الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي

أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)

{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) }
يقول تعالى: لا يستوي المؤمنون والكافرون، كما قال: { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ الحشر: 20] وقال هاهنا: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ } أي: عملوها وكسبوها { أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } أي: نساويهم بهم في الدنيا والآخرة! { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي: ساء ما ظنوا بنا وبعدلنا أن نُسَاوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة، وفي هذه الدار.
قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا مُؤمَّل بن إهابَ، حدثنا بُكَير (1) بن عثمان التَّنُوخِي، حدثنا الوَضِين بن عطاء، عن يزيد بن مَرْثَد الباجي (2) ، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: إن الله بنى دينه على أربعة أركان، فمن صبر عليهن ولم يعمل بهن لقي الله [وهو] (3) من الفاسقين. قيل: وما هن يا أبا ذر؟ قال: يسلم حلال الله لله، وحرام الله لله، وأمر الله لله، ونهي الله لله، لا يؤتمن عليهن إلا الله.
__________
(1) في أ: "بكر".
(2) في ت: "وروى الحافظ أبو يعلى بإسناده".
(3) زيادة من ت.

وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)

قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "كما أنه لا يجتنى من الشوك (1) العنب، كذلك لا ينال الفجار منازل الأبرار" (2) .
هذا حديث غريب من هذا الوجه. وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب "السيرة" أنهم وجدوا حجرا بمكة في أسِّ الكعبة مكتوب (3) عليه: تعملون السيئات وترجون الحسنات؟ أجل كما يجتنى من الشوك العنب (4) .
وقد روى الطبراني من حديث شعبة، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي الضحى، عن مسروق (5) ، أن تميما الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ؛ ولهذا قال تعالى: { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }
، وقال (6) { وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ } أي: بالعدل، { وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } (7) .
ثم قال [تعالى] (8) { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } أي: إنما يأتمر بهواه، فمهما رآه حسنا فعله، ومهما رآه قبيحا تركه: وهذا قد يستدل به على المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين.
وعن مالك فيما روي عنه من التفسير: لا يهوى شيئا إلا عبده.
وقوله: { وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } يحتمل قولين:
أحدها (9) وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك. والآخر: وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه، وقيام الحجة عليه. والثاني يستلزم الأول، ولا ينعكس.
{ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } أي: فلا يسمع ما ينفعه، ولا يعي شيئا يهتدي به، ولا يرى حجة يستضيء بها؛ ولهذا قال: { فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } كقوله: { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ (10) وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف: 186] .
{ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) }
يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد: { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا }
__________
(1) في ت: "الشوكة".
(2) وذكره ابن حجر في المطالب العالية (3/154) وعزاه لأبي يعلى، وأظنه في الكبير، ويزيد بن مرثد الهمداني روايته عن أبي ذر مرسله. تنبيه: وقع هنا "الباجي" ولم يقع لي هذه النسبة له.
(3) في ت، م: "مكتوبا" وهو الصواب.
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/196).
(5) في ت: "وقد روى الطبراني بسنده".
(6) في ت، م، أ: "وقوله".
(7) المعجم الكبير (2/50).
(8) زيادة من ت.
(9) في أ: "أحدهما".
(10) في ت، م: "ومن يضلل الله فما له من هاد" وهو خطأ.

أي: ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون وما ثم معاد ولا قيامة وهذا يقوله مشركو (1) العرب المنكرون للمعاد، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البداءة (2) والرجعة، ويقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه. وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا المعقول (3) وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا (4) { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ } قال الله تعالى: { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } أي: يتوهمون ويتخيلون.
فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح، وأبو داود، والنسائي، من رواية سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب ليله ونهاره" (5) وفي رواية: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر" (6) .
وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جدا فقال: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، وهو الذي يهلكنا، يميتنا ويحيينا، فقال الله في كتابه: { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ } قال: "ويسبون الدهر، فقال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" (7) .
وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن منصور، عن شُرَيْح بن النعمان، عن ابن عيينة مثله: ثم روي عن يونس، عن ابن وهب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: يسب ابن آدم الدهر، وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار".
وأخرجه (8) صاحبا الصحيح والنسائي، من حديث يونس بن زيد، به (9) .
وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله: استقرضت عبدي فلم يعطني، وسَبّنِي عبدي، يقول: وادهراه. وأنا الدهر" (10) .
قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله، عليه الصلاة والسلام: "لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر": كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة، قالوا: يا
__________
(1) في أ: "منكرو".
(2) في أ: "البداوة".
(3) في ت، أ: "وكابروا العقول".
(4) في ت، أ: "قال".
(5) صحيح البخاري برقم (4826) وصحيح مسلم برقم (2246) وسنن أبي داود برقم (5274) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11687).
(6) صحيح مسلم برقم (2246).
(7) تفسير الطبري (25/92).
(8) في ت: "أخرجاه" وهو خطأ، والصواب: "أخرجه"؛ حتى لا يجتمع عاملان على معمول واحد.
(9) صحيح البخاري برقم (6181) وصحيح مسلم برقم (2246) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11686).
(10) رواه الطبري في تفسيره (25/92) من طريق سلمة عن محمد بن إسحاق به، وخالفه يزيد بن هارون، فرواه عن محمد ابن إسحاق، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، به وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/453) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم".

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)

خيبة الدهر. فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله [عز وجل] (1) فكأنهم إنما سبوا، الله عز وجل؛ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نُهي (2) عن سب الدهر بهذا الاعتبار؛ لأن الله هو الدهر الذي يعنونه، ويسندون إليه تلك الأفعال.
هذا أحسن ما قيل في تفسيره، وهو المراد، والله أعلم. وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى، أخذا من هذا الحديث. .
وقوله (3) تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } (4) أي: إذا استدل عليهم وبين لهم الحق، وأن الله قادر على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها، { مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي: أحيوهم إن كان ما تقولونه حقا.
قال الله تعالى: { قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ } أي: كما تشاهدون ذلك يخرجكم من العدم إلى الوجود، { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة: 28] أي: الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى.. { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم 27 ]، { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ } أي: إنما يجمعكم ليوم القيامة لا يعيدكم في الدنيا حتى تقولوا: { ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ } [ التغابن: 9 ] (5) { لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ . لِيَوْمِ الْفَصْلِ } [ المرسلات: 12 ، 13 ]، { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ } [ هود: 104 ] وقال هاهنا: { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ } أي: لا شك فيه، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } أي: فلهذا ينكرون المعاد، ويستبعدون قيام الأجساد، قال الله تعالى: { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا } [ المعارج: 6 ، 7 ] أي: يرون وقوعه بعيدا، والمؤمنون يرون ذلك سهلا قريبا.
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) }
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض، الحاكم فيهما (6) في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ } أي: يوم (7) القيامة { يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ } وهم الكافرون بالله الجاحدون بما أنزله على رسله من الآيات البينات والدلائل الواضحات.
وقال ابن أبي حاتم: قدم سفيان الثوري المدينة، فسمع المعافري (8) يتكلم ببعض ما يضحك به الناس. فقال له: يا شيخ، أما علمت أن لله يومًا يخسر فيه المبطلون؟ قال: فما زالت تعرف في المعافري (9) حتى لحق بالله، عز وجل. ذكره ابن أبي حاتم.
__________
(1) زيادة من ت، م.
(2) في أ: "أنهى".
(3) في ت: "وقال".
(4) في م: "عليه" وهو خطأ.
(5) في ت: "الفصل" وهو خطأ.
(6) في م: "فيما".
(7) في ت، أ: "تقوم".
(8) في ت، م، أ: "العاضري".
(9) في ت، م، أ: "العاضري".

ثم قال: { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } أي: على ركبها من الشدة والعظمة، ويقال: إن هذا [يكون] (1) إذا جيء بجهنم فإنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه، حتى إبراهيم الخليل، ويقول: نفسي، نفسي، نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي، وحتى أن عيسى ليقول: لا أسألك اليوم إلا نفسي، لا أسألك [اليوم] (2) مريم التي ولدتني.
قال مجاهد، وكعب الأحبار، والحسن البصري: { كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } أي: على الركب. وقال عِكْرِمة: { جاثية } متميزة على ناحيتها، (3) وليس على الركب. والأول أولى.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عبد الله بن باباه (4) ، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (5) قال: "كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم" (6) .
وقال إسماعيل بن رافع المديني (7) ، عن محمد بن كعب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا في حديث الصورة (8) : فيتميز الناس وتجثو الأمم، وهي التي يقول الله: { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } (9) .
وهذا فيه جمع بين القولين: ولا منافاة، والله أعلم.
وقوله: { كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } يعني: كتاب أعمالها، كقوله: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } [ الزمر: 69 ]؛ ولهذا قال: { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: تجازون بأعمالكم خيرها وشرها، كقوله تعالى: { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ . بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } [ القيامة: 13 -15 ] .
ثم قال: { هَذَا (10) كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ } أي: يستحضر (11) جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص (12) ، كقوله تعالى: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف: 49] .
وقوله: { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم.
قال ابن عباس وغيره: تكتب الملائكة أعمال العباد، ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابلون الملائكة الذين في ديوان الأعمال على ما بأيديهم مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر، مما كتبه (13) الله في القدم على العباد قبل أن يخلقهم، فلا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا، ثم قرأ: { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "ناصيتها".
(4) في ت: "وقال ابن أبي حاتم بإسناده".
(5) زيادة من ت.
(6) ورواه أبو نعيم في زوائد زهد ابن المبارك برقم (360) وأبو نعيم في الحلية (7/299) من طريق سفيان بن عيينة به.
(7) في أ: "المدني".
(8) في ت، م، أ: "الصور".
(9) انظر تفسير حديث الصور عند الآية: 73 من سورة الأنعام.
(10) في ت، م، أ: "ولهذا" وهو خطأ.
(11) في أ: "سيحضر".
(12) في م: "نقصان".
(13) في أ: "مما قد كتبه".

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)

{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) }

وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

{ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السمواتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) } .
يخبر تعالى عن حكمه في خلقه يوم القيامة، فقال: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي: آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحات (1) ، وهي الخالصة الموافقة للشرع، { فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ } ، وهي الجنة، كما ثبت في الصحيح أن الله قال للجنة: "أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء" (2) .
{ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } أي: البين الواضح.
ثم قال: { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ } أي: يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا: أما (3) قرئت عليكم آيات الرحمن فاستكبرتم عن اتباعها، وأعرضتم عند (4) سماعها، { وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ } أي: في أفعالكم، مع ما اشتملت عليه قلوبكم من التكذيب؟
{ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا } أي: إذا قال لكم المؤمنون ذلك، { قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ } أي: لا نعرفها، { إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا } أي: إن نتوهم وقوعها إلا توهما، أي مرجوحا (5) ؛ ولهذا قال: { وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } أي: بمتحققين، قال الله تعالى: { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا } أي: وظهر لهم عقوبة أعمالهم السيئة، { وَحَاقَ بِهِمْ } أي: أحاط بهم { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي: من العذاب والنكال، { وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ } أي: نعاملكم معاملة الناسي لكم في نار جهنم { كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } أي: فلم تعملوا له لأنكم لم تصدقوا به، { وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }
وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة: "ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟
__________
(1) في ت، أ: "الصالحة".
(2) صحيح البخاري برقم (4850) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(3) في أ: "لما".
(4) في أ: "عن".
(5) في أ: "مرجوعا".

ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتَرْبَع؟ فيقول: بلى، يا رب. فيقول: أفظننت أنك مُلاقيّ؟ فيقول: لا. فيقول الله تعالى: فاليوم أنساك كما نسيتني" (1) .
قال الله تعالى: { ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } أي: إنما جازيناكم هذا الجزاء لأنكم اتخذتم حجج الله عليكم سخريا، تسخرون وتستهزئون بها، { وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي: خدعتكم فاطمأننتم إليها، فأصبحتم من الخاسرين؛ ولهذا قال: { فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا } أي: من النار { وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي: لا يطلب منهم العتبى، بل يعذبون بغير حساب ولا عتاب، كما تدخل طائفة من المؤمنين الجنة بغير عذاب ولا حساب.
ثم لما ذكر حكمه في المؤمنين والكافرين قال: { فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السمواتِ وَرَبِّ الأرْضِ } أي: المالك لهما وما فيهما؛ ولهذا قال: { رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
ثم قال: { وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السمواتِ وَالأرْضِ } قال مجاهد: يعني السلطان. أي: هو العظيم الممجد، الذي كل شيء خاضع لديه فقير إليه. وقد ورد في الحديث الصحيح: "يقول الله تعالى (2) العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما أسكنته ناري". ورواه مسلم من حديث الأعمش، عن أبي إسحاق، عن الأغر أبي مسلم، عن أبي هريرة وأبي سعيد، رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه (3) .
وقوله: { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي: الذي لا يغالب ولا يمانع، { الحكيم } في أقواله وأفعاله، وشرعه وقدره، تعالى وتقدس، لا إله إلا هو (4) .
آخر تفسير سورة الجاثية [ولله الحمد والمنة] (5)
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2968) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(2) في ت: "أن الله تعالى يقول".
(3) صحيح مسلم برقم (2620).
(4) في أ: "لا إله غيره ولا رب سواه".
(5) زيادة من ت، م، أ.

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)

تفسير سورة الأحقاف
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ حم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) }

وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)

{ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) } .
يخبر تعالى أنه نزل الكتاب على عبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين، ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام، والحكمة في الأقوال والأفعال، ثم قال: { مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ } أي: لا على وجه العبث والباطل، { وَأَجَلٌ مُسَمًّى } أي: إلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص.
قوله: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ } أي: لاهون (1) عما يراد بهم، وقد أنزل إليهم كتابا وأرسل إليهم رسول، وهم معرضون عن ذلك كله، أي: وسيعلمون غبّ ذلك.
ثم قال: { قُلْ } أي: لهؤلاء المشركين العابدين مع الله غيره: { أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ } أي: أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الأرض، { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ } أي: ولا شرك لهم في السموات ولا في الأرض، وما يملكون من قطمير، إن المُلْك والتصرّف كله إلا الله، عز وجل، فكيف تعبدون معه غيره، وتشركون به؟ من أرشدكم إلى هذا؟ من دعاكم إليه؟ أهو أمركم به؟ أم هو شيء اقترحتموه من عند أنفسكم؟ ولهذا قال: { اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا } أي: هاتوا كتابا من كتب الله المنزلة على الأنبياء (2) ، عليهم الصلاة والسلام، يأمركم بعبادة هذه الأصنام، { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } أي: دليل بَيِّن على هذا المسلك الذي سلكتموه { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي: لا دليل لكم نقليًا ولا عقليا على ذلك؛ ولهذا قرأ آخرون: "أو أثَرَة من علم" أي: أو علم صحيح يأثرونه عن أحد ممن قبلهم، كما قال مجاهد في قوله: { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } أو أحد يأثُر علما.
__________
(1) في ت، م، أ: "لاهين".
(2) في ت، م، أ: "هاتوا كتابا من الكتب المنزلة على أنبيائهم".

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)

وقال العَوْفي، عن ابن عباس: أو بينة من الأمر.
وقال (1) الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثنا صفوان بن (2) سُلَيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ابن عباس قال سفيان: لا أعلم إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أو أثَرَة من علم" قال: "الخط" (3) .
وقال أبو بكر بن عياش: أو بقية من علم. وقال الحسن البصري: { أَوْ أَثَارَةٍ } شيء يستخرجه فيثيره.
وقال ابن عباس، ومجاهد، وأبو بكر بن عياش أيضا: { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } يعني الخط.
وقال قتادة: { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } خاصة من علم.
وكل هذه الأقوال متقاربة، وهي راجعة إلى ما قلناه، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله وأكرمه، وأحسن مثواه.
وقوله: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } أي: لا أضل ممن يدعو أصناما، ويطلب منها ما لا تستطيعه إلى يوم القيامة، وهي غافلة عما يقول، لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش؛ لأنها جماد حجَارة صُمّ.
وقوله: { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } ، كقوله تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [مريم: 81 ، 82] أي: سيخونونهم (4) أحوج ما يكونون إليهم، وقال الخليل: { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [العنكبوت: 25].
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) } .
يقول تعالى مخبرا عن المشركين في كفرهم وعنادهم: أنهم إذا تتلى عليهم آيات الله بينات، أي: في حال بيانها ووضوحها وجلائها، يقولون: { هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } أي: سحر واضح، وقد كَذَبوا وافتروا وضَلّوا وكفروا { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } يعنون: محمدا صلى الله عليه وسلم. قال الله [تعالى] (5) { قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } أي: لو كذبت عليه وزعمت أنه أرسلني -وليس كذلك-لعاقبني أشد
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) في أ: "عن" وهو خطأ.
(3) المسند (1/226).
(4) في أ: "سيجدونهم".
(5) زيادة من ت، أ.

العقوبة، ولم يَقْدرْ أحد من أهل الأرض، لا أنتم ولا غيركم أن يجيرني منه، كقوله: { قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ } [الجن: 22 ، 23] ، وقال تعالى: { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ. لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [الحاقة: 44 -47] ؛ ولهذا قال هاهنا: { قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } ، هذا تهديد لهم ، ووعيد أكيد ، وترهيب شديد.
وقوله: { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ترغيب لهم إلى التوبة والإنابة، أي: ومع هذا كله إن رجعتم وتبتم، تاب عليكم وعفا عنكم، وغفر [لكم] (1) ورحم. وهذه الآية كقوله في سورة الفرقان: { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا. قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } [الفرقان: 5 ، 6] .
وقوله: { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ } أي: لست بأول رسول طرق العالم، بل قد جاءت الرسل من قبلي، فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا (2) بعثتي إليكم، فإنه قد أرسل الله قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم.
قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ } ما أنا بأول رسول. ولم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم غير ذلك.
وقوله: { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: نزل بعدها { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [الفتح: 2]. وهكذا قال عكرمة، والحسن، وقتادة: إنها منسوخة بقوله: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } ، قالوا: ولما نزلت هذه الآية قال رجل من المسلمين: هذا قد بين الله ما هو فاعل بك يا رسول الله، فما هو فاعل بنا؟ فأنزل الله: { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ } [الفتح: 5].
هكذا قال، والذي هو ثابت في الصحيح أن المؤمنين قالوا: هنيئا لك يا رسول الله، فما لنا؟ فأنزل الله هذه الآية.
وقال الضحاك: { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ } : ما أدري بماذا أومر، وبماذا أنهى بعد هذا؟
وقال أبو بكر الهذلِيّ، عن الحسن البصري في قوله: { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ } قال: أما في الآخرة فمعاذ الله، قد علم أنه في الجنة، ولكن قال: لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، أخرج كما أخرجت الأنبياء [من] (3) قبلي؟ أم أقتل كما قتلت الأنبياء من قبلي؟ ولا أدري أيخسف بكم أو تُرمون بالحجارة؟
وهذا القول هو الذي عَوّل عليه ابن جرير، وأنه لا يجوز غيره، ولا شك أن هذا هو اللائق به، صلوات الله وسلامه عليه، فإنه بالنسبة إلى الآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يئُول إليه أمره وأمر مشركي قريش إلى ماذا: أيؤمنون أم يكفرون، فيعذبون
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت، م، أ: "وتستبعدون".
(3) زيادة من أ.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)

فيستأصلون بكفرهم (1) ؟ فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن شهاب عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أم العلاء -وهي امرأة من نسائهم-أخبرته -وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم-قالت: طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمانُ بن مظعون. فاشتكى عثمان عندنا فَمرَّضناه، حتى إذا توفي أدْرَجناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، شهادتي عليك، لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله أكرمه؟" فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما هو فقد جاءه (2) اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي!" قالت: فقلت: والله لا أزكي أحدا بعده أبدا. وأحزنني ذلك، فنمت فرأيت لعثمان عينا تجري، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك (3) عمله".
فقد انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم (4) ، وفي لفظ له: "ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به" (5) . وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ، بدليل قولها: "فأحزنني ذلك". وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إلا الذي (6) نص الشارع على تعيينهم، كالعشرة، وابن سلام، والغُميصاء، وبلال، وسراقة، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد (7) جابر، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة، وزيد بن حارثة، وجعفر، وابن رواحة، وما أشبه هؤلاء.
وقوله: { إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ } أي: إنما أتبع ما ينزله الله عليَّ من الوحي، { وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي: بين النّذَارة، وأمري (8) ظاهر لكل ذي لب وعقل.
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) } .
يقول تعالى: { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن: { أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ } هذا القرآن { مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ } أي: ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزله
__________
(1) في ت، أ: "كغيرهم".
(2) في أ: "جاءه والله".
(3) في ت: "ذلك".
(4) المسند (6/436) وصحيح البخاري برقم (1243).
(5) صحيح البخاري برقم (2687).
(6) في أ: "الذين".
(7) في ت: "أبو".
(8) في أ: "أرى".

عليَّ لأبلغكموه، وقد كَفَرتم به وكذبتموه، { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ } أي: وقد شهدت بصدقه وصحته الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء قبلي، بشرت به وأخبرت بمثل ما أخبر هذا القرآن به.
وقوله: { فَآمَنَ } أي: هذا الذي شهد بصدقه من بني إسرائيل لمعرفته بحقيته { وَاسْتَكْبَرْتُمْ } أنتم: عن اتباعه.
وقال مسروق: فآمن هذا الشاهد بنبيه وكتابه، وكفرتم أنتم بنبيكم وكتابكم { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
وهذا الشاهد اسم جنس يعم عبد الله بن سلام وغير،ه فإن هذه الآية مكية نزلت قبل إسلام عبد الله بن سلام. وهذه كقوله: { وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } [القصص: 53] ، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا } [الإسراء: 107 ، 108] .
قال مسروق، والشعبي: ليس بعبد الله بن سلام، هذه الآية مكية، وإسلام عبد الله بن سلام كان بالمدينة. رواه عنهما ابن جرير وابن أبي حاتم، واختاره ابن جرير.
وقال مالك، عن أبي النَّضْر، عن عامر بن سعد (1) ، عن أبيه قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: "إنه من أهل الجنة"، إلا لعبد الله بن سلام، قال: وفيه نزلت: { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ }
رواه البخاري ومسلم والنسائي، من حديث مالك، به (2) . وكذا قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وعكرمة، ويوسف بن عبد الله بن سلام، وهلال بن يَسَاف، والسُّدَّي، والثوري، ومالك بن أنس، وابن زيد؛ أنهم كلهم قالوا: إنه عبد الله بن سلام.
وقوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } أي: قالوا عن المؤمنين بالقرآن: لو كان القرآن خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه (3) . يعنون بلالا وعمارا وصُهَيبا وخبابا وأشباههم وأقرانهم (4) من المستضعفين والعبيد والإماء، وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة وله بهم عناية. وقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا، وأخطئوا خطأ بينا، كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } [الأنعام: 53] أي: يتعجبون: كيف اهتدى هؤلاء دوننا؛ ولهذا قالوا: { لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } وأما أهل السنة (5) والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة: هو بدعة؛ لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه، لأنهم
__________
(1) في أ: "سعيد".
(2) صحيح البخاري برقم (3812) وصحيح مسلم برقم (2483) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8252).
(3) في ت: "ما سبقونا إليه هؤلاء".
(4) في أ: "وأضرابهم".
(5) في م، ت، أ: "يعني المؤمنين، وأما أهل السنة".

لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها (1) .
وقوله: { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ } أي: بالقرآن { فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ } أي: كذب { قَدِيمٌ } أي: مأثور عن الأقدمين، فينتقصون القرآن وأهله، وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بطر (2) الحق، وغَمْط الناس" (3) .
ثم قال: { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } وهو التوراة { إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ } يعني: القرآن { مُصَدِّقٌ } أي: لما قبله من الكتب { لِسَانًا عَرَبِيًّا } أي: فصيحا بينا واضحا، { لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ } أي: مشتمل على النّذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين.
وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } تقدم تفسيرها في سورة "حم، السجدة". (4)
وقوله: { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي: فيما يستقبلون، { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما خلفوا، { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي: الأعمال سبب لنيل الرحمة لهم وسُبُوغها (5) عليهم.
__________
(1) في ت، م: "إليه".
(2) في أ: "الكبر بطر".
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (91) من حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه.
(4) راجع تفسير هذه الآية عند الآية: 30 من سورة السجدة.
(5) وشيوعها".

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)

{ وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) } .
لما ذكر تعالى في الآية الأولى التوحيد له وإخلاص العبادة والاستقامة إليه، عطف بالوصية بالوالدين، كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن، كقوله: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [الإسراء:23] وقال: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [لقمان: 14] ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. وقال هاهنا: { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا } أي: أمرناه بالإحسان إليهما والحنو عليهما.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، أخبرني سِمَاك بن حرب قال: سمعت مُصْعب بن سعد (1) يحدث عن سعد قال: قالت أم سعد لسعد: أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين، فلا آكل طعاما، ولا أشرب شرابا حتى تكفر بالله. فامتنعت من الطعام والشراب، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا، ونزلت هذه الآية: { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } الآية [العنكبوت: 8] .
__________
(1) في أ: "حرب".

