرُ فيه سلاح، ولا يُنبَض فيه بقوس، ولا ينثر فيه نبل، ولا يُمرّ فيه بلحم نِيء: ولا يُضرَبُ فيه حَدٌّ، ولا يُقْتَص فيه من أحد، ولا يُتَّخذ سوقًا" (10) .
وعن واثلة بن الأسقع، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جَنِّبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم، وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجَمّروها في الجُمَع".
__________
(1) المسند (6/279) وسنن أبي داود برقم (455) وسنن الترمذي برقم (594) وسنن ابن ماجه برقم (759).
(2) المسند (5/17) وسنن أبي داود برقم (456).
(3) صحيح البخاري (1/539) "فتح".
(4) سنن ابن ماجه برقم (741) من طريق جبارة بن المغلس عن عبد الكريم بن عبد الرحمن عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب، به. قال البوصيري في الزوائد (1/262): "هذا إسناد فيه جبارة بن المغلس وقد اتهم".
(5) سنن أبي داود برقم (448).
(6) المسند (3/134) وسنن أبي داود برقم (449) وسنن النسائي (2/32) وسنن ابن ماجه برقم (739).
(7) صحيح مسلم برقم (569).
(8) المسند (2/179) وسنن أبي داود برقم (1079) وسنن الترمذي برقم (322) وسنن النسائي (2/47) وسنن ابن ماجه برقم (749).
(9) سنن الترمذي برقم (3121).
(10) سنن ابن ماجه برقم (748) وقال البوصيري في الزوائد (1/264): "هذا إسناد فيه زيد بن جبيرة. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ضعيف".

ورواه ابن ماجه أيضًا (1) وفي إسنادهما (2) ضعف.
أما أنه "لا يتخذ طريقًا" فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلا لحاجة إذا وَجَد مندوحة عنه. وفي الأثر: "إن الملائكة لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد لا يصلي فيه".
وأما أنه "لا يشهر فيه بسلاح (3) . ولا ينبض فيه بقوس، ولا ينثر فيه نبل (4) . فلما يخشى من إصابة بعض الناس به، لكثرة المصلين فيه؛ ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر أحد بسهام أن يقبض على نصالها؛ لئلا يؤذي أحدًا، كما ثبت في الصحيح (5) .
وأما النهي عن المرور باللحم النيء فيه، فَلِما يخشى من تقاطر الدم منه، كما نهيت الحائض عن المرور فيه إذا خافت التلويث.
وأما أنه "لا يضرب فيه حد ولا يقتص" ، فلما يخشى من إيجاد نجاسة فيه من المضروب أو المقطوع.
وأما أنه "لا يتخذ سوقًا" ، فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء فيه، فإنه إنما بني لذكر الله والصلاة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، (6) لذلك الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد: "إن المساجد لم تبن لهذا، إنما بنيت لذكر الله والصلاة فيها". ثم أمر بسَجْل من ماء، فأهريق على بوله (7) .
وفي الحديث الثاني: "جَنِّبوا مساجدكم صبيانكم" ، وذلك لأنهم يلعبون فيه ولا يناسبهم، وقد كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذا رأى صبيانًا يلعبون في المسجد (8) ، ضربهم بالمِخْفَقَة -وهي الدِّرَّة -وكان يَعُسّ (9) المسجد بعد العشاء، فلا يترك فيه أحدًا.
"ومجانينكم" يعني: لأجل ضعف عقولهم، وسَخْر الناس بهم، فيؤدي إلى (10) اللعب فيها، ولما يخشى من تقذيرهم المسجد، ونحو ذلك.
"وبيعكم وشراءكم" كما تقدم.
"وخصوماتكم" يعني: التحاكم والحكم فيه؛ ولهذا نص كثير من العلماء على أن الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد، بل يكون في موضع غيره؛ لما فيه من كثرة الحكومات والتشاجر والعياط (11) الذي لا يناسبه؛ ولهذا قال بعده: "ورفع أصواتكم".
وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا الجُعَيْد (12) بن عبد الرحمن قال: حدثني (13) يزيد بن خُصَيفَة (14) ، عن السائب بن يَزيدَ الكنْديِّ قال: كنت قائمًا في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر (15) بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين. فجئته بهما، فقال: من أنتما؟ أو: من أين أنتما؟ قالا من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل
__________
(1) سنن ابن ماجه برقم (750) وقال البوصيري في الزوائد (1/265): "هذا إسناد ضعيف، أبو سعيد هو محمد بن سعيد المصلوب، قال أحمد: عمدا كان يضع الحديث، ثم قال: والحارث بن نبهان ضعيف".
(2) في ف، أ: "إسناده".
(3) في أ: "السلام".
(4) في ف: "بنبل".
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (2615) من حديث أبي موسى الأشعري.
(6) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(7) رواه مسلم في صحيحه برقم (284) من حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه.
(8) في ف: "فيه".
(9) في ف، أ: "يفتش".
(10) في أ: "على".
(11) في أ: "والغياظ".
(12) في ف، أ: "الجعد".
(13) في ف، أ: "عن".
(14) في ف، أ: "حفصة".
(15) في ف، أ: "فإذا هو عمر".

البلد لأوجعتكما: ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
وقال النسائي: حدثنا سُوَيْد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: سمع عمر صوت رجل في المسجد فقال: أتدري أين أنت؟ وهذا أيضًا صحيح. (2)
وقوله: "وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم": تقدما. (3)
وقوله: "واتخذوا على أبوابها المطاهر" يعني: المراحيض التي يستعان بها على الوضوء وقضاء الحاجة. وقد كانت قريبًا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم آبار (4) يستقون منها، فيشربون ويتطهرون، ويتوضؤون وغير ذلك.
وقوله: "وجمِّروها في الجُمَع" يعني: بخروها في أيام الجُمَع لكثرة اجتماع الناس يومئذ.
وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبيد الله، حدثنا عبد الرحمن (5) بن مهدي، عن عبد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر؛ أن عمر كان يُجَمِّر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة. إسناده حسن لا بأس به (6) والله أعلم.
وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة الرجل في الجماعة تُضَعَّف على صلاته في بيته وفي سوقه، خمسًا وعشرين ضعفًا. وذلك أنه إذا توضأ فأحسن وضوءه (7) ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يَخطُ خَطوة إلا رُفع له بها درجة، وحطّ عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مُصَلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة" (8)
وعند الدارقطني مرفوعًا: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" (9) .
وفي السنن: "بشِّر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة" (10) .
والمستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى، وأن يقول كما ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عَمرو (11) رضي الله عنه (12) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال:
__________
(1) صحيح البخاري برقم (470).
(2) وذكره المزي في تحفة الأشراف (8/4) وعزاه للنسائي في السنن الكبرى في المواعظ.
(3) في أ: "تقدم".
(4) في أ: "أباريق".
(5) في أ: "عبد الله".
(6) مسند أبي يعلى (1/170).
(7) في ف، أ: "الوضوء".
(8) صحيح البخاري برقم (647) وصحيح مسلم برقم (649) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(9) سنن الدارقطني (1/420) من طريق سليمان بن داود اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا، به. وقد رواه الحاكم في المستدرك (1/246) والبيهقي في السنن الكبرى (3/57) من طريق سليمان بن داود، به. وسليمان بن داود مجمع على تضعيفه. ومن حديث جابر، رواه الدارقطني أيضا في السنن (1/420) من طريق محمد بن مسكين عن عبد الله بن بكير عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعا، به. وقال أبو الطيب في التعليق: "فيه محمد بن مسكين، قال الذهبي: لا يعرف وخبره منكر. وقال البخاري: في إسناد حديثه نظر".
(10) رواه أبو داود في السنن برقم (561) والترمذي في السنن برقم (223) من حديث بريدة بن الحصيب، رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه مرفوع، وهو صحيح مسند وموقوف إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم".
(11) في أ: "عمر".
(12) في ف، أ: "عنهما".

أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم" [قال: أقط؟ قال: نعم] (1) . قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حُفظ مني سائر اليوم (2) .
وروى مسلم بسنده عن أبي حميد -أو: أبي أسَيْد -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك".
ورواه النسائي عنهما، عن النبي (3) صلى الله عليه وسلم [مثله] (4) (5) .
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد، فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم".
ورواه ابن ماجه، وابن خزيمة وابن حِبَّان في صحيحيهما (6) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا لَيْث بن أبي سليم، عن عبد الله بن حسن (7) . عن أمه فاطمة بنت حسين، عن جدتها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، ثم قال:"اللهم، اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك". وإذا خرج صلى على محمد وسلم ثم قال: "اللهم، اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك".
ورواه الترمذي وابن ماجه (8) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن وإسناده ليس بمتصل؛ لأن فاطمة بنت الحسين الصغرى لم تدرك فاطمة الكبرى.
فهذا الذي ذكرناه، مع ما تركناه من الأحاديث الواردة في ذلك لحال الطول (9) . كله داخل في قوله تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } .
وقوله: { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } أي: اسم الله، كقوله: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [الأعراف: 31]، وقوله { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [الأعراف: 29]، وقوله { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن: 18] .
قال ابن عباس: { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } يعني: يتلى فيها كتابه.
وقوله: { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } أي: في البُكَرات والعَشِيَّات. والآصال: جمع أصيل،
__________
(1) زيادة من أ.
(2) لم أجده في صحيح البخاري، وقد ذكره المزي في تحفة الأشراف وابن الأثير في جامع الأصول ولم يعزواه إلا لأبي داود في السنن برقم (466).
(3) في ف، أ: "رسول الله".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) صحيح مسلم برقم (713) وسنن النسائي (2/53).
(6) سنن ابن ماجه برقم (773) وصحيح ابن خزيمة برقم (452) وصحيح ابن حبان برقم (2048) "الإحسان" كلهم من طريق أبي بكر الحنفي عن الضحاك بن عثمان عن المقبري عن أبي هريرة، به. وقال البوصيري في الزوائد (1/97): "هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات".
(7) في أ: "حسين".
(8) المسند (6/282) وسنن الترمذي برقم (314) وسنن ابن ماجه برقم (771).
(9) في ف، أ: "لجافي القول".

وهو آخر النهار.
وقال سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس: كل تسبيح في القرآن هو الصلاة.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني بالغدو: صلاة الغداة، ويعني بالآصال: صلاة العصر، وهما أول ما افترض الله من الصلاة، فأحب أن يَذْكُرهما وأن يُذَكِّر بهما عباده.
وكذا قال الحسن، والضحاك: { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } يعني: الصلاة.
ومن قرأ من القَرَأَة (1) " يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ" -بفتح الباء من "يُسبح" على أنه مبني لما لم يسم فاعله -وقف (2) على قوله: { والآصَال } وقفًا تامًا، وابتدأ بقوله: { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } وكأنه مفسر للفاعل المحذوف، كما قال الشاعر (3) .
لِيُبْكَ يزيدُ، ضارعٌ لخُصُومة ... ومُخْتَبطٌ مما تُطيح الطّوَائحُ ...
كأنه قال: من يبكيه؟ قال: هذا يبكيه. وكأنه قيل: من يسبح له فيها؟ قال: رجال .
وأما على قراءة مَنْ قرأ: { يسبِّح } -بكسر الباء -فجعله فعلا وفاعله: { رِجَال } فلا يحسن الوقف إلا على الفاعل؛ لأنه تمام الكلام.
فقوله: { رِجَال } فيه إشعار بهممهم السامية، ونياتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا عُمَّارا للمساجد، التي هي بيوت الله في أرضه، ومواطن عبادته وشكره، وتوحيده وتنزيهه، كما قال تعالى: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } [الأحزاب: 23].
فأما النساء فَصَلاتهن في بيوتهن أفضل لهن؛ لما رواه أبو داود، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها" (4) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غَيْلان، حدثنا رِشْدِين، حدثني عمرو، عن أبي السمح، عن السائب مولى أم سلمة عن أم سلمة -رضي الله عنها، -عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير مساجد النساء [قعر] (5) بيوتهن" (6) .
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا هارون، أخبرني عبد الله بن وهب، حدثنا داود بن قيس، عن عبد الله بن سُوَيد الأنصاري، عن عمته أم حميد -امرأة أبي حميد الساعدي -أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك قال: "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حُجْرَتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي". قال: فأمَرَت فبُني لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها وأظلمه (7) ، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله، عز وجل. لم يخرجوه. (8)
__________
(1) في ف، أ: "القراء".
(2) في ف: "ويقف".
(3) ينسب للشاعر نهشل بن حري ولغيره، وهو من شواهد الكتاب لسيبويه (1/145) والمقتضب للمبرد (3/382) ومغني اللبيب لابن هشام الشاهد رقم (1048) ا.هـ، مستفادا من حاشية الشعب.
(4) سنن أبي داود برقم (580).
(5) زيادة من ف، أ.
(6) المسند (6/297).
(7) في هـ: "بيوتها والله" وفي ف، أ: "بيتها والله" والمثبت من المسند.
(8) المسند (6/371).

هذا ويجوز لها شهود جماعة الرجال، بشرط أن لا تؤذي أحدًا من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب كما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عُمَر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (1) .
رواه البخاري ومسلم، ولأحمد وأبي داود: "وبيوتهن خير لهن" (2) وفي رواية: "وليخرجن وهن تَفِلات" (3) أي: لا ريح لهن.
وقد ثبت في صحيح مسلم، عن زينب -امرأة ابن مسعود -قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا" (4) .
وفي الصحيحين عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: كان نساء المؤمنين (5) يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرجعن متلفعات بمُرُوطهن، ما يُعْرَفْن من الغَلَس (6) .
وفي الصحيحين أيضًا عنها أنها قالت: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهُنّ المساجد، كما مُنعت نساء بني إسرائيل (7) .
وقوله: { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } ، كقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المنافقون: 9]، وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [الجمعة: 9]
يقول تعالى: لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها ومَلاذ بَيعها وريحها، عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم؛ لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق؛ ولهذا قال: { لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } أي: يقدمون طاعته ومُرَاده ومحبته على مرادهم ومحبتهم.
قال هُشَيْم: عن سَيَّار (8) : [قال] (9) حُدِّثت عن ابن مسعود أنه رأى قومًا من أهل السوق، حيث نودي بالصلاة، تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبد الله: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه: { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } (10) .
وهكذا روى عَمْرو بن دينار القَهْرَمَانيّ، عن سالم، عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أنه كان في السوق (11) فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر: فيهم
__________
(1) صحيح البخاري برقم (900) وصحيح مسلم برقم (442).
(2) المسند (2/76) وسنن أبي داود برقم (567) من حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما.
(3) وهي في المسند (2/438) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(4) صحيح مسلم برقم (443).
(5) في ف، أ: "المؤمنات".
(6) صحيح البخاري برقم (578) وصحيح مسلم برقم (645).
(7) صحيح البخاري برقم (869) وصحيح مسلم برقم (445).
(8) في ف، أ: "شيبان".
(9) زيادة من ف، أ.
(10) رواه الطبري في تفسيره (18/113).
(11) في ف، أ: "بالسوق".

نزلت: { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } . رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير (1) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن بكر (2) الصنعاني، حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم (3) حدثنا عبد الله بن بُجَيْر، حدثنا أبو عبد رب (4) قال: قال أبو الدرداء، رضي الله عنه: إني قمت (5) على هذا الدرج أبايع عليه، أربح كل يوم ثلاثمائة دينار، أشهد الصلاة في كل يوم في المسجد، أما إني لا أقول: "إن ذلك ليس بحلال" ولكني أحب أن أكون من الذين قال الله: { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } .
وقال عمرو بن دينار الأعور: كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد، فمررنا بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة وخَمَّروُا متاعهم، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد، فتلا سالم هذه الآية: { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } ثم قال: هم هؤلاء.
وكذا قال سعيد بن أبي الحسن، والضحاك: لا تلهيهم التجارة والبيع أن يأتوا الصلاة في وقتها.
وقال مطر الوَرَّاق: كانوا يبيعون ويشترون، ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانُه في يده خفضه، وأقبل إلى الصلاة.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس { لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } يقول: عن الصلاة المكتوبة. وكذا قال الربيع بن أنس ومقاتل بن حيان.
وقال السُّدِّي: عن الصلاة في جماعة.
وعن مقاتل بن حيان: لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة، وأن يقيموها كما أمرهم (6) الله، وأن يحافظوا على مواقيتها، وما استحفظهم الله فيها.
وقوله: { يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ } أي: يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار، أي: من شدة الفزع وعظمة الأهوال، كما قال تعالى { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ } [غافر: 18]، وقال تعالى: { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ } [إبراهيم: 42]، وقال تعالى: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا } [الإنسان: 8-12].
وقال هاهنا { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا } أي: هؤلاء من الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم.
وقوله: { وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } أي: يتقبل منهم الحسن ويضاعفه لهم، كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 40]، وقال تعالى: { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام: 160]، وقال { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [البقرة: 245]، وقال { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } [البقرة: 261]
__________
(1) تفسير الطبري (18/113).
(2) في ف، أ: "بكير".
(3) في أ: "هشام".
(4) في ف، أ: "عبد ربه".
(5) في أ: "قمت".
(6) في ف، أ: "أمر".

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

كما قال هاهنا: { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
وعن ابن مسعود: أنه جيء بلبن فعرضه على جلسائه واحدًا واحدًا، فكلهم لم يشربه لأنه كان صائمًا، فتناوله ابن مسعود وكان مفطرًا فشربه، ثم تلا قوله تعالى (1) { يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ } ، رواه النسائي، وابن أبي حاتم، من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عنه (2) .
وقال [ابن أبي حاتم] (3) أيضًا: حدثنا أبي، حدثنا سُوَيْد بن سعيد، حدثنا علي بن مُسْهِر عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن شهر بن حَوْشَب عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، جاء مناد فنادى بصوت يُسمع الخلائق: سيعلم أهلُ الجمع من أولى بالكرم، ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. فيقومون، وهم قليل، ثم يحاسب سائر الخلائق" (4) .
وروى الطبراني، من حديث بَقيَّة، عن إسماعيل بن عبد الله الكندي، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } [فاطر: 30] قال: { أُجُورَهُمْ } يدخلهم الجنة { ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } ، الشفاعة لمن وجبت له الشفاعة، لمن صنع لهم المعروف في الدنيا (5) .
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) }
هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار، كما ضرب للمنافقين في أول "البقرة" (6) مثلين ناريًا ومائيًا، وكما ضرب لما يقر في القلوب من الهدى والعلم في سورة "الرعد" (7) مثلين مائيًا وناريًا، وقد تكلمنا على كل منها (8) في موضعه بما أغنى عن إعادته، ولله الحمد والمنة.
فأما الأول من هذين المثلين: فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم، الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات، وليسوا في نفس الأمر على شيء، فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض عن (9) بعد كأنه بحر طام .
__________
(1) في ف، أ: "عز وجل".
(2) ذكره المزي في تحفة الأشراف برقم (9435) وعزاه للنسائي في المواعظ.
(3) زيادة من ف، أ.
(4) ورواه هناد في الزهد برقم (176) من طريق أبي معاوية عن عبد الرحمن بن إسحاق، به. وعبد الرحمن بن إسحاق ضعيف.
(5) المعجم الكبير للطبراني (10/248) وقال الحافظ ابن كثير عند تفسير الآية: 173 من سورة النساء: "هذا إسناد لا يثبت، وإذا روي عن ابن مسعود موقوفا فهو جيد".
(6) عند الآية: 17، والآية: 19.
(7) عند الآية: 17.
(8) في ف، أ: "منهما".
(9) في ف: "من".

والقيعة: جمع قاع، كجار وجيرَةٍ. والقاع أيضًا: واحد القيعان، كما يقال: جار وجيران. وهي: الأرض المستوية المتسعة المنبسطة، وفيه يكون السراب، وإنما يكون ذلك بعد نصف النهار. وأما الآل (1) فإنما يكون أول النهار، يرى كأنه ماء بين السماء والأرض، فإذا رأى السراب من هو محتاج إلى الماء، حسبه ماءً فقصده ليشرب منه، فلما انتهى إليه { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } ، فكذلك الكافر يحسب أنه قد عمل عملا وأنه قد حَصَّل شيئًا، فإذا وافى الله يوم القيامة وحاسبه عليها، ونوقش على أفعاله، لم يجد له شيئًا بالكلية قد قُبل، إما لعدم الإخلاص، وإما لعدم سلوك الشرع، كما قال تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان: 23] .
وقال هاهنا : { وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } . وهكذا رُوي عن أُبي بن كعب، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة وغير واحد.
وفي الصحيحين (2) : أنه يقال يوم القيامة لليهود: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عُزَيْر ابن الله. فيقال: كذبتم، ما اتخذ الله من ولد، ماذا تبغون؟ فيقولون: أي رَبَّنَا، عَطشنا فاسقنا. فيقال: ألا ترون؟ فتمثل لهم النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا، فينطلقون فيتهافتون فيها (3) .
وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب. فأما أصحاب الجهل البسيط، وهم الطَّماطم الأغشام المقلدون لأئمة الكفر، الصم البكم الذين لا يعقلون، فمثلهم كما قال تعالى: { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ } : قال قتادة: وهو العميق. { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } أي: لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام، فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد الذي لا يدري أين يذهب، ولا [هو] (4) يعرف حال من يقوده، بل كما يقال في المثل للجاهل: أين تذهب؟ قال: معهم. قيل: فإلى أين يذهبون؟ قال: لا أدري.
وقال العوفي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما: { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ } يعني بذلك: الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر، وهي كقوله: { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [البقرة: 7] ، وكقوله (5) : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [الجاثية: 23] .
وقال أُبيّ بن كعب في قوله: { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } فهو يتقلب في خمسة من الظلم: كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات، إلى النار.
وقال الربيع بن أنس، والسُّدِّي نحو ذلك أيضًا.
وقوله: { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } أي: من لم يهده الله فهو هالك جاهل حائر بائر كافر، كما قال تعالى: { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ } [الأعراف: 186] وهذا [في] (6)
__________
(1) في أ: "الأول".
(2) في أ: "الصحيح".
(3) صحيح البخاري برقم (4581) وصحيح مسلم برقم (183) من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه.
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في أ: "وقوله".
(6) زيادة من ف، أ.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)

مُقابلة ما قال في مثل المؤمنين: { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نورًا، وعن أيماننا نورًا، وعن شمائلنا نورًا، وأن يعظم لنا نورًا.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) }
يخبر تعالى أنه يُسَبِّحه من في السموات والأرض، أي: من الملائكة والأناسي، والجان والحيوان، حتى الجماد، كما قال تعالى: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [الإسراء: 44].
وقوله: { وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ } أي: في حال طيرانها تسبح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه، وهو يعلم ما هي فاعلة؛ ولهذا قال: { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } أي: كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله، عز وجل.
ثم أخبر أنه عالم بجميع ذلك، لا يخفى عليه من ذلك شيء؛ ولهذا (1) قال: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } .
ثم أخبر تعالى: أن له ملك السموات والأرض، فهو الحاكم المتصرف الذي لا معقب لحكمه، وهو الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له. { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } أي: يوم القيامة، فيحكم فيه بما يشاء؛ { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [النجم: 31] ، فهو الخالق المالك، ألا له الحكم في الدنيا والأخرى، وله الحمد في الأولى والآخرة؟!.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ (43) }
__________
(1) في ف، أ: "ولذا".

يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)

{ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ (44) }
يذكر تعالى أنه بقدرته يسوق السحاب أول ما ينشئها وهي ضعيفة، وهو الإزجاء { ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } أي: يجمعه بعد تفرقه، { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا } أي: متراكمًا، أي: يركب بعضه بعضًا ، { فَتَرَى الْوَدْقَ } أي المطر { يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } أي: من خَلَله. وكذا (1) قرأها ابن عباس والضحاك.
قال عبيد بن عمير الليثي: يبعث الله المثيرة فَتَقُمّ الأرض قمًا، ثم يبعث الله الناشئة فتنشئ السحاب، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه، ثم يبعث [الله] (2) اللواقح فتلقح السحاب. رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، رحمهما الله.
وقوله: { وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ } : قال بعض النحاة: "من" الأولى: لابتداء الغاية، والثانية: للتبعيض، والثالثة: لبيان الجنس. وهذا إنما يجيء على قول من ذهب من
__________
(1) في ف، أ: "وكذلك".
(2) زيادة من ف.

وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)

المفسرين إلى أن قوله: { مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ } ومعناه: أن في السماء جبالَ بَرَد ينزل الله منها البرد. وأما من جعل الجبال ههنا عبارة (1) عن السحاب، فإن "من" الثانية عند هذا لابتداء الغاية أيضا، لكنها بَدَل من الأولى، والله أعلم.
وقوله: { فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ } يحتمل أن يكون المراد بقوله: { فَيُصِيبُ بِهِ } أي: بما ينزل من السماء من نوعي البرد والمطر (2) فيكون قوله: { فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ } رحمة لهم، { وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ } أي: يؤخر عنهم الغيث.
ويحتمل أن يكون المراد بقوله: { فَيُصِيبُ بِهِ } أي: بالبرد نقمة على من يشاء لما فيه من نثر ثمارهم وإتلاف زروعهم وأشجارهم. ويصرفه عمن يشاء [أي:] (3) رحمة بهم.
وقوله: { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ } أي: يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته.
وقوله { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } أي: يتصرف فيهما، فيأخذ من طول هذا في قصر هذا حتى يعتدلا ثم يأخذ من هذا في هذا، فيطول الذي كان قصيرًا، ويقصر الذي كان طويلا. والله هو المتصرف في ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ } أي: لدليلا على عظمته تعالى، كما قال الله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } [آل عمران: 190] . وما بعدها من الآيات الكريمات.
{ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) } .
يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم، في خلقه أنواع [المخلوقات] (4) . على اختلاف أشكالها وألوانها، وحركاتها وسكناتها، من ماء واحد، { فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ } كالحية وما شاكلها، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ } كالإنسان والطير، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } كالأنعام وسائر الحيوانات؛ ولهذا قال: { يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } أي: بقدرته؛ لأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ ولهذا قال: { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
{ لَقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) } .
يقرر تعالى أنه أنزل في هذا القرآن من الحكم (5) والأمثال البينة المحكمة، كثيرًا (6) جدًا، وأنه يرشد إلى تفهمها وتعقلها أولي الألباب والبصائر والنهى؛ ولهذا قال: { وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
{ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) }
__________
(1) في ف، أ: "كناية".
(2) في ف: "المطر والبرد".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في هـ: "من الحكم والحكم والأمثال". والمثبت من ف، أ.
(6) في ف: "المحكمة ما هو كثير".

يخبر تعالى عن صفات المنافقين، الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، يقولون قولا بألسنتهم: { آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي: يخالفون أقوالهم بأعمالهم، فيقولون ما لا يفعلون؛ ولهذا قال تعالى: { وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } .
وقوله: { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ } أي: إذا طلبوا إلى اتباع الهدى، فيما أنزل الله على رسوله، أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه. وهذه كقوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } [النساء: 60 ، 61] .
وفي الطبراني من حديث روح بن عطاء بن (1) أبي ميمونة، عن أبيه، عن الحسن، عن سَمُرَة مرفوعًا: "من دُعي إلى سلطان فلم يجب، فهو ظالم لا حق له" (2) .
وقوله: { وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } ، أي: وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم، جاؤوا سامعين مطيعين وهو معنى قوله: { مُذْعِنِينَ } وإذا كانت الحكومة عليه أعرض ودعا إلى غير الحق، وأحب أن يتحاكم إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم ليروج باطله ثَمّ. فإذعانه أولا لم يكن عن اعتقاد منه أن ذلك هو الحق، بل لأنه موافق لهواه؛ ولهذا لما خالف الحقّ قصده، عدل عنه إلى غيره؛ ولهذا قال تعالى: { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } يعني: لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مَرَض لازم لها، أو قد عرض لها شك في الدين، أو يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم. وأيّا ما كان فهو كفر محض، والله عليم بكل منهم، وما هو عليه منطو من هذه الصفات.
وقوله: { بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أي: بل هم الظالمون الفاجرون، والله ورسوله مبرآن مما يظنون ويتوهمون من الحيف والجور، تعالى الله ورسوله عن ذلك.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا مبارك، حدثنا الحسن قال:
__________
(1) في ف، أ: "عن".
(2) المعجم الكبير للطبراني (7/225) وقال الهيثمي في المجمع (4/198): "فيه روح بن عطاء، وثقه ابن عدي وضعفه الأئمة".

كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة، فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُحِقّ أذعن، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق. وإذا أراد أن يظلم فدُعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض، وقال: أنطلقُ إلى فلان. فأنزل الله هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان بينه وبين أخيه شيء، فدُعِي إلى حَكَم من حُكَّام المسلمين فأبى أن يجيب، فهو ظالم لا حق له" (1) .
وهذا حديث غريب، وهو مرسل.
ثم أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله، الذين لا يبغون دينا سوى كتاب الله وسنة رسوله، فقال: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي: سمعًا وطاعة؛ ولهذا وصفهم تعالى بفلاح، وهو نيل المطلوب والسلامة من المرهوب، فقال: { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .
وقال قتادة في هذه الآية: { أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ذُكر لنا أن عُبَادة بن الصامت -وكان عَقَبيَّا بدريا، أحد نقباء الأنصار -أنه لما حضره الموت قال لابن أخيه جنادة بن أبي أمية: ألا أنبئك بماذا عليك وَمَاذا لك؟ قال: بلى. قال: فإن عليك السمع والطاعة، في عسرك ويسرك، ومَنْشَطك ومكرهك، وأثرةً عليك. وعليك أن تقيم لسانك بالعدل، وألا تنازع الأمرَ أهله، إلا أن يأمروك بمعصية الله بَوَاحا، فما أمرت به من شيء يخالف كتاب الله، فاتبع كتاب الله.
وقال قتادة: وَذُكر (2) لنا أن أبا الدرداء قال: لا إسلام إلا بطاعة الله، ولا خير إلا في جماعة، والنصيحة لله ولرسوله، وللخليفة وللمؤمنين عامة.
قال: وقد ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان يقول: عُروة الإسلام شهادةُ أن لا إله إلا الله، وإقامُ الصلاة، وإيتاء الزكاة، والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين.
رواه ابن أبي حاتم، والأحاديث والآثار في وجوب الطاعة لكتاب الله [وسنة رسوله، وللخلفاء الراشدين، والأئمة إذا أمروا بطاعة الله] (3) كثيرة جدًا، أكثر من أن تحصر في هذا المكان.
وقوله { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي: فيما أمراه به وترك (4) ما نهياه (5) عنه، { وَيَخْشَ اللَّهَ } فيما مضى من ذنوبه، { وَيَتَقِهِ } فيما يستقبل.
وقوله { فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } يعني: الذين فازوا بكل خير، وأمنُوا من كل شر (6) في الدنيا والآخرة .
__________
(1) ورواه عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن مرسلا كما في الدر المنثور (6/213).
(2) في ف: "وذكروا".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في أ: "ويترك".
(5) في ف، أ: "نهيا".
(6) في ف، أ: "سوء".

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)

{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) }

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)

{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) }
يقول تعالى مخبرا عن أهل النفاق، الذين كانوا يحلفون للرسول صلى الله عليه وسلم لئن أمرهم (1) بالخروج [في الغزو] (2) قال الله تعالى: { قُلْ لا تُقْسِمُوا } أي: لا تحلفوا.
وقوله: { طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ } قيل: معناه (3) طاعتكم طاعة معروفة، أي: قد عُلمت طاعتكم، إنما هي قول لا فعل معه، وكلما حلفتم كذبتم، كما قال تعالى: { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } [التوبة: 96]، وقال تعالى: { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [المنافقون: 2] ، فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ } [الحشر: 11 ، 12]
وقيل: المعنى في قوله: { طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ } أي: ليكن أمركم طاعة معروفة، أي: بالمعروف من غير حَلف ولا إقسام، كما يطيع الله ورسوله المؤمنون بغير حلف، فكونوا أنتم مثلهم.
{ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي: هو خبير بكم وبمن يطيع ممن يعصي، فالحلف وإظهار الطاعة -والباطن بخلافه، وإن راج على المخلوق (4) -فالخالق، تعالى، يعلم السر وأخفى، لا يروج عليه شيء من التدليس، بل هو خبير بضمائر عباده، وإن أظهروا خلافها.
ثم قال تعالى: { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } أي: اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله.
وقوله: { فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي: تتولوا عنه وتتركوا ما جاءكم به، { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ } أي: إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، { وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } أي: من ذلك وتعظيمه والقيام بمقتضاه، { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } ، وذلك لأنه يدعو إلى صراط مستقيم { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ } [الشورى: 53].
وقوله: { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } كقوله: { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [الرعد: 40] ، وقوله { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } [الغاشية: 21 ، 22] .
وقال وهب بن مُنَبِّه: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل -يقال له: شعياء -أن قم في بني إسرائيل فإني سأطلق لسانك بوحي. فقام فقال: يا سماء اسمعي، ويا أرض انصتي، فإن الله يريد أن يقضي شأنًا ويدبر أمرًا هو منفذه، إنه يريد أن يحول الريف إلى الفلاة، والآجام (5) في الغيطان، والأنهار في الصحاري، والنعمة في الفقراء، والملك في الرعاة، ويريد أن يبعث أميا من الأميين، ليس بفظ ولا غليظ ولا سَخّاب في الأسواق، لو يمر إلى جنب السراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب اليابس لم يسمع من تحت قدميه. أبعثه مُبَشِّرا ونذيرًا، لا يقول
__________
(1) في ف، أ: "أمرتهم".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في ف، أ: "تقديره".
(4) في ف: "المحلوف".
(5) في أ: "الأجسام".

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)

الخنَا، أفتح به أعينا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبا غُلْفًا، وأسَدِّده لكل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهْدِي به بعد الضلالة، وأعلِّم به من الجهالة، وأرْفَعُ به بعد الخمَالة، وأعرف به بعد النُّكْرَة، وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد العَيلَة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين أمم متفرقة، وقلوب مختلفة، وأهواء متشتتة، وأستنقذ به فئامًا من الناس عظيما من الهَلَكة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، موحدين مؤمنين مخلصين، مصدقين بما جاءت به رُسُلي. رواه ابن أبي حاتم (1) .
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) }
هذا وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم (2) . بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي: أئمةَ الناس والولاةَ عليهم، وبهم تصلح (3) البلاد، وتخضع (4) لهم العباد، ولَيُبدلَنّ بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك. وله الحمد والمنة، فإنه لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين، وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها. وأخذ الجزية من مَجُوس هَجَر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية -وهو المقوقس -وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة، الذي تَملَّك بعد أصْحَمة، رحمه الله وأكرمه.
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة، قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق، فَلَمّ شَعَث ما وَهَى عند (5) موته، عليه الصلاة والسلام (6) وأطَّدَ جزيرة العرب ومهدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد، رضي الله عنه، ففتحوا طرفا منها، وقتلوا خلقا من أهلها. وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة، رضي الله عنه، ومن معه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثًا صحبة عمرو بن العاص، رضي الله عنه، إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بُصرى ودمشق ومَخَاليفهما من بلاد حَوران وما والاها، وتوفاه الله عز وجل، واختار له ما عنده من الكرامة. ومَنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن استخلف عمر الفاروق، فقام في الأمر بعده قياما تاما، لم يَدُر الفلك بعد الأنبياء [عليهم السلام] (7) على مثله، في قوة سيرته وكمال عدله. وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكَسَّر كسرى وأهانه غاية الهوان، وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقَصَّر قيصر، وانتزع يده عن بلاد الشام فانحاز إلى قسطنطينة، وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر
__________
(1) وروي عن عبد الله بن سلام وكعب الأحبار كما في الشفا للقاضي عياض (1/15).
(2) في ف، أ: "صلوات الله وسلامه عليه".
(3) في ف، أ: "يصلح".
(4) في ف، أ: "ويخضع".
(5) في ف: "بعد".
(6) في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(7) زيادة من ف، أ.

بذلك ووعد به رسول الله، عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة.
ثم لما كانت الدولة العثمانية، امتدت المماليك (1) الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك: الأندلس، وقبرص، وبلاد القيروان، وبلاد سَبْتَةَ مما يلي البحر المحيط، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى، وباد ملكه بالكلية. وفتحت مدائن العراق، وخراسان، والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجُبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه. وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن؛ ولهذا ثبت في الصحيح (2) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله زَوَى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها" (3) فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، فنسأل (4) الله الإيمان به، وبرسوله، والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا.
قال الإمام مسلم بن الحجاج: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سَمُرَة قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا" . ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني (5) فسألت أبي: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "كلهم من قريش".
ورواه البخاري من حديث شعبة، عن عبد الملك بن عمير، به (6)
وفي رواية لمسلم أنه قال ذلك عشية رجم ماعز بن مالك، وذكر معه أحاديث أخر (7)
وهذا الحديث فيه دلالة على أنه لا بد من وجود اثني عشر خليفة عادلا وليسوا هم بأئمة الشيعة الاثني عشر فإن كثيرًا من أولئك لم يكن إليهم من الأمر شيء، فأما هؤلاء فإنهم يكونون من قريش، يَلُون فيعدلون. وقد وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة، ثم لا يشترط أن يكون متتابعين، بل يكون وجودهم في الأمة متتابعا ومتفرقا، وقد وُجِد منهم أربعة على الولاء، وهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، رضي الله عنهم. ثم كانت (8) بعدهم (9) فترة، ثم وُجِد منهم ما شاء الله، ثم قد يُوجَد منهم مَن بقي في وقت يعلمه الله. ومنهم المهدي الذي يطابق اسمه اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنيته كنيته، يملأ الأرض عدلا وقسطا، كما ملئت جورًا وظلما.
وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، من حديث سعيد بن جُمْهان، عن سَفِينة -مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (10) : الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم
__________
(1) في جـ، أ: "الممالك".
(2) في أ: "الصحيحين".
(3) صحيح مسلم برقم (2889) من حديث ثوبان، رضي الله عنه.
(4) في ف: "ونسأل".
(5) في ف، أ: "علي".
(6) صحيح مسلم برقم (1821) وصحيح البخاري برقم (7222).
(7) صحيح مسلم برقم (1822).
(8) في ف، أ: "كان".
(9) في ف، أ: "بينهم".
(10) في ف، أ: "عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" والمثبت من المسند وسنني أبي داود والترمذي.

يكون ملكا عَضُوضا" (1) .
وقال الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } (2) الآية، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة (3) نحوا من عشر سنين، يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرًا وهم خائفون، لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بعدُ بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين يُمْسُون في السلاح ويصبحون في السلاح، فَغَيَّرُوا (4) بذلك ما شاء الله. ثم إن رجلا من أصحابه (5) قال: يا رسول الله، أبدَ الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا [فيه] (6) السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لن تَغْبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم مُحْتَبِيًا ليست فيهم حديدة". وأنزل الله هذه الآية، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله، عز وجل، قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا، فأدخل [الله] (7) عليهم الخوف فاتخذوا الحَجَزَةَ والشرط وغَيّروا، فَغُيَّر بهم.
وقال بعض السلف: خلافة أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، حق في كتابه، ثم تلا هذه الآية.
وقال البراء بن عازب: نزلت هذه الآية، ونحن في خوف شديد.
وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى: { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [الأنفال: 26].
وقوله: { كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } كما قال تعالى عن موسى، عليه السلام، أنه قال لقومه: { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [الأعراف: 129]، وقال تعالى: { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } [القصص: 5 ، 6].
وقوله: { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعديّ بن حاتم، حين وفد عليه: "أتعرف الحيرة؟" قال (8) : لم أعرفها، ولكن قد (9) سمعت بها. قال: "فوالذي نفسي بيده، ليُتمنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحِيرَة حتى
__________
(1) المسند (5/220) وسنن أبي داود برقم (4646) وسنن الترمذي برقم (2226) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8155) وقال الترمذي: "حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث سعيد بن جمهان" ولم ترد لفظة: "عضوض" في هذه المصادر، وإنما وردت في حديث آخر عن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة، وكائنا خلافة ورحمة، وكائنا ملكا عضوضا، وكائنا عنوة وجبرية وفسادا في الأمة ... الحديث" أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8/159).
(2) في ف: "لنستخلفنهم".
(3) في ف، أ: " بمكة وأصحابة".
(4) في ف: "فصبروا" وفي أ: "فعيروا".
(5) في ف، أ: "الصحابة".
(6) زيادة من أ، والدر المنثور 5/55.
(7) زيادة من أ، والدر المنثور 5/55.
(8) في ف: "قلت له".
(9) في ف، أ: "لم أرها وقد"

تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز". قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: "نعم، كسرى بن هرمز، وليُبذَلَنّ المالُ حتى لا يقبله أحد" . قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن افتتح (1) كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده، لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها (2) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن أبي سلمة، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بشر هذه الأمة بالسَّناء والرفعة، والدين والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب" (3) .
وقوله: { يعبدونني لا يشركون بي شيئا } قال الإمام أحمد:
حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة عن أنس، أن معاذ بن جبل حدثه قال: بينا (4) أنا رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرَّحْل، قال: "يا معاذ" ، قلت: لبيك يا رسول الله وسَعْديك. قال: ثم سار ساعة، ثم قال: "يا معاذ بن جبل " ، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. [ثم سار ساعة ، ثم قال: "يا معاذ بن جبل"، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك"] (5) . قال: "هل تدري ما حق الله على العباد"؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "[فإن] (6) حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا" . قال: ثم سار ساعة. ثم قال: "يا معاذ بن جبل"، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: "فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك"؟، قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإن حق العباد على الله أن لا يعذبهم".
أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة (7) .
وقوله: { وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي: فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك، فقد فَسَقَ عن أمر ربه وكفى بذلك ذنبًا عظيما. فالصحابة، رضي الله عنهم، لما كانوا أقوم الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأوامر الله عز وجل، وأطوعهم لله -كان نصرهم بحسبهم، وأظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب، وأيدهم تأييدًا عظيما، وتحكموا في سائر العباد والبلاد. ولما قَصَّر الناس بعدهم في بعض الأوامر، نقص ظهورهم بحسبهم، ولكن قد ثبت في الصحيحين، من غير وجه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى اليوم (8) القيامة" وفي رواية: "حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك (9) " . وفي رواية: "حتى يقاتلوا الدجال". وفي رواية: "حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون". وكل
__________
(1) في أ: "فتح".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (3595).
(3) المسند (5/134).
(4) في أ: "بينما".
(5) زيادة من ف، أ، والمسند.
(6) زيادة من ف، أ، والمسند.
(7) المسند (5/242) وصحيح البخاري برقم (5967) وصحيح مسلم برقم (30).
(8) في ف، أ: "يوم".
(9) في ف، أ: "على ذلك".