ورواه مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه، من حديث شعبة بإسناده، نحوه وأطول منه (1) .
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا } أي: قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا، من وِحَام وغشيان وثقل وكرب، إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة، { وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } أي: بمشقة أيضا من الطلق وشدته، { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا }
وقد استدل علي، رضي الله عنه، بهذه الآية مع التي في لقمان: { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [لقمان: 14] ، وقوله: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [البقرة: 233] ، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قوي صحيح. ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة، رضي الله عنهم.
قال محمد بن إسحاق بن يسار، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيْط، عن بَعْجَةَ (2) بن عبد الله الجهني قال: تزوج رجل منا امرأة من جُهَيْنة، فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان فذكر ذلك له، فبعث إليها، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها، فقالت: ما يبكيك؟! فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله غيره قط، فيقضي الله في ما شاء. فلما أتي بها عثمان أمر برجمها، فبلغ ذلك عليا فأتاه، فقال له: ما تصنع؟ قال: ولدت تماما لستة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال له [علي] (3) أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قال: أما سمعت الله يقول: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } وقال: { [يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ] حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } (4) ، فلم نجده بقي إلا ستة أشهر، قال: فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا، علي بالمرأة فوجدوها قد فُرِغَ منها، قال: فقال بَعْجَةُ: فوالله ما الغراب بالغراب، ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه. فلما رآه أبوه قال: ابني إني والله لا أشك فيه، قال: وأبلاه (5) الله بهذه القرحة قرحة الآكلة، فما زالت تأكله حتى مات (6) .
رواه ابن أبي حاتم، وقد أوردناه من وجه آخر عند قوله: { فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } [الزخرف: 81] .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا فَرْوَة بن أبي المَغْرَاء، حدثنا علي بن مِسْهَر، عن داود بن أبي هند، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس (7) قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهرا، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرًا، وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين؛ لأن الله تعالى يقول: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا }
{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي: قوى وشب وارتجل { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } أي: تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه. ويقال: إنه لا يتغير غالبا عما يكون عليه ابن الأربعين.
__________
(1) مسند الطيالسي برقم (208) وصحيح مسلم يرقم (1748) وسنن أبي داود برقم (2740) وسنن الترمذي برقم (3079) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11196) لكن النسائي لم يرو الشاهد هنا وإنما روى أوله.
(2) في ت، أ: "معمر".
(3) زيادة من ت، أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في ت، م، أ: "وابتلاه".
(6) ورواه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور للسيوطي 07/441).
(7) في ت: "عن عكرمة وروى عن ابن عباس".

قال أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قلت لمسروق: متى يؤخذ الرجل بذنوبه؟ قال: إذا بَلَغْتَ الأربعين، فَخُذْ حذرك.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عُبَيد الله القواريري، حدثنا عَزْرَة بن قيس الأزدي -وكان قد بلغ مائة سنة-حدثنا أبو الحسن السلولي (1) عنه وزادني (2) قال: قال محمد بن عمرو بن عثمان، عن عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله حسابه، وإذا بلغ (3) ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه، وإذا بلغ سبعين سنة أحبّه أهل السماء، وإذا بلغ ثمانين سنة ثبت الله حسناته ومحا سيئاته، وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفَّعه الله في أهل بيته، وكتب في السماء: أسير (4) الله في أرضه" (5) .
وقد روي هذا من غير هذا الوجه، وهو في مسند الإمام أحمد (6) (7) .
وقد قال الحجاج بن عبد الله الحكمي أحد أمراء بني أمية بدمشق: تركت المعاصي والذنوب أربعين سنة حياء من الناس، ثم تركتها حياء من الله، عز وجل.
وما أحسن قول الشاعر:
صَبَا ما صَبَا حَتى عَلا الشَّيبُ رأسَهُ ... فلمَّا عَلاهُ قال للباطل: ابطُل (8)
{ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي } أي: ألهمني { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ } أي: في المستقبل، { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي } أي: نسلي وعقبي، { إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله، عز وجل، ويعزم عليها.
وقد روى أبو داود في سننه، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد: "اللهم، ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبُل (9) السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا، وأزواجنا، وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها قابليها، وأتممها علينا" (10) .
قال الله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي: هؤلاء المتصفون بما ذكرنا، التائبون إلى الله المنيبون إليه، المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار، هم الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم، فيغفر لهم الكثير من الزلل، ويتقبل منهم اليسير من العمل، { فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ } أي: هم في جملة أصحاب الجنة، وهذا حكمهم عند الله كما وعد
__________
(1) في م، أ: "أبو الحسن الكوفي- عمر بن أوس".
(2) في ت: "وروى الحافظ".
(3) في ت، م: "رزقه".
(4) في ت، م، أ: "أمين".
(5) قال الهيثمي في المجمع (10/205): "رواه أبو يعلى في الكبير وفيه عزرة بن قيس الأزدي، وهو ضعيف".
(6) في ت: "وهذا الحديث في مسند الإمام أحمد".
(7) رواه الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، المسند (3/218).
(8) في ت، م، أ: "أبعد".
(9) في ت: "سبيل".
(10) سنن أبي داود برقم (969).

الله من تاب إليه وأناب؛ ولهذا قال: { وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ }
قال (1) ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا المُعْتَمِر بن سليمان، عن الحكم بن أبان، عن الغطْرِيف، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس (2) ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الروح الأمين، عليه (3) السلام، قال: "يؤتى (4) بحسنات العبد وسيئاته (5) ، فيقتص (6) بعضها ببعض، فإن بقيت حسنة وسع الله له في الجنة" قال: فدخلتُ على يزداد فَحُدّث بمثل هذا الحديث قال: قلت: فإن ذهبت الحسنة؟ قال: { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } (7) .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، عن المعتمر بن سليمان، بإسناده مثله -وزاد عن الروح الأمين. قال: قال الرب، جل جلاله: يؤتى بحسنات العبد وسيئاته... فذكره، وهو حديث غريب، وإسنادٌ جيد لا بأس به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سليمان بن مَعْبَد، حدثنا عمرو بن عاصم الكلائي، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر (8) جعفر بن أبي وَحْشية، عن يوسف بن سعد (9) ، عن محمد بن حاطب قال: ونزل في داري حيث ظهر علي على أهل البصرة، فقال لي يوما: لقد شهدتُ أمير المؤمنين عليا، وعنده عمارا وصعصعة والأشتر ومحمد بن أبي بكر، فذكروا عثمان فنالوا منه، وكان علي، رضي الله عنه، على السرير، ومعه عود في يده، فقال قائل منهم: إن عندكم من يفصل بينكم فسألوه، فقال علي: كان عثمان من الذين قال الله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } قال: والله عثمان وأصحاب عثمان -قالها ثلاثا-قال يوسف: فقلت لمحمد بن حاطب: آلله لسمعت هذا من عليّ؟ قال: آلله لسمعت هذا من علي، رضي الله عنه.
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) في ت: "ابن عباس رضي الله عنه".
(3) في م: "عليهما".
(4) في ت: "تؤتى".
(5) في أ: "وسيئاته يوم القيامة".
(6) في أ: "فيقبض".
(7) تفسير الطبري (26/12) ورواه أبو نعيم في الحلية (3/91) من طريق معتمر بن سليمان به، وقال أبو نعيم: "هذا حديث غريب من حديث جابر، والغطويف تفرد به عنه الحكم بن أبان العدني".
(8) في أ: "بشير".
(9) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

{ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) } .
لما ذكر تعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما وما لهم عنده من الفوز والنجاة، عطف بحال الأشقياء العاقين للوالدين فقال: { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا } -وهذا عام في كل من قال هذا، ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فقوله ضعيف؛ لأن عبد الرحمن بن أبي بكر أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وكان من خيار أهل زمانه.
وروى العَوْفي، عن ابن عباس: أنها نزلت في ابن لأبي بكر الصديق. وفي صحة هذا نظر، والله أعلم.
وقال ابن جُرَيْج، عن مجاهد: نزلت في عبد الله بن أبي بكر. وهذا أيضا قاله ابن جريج.
وقال آخرون: عبد الرحمن بن أبي بكر. وقاله (1) السدي. وإنما هذا عام في كل من عق والديه وكذب بالحق، فقال لوالديه: { أُفٍّ لَكُمَا } عقهما.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، أخبرني عبد الله بن المديني قال: إني لفي المسجد حين خطب مَرْوان، فقال: إن الله أرى (2) أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا، وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر عمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: أهرقلية؟! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده، ولا أحدا من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده. فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه: أف لكما؟ فقال عبد الرحمن: ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك؟ قال: وسمعتهما عائشة فقالت: يا مروان، أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا؟ كذبتَ، ما فيه نزلت، ولكن نزلت في فلان بن فلان. ثم انتحب مروان، ثم نزل عن المنبر حتى أتى باب حجرتها ،فجعل يكلمها حتى انصرف (3) .
وقد رواه البخاري بإسناد آخر ولفظ آخر، فقال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عَوانة، عن أبي بِشْر، عن يوسف بن مَاهَك قال: كان مَرْوان على الحجاز، استعمله معاوية بن أبي سفيان، فخطب وجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا، فقال: خذوه. فدخل بيت عائشة، رضي الله عنها، فلم يقدروا عليه، فقال (4) مروان: إن هذا الذي أنزل فيه: { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي } فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أن الله أنزل عُذرِي (5) .
طريق أخرى: قال النسائي: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أميَّة بن خالد، حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه، قال مروان: سُنَّة أبي بكر وعمر. فقال عبد الرحمن بن أبي
__________
(1) في ت، م: "وهذا قول".
(2) في م، أ: "الله قد أرى".
(3) ورواه ابن مردويه فغي تفسيره كما في الدر المنثور (7/444).
(4) في أ: "فلم يقدر عليه فقام فقال".
(5) صحيح البخاري برقم (4827).

بكر: سُنَّة هرقل وقيصر. فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه: { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا } الآية، فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب مروان! والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروانُ في صلبه، فمروان فَضَضٌ (1) من لعنة الله (2) .
وقوله: { أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ } أي: [أن] (3) أبعث { وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي } أن (4) قد مضى الناس فلم يرجع منهم مخبر، { وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ } أي: يسألان الله فيه أن يهديه ويقولان لولدهما: { وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } قال الله [تعالى] (5) { أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } أي: دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
وقوله: { أولئك } بعد قوله: { وَالَّذِي قَالَ } دليل على ما ذكرناه من أنه جنس يعم كل من كان كذلك.
وقال الحسن وقتادة: هو الكافر الفاجر العاق لوالديه، المكذب بالبعث.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة سهل بن داود، من طريق هشام بن عمار: حدثنا حماد بن عبد الرحمن، حدثنا خالد بن الزبرقان الحلبي، عن سليمان بن حبيب المحاربي، عن أبي أمامة الباهلي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة لعنهم الله من فوق عرشه، وأَمَّنتْ عليهم الملائكة: مضل المساكين -قال خالد: الذي يهوي بيده إلى المسكين فيقول: هلم أعطيك، فإذا جاءه قال: ليس معي شيء-والذي يقول للمكفوف: اتق الدابة، وليس بين يديه شيء. والرجل يسأل عن دار القوم فيدلونه على غيرها، والذي يضرب الوالدين حتى يستغيثا" (6) . غريب جدا.
وقوله: { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } أي: لكل عذاب بحسب عمله، { وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } أي: لا يظلمهم مثقال ذرة فما دونها.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: درجات النار تذهب سفالا ودرجات الجنة تذهب علوا.
وقوله: { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } أي: يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا. وقد تورع [أمير المؤمنين] (7) عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عن (8) كثير من طيبات المآكل والمشارب، وتنزه عنها، ويقول: [إني] (9) أخاف أن أكون كالذين قال الله تعالى لهم وقَرَّعهم: { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا }
__________
(1) في أ: "بعض".
(2) النسائي في السنن الكبرى برقم (11491).
(3) زيادة من ت.
(4) في ت، أ: "أي".
(5) زيادة من ت، م.
(6) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (10/221) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/251) من طريق هشام بن عمار به. قال ابن أبي حاتم في العلل (2/413): "سألت أبي عن هذا الحديث فقال: هذا حديث منكر". قال الهيثمي في المجمع (4/251): "حماد بن عبد الرحمن العكي عن خالد بن الزبرقان، وكلاهما ضعيف".
(7) زيادة من ت، م، أ.
(8) في أ: "على".
(9) زيادة من ت، م، أ.

وقال أبو مِجْلَز: ليتفقَّدَنّ أقوامٌ حَسَنات كانت لهم في الدنيا، فيقال لهم: { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا }
وقوله: { فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ } فجوزوا من جنس عملهم، فكما نَعَّموا أنفسهم واستكبروا عن اتباع الحق، وتعاطوا الفسق والمعاصي، جازاهم الله بعذاب الهون، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة، والحسرات المتتابعة والمنازل في الدركات المفظعة، أجارنا الله من ذلك كله.

وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

{ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) } .
يقول تعالى مسليا لنبيه في تكذيب من كذبه من قومه: { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ } وهو هود، عليه السلام، بعثه الله إلى عاد الأولى، وكانوا يسكنون الأحقاف -جمع حقْف وهو: الجبل من الرمل-قاله ابن زيد. وقال عكرمة: الأحقاف: الجبل والغار. وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: الأحقاف: واد بحضرموت، يدعى بُرْهوت، تلقى فيه أرواح الكفار. وقال قتادة: ذُكر لنا أن عادا كانوا حيا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: الشِّحْر.
قال ابن ماجه: "باب إذا دعا فليبدأ بنفسه": حدثنا الحسين بن علي الخلال، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحمنا الله، وأخا عاد" (1) .
وقوله: { وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } يعني: وقد أرسل الله إلى من حَول بلادهم من القرى مرسلين ومنذرين، كقوله: { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } [البقرة: 66]، وكقوله: { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [فصلت: 13 ، 14] (2) (3) أي: قال لهم هود ذلك، فأجابه قومه قائلين: { أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا } أي: لتصدنا { عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }
__________
(1) سنن ابن ماجه (3852) وقال البوصيري في الزوائد (3/204): "هذا إسناد صحيح وله شواهد في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي بن كعب".
(2) في م: "تولوا"، وهو خطأ.
(3) في ت، م، أ، هـ: "إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم"، والصواب ما أثبتناه.

استعجلوا عذاب الله وعقوبته، استبعادًا منهم وقوعه، كقوله: { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا } [الشورى: 18].
{ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ } (1) أي: الله أعلم بكم إن كنتم مستحقين لتعجيل العذاب فيفعل (2) ذلك بكم، وأما أنا فمن شأني أني أبلغكم ما أرسلت به، { وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } أي: لا تعقلون ولا تفهمون.
قال الله تعالى: { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } أي: لما رأوا العذاب مستقبلهم، اعتقدوا أنه عارض ممطر، ففرحوا واستبشروا به (3) ، وقد كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر، قال الله تعالى: { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: هو العذاب الذي قلتم: { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }
{ تُدَمِّرُ } أي: تخرب { كُلِّ شَيْءٍ } من بلادهم، مما من شأنه الخراب { بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي: بإذن الله لها في ذلك، كقوله: { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } [الذاريات: 42] أي: كالشيء البالي. ولهذا قال: { فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ } أي: قد بادوا كلهم عن آخرهم ولم تبق لهم باقية، { كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } أي: هذا حكمنا فيمن كذب رسلنا، وخالف أمرنا.
وقد ورد حديث في قصتهم وهو غريب جدًا من غرائب الحديث وأفراده، قال الإمام أحمد:
حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي قال: حدثنا عاصم بن أبي النَّجُود، عن أبي وائل، عن الحارث البكري قال: خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالرَبْذَة، فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها، فقالت لي: يا عبد الله، إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فهل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها فأتيت بها المدينة، فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها. قال: فجلست، فدخل منزله -أو قال: رحله-فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فسلمت، فقال: "هل كان بينكم وبين تميم شيء؟ قلت: نعم، وكانت لنا الدبرة (4) عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع، بها فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب: فأذن لها فدخلت، فقلت: يا رسول الله، إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا فاجعل الدهناء، فحميت العجوز واستوفزت، وقالت: يا رسول الله، فإلى أين يضطر مضطرك؟ قال: قلت: إن مثلي ما قال الأول: "مِعْزَى حَمَلَت حَتْفَها"، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد. قال: "هيه، وما وافد عاد؟" -وهو أعلم بالحديث منه، ولكن يستطعمه (5) -قلت: إن عادًا قحطوا فبعثوا وافدًا لهم يقال له: قَيل، فمر بمعاوية بن بكر، فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما "الجرادتان"-فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مَهْرة فقال: اللهم،
__________
(1) في م: "وقال" وهو خطأ.
(2) في م، أ: "فسيفعل".
(3) في م، ت: "ففرحوا به واستبشروا به".
(4) في ت، أ: "الدائرة".
(5) في أ: "يستعظمه".

إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه. فمرت به سحابات سود، فنودي منها: "اختر"، فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها: "خذها رمادًا رمددًا (1) ، لا تبقي من عاد أحدا". قال: فما بلغني أنه أرسل عليهم من الريح إلا كقدر ما يجري في خاتمي هذا، حتى هلكوا-قال أبو وائل: وصدق -وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدًا لهم قالوا: "لا تكن كوافد عاد".
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، كما تقدم في سورة "الأعراف" (2) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا عمرو: أن أبا النضر حدثه عن سليمان بن يسار، عن عائشة (3) أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم. قالت: وكان (4) إذا رأى غيما -أو ريحا-عرف ذلك في وجهه، قالت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية؟ فقال: "يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا". وأخرجاه (5) من حديث ابن وهب (6) .
طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق السماء، ترك عمله، وإن كان في صلاته، ثم يقول: "اللهم، إني أعوذ بك من شر ما فيه" (7) . فإن كشفه الله حمد الله، وإن أمطرت قال: "اللهم، صيبا نافعا" (8) .
طريق أخرى: قال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو الطاهر، أخبرنا ابن وهب، سمعت ابن جريج يحدث عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: "اللهم، إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به". قالت: وإذا تَخَيَّلت السماء تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سري عنه، فعرفت ذلك عائشة، فسألته، فقال: "لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا } (9) .
وقد ذكرنا قصة هلاك عاد (10) في سورتي "الأعراف وهود" (11) بما أغنى عن إعادته هاهنا، ولله
__________
(1) في ت: "رمدا".
(2) المسند (3/482) وانظر تخريج بقية هذا الحديث عند الآية: 73 من سورة الأعراف.
(3) في ت: "عائشة رضي الله عنها".
(4) في ت، م: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(5) في ت: "أخرجه".
(6) المسند (6/66) وصحيح البخاري برقم (4828، 4829) وصحيح مسلم برقم (899).
(7) في م: "من سوء عاقبته".
(8) المسند (6/190).
(9) صحيح مسلم برقم (899).
(10) في ت، م، أ: "هلاك قوم عاد".
(11) راجع قصة هلاك قوم عاد عند تفسير الآيات: 65- 72 من سورة الاعراف والآيات: 50- 60 من سورة هود.

وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)

الحمد والمنة.
وقال الطبراني: حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا إسماعيل بن زكريا الكوفي، حدثنا أبو مالك، عن مسلم الملائي، عن مجاهد وسعيد بن جبير (1) ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فتح على عاد من الريح إلا مثل موضع الخاتم، ثم أرسلت عليهم [فحملتهم] البدو إلى الحضر فلما رآها أهل الحضر قالوا: هذا عارض ممطرنا مستقبل أوديتنا. وكان أهل البوادي فيها، فألقى أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا. قال: عتت على خزانها حتى خرجت من خلال الأبواب (2) " (3) .
{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) } .
يقول تعالى: ولقد مكنا الأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأولاد، وأعطيناهم منها (4) ما لم نعطكم مثله ولا قريبا منه، { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي: وأحاط بهم العذاب والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه، أي: فاحذروا أيها المخاطبون أن تكونوا مثلهم، فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والآخرة.
وقوله: { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى } يعني: أهل مكة، قد أهلك الله الأمم المكذبة بالرسل مما حولها كعاد، وكانوا بالأحقاف بحضرموت عند اليمن وثمود، وكانت منازلهم بينهم وبين الشام، وكذلك سبأ وهم أهل اليمن، ومدين وكانت في طريقهم وممرهم إلى غزة، وكذلك بحيرة قوم لوط، كانوا يمرون بها أيضا.
وقوله: { وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ } أي: بيناها ووضحناها، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَة } أي: فهلا نصروهم عند احتياجهم إليهم، { بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ } أي: بل ذهبوا عنهم أحوج ما كانوا إليهم، { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ } أي: كذبهم، { وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي: وافتراؤهم في اتخاذهم إياهم آلهة، وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها، واعتمادهم عليها.
__________
(1) في ت: "وروى الطبراني بإسناده".
(2) في ت: "البيوت".
(3) المعجم الكبير (12/42)، قال الهيثمي في المجمع (7/113): "فيه مسلم الملائي وهو ضعيف".
(4) في ت: "فيها".

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)

{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) } .
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، حدثنا عمرو: سمعت عكرمة، عن الزبير: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } قال: بنخلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة، { كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } [الجن: 19]، قال سفيان: اللبد: بعضهم على بعض، كاللبد بعضه على بعض (1) .
تفرد به أحمد، وسيأتي من رواية ابن جرير، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنهم سبعة من جن نَصِيبين.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة -وقال (2) الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه "دلائل النبوة": أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا إسماعيل القاضي، أخبرنا مسدد، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير (3) ، عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا -والله-الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم، قالوا: يا قومنا، إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدي إلى الرشد فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدا، وأنزل الله على نبيه (4) : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } [الجن: 1] ، وإنما أوحي إليه قول الجن.
رواه البخاري عن مُسَدَّد بنحوه، وأخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ، عن أبي عوانة، به. ورواه
__________
(1) المسند (1/167).
(2) في م: "الحافظ الشهير".
(3) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(4) في ت، م، أ: "نبيه صلى الله عليه وسلم".

الترمذي والنسائي في التفسير، من حديث أبي عوانة (1) .
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو أحمد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير (2) ، عن ابن عباس، قال: كان الجن يستمعون (3) الوحي، فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشرا، فيكون ما سمعوا حقًا وما زادوا باطلا وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب، فشكوا ذلك إلى إبليس فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث. فبث جنوده، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بين جبلي نخلة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض.
ورواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما، من حديث إسرائيل به (4) وقال الترمذي: حسن صحيح.
وهكذا رواه أيوب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وكذا رواه العوفي، عن ابن عباس أيضا، بمثل هذا السياق بطوله، وهكذا قال الحسن البصري: إنه، عليه السلام، ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله عليه بخبرهم.
وذكر محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعائه إياهم إلى الله عز وجل، وإبائهم عليه. فذكر القصة بطولها، وأورد ذلك الدعاء الحسن: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي" إلى آخره. قال: فلما انصرف عنهم بات بنخلة، فقرأ تلك الليلة من القرآن فاستمعه الجن من أهل نصيبين (5) .
وهذا صحيح، ولكن قوله: "إن الجن كان استماعهم تلك الليلة". فيه نظر؛ لأن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء، كما دل عليه حديث ابن عباس المذكور، وخروجه، عليه السلام، إلى الطائف كان بعد موت عمه، وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين، كما قرره ابن إسحاق وغيره [والله أعلم] (6) .
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر (7) ، عن عبد الله بن مسعود قال: هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا. قال (8) صه، وكانوا تسعة (9) أحدهم زوبعة، فأنزل الله عز وجل: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } إلى: { ضَلالٍ مُبِينٍ } (10) .
__________
(1) المسند (1/252)، ودلائل النبوة للبيهقي (2/225).
(2) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(3) في ت، م: "فيستمعون".
(4) صحيح البخاري برقم (773) وصحيح مسلم برقم (449)، وسنن الترمذي برقم (3323)، والنسائي في السنن الكبرى برقم (1164).
(5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/419).
(6) زيادة من ت.
(7) في ت: "وروى أبو بكر بن أبي شيبة بسنده".
(8) في ت، م: "قالوا".
(9) في أ: "سبعة".
(10) ورواه الحاكم في المستدرك (2/456) من طريق أبي بكر بن أبي شيبة به، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.

فهذا مع الأول من رواية ابن عباس يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة وإنما استمعوا قراءته، ثم رجعوا إلى قومهم ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا قوما بعد قوم، وفوجا بعد فوج، كما سيأتي بذلك الأخبار في موضعها والآثار، مما سنوردها (1) هاهنا إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
فأما ما رواه البخاري ومسلم جميعا، عن أبي قدامة عبيد الله بن سعيد السرخسي، عن أبي أسامة حماد بن أسامة، عن مسعر بن كدام، عن معن بن عبد الرحمن قال: سمعت أبي قال: سألت مسروقا: من آذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدثني أبوك -يعني ابن مسعود (2) -أنه آذنته بهم شجرة (3) -فيحتمل أن يكون هذا في المرة الأولى، ويكون إثباتا مقدما على نفي ابن عباس، ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات، والله أعلم. ويحتمل أن يكون في الأولى ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة، أي: أعلمته باستماعهم، والله أعلم.
قال الحافظ البيهقي: وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما (4) ، إنما هو في أول ما سمعت (5) الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمت حاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم، ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله، عز وجل، كما رواه عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه (6) .
ذكر الرواية عنه بذلك:
قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا داود عن الشعبي -وابن أبي زائدة، أخبرنا داود، عن الشعبي (7) -عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود: هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ فقال: ما صحبه منا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة، فقلنا: اغتيل؟ استطير ؟ ما فعل ؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح -أو قال: في السحر-إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله -فذكروا له الذي كانوا فيه-فقال: "إنه أتاني داعي الجن، فأتيتهم فقرأت عليهم". قال: فانطلق، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم -قال: وقال الشعبي: سألوه الزاد-قال عامر: سألوه بمكة، وكانوا من جن الجزيرة، فقال: "كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان عليه لحما، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم -قال-فلا تستنجوا بهما، فإنهما زاد إخوانكم من الجن".
وهكذا رواه مسلم في صحيحه، عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن علية، به نحوه (8) .
وقال مسلم أيضا: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود -وهو ابن أبي هند-عن عامر قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود، رضي الله عنه، شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة
__________
(1) في ت: "نوردها".
(2) في ت: "ابن مسعود رضي الله عنه".
(3) صحيح البخاري برقم (3859) وصحيح مسلم برقم (450).
(4) في م، أ: "عنه".
(5) في أ: "ما استمعت".
(6) دلائل النبوة للبيهقي (2/227).
(7) في ت: "فروى الإمام أحمد بسنده".
(8) المسند (1/436)، وصحيح مسلم برقم (450).

الجن؟ قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود؛ فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير؟ اغتيل؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا: يا رسول الله، فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال: "أتاني داعي الجن، فذهبت معهم، فقرأت عليهم القرآن". قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: "كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم" (1) .
طريق أخرى عن ابن مسعود: قال أبو جعفر بن جرير: حدثني أحمد بن عبد الرحمن، حدثني عمي، حدثني يونس، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله؛ أن بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بت الليلة أقرأ على الجن ربعا (2) بالحجون" (3) .
طريق أخرى: فيها أنه كان معه ليلة الجن، قال ابن جرير رحمه الله: حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، حدثنا عمي عبد الله بن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي عثمان بن سنة الخزاعي -وكان من أهل الشام (4) -أن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو بمكة: "من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل". فلم يحضر منهم أحد غيري، قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطا، ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى قام، فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، حتى بقي منهم رهط، ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر، فانطلق فتبرز، ثم أتاني فقال: "ما فعل الرهط؟" فقلت: هم أولئك يا رسول الله، فأعطاهم عظما وروثا زادا، ثم نهى أن يستطيب أحد بروث أو عظم.
ورواه ابن جرير عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن أبي زرعة وهب الله بن راشد، عن يونس بن يزيد الأيلي، به (5) .
ورواه البيهقي في الدلائل، من حديث عبد الله بن صالح -كاتب الليث-عن الليث، عن يونس به (6) .
وقد روى إسحاق بن راهويه، عن جرير، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن مسعود، فذكر نحو ما تقدم (7) .
__________
(1) صحيح مسلم برقم (450).
(2) في م: "وقفا"، وفي أ: "رفعا".
(3) تفسير الطبري (26/21) ورواه أحمد في المسند (1/416) من طريق يونس عن الزهري، به.
(4) في ت: "روى مسلم وروى ابن جرير بسنده".
(5) تفسير الطبري (26/21).
(6) دلائل النبوة للبيهقي (2/330)، ورواه الحاكم في المستدرك (2/503) من طريق عبد الله بن صالح به، قال الذهبي: "هو صحيح عند جماعة".
(7) وفي إسناده قابوس بن أبي ظبيان، ضعفه أبو حاتم والنسائي وأحمد، وقال ابن حبان: "ينفرد عن أبيه بما لا أصل له، فربما رفع المرسل وأسند الموقوف".

ورواه الحافظ أبو نعيم، من طريق موسى بن عبيدة، عن سعيد بن الحارث، عن أبي المعلى (1) ، عن ابن مسعود فذكر نحوه أيضا (2) .
طريق أخرى: قال أبو نعيم: حدثنا أبو بكر بن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي قال: حدثنا عفان وعكرمة قالا حدثنا معتمر قال: قال أبي: حدثني أبو تميمة، عن عمرو -ولعله قد يكون قال: البكالي-يحدثه عمرو، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقنا حتى أتينا مكان كذا وكذا، فخط لي خطا فقال: "كن بين ظهر هذه لا تخرج منها؛ فإنك إن خرجت منها هلكت" فذكر الحديث بطوله وفيه غرابة شديدة (3) .
طريق أخرى: قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير (4) ، عن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي؛ أنه قال لابن مسعود: حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن؟ قال: أجل. قال: فكيف كان؟ فذكر الحديث كله، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خط عليه خطا، وقال: "لا تبرح منها" فذكر مثل العَجَاجة السوداء غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذعر ثلاث مرات، حتى إذا كان قريبا من الصبح، أتاني النبي (5) صلى الله عليه وسلم فقال: "أنمت؟" فقلت: لا والله، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك، تقول: "اجلسوا" فقال: "لو خرجت لم آمن أن يخطفك (6) بعضهم". ثم قال: "هل رأيت شيئا؟" فقلت: نعم رأيت رجالا سودًا مستشعرين (7) ثيابا بياضا. قال: "أولئك جن نصيبين سألوني المتاع -والمتاع: الزاد-فمتعتهم بكل عظم حائل، أو بعرة أو روثة"-فقلت: يا رسول الله، وما يغني ذلك عنهم؟ فقال: "إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثا إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت، فلا يستنقين أحد منكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة" (8) .
طريق أخرى: قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي وأبو نصر بن قتادة قالا أخبرنا أبو محمد يحيى بن منصور القاضي، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البُوشَنْجي، حدثنا روح بن صلاح، حدثنا موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن نفرا من الجن -خمسة عشر بني إخوة وبني عم-يأتونني الليلة، فأقرأ عليهم القرآن"، فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد، فخط لي خطا وأجلسني فيه، وقال لي: "لا تخرج من هذا". فبت فيه حتى أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع السحر في يده عظم حائل وروثة حُمَمة فقال لي: "إذا ذهبت إلى الخلاء فلا تستنج بشيء من هؤلاء". قال: فلما أصبحت قلت: لأعلمن علمي حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذهبت فرأيت موضع مبرك (9) ستين بعيرا (10) .
طريق أخرى: قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس الأصم، حدثنا العباس
__________
(1) في أ: "إسماعيل".
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10/80) من طريق موسى بن عبيدة الربذي، به.
(3) لم أجده في دلائل النبوة وهو في المسند للإمام أحمد (1/399).
(4) في ت: "روى ابن جرير بسنده".
(5) في م: "رسول الله".
(6) في أ: "يختطفك".
(7) في ت، أ: "مستثفرين".
(8) تفسير الطبري (26/21).
(9) في أ: "منزل".
(10) دلائل النبوة للبيهقي (2/231).

بن محمد الدُّوري، حدثنا عثمان بن عمر (1) ، عن المستمر بن الريان، عن أبي الجوزاء، عن عبد الله بن مسعود قال: انطلقت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، حتى أتى الحجون، فخط لي خطًا، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه، فقال سيد لهم يقال له: "وردان": أنا أرحلهم عنك. فقال: إني لن يجيرني من الله أحد (2) .
طريق أخرى: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا سفيان، عن أبي فزارة العبسي، حدثنا أبو زيد -مولى عمرو بن حريث-عن ابن مسعود قال: لما كان ليلة الجن قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "أمعك ماء؟" قلت: ليس معي ماء، ولكن معي إداوة فيها نبيذ. فقال النبي: "تمرة طيبة وماء طهور" فتوضأ.
ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث أبي زيد، به (3) .
طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، أخبرنا ابن لهيعة، عن قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس، عن عبد الله بن مسعود؛ أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فقال رسول الله: "يا عبد الله، أمعك ماء؟" قال: معي نبيذ في إداوة، فقال (4) اصبب علي". فتوضأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله شراب وطهور" (5) .
تفرد به أحمد من هذا الوجه، وقد أورده الدارقطني من طريق آخر، عن ابن مسعود، [به] (6) (7) .
طريق أخرى: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرني أبي عن ميناء، عن عبد الله قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن، فلما انصرف تنفس، فقلت: ما شأنك؟ قال: "نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود".
هكذا رأيته في المسند مختصرا (8) ، وقد رواه الحافظ أبو نعيم في كتابه "دلائل النبوة"، فقال: حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب، حدثنا إسحاق بن إبراهيم -وحدثنا أبو بكر بن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبي قالا حدثنا عبد الرزاق، عن أبيه، عن ميناء، عن ابن مسعود قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن، فتنفس، فقلت: ما لك يا رسول الله؟ قال: "نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود". قلت: استخلف. قال: "من؟" قلت: أبا بكر. فسكت (9) ، ثم مضى ساعة فتنفس، فقلت: ما شأنك بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: "نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود". قلت: استخلف. قال: "من؟" قلت: عمر [بن الخطاب] (10) . فسكت، ثم مضى ساعة، ثم تنفس فقلت: ما شأنك؟ قال: "نعيت إلي نفسي". قلت: فاستخلف. قال صلى الله عليه وسلم: "من؟" قلت: علي بن أبي طالب. قال صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفسي بيده، لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعين أكتعين. (11) .
__________
(1) في أ: "عن عمر".
(2) دلائل النبوة للبيهقي (2/231).
(3) المسند (1/449)، وسنن أبي داود برقم (84) وسنن الترمذي برقم (88) وسنن ابن ماجه برقم (384).
(4) في م: "قال".
(5) المسند (1/398) وقد تفرد به ابن لهيعة، وهو ضعيف.
(6) زيادة من م.
(7) سنن الدارقطني (1/77) من طريق داود بن أبي هند عن عامر بن علقمة بن قيس. قال: قلت لعبد الله بن مسعود: أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن؟ قال: لا، قال الدارقطني: "هذا الصحيح عن ابن مسعود".
(8) المسند (1/449).
(9) في ت، م: "أبو بكر. قال: فسكت".
(10) زيادة من م.
(11) المعجم الكبير للطبراني (10/82) وفيه ميناء بن أبي ميناء، كذاب.

وهو حديث غريب جدًّا، وأحرى به ألا يكون محفوظا، وبتقدير صحته فالظاهر أن هذا بعد وفودهم إليه بالمدينة على ما سنورده، فإن في ذلك الوقت في آخر الأمر لما فتحت مكة، ودخل الناس والجان أيضا في دين الله أفواجا، نزلت سورة (1) { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } ، وهي السورة التي نعيت نفسه الكريمة فيها إليه، كما قد نص على ذلك ابن عباس، ووافقه عمر بن الخطاب عليه، وقد ورد في ذلك حديث سنورده عند تفسيرها، والله أعلم. وقد رواه أبو نعيم أيضا، عن الطبراني، عن محمد بن عبد الله الحضرمي، عن علي بن الحسين بن أبي بردة، عن يحيى بن سعيد (2) الأسلمي، عن حرب بن صَبِيح، عن سعيد بن مسلمة، عن أبي مرة الصنعاني، عن أبي عبد الله الجدلي، عن ابن مسعود، فذكره وذكر فيه قصة الاستخلاف (3) ، وهذا إسناد غريب، وسياق عجيب.
طريق أخرى: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) خط حوله، فكان أحدهم (5) مثل سواد النحل، وقال لي: "لا تبرح مكانك"، فأقرأهم كتاب الله "، فلما رأى الزُّط قال: كأنهم هؤلاء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمعك ماء؟" قلت: لا. قال: "أمعك نبيذ؟" قلت: نعم. فتوضأ به (6) .
طريق أخرى مرسلة: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الظهراني (7) ، أخبرنا حفص بن عمر العدني، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ } قال: هم اثنا عشر ألفا جاؤوا من جزيرة الموصل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود: "أنظرني حتى آتيك"، وخط عليه خطا، وقال: "لا تبرح حتى آتيك". فلما خشيهم ابن مسعود كاد أن يذهب، فذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبرح، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لو ذهبت ما التقينا إلى يوم القيامة" (8) .
طريق أخرى مرسلة أيضا: قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ } قال: ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نِينَوَى، وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني أمرت أن أقرأ على الجن فأيكم يتبعني؟" فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فقال رجل: يا رسول الله، إن ذاك لذو ندبة فأتبعه ابن مسعود أخو هذيل، قال: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له: "شعب الحجون"، وخط عليه، وخط على ابن مسعود ليثبته بذلك، قال: فجعلت أهال وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها، وسمعت لغطا شديدا، حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم تلا القرآن، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله، ما اللغط الذي سمعت؟ قال: "اختصموا في قتيل، فقضي بينهم بالحق". رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (9) .
__________
(1) في ت: "سورة النصر".
(2) في أ: "يعلى".
(3) المعجم الكبير للطبراني (10/81) وفي إسناده يحيى الأسلمي وهو ضعيف.
(4) في م، أ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن".
(5) في أ: "فكان يجيء أحدهم".
(6) المسند (1/455).
(7) في م: "الطبراني".
(8) وفي إسناده الحكم بن أبان، وهو ضعيف.
(9) تفسير الطبري (26/20).

فهذه الطرق كلها تدل (1) على أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن قصدا، فتلا عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله، عز وجل، وشرع الله لهم على لسانه ما هم محتاجون إليه في ذلك الوقت. وقد يحتمل أن أول مرة سمعوه يقرأ القرآن [و] (2) لم يشعر بهم، كما قاله ابن عباس، رضي الله عنهما (3) ، ثم بعد ذلك وفدوا إليه كما رواه ابن مسعود. وأما ابن مسعود فإنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حال مخاطبته الجن ودعائه إياهم، وإنما كان بعيدا منه، ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد سواه، ومع هذا لم يشهد حال المخاطبة، هذه طريقة البيهقي.
وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم لم يكن معه ابن مسعود ولا غيره، كما هو ظاهر سياق الرواية الأولى من طريق الإمام أحمد، وهي عند مسلم. ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى، والله أعلم، كما روى ابن أبي حاتم في تفسير: { قُلْ أُوحِيَ } ، من حديث ابن جريج قال: قال عبد العزيز بن عمر: أما الجن الذين لقوه بنخلة فجن نينوى، وأما الجن الذين لقوه بمكة فجن نصيبين، وتأوله البيهقي على أنه يقول: "فبتنا بشر ليلة بات بها قوم"، على غير ابن مسعود ممن لم يعلم بخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الجن، وهو محتمل على بعد، والله أعلم.
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الله (4) الأديب، أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي، أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثني سويد بن سعيد، حدثنا عمرو بن يحيى، عن جده سعيد بن عمرو، قال (5) كان أبو هريرة يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإداوة لوضوئه وحاجته، فأدركه يوما فقال: "من هذا؟" قال: أنا أبو هريرة قال: "ائتني بأحجار أستنج بها، ولا تأتني بعظم ولا روثة". فأتيته بأحجار في ثوبي، فوضعتها إلى جنبه حتى إذا فرغ وقام اتبعته، فقلت: يا رسول الله، ما بال العظم والروثة (6) ؟ قال: "أتاني وفد جن نصيبين، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوه طعاما" (7) .
أخرجه البخاري في صحيحه، عن موسى بن إسماعيل، عن عمرو بن يحيى، بإسناده قريبا منه (8) فهذا يدل مع ما تقدم على أنهم وفدوا عليه بعد ذلك. وسنذكر ما يدل على تكرار ذلك.
وقد روي عن ابن عباس غير ما ذكر (9) عنه أولا من وجه جيد، فقال ابن جرير:
حدثنا أبو كريب، حدثنا عبد الحميد الحماني، حدثنا النضر بن عربي، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ } الآية، [قال] (10) كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم (11) .
فهذا يدل على أنه قد روى القصتين.
__________
(1) في ت: "فهذه الأحاديث التي ذكرناها كلها تدل".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت، أ: "عنه".
(4) في أ: "عبد الوهاب".
(5) في ت: "وقال الحافظ أبو بكر البيهقي بسنده".
(6) في ت: "الروث".
(7) دلائل النبوة للبيهقي (2/233).
(8) صحيح البخاري برقم (3860).
(9) في أ: "ما روي".
(10) زيادة من أ.
(11) تفسير الطبري (26/22).

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا سويد بن عبد العزيز، حدثنا رجل سماه، عن ابن جريج، عن مجاهد: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ } الآية، قال: كانوا سبعة نفر، ثلاثة من أهل حران، وأربعة من أهل نصيبين، وكانت أسماؤهم حيى وحسى ومسى، وشاصر وناصر، والأرد وإبيان والأحقم.
وذكر أبو حمزة الثمالي أن هذا الحي من الجن كان يقال لهم: بنو الشيصبان، وكانوا أكثر الجن عددا وأشرفهم نسبا، وهم كانوا عامة جنود إبليس.
وقال سفيان الثوري، عن عاصم، عن ذَرّ، عن ابن مسعود: كانوا تسعة، أحدهم زوبعة، أتوه من أصل نخلة.
وتقدم عنه أنهم كانوا خمسة عشر، وفي رواية: أنهم كانوا على ستين راحلة، وتقدم عنه أن اسم سيدهم وردان، وقيل: كانوا ثلاثمائة، وتقدم عن عكرمة أنهم كانوا اثنى عشر ألفا، فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم عليه صلوات الله وسلامه عليه، ومما يدل على ذلك ما قاله (1) البخاري في صحيحه:
حدثنا يحيى بن سليمان، حدثني ابن وهب، حدثني عمر -هو ابن محمد-أن سالما حدثه، عن عبد الله بن عمر قال: ما سمعت عمر يقول لشيء قط: "إني لأظنه كذا" إلا كان كما يظن، بينما عمر بن الخطاب جالس إذ مر به رجل جميل، فقال: لقد أخطأ ظني -أو: إن هذا على دينه في الجاهلية-أو لقد كان كاهنهم-علي بالرجل، فدعى له (2) ، فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل له رجل مسلم. قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني. قال: كنت كاهنهم في الجاهلية. قال: فما أعجب ما جاءتك به جِنِيَّتُك. قال: بينما أنا يوما في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت:
ألم تَرْ الجِنَّ وإبْلاسَهَا ... ويَأسَها من بعد إنْكَاسِها ...
ولُحوقَها بالقلاص وَأَحْلاسها
قال عمر: صدق، بينما أنا نائم عند آلهتهم، إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ، لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح يقول: "لا إله إلا الله" فوثب (3) القوم، فقلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا؟ ثم نادى يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح يقول: "لا إله إلا الله". فقمت، فما نشبنا أن قيل: هذا نبي.
هذا سياق البخاري (4) ، وقد رواه البيهقي من حديث ابن وهب، بنحوه، ثم قال: "وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح، وكذلك هو صريح (5) في رواية ضعيفة عن عمر في إسلامه، وسائر الروايات تدل على أن هذا الكاهن هو الذي أخبر بذلك عن
__________
(1) في م: "ما رواه".
(2) في ت، م، أ: "فدعى فجيء به له".
(3) في م، أ: "قال: فوثب".
(4) صحيح البخاري برقم (3866).
(5) في ت، م، أ: "صريحا" وهو خطأ.

رؤيته وسماعه، والله أعلم" (1) .
وهذا الذي قاله البيهقي هو المتجهن وهذا الرجل هو سواد بن قارب، وقد ذكرت هذا (2) مستقصى في سيرة عمر، رضي الله عنه، فمن أراده فليأخذه من ثَمَّ، ولله الحمد [والمنة] (3) .
قال البيهقي: "حديث سواد بن قارب، ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح".
أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المفسر من أصل سماعه، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار الأصبهاني، قراءة عليه، حدثنا أبو جعفر أحمد بن موسى الحمار الكوفي بالكوفة، حدثنا زياد بن يزيد بن بادويه أبو بكر القصري، حدثنا محمد بن نواس الكوفي، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء [رضي الله عنه] (4) قال: بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: أيها الناس، أفيكم سواد بن قارب؟ قال: فلم يجبه أحد تلك السنة، فلما كانت السنة المقبلة قال: أيها الناس، أفيكم سواد بن قارب؟ قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، وما سواد بن قارب؟ قال: فقال له عمر: إن سواد بن قارب كان بَدءُ إسلامه شيئا عجيبا، قال: فبينا نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب، قال: فقال له عمر: يا سواد حدثنا ببدء إسلامك، كيف كان؟ قال سواد: فإني كنت نازلا بالهند، وكان لي رَئِيّ من الجن، قال: فبينا أنا ذات ليلة نائم، إذ جاءني في منامي ذلك. قال: قم فافهم واعقل إن كنت تعقل، قد بعث رسول من لؤي بن غالب، ثم أنشأ يقول:
عَجِبتُ للجنِّ وأنْجَاسِها (5) وشَدّها العيسَ بأحْلاسهَا ...
تَهْوي إلى مَكةَ تَبْغي الهُدَى ... مَا مُؤمنو الجِنِّ كَأرْجَاسهَا ...
فَانْهَض إلى الصَّفْوةِ من هَاشمٍ ... واسْمُ بعينَيْك إلى رَاسِهَا ...
قال: ثم أنبهني فأفزعني، وقال: يا سواد بن قارب، إن الله بعث نبيًا فانهض إليه تهتد وترشد. فلما كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني، ثم أنشأ يقول كذلك:
عَجِبتُ للجنِّ وَتَطْلابِها ... وَشَدهَا العِيسَ بأقْتَابِهَا ...
تَهْوي إلى مَكّةَ تَبْغي الهُدَى ... ليسَ قُداماها كَأذْنَابِها ...
فانهض إلى الصّفْوةِ من هَاشمٍ ... واسْمُ بعَيْنَيك إلى نَابِها (6)
فلما كان في الليلة الثالثة أتاني فأنبهني، ثم قال:
عَجِبتُ للجِنّ وَتَخْبارها ... وَشَدَّها العِيسَ بأكْوَارهَا ...
تَهْوي إلى مَكَّةَ تَبْغِي الهُدَى ... لَيْسَ ذَوُو الشَّر كَأخْيَارهَا ...
فَانْهَضْ إلى الصَّفْوةِ من هَاشمٍ ... مَا مُؤمِنو الجِنِّ كَكُفَّارهَا ...
__________
(1) دلائل النبوة للبيهقي 02/245).
(2) في ت: "ذلك".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من ت.
(5) في أ: "وأجناسها".
(6) في أ: "يابها".

قال: فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة، وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله، قال: فانطلقت إلى رحلي فشددته على راحلتي، فما حللت [عليه] (1) نسعة ولا عقدت أخرى حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بالمدينة -يعني مكة-والناس عليه كعرف الفرس، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مرحبا بك يا سواد بن قارب، قد علمنا ما جاء بك". قال: قلت: يا رسول الله، قد قلت شعرا، فاسمعه مني. قال سواد: فقلت:
أتَانِي رئيَّ بعد لُيَلٍ وهَجْعةٍ ... وَلم يَكُ فيما قَدْ بَلوَتُ بكَاذبِ ...
ثَلاثٍ لَيَال قَولُه كُلَّ لَيْلَة: ... أتاك رسول (2) من لُؤيّ بن غَالبِ ...
فَشَمَّرتُ عن سَاقي الإزَارَ ووسطت ... بي الدَّعلب الوَجْنَاءُ عند السَّبَاسبِ ...
فَأشْهَدُ أنّ اللهَ لا شَيء غَيْرهُ ... وَأَنّكَ مَأْمُونٌ عَلَى كُِّل غَائبِ ...
وأَنَّك أَدْنَى المُرْسَلِينَ شَفَاعَة ... إلى اللهِ يا ابنَ الأكرَمينَ الأطايبِ ...
فَمُرنَا بمَا يَأتِيكَ يا خَيرَ مُرْسل (3) وإنْ كَانَ فِيمَا جَاءَ شَيبُ الذّوَائبِ ...
وَكُنْ لي شَفِيعا يَومَ لا ذُو شَفَاعةٍ ... سِوَاك بِمغْنٍ عن سَوَاد بن قَاربِ ...
قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال لي: "أفلحت يا سواد": فقال له عمر: هل يأتيك رئيك الآن؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتني، ونعم العوض كتاب الله من الجن (4) .
ثم أسنده البيهقي من وجهين آخرين (5) . ومما يدل على وفادتهم إليه، عليه السلام (6) ، بعد ما هاجر إلى المدينة، الحديث الذي رواه الحافظ أبو نعيم في كتاب "دلائل النبوة" [فقال] (7) :
حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن عبدة المصيصي، حدثنا أبو تَوْبَة الربيع بن نافع، حدثنا معاوية بن سلام، عن زيد بن أسلم: أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني من حدثه عمرو بن غيلان الثقفي قال: أتيت عبد الله بن مسعود فقلت له: حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن؟ قال: أجل قلت: حدثني كيف كان شأنه؟ فقال: إن أهل الصفة أخذ كل رجل منهم رجل (8) يعشيه، وتركت فلم يأخذني أحد منهم، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من هذا؟" فقلت: أنا ابن مسعود. فقال: "ما أخذك أحد يعشيك؟" فقلت: لا. قال: "فانطلق لعلي أجد لك شيئا". قال: فانطلقنا حتى أتى حجرة أم سلمة فتركني (9) ودخل إلى أهله، ثم خرجت الجارية فقالت: يا ابن مسعود، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجد لك عشاء، فارجع إلى مضجعك. قال: فرجعت إلى المسجد، فجمعت حصباء المسجد فتوسدته، والتففت بثوبي، فلم ألبث إلا قليلا حتى جاءت الجارية، فقالت:
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت، م: "نبي".
(3) في ت: "من مشى".
(4) دلائل النبوة للبيهقي (1/248).
(5) دلائل النبوة للبيهقي (1/252).
(6) في أ: "على الإسلام".
(7) زيادة من أ.
(8) في ت، أ: "رجلا" وهو خطأ.
(9) في أ: "فتركني قائما".