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)

هذه الروايات صحيحة، ولا تعارض بينها.
{ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) } .
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بإقام الصلاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة، وهي: الإحسان إلى المخلوقين ضعفائهم وفقرائهم، وأن يكونوا في ذلك مطيعين للرسول، صلوات الله وسلامه عليه، أي: سالكين وراءه فيما به أمرهم، وتاركين (1) ما عنه زجرهم، لعل الله يرحمهم بذلك. ولا شك أن من فعل ذلك أن الله سيرحمهم، كما قال تعالى في الآية الأخرى: { أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ } [التوبة: 71].
وقوله { لا تَحْسَبَنَّ } أي: [لا تظن] (2) يا محمد { الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: خالفوك وكذبوك، { مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ } أي: لا يعجزون الله، بل الله قادر عليهم، وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب؛ ولهذا قال: { وَمَأْوَاهُمُ } أي: في الدار الآخرة { النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي: بئس المآل مآلُ الكافرين، وبئس القرار وبئس المهاد.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) }
__________
(1) في ف: "وترك".
(2) زيادة من ف، أ.

وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

{ وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) }
هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض. وما تقدَّم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض. فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنَهم خَدَمُهم مما ملكَت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال: الأول من قبل صلاة الغداة؛ لأن الناس إذ ذاك يكونون نيامًا في فرشهم { وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ } أي: في وقت القيلولة؛ لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله، { وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ } لأنه وقت النوم، فيُؤمَرُ الخدمُ والأطفال ألا يهجمُوا على أهل البيت في هذه الأحوال، لما يخشى من أن يكون الرجل

على أهله، ونحو ذلك من الأعمال؛ ولهذا قال: { ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } أي: إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال فلا جناح عليكم في تمكينكم إياهم من ذلك، ولا عليهم إن رأوا شيئا في غير تلك الأحوال؛ لأنه قد أذن لهم في الهجوم، ولأنهم { طَوَّافُونَ } عليكم، أي: في الخدمة وغير ذلك، ويغتفر في الطوافين ما لا يغتفر في غيرهم؛ ولهذا رَوَى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهِرَّة: "إنها ليست بنجَس؛ إنها من الطوافين عليكم -أو -والطوافات" (1) .
ولما كانت هذه الآية محكمة ولم تنسخ بشيء، وكان عمل الناس بها قليلا جدًا، أنكر عبد الله بن عباس ذلك على الناس، كما قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر، حدثني عبد الله بن لَهِيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جُبَيْر قال: قال ابن عباس: ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ [مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ] } (2) إلى آخر الآية، والآية التي في سورة النساء: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ } [النساء: 8]، والآية التي في الحجرات: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13]
وروي أيضًا من حديث إسماعيل بن مسلم -وهو ضعيف -عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رَبَاح، عن ابن عباس قال: غلب الشيطان الناس على ثلاث آيات، فلم يعملوا بهن: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } إلى آخر الآية.
وقال أبو داود: حدثنا ابن الصباح بن سفيان وابن عبدة -وهذا حديثه -أخبرنا سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، سمع ابن عباس يقول: لم يؤمن بها أكثر (3) الناس -آية الإذن -وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي.
قال أبو داود: وكذلك رواه عطاء، عن ابن عباس يأمر به (4) .
وقال الثوري، عن موسى بن أبي عائشة سألت الشعبي: { لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ، قال: لم تنسخ . قلت: فإن الناس لا يعملون بها. فقال: الله المستعان.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا ابن وهب، أخبرنا سليمان بن بلال، عن عمرو بن أبي عَمرو، عن عكرمة عن ابن عباس؛ أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن، فقال ابن عباس: إن الله ستِّير يحب الستر، كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حِجال في بيوتهم، فربما فاجأ الرجلَ خادمُه أو ولده أو يتيمه في حجره،
__________
(1) الموطأ (1/23) والمسند (5/296) وسنن أبي داود برقم (75) وسنن الترمذي برقم (92) وسنن النسائي (1/55) وسنن ابن ماجه برقم (367).
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في ف، أ: "كثير من".
(4) سنن أبي داود برقم (5191).

وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمَّى الله. ثم جاء الله بعد بالستور (1) ، فبسط [الله] (2) عليهم الرزق، فاتخذوا الستور واتخذوا الحِجَال، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به.
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، ورواه أبو داود، عن القَعْنَبِيّ، عن الدَّرَاوَرْدِيّ، عن عمرو بن أبي عَمْرو به (3) .
وقال السُّدِّي: كان أناس من الصحابة، رضي الله عنهم، يحبون أن يُوَاقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة، فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن.
وقال مقاتل بن حَيَّان: بلغنا -والله أعلم -أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مُرْشدة صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما، فجعل الناس يدخلون بغير إذن، فقالت أسماء: يا رسول الله، ما أقبح هذا! إنه ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد، غلامهما بغير إذن! فأنزل الله في ذلك: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ] } (4) الآية.
ومما يدل على أنها محكمة لم تنسخ، قوله: { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
ثم قال تعالى: { . وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } يعني: إذا بلغ الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث، إذا بلغوا الحلم، وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال، يعني بالنسبة إلى أجانبهم وإلى الأحوال التي يكون الرجل على امرأته، وإن لم يكن في الأحوال الثلاث.
قال الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير: إذا كان الغلام رباعيا فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه، فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال. وهكذا قال سعيد بن جبير.
وقال في قوله: { كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } يعني: كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه.
وقوله: { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ } قال سعيد بن جُبَيْر، ومُقَاتل بن حَيَّان، وقتادة، والضحاك: هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد ، { اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا } أي: لم يبق لهن تَشوُّف إلى التزويج، { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } أي: ليس عليها من الحرج في التستر كما على غيرها من النساء.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثني علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة عن ابن عباس: { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } الآية [النور: 31] فنسخ، واستثنى من ذلك { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا } الآية (5)
قال ابن مسعود [في قوله] (6) : { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } قال: الجلباب، أو
__________
(1) في ف: "بعده بالستور" وفي أ: "بعده الستر".
(2) زيادة من أ، والدر المنثور 5/56.
(3) سنن أبي داود برقم (5192).
(4) زيادة من أ.
(5) سنن أبي داود برقم (4111).
(6) زيادة من أ.

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

الرداء: وكذا رُوي عن ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء (1) وإبراهيم النَّخَعِيّ، والحسن، وقتادة، والزهري، والأوزاعي، وغيرهم.
وقال أبو صالح: تضع الجلباب، وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار.
وقال سعيد بن جُبَيْر وغيره، في قراءة عبد الله بن مسعود: "أن يضعن من ثيابهن" وهو الجلباب من فوق الخمار فلا بأس أن يضعن عند غريب أو غيره، بعد أن يكون عليها خمار صَفيق.
وقال سعيد بن جبير: { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } يقول: لا يتبرجن بوضع الجلباب، أن يرى ما عليها من الزينة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عبيد الله، حدثنا ابن المبارك، [حدثني سَوَّار بن ميمون، حدثتنا طلحة بنت عاصم، عن أم المصاعن، عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: دخلت عليّ] (2) فقلت: يا أم المؤمنين، ما تقولين في الخضاب، والنفاض، والصباغ، والقُرطين، والخلخال، وخاتم الذهب، وثياب الرقاق؟ فقالت: يا معشر النساء، قصتكن (3) كلها واحدة، أحل الله لكن الزينة غير متبرجات. أي: لا يحلّ لكنّ أن يَرَوْا منكن محرما.
وقال السدي: كان شريك لي يقال له: "مسلم" ، وكان مولى لامرأة حذيفة بن اليمان، فجاء يوما إلى السوق وأثر الحنّاء في يده، فسألته عن ذلك، فأخبرني أنه خَضَب رأس مولاته -وهي امرأة حذيفة -فأنكرت ذلك. فقال: إن شئت أدخلتك عليها؟ فقلت: نعم. فأدخلني عليها، فإذا امرأة جليلة، فقلت: إن مسلما حدثني أنه خضب رأسك؟ فقالت: نعم يا بني، إني من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحًا، وقد قال الله في ذلك ما سمعت.
وقوله: { وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ } أي: وترك وضعهن لثيابهن -وإن كان جائزًا -خير وأفضل لهن، والله سميع عليم.
{ لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) }
اختلف المفسرون -رحمهم الله -في المعنى الذي رفع من أجله الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض هاهنا، فقال عطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: نزلت في الجهاد.
__________
(1) في أ: "الشعبي".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في أ: "فصلن".

وجعلوا هذه الآية هاهنا كالتي في سورة الفتح (1) وتلك في الجهاد لا محالة، أي: أنهم لا إثم عليهم في ترك الجهاد؛ لضعفهم وعجزهم، وكما قال تعالى في سورة براءة: { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } [التوبة:91 ، 92].
وقيل: المراد [هاهنا] (2) أنهم كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى؛ لأنه لا يرى الطعام وما فيه من الطيبات، فربما سبقه غيره إلى ذلك. ولا مع الأعرج؛ لأنه لا يتمكن من الجلوس، فيفتات عليه جليسُه، والمريض لا يستوفي من الطعام كغيره، فكرهوا أن يؤاكلوهم لئلا يظلموهم، فأنزل الله هذه الآية رخصة في ذلك. وهذا قول سعيد بن جبير، ومِقْسَم.
وقال الضحاك: كانوا قبل المبعث يتحرجون من الأكل مع هؤلاء تقذرًا وتَقَزُّزًا، ولئلا يتفضلوا عليهم، فأنزل الله هذه الآية.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ } الآية قال: كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج أو المريض إلى بيت أبيه أو بيت أخيه، أو بيت أخته، أو بيت عمته، أو بيت خالته. فكان الزَّمنى يتحرجون (3) من ذلك، يقولون: إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم (4) . فنزلت هذه الآية رخصةً لهم (5) .
وقال السُّدّي: كان الرجل يدخل بيت أبيه، أو أخيه أو ابنه، فتُتْحفه المرأة بالشيء من الطعام، فلا يأكل من أجل أن رَبَّ البيت ليس ثَمّ. فقال الله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ } إلى قوله: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } .
وقوله تعالى: { وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } ، إنما ذَكَر هذا -وهو معلوم -ليعطفَ عليه غيره في اللفظ، وليستأديه (6) ما بعده في الحكم. وتضمن هذا بيوت الأبناء؛ لأنه لم ينص عليهم. ولهذا استدل بهذا من ذهب إلى أنَّ مال الولد بمنزلة مال أبيه، وقد جاء في المسند والسنن، من غير وجه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنت ومالك لأبيك" (7)
وقوله: { أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } ، إلى قوله { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } ، هذا ظاهر. وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، كما هو مذهب[الإمام] (8) أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل، في المشهور عنهما.
__________
(1) عند الآية: 17.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "يحرجون".
(4) في أ: "عشيرتهم".
(5) تفسير عبد الرزاق (2/53).
(6) في أ: "ولا يساوي".
(7) المسند (2/179) وسنن أبي داود برقم (3530) وسنن ابن ماجه برقم (2292) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما.
(8) زيادة من ف، أ.

وأما قوله: { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } فقال سعيد بن جُبَير، والسُّدِّي: هو خادم الرجل من عبد وقَهْرَمان، فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام بالمعروف.
وقال الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدفعون مفاتحهم إلى ضُمَنائهم، ويقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا ما احتجتم إليه. فكانوا يقولون: إنه لا يحل لنا أن نأكل؛ إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم، وإنما نحن أمناء. فأنزل الله: { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } .
وقوله: { أَوْ صَدِيقِكُمْ } أي: بيوت أصدقائكم وأصحابكم، فلا جناح عليكم في الأكل منها، إذا علمتم أن ذلك لا يَشُقُّ عليهم ولا يكرهون ذلك.
وقال قتادة: إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه.
وقوله: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } ، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: وذلك لما أنزل الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [النساء: 29] قال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام هو أفضل من الأموال، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد. فكف الناسُ عن ذلك، فأنزل الله: { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى } (1) إلى قوله: { أَوْ صَدِيقِكُمْ } (2) ، وكانوا أيضًا يأنفون ويتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده، حتى يكون معه غيره، فرخص الله لهم في ذلك، فقال: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } .
وقال قتادة: وكان هذا الحي من بني كنانة، يرى أحدهم أن مخزاة عليه أن يأكل وحده في الجاهلية، حتى إن كان الرجلُ لَيَسوقُ الذُّودَ الحُفَّل وهو جائع، حتى يجد من يؤاكله ويشاربه، فأنزل الله: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } .
فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده، ومع الجماعة، وإن كان الأكل مع الجماعة أفضل وأبرك، كما رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا الوليد بن مسلم، عن وَحْشيّ بن حَرْب، عن أبيه، عن جده؛ أنّ رجلا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا نأكلُ ولا نشبَع. قال: "فلعلكم تأكلون متفرقين، اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله يُبَاركْ لكم فيه".
ورواه أبو داود وابن ماجه، من حديث الوليد بن مسلم، به (3)
وقد رَوَى ابن ماجه أيضًا، من حديث عمرو بن دينار القهرماني، عن سالم، عن أبيه، عن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كلوا جميعًا ولا تَفَرّقُوا؛ فإن البركة مع الجماعة". (4)
وقوله: { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } قال سعيد بن جبير، والحسن البصري،
__________
(1) بعدها في ف، أ: "ولا على الأعرج حرج".
(2) قبلها في ف، أ: "أو ما ملكتم مفاتحه".
(3) المسند (3/501) وسنن أبي داود برقم (3764) وسنن ابن ماجه برقم (3286).
(4) سنن ابن ماجه برقم (3287) وقال البوصيري في الزوائد (3/77): "هذا إسناد ضعيف".

وقتادة، والزهري: فليسلم بعضكم على بعض.
وقال ابن جُرَيْج: حدثنا أبو الزبير: سمعتُ جابر بن عبد الله يقول: إذا دخلتَ على أهلك، فسَلِّمْ عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة. قال: ما رأيته إلا يوجبه.
قال ابن جريج: وأخبرني زياد، عن ابن طاوس أنه كان يقول: إذا دخلَ أحدكم بيته، فليسلم.
قال ابن جُرَيْج: قلت لعطاء: أواجب إذا خرجت ثم دخلت أن أسلِّم عليهم؟ قال: لا ولا آثر وجوبه عن أحد، ولكن هو أحبُّ إلي، وما أدعه إلا نابيًا (1)
وقال مجاهد: إذا دخلت المسجد فقل: السلام على رسول الله. وإذا دخلت على أهلك فسلِّمْ عليهم، وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وروى الثوري، عن عبد الكريم الجَزَريّ، عن مجاهد: إذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل: بسم الله، والحمد لله، السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وقال قتادة: [إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم، وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين] (2) فإنه كان يؤمر بذلك، وحُدّثنا أن الملائكة ترد عليه. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عَوْبَدُ بن أبي عمران الجوني، عن أبيه، عن أنس قال: أوصاني النبيّ (3) صلى الله عليه وسلم بخمس خصال، قال: "يا أنس، أسبغ الوضوء يُزَد في عمرك، وسَلّم على من لقيك من أمتي تكْثُر حسناتك، وإذا دخلت -يعني: بيتك -فسلم على أهل بيتك، يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضُّحى فإنها صلاة الأوابين قبلك. يا أنس، ارحم الصغير، ووقِّر الكبير، تَكُنْ من رفقائي يوم القيامة". (4)
وقوله: { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } قال محمد بن إسحاق: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقول: ما أخذت التشهدَ إلا من كتاب الله، سمعت الله يقول: { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } ، فالتشهد في الصلاة: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ثم يدعو لنفسه ويسلم.
هكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديث ابن إسحاق.
والذي في صحيح مسلم، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف هذا (5) ، والله أعلم .
__________
(1) في ف، أ: "ناسيا".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في ف: "رسول الله".
(4) ورواه ابن عدي في الكامل (5/382) من طريق موسى عن عويد بن أبي عمران الجوني، به. ونقل عن البخاري: "عويد بن أبي عمران عن أبيه منكر الحديث" ثم قال ابن عدي: "وعويد يبن على حديثه الضعف".
(5) صحيح مسلم برقم (403) ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".

وقوله: { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } لما ذكر تعالى ما في السورة الكريمة من الأحكام المحكمة والشرائع المتقنة المبرمة، نَبَّه تعالى على أنه يُبَيّن لعباده الآيات بيانًا شافيًا، ليتدبروها ويتعقلوها.

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)

{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) } .
وهذا أيضًا أدب أرشد الله عبادَه المؤمنين إليه، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول، كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف -لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، من صلاة جمعة أو (1) عيد أو (2) جماعة، أو اجتماع لمشورة ونحو ذلك -أمرهم الله تعالى ألا ينصرفوا عنه والحالة هذه إلا بعد استئذانه ومشاورته. وإن من يفعل ذلك فهو من المؤمنين الكاملين.
ثم أمر رسوله -صلوات الله وسلامه عليه -إذا استأذنه أحد منهم في ذلك أن يأذن له، إن شاء؛ ولهذا قال: { فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وقد قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حَنْبَل ومُسَدَّد، قالا حدثنا بشر -هو ابن المفضل -عن عَجْلان عن سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلِّم، فإذا أراد أن يقوم فليسلِّم، فليست الأولى بأحق من الآخرة".
وهكذا رواه الترمذي والنسائي، من حديث محمد بن عجلان، به (3) . وقال الترمذي: حسن.
{ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) } .
قال الضحاك، عن ابن عباس: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عز وجل، عن ذلك، إعظامًا لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه (4) قال: فقالوا: يا رسول الله، يا نبي الله. وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جُبَير.
وقال قتادة: أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يُبَجَّل وأن يعظَّم وأن يسود.
__________
(1) في ف: "و".
(2) في ف: "و".
(3) سنن أبي داود برقم (5208) وسنن الترمذي برقم (2706) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10201).
(4) في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".

وقال مقاتل [بن حَيَّان] (1) في قوله: { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } يقول: لا تُسَمّوه إذا دَعَوتموه: يا محمد، ولا تقولوا: يا بن عبد الله، ولكن شَرّفوه فقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله (2) .
وقال مالك، عن زيد بن أسلم في قوله: { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } قال: أمرهم الله أن يشرِّفوه.
هذا قول. وهو الظاهر من السياق، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا } [البقرة: 104]، وقال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } إلى قوله: { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } [الحجرات: 2-5]
فهذا كله من باب الأدب [في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والكلام معه وعنده كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته] (3)
والقول الثاني في ذلك أن المعنى في: { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } أي: لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره، فإن دعاءه مستجاب، فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا. حكاه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، والحسن البصري، وعطية العَوفي، والله (4) أعلم.
وقوله: { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } قال مقاتل بن حَيَّان: هم المنافقون، كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة -ويعني بالحديث الخطبة -فيلوذون ببعض الصحابة -أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم -حتى يخرجوا من المسجد، وكان لا يصلح للرجل أن يخرج من المسجد إلا بإذن من النبيّ صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة، بعدما يأخذ في الخطبة، وكان إذا أراد أحدهم الخروجَ أشارَ بإصبعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيأذن له من غير أن يتكلم الرجل؛ لأن الرجل منهم كان إذا تكلم والنبي -صلى الله عليه وسلم -يخطب، بطلتْ جُمعته.
قال السُّدِّي كانوا إذا كانوا معه في جماعة، لاذ بعضهم ببعض، حتى يتغيبوا عنه، فلا يراهم.
وقال قتادة في قوله: { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } ، يعني: لواذا [عن نبي الله وعن كتابه.
وقال سفيان: { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } قال: من الصف. وقال مجاهد في الآية: { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } ] (5) قال: خلافًا.
وقوله: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } أي: عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبيله هو (6)
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ف: "يا رسول الله، يا نبي الله".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ف، أ: "فالله".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في ف: "وهو سبيله".

أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)

ومنهاجه وطريقته [وسنته] (1) وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قُبِل، وما خالفه فهو مَرْدُود على قائله وفاعله، كائنا ما كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من عمل عَمَلا ليس عليه أمرنا فهو رَدّ" (2) .
أي: فليحذر وليخْشَ من خالف شريعة الرسول باطنًا أو ظاهرًا { أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } أي: في قلوبهم، من كفر أو نفاق أو بدعة، { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: في الدنيا، بقتل، أو حَد، أو حبس، أو نحو ذلك.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن همام بن مُنَبِّه قال: هذا ما حدَّثنا أبو هُرَيرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حولها (3) . جعل الفراش وهذه الدواب اللاتي [يقعن في النار] (4) يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه ويتقحَّمن فيها" . قال: "فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزِكم عن النار هلم عن النار، فتغلبوني وتقتحمون فيها" . أخرجاه من حديث عبد الرزاق (5)
{ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) } .
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض، وأنه عالم غيب السموات والأرض، وهو عالم بما العباد عاملون في سرهم وجهرهم، فقال: { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } و"قد" للتحقيق، كما قال قبلها: { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } ، وقال تعالى: { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } [الأحزاب: 18]. وقال تعالى: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [المجادلة: 1]، وقال: { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [الأنعام: 33]، وقال: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ] } (6) [البقرة:144] فكل هذه الآيات فيها تحقيق الفعل بـ"قد"، كما يقول المؤذن تحقيقًا وثبوتًا: "قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة" فقوله تعالى: { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } أي: هو عالم به، مشاهد له، لا يعزب عنه مثقال ذرة، كما قال تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [الشعراء: 217-220] . وقال: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [يونس: 61]، (7) وقال تعالى: { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد: 33] أي: هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر. وقال تعالى: { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] } [هود: 5] (8) ، وقال تعالى: { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [الرعد:10]، وقال تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود: 6]، وقال: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام: 59] .والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدًا.
وقوله: { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ } أي: ويوم تَرْجِعُ (9) الخلائق إلى الله -وهو يوم القيامة -{ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا } أي: يخبرهم بما فعلوا في الدنيا، مِنْ جليل وحقير، وصغير وكبير، كما قال تعالى: { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [القيامة: 13]. وقال: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف: 49]. ولهذا قال هاهنا: { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } والحمد لله رب العالمين، ونسأله التمام.
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (2697) وصحيح مسلم برقم (1718).
(3) في ف، أ: "حوله".
(4) زيادة من ف، أ، والمسند.
(5) المسند (2/312) ومسلم برقم (2284) وليس عند البخاري من هذا الطريق.
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في ف: "في السموات ولا في الأرض"، وهو خطأ.
(8) زيادة من ف، أ.
(9) في ف: "يرجع".