أجب رسول الله (1) . فاتبعتها وأنا أرجو العشاء، حتى إذا بلغت مقامي، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عسيب من نخل، فعرض به على صدري فقال: "أتنطلق أنت معي (2) حيث انطلقت؟" قلت: ما شاء الله. فأعادها علي ثلاث مرات، كل ذلك أقول: ما شاء الله. فانطلق وانطلقت معه، حتى أتينا بقيع الغرقد، فخط بعصاه خطا، ثم قال: "اجلس فيها، ولا تبرج حتى آتيك". ثم انطلق يمشي وأنا أنظر إليه خلال النخل، حتى إذا كان من حيث لا أراه ثارت (3) العَجَاجة السوداء، ففرقت فقلت: ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أظن أن (4) هوازن مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، فأسعى إلى البيوت، فأستغيث الناس. فذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني: أن لا أبرح مكاني الذي أنا فيه، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعهم بعصاه ويقول: "اجلسوا". فجلسوا حتى كاد ينشق عمود الصبح، ثم ثاروا وذهبوا، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنمت بعدي؟" فقلت: لا (5) ، ولقد فزعت الفزعة الأولى، حتى رأيت أن آتي البيوت فأستغيث الناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك، وكنت أظنها هوازن، مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه. فقال: "لو أنك خرجت من هذه الحلقة ما آمنهم (6) عليك أن يختطفك بعضهم، فهل رأيت من شيء منهم؟" فقلت: رأيت رجالا سودا مستشعرين (7) بثياب بيض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولئك وفد جن نصيبين، أتوني فسألوني الزاد والمتاع، فمتعتهم بكل عظم حائل أو روثة أو بعرة". قلت: وما يغني عنهم ذلك؟ قال: "إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها الذي كان فيها يوم أكلت، فلا يستنقي أحد منكم بعظم ولا بعرة (8) " (9) .
وهذا إسناد غريب جدًا (10) ، ولكن فيه رجل مبهم لم يسم [والله أعلم] (11) ، وقد روى الحافظ أبو نعيم من حديث بقية بن الوليد، حدثني نمير بن زيد القنبر (12) ، حدثنا أبي، حدثنا قحافة بن ربيعة، حدثني الزبير بن العوام قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في مسجد المدينة، فلما انصرف قال: "أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة؟" فأسكت القوم ثلاثا، فمر بي فأخذ بيدي، فجعلت أمشي معه حتى حبست عنا جبال المدينة كلها، وأفضينا إلى أرض براز، فإذا برجال طوال كأنهم الرماح، مستشعرين (13) بثيابهم من بين أرجلهم، فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة، ثم ذكر نحو حديث ابن مسعود المتقدم (14) ، وهذا حديث غريب، والله أعلم.
ومما يتعلق بوفود الجن ما رواه الحافظ أبو نعيم: حدثنا أبو محمد بن حيان، حدثنا أبو الطيب أحمد بن روح، حدثنا يعقوب الدَّوْرَقي، حدثنا الوليد بن بكير التميمي، حدثنا حصين بن عمر (15)
__________
(1) في ت: "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(2) في ت، م: "انطلق معي"، وفي أ: "انطلق أنت معي".
(3) في ت، م، أ: "ثارت مثل العجاجة".
(4) في ت، م، أ: "هذه".
(5) في أ: "لا والله".
(6) في ت، م: "ما أمنت" وفي أ: "ما آمن".
(7) في ت، أ: "مستثفرين".
(8) في ت: "ولا روثة".
(9) لم أجده في دلائل النبوة المطبوعة لأبي نعيم.
(10) في تن أ: "وهذا سياق غريب".
(11) زيادة من ت، أ.
(12) في ت، أ: "حدثني بهز بن يزيد الليثي".
(13) في ت، أ: "مستثفرين".
(14) لم أجده في دلائل النبوة المطبوعة لأبي نعيم.
(15) في م: "عمير".

، أخبرني عبيد المُكتب، عن إبراهيم قال: خرج نفر من أصحاب عبد الله (1) يريدون الحج، حتى إذا كانوا في بعض الطريق، إذا هم بحية تنثني (2) على الطريق أبيض، ينفخ منه ريح المسك، فقلت لأصحابي: امضوا، فلست ببارح حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمر هذه الحية. قال: فما لبثت أن ماتت، فعمدت إلى خرقة بيضاء فلففتها فيها، ثم نحيتها عن الطريق فدفنتها، وأدركت أصحابي في المتعشى. قال: فوالله إنا لقعود إذ أقبل (3) أربع نسوة من قبل المغرب، فقالت واحدة منهن: أيكم دفن عمرًا؟ قلنا: ومن عمرو، قالت: أيكم دفن الحية؟ قال: قلت: أنا. قالت: أما والله لقد دفنت صواما قواما، يأمر بما أنزل الله، ولقد آمن بنبيكم، وسمع صفته من (4) السماء قبل أن يبعث بأربعمائة عام. قال الرجل فحمدنا (5) الله، ثم قضينا حجتنا (6) ، ثم مررت بعمر بن الخطاب في المدينة، فأنبأته بأمر الحية، فقال: صدقت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد آمن بي قبل أن أبعث بأربعمائة سنة" (7) .
وهذا حديث غريب جدا، والله أعلم.
قال أبو نعيم: وقد روى الثوري، عن أبي إسحاق، عن الشعبي، عن رجل من ثقيف، بنحوه. وروى عبد الله بن أحمد والِّظهراني، عن صفوان بن المعطل -هو الذي نزل ودفن تلك الحية من بين الصحابة-وأنهم قالوا: أما إنه آخر التسعة موتا الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمعون القرآن (8) .
وروى أبو نعيم من حديث الليث بن سعد، عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجِشُون، عن عمه (9) ، عن معاذ بن عُبَيْد الله (10) بن معمر قال: كنت جالسا عند عثمان بن عفان، فجاء رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إني كنت بفلاة من الأرض، فذكر أنه رأى ثعبانين (11) اقتتلا ثم قتل أحدهما الآخر، قال: فذهبت إلى المعترك، فوجدت حيات كثيرة مقتولة، وإذ ينفح من بعضها ريح المسك، فجعلت أشمُّها واحدة واحدة، حتى وجدت ذلك من حية صفراء رقيقة، فلففتها في عمامتي ودفنتها. فبينا أنا أمشي إذ ناداني (12) مناد: يا عبد الله، لقد هُدِيتَ! هذان حيان (13) من الجن بنو أشعيبان وبنو أقيش التقوا، فكان من القتلى ما رأيت، واستشهد الذي دفنته، وكان من الذين سمعوا الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقال عثمان لذلك الرجل: إن كنت صادقا فقد رأيت عجبا، وإن كنت كاذبا فعليك كذبك (14) .
فقوله تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ } أي: طائفة من الجن، { يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا }
__________
(1) في م: "عبيد الله".
(2) في أ: "تمشي".
(3) في ت، م: "جاء".
(4) في ت: "في".
(5) في أ: "فحمدت".
(6) في ت، م، أ: "حجنا".
(7) دلائل النبوة لأبي نعيم (ص306).
(8) لم أجده في دلائل النبوة المطبوعة لأبي نعيم.
(9) في ت: "وروى أبو نعيم بإسناده".
(10) في ت، م، أ: "عبد الله".
(11) في ت، أ، م: "إعصارين".
(12) في أ: "هذا جان".
(13) في ت، م: "نادى".
(14) دلائل النبوة لأبي نعيم (ص305).

أي: استمعوا (1) وهذا أدب منهم.
وقد قال الحافظ البيهقي: حدثنا الإمام أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان، أخبرنا أبو الحسن محمد بن عبد الله الدقاق، حدثنا محمد بن إبراهيم البُوشَنْجي، حدثنا هِشام بن عمار الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر بن عبد الله قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة "الرحمن" حتى ختمها، ثم قال: "ما لي أراكم سكوتا، لَلْجِنّ كانوا أحسن منكم ردًا، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة: { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلا قالوا: ولا بشيء من آلائك -أو نعمك-ربنا نكذب، فلك الحمد".
ورواه الترمذي في التفسير، عن أبي مسلم عبد الرحمن بن واقد، عن الوليد بن مسلم به (2) . قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن، فذكره، ثم قال الترمذي: "غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد، عن زهير" كذا قال. وقد رواه البيهقي من حديث مروان بن محمد الطاطري، عن زهير بن محمد، به مثله (3) (4) .
وقوله: { فَلَمَّا قُضِيَ } أي: فرغ. كقوله: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ } [الجمعة: 10]، { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 12] ، { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ } [البقرة: 200]{ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } أي: رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله: { لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة: 122].
وقد استدل بهذه الآية على أنه في الجن نُذُرٌ، وليس فيهم رسل: ولا شك أن الجن لم يبعث الله منهم رسولا؛ لقوله: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [يوسف: 109]، وقال { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ } [الفرقان: 20]، وقال عن إبراهيم الخليل: { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [العنكبوت: 27].
فكل نبي بعثه الله بعد إبراهيم فمن ذريته وسلالته، فأما قوله تعالى في [سورة] (5) الأنعام: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } [الأنعام: 130] ، فالمراد من مجموع الجنسين، فيصدق على أحدهما وهو الإنس، كقوله: { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [الرحمن: 22] أي: أحدهما. ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم فقال مخبرًا عنهم: { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ] } (6) ، ولم يذكروا عيسى؛ لأن عيسى، عليه السلام، أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة، فالعمدة هو التوراة؛ فلهذا قالوا: أنزل من بعد موسى. وهكذا قال ورقة بن نوفل، حين أخبره النبي
__________
(1) في ت، م: "استمعوه".
(2) دلائل النبوة للبيهقي (1/232) وسنن الترمذي برقم (3291).
(3) في ت: "بمعناه".
(4) دلائل النبوة للبيهقي (1/232).
(5) زيادة من ت.
(6) زيادة من أ.

صلى الله عليه وسلم بقصة نزول جبريل [عليه السلام] (1) عليه أول مرة، فقال: بَخ بَخ، هذا الناموس الذي كان يأتي موسى، يا ليتني أكون فيها جَذَعًا.
{ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي: من الكتب المنزلة قبله على الأنبياء. وقولهم: { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } أي: في الاعتقاد والإخبار، { وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } في الأعمال، فإن القرآن يشتمل على شيئين (2) خبر وطلب (3) ، فخبره صدق، وطلبه عدل، كما قال: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [الأنعام: 115]، وقال { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } [التوبة: 33]، فالهدى هو: العلم النافع، ودين الحق: هو العمل الصالح. وهكذا قالت الجن: { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } في الاعتقادات، { وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } أي: في العمليات.
{ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ } فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدًا صلوات الله وسلامه عليه (4) إلى الثقلين الإنس والجن حيث دعاهم إلى الله، وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين، وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم، وهي سورة الرحمن؛ ولهذا قال (5) { أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ }
وقوله: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } قيل: إن "من" هاهنا زائدة وفيه نظر؛ لأن زيادتها في الإثبات قليل، وقيل: إنها على بابها للتبغيض، { وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي: ويقيكم من عذابه الأليم.
وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة؛ ولهذا قالوا هذا في هذا المقام، وهو مقام تبجح ومبالغة فلو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا لأوشك أن يذكروه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثت عن جرير، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: لا يدخل مؤمنو الجن الجنة؛ لأنهم من ذرية إبليس، ولا تدخل ذرية إبليس الجنة.
والحق أن مُؤمِنَهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة، كما هو مذهب جماعة (6) من السلف، وقد استدل بعضهم لهذا بقوله: { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ } [الرحمن: 74]، وفي هذا الاستدلال نظر، وأحسن منه قوله تعالى: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 46 ، 47] ، فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، وقد قابلت الجِنّ هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس، فقالوا: "ولا بِشَيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد" فلم يكن تعالى ليمتنّ عليهم بجزاء لا يحصل لهم، وأيضا فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار -وهو مقام عدل-فَلأنْ يجازي مؤمنهم بالجنة -وهو مقام فَضْل-بطريق الأولى والأحرى. ومما يدل أيضا على ذلك عمومُ قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نزلا } [الكهف: 107] ، وما
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت: "نوعين".
(3) في أ: "خبرا وطلبا".
(4) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(5) في م: "قالوا".
(6) في ت، أ: "طائفة".

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)

أشبه ذلك من الآيات. وقد أفردت هذه المسألة في جزء على حدة، ولله الحمد والمنة. وهذه الجنة لا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقا، أفلا يسكنها من آمن به وعمل له صالحا؟ وما ذكروه هاهنا من الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم، هو يستلزم دخول الجنة؛ لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار، فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة. ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن (1) الشارع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة وإن أجيروا من النار، ولو صح لقلنا به، والله أعلم. وهذا نوح، عليه السلام، يقول لقومه: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [نوح: 4] ، (2) ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنة، فكذلك هؤلاء. وقد حكي فيهم أقوال غريبة فعن عُمَر بن عبد العزيز: أنهم لا يدخلون بُحْبُوحَةَ الجنة، وإنما يكونون في رَبَضها وحولها وفي أرجائها. ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ولا يرون بني آدم عكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا. ومن الناس من قال: لا يأكلون في الجنة ولا يشربون، وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس، عِوَضا عن الطعام والشراب كالملائكة، لأنهم من جنسهم. وكل هذه الأقوال فيها نظر، ولا دليل عليها.
ثم قال مخبرا عنه: { وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ } أي: بل قدرة الله شاملة له ومحيطة به، { وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ } أي: لا يجيرهم منه أحدٌ { أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } وهذا مقامُ تهديد وترهيب، فَدَعَوا قومهم بالترغيب والترهيب؛ ولهذا نجع في كثير منهم، وجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفودا وفودا، كما تقدم بيانه.
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) } .
يقول تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا } أي: هؤلاء المنكرون للبعث يوم القيامة، المستبعدون لقيام الأجساد يوم المعاد { أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ } أي: ولم يَكْرثهُ خَلْقُهن، بل قال لها: "كوني" فكانت، بلا ممانعة ولا مخالفة، بل طائعة مجيبة خائفة وجلة، أفليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ كما قال في الآية الأخرى: { لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [غافر: 57] ، ولهذا قال: { بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
__________
(1) في أ: "من".
(2) في ت، أ: "ويجركم" وهو خطأ.

ثم قال متهددا ومتوعدا لمن كفر به: { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ } أي: يقال لهم: أما هذا حق؟ أفسحر هذا؟ أم أنتم لا تبصرون؟ { قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا } أي: لا يسعهم إلا الاعتراف، { قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } ثم قال تعالى آمرا رسوله (1) صلى الله عليه وسلم بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه، { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } أي: على تكذيب قومهم لهم. وقد اختلفوا في تعداد أولي العزم على أقوال، وأشهرها أنهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وخاتم الأنبياء كلهم محمد صلى الله عليه وسلم، قد نص الله على أسمائهم من بين الأنبياء في آيتين من (2) سُورَتَي "الأحزاب" و "الشورى"، وقد يحتمل أن يكون المراد بأولي العزم جميع الرّسُل، وتكون { مِنَ } في قوله: { مِنَ الرُّسُلِ } لبيان الجنس، والله أعلم. وقد قال ابن أبي حاتم:
حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي، حدثنا السري بن حَيَّان، حدثنا عباد بن عباد، حدثنا مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن مسروق قال: قالت لي عائشة [رضي الله عنها] (3) : ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما ثم طواه، ثم ظل صائما ثم طواه، ثم ظل صائما، [ثم] (4) قال: "يا عائشة، إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد. يا عائشة، إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم، فقال: { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } وإني -والله-لأصبرن كما صبروا جَهدي، ولا قوة إلا بالله" (5)
{ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } أي: لا تستعجل لهم حلول العقوبة بهم، كقوله: { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا } [المزمل: 11] ، وكقوله { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا } [الطارق: 17].
{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } ، كقوله { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [النازعات: 46]، وكقوله { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } [يونس: 45]، [وحاصل ذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي البرزخ حين عاينوا يوم القيامة وشدائدها وطولها] (6) .
وقوله: { بَلاغٌ } قال ابن جرير: يحتمل معنيين، أحدهما: أن يكون تقديره: وذلك لَبثَ بلاغ. والآخر: أن يكون تقديره: هذا القرآن بلاغ.
وقوله: { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } أي: لا يهلك على الله إلا هالك، وهذا من عدله تعالى أنه لا يعذب إلا من يستحق العذاب.
آخر تفسير سورة الأحقاف
__________
(1) في ت: "لرسوله".
(2) في ت: "في".
(3) زيادة من ت.
(4) زيادة من ت، م، أ.
(5) ورواه الديلمي في مسند الفردوس برقم (8628) "مكرر" من طريق محمد بن حجاج الحضرمي به.
(6) زيادة من ت، أ.

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)

تفسير سورة القتال
[وهي مدنية] (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) } .
يقول تعالى: { الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: بآيات الله، { وصدوا } غيرهم { عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي: أبطلها وأذهبها، ولم يجعل لها جزاء ولا ثوابا، كقوله تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [ الفرقان : 23 ] .
ثم قال: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي: آمنت قلوبهم وسرائرهم، وانقادت جوارحهم وبواطنهم وظواهرهم، { وَآمَنُوا بِمَا نزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } ، عطف خاص على عام، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: { وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } جملة معترضة حسنة؛ ولهذا قال: { كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } قال ابن عباس: أي أمرهم. وقال مجاهد: شأنهم. وقال قتادة وابن زيد: حالهم. والكل متقارب. وقد جاء في حديث تشميت العاطس: "يهديكم الله ويصلح بالكم" (2) .
ثم قال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ } أي: إنما أبطلنا أعمال الكفار، وتجاوزنا عن سيئات الأبرار، وأصلحنا شؤونهم؛ لأن الذين كفروا اتبعوا الباطل، أي: اختاروا الباطل على الحق، { وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } أي: يبين لهم مآل أعمالهم، وما يصيرون إليه في معادهم.
__________
(1) زيادة من ت، م، أ.
(2) رواه أبو داود في السنن برقم (5038) والترمذي في السنن برقم (2739) وابن ماجه في السنن برقم (3715) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)

{ فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) } .
يقول تعالى مرشدا للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين: { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } أي: إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصدا بالسيوف، { حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا } أي: أهلكتموهم قتلا { فشدوا } [وثاق] (1) الأسارى الذين تأسرونهم، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم، إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجانا، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشاطرونهم عليه. والظاهر أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر، فإن الله، سبحانه، عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ ليأخذوا منهم الفداء، والتقلل من القتل يومئذ فقال: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ الأنفال : 67 ، 68 ] .
ثم قد ادعى بعض العلماء أن هذه الآية -المخيرة بين مفاداة الأسير والمن عليه-منسوخة بقوله تعالى: { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ] } (2) الآية [ التوبة : 5 ]، رواه العوفي عن ابن عباس. وقاله قتادة، والضحاك، والسدي، وابن جُرَيْج.
وقال الآخرون -وهم الأكثرون-: ليست بمنسوخة.
ثم قال بعضهم: إنما الإمام مُخَيَّر بين المن على الأسير ومفاداته فقط، ولا يجوز له قتله.
وقال آخرون منهم: بل له أن يقتله إن شاء، لحديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي مُعَيط من أسارى بدر، وقال ثمامة بن أثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له: "ما عندك يا ثمامة؟" فقال: إن تَقْتَلْ تَقْتُلْ ذا دَمٍ، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تُعطَ منه ما شئت (3) .
وزاد الشافعي، رحمه الله، فقال: الإمام مخير بين قتله أو المن عليه، أو مفاداته أو استرقاقه أيضا. وهذه المسألة مُحَرّرة في علم الفروع، وقد دللنا على ذلك في كتابنا "الأحكام"، ولله الحمد والمنة.
وقوله: { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } قال مجاهد: حتى ينزل عيسى ابن مريم
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) زيادة من أ.
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (4372) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[عليه السلام] . (1) وكأنه أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال" (2) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إبراهيم بن سليمان، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي (3) ، عن جُبَير بن نُفيَر؛ أن سلمة بن نُفيَل أخبرهم: أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني سَيَّبْتُ الخيل، وألقيت السلاح، ووضعت الحرب أوزارها، وقلت: "لا قتال" فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن جاء القتال، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس يُزيغ (4) الله قلوب أقوام فيقاتلونهم: ويرزقهم الله (5) منهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. ألا إن عُقْرَ دار المؤمنين الشام، والخيلُ معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة".
وهكذا رواه النسائي من طريقين، عن جُبَيْر بن نُفَير، عن سلمة بن نُفَيْل السكوني، به (6) .
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا داود بن رُشَيْد، حدثنا الوليد بن مسلم، عن محمد بن مهاجر، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي، عن جبير بن نُفَير، عن النواس بن سمعان قال: لما فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَتْح فقالوا: يا رسول الله، سيبت الخيل، ووضعت السلاح، ووضعت الحرب أوزارها، قالوا: لا قتال، قال: "كذبوا، الآن، جاء القتال، لا يزال الله يُرَفِّع (7) قلوب قوم يقاتلونهم، فيرزقهم منهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وعُقْر دار المسلمين بالشام".
وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن داود بن رُشَيْد، به (8) . والمحفوظ أنه من رواية سلمة بن نُفَيْل كما تقدم. وهذا يقوي القول بعدم النسخ، كأنه شرع هذا الحكم في الحرب إلى ألا يبقى حرب.
وقال قتادة: { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } حتى لا يبقى شرك. وهذا كقوله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } [ البقرة : 193 ]. ثم قال بعضهم: { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي: أوزار المحاربين، وهم المشركون، بأن يتوبوا إلى الله عز وجل. وقيل: أوزار أهلها (9) بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله، عز وجل.
وقوله: { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ } أي: هذا ولو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبة ونَكَال من عنده، { وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } أي: ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم، ويبلو أخباركم. كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في سورتي "آل عمران" و "براءة" في قوله: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ] .
__________
(1) زيادة من ت.
(2) رواه أبو داود في السنن برقم (2484) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
(3) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(4) في أ: "يرفع".
(5) في أ: "قاتلونهم ويرزقه الله".
(6) المسند (4/104) وسنن النسائي (6/214).
(7) في أ: "يرفع".
(8) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1617) "موارد" من طريق أبي يعلى عن داود بن رشيد به، ورواه النسائي في السنن (6/214) من طريق إبراهيم بن أبي عبلة، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، عن جبير بن نفير عن سلمة بن نفيل مرفوعا بنحوه.
(9) في ت، أ: "وقيل: أوزارها".

وقال في سورة براءة: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 14 ، 15 ] .
ثم لما كان من شأن القتال أن يُقتل كثيرٌ من المؤمنين، قال: { وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي: لن يذهبها بل يكثرها وينميها ويضاعفها. ومنهم من يجري عليه عمله في طول بَرْزَخه، كما ورد بذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، حيث قال:
حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي، حدثنا ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن كثير بن مُرّة (1) ، عن قيس الجذامي -رجل كانت له صحبة-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه: يُكَفر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوج من الحور العين، ويؤمن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر، ويحلى حُلَّة (2) الإيمان" (3) . تفرد (4) به أحمد رحمه الله.
حديث آخر: قال أحمد (5) أيضا: حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن بَحِير (6) ابن سعيد، عن خالد بن مَعْدان، عن المقدام بن معد يكرب الكندي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للشهيد عند الله ست خصال: أن يغفر له في أول دَفْعَة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حُلَّة (7) الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويَأمَن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويُشَفَّع في سبعين إنسانا من أقاربه".
وقد أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجه (8) .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عَمْرو، وعن أبي قتادة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُغفر للشهيد كل شيء إلا الدَّيْن" (9) . وروي من حديث جماعة من الصحابة، وقال أبو الدرداء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته". ورواه أبو داود (10) . والأحاديث في فضل الشهيد (11) كثيرة جدا.
وقوله: { سيهديهم } أي: إلى الجنة، كقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } [ يونس : 9 ] .
__________
(1) في ت: "أحمد بإسناده".
(2) في أ: "بحلة".
(3) المسند (4/200) قال الهيثمي في المجمع (5/293): "فيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبانن وثقه أبو حاتم وجماعة وضعفه جماعة".
(4) في ت: "انفرد".
(5) في ت: "وروى أحمد".
(6) في م، أ: "يحيى".
(7) في ت، م، أ: "حلية".
(8) المسند (4/131) وسنن الترمذي برقم (1663) وسنن ابن ماجه برقم (2799).
(9) صحيح مسلم برقم (1886).
(10) سنن أبي داود برقم (2522).
(11) في ت، م: "الشهداء".