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)

تفسير سورة الفرقان
وهي مكية بسم الله الرحمن الرحيم
{ تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) } .
يقول تعالى حامدا نفسه الكريمة على ما نزله على رسوله الكريم من القرآن العظيم، كما قال تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ] (1) } [ الكهف : 1 -3] وقال هاهنا: { تَبَارَكَ } وهو تفاعَلَ من البركة المستقرة الدائمة الثابتة { الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ } نزل: فَعَّل، من التكرر، والتكثر، كما قال: { وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ } [ النساء : 136] ؛ لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة، والقرآن نزل (2) مُنَجَّماً مُفَرَّقاً مُفَصَّلا آيات بعد آيات، وأحكاما بعد أحكام، وسوراً بعد سُوَر، وهذا أشد وأبلغ، وأشد اعتناءً بمن أنزل عليه كما قال في أثناء هذه السورة: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [ الفرقان : 32 ،33] . ولهذا سماه هاهنا الفرقان؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والحلال والحرام.
وقوله: { عَلَى عَبْدِهِ } : هذه صفة مدح وثناء؛ لأنه أضافه إلى عبوديته، كما وصفه بها في أشرف أحواله، وهي ليلة الإسراء، فقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا } [ الإسراء : 1 ] ، وكما وصفه بذلك في مقام الدعوة إليه: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } [ الجن : 19]، وكذلك وصفه عند إنزال الكتاب عليه ونزول الملك إليه، فقال { تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } .
وقوله: { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } أي: إنما خصَّه بهذا الكتاب العظيم المبين المفصل المحكم الذي: { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42]، الذي جعله فرقانا عظيما -إنما خصه به ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء، ويستقل على الغبراء، كما قال -صلوات الله وسلامه عليه -"بعثت إلى الأحمر والأسود" (3) . وقال: "أعطيت خمسًا لم
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في أ: "ينزل".
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (521) هو والذي يليه من حديث جابر، رضي الله عنه.

يعطهن أحد من الأنبياء قبلي" ، فذكر منهن: أنه "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" ، وقال الله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ [لا إِلَهَ إِلا هُوَ ] (1) يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ الأعراف : 158] أي: الذي أرسلني هو مالك السموات والأرض، الذي يقول للشيء كن فيكون، وهو الذي يحيي ويميت، وهكذا قال هاهنا: { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } ، فَنزه نفسه عن الولد، وعن الشريك.
ثم أخبر أنه: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } أي: كل شيء مما سواه مخلوق مربوب، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، وكل شيء تحت قهره [وتسخيره] (2) ، وتدبيره وتقديره (3) .
__________
(1) زيادة من أ وهو الصواب.
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في ف، أ: "قهره وتقديره وتسخيره وتدبيره".

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)

{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا (3) }
يخبر تعالى عن جهل المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، الخالق لكل شيء، المالك لأزمَّة الأمور، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ومع هذا عَبَدُوا معه من الأصنام ما لا يقدر على خلق جناح بعوضة، بل هم مخلوقون، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، فكيف يملكون لعابديهم؟ { وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا } أي: ليس لهم من ذلك شيء، بل ذلك مرجعه كله إلى الله عز وجل، الذي هو يحيي ويميت، وهو الذي يعيد الخلائق يوم القيامة أولهم وآخرهم ، { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28] ، { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50]، { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } [ النازعات : 13 ،14] ، { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ } [ الصافات : 19] ، { إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 53] . فهو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، ولا تنبغي العبادة إلا له؛ لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وهو الذي لا ولد له ولا والد، ولا عديل ولا نديد ولا وزير ولا نظير، بل هو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا (5) قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) }
يقول تعالى مخبرًا عن سخافة عقول الجهلة من الكفار، في قولهم عن القرآن: { إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ } : أي: كذب ، { افْتَرَاهُ } يعنون النبي (1) صلى الله عليه وسلم، { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } أي: واستعان على جمعه بقوم آخرين. قال الله تعالى: { فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا } أي: فقد افتروا هم قولا باطلا هم
__________
(1) في ف، أ: "محمدا".

وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)

يعلمون أنه باطل، ويعرفون كذب أنفسهم فيما يزعمون (1) .
{ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا } يعنون: كتب الأوائل استنسخها ، { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ } أي: تقرأ عليه { بُكْرَةً وَأَصِيلا } أي: في أول النهار وآخره.
وهذا الكلام -لسخافته وكذبه وبهْته منهم -كُلّ أحد يعلم (2) بطلانه، فإنه قد عُلم بالتواتر وبالضرورة: أن محمداً رسول الله لم يكن يعاني شيئا من الكتابة، لا في أول عمره ولا في آخره، وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده إلى أن بعثه الله نحوا من أربعين سنة، وهم يعرفون مدخله ومخرجه، وصدقه، وبره وأمانته ونزاهته من الكذب والفجور وسائر الأخلاق الرذيلة، حتى إنهم لم يكونوا يسمونه في صغره إلى أن بُعِث (3) إلا الأمين، لما يعلمون من صدقه وبره. فلما أكرمه الله بما أكرمه به، نصبوا له العداوة، وَرَموه بهذه الأقوال التي يعلم كل عاقل براءته منها، وحاروا ماذا يقذفونه به، فتارة من إفكهم يقولون: ساحر، وتارة يقولون: شاعر، وتارة يقولون: مجنون، وتارة يقولون: كذاب، قال الله تعالى: { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا } [ الإسراء : 48] .
وقال تعالى في جواب ما عاندوا هاهنا وافتروا: { قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي: أنزل القرآن المشتمل على أخبار الأولين والآخرين إخباراً حقاً صدقاً مطابقاً للواقع في الخارج، ماضيا ومستقبلا { أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ } أي: الله الذي يعلم غيب السموات والأرض، ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر.
وقوله: { إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } : دعاء لهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن رحمته واسعة، وأن حلمه عظيم، وأن من تاب إليه تاب عليه. فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتهم وكفرهم وعنادهم، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا، يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام والهدى، كما قال تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ المائدة : 73 -74]، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } [ البروج : 10] . قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة [سبحانه وتعالى] (4) .
{ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) }
__________
(1) في ف، أ: "زعموه".
(2) في ف، أ: "بهته كل أحد منهم يعلم".
(3) في أ: "بعثه".
(4) زيادة من ف، أ.

إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)

{ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) } .

يخبر تعالى عن تعنت الكفار وعنادهم وتكذيبهم للحق بلا حجة ولا دليل منهم، وإنما تعللوا بقولهم: { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ } ، يعنون: كما نأكله، ويحتاج إليه كما نحتاج إليه، { وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ } أي: يتردد فيها وإليها طلبا للتكسب والتجارة، { لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا } يقولون (1) : هلا أنزل إليه ملك من عند الله، فيكون له شاهدا على صِدْق ما يدَّعيه! وهذا كما قال فرعون: { فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } [ الزخرف : 53]. وكذلك قال هؤلاء على السواء، تشابهت قلوبهم؛ ولهذا قال: { أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز } أي: علم كنز [يكون] (2) ينفق منه، { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } أي: تسير معه حيث سار. وهذا كله سهل يسير على الله، ولكن له الحكمة في ترك ذلك، وله الحجة البالغة { وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا } .
قال الله تعالى: { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ } أي: جاءوا بما يقذفونك به ويكذبون به عليك، من قولهم "ساحر، مسحور، مجنون، كذاب، شاعر" وكلها أقوال باطلة، كل أحد ممن له أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم في ذلك؛ ولهذا قال: { فضلوا } أي: عن طريق الهدى ، { فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا } وذلك لأن كل من خرج عن الحق فإنه ضال حيثما توجه؛ لأن الحق واحد ومنهج متحد، يُصَدّق بعضه بعضا.
ثم قال تعالى مخبراً نبيه أنه لو شاء لآتاه خيراً مما يقولون في الدنيا وأفضل وأحسن، فقال [تعالى] (3) { تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا } .
قال مجاهد: يعني: في الدنيا، قال: وقريش يسمون كل بيت من حجارة قصرا، سواء كان كبيرا أو صغيرا (4) .
وقال سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن خَيْثَمَة؛ قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك، ولا يُعطى أحد من بعدك، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله؟ فقال: اجمعوها لي في الآخرة، فأنزل الله عز وجل في ذلك: { تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا } (5) .
__________
(1) في أ: "يقول".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) في ف، أ: "صغيرا أو كبيرا".
(5) رواه الطبري في تفسيره (18/140) من طريق سفيان به مرسلا.

وقوله: { بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ } أي: إنما يقول هؤلاء هكذا تكذيباً وعناداً، لا أنهم يطلبون ذلك تبصرا واسترشادا، بل تكذيبهم بيوم القيامة يحملهم على قول ما يقولونه من هذه الأقوال، { وأعتدنا } أي: وأرصدنا { لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا } أي: عذابا أليماً حاراً لا يطاق في نار جهنم.
وقال الثوري، عن سلمة بن كُهَيْل، عن سعيد بن جبير: "السَّعِير": واد من قيح جهنم .
وقوله: { إِذَا رَأَتْهُمْ } أي: جهنم { مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } يعني: في مقام المحشر. قال السدي: من مسيرة مائة عام { سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } أي: حنقا (1) عليهم، كما قال تعالى: { إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ } [ الملك : 7 ،8] أي: يكاد ينفصل بعضها من بعض؛ من شدة غيظها على من كفر بالله.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا إدريس بن حاتم بن الأخيف (2) الواسطي: أنه سمع محمد بن الحسن الواسطي، عن أصبغ بن زيد، عن خالد بن كثير، عن خالد بن دُرَيْك، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يقل عَلَيَّ ما لم أقل، أو ادعى إلى غير والديه، أو انتمى إلى غير مواليه، فليتبوأ [مقعده من النار". وفي رواية: "فليتبوأ] (3) بين عيني جهنم مقعدا" قيل: يا رسول الله، وهل لها من عينين؟ قال: "أما سمعتم الله يقول: { إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } الآية.
ورواه ابن جرير، عن محمد (4) بن خِدَاش، عن محمد بن يزيد (5) الواسطي، به (6) .
وقال أيضًا: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسي، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عيسى بن سليم، عن أبي وائل قال: خرجنا مع عبد الله -يعني: ابن مسعود -ومعنا الربيع بن خُثَيْم فمروا على حداد، فقام عبد الله ينظر إلى حديدة في النار، ونظر الربيع بن خثيم إليها فتمايل ليسقط، فمر عبد الله على أتّون على شاطئ الفرات، فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية: { إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } فصعق -يعني: الربيع بن خُثَيْم -فحملوه إلى أهل بيته (7) ورابطه عبد الله إلى الظُّهر فلم يفق، رضي الله عنه.
وحدثنا أبي: حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: إن العبد ليجر إلى النار، فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير، ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف.
__________
(1) في أ: "خنقا".
(2) في ف، أ: "الأحنف".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ف: "محمود".
(5) في أ: "زيد".
(6) تفسير الطبري (18/140).
(7) في أ: "إلى أهله".

هكذا رواه ابن أبي حاتم مختصرا، وقد رواه الإمام أبو جعفر بن جرير:
حدثنا أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقي، حدثنا عُبَيْد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: إن الرجل ليجر إلى النار، فتنزوي وتنقبض بعضها إلى بعض، فيقول لها الرحمن: ما لك؟ قالت: إنه يستجير مني. فيقول: أرسلوا (1) عبدي. وإن الرجل ليُجَرّ إلى النار، فيقول: يا رب، ما كان هذا الظن بك؟ فيقول: فما كان ظنك؟ فيقول: أن تَسَعني رحمتك. فيقول: أرسلوا عبدي، وإن الرجل ليجر إلى النار، فتشهق إليه النار شهوق البغلة إلى الشعير، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف. وهذا إسناد صحيح.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن منصور، عن مجاهد، عن عُبَيد بن عُمَيْر في قوله: { سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } قال: إن جهنم تزفر زفرة، لا يبقى ملك ولا نبي إلا خَرّ تَرْعَد فرائصه، حتى إن إبراهيم عليه السلام، ليجثو على ركبتيه ويقول: رب، لا أسألك اليوم إلا نفسي (2) .
وقوله: { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا } قال قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله (3) بن عمرو قال: مثل الزج في الرمح (4) أي: من ضيقه.
وقال عبد الله بن وهب: أخبرني نافع بن يزيد، عن يحيى بن أبي أسيد -يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -أنه سئل عن قول الله { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ } قال: "والذي نفسي بيده، إنهم ليُسْتَكرهون في النار، كما يستكره الوتد في الحائط" (5) .
وقوله { مُقَرَّنِينَ } قال أبو صالح: يعني مكتفين: { دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا } أي: بالويل والحسرة والخيبة . { لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد (6) عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أول من يُكسَى حُلَّةً من النار إبليس، فيضعها على حاجبيه، ويسحبها منْ خَلْفه، وذريته من بعده، وهو ينادي: يا ثبوراه، وينادون: يا ثبورهم. حتى يقفوا على النار، فيقول: يا ثبوراه. ويقولون: يا ثبورهم. فيقال لهم: لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا، وادعوا ثبورا كثيرا".
لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ورواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن سِنَان، عن عفان، به: ورواه ابن جرير، من حديث حماد بن سلمة به (7) .
__________
(1) في أ: "أن تنقلوا".
(2) تفسير عبد الرزاق (2/56).
(3) في ف، أ: "عبيد الله".
(4) في ف: "رمحه".
(5) رواه ابن أبي حاتم، كما في الدر المنثور (6/240).
(6) في هـ، ف، أ "علي بن يزيد" والصواب ما أثبتناه من المسند (3/252).
(7) المسند (3/152) وتفسير الطبري (18/141).

قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)

وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: { لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } أي: لا تدعوا اليوم ويلا واحداً، وادعوا ويلا (1) كثيرا.
وقال الضحاك: الثبور: الهلاك.
والأظهر: أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار، كما قال موسى لفرعون: { وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا } [ الإسراء : 102] أي: هالكا. وقال عبد الله بن الزبَعْرى:
إذْ أجَاري الشَّيطانَ في سَنَن الغيَ ... يِ ،وَمنْ مَالَ مَيْلَهُ (2) مَثْبُورُ (3)
{ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا (16) } .
يقول تعالى: يا محمد، هذا (4) الذي وصفناه من حال أولئك الأشقياء (5) ، الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم، فتتلقاهم بوجه عبوس وبغيظ (6) وزفير، ويُلقَون في أماكنها الضيقة مقرَّنين، لا يستطيعون حراكا، ولا انتصاراً ولا فكاكا مما هم فيه -: أهذا خير أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده، التي أعدها لهم، وجعلها لهم جزاء على ما أطاعوه في الدنيا، وجعل مآلهم إليها.
{ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ } [أي] (7) : من الملاذ: من مآكل ومشارب، وملابس ومساكن، ومراكب ومناظر، وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَر على قلب أحد (8) . وهم في ذلك خالدون أبدا دائما (9) سرمدا بلا انقطاع ولا زوا، ولا انقضاء، لا يبغون عنها حوَلا. وهذا من وَعْد الله الذي تفضل به عليهم، وأحسن به إليهم، ولهذا قال: { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا } أي لا بد أن يقع وأن يكون، كما حكاه أبو جعفر بن جرير، عن بعض علماء العربية أن معنى قوله: { وَعْدًا مَسْئُولا } أي: وعدا واجبا.
وقال ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا } يقول: سلوا الذي واعدتكم -أو قال: واعدناكم -نُنْجِزْ.
وقال محمد بن كعب القُرَظي في قوله: { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا } : إن الملائكة تسأل لهم ذلك: { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ } [ غافر : 8] .
وقال أبو حازم: إذا كان يوم القيامة قال المؤمنون: ربنا عملنا لك بالذي أمرتنا، فأنجز لنا ما وعدتنا. فذلك قوله: { وَعْدًا مَسْئُولا } .
وهذا المقام في هذه السورة من ذكر النار، ثم التنبيه على حال أهل الجنة، كما ذكر تعالى في
__________
(1) في ف، أ: "بلاءا".
(2) في أ: "مثله".
(3) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (2/419).
(4) في أ: "أهذا".
(5) في أ: "من هؤلاء الأشقية".
(6) في أ: "وتغيظ".
(7) زيادة من ف، أ.
(8) في ف، أ: "بشر".
(9) في ف: "دائما أبدا".

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)

سورة "الصافات" حال أهل الجنة، وما فيها من النضرة والحبور، ثم قال: { أَذَلِكَ خَيْرٌ نزلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } [ الصافات : 62 -70] .
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) } .
يقول تعالى مخبراً عما يَقَع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم مَن عبدوا من دون الله، من الملائكة وغيرهم، فقال: { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ (1) وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } . قال مجاهد: عيسى، والعُزَير، والملائكة. { فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ } أي: فيقول الرب تبارك وتعالى [للمعبودين] (2) أأنتم دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني، أم هم عبدوكم من تلقاء أنفسهم، من غير دعوة منكم لهم؟ كما قال الله تعالى: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُم } (3) إلى آخر الآية؛ [ المائدة : 116 -117] ولهذا قال تعالى مخبرًا عما يُجيِب به المعبودون يوم القيامة: { قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ } قرأ الأكثرون بفتح "النون" من قوله: { نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ } أي: ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك، لا نحن ولا هم، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك، بل هم قالوا (4) ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا ونحن برآء منهم ومن عبادتهم، كما قال تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 40 -41]. (5) وقرأ آخرون: "مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُتَّخَذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ" أي: ما ينبغي لأحد أن يعبدنا، فإنا عبيد لك، فقراء إليك. وهي قريبة المعنى من الأولى.
{ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ } أي: طال عليهم العمر حتى نَسُوا الذكر، أي: نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك، من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك.
__________
(1) في ف: "يحشرهم".
(2) زيادة من أ.
(3) بعدها في ف، أ: (إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني).
(4) في أ: "فعلوا".
(5) في هـ: "به" والمثبت من أ، وهو الصواب.

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)

{ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا } قال ابن عباس: أي هلكى. وقال الحسن البصري، ومالك عن الزهري: أي لا خير فيهم. وقال ابن الزبعرى حين أسلم:
يا رَسُولَ المَليك إنّ لسَاني ... رَاتقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ ...
إذْ أجاري الشَّيطَانَ في سَنَن الغيْ ... يِ ، وَمَن مالَ مَيْلَه مَثْبُورُ ...
قال الله تعالى: { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } أي: فقد كذبكم الذين عَبَدْتُم فيما زعمتم أنهم لكم أولياء، وأنكم اتخذتموهم قربانا يقربونكم (1) إليه زلفى، كما قال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5 -6] .
وقوله: { فَمَا (2) تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا } أي: لا يقدرون على صرف العذاب عنهم ولا الانتصار لأنفسهم، { وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ } أي: يشرك بالله، { نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا } .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) }
يقول تعالى مخبرا عن جميع مَنْ بعثه من الرسل المتقدمين: إنهم كانوا يأكلون الطعام، ويحتاجون إلى التغذي به { وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ } أي: للتكسب والتجارة، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم؛ فإن الله جعل لهم من السمات الحسنة، والصفات الجميلة، والأقوال الفاضلة، والأعمال الكاملة، والخوارق الباهرة، والأدلة [القاهرة] (3) ، ما يستدل به كل ذي لب سليم، وبصيرة مستقيمة، على صدق ما جاءوا به من الله عز وجل. ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109]{ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } [ الأنبياء : 8] .
وقوله: { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } أي: اختبرنا بعضكم ببعض، وبلونا بعضكم ببعض، لنعلم مَن يُطيع ممن يعصي؛ ولهذا قال: { أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } أي: بمن يستحق أن يوحى إليه، كما قال تعالى: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124] ، ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به، ومن لا يستحق ذلك.
وقال محمد بن إسحاق في قوله: { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } قال: يقول الله: لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون، لفعلت، ولكنّي قد أردتُ أن أبتلي العباد بهم،
__________
(1) في أ: "يقربوبكم".
(2) في أ: "فلا" وهو خطأ.
(3) زيادة من أ.

وأبتليهم (1) بهم.
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله: إني مُبْتَلِيك، ومُبْتَلٍ بك" (2) . وفي المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة"، وفي الصحيح أنه -عليه أفضل الصلاة والسلام -خُير بين أن يكون نبياً ملكا أو عبداً رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا.
__________
(1) في أ: "وأبتليكم".
(2) صحيح مسلم برقم (2865).

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)

{ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا (24) } .
يقول تعالى مخبرا عن تَعَنُّت الكفار في كفرهم، وعنادهم في قولهم: { لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ } (1) أي: بالرسالة كما نزل (2) على الأنبياء، كما أخبر عنهم تعالى في الآية الأخرى: { قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } [ الأنعام : 124] ، ويحتمل أن يكون مرادهم هاهنا: { لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ } فنراهم عيانا، فيخبرونا أن محمدا رسول الله، كقولهم (3) : { أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا } [ الإسراء : 92]. وقد تقدم تفسيرها في سورة "سبحان"؛ ولهذا قال (4) : { أَوْ نَرَى رَبَّنَا } ولهذا قال الله تعالى: { لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا } . وقد قال [الله] (5) تعالى: { وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ الأنعام : 111] .
وقوله: { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } أي: هم لا يرون الملائكة في يوم خير لهم، بل يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ لهم (6) ، وذلك يَصْدُق على وقت الاحتضار حين تبشرهم الملائكة بالنار، وغضب الجبار، فتقول الملائكة للكافر عند خروج روحه: اخرجي أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث، اخرجي إلى سَموم وحَميم، وظلِّ من يحموم. فتأبى الخروج وتتفرق في البدن (7) ، فيضربونه، كما قال الله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [ الأنفال : 50]. وقال: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } أي: بالضرب ، { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [ الأنعام : 93]؛ ولهذا قال في هذه الآية
__________
(1) في أ: "عليه" وهو خطأ.
(2) في أ: "تنزل".
(3) في ف، أ: "وكقولهم".
(4) في ف، أ: "قالوا".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في ف، أ: "للمجرمين".
(7) في أ: "الجسد".

الكريمة: { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ } ، وهذا بخلاف حال المؤمنين في وقت احتضارهم، فإنهم يبشرون بالخيرات، وحصول المسرات. قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } [ فصلت : 30 -31] .
وفي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب: أن الملائكة تقول لروح المؤمن: "اخرجي أيتها النفس الطيبة (1) في الجسد الطيب، كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان". وقد تقدم الحديث في سورة "إبراهيم" (2) عند قوله تعالى: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [ إبراهيم : 27] .
وقال آخرون: بل المراد بقوله: { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ } يعني: يوم القيامة. قاله مجاهد، والضحاك؛ وغيرهما.
ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم، فإن الملائكة في هذين اليومين يوم الممات ويوم المعاد تتجلى للمؤمنين وللكافرين، فتبشر المؤمنين بالرحمة والرضوان، وتخبر الكافرين بالخيبة والخسران، فلا بشرى يومئذ للمجرمين.
{ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } أي: وتقول الملائكة للكافرين حَرَام محرم عليكم الفلاح اليوم.
وأصل "الحجر" : المنع، ومنه يقال: حَجَر القاضي على فلان، إذا منعه التصرف إما لسفَه، أو فَلَس، أو صغر، أو نحو ذلك. ومنه سمي "الحجْر" عند البيت الحرام؛ لأنه يمنع الطُوَّاف أن يطوفوا فيه (3) ، وإنما يطاف من ورائه. ومنه يقال للعقل "حجر" (4) ؛ لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي ما لا يليق.
والغرض أن الضمير في قوله: { وَيَقُولُونَ } عائد على الملائكة. هذا قول مجاهد، وعكرمة، والضحاك، والحسن، وقتادة، وعطية العوفي، وعطاء الخراساني، وخُصَيف، وغير واحد. واختاره ابن جرير (5) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو نعيم، حدثنا موسى -يعني ابن قيس -عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري: { وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } قال: حراما مُحَرّما أن يُبَشَّر بما يبشر به المتقون.
وقد حكى ابن جرير، عن ابن جُرَيْج أنه قال: ذلك من كلام المشركين: { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ } ، [أي: يتعوذون من الملائكة؛ وذلك أن العرب كانوا إذا نزل بأحدهم نازلة أو شدة] (6) يقولون: { حِجْرًا مَحْجُورًا } .
__________
(1) في ف، أ: "المطمئنة".
(2) عند الآية: 27.
(3) في ف: "به".
(4) في أ: "حجرا".
(5) تفسير الطبري (19/2).
(6) زيادة من ف، أ.

وهذا القول -وإن كان له مأخذ ووجه -ولكنه بالنسبة إلى السياق في الآية بعيد، لا سيما قد نص الجمهور على خلافه. ولكن قد روى ابنُ أبي نَجِيح، عن مجاهد؛ أنه قال في قوله: { حِجْرًا مَحْجُورًا } أي: عوذاً معاذاً. فيحتمل (1) أنه أراد ما ذكره ابن جريج. ولكن في رواية ابن أبي حاتم، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أنه قال: { حِجْرًا مَحْجُورًا } [أي] : (2) عوذا معاذا، الملائكة تقُوله. فالله (3) أعلم.
وقوله تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } ، وهذا يوم القيامة، حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من خير وشر، فأخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال -التي ظنوا أنها منجاة لهم -شيء؛ وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي، إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية، فهو باطل. فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معا، فتكون أبعد من القبول حينئذ؛ ولهذا قال تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } .
قال مجاهد، والثوري: { وَقَدِمْنَا } أي: عمدنا.
وقال السدي:(قدمنا) : عَمَدنا. وبعضهم يقول: أتينا عليه.
وقوله: { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } قال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، رضي الله عنه، في قوله: { [ فَجَعَلْنَاهُ] (4) هَبَاءً مَنْثُورًا } ، قال: شعاع الشمس إذا دخل في الكوَّة. وكذا روي من غير هذا الوجه عن علي. ورُوي مثله عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، والسُّدِّي، والضحاك، وغيرهم. وكذا قال الحسن البصري: هو الشعاع في كوة أحدهم (5) ، ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { هَبَاءً مَنْثُورًا } قال: هو الماء المهراق.
وقال أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي: { هَبَاءً مَنْثُورًا } قال: الهباء رَهْج (6) الدواب . ورُوي مثله عن ابن عباس أيضا، والضحاك، وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال قتادة في قوله: { هَبَاءً مَنْثُورًا } قال: أما رأيت يَبِيس الشجر إذا ذرته (7) الريح؟ فهو ذلك الورق.
وقال عبد الله بن وهب: أخبرني عاصم بن حكيم، عن أبي سريع الطائي، عن يعلى بن عبيد (8) قال: وإن الهباء الرماد.
وحاصل هذه الأقوال التنبيهُ على مضمون الآية، وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها شيء، فلما عرضت على الملك الحكيم (9) العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا، إذا إنها لا شيء بالكلية. وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق، الذي لا يقدر منه صاحبه على شيء بالكلية، كما قال
__________
(1) في ف، أ: "فيحمل".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "والله".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ف، أ: "أحدكم".
(6) في ف، أ: "وهج".
(7) في أ: "أذرته".
(8) في أ: "عبيد بن يعلى".
(9) في ف: "الحكم".

الله تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ } [ إبراهيم : 18] وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا } [ البقرة : 264] وقال تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } [ النور : 39] وتقدم الكلام على تفسير ذلك، ولله الحمد والمنة.
وقوله: { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } أي: يوم القيامة { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ الحشر : 20]؛ وذلك لأن (1) أهل الجنة يصيرون إلى الدرجات العاليات، والغرفات الآمنات، فهم في مقام أمين، حسن المنظر، طيب المقام، { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [ الفرقان : 76] ، وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات، والحسرات المتتابعات، وأنواع العذاب والعقوبات، { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [ الفرقان : 66] أي: بئس المنزل منظرا وبئس (2) المقيل مقاما؛ ولهذا قال: { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } أي: بما عملوه من الأعمال المتقبلة، نالوا ما نالوا، وصاروا إلى ما صاروا إليه (3) ، بخلاف أهل النار فإنه ليس لهم عمل واحد يقتضي لهم دخول الجنة والنجاة من النار، فَنَبَّه -تعالى -بحال السعداء على حال الأشقياء، وأنه لا خير عندهم بالكلية، فقال: { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } .
قال الضحاك: عن ابن عباس: إنما هي ضحوة، فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين، ويَقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين.
وقال سعيد بن جبير: يفرغ الله من الحساب نصف النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، قال الله تعالى: { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } .
وقال عكرمة: إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار: هي الساعة التي تكون في الدنيا عند ارتفاع الضحى الأكبر، إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة، فينصرف أهل النار إلى النار، وأما أهل [الجنة فيُنطلق بهم إلى] (4) الجنة، فكانت قيلولتهم [في الجنة] (5) وأطعموا كبد حوت، فأشبعهم [ذلك] (6) كلهم، وذلك قوله: { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } .
وقال سفيان، عن مَيسَرة، عن المِنْهَال، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: لا ينتصف النهار حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء ثم قرأ : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } وقرأ { ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ } [ الصافات : 68] .
__________
(1) في أ: "أن".
(2) في ف: "أو".
(3) في ف: "وصاروا إلى ما إليه صاروا".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) زيادة من ف، أ.
(6) زيادة من ف، أ.

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)

وقال العَوْفي، عن ابن عباس في قوله: { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } قال: قالوا في الغرف من الجنة، وكان حسابهم أن (1) عُرضوا على ربهم عرضة واحدة، وذلك الحساب اليسير، وهو مثل قوله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا } [ الانشقاق : 7-9] .
وقال قتادة في قوله: { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } أي: مأوى ومنزلا قال قتادة: وحَدّث صفوان بن مُحْرِز أنه قال: يجاء يوم القيامة برجلين، أحدهما كان ملكا (2) في الدنيا إلى الحمرة والبياض فيحاسب، فإذا عبدٌ، لم يعمل خيرا فيؤمر به إلى النار. والآخر كان صاحب كساء في الدنيا، فيحاسب فيقول: يا رب، ما أعطيتني من شيء فتحاسبني به. فيقول: صدق عبدي، فأرسلوه. فيؤمر به إلى الجنة، ثم يتركان ما شاء الله. ثم يدعى صاحب (3) النار، فإذا هو مثل الحُمَمة (4) السوداء، فيقال له: كيف وجدت؟ فيقول: شر مَقيل. فيقال (5) له: عد (6) ثم يُدعَى بصاحب الجنة، فإذا هو مثل القمر ليلة البدر، فيقال له: كيف وجدت؟ فيقول: رب، خير مَقيل. فيقال له: عد. رواها ابن أبي حاتم كلها.
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أنبأنا عمرو بن الحارث، أن سعيدًا (7) الصوَّاف حدثه، أنه بلغه: أن يوم القيامة يقصر على المؤمن (8) حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس، وأنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس، وذلك (9) قوله تعالى: { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } (10) .
{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا (29) } .
يخبر تعالى عن هَول يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظيمة، فمنها انشقاق (11) السماء وتفطرها وانفراجها بالغمام، وهو ظُلَل (12) النور العظيم الذي يبهر الأبصار، ونزول ملائكة السموات يومئذ، فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر. ثم يجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء.
قال مجاهد: وهذا كما قال تعالى: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } [ البقرة: 210] .
__________
(1) في أ: "إذ".
(2) في أ: "ملك".
(3) في أ: "بصاحب".
(4) في ف، أ: "الفحمة".
(5) في أ: "فقال".
(6) في ف، أ: "عده".
(7) في أ: "سعيد".
(8) في أ: "المؤمنين".
(9) في ف، أ: "فذلك".
(10) تفسير الطبري (19/5).
(11) في أ: "اشتقاق".
(12) في أ: "ظل".

قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الحارث، حدثنا مُؤَمِّل، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْرَان، عن ابن عباس، أنه قرأ هذه الآية: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا } قال ابن عباس: يجمع الله الخلق يوم القيامة (1) في صعيد واحد، الجن والإنس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق، فتنشق السماء الدنيا، فينزل أهلها -وهم أكثر من الجن والإنس ومن جميع الخلائق (2) -فيحيطون بالجن والإنس وبجميع الخلق. ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها، وهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن الجن والإنس ومن جميع الخلق [فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم والجن والإنس وجميع الخلق (3) ] (4) ثم تنشق السماء الثالثة، فينزل أهلها، وهم أكثر من أهل السماء الثانية والسماء الدنيا ومن جميع الخلق، فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم، وبالجن والإنس وبجميع الخلق. ثم كذلك كل سماء، حتى تنشق السماء السابعة، فينزل أهلها وهم أكثر ممن نزل قبلهم من أهل السموات ومن الجن والإنس، ومن جميع الخلق، فيحيطون (5) بالملائكة الذين نزلوا قبلهم من أهل السموات، وبالجن والإنس وجميع الخلق، وينزل ربنا عز وجل في ظلل من الغمام، وحوله الكروبيون، وهم أكثر من أهل السموات السبع ومن الإنس (6) والجن وجميع الخلق، لهم قرون كأكعب القنا، وهم تحت العرش، لهم زَجَل بالتسبيح والتهليل (7) والتقديس لله عز وجل، ما بين أخمص قدم أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام، وما بين كعبه إلى ركبته (8) مسيرة خمسمائة عام، وما بين ركبته إلى حُجْزَته (9) مسيرة خمسمائة عام، وما بين حُجْزَته (10) إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام، وما بين ترقوته إلى موضع القُرط مسيرة خمسمائة عام. وما فوق ذلك مسيرة خمسمائة عام، وجهنم مجنبته (11) هكذا رواه ابن أبي حاتم بهذا السياق.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني الحجاج، عن مبارك بن فضالة، عن علي بن زيد بن جُدْعَان، عن يوسف بن مِهْرَان، أنه سمع ابن عباس يقول: إن هذه السماء إذا انشقت نزل منها من الملائكة أكثر من الجن والإنس، وهو يوم التلاق، يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض، فيقول أهل الأرض: جاء ربنا؟ فيقولون: لم يجئ، وهو آت. ثم تنشق السماء الثانية، ثم سماء سماء على قدر ذلك من التضعيف إلى السماء السابعة. فينزل منها من الملائكة أكثر من [جميع من] (12) نزل من السموات ومن الجن والإنس. قال: فتنزل (13) الملائكة الكَرُوبيُون، ثم يأتي ربنا في حملة العرش الثمانية، بين كعب كل ملك وركبته مسيرة سبعين سنة، وبين فخذه ومنكبه مسيرة سبعين سنة. قال: وكل ملك منهم لم يتأمل وجه صاحبه، وكل ملك منهم واضع رأسه بين ثدييه يقول: سبحان الملك القدوس. وعلى رؤوسهم شيء مبسوط كأنه القَبَاء (14) والعرش فوق ذلك.
__________
(1) في ف، أ: "يجمع الله تعالى الخلق كلهم يوم القيامة".
(2) في ف، أ: "الخلق".
(3) في ف، أ: "الخلائق".
(4) زيادة من ف، أ، والدر المنثور 5/68.
(5) في أ: "فيحطون".
(6) في ف، أ: "والإنس".
(7) في ف، أ: "بالتهليل والتسبيح".
(8) في أ: "ركبتيه".
(9) في ف، أ: "أرنبته".
(10) في ف، أ: "أرنبته".
(11) في هـ، ف غير منقوطة، وفي أ: "مجنبته".
(12) زيادة من ف، أ، والطبري.
(13) في ف، أ: "فينزل".
(14) في أ: "القفاء".

ثم وقف، فمداره على عليِّ بن زيد بن جُدْعان، وفيه ضعف، وفي سياقاته غالبا نكارة شديدة. وقد ورد في حديث الصور المشهور (1) قريب من هذا، والله أعلم.
وقد قال [الله] (2) تعالى: { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [ الحاقة : 15 -17] قال شهر بن حَوْشَب: حملة العرش ثمانية، أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك. وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، رواه ابن جرير عنه.
وقال أبو بكر بن عبد الله: إذا نظر أهل الأرض إلى العرش يهبط عليهم من فوقهم، شخصت إليه أبصارهم، ورَجَفت كُلاهم في أجوافهم، وطارت قلوبهم من مَقَرّها من صدورهم إلى حناجرهم.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا معتمر بن سليمان، عن عبد الجليل، عن أبي حازم، عن عبد الله بن عمرو قال: يهبط الله حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب، منها النور والظلمة، فيُصَوّت الماء في تلك الظلمة صوتا تنخلع منه (3) القلوب.
وهذا موقوف على (4) عبد الله بن عمرو من كلامه، ولعله من الزاملتين، والله أعلم.
وقوله تعالى: { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } ، كما قال تعالى: { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ غافر : 16] وفي الصحيح: "إن الله يطوي السموات بيمينه، ويأخذ الأرضين بيده الأخرى، ثم يقول: أنا الملك، أنا الديان، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون"؟ (5)
وقوله: { وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } أي: شديدا صعبا؛ لأنه يوم عدل وقضاء فصل، كما قال تعالى: { [فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ] } (6) "، { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } [ المدثر : 8 -10]، فهذا حال الكافرين في هذا اليوم. وأما المؤمنون فكما قال تعالى: { لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [ الأنبياء : 103] .
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن (7) بن موسى، حدثنا ابن لَهيعة، حدثنا دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول الله: { يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } ما (8) أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون
__________
(1) تقدم الحديث عند تفسير الآية: 73 من سورة الأنعام.
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في ف. أ: "له".
(4) في ف، أ: "عن".
(5) صحيح مسلم برقم (2788) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وليس فيه: "أنا الديان".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في ف، أ: "حسين".
(8) في ف، أ: "وما".

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)

أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا" (1) .
وقوله: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا } : يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول وما جاء به من عند الله من الحق المبين، الذي لا مرْية فيه، وسلك طريقا أخرى غير سبيل الرسول، فإذا كان يوم القيامة نَدمَ حيثُ لا ينفعه النَدَمُ، وعضّ على يديه حسرةً وأسفا.
وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي مُعَيط أو غيره من الأشقياء، فإنها عامة في كل ظالم، كما قال تعالى: { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [ الأحزاب :66 -68] فكل (2) ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم، ويَعَض على يديه قائلا { يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا } يعني: مَن (3) صرفه عن الهدى، وعدل به إلى طريق الضلالة [من دعاة الضلالة] (4) ، وسواء في ذلك أمية بن خلف، أو أخوه أبي بن خلف، أو غيرهما.
{ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ } [وهو القرآن] (5) { بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي } أي: بعد بلوغه إلي، قال الله تعالى: { وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا } أي: يخذله عن الحق، ويصرفه عنه، ويستعمله في الباطل، ويدعوه إليه.
{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) }
يقول تعالى مخبرا عن رسوله ونبيه محمد (6) -صلوات الله وسلامه (7) عليه دائما إلى يوم الدين -أنه قال: { يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } ، وذلك أن المشركين كانوا لا يُصغُون للقرآن ولا يسمعونه (8) ، كما قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26] وكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره، حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه، وترك [علمه وحفظه أيضا من هجرانه، وترك] (9) الإيمان به وتصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدولُ عنه إلى غيره -من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره -من هجرانه، فنسأل الله الكريمَ المنانَ القادرَ على ما يشاء، أن يخلّصنا مما يُسْخطه، ويستعملنا فيما يرضيه، من حفظ كتابه وفهمه، والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطرافَ النهار، على الوجه الذي
__________
(1) المسند (3/75) وفي إسناده دراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(2) في ف، أ: "وكل".
(3) في ف، أ: "لمن".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في أ: "محمدا".
(7) في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(8) في أ: "يستمعونه"
(9) زيادة من ف، أ.

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)

يحبه ويرضاه، إنه كريم وهاب.
وقوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ } أي: كما حصل لك -يا محمد -في قومك من الذين هجروا القرآن، كذلك كان في الأمم الماضين؛ لأن الله جعل لكل نبي عدوا من المجرمين، يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم، كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ } [ الأنعام : 112 -113] ؛ ولهذا قال هاهنا: { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } أي: لمن اتبع رسوله، وآمن بكتابه وصدقه واتبعه، فإن الله هاديه وناصره في الدنيا والآخرة. وإنما قال: { هَادِيًا وَنَصِيرًا } لأن المشركين كانوا يصدون الناس عن اتباع القرآن، لئلا يهتدي أحد به، ولتغلب طريقتهم طريقة القرآن؛ فلهذا قال: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } .
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا (32) }

وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)

{ وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا (34) } .
يقول تعالى مخبراً عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم، وكلامهم فيما لا يعنيهم، حيث قالوا: { لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } أي: هلا أنزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه جملة واحدة، كما نزلت الكتب قبله، كالتوراة والإنجيل والزبور، وغيرها من الكتب الإلهية. فأجابهم الله عن ذلك بأنه إنما أنزل منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث، وما يحتاج إليه من الأحكام لتثبيت (1) قلوب المؤمنين به كما قال: { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا } [ الإسراء : 106] ؛ ولهذا قال: { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا } . قال قتادة: وبيناه تبيينا. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: وفسرناه تفسيرا.
{ وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ } أي: بحجة وشبهة { إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } أي: ولا يقولون قولا يعارضون به الحق، إلا أجبناهم (2) بما هو الحق في نفس الأمر، وأبين وأوضح وأفصحُ من مقالتهم.
قال (3) سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ } أي: بما يلتمسون به عيب القرآن والرسول { إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } أي: إلا نزل جبريل مِنَ الله بجوابهم .
ثم في هذا اعتناء كبير؛ لشرف الرسول، صلوات الله وسلامه عليه (4) ، حيث كان يأتيه الوحي من الله بالقرآن صباحا ومساء، ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، فكل مرة كان يأتيه الملك بالقرآن كإنزال كتاب مما قبله من الكتب المتقدمة، فهذا المقام أعلى (5) وأجلُّ، وأعظم مكانة من سائر إخوانه من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فالقرآن أشرف كتاب أنزله الله، ومحمد، صلوات
__________
(1) في أ: "ليثبت"
(2) في أ: "جئناهم".
(3) في ف: "ثنا".
(4) في ف: "عليه وسلامه".
(5) في أ: "لعلي".