وقوله: { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } أي: أمرهم وحالهم، { وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي: عرفهم بها وهداهم إليها.
قال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم الله لهم منها، لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها أحدا. وروى مالك عن ابن زيد بن أسلم نحو هذا.
وقال محمد بن كعب: يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة، كما تعرفون بيوتكم إذا انصرفتم من الجمعة.
وقال مقاتل بن حَيَّان: بلغنا أن الملك الذي كان وُكِّل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة، ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له، فيعرّفه كل شيء أعطاه الله في الجنة، فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل [إلى] (1) منزله وأزواجه، وانصرف الملك عنه ذكرهن (2) ابن أبي حاتم، رحمه الله.
وقد ورد الحديث الصحيح بذلك أيضا، رواه البخاري من حديث قتادة، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري [رضي الله عنه] (3) ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، يتقاصّون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، والذي نفسي بيده، إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا" (4) .
ثم قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ، كقوله: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } [ الحج : 40 ]، فإن الجزاء من جنس العمل؛ ولهذا قال: { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ، كما جاء في الحديث: "من بَلَّغ ذا سلطان حاجة مَنْ لا يستطيع إبلاغها، ثبت الله قدمه على الصراط يوم القيامة".
ثم قال تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ } ، عكس تثبيت الأقدام للمؤمنين الناصرين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تَعِس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القَطِيفة -[وفي رواية: تعس عبد الخميصة] (5) -تعس وانتكس، وإذا شِيكَ فلا انتقش"، أي: فلا شفاه الله.
وقوله: { وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي: أحبطها وأبطلها؛ ولهذا قال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ } أي: لا يريدونه ولا يحبونه، { فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) في ت: "ذكر هذا".
(3) زيادة من ت.
(4) صحيح البخاري برقم (6535).
(5) زيادة من تن أ.

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)

{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ (11) }

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)

{ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ (13) } .
يقول تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا } يعني: المشركين بالله المكذبين لرسوله { فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي: عاقبهم بتكذيبهم وكفرهم، أي: ونجى المؤمنين من بين أظهرهم؛ ولهذا قال: { وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا }
ثم قال: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ } ، ولهذا لما قال أبو سفيان صخرُ بن حرب رئيس المشركين يوم أحد حين سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر وعمر فلم يجب، وقال: أما هؤلاء فقد هلكوا، وأجابه عمر بن الخطاب فقال: كذبت يا عدو الله، بل أبقى الله لك ما يسوؤك، وإن الذين عَدَدت لأحياء [كلهم] (1) . فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سِجال، أما إنكم ستجدون مُثْلَةً لم آمر بها ولم تسؤني، ثم ذهب يرتجز ويقول: اعل هُبَل، اعل هبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تجيبوه؟" قالوا: يا رسول الله، وما نقول؟ قال: "قولوا: الله أعلى وأجلّ" ثم قال أبو سفيان: لنا العزى، ولا عُزّى لكم. فقال: "ألا تجيبوه؟" قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ قال: "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم" (2) .
ثم قال [تعالى (3) { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي: يوم القيامة { وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ } أي: في دنياهم، يتمتعون بها ويأكلون منها كأكل الأنعام، خَضْما وقضما وليس لهم همة إلا في ذلك. ولهذا ثبت في الصحيح: "المؤمن يأكل في مِعيّ واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء" (4) .
ثم قال: { وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ } أي: يوم جزائهم.
وقوله: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } يعني: مكة، { أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ } ، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة، في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد المرسلين (5) وخاتم الأنبياء، فإذا كان الله، عز وجل، قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببهم، وقد كانوا أشد قوة من هؤلاء، فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والأخرى؟ فإن رفع عن كثير منهم العقوبة في الدنيا لبركة وجود الرسول نبي الرحمة، فإن العذاب يوفر على
__________
(1) زيادة من أ.
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (4043) من حديث البراء رضي الله عنه.
(3) زيادة من أ.
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (5393) ومسلم في صحيحه برقم (2060) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(5) في ت: "الرسل".

أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)

الكافرين به في معادهم، { يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } [ هود : 20 ] .
وقوله: { مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } أي: الذين أخرجوك من بين أظهرهم.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر أبي، عن محمد بن عبد الأعلى، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن حَنَش (1) ، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي (2) صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار أراه قال: التفت (3) إلى مكة -وقال: "أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحبّ بلاد الله إليّ، ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك" (4) . فأعدى الأعداء من عَدَا على الله في حرمه، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذُحُول الجاهلية، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ }
{ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) } .
يقول: { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } أي: على بصيرة ويقين في أمر الله ودينه، بما أنزل الله في كتابه من الهدى والعلم، وبما جَبَله الله عليه من الفطرة المستقيمة، { كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } أي: ليس هذا، كهذا كقوله: { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } [ الرعد : 19 ]، وكقوله: { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ الحشر : 20 ].
ثم قال: { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } قال عكرمة: { مَثَلُ الْجَنَّةِ } أي: نعتها (5) : { فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ } قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: يعني غير متغير. وقال قتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني: غير منتن. والعرب تقول: أَسِن الماء، إذا تَغَيَّر ريحه.
وفي حديث مرفوع أورده ابن أبي حاتم: { غَيْرِ آسِنٍ } يعني: الصافي الذي لا كَدَر فيه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وَكِيع، عن الأعمش، عن عبد الله بن مُرَّة (6) ، عن مسروق قال: قال عبد الله: أنهار الجنة تُفَجَّر من جبل من مسك.
__________
(1) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
(2) في ت: "أن رسول الله".
(3) في ت، م: "وداراه".
(4) ورواه الطبري في تفسيره (26/31).
(5) في ت، م، أ: "نعيمها".
(6) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".

{ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } أي: بل في غاية البياض والحلاوة والدسومة. وفي حديث مرفوع: "لم يخرج من ضُرُوع الماشية".
{ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ } أي: ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا، بل [هي] (1) حسنة المنظر والطعم والرائحة والفعل، { لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ } [ الصافات : 47]، { لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ } [ الواقعة : 19]، { بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ } [ الصافات : 46]، وفي حديث مرفوع: "لم تعصرها الرجال بأقدامها".
[وقوله] (2) { وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى } أي: وهو في غاية الصفاء، وحسن اللون والطعم والريح، وفي حديث مرفوع: "لم يخرج من بطون النحل".
وقال (3) الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا الجُريري، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "في الجنة بحر اللبن، وبحر الماء، وبحر العسل، وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار منها بعد".
ورواه الترمذي في "صفة الجنة"، عن محمد بن بَشار، عن يزيد بن هارون، عن سعيد بن إياس الجَريري، به (4) وقال: حسن صحيح.
وقال أبو بكر بن مردويه (5) حدثنا أحمد بن محمد بن عاصم، حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة الإيادي، حدثنا أبو عمران الجوني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه الأنهار تَشخُبُ من جنة عدن في جَوْبَة، ثم تصدع بعد أنهارا" (6)
وفي الصحيح: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تُفَجَّر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن" (7) .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا مصعب بن إبراهيم بن حمزة الزبيري، وعبد الله بن الصفر السكري قالا حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا عبد الرحمن بن المغيرة، حدثني عبد الرحمن بن عياش، عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي، عن أبيه، عن عمه لقيط بن عامر، قال دلهم: وحدثنيه أيضا أبو الأسود، عن عاصم بن لقيط أن لقيط
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) زيادة من ت.
(3) في ت: "وروى".
(4) المسند (5/5) وسنن الترمذي برقم (2571) ورواه أبو نعيم في الحلية (6/204) عن طريق الجريري به، وقال: "غريب عن الجريري تفرد به عن حكيم".
(5) في ت: "وروى ابن مردويه".
(6) ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (314) من طريق معلى بن أسد عن الحارث بن عبيد به.
(7) سبق تخريج الحديث عند تفسير الآية: 133 من سورة آل عمران.

بن عامر خرج وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله، فعلام نطلع من الجنة؟ قال: "على أنهار عسل مصفى، وأنهار من خمر (1) ما بها صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وماء غير آسن، وفاكهة، لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله، وأزواج مطهرة" قلت: يا رسول الله، أو لنا فيها أزواج مصلحات؟ قال: "الصالحات للصالحين تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم، غير ألا توالد" (2) .
وقال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا: حدثنا يعقوب بن عبيدة (3) ، عن يزيد بن هارون، أخبرني الجريري، عن معاوية بن قرة، عن أبيه (4) ، عن أنس بن مالك قال: لعلكم تظنون أن أنهار الجنة تجري في أخدود في الأرض، والله إنها لتجري سائحة على وجه الأرض، حافاتها قباب اللؤلؤ، وطينها المسك الأذْفَر (5) .
وقد رواه أبو بكر ابن مَرْدُويه، من حديث مهدي بن حكيم، عن يزيد بن هارون، به مرفوعا (6) .
وقوله: { وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } ، كقوله: { يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } [ الدخان : 55]. وقوله: { فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } [ الرحمن : 52 ].
وقوله: { وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ } أي: مع ذلك كله.
وقوله: { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ } أي: أهؤلاء الذين ذكرنا منزلتهم من الجنة كمن هو خالد في النار؟ ليس هؤلاء كهؤلاء، أي: ليس من هو في الدرجات كمن هو (7) في الدركات، { وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا } أي: حارا (8) شديد الحر، لا يستطاع. { فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } أي: قطع ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء، عياذا بالله من ذلك.
__________
(1) في ت، م، أ: "كأس".
(2) المعجم الكبير (19/211) من حديث طويل كأن الحافظ اختصره، وصورة السند في المعجم الكبير: "حدثنا مصعب بن إبراهيم بن حمزة الزبيري وعبد الله بن الصقر العسكري -وصوابه: السكري- قالا: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الله بن خالد بن حزام، حدثني عبد الرحمن بن عياش الأنصاري ثم المسعودي عن دلهم بن الأسود عن عاصم بن لقيط أن لقيط بن عامر خرج... الحديث". وهناك عطف بالواو يوهم أن هناك إسنادا آخر رواه الطبراني، وليس عنده إلا من هذا الطريق، وقد رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند (4/13) من طريق إبراهيم بن حمزة بن مصعب بن الزبير عن عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي عن عبد الله بن عياش عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي عن أبيه عن عمه لقيط بن عامر فذكره.
(3) في م: "عبيد".
(4) في ت: "وروى ابن أبي الدنيا بسنده".
(5) وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (4/518) وقال: "وروى ابن أبي الدنيا بسنده".
(6) ورواه أبو نعيم في الحلية (6/205) من طريق محمد بن أحمد الزهري عن مهدي بن حكيم بن مهدي به مرفوعا.
(7) في م: "هو خالد".
(8) في ت: "صار".

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)

{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) } .
يقول تعالى مخبرا عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم حيث كانوا يجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه ولا يفهمون منه شيئا، فإذا خرجوا من عنده { قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } من الصحابة: { مَاذَا قَالَ آنِفًا } أي: الساعة، لا يعقلون ما يقال (1) ، ولا يكترثون له.
قال الله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } أي: فلا فهم صحيح، ولا قصد صحيح.
ثم قال: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } أي: والذين قصدوا الهداية وفقهم الله لها فهداهم إليها، وثبتهم عليها وزادهم منها، { وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } أي: ألهمهم رشدهم.
وقوله: { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } أي: وهم غافلون عنها، { فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا } أي: أمارات اقترابها، كقوله تعالى: { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى أَزِفَتِ الآزِفَةُ } [ النجم : 56 ، 57 ]، وكقوله: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } [ القمر : 1 ] وقوله: { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1]، وقوله: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ]، فبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة؛ لأنه خاتم الرسل الذي أكمل الله به الدين، وأقام به الحجة على العالمين. وقد أخبر -صلوات الله وسلامه عليه-بأمارات الساعة وأشراطها، وأبان عن ذلك وأوضحه بما لم يؤته نبي قبله، كما هو مبسوط في موضعه.
وقال الحسن البصري: بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة. وهو كما قال؛ ولهذا جاء في أسمائه عليه السلام، أنه نبي التوبة، ونبي الملحمة، والحاشر الذي يُحشَر الناس على قدميه، والعاقب الذي ليس بعده نبي.
وقال (2) البخاري: حدثنا أحمد بن المقدام، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا أبو حازم، حدثنا (3) سهل بن سعد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بأصبعيه هكذا، بالوسطى والتي تليها: "بعثت أنا والساعة كهاتين" (4) .
ثم قال تعالى: { فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } أي: فكيف للكافرين بالتذكر (5) إذا جاءتهم القيامة، حيث لا ينفعهم ذلك (6) ، كقوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } [ الفجر : 23 ] ،
__________
(1) في أ: "ما يقول".
(2) في ت: "وروى".
(3) في ت: "عن".
(4) صحيح البخاري برقم (4936).
(5) في ت: "التذكير".
(6) في ت: "التذكير".

{ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [ سبأ : 52 ] .
وقوله: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ } هذا إخبار: بأنه لا إله إلا الله، ولا يتأتى (1) كونه آمرا بعلم ذلك؛ ولهذا عطف عليه بقوله: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي هَزْلي وجدّي، وخَطَئي وعَمْدي، وكل ذلك عندي" (2) . وفي الصحيح أنه كان يقول في آخر الصلاة: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت إلهي لا إله إلا أنت" (3) وفي الصحيح أنه قال: "يا أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" (4)
وقال (5) الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عاصم الأحول قال: سمعت (6) عبد الله بن سرجس قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلت معه من طعامه، فقلت: غفر الله لك يا رسول الله فقلت: استغفر لك (7) ؟ فقال: "نعم، ولكم"، وقرأ: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } ، ثم نظرت إلى نُغْض كتفه الأيمن -أو: كتفه الأيسر شعبة الذي شك-فإذا هو كهيئة الجمع عليه الثآليل.
رواه مسلم، والترمذي، والنسائي (8) ، وابن جرير، وابن أبي حاتم، من طرق، عن عاصم الأحول، به (9) .
وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو يعلى: حدثنا مُحَرَّز بن عون (10) ، حدثنا عثمان بن مطر، حدثنا عبد الغفور، عن أبي نَصِيرَة، عن أبي رجاء، عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار، فأكثروا منهما، فإن إبليس قال: أهلكت (11) الناس بالذنوب، وأهلكوني بـ "لا إله إلا الله"، والاستغفار فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء، فهم يحسبون أنهم مهتدون" (12) .
وفي الأثر المروي: "قال إبليس: وعزتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في
__________
(1) في أ: "إلا هو ولا ينافي".
(2) صحيح البخاري برقم (6398).
(3) صحيح مسلم برقم (769).
(4) صحيح البخاري برقم (6307).
(5) في ت: "وروى".
(6) في ت: "عن".
(7) في ت، م، أ: "استغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(8) في ت: "والنسائي وابن ماجه".
(9) المسند (5/82) وصحيح مسلم برقم (2346) والشمائل للترمذي برقم (22) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11496).
(10) في م: "محمد بن عوف" وفي هـ: "محمد بن عون". والتصويب من مسند أبي يعلى.
(11) في م: "قال: إنما أهلكت".
(12) مسند أبي يعلى (1/123)، وقال الهيثمي في المجمع (10/207): "فيه عثمان بن مطر وهو ضعيف".

أجسادهم. فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني" (1)
والأحاديث في فضل الاستغفار كثيرة جدا.
وقوله: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } أي: يعلم تصرفكم في نهاركم ومستقركم في ليلكم، كقوله: { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } [ الأنعام : 60 ]، وكقوله: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ هود : 6 ]. وهذا القول ذهب إليه ابن جريج، وهو اختيار ابن جرير. وعن ابن عباس: متقلبكم في الدنيا، ومثواكم في الآخرة.
وقال السدي : متقلبكم في الدنيا، ومثواكم في قبوركم.
والأول أولى وأظهر، والله أعلم.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (3/29) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)

{ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) } .
يقول تعالى مخبرا عن المؤمنين أنهم تمنوا شرعية الجهاد، فلما فرضه الله، عز وجل (1) ، وأمر به نكل عنه كثير من الناس، كقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا } [النساء:77] .
وقال ها هنا: { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ } أي: مشتملة على حُكْم القتال؛ ولهذا قال: { فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } أي: من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء. ثم قال مشجعا لهم: { فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ } أي: وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا، أي: في الحالة الراهنة، { فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ } أي: جد الحال، وحضر القتال، { فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ } أي: أخلصوا له النية، { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ }
وقوله: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ } أي: عن الجهاد ونكلتم عنه، { أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ }
__________
(1) في ت: "الله تعالى".

أي: تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء، تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام؛ ولهذا قال: { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما، وعن قطع الأرحام خصوصا، بل قد أمر [الله] (1) تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال. وقد وردت الأحاديث الصحاح والحسان بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من طرق عديدة، ووجوه كثيرة.
قال البخاري: حدثنا خالد بن مَخْلَد، حدثنا سليمان، حدثني معاوية بن أبي مُزَرّد، عن سعيد بن يسار (2) ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن عز وجل، فقال: مه! فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذاك (3) . قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } (4) .
ثم رواه البخاري من طريقين آخرين، عن معاوية بن أبي مزرد، به. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا إن شئتم: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } (5) ورواه مسلم من حديث معاوية بن أبي مزرد، به (6) .
وقال (7) الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل أخبرنا عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن، عن أبيه، عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ذنب أحرى أن يعجل الله عقوبته في الدنيا، مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم".
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، من حديث إسماعيل -هو ابن عُلَية-به (8) . وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وقال (9) الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ميمون أبو محمد المرئي، حدثنا محمد بن عباد المخزومي، عن ثوبان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سره النِّساء في الأجل، والزيادة في الرزق، فليصل رحمه" (10) . تفرد به أحمد، وله شاهد في الصحيح.
__________
(1) زيادة من ت، م، أ.
(2) في ت: "فروى البخاري بسنده".
(3) في أ: "فذلك لك".
(4) صحيح البخاري برقم (4830).
(5) صحيح البخاري برقم (4831، 4832) لكن زاد أبو الحباب بين معاوية وسعيد بن يسار.
(6) صحيح مسلم برقم (2554) من طريق معاوية بن أبي مزرد عن عمه أبي الحباب عن سعيد بن يسار به.
(7) في ت: "وروى".
(8) المسند (5/38) وسنن أبي داود برقم (4902) وسنن الترمذي برقم (2511) وسنن ابن ماجه برقم (4211).
(9) في ت: "وروى".
(10) المسند (5/279) وشاهده حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا: "من سره أن يبسط عليه رزقه، أو ينسأ في أثره فليصل رحمه". رواه البخاري في صحيحه برقم (5986) ومسلم في صحيحه برقم (2557) واللفظ لمسلم.

وقال (1) أحمد أيضا: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي ذوي أرحام، أصل ويقطعون، وأعفو ويظلمون، وأحسن ويسيئون، أفأكافئهم؟ قال: "لا إذن تتركون جميعا، ولكن جُدْ بالفضل وصلهم؛ فإنه لن يزال معك ظهير من الله، عز وجل، ما كنت على ذلك" (2) .
تفرد به من هذا الوجه، وله شاهد (3) من وجه آخر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يَعْلَى، حدثنا فِطْر، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو (4) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرحم معلقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها"، رواه البخاري (5) (6) .
وقال أحمد: حدثنا بهز، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا قتادة، عن أبي ثمامة الثقفي، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضع الرحم يوم القيامة لها حُجْنَة كحجنة المغزل، تتكلم بلسان طُلَق ذُلَق، فتصل من وصلها وتقطع من قطعها" (7) .
وقال (8) الإمام أحمد: حدثنا سفيان، حدثنا عمرو، عن أبي قابوس، عن عبد الله بن عمرو -يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم-قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض (9) يرحمكم أهل السماء، والرحم شُجْنَة من الرحمن، من وصلها وصلته، ومن قطعها بتته".
وقد رواه أبو داود (10) والترمذي، من حديث سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، به (11) . وهذا هو الذي يروي بتسلسل الأولية (12) ، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا هشام الدَّسْتَوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ؛ أن أباه حدثه: أنه دخل على عبد الرحمن بن عوف وهو مريض، فقال له عبد الرحمن: وصلتك رَحمٌ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن يصلها أصله، ومن يقطعها أقطعه فأبته -أو قال: من يبتها أبته".
تفرد به من هذا الوجه (13) . ورواه أحمد أيضا من حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن الرداد-
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) المسند (2/181).
(3) في أ: "شواهد".
(4) في ت: "عن ابن عمر".
(5) في ت: "انفرد به".
(6) المسند (2/163) وصحيح البخاري برقم (5991).
(7) المسند (2/189) قال الهيثمي في المجمع (8/150): "رجال أحمد رجال الصحيح غير أبي ثمامة الثقفي، وثقه ابن حبان".
(8) في ت: "رواه".
(9) في أ: "ارحموا من في الأرض".
(10) في ت: "وقد رواه أحمد وأبو داود".
(11) المسند (2/160) وسنن أبي داود برقم (4941) وسنن الترمذي برقم (1924).
(12) وأروي هذا الحديث بالإجازة مسلسلا بأول ما سمع، إلا أن الأولية تنقطع فيما فوق سفيان، وعلى هذا فشرط المسلسل غير كتحقق عند التدقيق.
(13) المسند (1/191).

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)

أو أبي الردّاد-عن عبد الرحمن بن عوف، به (1) . ورواه أبو داود والترمذي، من رواية أبي سلمة، عن أبيه (2) . والأحاديث في هذا كثيرة.
وقال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن عمار الموصلي، حدثنا عيسى بن يونس، عن محمد بن عبد الله بن علاثة (3) ، عن الحجاج بن الفُرَافِصَة، عن أبي عمر البصري، عن سلمان (4) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأرواح جنود مجندة، فما تَعارف منها ائتلف/، وما تناكر منها اختلف" (5) .
وبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ظهر القول، وخزن العمل، وائتلفت الألسنة، وتباغضت القلوب، وقطع كل ذي رحم رحمه، فعند ذلك لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم" (6) .
{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) } .
يقول تعالى آمرًا بتدبر القرآن وتفهمه، وناهيا عن الإعراض عنه، فقال: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } أي: بل على قلوب أقفالها، فهي مُطْبَقَة لا يخلص إليها شيء من معانيه.
قال ابن جرير: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد قال: حدثنا (7) حماد بن زيد، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ، فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها (8) أقفالها حتى يكون الله عز وجل يفتحها أو يفرجها. فما زال الشاب في نفس عمر، رضي الله عنه، حتى ولي، فاستعان به (9) .
ثم قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ } أي: فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر، { مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ } أي: زين لهم ذلك وحسنه، { وَأَمْلَى لَهُمْ } أي: غرهم
__________
(1) المسند (1/194) وقال الترمذي في السنن: "روى معمر عن الزهري هذا الحديث عن أبي سلمة عن رداد الليثي عن عبد الرحمن ابن عوف، قال محمد -يعني البخاري-: حديث معمر خطأ" والصحيح الرواية الآتية في السنن.
(2) سنن أبي داود برقم (1624) وسنن الترمذي برقم (1907).
(3) في هـ: "الحجاج بن يونس" والتصويب من المعجم الكبير.
(4) في هـ: "سليمان" والتصويب من المعجم الكبير.
(5) المعجم الكبير (6/263) وقال الهيثمي في المجمع (7/287): "فيه جماعة لم أعرفهم". وله شاهد من حديث أبي هريرة رواه أحمد في المسند (2/295).
(6) المعجم الكبير (6/263) والكلام عليه كالذي قبله.
(7) في ت، م: "ابن".
(8) في تن م: "بل على قلوب".
(9) تفسير الطبري (26/37).

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)

وخدعهم، { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ } أي: مالئوهم وناصحوهم في الباطن على الباطل، وهذا شأن المنافقين يظهرون خلاف ما يبطنون؛ ولهذا قال الله عز وجل: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } أي: [يعلم] (1) ما يسرون وما يخفون، الله مطلع عليه وعالم به، كقوله: { وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } [ النساء : 81 ].
ثم قال: { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } أي: كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعصت الأرواح في أجسادهم، واستخرجتها الملائكة بالعنف والقهر والضرب، كما قال: { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } الآية [ الأنفال : 50 ]، وقال: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ } أي: بالضرب { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [ الأنعام : 93 ]؛ ولهذا قال ها هنا: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }
{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) }
__________
(1) زيادة من ت.

وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)

{ وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) } .
يقول تعالى: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } أي: اعتقد (1) المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين؟ بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمهم (2) ذوو البصائر، وقد أنزل تعالى في ذلك سورة "براءة"، فبين فيها فضائحهم وما يعتمدونه من الأفعال الدالة على نفاقهم؛ ولهذا إنما كانت تسمى الفاضحة. والأضغان: جمع ضغن، وهو ما في النفوس من الحسد والحقد للإسلام وأهله والقائمين بنصره.
وقوله: { وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ } يقول تعالى: ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم، فعرفتهم (3) عيانا، ولكن لم يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين سترا منه على خلقه، وحملا للأمور على ظاهر السلامة، ورد السرائر إلى عالمها، { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } أي: فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم، يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه، وهو المراد من لحن القول، كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه. وفي الحديث: "ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله
__________
(1) في م: "أيعتقد".
(2) في أ: "يفهمه".
(3) في ت: "تعرفهم".