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)

الله وسلامه عليه، أعظم نبي أرسله الله وقد جمع الله تعالى للقرآن الصفتين معا، ففي الملأ الأعلى أنزل جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا (1) ثم نزل بعد ذلك إلى الأرض منجما بحسب الوقائع والحوادث.
قال أبو عبد الرحمن النسائي: أخبرنا أحمد بن سليمان، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا داود، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، قال: { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } ، وقوله { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا } [ الإسراء : 106] (2) .
ثم قال تعالى مخبرا عن سوء حال الكفار في معادهم يوم القيامة وحشرهم إلى جهنم، في أسوأ الحالات وأقبح الصفات: { الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا } ، وفي الصحيح، عن أنس: أن رجلا قال: يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال: "إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يُمشِيَه على وجهه يوم القيامة" (3) وهكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، وغير واحد من المفسرين، [والله أعلم] (4) .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) }
يقول تعالى متوعداً من كذّب رسولَه محمداً، صلوات الله وسلامه عليه، من مشركي قومه ومن خالفه (5) ، ومحذرهم من عقابه وأليم عذابه، مما أحله بالأمم الماضية المكذبين لرسله، فبدأ بذكر موسى، عليه السلام، وأنه ابتعثه وجعل معه أخاه هارون وزيرا، أي: نبيًا مُوَازرا ومؤيداً وناصراً، فكذبهما فرعون وجنوده،فـ { دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } [ محمد: 10]. ، وكذلك فعلَ بقوم نوح حين كذّبوا رسوله نوحاً، عليه السلام، ومن كذب برسول فقد كذب بجميع الرسل؛ إذ لا فرق بين رسول ورسول، ولو فرض أن الله بعث إليهم كل رسول فإنهم كانوا يكذبونه؛ ولهذا قال: { وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ } ، ولم يبعث إليهم إلا نوح فقط، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم إلى الله، ويحذرهم نقَمه، فما آمن معه إلا قليل. ولهذا أغرقهم الله
__________
(1) في أ: "من السماء الدنيا".
(2) النسائي في السنن الكبرى برقم (11372).
(3) صحيح البخاري برقم (4760) وصحيح مسلم برقم (2806).
(4) زيادة من ف.
(5) في ف، أ: "خالفهم".

جميعا، ولم يَبق منهم أحد، ولم يبق على وجه الأرض من بني آدم سوى أصحاب السفينة فقط.
{ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً } أي: عبرة يعتبرون بها، كما قال تعالى: { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 11 -12]. أي: وأبقينا لكم من السفن ما تركبون في لُجَج البحار، لتذكروا نعمة الله عليكم في إنجائكم من الغرق، وجَعْلكم من ذرّية مَن آمن به وصَدّق أمره.
وقوله: { وَعَادًا وَثَمُودَ } قد (1) تقدم الكلام على قصتيهما في غير ما سورة، منها في سورة "الأعراف" بما أغنى عن الإعادة (2) .
وأما أصحاب الرس فقال ابن جُرَيْج، عن (3) ابن عباس: هم أهل قرية من قرى ثمود.
وقال ابن جريج: قال عكرمة: أصحاب الرَسّ بفَلَج وهم أصحاب يس. وقال قتادة: فَلَج من قرى اليمامة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم [النبيل] (4) ، حدثنا الضحاك بن مَخْلَد أبو عاصم، حدثنا شبيب بن بشر (5) ، حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله: { وَأَصْحَابَ الرَّسِّ } قال: بئر بأذربيجان.
وقال سفيان الثوري عن أبي بُكَيْر (6) ، عن عكرمة: الرس بئر رَسوا فيها نبيهم. أي: دفنوه بها (7) .
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب [القرظي] (8) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود، وذلك أن الله -تعالى وتبارك -بعث نبيا (9) إلى أهل قرية، فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك العبد الأسود، ثم إن أهل القرية عدَوا على النبي، فحفروا له بئرا فألقوه فيها، ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم (10) قال: "فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره، ثم يأتي بحطبه فيبيعه، ويشتري به طعاما وشرابا، ثم يأتي به إلى تلك البئر، فيرفع تلك الصخرة، ويعينه الله عليها، فيدلي إليه طعامه وشرابه، ثم يردها كما كانت". قال: "فكان ذلك ما شاء الله أن يكون، ثم إنه ذهب يوماً يحتطب كما كان يصنع، فجمع حطبه وحَزم وفرغ منها فلما أراد أن يحتملها وجد سنة، فاضطجع فنام، فضرب الله على أذنه سبع سنين نائماً، ثم إنه هَبّ فتمطى، فتحول لشقه الآخر فاضطجع، فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى، ثم إنه هب واحتمل حُزْمَته ولا يحسبُ إلا أنه نام ساعة من نهار (11) فجاء إلى القرية فباع حزمته، ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع. ثم ذهب (12) إلى الحفيرة في موضعها الذي كانت فيه، فالتمسه فلم يجده. وكان قد بدا لقومه فيه بَداء، فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه". قال:
__________
(1) في ف: "وقد".
(2) في ف، أ: "إعادته".
(3) في أ: "قال".
(4) زيادة من ف.
(5) في أ: "بشير".
(6) في ف، أ: "بكر".
(7) في ف: "فيها".
(8) زيادة من ف والطبري.
(9) في ف: "بعث نبيا من الأنبياء".
(10) في ف: "أصم".
(11) في أ: "النهار".
(12) في ف، أ: "ثم إنه ذهب".

وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)

فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود: ما فعل؟ فيقولون له: لا ندري. حتى قبض الله النبي، وَأهبّ الأسودَ من نومته بعد ذلك". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك الأسودَ لأولُ من يدخل الجنة".
وهكذا رواه ابن جرير (1) عن ابن حميد، عن سلمة عن ابن إسحاق، عن محمد بن كعب مرسلا. وفيه غرابة ونَكارَةٌ، ولعل فيه إدْرَاجاً، والله أعلم. وأما ابن جرير فقال: لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس الذين ذكروا في القرآن؛ لأن الله أخبر عنهم أنه أهلكهم، وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم، اللهم إلا أن يكون حدث لهم أحداث، آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم، والله أعلم.
واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرس هم أصحاب الأخدود، الذين ذكروا في سورة البروج، فالله أعلم.
وقوله: { وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } أي: وأمما بين أضعاف مَنْ ذُكر أهلكناهم كثيرة؛ ولهذا قال: { وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ } أي: بينا لهم الحجج، ووضَّحنا لهم الأدلة -كما قال قتادة: أزحنا (2) عنهم الأعذار -{ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا } أي: أهلكنا إهلاكاً، كقوله: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ } [ الإسراء : 17] .
والقرن: هو الأمة من الناس، كقوله: { ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ } [ المؤمنون : 31] وحدَّه بعضهم (3) بمائة وعشرين سنة. وقيل: بمائة سنة. وقيل: بثمانين سنة. وقيل: أربعين. وقيل غير ذلك. والأظهر: أن القرن هم الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد؛ فإذا ذهبوا وخلفهم جيل آخر فهم قرن ثان، كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" الحديث.
وقوله: { وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ } يعني: قوم لوط، وهي سدوم ومعاملتها التي أهلكها الله بالقلب، وبالمطر الحجارة من سجيل، كما قال تعالى: { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ } [ الشعراء : 173]وقال { وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [ الصافات : 137 -138] وقال تعالى: { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ } [ الحجر :76] وقال { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ } [ الحجر : 79]؛ ولهذا قال: { أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا } أي: فيعتبروا بما حَلّ بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم بالرسول ومخالفتهم أوامر الله.
وقوله: { بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا } يعني: المارين بها من الكفار لا يعتبرون لأنهم لا يرجون نشوراً، أي: معادًا يوم القيامة.
{ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا (43) }
__________
(1) تفسير الطبري: 19/10.
(2) في أ: "وأزحنا".
(3) في ف، أ: "بعض المفسرين".

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)

{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا (44) }

أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)

يخبر تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول، صلوات الله وسلامه عليه، إذا رأوه، كما قال: { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ } [ الأنبياء : 36] يعنونه بالعيب والنقص، وقال هاهنا: { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا } ؟ أي: على سبيل التنقص (1) والازدراء -قبَّحهم الله -كما قال: { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } [ الرعد : 32] .
وقولهم (2) : { إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا } يعنون: أنه كاد يثنيهم عن عبادة أصنامهم، لولا أن صبروا وتجلدوا واستمروا على عبادتها. قال الله تعالى متوعدا لهم ومتهددا: { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا } .
ثم قال تعالى لنبيه، منبهًا له أن من كتب الله عليه الشقاوة والضلال، فإنه لا يهديه أحد إلا الله.
{ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } أي: مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى نفسه، كان دينَه ومذهبَه، كما قال تعالى: { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر:8] ؛ ولهذا قال هاهنا: { أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا } . قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زماناً، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول.
ثم قال: { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا } أي: أسوأ حالا من الأنعام السارحة، فإن تلك تعقل ما خلقت له، وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له، وهم يعبدون غيره ويشركون به، مع قيام الحجة عليهم، وإرسال الرسل إليهم.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) }
من هاهنا شرع تعالى في بيان الأدلة الدالة على وجوده، وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة، فقال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } ؟ قال ابن عباس، وابن عمر، وأبو
__________
(1) في ف، أ: "التنقيص".
(2) في أ: "وقوله".

وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)

العالية، وأبو مالك، ومسروق، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخَعِي، والضحاك، والحسن البصري، وقتادة، والسدي، وغيرهم: هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. { وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا } أي: دائما لا يزول، كما قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ، { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [ القصص : 71 -72] .
وقوله: { ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا } أي: لولا أن الشمس تطلع عليه، لما عرف، فإن (1) الضد لا يعرف إلا بضده.
وقال قتادة، والسّدي: دليلا يتلوه ويتبعه حتى يأتي عليه كله.
وقوله: { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } أي: الظل، وقيل: الشمس. { يسيرا } أي: سهلا. قال ابن عباس: سريعاً. وقال مجاهد: خفياً. وقال السّدي؛ قبضاً خفَياً، حتى لا يبقى في الأرض ظل إلا تحت سقف أو تحت شجرة، وقد أظلت الشمس ما فوقه.
وقال أيوب بن موسى: { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } أي: قليلا قليلا.
وقوله: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا } أي: يلبس الوجود ويُغَشيه (2) ، كما قال: [ { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } [ الليل : 1 ] وقال] (3) { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } [ الشمس : 4] .
{ وَالنَّوْمَ سُبَاتًا } أي: قَطْعَا للحركة لراحة الأبدان، فإن الأعضاء والجوارح تكل من كثرة الحركة في الانتشار بالنهار في المعايش، فإذا جاء الليل وسكن سكنت الحركات، فاستراحت فحصل النوم الذي فيه راحة البدن والروح معا.
{ وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا } أي: ينتشر الناسُ فيه (4) لمعايشهم ومكاسبهم وأسبابهم، كما قال تعالى: { وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ القصص : 73] .
{ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا (50) } .
وهذا أيضا من قدرته التامة وسلطانه العظيم، وهو أنه تعالى يرسل الرياح مبشرات، أي: بمجيء السحاب بعدها، والرياح أنواع، في صفات كثيرة من التسخير، فمنها ما يثير السحاب، ومنها ما يحمله، ومنها ما يسوقه، ومنها ما يكون بين يدي السحاب مبشِّرا، ومنها ما يكون قبل ذلك يَقُمّ الأرض، ومنها ما يلقح السحاب ليمطر؛ ولهذا قال: { وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } أي: آلة يتطهر بها، كالسَّحُور والوقود (5) وما جرى مجراه. فهذا أصح ما يقال في ذلك. وأما من قال: إنه فعول
__________
(1) في ف: "وإن".
(2) في ف: "ويغشاه".
(3) زيادة من أ.
(4) في ف: "فيه الناس".
(5) في أ: "والوجود".

بمعنى فاعل، أو: إنه مبني للمبالغة أو التعدي، فعلى كل منهما (1) إشكالات من حيث اللغة والحكم، ليس (2) هذا موضع بسطها، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، حدثني حُمَيد الطويل، عن ثابت البناني قال: دخلت مع أبي العالية في يوم مطير، وطرق البصرة قذرة، فصلى، فقلت له، فقال: { وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } قال: طهره ماء السماء.
وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا وُهَيب (3) عن داود، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية: { وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } [قال: أنزله الله ماءً طاهراً] (4) لا ينجسه شيء.
وعن أبي سعيد قال: قيل: يا رسول الله، أنتوضأ من بئر بضاعة؟ -وهي بئر يُلقَى فيها النَّتَن، ولحوم الكلاب -فقال: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" رواه الشافعي، وأحمد وصححه، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي (5) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الأشعث، حدثنا معتمر، سمعت أبي يحدث عن سَيَّار، عن خالد بن يزيد، قال: كان عند عبد الملك بن مروان، فذكروا الماء، فقال خالد بن يزيد: منه من السماء، ومنه ما يسقيه الغيم من البحر فَيُعْذِبه الرعد والبرق. فأما ما كان من البحر، فلا يكون له نبات، فأما النبات فمما كان من السماء.
وروي عن عكرمة قال: ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة. وقال غيره: في البر بُر، وفي البحر دُرّ.
وقوله: { لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا } أي: أرضا قد طال انتظارها للغيث، فهي هامدة لا نبات فيها ولا شيء. فلما جاءها الحيا عاشت واكتست رباها أنواع الأزاهير والألوان، كما قال تعالى: { فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5] .
{ وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا } أي: وليشرب منه الحيوان من أنعام وأناسي محتاجين إليه غاية الحاجة، لشربهم وزروعهم وثمارهم، كما قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } [ الشورى : 28] وقال تعالى: { فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الروم : 50] .
وقوله: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا } أي: أمطرنا هذه الأرض دون هذه، وسقنا السحاب فمر على الأرض وتعداها وجاوزها إلى الأرض الأخرى، [فأمطرتها وكفتها فجعلتها عذقا، والتي وراءها] (6) لم ينزل فيها قطرة من ماء، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة.
__________
(1) في أ: "منها".
(2) في ف، أ: "وليس".
(3) في أ: "وهب".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) الأم للشافعي (1/9) والمسند (3/15) وسنن أبي داود برقم (66) وسنن الترمذي برقم (66) وسنن النسائي (1/174).
(6) زيادة من ف، أ.

وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)

قال ابن مسعود وابن عباس: ليس عام بأكثر مطرًا من عام، ولكن الله يصرفه كيف يشاء، ثم قرأ هذه الآية: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا } .
أي: ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات (1) . والعظام الرفات. أو: ليذكر من منع القَطْر أنما أصابه ذلك بذنب أصابه، فيقلع عما هو فيه.
وقال عُمَر مولى غُفْرَة (2) : كان جبريل، عليه السلام، في موضع الجنائز، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل، إني أحب أن أعلم أمْرَ السحاب؟" قال: فقال جبريل: يا نبي الله، هذا ملك السحاب فسله. فقال: تأتينا صَكاك مُخَتَّمة: اسق بلاد كذا وكذا، كذا وكذا قطرة. رواه ابن حاتم، وهو حديث مرسل.
وقوله: { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا } : قال عكرمة: يعني: الذين (3) يقولون: مطرنا بنَوء كذا وكذا.
وهذا الذي قاله عكرمة كما صح في الحديث المخرج في صحيح مسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوماً، على أثر سماء أصابتهم من الليل: "أتدرون ماذا قال ربكم" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي، مؤمن بالكوكب" (4) .
{ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) } .
يقول تعالى: { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا } يدعوهم إلى الله عز وجل، ولكنا خصصناك -يا محمد -بالبعثة إلى جميع أهل الأرض، وأمرناك أن تبلغ الناس هذا القرآن، { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19] ، { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17]{ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } [ الأنعام : 92] ، { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158] . وفي الصحيحين: "بعثت إلى الأحمر والأسود" وفيهما: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة"؛ ولهذا قال: { فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ } يعني: بالقرآن، قاله ابن عباس { جِهَادًا كَبِيرًا } ، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 73،التحريم : 9] .
__________
(1) في ف، أ: "الموتى".
(2) في ف، أ: "عقبة".
(3) في أ: "الذي".
(4) صحيح مسلم برقم (71) من حديث زيد بن خالد الجهني.

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)

وقوله: { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي: خلق الماءين: الحلو والملح، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار، وهذا هو البحر الحلو الفرات العذب الزلال. قاله ابن جريج، واختاره ابن جرير، وهذا الذي لا شك فيه، فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات. والله سبحانه إنما أخبر بالواقع (1) لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه، فالبحر العذب هو هذا السارح بين الناس، فرقه تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارًا وعيونًا في كل أرض بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأراضيهم.
وقوله: { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي: مالح مُرّ زعاق لا يستساغ، وذلك كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب: البحر المحيط وما يتصل به من الزقاق وبحر القلزم، وبحر اليمن، وبحر البصرة، وبحر فارس وبحر الصين والهند وبحر الروم وبحر الخزر، وما شاكلها وشابهها (2) من البحار الساكنة التي لا تجري، ولكن تتموج وتضطرب وتغتلم في زمن الشتاء وشدة الرياح، ومنها ما فيه مد وجَزْر، ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض (3) ، فإذا شرع الشهر في النقصان جَزَرت، حتى ترجع إلى غايتها الأولى، فإذا استهل الهلال من الشهر الآخر شرعت في المد إلى الليلة الرابعة عشرة (4) ثم تشرع في النقص، فأجرى الله سبحانه وتعالى -وله القدرة التامة -العادة بذلك. فكل هذه البحار الساكنة خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة الماء، لئلا يحصل بسببها نتن الهواء، فيفسد الوجود بذلك، ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان. ولما كان ماؤها ملحا كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن ماء البحر: أنتوضأ به؟ فقال: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" . رواه الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد، وأهل السنن بإسناد جيد (5) .
وقوله: { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا } أي: بين العذب والمالح { برزخا } أي: حاجزاً، وهو اليَبَس من الأرض، { وَحِجْرًا مَحْجُورًا } أي: مانعاً أن يصل أحدهما إلى الآخر، كما قال: { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 19 -21] ، وقال تعالى: { أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ النمل : 61] .
وقوله: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } أي: خلق الإنسان من نطفة ضعيفة، فسواه وعَدّله، وجعله كامل الخلقة، ذكراً أو أنثى، كما يشاء، { فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } ، فهو في ابتداء أمره ولد نسيب، ثم يتزوج فيصير صهراً، ثم يصير له أصهار وأختان وقرابات. وكل ذلك من ماء مهين؛ ولهذا قال: { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } .
{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) }
__________
(1) في أ: "عن الواقع".
(2) في أ: "وأشبهها".
(3) في أ: "وقيض".
(4) في أ: "عشر".
(5) سبق تخريجه عند تفسير الآية: 3 من سورة المائدة.

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)

{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) } .

يخبر تعالى عن جهل المشركين في عبادتهم غير الله من الأصنام، التي لا تملك لهم نفعاً ولا ضرا، بلا دليل قادهم إلى ذلك، ولا حجة أدتهم إليه، بل بمجرد الآراء، والتشهي والأهواء، فهم يوالونهم (1) ويقاتلون في سبيلهم، ويعادون الله ورسوله [والمؤمنون] (2) فيهم؛ ولهذا قال: { وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا } أي: عونا في سبيل الشيطان على حزب الله، وحزب الله هم الغالبون، كما قال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ * لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ } [ يس : 74 -75] أي: آلهتهم التي اتخذوها من دون الله لا تملك (3) لهم نصرا، وهؤلاء الجهلة للأصنام جند محضرون يقاتلون عنهم، ويَذبُّون عن حَوْزتهم، ولكن العاقبة والنصرة لله ولرسوله في الدنيا والآخرة.
قال مجاهد: { وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا } قال: يظاهر الشيطان على معصية الله، يعينه.
وقال سعيد بن جبير: { وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا } يقول: عوناً للشيطان على ربه بالعداوة والشرك.
وقال زيد بن أسلم: { وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا } قال: مواليا.
ثم قال تعالى لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } أي: بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين، مبشرا بالجنة لمن أطاع الله، ونذيراً بين يدي عذاب شديد لمن خالف أمر الله.
{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أي: على هذا البلاغ وهذا الإنذار من أجرة أطلبها من أموالكم، وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله، { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } [ التكوير : 28]{ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا } أي: طريقا ومسلكا ومنهجا ُيقتدى فيها بما جئت به.
ثم قال: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ } أي: في أمورك كلها كُن متوكلا على الله الحي الذي لا يموت أبدا، الذي هو { الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الحديد : 3] الدائم الباقي السرمدي الأبدي، الحي القيوم ربّ كل شيء ومليكه، اجعله ذُخْرك وملجأك، وهو الذي يُتَوكل عليه ويفزع إليه، فإنه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ المائدة : 67] .
__________
(1) في أ: "والتشهي فيهم يوالون لهم".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "لا يملكون".