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)

جلبابها، إن خيرا فخير، وإن شرًّا فشر" (1) . وقد ذكرنا ما يستدل به على نفاق الرجل، وتكلمنا على نفاق العمل والاعتقاد (2) في أول "شرح البخاري"، بما أغنى عن إعادته ها هنا. وقد ورد في الحديث تعيين جماعة من المنافقين. قال الإمام أحمد:
حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن سلمة، عن عياض بن عياض، عن أبيه، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو، رضي الله عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن منكم (3) منافقين، فمن سميت فليقم". ثم قال: "قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان". حتى سمى ستة وثلاثين رجلا ثم قال: "إن فيكم -أو: منكم (4) -فاتقوا الله". قال: فمر عمر برجل ممن سمى مقنع قد كان يعرفه، فقال: ما لك؟ فحدثه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بعدًا لك سائر اليوم (5) .
وقوله: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } أي: ولنختبرنكم بالأوامر والنواهي، { حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } . وليس في تقدم علم الله تعالى بما هو كائن أنه سيكون شك ولا ريب، فالمراد: حتى نعلم وقوعه؛ ولهذا يقول ابن عباس في مثل هذا: إلا لنعلم، أي: لنرى.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) } .
يخبر تعالى عمن كفر وصد عن سبيل الله، وخالف الرسول وشاقه، وارتد عن الإيمان من بعد ما تبين له الهدى: أنه لن يضر الله شيئًا، وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها، وسيحبط الله عمله فلا يثيبه على سالف ما تقدم من عمله الذي عقبه بردته مثقال بعوضة من خير، بل يحبطه ويمحقه بالكلية، كما أن الحسنات يذهبن السيئات.
وقد قال الإمام محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا أبو قدامة، حدثنا وكيع، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال : (6) كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يظنون أنه لا يضر مع "لا إله إلا الله" ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، فنزلت: { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } k فخافوا أن يبطل الذنب العمل.
__________
(1) سيأتي تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية: 29 من سورة الفتح.
(2) في أ: "النفاق العملي والاعتقادي".
(3) في ت: "فيكم".
(4) في ت: "ومنكم".
(5) المسند (5/273) قال الهيثمي في المجمع (1/112): "فيه عياض بن أبي عياض عن أبيه ولم أر من ترجمهما".
(6) في ت: "روى الإمام أحمد بإسناده".

إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)

ثم روي من طريق عبد الله بن المبارك: أخبرني بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عن نافع، عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول، حتى نزلت: { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } ، فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات والفواحش، حتى نزلت: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ]، فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش، ونرجو لمن لم يصيبها (1) .
ثم أمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله التي هي سعادتهم في الدنيا والآخرة، ونهاهم عن الارتداد الذي هو مبطل للأعمال؛ ولهذا قال: { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } أي: بالردة؛ ولهذا قال بعدها: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } ، كقوله { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } الآية.
ثم قال لعباده المؤمنين: { فَلا تَهِنُوا } أي: لا تضعفوا عن الأعداء، { وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ } أي: المهادنة والمسالمة، ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم وكثرة عَدَدِكم وعُدَدِكُمْ؛ ولهذا قال: { فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ } أي: في حال علوكم على عدوكم، فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة (2) بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأى الإمام في المعاهدة والمهادنة مصلحة، فله أن يفعل ذلك، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صده كفار قريش عن مكة، ودعوه إلى الصلح ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين، فأجابهم إلى ذلك.
وقوله: { وَاللَّهُ مَعَكُمْ } فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء، { وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } أي: ولن يحبطها ويبطلها ويسلبكم إياها، بل يوفيكم ثوابها ولا ينقصكم منها شيئا.
{ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) } .
يقول تعالى تحقيرًا لأمر الدنيا وتهوينا لشأنها: { إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } أي: حاصلها ذلك إلا ما كان منها لله عز وجل؛ ولهذا قال: { وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ } أي: هو غني عنكم لا يطلب منكم شيئا، وإنما فرض عليكم الصدقات من الأموال مواساة لإخوانكم
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة للمروزي برقم (698، 699).
(2) في ت: "فئة كثيرة".

الفقراء، ليعود نفع ذلك عليكم، ويرجع ثوابه إليكم.
ثم قال: { إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا } أي: يحرجكم (1) تبخلوا: { وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ }
قال قتادة: "قد علم الله أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان". وصدق قتادة فإن المال محبوب، ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه.
وقوله: { هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ } أي: لا يجيب إلى ذلك { وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ } أي: إنما نقص نفسه من الأجر، وإنما يعود وبال ذلك عليه، { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ } أي: عن كل ما سواه، وكل شيء فقير إليه دائما؛ ولهذا قال: { وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ } أي: بالذات إليه. فوصفه بالغنى وصف لازم له، ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم، [أي] (2) لا ينفكون عنه.
وقوله: { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا } أي: عن طاعته واتباع شرعه (3) { يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } أي: ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره.
وقال (4) ابن أبي حاتم، وابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني مسلم بن خالد، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (5) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } ، قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدل بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال: فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي ثم قال: "هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس" (6) تفرد به مسلم بن خالد الزنجي، ورواه عنه غير واحد، وقد تكلم فيه بعض الأئمة، والله أعلم.
آخر تفسير سورة القتال
__________
(1) في أ: "يحوجكم".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت: "شرعته" وفي أ: "شريعته".
(4) في ت: "وروى".
(5) زيادة من ت.
(6) تفسير الطبري (26/43) ومسلم بن خالد الزنجي ضعفه ابن معين وقال البخاري: منكر الحديث لكنه لم ينفرد به، فقد توبع:
تابعه شيخ من أهل المدينة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه به، أخرجه الترمذي برقم (3260) وقال: "هذا حديث غريب في إسناده مقال".
تابعه عبد الله بن جعفر بن نجيح عن العلاء عن أبيه به، أخرجه الترمذي برقم (3261) وعبد الله بن جعفر والد على بن المديني ضعيف.

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)

تفسير سورة الفتح
وهي مكية
قال الإمام أحمد (1) حدثنا وَكِيع، حدثنا شُعْبَة، عن معاوية بن قرة قال: سمعت عبد الله بن مغفل يقول: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجَّع فيها -قال معاوية: لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا لحكيت لكم قراءته، أخرجاه من حديث شعبة به (2) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) } .
نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ليقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله. فلما نحر هديه حيث أحصر، ورجع، أنزل الله، عز وجل، هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل ذلك الصلح فتحًا باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روى عن ابن مسعود، رضي الله عنه، وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية.
وقال الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية (3) .
وقال (4) البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحًا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة، والحديبية بئر. فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم تمضمض ودعا، ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا (5) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نوح، حدثنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن أبيه (6) ، عن عمر بن الخطاب قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، قال: فسألته عن شيء -ثلاث مرات-فلم
__________
(1) في ت: "وروى البخاري ومسلم والإمام أحمد".
(2) المسند (5/24) وصحيح البخاري برقم (4835) وصحيح مسلم برقم (794).
(3) رواه الطبري (26/44).
(4) في ت: "وروى".
(5) صحيح البخاري برقم (4150).
(6) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".

يرد علي، قال: فقلت لنفسي: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يرد عليك؟ قال: فركبت راحلتي فتقدمت مخافة أن يكون نزل في شيء، قال: فإذا أنا بمناد ينادي: يا عمر، أين عمر؟ قال: فرجعت وأنا أظن أنه نزل في شيء، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نزلت (1) علي الليلة (2) سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } .
ورواه البخاري، والترمذي، والنسائي من طرق، عن مالك، رحمه الله (3) ، وقال علي بن المديني: هذا إسناد مديني [جيد] (4) لم نجده إلا عندهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } مرجعه من الحديبية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض"، ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هنيئا مريئا يا نبي الله، لقد بين الله، عز وجل، ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه: { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ } حتى بلغ: { فَوْزًا عَظِيمًا } [الفتح : 5]، أخرجاه في الصحيحين من رواية قتادة به (5) .
وقال (6) الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا مُجَمِّعُ بن يعقوب، قال: سمعت أبي يحدث عن عمه عبد الرحمن بن أبي يزيد الأنصاري عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري -وكان أحد (7) القراء الذين قرءوا القرآن-قال: شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه، فقرأ عليهم: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } ، قال: فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله، وفتح هو؟ قال: "إي والذي نفس محمد بيده، إنه لفتح". فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما، وكان الجيش ألفا وخمسمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهما.
رواه أبو داود في الجهاد عن محمد بن عيسى، عن مجمع بن يعقوب، به (8) .
وقال (9) ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا أبو بحر، حدثنا شعبة، حدثنا جامع بن شداد، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول (10) : لما
__________
(1) في م: "نزل".
(2) في ت، م: "البارحة".
(3) المسند (1/31) وصحيح البخاري برقم (4833) وسنن الترمذي برقم (3262) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11499).
(4) زيادة من م.
(5) المسند (3/197) وصحيح البخاري برقم (4148) وصحيح مسلم برقم (1786).
(6) في ت: "وروى".
(7) في ت: "أحب".
(8) المسند (3/420) وسنن أبي داود برقم (2736).
(9) في ت: "وروى".
(10) في ت: "عن ابن مسعود قال".

أقبلنا من الحديبية أعرسنا فنمنا، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت، فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم، قال: فقلنا: "امضوا" (1) . فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: "افعلوا ما كنتم تفعلون وكذلك [يفعل] (2) من نام أو نسي". قال: وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبنها، فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة، فأتيته بها فركبها (3) ، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي، قال: وكان إذا أتاه [الوحي] (4) اشتد عليه، فلما سري عنه أخبرنا أنه أنزل عليه: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } .
وقد رواه أحمد وأبو داود، والنسائي من غير وجه، عن جامع بن شداد به (5) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة، قال: سمعت المغيرة بن شعبة (6) يقول: كان النبي (7) صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا".
أخرجاه (8) وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث زياد به (9) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ابن وهب، حدثني أبو صخر، عن ابن قسيط، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه (10) .
فقالت له عائشة: يا رسول الله، أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: "يا عائشة، أفلا أكون عبدا شكورا؟".
أخرجه مسلم في الصحيح من رواية عبد الله بن وهب، به (11) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد الله بن عون الخراز -وكان ثقة بمكة-حدثنا محمد بن بشر (12) حدثنا مسعر، عن قتادة، عن أنس، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه -أو قال ساقاه-فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟" غريب من هذا الوجه (13) .
__________
(1) في م: "انصتوا".
(2) زيادة من ت، أ.
(3) في ت: "فركب".
(4) زيادة من م.
(5) تفسير الطبري (26/43) والمسند (1/464) وسنن أبي داود برقم (447) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8853).
(6) في ت: "وروى الإمام أحمد بسنده".
(7) في أ: "رسول الله".
(8) في ت: "أخرجه البخاري ومسلم".
(9) المسند (4/55) وصحيح البخاري برقم (4836) وصحيح مسلم برقم (2819) وسنن الترمذي برقم (412) وسنن النسائي (3/219) وسنن ابن ماجه برقم (1419).
(10) في أ: "ينفطر قدماه".
(11) المسند (6/115) وصحيح مسلم برقم (2820).
(12) في ا: "بشير".
(13) ورواه أبو يعلى في المسند (5/280) من طريق عبد الله بن عون الخراز به، ورواه البزار في مسنده برقم (2380) "كشف الأستار" من طريق الحسين بن الأسود عن محمد بن بشر به، وقال البزار: "لا نعلم أحدا حدث بهذا الحديث بهذا الإسناد إلا الحسين بن بشر وعبد الله بن عون الخزار، وقد رواه غيرهما عن محمد بن بشر عن مسعر، عن زياد بن علاقة، عن المغيرة بن شعبةن وهو الصواب" فكلام الإمام البزار هنا موضح لقول الحافظ ابن كثير: "غريب من هذا الوجه".

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)

فقوله: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } أي: بينا ظاهرا، والمراد به صلح الحديبية فإنه حصل بسببه خير جزيل، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض (1) ، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان.
وقوله: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } : هذا من خصائصه -صلوات الله وسلامه عليه-التي لا يشاركه فيها غيره. وليس صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو -صلوات الله وسلامه عليه-في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة. ولما كان أطوع خلق الله لله، وأكثرهم (2) تعظيما لأوامره (3) ونواهيه. قال حين بركت به الناقة: "حبسها حابس الفيل" ثم قال: "والذي نفسي بيده، لا يسألوني اليوم شيئا يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها" (4) فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح، قال الله له: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } أي: في الدنيا والآخرة، { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } أي: بما يشرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم.
{ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا } أي: بسبب خضوعك لأمر الله يرفعك الله وينصرك على أعدائك، كما جاء في الحديث الصحيح: "وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" (5) . وعن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (6) أنه قال: ما عاقبت -أي في الدنيا والآخرة-أحدا عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله فيه.
{ هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) }
يقول تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ } أي: جعل الطمأنينة. قاله ابن عباس، وعنه: الرحمة.
وقال قتادة: الوقار في قلوب المؤمنين. وهم الصحابة يوم الحديبية، الذين استجابوا لله ولرسوله وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما اطمأنت قلوبهم لذلك، واستقرت، زادهم إيمانًا مع إيمانهم.
__________
(1) في م: "بعضا".
(2) في ت، أ: "وأشدهم"
(3) في ت: "لأوامر الله".
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (2731، 2732).
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) زيادة من ت.

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)

وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب.
ثم ذكر تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين، فقال: { وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي: ولو أرسل عليهم ملكا واحدا لأباد خضراءهم، ولكنه تعالى شرع لعباده المؤمنين الجهاد والقتال، لما له في ذلك من الحكمة البالغة والحجة القاطعة، والبراهين الدامغة؛ ولهذا قال: { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }
ثم قال تعالى: { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } ، قد تقدم حديث أنس: قالوا: هنيئا لك يا رسول الله، هذا لك فما لنا؟ فأنزل الله: { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } أي: ماكثين فيها أبدا. { وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي: خطاياهم وذنوبهم، فلا يعاقبهم عليها، بل يعفو ويصفح ويغفر، ويستر ويرحم ويشكر، { وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا } ، كقوله { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [آل عمرن : 185].
وقوله: { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ } أي: يتهمون الله في حكمه، ويظنون بالرسول وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية؛ ولهذا قال: { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ } أي: أبعدهم من رحمته { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } .
ثم قال مؤكدا لقدرته على الانتقام من الأعداء -أعداء الإسلام من الكفرة والمنافقين-: { وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } .
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا (9) }

إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)

{ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) }
يقول تعالى لنبيه محمد -صلوات الله وسلامه عليه (1) { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا } أي: على الخلق، { وَمُبَشِّرًا } أي: للمؤمنين، { وَنَذِيرًا } أي: للكافرين. وقد تقدم تفسيرها في سورة "الأحزاب" (2) .
{ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ } ، قال ابن عباس وغير واحد: يعظموه، { وَتُوَقِّرُوهُ } من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام، { وَتُسَبِّحُوهُ } أي: يسبحون الله، { بُكْرَةً وَأَصِيلا } أي: أول النهار وآخره.
ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم تشريفا له وتعظيما وتكريما: { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } كقوله { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [النساء : 80]، { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } أي: هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى هو المبايع بواسطة رسوله
__________
(1) في ت، م: "صلى الله عليه وسلم".
(2) عند الآية الخامسة والأربعين.

صلى الله عليه وسلم كقوله: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة : 111].
وقد قال (1) ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا الفضل بن يحيى الأنباري، حدثنا علي بن بكار، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سل سيفه في سبيل الله، فقد بايع الله" (2) .
وحدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، أخبرنا جرير، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر: "والله ليبعثه الله يوم القيامة له عينان ينظر بهما، ولسان ينطق، به ويشهد على من استلمه بالحق، فمن استلمه فقد بايع الله"، ثم قرأ: { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (3) .
ولهذا قال هاهنا: { فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } أي: إنما يعود وبال ذلك على الناكث، والله غني عنه، { وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } أي: ثوابًا جزيلا. وهذه البيعة هي بيعة الرضوان، وكانت تحت شجرة سَمُر بالحديبية، وكان الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ قيل: ألف وثلثمائة. وقيل: أربعمائة. وقيل: وخمسمائة. والأوسط (4) أصح.
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك:
قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن جابر قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة.
ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة، به (5) . وأخرجاه أيضا من حديث الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر قال: كنا يومئذ ألفا وأربعمائة، ووضع يده في ذلك الماء، فنبع الماء من بين أصابعه، حتى رووا كلهم (6) .
وهذا مختصر من سياق آخر حين ذكر قصة عطشهم يوم الحديبية، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاهم سهما من كنانته، فوضعوه في بئر الحديبية، فجاشت بالماء، حتى كفتهم، فقيل لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: كنا ألفا وأربعمائة، ولو كنا مائة ألف لكفانا (7) . وفي رواية [في] (8) الصحيحين عن جابر: أنهم كانوا خمس عشرة مائة (9) .
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) ورواه ابن مردويه كما في الجامع الصغير، ورمز له السيوطي بالضعف.
(3) ورواه الترمذي في السنن برقم (961) من طريق قتيبة عن جرير بإسناده إلى قوله: "يشهد على من استلمه بالحق" ولم يذكر الآية، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن".
(4) في ت: "والأول".
(5) صحيح البخاري برقم (4840) وصحيح مسلم برقم (1856).
(6) صحيح البخاري برقم (4154) وصحيح مسلم برقم (1856).
(7) رواه البخاري في صحيحه برقم (5639).
(8) زيادة من م، أ.
(9) صحيح البخاري برقم (4152) وصحيح مسلم برقم (1856).

وروى البخاري من حديث قتادة، قلت لسعيد بن المسيب: كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة.
قلت: فإن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: كانوا أربع عشرة مائة. قال رحمه الله: وهم، هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة (1) .
قال البيهقي: هذه الرواية تدل على أنه كان في القديم يقول: خمس عشرة مائة، ثم ذكر الوهم فقال: أربع عشرة مائة (2) .
وروى العوفي عن ابن عباس: أنهم كانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين. والمشهور الذي رواه غير واحد عنه: أربع عشرة مائة، وهذا هو الذي رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن العباس الدوري، عن يحيى بن معين، عن شبابة بن سوار، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة (3) . وكذلك هو في رواية سلمة بن الأكوع، ومعقل بن يسار، والبراء بن عازب. وبه يقول غير واحد من أصحاب المغازي والسير. وقد أخرج صاحبا الصحيح من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: كان أصحاب الشجرة ألفا وأربعمائة، وكانت أسلم يومئذ ثمن المهاجرين (4) .
وروى محمد بن إسحاق في السيرة، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، أنهما حدثاه قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالا وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، كل بدنة عن عشرة نفر، وكان جابر بن عبد الله فيما بلغني عنه يقول: كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة (5) .
كذا قال ابن إسحاق وهو معدود من أوهامه، فإن المحفوظ في الصحيحين أنهم كانوا بضع عشرة مائة.
ذكر سبب هذه البيعة العظيمة:
قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب من يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظي (6) عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني، عثمان بن عفان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4153).
(2) دلائل النبوة للبيهقي (4/97).
(3) دلائل النبوة للبيهقي (4/98).
(4) صحيح البخاري برقم (4155) وصحيح مسلم برقم (1857).
(5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/308).
(6) في ت، م: "غلظتي".

فخرج عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (1) ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول صلى الله عليه وسلم. واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: "لا نبرح حتى نناجز القوم". ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة. فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت. وكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعهم على الموت، ولكن بايعنا على ألا نفر.
فبايع الناس، ولم يتخلف أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة، فكان جابر يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته، قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي كان من أمر عثمان باطل. (2)
وذكر ابن لهيعة عن الأسود (3) . عن عروة بن الزبير قريبا من هذا السياق، وزاد في سياقه: أن قريشا بعثوا وعندهم عثمان [بن عفان] (4) سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما هم عندهم إذ وقع كلام بين (5) بعض المسلمين وبعض المشركين، وتراموا بالنبل والحجارة، وصاح الفريقان كلاهما، وارتهن كل من الفريقين من عنده من الرسل، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بالبيعة، فاخرجوا على اسم الله فبايعوا، فسار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه على ألا يفروا أبدا، فأرعب ذلك المشركين (6) ، وأرسلوا من كان عندهم من المسلمين، ودعوا إلى الموادعة والصلح.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا تمتام (7) ، حدثنا الحسن بن بشر (8) ، حدثنا الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن أنس (9) بن مالك قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان [رضي الله عنه] (10) رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، فبايع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله". فضرب بإحدى يديه على الأخرى، فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم (11) .
__________
(1) زيادة من ت، م.
(2) السيرة النبوية لابن هشام (2/315).
(3) في ت: "أبي الأسود".
(4) زيادة من أ.
(5) في م: "من".
(6) في ت: "المشركون" وهو خطأ.
(7) في أ، م: "هشام".
(8) في أ: "بشير".
(9) في ت: "وروى البيهقي بسنده".
(10) زيادة من ت.
(11) لم أجده في دلائل النبوة ولعله في غيره.

قال ابن هشام (1) : حدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له، عن أبي مليكة (2) ، عن ابن عمر قال: بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان، فضرب بإحدى يديه على الأخرى.
وقال عبد الملك بن هشام النحوي: فذكر وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي: أن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي (3) .
وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي: حدثنا سفيان، حدثنا ابن أبي خالد، عن الشعبي، قال: لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، كان أول من انتهى إليه أبو سنان [الأسدي رضي الله عنه] (4) ، فقال: ابسط يدك أبايعك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "علام تبايعني؟". فقال أبو سنان: على ما في نفسك. هذا أبو سنان [بن] (5) وهب الأسدي [رضي الله عنه] (6) (7) .
وقال البخاري: حدثنا شجاع بن الوليد، سمع النضر بن محمد: حدثنا صخر [بن الربيع] (8) ، عن نافع، قال: إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر، وليس كذلك، ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى الفرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك، فبايعه عبد الله، ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر، وعمر يستلئم للقتال، فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع تحت الشجرة، فانطلق، فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر (9) أسلم قبل عمر.
ثم قال البخاري :وقال هشام بن عمار: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عمر بن محمد العمري، أخبرني نافع، عن ابن عمر، أن الناس كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قد تفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال -يعني عمر-: يا عبد الله، انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فوجدهم يبايعون، فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع.
وقد أسنده البيهقي عن أبي (10) عمرو الأديب، عن أبي بكر الإسماعيلي، عن الحسن بن سفيان، عن دحيم: حدثني الوليد بن مسلم فذكره (11) .
وقال الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة، وقال: بايعناه على ألا نفر، ولم نبايعه على الموت. رواه مسلم عن قتيبة عنه (12) .
وروى مسلم عن يحيى بن يحيى، عن يزيد بن زريع، عن خالد، عن الحكم بن عبد الله بن الأعرج، عن معقل بن يسار، قال: لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس (13) ، وأنا رافع
__________
(1) في أ: "شهاب".
(2) في أ: "عن أبي بكر بن أبي مليكة".
(3) السيرة النبوية (2/316).
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من م، أ.
(6) زيادة من م، أ.
(7) ورواه البيهقي في دلائل النبوة (4/137) من طريق الحميدي به.
(8) زيادة من ت، أ.
(9) في أ: "عبد الله بن عمر".
(10) في أ: "ابن".
(11) صحيح البخاري برقم (4187).
(12) صحيح مسلم برقم (1856).
(13) في م: "والناس يبايعون النبي".

غصنا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، قال: ولم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على ألا نفر (1) .
وقال البخاري: حدثنا المكي بن إبراهيم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة. قال يزيد: قلت: يا أبا مسلم (2) ، على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ؟ قال: على الموت (3) .
وقال البخاري أيضا: حدثنا أبو عاصم، حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ثم تنحيت، فقال: "يا سلمة ألا تبايع؟" قلت: بايعت، قال: "أقبل فبايع". فدنوت فبايعته. قلت: علام بايعته يا سلمة؟ قال: على الموت. وأخرجه مسلم من وجه آخر عن يزيد بن أبي عبيد (4) . وكذا روى البخاري عن عباد بن تميم، أنهم بايعوه على الموت (5) .
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو الفضل بن إبراهم، حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا إسحاق بن إبراهم، حدثنا أبو عامر العقدي عبد الملك بن عمرو، حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن إياس بن سلمة، عن أبيه سلمة (6) بن الأكوع قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائة، وعليها خمسون شاة لا ترويها، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جباها -يعني الركي-فإما دعا وإما بصق فيها، فجاشت، فسقينا واستقينا. قال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى البيعة في أصل الشجرة. فبايعته أول الناس، ثم بايع وبايع، حتى إذا كان في وسط الناس قال صلى الله عليه وسلم: "بايعني يا سلمة". قال: قلت: يا رسول الله، قد بايعتك في أول الناس. قال:"وأيضا". قال: ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم عزلا فأعطاني حجفة -أو درقة-ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس قال صلى الله عليه وسلم: "ألا تبايع يا سلمة؟" قال: قلت: يا رسول الله، قد بايعتك (7) في أول الناس وأوسطهم. قال: "وأيضا". فبايعته الثالثة، فقال: "يا سلمة، أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك؟". قال: قلت: يا رسول الله، لقيني عامر عزلا فأعطيتها إياه: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي" قال: ثم إن المشركين من أهل مكة راسلونا في الصلح حتى مشى بعضنا في بعض فاصطلحنا. قال: وكنت خادما لطلحة بن عبيد الله، رضي الله عنه، أسقي فرسه وأحسه (8) وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله ورسوله. فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة فكسحت شوكها، ثم اضطجعت (9) في أصلها في ظلها، فأتاني أربعة من مشركي أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم، وتحولت إلى شجرة أخرى فعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين، قتل ابن زنيم. فاخترطت سيفي، فشددت على أولئك الأربعة وهم
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1858).
(2) في م: "مسلمة".
(3) صحيح البخاري برقم (2960).
(4) صحيح مسلم برقم (1860).
(5) صحيح البخاري برقم (2959).
(6) في ت: "وقال البيهقي بسنده عن سلمة".
(7) في ت: "بايعت".
(8) في ت، م: "وأجنبه".
(9) في تن م، أ: "واضطجعت".