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عبد الله بن محمد بن علي بن نُفَيْل قال: قرأت على مَعْقِل -يعني ابن عبيد الله -عن عبد الله بن أبي حسين، عن شَهْر بن حَوْشَب قال: لقي سلمانُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج (1) المدينة، فسجد له، فقال: "لا تسجد لي يا سلمان، واسجد للحي الذي لا يموت" وهذا مرسل حسن (2) .
[وقوله تعالى: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ } ، أي: اقرن بين حمده وتسبيحه] (3) ؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سبحانك اللهم رَبَّنا وبحمدك" أي: أخلص له العبادة والتوكل، كما قال تعالى: { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } [ المزمل : 9] .
وقال: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123]{ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [ الملك : 29] .
وقوله: { وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } أي: لعلمه (4) التام الذي لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة.
وقوله: { الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي: هو الحي الذي لا يموت، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه، الذي خلق بقدرته وسلطانه السموات السبع في ارتفاعها واتساعها، والأرضين السبع في سفولها وكثافتها ، { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرَّحْمَنُ ] } (5) ، أي: يدبر الأمر، ويقضي الحق، وهو خير الفاصلين.
وقوله: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } أي: استعلم عنه من هو خبير به عالم به فاتبعه واقتد به، وقد عُلِم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه، على (6) سيد ولد آدم على الإطلاق، في الدنيا والآخرة، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى -فما قاله فهو حق، وما أخبر به فهو صدق، وهو الإمام المحكم الذي إذا تنازع الناس في شيء، وجب ردّ نزاعهم إليه، فما يوافق أقواله، وأفعاله فهو الحق، وما يخالفها (7) فهو مردود على قائله وفاعله، كائنا من كان، قال الله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [ النساء : 59] .
وقال: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [ الشورى : 10]، وقال تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [ الأنعام : 115] أي: صدقا في الإخبار وعدلا في الأوامر والنواهي؛
__________
(1) في أ: "مخارج".
(2) ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/103) من طريق محمد بن أحمد بن سيار عن هشام عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين به
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ف، أ: "بعلمه".
(5) زيادة من أ.
(6) في ف، أ: "عليه".
(7) في أ: "وما خالفها".

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)

ولهذا قال: { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } قال مجاهد في قوله: { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } قال: ما أخبرتك (1) من شيء فهو كما أخبرتك. وكذا قال ابن جريج.
وقال شمر بن عطية في قوله: { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } قال: هذا القرآن خبير به.
ثم قال تعالى منكرا على المشركين الذين يسجدون لغير الله من الأصنام والأنداد: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ } ؟ أي: لا نعرف الرحمن. وكانوا ينكرون أن يُسَمّى الله باسمه الرحمن، كما أنكروا ذلك يوم الحديبية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم، ولكن اكتب كما كنت تكتب: باسمك اللهم؛ ولهذا أنزل الله: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ الإسراء : 110] أي: هو الله وهو الرحمن. وقال في هذه الآية : (2) { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ } ؟ أي: لا نعرفه ولا نُقر به؟ { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } أي: لمجرد قولك؟ { وَزَادَهُمْ نُفُورًا } ، أما (3) المؤمنون فإنهم يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم، ويُفْرِدُونه بالإلهية ويسجدون له. وقد اتفق العلماء -رحمهم الله -على أن هذه السجدة التي في الفرقان مشروع السجودُ عندها لقارئها ومستمعها، كما هو مقرر في موضعه، والله أعلم.
{ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) } .
يقول تعالى ممجدا نفسه، ومعظما على جميل ما خلق في السماء من البروج -وهي الكواكب العظام -في قول مجاهد، وسعيد بن جُبير، وأبي صالح، والحسن، وقتادة.
وقيل: هي قصور في السماء للحرس، يروى هذا عن علي، وابن عباس، ومحمد بن كعب، وإبراهيم النخعي، وسليمان بن مِهْران الأعمش. وهو رواية عن أبي صالح أيضا، والقول الأول أظهر. اللهم إلا أن يكون الكواكب العظام هي قصور للحرس، فيجتمع القولان، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5] ؛ ولهذا قال: { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا } وهي الشمس المنيرة، التي هي كالسراج في الوجود، كما قال: { وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا } [ النبأ : 13] .
{ وَقَمَرًا مُنِيرًا } أي: مضيئا مشرقا بنور آخر ونوع وفن آخر، غير نور الشمس، كما قال: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا } [ يونس : 5] ، وقال مخبرا عن نوح، عليه السلام، أنه قال لقومه: { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا } [ نوح : 15 -16] .
__________
(1) في أ: "ما أخبرك".
(2) في ف، أ: "الآية الكريمة".
(3) في ف، أ: "فأما".

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)

ثم قال: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } أي: يخلف كل واحد منهما الآخر، يتعاقبان لا يفتران. إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب ذاك (1) ، كما قال: { وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } [ إبراهيم : 33 ] ، وقال { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } [ الأعراف : 54]وقال: { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40] .
وقوله: { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } (2) أي: جعلهما يتعاقبان، توقيتا لعبادة عباده له، فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل. وقد جاء في الحديث الصحيح: "إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل" (3) .
قال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو حُرّة (4) عن الحسن: أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى، فقيل له: صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه؟ فقال: إنه بقي علي من وردي شيء، فأحببت أن أتمه -أو قال: أقضيه -وتلا هذه الآية: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً [لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا] } (5) (6) .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس [قوله: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } (7) ] يقول: من فاته شيء من الليل أن يعمله، أدركه بالنهار، أو من النهار أدركه بالليل. وكذا قال عكرمة، وسعيد بن جبير. والحسن.
وقال مجاهد، وقتادة: { خِلْفَة } أي: مختلفين، هذا بسواده، وهذا بضيائه.
{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) } .سب
هذه صفات عباد الله المؤمنين { الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا } أي: بسكينة ووقار من غير جَبَرية ولا استكبار، كما قال: { وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا } [ الإسراء : 37]. فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح، ولا أشر ولا بطر،
__________
(1) في أ: "هذا".
(2) في أ: "نشورا" وهو خطأ.
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (2759) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(4) في أ: "أبو حمزة".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) وهذا منقطع، فالحسن لم يسمع من عمر.
(7) زيادة من ف، أ.

وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى من التصانع تصنعًا ورياء، فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صَبَب، وكأنما الأرض تطوى له. وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع، حتى روي عن عمر أنه رأى شابًا يمشي رُويدًا، فقال: ما بالك؟ أأنت مريض؟ قال: لا يا أمير المؤمنين. فعلاه بالدرة، وأمره أن يمشي بقوة. وإنما (1) المراد بالهَوْن هاهنا السكينة والوقار، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" (2) .
وقال عبد الله بن المبارك، عن مَعْمَر، عن يحيى (3) بن المختار، عن الحسن البصري في قوله: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا } قال: إن المؤمنين قوم ذُلُل، ذلت منهم -والله -الأسماعُ والأبصار والجوارح، حتى تحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض، وإنهم لأصحاء، ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، فقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن. أما والله ما أحزنهم حزن الناس، ولا تعاظم في نفوسهم شيء طلبوا به الجنة، أبكاهم الخوف من النار، وإنه من لم يتعز بعزاء الله تَقَطَّعُ نفسُه على الدنيا حسرات، ومن لم ير لله نعمة إلا في مطعم أو في مشرب، فقد قلَّ علمه (4) وحضَر عذابهُ.
وقوله: { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا } أي: إذا سَفه عليهم الجهال بالسّيئ، لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرًا، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، وكما قال تعالى: { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ القصص : 55] .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن أبي خالد الوالبي، عن النعمان بن مُقَرّن المُزَني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [وسبّ رجلٌ رجلا عنده، قال: فجعل الرجل المسبوب يقول: عليك السلام. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما] (5) إن ملكًا بينكما يذب عنك، كلما شتمك هذا قال له: بل أنت وأنت أحق به. وإذا قال له: عليك السلام، قال: لا بل عليك، وأنت أحق به. " إسناده حسن، ولم يخرجوه (6) .
وقال مجاهد: { قَالُوا سَلامًا } يعني: قالوا: سدادًا.
وقال سعيد بن جبير: ردوا معروفًا من القول.
وقال الحسن البصري: { قَالُوا [سَلامًا } ، قال: حلماء لا يجهلون] (7) ، وإن جهل عليهم حلموا. يصاحبون عباد الله نهارهم بما تسمعون (8) ، ثم ذكر أن ليلهم خير ليل.
__________
(1) في ف، أ: "وأما".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (635) ومسلم في صحيحه برقم (603) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
(3) في ف، أ: "عمر".
(4) في أ: "عمله".
(5) زيادة من ف، أ، والمسند.
(6) المسند (5/445) وقال الهيثمي في المجمع (8/75): "رجاله رجال الصحيح، غير أبي خالد الوالبي وهو ثقة".
(7) زيادة من ف، أ.
(8) في ف، أ: "بما يسمعون".

وقوله: { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا } أي: في عبادته وطاعته، كما قال تعالى: { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 17 -18]، وقال { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ السجدة : 16] وقال { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } الآية [ الزمر : 9] ولهذا قال: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا } أي: ملازما دائما، كما قال الشاعر (1) :
إنْ يُعَذّب يَكُنْ غَرَامًا، وإن يُعْـ ... ط جزيلا فإنه لا يُبَالي ...
ولهذا قال الحسن في قوله: { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا } : كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه فليس بغرام، وإنما الغرام اللازم ما دامت السموات والأرض. وكذا قال سليمان التيمي.
وقال محمد بن كعب [القرظي] (2) : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا } يعني: ما نعموا في الدنيا؛ إن الله سأل الكفار عن النعمة فلم يردوها إليه، فأغرمهم فأدخلهم النار.
{ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } أي: بئس المنزل منظرا، وبئس المقيل مقامًا.
[و] (3) قال ابن أبي حاتم عند قوله: { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } : حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش، عن مالك بن الحارث قال: إذا طُرح الرجل في النار هوى فيها، فإذا انتهى إلى بعض أبوابها قيل له: مكانك حتى تتحف، قال: فيسقى كأسا من سُمِّ الأساود والعقارب، قال: فيميز الجلد على حدة، والشعر على حدة، والعصب على حدة، والعروق على حدة.
وقال أيضًا: حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عُبيد بن عمير قال: إن في النار لجبابًا فيها حيات أمثال البخت، وعقارب أمثال البغال الدلم (4) ، فإذا قذف بهم في النار خرجت إليهم من أوطانها فأخذت بشفاههم وأبشارهم وأشعارهم، فكشطت لحومهم إلى أقدامهم، فإذا وجدت حر النار رجعت.
وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا سلام -يعني ابن مسكين -عن أبي ظلال، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه -عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عبدًا في جهنم لينادي ألف سنة: يا حنان، يا منان. فيقول الله لجبريل: اذهب فآتني بعبدي هذا. فينطلق جبريل فيجد أهل النار مُنكبين (5) يبكون، فيرجع إلى ربه عز وجل فيخبره، فيقول الله عز وجل: آتني به فإنه في مكان كذا وكذا. فيجيء به فيوقفه على ربه عز وجل، فيقول له: يا عبدي، كيف وجدت مكانك ومقيلك؟ فيقول: يا رب شر مكان، شر مقيل. فيقول: ردوا عبدي. فيقول: يا رب، ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تردني فيها! فيقول: دعوا عبدي (6) .
وقوله: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } أي: ليسوا بمبذرين في
__________
(1) هو الأعشى - ميمون بن قيس - والبيت في تفسير الطبري (19/23).
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "الدهم".
(5) في أ: "مكبين".
(6) المسند (3/230) وقال الهيثمي في المجمع (10/384): "رجاله رجال الصحيح غير أبي ظلال وضعفه الجمهور، ووثقه ابن حبان".

إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهْليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عَدْلا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا، { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } ، كَمَا قَالَ: { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } [ الإسراء : 29].
وقال الإمام أحمد: حدثنا عصام (1) بن خالد، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني، عن ضَمْرَة، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فقه الرجل رفقه في معيشته". ولم يخرجوه (2) .
وقال [الإمام] (3) أحمد أيضًا: حدثنا أبو عبيدة الحداد، حدثنا سُكَين (4) بن عبد العزيز العَبْدي، حدثنا إبراهيم الهَجَري عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عال من اقتصد" . ولم يخرجوه (5) .
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن يحيى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون (6) حدثنا سعيد (7) بن حكيم، عن مسلم بن حبيب، عن بلال -يعني العبسي -عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أحسن القصد في الغنى، وأحسن القصد في الفقر، وأحسن القصد في العبادة" ثم قال: لا نعرفه يروى إلا من حديث حذيفة رضي الله عنه (8) .
وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله فهو سرف.
وقال غيره: السرف النفقة في معصية الله.
وقال الحسن البصري: ليس النفقة في سبيل الله سرفا [والله أعلم] (9) .
__________
(1) في أ: "عاصم".
(2) المسند (5/194).
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "مسكين".
(5) المسند (1/447) وقال الهيثمي في المجمع (10/252) "في إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف".
(6) في ف، أ: "إبراهيم بن محمد بن محمد بن ميمون".
(7) في، أ: "سعد".
(8) مسند البزار برقم (3604) وقال الهيثمي في المجمع (10/252): "رواه البزار عن سعيد بن حكيم عن مسلم بن حبيب، ومسلم هذا لم أجد من ذكره إلا ابن حبان في ترجمة سعيد الراوي عنه، وبقية رجاله ثقات".
(9) زيادة من أ.

وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)

{ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) } .
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شَقيق، عن عبد الله -هو ابن مسعود -قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: الذنب أكبر؟ قال: "أن تَجعل لله ندًا وهو خلقك". قال: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعم معك". قال: ثم أي؟ قال: "أن تزاني

حليلة جارك". قال عبد الله: وأنزل الله تصديق ذلك: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } .
وهكذا رواه النسائي عن هَنَّاد بن السري، عن أبي معاوية، به (1) .
وقد أخرجه البخاري ومسلم، من حديث الأعمش ومنصور -زاد البخاري: وواصل -ثلاثتهم عن أبي وائل، شقيق بن سلمة، عن أبي مَيْسَرة عمرو بن شرحبيل، عن ابن مسعود، به (2) ، فالله أعلم، ولفظهما عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ الحديث .
طريق غريب: وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، حدثنا عامر بن مُدْرِك، حدثنا السري -يعني ابن إسماعيل -حدثنا الشعبي، عن مسروق قال: قال عبد الله: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فاتبعته، فجلس على نَشَز من الأرض، وقعدت أسفل منه، ووجهي حيال ركبتيه، واغتنمت (3) خلوته وقلت (4) : بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أي الذنوب (5) أكبر؟ قال: "أن تدعو لله ندًا وهو خلقك".قلت: ثم مه؟ (6) قال: "أن تقتل ولدك كراهية أن يطعم معك". قلت: ثم مه؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك". ثم قرأ: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } . [إلى آخر] (7) الآية (8) .
وقال النسائي: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن منصور، عن هلال بن يَسَاف، عن سلمة بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "ألا إنما هي أربع -فما أنا بأشح عليهن مني منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم -: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا" (9) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن المديني، رحمه الله، حدثنا محمد بن فضيل بن غَزْوان، حدثنا محمد بن سعد (10) الأنصاري، سمعت أبا طيبة الكَلاعي، سمعت المقداد بن الأسود، رضي الله عنه، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "ما تقولون في الزنى"؟ قالوا: حَرّمه الله ورسوله، فهو حَرَام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره". قال: "ما تقولون في السرقة"؟ قالوا: حرمها الله ورسوله، فهي حرام. قال: "لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره" (11) .
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا عمار بن نصر، حدثنا بَقيَّة، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن الهيثم بن مالك الطائي عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نُطفة وضعها رجل في رَحِم لا يحل له" (12) .
__________
(1) المسند (1/380) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11368).
(2) صحيح البخاري برقم (6811) وصحيح مسلم برقم (68).
(3) في ف: "فاغتنمت".
(4) في أ: "فقلت".
(5) في أ: "الذنب".
(6) في أ: "أي".
(7) زيادة من أ.
(8) صحيح البخاري برقم (6811) وصحيح مسلم برقم (68).
(9) النسائي في السنن الكبرى رقم (11373).
(10) في ف، أ: "سعيد".
(11) المسند (6/8) وقال الهيثمي في المجمع (8/168) "رجاله ثقات".
(12) الورع لابن أبي الدنيا برقم (137) "وهو مرسل، وفي إسناده بقية وهو مدلس وابن أبي مريم ضعيف" أ.هـ مستفادا من كلام المحقق الفاضل محمد الحمود.

وقال ابن جُرَيج: أخبرني يعلى، عن سعيد بن جبير أنه سمعه يحدث (1) عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزَنَوا فأكثروا، ثم أتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا (2) كفارة، فنزلت: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ } ، ونزلت: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ] } (3) [ الزمر : 53] .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي فَاخِتة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: "إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق وتدع الخالق، وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك، وينهاك أن تزني بحليلة جارك". قال سفيان: وهو قوله: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ } (4) .
وقوله: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } . روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: { أَثَامًا } واد في جهنم.
وقال عكرمة: { يَلْقَ أَثَامًا } أودية في جهنم يعذب فيها الزناة. وكذا رُوي عن سعيد بن جبير، ومجاهد.
وقال قتادة: { يَلْقَ أَثَامًا } نكالا كنا نحدث أنه واد في جهنم.
وقد ذكر لنا أن لقمان كان يقول: يا بني، إياك والزنى، فإن أوله مخافة، وآخره ندامة.
وقد ورد في الحديث الذي رواه ابن جرير وغيره، عن أبي أمامة الباهلي -موقوفا ومرفوعا -أن "غيا" و"أثاما" بئران في قعر جهنم (5) أجارنا الله منها بمنه وكرمه.
وقال السدي: { يَلْقَ أَثَامًا } : جزاء.
وهذا أشبه بظاهر الآية؛ ولهذا فسره بما بعده مبدلا منه، وهو قوله: { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي: يكرر عليه ويغلظ، { وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا } أي: حقيرا ذليلا.
وقوله: { إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ [عَمَلا ] صَالِحًا } (6) أي: جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر { إِلا مَنْ تَابَ } في الدنيا إلى الله (7) من جميع ذلك، فإن الله يتوب عليه.
وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل، ولا تعارض (8) بين هذه وبين آية النساء: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } [ النساء : 93] فإن هذه
__________
(1) في أ: "يحدثه".
(2) في أ: "أن لنا إن عملنا".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/277) وعزاه لابن أبي حاتم. ووقع فيه: "عن أبي قتادة" فإن كان كذلك فهو موصول، وإن كان كما هو مثبت هنا فهو مرسل، ولم يتبين لي الصواب منهما، والله أعلم.
(5) تفسير الطبري (19/29).
(6) زيادة من ف، وهو الصواب.
(7) في ف: "إلى الله في الدنيا".
(8) في أ: "ولا معارض".

وإن كانت مدنية إلا أنها مطلقة، فتحمل على من لم يتب، لأن هذه مقيدة بالتوبة، ثم قد قال [الله] (1) تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ،116] .
وقد ثبتت السنة الصحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل، كما ذكر مقررا من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب، وقبل منه، وغير ذلك من الأحاديث.
وقوله: { فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } : في معنى قوله: { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } قولان:
أحدهما: أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } قال: هم المؤمنون، كانوا من قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك فحوَّلهم إلى الحسنات، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات.
وروى مجاهد، عن ابن عباس أنه كان ينشد عند هذه الآية:
بُدّلْنَ بَعْدَ حَرِّهِ خَريفا (2) وَبَعْدَ طُول النَّفَس الوَجيفَا (3)
يعني: تغيرت تلك الأحوال إلى غيرها.
وقال عطاء بن أبي رباح: هذا في الدنيا (4) ، يكون الرجل على هيئة قبيحة، ثم يبدله الله بها خيرا.
وقال سعيد بن جبير: أبدلهم بعبادة الأوثان عبادة الله، وأبدلهم (5) بقتال المسلمين قتالا مع المسلمين للمشركين، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات.
وقال الحسن البصري: أبدلهم الله بالعمل السيئ العمل الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصا، وأبدلهم بالفجور إحصانا وبالكفر إسلاما.
وهذا قول أبي العالية، وقتادة، وجماعة آخرين.
والقول الثاني: أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات، وما ذاك إلا أنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار. فيوم القيامة وإن وجده مكتوبا عليه لكنه لا يضره وينقلب حسنة في صحيفته، كما ثبتت السنة بذلك، وصحت به الآثار المروية عن السلف، رحمهم الله تعالى -وهذا سياق الحديث -قال الإمام أحمد:
حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سُوَيْد، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف آخر أهل النار خروجا من النار، وآخر أهل الجنة دخولا إلى الجنة: يؤتى برجل فيقول: نَحّوا كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها، قال: فيقال له: عملت يوم كذا وكذا كذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا؟ فيقول: نعم -لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئا -
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في أ: "صريفا".
(3) البيت في تفسير الطبري (19/30).
(4) في أ: "هذا يكون في الدنيا".
(5) في ف: "وبدلهم".

فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة. فيقول: يا رب، عملت أشياء لا أراها هاهنا". قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. وانفرد به مسلم (1) .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هاشم بن يزيد، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني أبي، حدثني ضَمْضَم بن زرعة، عن شُرَيْح بن عبيد (2) عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان: أعطني صحيفتك. فيعطيه إياها، فما وجد في صحيفته من حسنة محا بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان، وكتبهن حسنات، فإذا أراد أن ينام أحدكم فليكبر ثلاثًا وثلاثين تكبيرة، ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة، ويسبح ثلاثًا وثلاثين تسبيحة، فتلك مائة" (3) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة وعارم قالا حدثنا ثابت -يعني: ابن يزيد أبو زيد -حدثنا عاصم، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: يعطى رجل يوم القيامة صحيفته فيقرأ أعلاها، فإذا سيئاته (4) ، فإذا كاد (5) يسوء ظنه نظر (6) في أسفلها فإذا حسناته، ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات.
وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا سليمان بن موسى الزهري أبو داود، حدثنا أبو العَنْبَس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: ليأتين الله عز وجل بأناس (7) يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات، قيل: مَنْ هم يا أبا هريرة؟ قال: الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات.
وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا سَيَّار، حدثنا جعفر، حدثنا أبو حمزة، عن أبي الضيف -وكان من أصحاب معاذ بن جبل -قال: يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف: المتقين، ثم الشاكرين، ثم الخائفين، ثم أصحاب اليمين. قلت: لِمَ سموا أصحاب اليمين؟ قال: لأنهم عملوا الحسنات (8) والسيئات، فأعطوا كتبهم بأيمانهم، فقرؤوا سيئاتهم حرفا حرفا -قالوا: يا ربنا، هذه سيئاتنا، فأين حسناتنا؟. فعند ذلك محا الله السيئات وجعلها حسنات، فعند ذلك قالوا:(هاؤم اقرؤوا كتابيه) ، فهم أكثر أهل الجنة.
وقال علي بن الحسين زين العابدين: { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } قال: في الآخرة.
وقال مكحول: يغفرها لهم فيجعلها حسنات: [رواهما ابن أبي حاتم، وروى ابن جرير، عن سعيد بن المسيب مثله] (9) .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم،
__________
(1) المسند (5/170) وصحيح مسلم برقم (190).
(2) في ف، أ: "عبدة".
(3) المعجم الكبير للطبراني (3/296) قال الهيثمي في المجمع (10/121) "فيه محمد بن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف" ولم يثبت سماعه عن أبيه أيضا.
(4) في أ: "إساءته".
(5) في أ: "كان".
(6) في أ: "ينظر".
(7) في أ: "أناس".
(8) في أ: "بالحسنات".
(9) زيادة من ف، أ.

حدثنا أبو (1) جابر، أنه سمع مكحولا يحدث قال: جاء شيخ كبير هرم قد سقط (2) حاجباه على عينيه، فقال: يا رسول الله، رجل غدر وفجر، ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطعها بيمينه، لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم، فهل له من توبة؟ فقال له رسول الله (3) صلى الله عليه وسلم: "أسلمتَ؟" قال (4) : أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن (5) محمدًا عبده ورسوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن الله غافر لك ما كنت كذلك، ومبدل (6) سيئاتك حسنات". فقال: يا رسول الله، وغَدَراتي وفَجَراتي؟ فقال: "وغَدرَاتك وفَجَراتك" . فَوَلّى الرجل يهلل ويكبر (7) (8) .
وروى الطبراني من حديث أبي المغيرة، عن صفوان بن عَمْرو (9) ، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي فَرْوَةَ -شَطْب -أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها، ولم يترك حاجة ولا داجة، فهل له من توبة؟ فقال: "أسلمتَ؟" فقال: نعم، قال: "فافعل الخيرات، واترك السيئات، فيجعلها (10) الله لك خيرات كلها". قال: وغَدرَاتي وفَجَراتي؟ قال: "نعم". قال فما زال يكبر حتى توارى (11) .
ورواه الطبراني من طريق أبي فَروة الرهاوي، عن ياسين الزيات، عن أبي سلمة الحِمْصي، عن يحيى بن جابر، عن سلمة بن نفيل مرفوعًا (12) .
وقال أيضًا: حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان، عن فُلَيْح الشماس، عن عبيد بن أبي عبيد (13) عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: جاءتني امرأة فقالت: هل لي من توبة؟ إني زنيت وولدت وقتلته. فقلت (14) لا ولا نَعمت العين ولا كرامة. فقامت وهي تدعو بالحسرة. ثم صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح، فقصصت عليه ما قالت المرأة وما قلت لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بئسما قلت! أما كنت تقرأ هذه الآية: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } إلى قوله: { إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } فقرأتها عليها. فخرَّت ساجدة وقالت: الحمد لله الذي جعل لي مخرجًا.
هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفي رجاله مَنْ لا يُعرف والله أعلم. وقد رواه ابن جرير من
__________
(1) في أ: "ابن".
(2) في أ: "أسقطت".
(3) في أ: "النبي".
(4) في أ: "فقال".
(5) في أ: "وأشهد أن".
(6) في أ: "ويبدل".
(7) في ف، أ: "يكبر ويهلل".
(8) وقد وصله الإمام أحمد في مسنده (4/384) من طريق نوح بن قيس عن أشعث بن جابر الحداني عن مكحول عن عمرو بن عبسة به مرفوعا باختصار في أوله وآخره، وقال الهيثمي في المجمع (1/32) : "رجاله موثقون إلا أنه من رواية مكحول عن عمرو بن عبسة، فلا أدري أسمع منه أم لا".
(9) في أ: "عمر".
(10) في ف، أ: "فيجعلهم".
(11) المعجم الكبير للطبراني (7/314) ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (3/352) من طريق أبي القاسم البغوي عن محمد بن هارون الحربي عن أبي المغيرة به. وقال أبو القاسم البغوي: "روى هذا الحديث غير محمد بن هارون عن أبي المغيرة عن صفوان عن عبد الرحمن بن جبير: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم طويلا شطب الممدود، وأحسب أن محمد بن هارون صحف فيه، والصواب ما قال غيره".
(12) المعجم الكبير للطبراني (7/53) وقال الهيثمي في المجمع (1/31) : "في إسناده ياسين الزيات يروي الموضوعات".
(13) في هـ، ف، أ: "عن فليح بن عبيد بن أبي عبيد الشماس عن أبيه" والمثبت من الطبري.
(14) في أ: "فقال".

وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)

حديث إبراهيم بن المنذر الحزَامي بسنده بنحوه، وعنده: فخرجت تدعو بالحسرة وتقول: يا حسرتا! أخلق هذا الحسن للنار؟ وعنده أنه لما رجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، تَطَلَّبها (1) في جميع دور المدينة فلم يجدها، فلما كان من الليلة المقبلة جاءته، فأخبرها بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرت ساجدة، وقالت: الحمد لله الذي جعل لي مخرجًا وتوبة مما عملت. وأعتقت جارية كانت معها وابنتها، وتابت إلى الله عز وجل (2)
ثم قال تعالى مخبرًا عن عموم رحمته بعباده (3) وأنه من تاب إليه منهم تاب عليه من أي ذنب كان، جليل أو حقير، كبير أو صغير: فقال { وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } أي: فإن الله يقبل (4) توبته، كما قال تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء : 110]، وقال { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ التوبة : 104]، وقال { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53]،أي: لمن تاب إليه.
{ وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) }
وهذه أيضا من صفات عباد الرحمن، أنهم: { لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قيل: هو الشرك وعبادة الأصنام. وقيل: الكذب، والفسق، واللغو، والباطل.
وقال محمد بن الحنفية: [هو] (5) اللهو والغناء.
وقال أبو العالية، وطاوس، ومحمد بن سيرين، والضحاك، والربيع بن أنس، وغيرهم: هي أعياد المشركين (6) .
وقال عمرو بن قيس: هي مجالس السوء والخنا.
وقال مالك، عن الزهري: [شرب الخمر] (7) لا يحضرونه ولا يرغبون فيه، كما جاء في الحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر" (8) .
وقيل: المراد بقوله تعالى: { لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } أي: شهادة الزور، وهي الكذب متعمدا على غيره،
__________
(1) في ف: "فطلبها".
(2) تفسير الطبري (19/27) ورواه ابن مردويه كما في الدر المنثور (6/279) وقال السيوطي: "إسناده ضعيف".
(3) في أ: "لعباده".
(4) في أ: "يتقبل".
(5) زيادة من أ.
(6) في ف: "للمشركين".
(7) زيادة من ف، أ.
(8) رواه الترمذي في السنن برقم (2801) من طريق ليث بن أبي سليم عن طاوس عن جابر به مرفوعا، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث طاوس عن جابر إلا من هذا الوجه" ثم نقل كلام العلماء في تضعيف ليث بن أبي سليم.

كما [ثبت] (1) في الصحيحين عن أبي بَكْرَة قال: قال (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكْبر الكبائر" ثلاثا، قلنا: بلى، يا رسول الله، قال: "الشرك بالله، وعقوق الوالدين". وكان متكئًا فجلس، فقال: "ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور [ألا وقول الزور وشهادة الزور]. (3) فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت (4) .
والأظهر من السياق أن المراد: لا يشهدون الزور، أي: لا يحضرونه؛ ولهذا قال: { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } أي: لا يحضرون الزور، وإذا اتفق مرورهم به مرُّوا، ولم يتدنسوا منه بشيء (5) ؛ ولهذا قال: { مَرُّوا كِرَامًا } .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو الحسين العجلي، عن محمد بن مسلم، أخبرني إبراهيم بن مَيْسَرة، أن ابن مسعود مر بلهو معرضًا (6) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد أصبح ابن مسعود، وأمسى كريمًا".
وحدثنا الحسن بن محمد بن سلمة النحوي، حدثنا حبان، أنا عبد الله، أنا محمد بن مسلم، أخبرني ابن ميسرة قال: بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضا فلم يقف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (7) : " لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما" (8) . ثم تلا إبراهيم بن ميسرة: { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } (9) .
وقوله: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } [و] (10) هذه من صفات المؤمنين { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الأنفال:2]، بخلاف الكافر، فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه ولا يُقْصر عما كان عليه، بل يبقى مستمرا على كفره وطغيانه وجهله وضلاله، كما قال تعالى: { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 124 -125] .
فقوله: { لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } أي: بخلاف الكافر الذي ذكر بآيات ربه، فاستمر على حاله، كأن لم يسمعها أصم أعمى.
قال مجاهد: قوله: { لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } لم يسمعوا : ولم يبصروا، ولم يفقهوا شيئًا.
وقال الحسن البصري: كم من رجل يقرؤها ويخر عليها أصم أعمى.
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ف، أ: "عن".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) صحيح البخاري برقم (2654) وصحيح مسلم برقم (87).
(5) في أ: "فيه شيء".
(6) في أ: "فلم يقف".
(7) في أ: "النبي".
(8) زيادة من ف، أ.
(9) ورواه ابن عساكر كما في المختصر لابن منظور (14/55) من طريق إبراهيم بن ميسرة به.
(10) زيادة من أ.

وقال قتادة: قوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } يقول: لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه، فهم -والله -قوم عقلوا عن الله (1) وانتفعوا بما (2) سمعوا من كتابه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أسيد بن عاصم، حدثنا عبد الله بن حُمْران، حدثنا ابن عَوْن قال: سألت الشعبي قلت: الرجل يرى القوم سجودا ولم يسمع ما سجدوا، أيسجد معهم؟ قال: فتلا هذه الآية: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } يعني: أنه لا يسجد معهم لأنه لم يتدبر آية السجدة (3) فلا ينبغي للمؤمن أن يكون إمعة، بل يكون على بصيرة من أمره، ويقين واضح بَيِّن.
وقوله: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } يعني: الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم وذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له.
قال ابن عباس: يعنون من يعمل بالطاعة، فتقرُّ به أعينهم في الدنيا والآخرة.
وقال عكرمة: لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالا ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين.
وقال الحسن البصري -وسئل عن هذه الآية -فقال: أن يُري الله العبد المسلم من زوجته، ومن أخيه، ومن حميمه طاعة الله. لا والله ما شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولدا، أو ولد ولد، أو أخا، أو حميما مطيعا لله عز وجل.
وقال ابن جُرَيْج في قوله: { هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } قال: يعبدونك ويحسنون (4) عبادتك، ولا يجرون علينا الجرائر.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني: يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يَعْمَر (5) بن بشر (6) حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا صفوان بن عمرو، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يومًا، فمر به رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم! لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت. فاستغضب، فجعلت أعجبُ، ما قال إلا خيرًا! ثم أقبل إليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى مَحْضَرًا غيبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه؟ والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبَّهم الله على مناخرهم في جهنم، لم يجيبوه ولم يصدقوه، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين لما جاء به نبيكم، قد (7) كُفيتم البلاء بغيركم؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها نبيًا من الأنبياء في فترة من جاهلية، ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان. فجاء بفُرقان فَرَقَ به بين الحق والباطل، وفَرَقَ بين الوالد وولده، حتى إن كان الرجل ليرى والده وولده، أو أخاه كافرًا، وقد فتح الله قُفْل قلبه للإيمان، يعلم أنه إن هلك دخل
__________
(1) في أ: "الحق".
(2) في أ: "مما".
(3) في ف، أ: "أمر السجدة".
(4) في أ: "فيحسنون".
(5) في هـ، ف، أ: "معمر" والمثبت من المسند.
(6) في أ: "بشير".
(7) في ف، أ: "وقد".

أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)

النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار، وإنها التي قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } . وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجوه (1) .
وقوله: { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس: أئمة يقتدى بنا في الخير.
وقال غيرهم: هداة مهتدين (2) [ودعاة] (3) إلى الخير، فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم (4) وأن يكون هداهم متعديًا (5) إلى غيرهم بالنفع، وذلك أكثر (6) ثوابًا، وأحسن مآبًا؛ ولهذا ورد في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده، أو صدقة جارية" (7) .
{ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) } .
لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من [هذه] (8) الصفات الجميلة، والأفعال والأقوال (9) الجليلة (10) -قال بعد ذلك كله: { أُوْلَئِك } أي: المتصفون بهذه { يُجْزَوْن } أي: يوم القيامة { الْغُرْفَةَ } وهي الجنة.
قال أبو جعفر الباقر، وسعيد بن جبير، والضحاك، والسُّدِّيّ: سميت بذلك لارتفاعها.
{ بِمَا صَبَرُوا } أي: على القيام بذلك { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا } أي: في الجنة { تَحِيَّةً وَسَلامًا } أي: يُبْتَدرُون (11) فيها بالتحية والإكرام، ويلقون [فيها] (12) التوقير والاحترام، فلهم السلام وعليهم السلام، فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار .
وقوله: { خَالِدِينَ فِيهَا } أي: مقيمين، لا يظعنون ولا يَحُولون ولا يموتون، ولا يزولون عنها ولا يبغون عنها حولا كما قال تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108] .
وقوله { حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } أي: حسنت منظرا وطابت مَقيلا ومنزلا.
__________
(1) المسند (6/2).
(2) في أ: "مهديين".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "ذراريهم".
(5) في أ: "متعد".
(6) في أ: "أكبر".
(7) صحيح مسلم برقم (1631).
(8) زيادة من ف، أ.
(9) في ف، أ: "الأقوال والأفعال".
(10) في أ: "الجميلة".
(11) في أ: "يبتدون".
(12) زيادة من ف، أ.

ثم قال (1) تعالى: { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي } أي: لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه؛ فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا.
وقال مجاهد، وعمرو بن شعيب: { مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي } يقول: ما يفعل بكم ربي.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ } يقول: لولا إيمانكم، وأخبر الله الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه (2) إلى المؤمنين.
وقوله: { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } أي: أيها الكافرون { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } أي: فسوف يكون تكذيبكم (3) لزامًا لكم، يعني: مقتضيا لهلاككم وعذابكم ودماركم في الدنيا والآخرة، ويدخل في ذلك يوم بدر، كما فسره بذلك عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومحمد بن كعب القرظي، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم.
وقال الحسن البصري: { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } يعني: يوم القيامة. ولا منافاة بينهما. والله أعلم.
__________
(1) في أ: "وقال".
(2) في ف: "حبب".
(3) في أ: "تكذيبهم".

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشعراء
وهي مكية. وَوَقع في تفسير مالك المروي عنه تسميتُها: سورة الجامعة.
{ طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) } .
أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور، فقد تكلمنا عليه في أول تفسير سورة البقرة.
وقوله: { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } أي: هذه آيات القرآن المبين، أي: البين الواضح، الذي يفصل بين الحق والباطل، والغي والرشاد.
وقوله: { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ } أي: مهلك { نفسك } أي: مما تحرص [عليهم] (1) وتحزن عليهم { أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } ، وهذه تسلية من الله لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه، في عدم إيمان مَنْ لم يؤمن به من الكفار، كما قال تعالى: { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر:8]، وقال: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } [الكهف:6].
قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وعطية، والضحاك: { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ } أي: قاتل نفسك. قال الشاعر (2)
ألا أيّهذاَ البَاخعُ الحُزنُ نفسَه ... لشيء (3) نَحَتْهُ عَنْ يَدَيه الَمقَادِرُ ...
ثم قال الله تعالى: { إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } أي: لو شئنا لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا، ولكَّنا لا نفعل ذلك؛ لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري؛ وقال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [يونس:99]، وقال: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } [هود: 118 ، 119]، فنَفَذ قَدَرُه، ومضت (4) حكمته، وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم.
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) هو ذو الرمة، والبيت في تفسير الطبري (19/37).
(3) في ف: "بشيء".
(4) في ف، أ: "وقضت".

وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)

ثم قال: { وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ } أي: كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس، كما قال: { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف:103]، وقال: { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [يس:30]، وقال: { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } [المؤمنون: 44]؛ ولهذا قال تعالى هاهنا: { فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي: فقد كذبوا بما جاءهم من الحق، فسيعلمون نبأ هذا التكذيب بعد حين، { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } [الشعراء: 227] .
ثم نبه تعالى على عظمته في سلطانه وجلالة قدره وشأنه، الذين اجترؤوا على مخالفة رسوله وتكذيب كتابه، وهو القاهر العظيم القادر، الذي خلق الأرض وأنبت فيها من كل زوج كريم، من زروع وثمار وحيوان.
قال سفيان الثوري، عن رجل، عن الشعبي: الناس من نبات الأرض، فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } أي: دلالة على قدرة الخالق للأشياء، الذي بسط الأرض ورفع بناء السماء، ومع هذا ما آمن أكثر الناس، بل كذبوا به وبرسله وكتبه، وخالفوا أمره (1) وارتكبوا زواجره.
وقوله: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ } أي: الذي عَزّ كلَّ شيء وقهره وغلبه، { الرحيم } أي: بخلقه، فلا يعجل على مَنْ عصاه، بل ينظره ويؤجله ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
قال أبو العالية، وقتادة، والربيع بن أنس، و[محمد (2) ] بن إسحاق: العزيز في نقمته وانتصاره ممن خالف أمره وعبد غيره.
وقال سعيد بن جبير: الرحيم بِمَنْ تاب إليه وأناب.
{ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) }
__________
(1) في أ: "أوامره".
(2) زيادة من ف، أ.

قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)

{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) }

يقول تعالى مخبرًا عما أمر به عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران، صلوات الله وسلامه عليه، حين ناداه من جانب الطور الأيمن، وكلمه وناجاه، وأرسله واصطفاه، وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه؛ ولهذا قال: { أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ } هذه أعذار سأل من الله إزاحتها عنه، كما قال في سورة طه: { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } [طه:25-36] .
وقوله: { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ } أي: بسبب ما كان [من] (1) قتل ذلك القبطي الذي كان سبب خروجه من بلاد مصر.
{ قَالَ كَلا } أي: قال الله له: لا تخف من شيء من ذلك كما قال: { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا } أي: برهانا { فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ } [القصص:35] .
{ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } كما قال تعالى: { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه:46] أي: إنني معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي.
{ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، وقال في الآية الأخرى: { إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ } [طه:47] أي: كل منا رسول الله إليك، { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي: أطلقهم من إسارك وقبضتك وقهرك وتعذيبك، فإنهم عباد الله المؤمنون، وحزبه المخلصون، وهم معك في العذاب المهين. فلما قال له موسى ذلك أعرض فرعون عما هنالك بالكلية، ونظر بعين الازدراء والغمص فقال: { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ .[ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ] } (2) [ أي: أما أنت الذي ربيناه فينا (3) ]، وفي بيتنا وعلى فراشنا [وغذيناه (4) ] ، وأنعمنا عليه مدة من السنين، ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بتلك الفعلة، أن قتلت منا رجلا وجحدت نعمتنا عليك؛ ولهذا قال: { وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } أي: الجاحدين. قاله ابن عباس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير.
{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا } أي: في تلك الحال، { وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ } أي: قبل أن يوحى إليّ وينعم الله عليَّ بالرسالة والنبوة (5) .
قال ابن عباس، رضي الله عنهما، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وغيرهم: { وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ } أي: الجاهلين.
قال ابن جُرَيْج: وهي كذلك في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
{ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ } أي: الحال الأول انفصل
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) زيادة من ف، أ.
(3) زيادة من ف، أ.
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ف: "بالنبوة والرسالة".

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49