رقود، فأخذت سلاحهم وجعلته ضغثا في يدي، ثم قلت (1) : والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم، لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه، قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وجاء عمي عامر برجل من العَبَلات يقال له: "مكرز" من المشركين يقوده، حتى وقفنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه"، فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله [عز وجل] (2) : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } الآية [الفتح : 24] .
وهكذا رواه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه بسنده نحوه، أو قريبا منه (3) .
وثبت في الصحيحين من حديث أبي عوانة، عن طارق، عن سعيد بن المسيب، قال: كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة. قال: فانطلقنا من قابل حاجين، فخفي علينا مكانها، فإن كان تبينت لكم، فأنتم أعلم (4) .
وقال أبو بكر الحميدي: حدثنا سفيان، حدثنا أبو الزبير، حدثنا (5) جابر، قال: لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، وجدنا رجلا منا يقال له "الجد بن قيس" مختبئا تحت إبط بعيره".
رواه مسلم من حديث ابن جريج، عن ابن الزبير، به (6) .
وقال الحميدي أيضا: حدثنا سفيان (7) ، عن عمرو، سمع جابرا، قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنتم خير أهل الأرض اليوم". قال جابر: لو كنت أبصر (8) لأريتكم موضع الشجرة. قال سفيان: إنهم اختلفوا في موضعها. أخرجاه من حديث سفيان (9) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا الليث. عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة" (10) .
وقال (11) ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن هارون الفلاس المخرمي، حدثنا سعد بن عمرو الأشعثي، حدثنا محمد بن ثابت العبدي، عن خداش بن عياش، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل من بايع تحت الشجرة كلهم الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر". قال: فانطلقنا نبتدره فإذا رجل قد أضل بعيره، فقلنا: تعال فبايع. فقال: أصيب بعيري أحب إلي من أن أبايع (12) .
__________
(1) في تن م: "وقلت".
(2) زيادة من ت، م.
(3) دلائل النبوة للبيهقي (4/138)، وصحيح مسلم برقم (1807).
(4) صحيح البخاري برقم (4164) وصحيح مسلم برقم (1859) واللفظ لمسلم.
(5) في م: "عن".
(6) مسند الحميدي (2/537) وصحيح مسلم برقم (1856).
(7) في ت: "وفي الصحيحين من حديث سفيان".
(8) في ت، م: "انظر".
(9) مسند الحميدي (2/514) وصحيح البخاري برقم (4154) وصحيح مسلم برقم (1856).
(10) المسند (3/350).
(11) في ت: "وروى".
(12) وفي إسناده محمد بن ثابت العبدي، ضعفه ابن معين وشيخه خداش بن عياش وثقه ابن حبان، وقال الترمذي: "لا نعرف خداشا هذا من هو".

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)

وقال عبد الله بن أحمد: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي حدثنا قرة، عن أبي الزبير (1) ، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يصعد الثنية، ثنية المرار، فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل". فكان أول من صعد خيل بني (2) الخزرج، ثم تبادر الناس بعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر". فقلنا: تعال يستغفر لك رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (3) . فقال: والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم. فإذا هو رجل ينشد ضالة (4) . رواه مسلم عن عبيد الله، به (5) .
وقال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرا يقول: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "لا يدخل النار -إن شاء الله-من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد". قالت: بلى يا رسول الله. فانتهرها، فقالت لحفصة: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } [مريم : 71]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد قال الله: { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } [مريم : 72]، رواه مسلم (6) .
وفيه أيضا عن قتيبة، عن الليث، عن أبي الزبير، عن جابر؛ أن عبدًا لحاطب بن أبي بلتعة جاء يشكو حاطبا، فقال: يا رسول الله، ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت، لا يدخلها؛ فإنه قد شهد بدرا والحديبية" (7) .
ولهذا قال تعالى في الثناء عليهم: { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [الفتح : 10] ، كما قال تعالى في الآية الأخرى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } [الفتح : 18] .
{ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) }
__________
(1) في ت: "وقال عبد الله بن أحمد بسنده".
(2) في أ: "من".
(3) زيادة من ت.
(4) في أ: "ضالته".
(5) صحيح مسلم برقم (2780).
(6) صحيح مسلم برقم (2496).
(7) صحيح مسلم برقم (2494).

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)

يقول تعالى مخبرا رسوله (1) -صلوات الله وسلامه عليه (2) -بما يعتذر به المخلفون من الأعراب الذين اختاروا المقام في أهليهم وشغلهم (3) ، وتركوا المسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذروا بشغلهم بذلك، وسألوا أن يستغفر لهم الرسول (4) صلى الله عليه وسلم، وذلك قول منهم لا على سبيل الاعتقاد، بل على وجه التقية والمصانعة؛ ولهذا قال تعالى: { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا } أي: لا يقدر أحد أن يرد ما أراده فيكم تعالى وتقدس، وهو العليم بسرائركم وضمائركم، وإن صانعتمونا وتابعتمونا (5) ؛ ولهذا قال: { بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } .
ثم قال: { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا } أي: لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاص، بل تخلف نفاق، { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا } أي: اعتقدتم أنهم يقتلون وتستأصل شأفتهم وتستباد خضراؤهم، ولا يرجع منهم مخبر، { وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا } أي: هلكى. قاله ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد. وقال قتادة: فاسدين. وقيل: هي بلغة عمان.
ثم قال: { وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي: من لم يخلص العمل في الظاهر والباطن لله، فإن الله تعالى سيعذبه في السعير، وإن أظهر للناس ما يعتقدون خلاف ما هو عليه في نفس الأمر.
ثم بين تعالى أنه الحاكم المالك المتصرف في أهل السموات والأرض: { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } أي: لمن تاب إليه وأناب، وخضع لديه.
{ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا (15) }
يقول تعالى مخبرًا عن الأعراب الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة (6) الحديبية، إذ ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى خيبر يفتتحونها: أنهم يسألون أن يخرجوا معهم إلى المغنم، وقد تخلفوا عن وقت محاربة الأعداء ومجالدتهم ومصابرتهم، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يأذن لهم في ذلك، معاقبة لهم من جنس ذنبهم. فإن الله تعالى قد وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم لا يشركهم فيها غيرهم من الأعراب المتخلفين، فلا (7) يقع غير ذلك شرعا وقدرا؛ ولهذا قال: { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ }
قال مجاهد، وقتادة، وجويبر: وهو الوعد الذي وعد به أهل الحديبية. واختاره ابن جرير (8) .
__________
(1) في ت، م: "لرسوله".
(2) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(3) في ت، أ: "والشغل بهم".
(4) في م: "رسول الله".
(5) في ت: "أو نافقتمونا".
(6) في ت، م، أ: "عمرة".
(7) في ت: "ولا".
(8) تفسير الطبري (26/50).

وقال ابن زيد: هو قوله: { فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ } [التوبة : 83] .
وهذا الذي قاله ابن زيد فيه نظر؛ لأن هذه الآية التي في "براءة" نزلت في غزوة تبوك، وهي متأخرة عن غزوة (1) الحديبية.
وقال ابن جريج: { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ } يعني: بتثبيطهم المسلمين عن الجهاد.
{ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ } أي: وعد الله أهل الحديبية قبل سؤالكم (2) الخروج معهم، { فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا } أي: أن نشرككم في المغانم، { بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا } أي: ليس الأمر كما زعموا، ولكن لا فهم لهم (3) .
__________
(1) في ت، م، أ: "عمرة".
(2) في ت، م: "قبل أن يسألوكم".
(3) في ت، أ: "لأنهم عدو لهم".

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)

{ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) }
اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين يدعون إليهم، الذين هم أولو بأس شديد، على أقوال:
أحدها: أنهم هوازن. رواه شعبة عن أبي بِشْر، عن سعيد بن جبير -أو عكرمة (1) ، أو جميعا-ورواه هُشيم عن أبي بشر، عنهما. وبه يقول قتادة في رواية عنه.
الثاني: ثقف، قاله الضحاك.
الثالث: بنو حنيفة، قاله جويبر. ورواه محمد بن إسحاق، عن الزهري. وروي مثله عن سعيد وعكرمة.
الرابع: هم أهل فارس. رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه يقول عطاء، ومجاهد، وعكرمة -في إحدى الروايات عنه.
وقال كعب الأحبار: هم الروم. وعن ابن أبي ليلى، وعطاء، والحسن، وقتادة: هم فارس والروم. وعن مجاهد: هم أهل الأوثان. وعنه أيضا: هم رجال أولو بأس شديد، ولم يعين فرقة. وبه يقول ابن جريج، وهو اختيار ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الأشج، حدثنا عبد الرحمن بن الحسن القواريري، عن مَعْمَر (2) ، عن
__________
(1) في ت: "هوازن قاله عكرمة".
(2) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)

الزهري، في قوله: { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } قال: لم يأت أولئك بعد.
وحدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن ابن أبي خالد، عن أبيه، عن أبي هريرة في قوله: { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } قال: هم البارزون.
قال: وحدثنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الأعين، ذلف الآنف، كأن وجوههم المجانّ المطرقة". قال سفيان: هم الترك (1) .
قال ابن أبي عمر: وجدت في مكان (2) آخر: ابن أبي خالد عن أبيه قال: نزل علينا أبو هريرة ففسر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تقاتلون قومًا نعالهم الشَّعْر" قال: هم البارزون، يعني الأكراد (3) .
وقوله: { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } يعني: يشرع لكم جهادهم وقتالهم، فلا يزال ذلك مستمرا عليهم، ولكم النصرة عليهم، أو يسلمون فيدخلون في دينكم بلا قتال بل باختيار.
ثم قال: { فَإِنْ تُطِيعُوا } أي: تستجيبوا وتنفروا في الجهاد وتؤدوا الذي عليكم فيه، { يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ } يعني: زمن الحديبية، حيث دعيتم (4) فتخلفتم، { يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
ثم ذكر الأعذار في ترك الجهاد، فمنها لازم كالعمى والعرج المستمر، وعارض كالمرض الذي يطرأ أياما ثم يزول، فهو في حال مرضه ملحق بذوي الأعذار اللازمة حتى يبرأ.
ثم قال تعالى مرغبا في الجهاد وطاعة الله ورسوله: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ } أي: ينكل عن الجهاد، ويقبل على المعاش { يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا } في الدنيا بالمذلة، وفي الآخرة بالنار.
{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) }
يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وقد تقدم ذكر عدتهم، وأنهم كانوا ألفا وأربعمائة، وأن الشجرة كانت سمرة بأرض الحديبية.
__________
(1) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف برقم (19199) والبخاري في صحيحه برقم (2929) من طريق سفيان عن الزهري بإسناده: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما كأن وجوههم المجان المطرقة" ورواه البخاري في صحيحه برقم (2928) من طريق صالح، عن الأعرج عن أبي هريرة بنحوه.
(2) في ت: "وقال ابن أبي عمرو حديث في موضع".
(3) وقد ذكر بعض المؤرخين أن أصحاب بابك المخرمي كانوا ينتعلون الشعر، فهم المقصودون بهذا الحديث.
(4) في ت: "ذهبتم".

وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)

قال البخاري: حدثنا محمود، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن طارق بن عبد الرحمن قال: انطلقت حاجًا فمررت بقوم يصلون، فقلت (1) ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة، حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته، فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة. قال: فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها، فقال سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم، فأنتم أعلم (2) .
وقوله: { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } أي: من الصدق والوفاء، والسمع والطاعة، { فَأَنزلَ السَّكِينَةَ } : وهي الطمأنينة، { عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } : وهو ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال: { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا (3) وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا }
قال (4) ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا موسى، أخبرنا موسى -يعني ابن عبيدة-حدثني إياس (5) بن سلمة، عن أبيه، قال: بينما نحن قائلون. إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، البيعة البيعة، نزل روح القدس. قال: فَثُرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه، فذلك قول الله تعالى (6) : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [قال] (7) : فبايع لعثمان بإحد يديه على الأخرى، فقال الناس: هنيئا لابن عفان، طوف بالبيت ونحن (8) هاهنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو مكث كذا كذا سنة ما طاف حتى أطوف" (9) .
{ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا (23) }
__________
(1) في م: "وقلت".
(2) صحيح البخاري برقم (4163).
(3) في ت: "تأخذونها".
(4) في ت: "وروى".
(5) في ت: "عن أبان".
(6) في ت، م: "فذلك قوله تعالى".
(7) زيادم من ت، م.
(8) في ت، م: "وذكر".
(9) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (1/90) من طريق عبيد الله بن موسى به، قال الهيثمي في المجمع (9/84): "فيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف".

وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)

{ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) }

قال مجاهد في قوله: { وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } : هي جميع المغانم إلى اليوم، { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } يعني: فتح خيبر.
وروى العوفي عن ابن عباس: { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } يعني: صلح الحديبية.
{ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ } أي: لم ينلكم سوء مما كان أعداؤكم أضمروه لكم من المحاربة والقتال. وكذلك كف أيدي الناس [عنكم] (1) الذين خلفتموهم وراء أظهركم عن عيالكم وحريمكم، { وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } أي: يعتبرون بذلك، فإن الله حافظهم وناصرهم على سائر الأعداء، مع قلة عددهم، وليعلموا بصنيع الله هذا بهم أنه العليم بعواقب الأمور، وأن الخيرة فيما يختاره لعباده المؤمنين وإن كرهوه في الظاهر، كما قال: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } [البقرة : 216] .
{ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } أي: بسبب انقيادكم لأمره واتباعكم طاعته، وموافقتكم رسوله (2) .
وقوله: { وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا } أي: وغنيمة أخرى وفتحا آخر معينا لم تكونوا تقدرون عليها، قد يَسَّرها الله عليكم، وأحاط بها لكم، فإنه تعالى يرزق عباده المتقين له من حيث لا يحتسبون.
وقد اختلف المفسرون في هذه الغنيمة، ما المراد بها؟ فقال العَوْفي عن ابن عباس: هي خيبر. وهذا على قوله في قوله تعالى: { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } إنها صلح الحديبية. وقاله الضحاك، وابن إسحاق، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال قتادة: هي مكة. واختاره ابن جرير.
وقال ابن أبي ليلى، والحسن البصري: هي فارس والروم.
وقال مجاهد: هي كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن سماك الحنفي، عن ابن عباس: { وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } قال: هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم (3) .
وقوله: { وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } يقول تعالى مبشرا لعباده المؤمنين: بأنه لو ناجزهم المشركون لنصر الله رسوله وعباده المؤمنين عليهم، ولانهزم جيش الكفار (4) فارا مدبرا لا يجدون وليا ولا نصيرا؛ لأنهم محاربون لله ولرسوله ولحزبه (5) المؤمنين.
ثم قال: { سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا } أي: هذه سنة الله وعادته في خلقه، ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيصل إلى نصر الله الإيمان على الكفر، فرفع الحق ووضع الباطل، كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين نصرهم على أعدائه من المشركين، مع قلة عدد المسلمين وعُدَدهم، وكثرة المشركين وعددهم (6) .
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت، م: "لرسوله".
(3) في ت: "إلى يوم القيامة".
(4) في م: "الكفر".
(5) في ت، أ: "ولعباده".
(6) في ت، م: "ومددهم".

وقوله: { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } : هذا امتنان من الله على عباده المؤمنين حين كف أيدي المشركين عنهم، فلم يصل (1) إليهم منهم سوء، وكفّ أيدي المؤمنين من المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام، بل صان كلا من الفريقين، وأوجد بينهم صلحا فيه خيَرَةٌ للمؤمنين، وعاقبة لهم في الدنيا والآخرة. وقد تقدم في حديث سلمة بن الأكوع حين جاءوا بأولئك السبعين الأسارى فأوثقوهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليهم وقال: "أرسلوهم يكن لهم بدء الفجور وثنَاه". قال: وفي ذلك أنزل الله: { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ } الآية.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة في السلاح، من قبل جبل التنعيم، يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم فأخذوا -قال عفان: فعفا عنهم-ونزلت هذه الآية: { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ }
ورواه مسلم وأبو داود في سننه، والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما، من طرق، عن حماد بن سلمة، به (2) .
وقال أحمد -أيضا-: حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا الحسين بن واقد، حدثنا ثابت البُنَاني، عن (3) عبد الله بن مُغَفَّل المُزَنِي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب. وسهلُ بن عمرو بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم"، فأخذ سهل بيده وقال: ما نعرف الرحمن الرحيم. اكتب في قضيتنا ما نعرف. قال: "اكتب باسمك اللهم"، وكتب: "هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة". فأمسك سهل بن عمرو بيده وقال: لقد ظلمناك إن كنت رسوله، اكتب في قضيتنا ما نعرف. فقال: "اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله". فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح، فثاروا في (4) وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ الله بأسماعهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل جئتم في عهد أحد؟ أو: هل (5) جعل لكم أحد أمانا؟" فقالوا: لا. فخلى سبيلهم، فأنزل الله: { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } . رواه النسائي من حديث حسين بن واقد، به (6) .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا يعقوب القُمّي، حدثنا جعفر، عن ابن أبْزَى قال: لما
__________
(1) في ت: "تصل".
(2) المسند (3/122) وصحيح مسلم برقم (1808) وسنن أبي داود برقم (2688) وسنن الترمذي برقم (3264) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11510).
(3) في ت: "بن".
(4) في ت، م: "إلى".
(5) في ت: "وهل".
(6) المسند (4/86) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11511).

خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة، قال له عمر: يا نبي الله، تدخل على قوم لك حَرْب بغير سلاح ولا كُرَاع؟ قال: فبعث إلى المدينة، فلم يدع فيها كراعا ولا سلاحا إلا حمله، فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل، فسار حتى أتى منى، فنزل بمنى، فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة، فقال لخالد بن الوليد: "يا خالد، هذا ابن عمك أتاك في الخيل (1) ، فقال خالد: أنا سيف الله، وسيف رسوله -فيومئذ سمي سيف الله-يا رسول الله، ارم بي أين شئت. فبعثه على خيل، فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، فأنزل الله: { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ [مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ] } (2) إلى: { عَذَابًا أَلِيمًا } . قال: فكف الله النبي عنهم من بعد أن أظفره (3) عليهم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها كراهية أن تطأهم الخيل (4) .
ورواه ابن أبي حاتم عن ابن أبزى بنحوه. وهذا السياق فيه نظر؛ فإنه لا يجوز أن يكون عام الحديبية؛ لأن خالدا لم يكن أسلم؛ بل قد كان طليعة المشركين (5) يومئذ، كما ثبت في الصحيح. ولا يجوز أن يكون في عمرة القضاء، لأنهم قاضوه على أن يأتي من العام المقبل (6) فيعتمر ويقيم بمكة ثلاثة أيام، فلما قدم لم يمانعوه، ولا حاربوه ولا قاتلوه. فإن قيل: فيكون يوم الفتح؟ فالجواب: ولا يجوز أن يكون يوم الفتح؛ لأنه لم يسق عام الفتح هَديًا، وإنما جاء محاربا مقاتلا في جيش عَرَمْرَم، فهذا السياق فيه خلل، قد وقع فيه شيء فليتأمل، والله أعلم.
وقال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم، عن عكرمة مولى ابن عباس: أن قريشا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من أصحابه أحدًا، فأُخذُوا أخذًا ، فأُتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا إلى (7) عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم (8) بالحجارة والنبل. قال ابن إسحاق: وفي ذلك أنزل الله: { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ } الآية (9) .
وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا يقال له: "ابن زُنَيْم" اطلع على الثنية من الحديبية، فرماه المشركون بسهم فقتلوه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا فأتوه باثني عشر فارسًا من الكفار، فقال لهم: "هل لكم علي عهد؟ هل لكم علي ذمة؟". قالوا: لا. فأرسلهم، وأنزل الله في ذلك: { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ } الآية.
__________
(1) في أ: "الجبل".
(2) زيادة من ت.
(3) في أ: "أظفركم".
(4) تفسير الطبري (26/59).
(5) في أ: "للمشركين".
(6) في ت: "قابل".
(7) في أ: "في".
(8) في ت، م: "عسكر المسلمين".
(9) رواه الطبري في تفسيره (26/59).

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

{ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) }
يقول تعالى مخبرا عن الكفار من مشركي العرب من قريش ومن مالأهم (1) على نصرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم: { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: هم الكفار دون غيرهم، { وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي: وأنتم أحق به، وأنتم أهله في نفس الأمر، { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } أي: وصدوا الهدي أن يصل (2) إلى محله، وهذا من بغيهم وعنادهم، وكان الهديُ سبعين بدنة، كما سيأتي بيانه.
وقوله: { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ } أي: بين أظهرهم ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهم خيفة على أنفسهم من قومهم، لكنا سَلَّطناكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم، ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حالة (3) القتل؛ ولهذا قال: { لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ } أي: إثم وغرامة { بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } أي: يؤخر عقوبتهم ليخلص من بين أظهرهم المؤمنين، وليرجع كثير منهم إلى الإسلام.
ثم قال: { لَوْ تَزَيَّلُوا } أي: لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم { لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } أي: لسلطناكم عليهم فلقتلتموهم قتلا ذريعا.
قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو الزِّنْباع -روح بن الفرج-حدثنا عبد الرحمن بن أبي عباد المكي، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله (4) أبو سعيد -مولى بني هاشم-حدثنا حُجْر بن خلف: سمعت عبد الله بن عوف (5) يقول (6) : سمعت (7) جنيد بن سبع يقول (8) : قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار كافرا، وقاتلت معه آخر النهار مسلما، وفينا نزلت: { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ } قال: كنا تسعة نفر: سبعة رجال وامرأتين (9) .
ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن عباد المكي به، وقال فيه: عن أبي جمعة جنيد بن سبيع، فذكره (10) والصواب أبو جعفر: حبيب بن سباع. ورواه ابن أبي حاتم من حديث حجر بن خلف (11) ،
__________
(1) في ت، أ: "ولا هم".
(2) في ت: "يبلغ".
(3) في أ: "حال".
(4) في م، أ: "عبيد الله".
(5) في أ: "عمرو".
(6) في ت: "روى الحافظ الطبراني بسنده".
(7) في ت: "عن".
(8) في ت: "قال".
(9) المعجم الكبير (2/290).
(10) المعجم الكبير (4/24).
(11) في أ: "حنيف".

به. وقال: كنا ثلاثة (1) رجال وتسع نسوة، وفينا نزلت: { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ } .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة، عن أبي حمزة (2) ، عن عطاء عن سعيد بن جبير (3) ، عن ابن عباس: { لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } يقول: لو تزيل الكفار من المؤمنين، لعذبهم الله عذابا أليما بقتلهم إياهم.
وقوله: { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } ، وذلك حين أبوا أن يكتبوا "بسم الله الرحمن الرحيم"، وأبوا أن يكتبوا: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله"، { فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } ، وهي قول: "لا إله إلا الله"، كما قال ابن جرير، وعبد الله ابن الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن قزعة أبو علي البصري، حدثنا سفيان بن حبيب، حدثنا شعبة، عن ثوير (4) ، عن أبيه عن الطفيل -يعني: ابن أبي بن كعب (5) [رضي الله عنه] (6) -عن أبيه [أنه] (7) سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال: "لا إله إلا الله".
وكذا رواه الترمذي عن الحسن بن قزعة، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديثه، وسألت أبا زُرْعَة عنه فلم يعرفه إلا من هذا الوجه (8) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب (9) ، عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله"، وأنزل الله في كتابه، وذكر قوما فقال: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } [الصافات : 35] ، وقال الله جل ثناؤه: { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } وهي: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، فاستكبروا عنها واستكبر عنها المشركون (10) يوم الحديبية، وكاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية المدة..
وكذا رواه بهذه الزيادات ابن جرير من حديث الزهري (11) ، والظاهر أنها مدرجة من كلام الزهري، والله أعلم.
وقال مجاهد: { كَلِمَةَ التَّقْوَى } : الإخلاص. وقال عطاء بن أبي رباح: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك، له له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
__________
(1) في م: "ثلاث".
(2) في أ: "عن أبي هريرة".
(3) في ت: "روى ابن أبي حاتم بسنده".
(4) في أ: "ثور".
(5) في ت: "كما روى ابن جرير بسنده عن أبي بن كعب".
(6) زيادة من ت.
(7) زيادة من ت، م.
(8) تفسير الطبري (26/66) وزوائد عبد الله على المسند (5/138) وسنن الترمذي برقم (3265).
(9) في ت: "وروى بن أبي حاتم بسنده".
(10) في أ: "قريش".
(11) تفسير الطبري (26/66).

وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن المسور: { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.
وقال الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن عَبَاية بن رِبْعِي، عن علي: { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال: لا إله إلا الله، والله أكبر. وكذا قال ابن عمر، رضي الله عنهما.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال: يقول: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي رأس كل تقوى.
وقال سعيد بن جبير: { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال: لا إله إلا الله والجهاد في سبيله.
وقال عطاء الخراساني: هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
وقال عبد الله بن المبارك، عن مَعْمَر عن الزهري: { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال: بسم الله الرحمن الرحيم.
وقال قتادة: { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال: لا إله إلا الله.
{ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } : كان المسلمون أحق بها، وكانوا أهلها.
{ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } أي: هو عليم بمن يستحق الخير من يستحق الشر.
وقد قال النسائي: حدثنا إبراهيم بن سعيد، حدثنا شبابة بن سوار، عن أبي رزين، عن عبد الله بن العلاء بن زبر، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس، عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ: { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } [الفتح : 26] ، ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام. فبلغ ذلك عمر فأغلظ له، فقال: إنك لتعلم أني كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلمني مما علمه الله. فقال عمر: بل أنت رجل عندك علم وقرآن، فاقرأ وعلم مما علمك الله ورسوله (1) .
وهذا ذكر الأحاديث الواردة في قصة الحديبية وقصة الصلح:
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق بن يَسَار، عن الزهري، عن عُرْوَة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالا وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي (2) ، فقال: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العُوذ المطافيل، قد لبست جلود النمور، يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبدًا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموه إلى كراع الغميم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ويح قريش! قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر
__________
(1) النسائي في السنن الكبرى برقم (11505).
(2) في ت: "بشر بن كعب الكلبي".

الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله [عليهم] (1) دخلوا في الإسلام وهم وافرون، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهرني الله أو تنفرد هذه السالفة". ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض على طريق تخرجه (2) على ثنية المرار والحديبية من أسفل مكة. قال: فسلك بالجيش تلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا سلك ثنية المرار، بركت ناقته، فقال الناس: خلأت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت، وما ذلك (3) لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم، إلا أعطيتهم إياها" [ثم] (4) قال للناس: "انزلوا". قالوا: يا رسول الله، ما بالوادي من ماء ينزل عليه الناس. فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمًا من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب، فغرزه فيه فجاش بالماء حتى ضرب الناس عنه بعطن. فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا بُدَيل بن ورقاء في رجال من خزاعة، فقال لهم كقوله لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، وإن محمدًا لم يأت لقتال، إنما جاء زائرًا لهذا البيت معظمًا لحقه، فاتهموهم.
قال محمد بن إسحاق: قال الزهري: [و] (5) كانت خزاعة في عَيْبَة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركها ومسلمها، لا يخفون على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا كان بمكة، فقالوا: وإن كان إنما جاء لذلك فوالله لا يدخلها أبدًا علينا عَنْوة، ولا يتحدث بذلك العرب. ثم بعثوا إليه مِكْرَز بن حفص، أحد بني عامر بن لؤي، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذا رجل غادر". فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ما كَلَّم به أصحابه، ثم رجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (6) ؛ فبعثوا إليه الحليس بن علقمة الكناني، وهو يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهَدْي" في وجهه، فبعثوا الهدي، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عُرْض الوادي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله، رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظامًا لما رأى (7) ، فقال: يا معشر قريش، قد رأيت ما لا يحل صَده، الهدي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله. قالوا: اجلس، إنما أنت أعرابي لا علم لك. فبعثوا إليه عروة بن مسعود الثقفي، فقال: يا معشر قريش، إن قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد إذا جاءكم، من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأنا ولد، وقد سمعت بالذي نابكم، فجمعت من أطاعني من قومي، ثم جئت حتى آسيتكم بنفسي. قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم. فخرج (8) حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه، فقال: يا محمد جمعت أوباش الناس، ثم جئت بهم لبيضتك لتفضها، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ: "يحرصه".
(3) في ت: "وما ذاك".
(4) زيادة من ت، م، أ.
(5) زيادة من ت، م.
(6) زيادة من ت، م.
(7) في ت: "فلما رجع إلى أصحابه".
(8) في أ: "ثم خرج".

ألا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا. قال: وأبو بكر قاعد خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: امصص بظر اللات! أنحن ننكشف عنه؟! قال: من هذا يا محمد؟ قال: "هذا ابن أبي قحافة". قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها. ثم تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد (1) ، قال: فقرع يده. ثم قال: أمسك يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل -والله-لا تصل إليك. قال: ويحك! ما أفظعك وأغلظك! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: من هذا يا محمد؟ قال صلى الله عليه وسلم: "هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة". قال: أغدر، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟! قال فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما كلم به أصحابه، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا. قال: فقام من عند رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (2) وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ وضوءا إلا ابتدروه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه. فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إنى جئت كسرى في ملكه، وجئت قيصر والنجاشي في ملكهما، والله ما رأيت مَلكا قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا، فروا رأيكم. قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك قد بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة، وحمله على جمل له يقال له: "الثعلب" فلما دخل مكة عقرت (3) به قريش، وأرادوا قتل خراش، فمنعتهم الأحابيش، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عمر ليبعثه إلى مكة، فقال: يا رسول الله، إنى أخاف قريشا على نفسي، وليس بها من بني عدي أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني: عثمان بن عفان. قال: فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب أحد، وإنما جاء زائرا لهذا البيت، معظما لحرمته. فخرج عثمان حتى أتى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص، فنزل عن دابته وحمله بين يديه وردف خلفه، وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (4) قال: واحتبسته قريش عندها، قال: وبلغ رسول الله أن عثمان قد قتل.
قال محمد: فحدثني الزهري: أن قريشًا بعثوا سهل بن عمرو، وقالوا: ائت محمدًا فصالحه ولا يكون في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدًا. فأتاه سهل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل". فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلما وأطالا الكلام، وتراجعا حتى جرى بينهما الصلح، فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب فأت أبا بكر فقال: يا أبا بكر، أو ليس برسول الله؟ أو لسنا بالمسلمين؟ أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الذلة في ديننا؟ فقال أبو بكر: يا عمر،
__________
(1) في ت: "بالحدد".
(2) زيادة من ت، أ.
(3) في ت: "عثرت".
(4) زيادة من ت، أ.

الزم غرزه حيث كان، فإني أشهد أنه رسول الله. [ثم] (1) قال عمر: وأنا أشهد. ثم أتى رسول الله فقال: يا رسول الله، أو لسنا بالمسلمين أو ليسوا بالمشركين؟ قال: "بلى" قال: فعلام نعطي الذلة في ديننا؟ فقال: "أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني". ثم قال عمر: ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من (2) الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرا. قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] (3) فقال: اكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم". فقال سهل بن عمرو: ولا أعرف هذا، ولكن اكتب: "باسمك اللهم، فقال رسول الله: "اكتب باسمك اللهم. هذا ما صلح (4) عليه محمد رسول الله، سهل بن عمرو"، فقال سهل بن عمرو: ولو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله، وسهل بن عمرو، على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى رسول الله (5) من أصحابه بغير إذن وليه، رده عليهم، ومن أتى قريشا ممن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (6) لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا أسلال ولا أغلال، وكان في شرطهم حين كتبوا الكتاب: أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده، دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد رسول الله وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم، وأنك ترجع عنا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك، وأقمت بها ثلاثًا معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب، إذا جاءه أبو جندل بن سهل بن عمرو في الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (7) قال: وقد كان أصحاب رسول الله خرجوا وهم لا يشكون في الفتح، لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع، وما تحمل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (8) على نفسه، دخل الناس من ذلك أمر عظيم، حتى كادوا أن يهلكوا. فلما رأى سهل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وقال: يا محمد، قد لجّت (9) القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: "صدقت". فقام إليه فأخذ بتلابيبه. قال: وصرخ أبو جندل بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني؟ قال: فزاد الناس شرا إلى ما بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه عهدا (10) ، وإنا لن نغدر بهم". قال: فوثب إليه عمر بن الخطاب فجعل يمشي مع [أبي] (11) جندل إلى جنبه وهو يقول: اصبر أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، قال: ويدني قائم السيف منه، قال: يقول: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه قال: فضن الرجل بأبيه. قال: ونفذت القضية، فلما فرغا من الكتاب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم، وهو مضطرب في الحل، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس، انحروا (12) واحلقوا". قال: فما قام أحد. قال: ثم عاد بمثلها، فما قام رجل حتى عاد صلى الله عليه وسلم بمثلها، فما قام رجل.
فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على أم سلمة فقال: "يا أم سلمة ما شأن الناس؟" قالت: يا رسول الله، قد دخلهم ما رأيت، فلا تُكَلِّمن (13) منهم إنسانًا، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره واحلق، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكلم أحدًا حتى أتى هديه فنحره، ثم جلس فحلق، قال: فقام الناس ينحرون ويحلقون. قال: حتى إذا كان بين مكة والمدينة في وسط الطريق نزلت سورة الفتح.
هكذا ساقه أحمد من هذا الوجه، وهكذا رواه يونس بن بُكَيْر وزياد البكائي، عن ابن إسحاق، بنحوه (14) ، وفيه إغراب، وقد رواه أيضا عن عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري، به نحوه (15) وخالفه في أشياء وقد رواه البخاري، رحمه الله، في صحيحه، فساقه سياقة (16) حسنة مطولة بزيادات جيدة، فقال في كتاب الشروط (17) من صحيحه:
حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر: أخبرني الزهري: أخبرني عُرْوة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره، وأحرم منها بعمرة وبعث عينًا له من خزاعة، وسار حتى إذا كان بغير الأشطاط أتاه عينه، فقال: إن قريشًا قد جمعوا لك جموعًا، وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك ومانعوك. فقال: "أشيروا أيها الناس عليّ، أترون أن نميل عل عيالهم، وذراري هؤلاء الذين يريدون أن صدونا عن البيت؟" وفي لفظ: "أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الذين أعانوهم. فإن يأتونا كان الله قد قطع عُنُقا من المشركين وإلا تركناهم محزونين"، وفي لفظ: "فإن قعدوا قعدوا موتورين مجهودين محرُوبين وإن نجوا يكن عنقا قطعها الله، أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟". فقال أبو بكر [رضي الله عنه] (18) : يا رسول الله خرجت عامدًا لهذا البيت، لا نريد قتل أحد ولا حربًا، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه. وفي لفظ: فقال أبو بكر، رضي الله عنه: الله ورسوله علم إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فروحوا إذن"، وفي لفظ: "فامضوا على اسم الله".
حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خالد بن الوليد في خيل لقريش طليعة،
__________
(1) زيادة من م، أ.
(2) في ت: "عن".
(3) زيادة من ت.
(4) في أ: "ما صالح".
(5) في أ: "محمدا".
(6) زيادة من ت.
(7) زيادة من ت.
(8) زيادة من ت، أ.
(9) في ت، أ: "تمت".
(10) في ت، م، أ: "عهدنا".
(11) زيادة من ت، م، أ.
(12) في ت، أ: "انحروا في الحرم".
(13) في ت، أ: "فلا تكلمن".
(14) المسند (4/323) والسيرة النبوية لابن هشام (2/316).
(15) رواه أحمد في مسنده (4/328) من طريق عبد الرزاق به.
(16) في م: "بسياقات".
(17) في ت، م: "الشرط".
(18) زيادة من أ.

فخذوا ذات اليمين". فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقَتَرة الجيش، فانطلق يركض نذيرًا لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته. فقال الناس: حل حل فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل". ثم قال: "والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله، إلا أعطيتهم إياها". ثم زجرها فوثبت، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء، يتبرضه الناس تبرضًا، فلم يلبث (1) الناس حتى نزحوه، وشكي (2) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع من كنانته سهمًا ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (3) من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب فأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددنهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن (4) الله أمره" قال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئنا من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال: ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول: قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني أستنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته. قالوا: ائته. فأتاه فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له نحوا من قوله لبديل بن ورقاء. فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تك الأخرى فإني والله لأرى وجوها، وإني لأرى أشوابا (5) من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك، فقال أبو بكر، رضي الله عنه: امصص بَظْر اللات! أنحن نفر وندعه؟! قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة، رضي الله عنه قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك من لحية النبي صلى الله عليه وسلم. فرفع عروة رأسه وقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر، ألست أسعى في غدرتك؟! وكان المغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شي".
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه (6) ، قال: فوالله ما تنخم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (7) نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذ توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه، تعظيما له صلى الله عليه وسلم، فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدون النظر إليه تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشْد فاقبلوها. فقال رجل منهم من بني كنانة: دعوني آته. فقالوا: ائته فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البُدْن، فابعثوها له" فبُعِثَتْ له، واستقبله الناس يُلَبُّون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البُدْن قد قُلِّدت وأشعرت، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيت. فقال (8) رجل منهم يقال له: "مِكْرَز بن حفص"، فقال: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا مكرز [بن حفص] (9) وهو رجل فاجر"، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهل بن عمرو .
وقال معمر: أخبرني أيوب، عن عِكْرِمَةَ أنه قال: لما جاء سهل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سَهُل لكم من أمركم".
قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهل بن عمرو فقال: هات أكتب بيننا وبينك (10) كتابا فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "[اكتب] (11) : بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال سهل [بن عمرو] (12) : أما "الرحمن" فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: "باسمك اللهم"، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا "بسم الله الرحمن الرحيم". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب: باسمك اللهم". ثم قال: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله". فقال سهل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: "محمد بن عبد الله"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إني لرسول الله وإن كذبتموني. اكتب محمد بن عبد الله" قال الزهري: وذلك لقوله: "والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها". فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به". فقال سهل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضُغْطَةً، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب، فقال سهل: "وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا". فقال المسلمون: سبحان الله! كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلما؟! فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهل
__________
(1) في ت، م: "يلبثه".
(2) في أ: "شكوا".
(3) زيادة من م.
(4) في ت، م: "أو لينفذن".
(5) في أ: "أوشابا".
(6) في ت: "بعينه".
(7) زيادة من ت.
(8) في أ: "فقام".
(9) زيادة من أ.
(10) في ت: "بينكم".
(11) زيادة من أ.
(12) زيادة من ت، م.

بن عمرو يرسُفُ في قيوده قد (1) خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن تَرُدّه إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نَقْضِ الكتاب بعد". قال: فوالله إذًا لا أصالحك على شيء أبدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأجزه لي" فقال: ما أنا بمجيز ذلك لك، قال: "بلى فافعل". قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أرَدّ إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟! وكان قد عُذِّبَ عذابا شديدا في الله عز وجل. قال عمر [بن الخطاب] (2) رضي الله عنه: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بلى". قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى". قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: "إني رسول الله، ولستُ أعصيه، وهو ناصري"، قلت: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: "بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه (3) العام؟" قلت: لا قال: "فإنك آتيه ومُطوِّف به". قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل، إنه رسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغَرْزه، فوالله إنه على الحق. قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى قال: أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك تأتيه وتطوف به.
قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا. قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول (4) الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا". قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات!! فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، قالت له أم سلمة: يا نبي الله، أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، ثم جاءه نسوة مؤمنات، فأنزل الله، عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } حتى بلغ: { بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } [الممتحنة : 10] . فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية. ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير -رجل من قريش-وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدًا، فاستله الآخر، فقال: أجل! والله إنه لجيد، لقد جربت منه ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه حتى بَرَد، وفَرّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله (5) صلى الله عليه وسلم حين رآه: "لقد رأى هذا ذُعرًا"، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) في ت: "حتى".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت: "أنك تأتيه".
(4) في ت: "النبي".
(5) في م: "االنبي".

قتل والله صاحبي، وإني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال: يا رسول الله، قد -والله-أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل أمّه مِسْعَرُ حرب! لو كان له أحد". فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وتفلت منهم أبو جندل بن سهل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم، وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم: "فمن أتاه منهم فهو آمن". فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وأنزل الله عز وجل: { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ } حتى بلغ: { حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } ، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه رسول الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت.
هكذا ساقه البخاري هاهنا (1) ، وقد أخرجه في التفسير، وفي عمرة الحديبية، وفي الحج، وغير ذلك من حديث معمر وسفيان بن عيينة، كلاهما عن الزهري، به (2) ووقع في بعض الأماكن عن الزهري، عن عروة، عن مروان والمِسْوَر بن [مَخْرَمة] (3) ، عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك (4) . وهذا أشبه والله أعلم، ولم يسقه أبسط من هاهنا، وبينه وبين سياق ابن إسحاق تباين في مواضع، وهناك فوائد ينبغي إضافتها إلى ما هاهنا، ولذلك سقنا تلك الرواية وهذه، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وقال البخاري في التفسير: حدثنا أحمد بن إسحاق السُّلَمِي، حدثنا يعلى، حدثنا عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: أتيت أبا وائل أسأله فقال: كنا بصفين فقال رجل: ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله؟ فقال علي بن أبي طالب: نعم. فقال سهل بن حُنَيْف: اتهمُوا أنفسكم، فلقد رأيتنا يوم الحديبية -يعني: الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين-ولو نرى قتالا لقاتلنا، فجاء عمر فقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فقال: "بلى" قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟ فقال: "يا ابن الخطاب، إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا"، فرجع متغيظا، فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على الحق وهم على الباطل، فقال: يا ابن الخطاب، إنه رسول الله، ولن يضيعه الله أبدا، فنزلت سورة الفتح (5) .
وقد رواه البخاري أيضا في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق أخر عن أبي وائل سفيان (6)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2731، 2732).
(2) صحيح البخاري برقم (4180).
(3) زيادة من م.
(4) رواه البخاري في صحيحه في أول الشروط برقم (2711).
(5) صحيح البخاري برقم (4844).
(6) في هـ: "شقيق".

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)

ابن سلمة، عن سهل (1) بن حنيف به (2) ، وفي بعض ألفاظه: "يا أيها الناس، اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر على أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددته" وفي رواية: فنزلت سورة الفتح، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب فقرأها عليه.
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس، أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم، فيهم سهل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال سهل: لا ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن اكتب ما نعرف: "باسمك اللهم". فقال: "اكتب من محمد رسول الله". قال: لو نعلم (3) أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب: اسمك واسم أبيك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب: من محمد بن عبد الله". واشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن (4) من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا، فقال: يا رسول الله أتكتب هذا؟ قال: "نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله". رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة، به (5) .
وقال أحمد أيضا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا عكرمة بن عمار قال: حدثني سماك، عن عبد الله بن عباس قال: لما خرجت الحرورية اعتزلوا، فقلت لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين، فقال لعلي: "اكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله: "امح يا علي، اللهم إنك تعلم أني رسولك، امح يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله". والله لرسول الله خير من علي، وقد محا نفسه، ولم يكن محوه ذلك يمحاه من النبوة، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
ورواه أبو داود من حديث عكرمة بن عمار اليمامي، بنحوه (6) .
وروى الإمام أحمد، عن يحيى بن آدم: حدثنا زهير، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الحكم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية سبعين بدنة فيها جمل لأبي جهل، فلما صُدَّت عن البيت حَنَّتْ كما تَحِنُّ إلى أولادها (7) .
{ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) } .
__________
(1) في م: "سهل".
(2) صحيح البخاري برقم ( 3181، 7308، 4189، 3182) وصحيح مسلم برقم (1785) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11504).
(3) في م: "علمنا".
(4) في م: "أنه".
(5) المسند (3/268) وصحيح مسلم برقم (1784).
(6) المسند (1/342) وسنن أبي داود برقم (4037).
(7) المسند (1/314).

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُرِىَ في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة، فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر (1) هذا العام، فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل، وقع في نفوس بعض الصحابة من ذلك شيء، حتى سأل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في ذلك، فقال له فيما قال: أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: "بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه (2) عامك هذا" قال: لا قال: "فإنك آتيه ومطوف به". وبهذا أجاب الصديق، رضي الله عنه، أيضا حَذْو القُذَّة بالقُذَّة؛ ولهذا قال تعالى: { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ } : [و] (3) هذا لتحقيق الخبر وتوكيده، وليس هذا من الاستثناء في شيء، [وقوله] (4) : { آمِنِينَ } أي: في حال دخولكم. وقوله: { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } ، حال مقدرة؛ لأنهم في حال حرمهم (5) لم يكونوا محلقين ومقصرين، وإنما كان هذا في ثاني الحال، كان منهم من حلق رأسه ومنهم من قصره، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله المحلقين"، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "رحم الله المحلقين". قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "رحم الله المحلقين". قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "والمقصرين" في الثالثة أو الرابعة (6) .
وقوله: { لا تَخَافُونَ } : حال مؤكدة في المعنى، فأثبت لهم الأمن حال الدخول، ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد لا يخافون من أحد. وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة فأقام بها ذا الحجة والمحرم، وخرج في صفر إلى خيبر ففتحها الله عليه بعضها عنوة وبعضها صلحا، وهي إقليم عظيم كثير النخل (7) والزروع، فاستخدم (8) من فيها من اليهود عليها على الشطر، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم إلا الذين قدموا من الحبشة، جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وأبو موسى الأشعري وأصحابه، ولم يغب منهم أحد، قال ابن زيد: إلا أبا دجانة سِمَاك بن خَرَشَة، كما هو مقرر في موضعه ثم رجع إلى المدينة، فلما كان في ذي القعدة [في] (9) سنة سبع خرج إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة، وساق معه الهدي، قيل: كان ستين بدنة، فلبى وسار أصحابه يلبون. فلما كان قريبا من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه، فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينه بينهم من وضع القتال عشر سنين، وذهبوا فأخبروا أهل مكة، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج، وسار إلى مكة بالسيف مغمدة في قربها، كما شارطهم عليه. فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مِكْرَز
__________
(1) في أ: "تتعين".
(2) في ت، م: "آتيه".
(3) زيادة من ت.
(4) زيادة من ت، أ.
(5) في م، أ: "دخولهم".
(6) صحيح البخاري برقم (1727) وصحيح مسلم برقم (1301) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(7) في أ: "النخيل".
(8) في ت: "واستخدم".
(9) زيادة من ت.

بن حفص فقال: يا محمد، ما عرفناك تنقض العهد. قال: "وما ذاك؟" قال (1) : دخلت: علينا بالسلاح والقسي والرماح. فقال: "لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج"، فقال: بهذا عرفناك، بالبر والوفاء. وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و [لا] (2) إلى أصحابه غيظا وحنقا، وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فدخلها عليه الصلاة والسلام، وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى، وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقودها، وهو يقول:
باسم الذي لا دين إلا دينُه ... باسم الذي محمدٌ رسوله ...
خَلُّوا بني الكُفَّار عَنْ سَبِيله ... اليوم نضربكم على تَأْويله ...
كما ضربناكم على تنزيله ... ضربًا يزيلُ الهام عَن مَقِيله ...
ويُذْهِل الخليل عن خليله ... قد أنزل الرحمن في تنزيله ...
في صُحف تتلى على رسُوله ... بأن خير القَتْل في سبيله ...
يا رب إني مؤمن بقيله
فهذا مجموع من روايات متفرقة.
قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر (3) بن حزم قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء، دخلها وعبد الله بن رواحة آخذ بخطام ناقته صلى الله عليه وسلم (4) ، وهو يقول:
خلّوا بني الكفار عن سبيله ... إني شَهيدٌ أنه رَسُولُهُ ...
خلوا فكل (5) الخير في رسوله ... يا رب إني مؤمن بقيله ...
نحن قتلناكم على تأويله ... كما قتلناكم على تنزيله ...
ضربًا يُزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله ...
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أنس بن مالك قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء، مشى عبد الله بن رواحة بين يديه، وفي رواية وابن رواحة آخذ بغرزه، وهو يقول:
__________
(1) في ت، م: "فقال".
(2) زيادة من ت، م، أ.
(3) في ت: "محمد".
(4) في ت: "مشى عبد الله بن رواحة بين يديه".
(5) في ت: "وكل".

خلوا بني الكفار عن سبيله ... قد نزل الرحمن في تنزيله ...
بأن خير القتل في سبيله ... يا رب إني مؤمن بقيله ...
نحن قتلناكم على تأويله ... كما قتلناكم على تنزيله ...
ضربًا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله ...
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا إسماعيل -يعني: ابن زكريا-عن عبد الله -يعني: ابن عثمان-عن أبي الطُّفَيْل (1) ، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مرّ الظهران في عمرته، بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشا [تقول] (2) : ما يتباعثون من العَجَف. فقال أصحابه: لو انتحرنا من ظهرنا، فأكلنا من لحمه، وحَسَونا من مَرَقه، أصبحنا غدا حين ندخل على القوم وبنا جَمَامَة. قال: "لا تفعلوا، ولكن اجمعوا لي (3) من أزوادكم". فجمعوا له وبسطوا الأنطاع، فأكلوا حتى تركوا وحثا كل واحد منهم في جرابه، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد، وقعدت قريش نحو الحجر، فاضطبع بردائه، ثم قال: "لا يرى (4) القوم فيكم غميرة" فاستلم الركن ثم رَمَل، حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش: ما ترضون بالمشي أما إنكم لتنقُزُون نَقْزَ الظباء، ففعل ذلك ثلاثة أشواط، فكانت سُنَّة. قال أبو الطفيل: فأخبرني ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع (5) .
وقال (6) أحمد أيضا: حدثنا يونس؛ حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حُمّى يثرب، ولقوا منها سوءا، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شرا، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم [أصحابه] (7) أن يرملوا الأشواط الثلاثة؛ ليرى المشركون جلدهم، قال: فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط كلها إلا إبقاء عليهم، فقال المشركون: أهؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم؟ هؤلاء أجلد من كذا وكذا.
أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد، به (8) وفي لفظ: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة، أي من ذي القعدة، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.
__________
(1) في ت: "وروى الإمام أحمد بسنده".
(2) زيادة من تن أ.
(3) في ت، أ: "إلي".
(4) في ت: "ألا ترى".
(5) المسند (1/305).
(6) في ت: "وروى".
(7) زيادة من ت.
(8) المسند (1/295) وصحيح البخاري برقم (4256) وصحيح مسلم برقم (2266).

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49