الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي

يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض، وأنه الغني عما سواه، الحاكم في خلقه بالعدل، وخلق الخلق بالحق، { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } أي: يجازي كلا بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، أي: لا يتعاطون المحرمات والكبائر، وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم، كما قال في الآية الأخرى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا } [النساء: 31]. وقال هاهنا: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } . وهذا استثناء منقطع؛ لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر (1) عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللمَم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فَزِنَا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تَمنَّى وتَشْتَهِي، والفرج يُصدِّق ذلك أو يُكَذِّبه".
أخرجاه في الصحيحين، من حديث عبد الرزاق، به (2) .
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن (3) ثور حدثنا مَعْمَر، عن الأعمش، عن أبي الضُّحَى؛ أن ابن مسعود قال: "زنا العينين النظر، وزنا الشفتين التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي، ويُصدّق ذلك الفرج أو يُكَذِّبه، فإن تقدم بفرجه كان زانيا، وإلا فهو اللَّمَم" (4) . وكذا قال مسروق، والشعبي.
وقال عبد الرحمن بن نافع -الذي يقال له: ابن لبابة الطائفي-قال: سألت أبا هريرة عن قول الله: { إِلا اللَّمَمَ } قال: القُبلة، والغمزة، والنظرة، والمباشرة، فإذا مس الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل، وهو الزنا.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { إِلا اللَّمَمَ } إلا ما سلف. وكذا قال زيد بن أسلم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد أنه قال: في هذه الآية: { إِلا اللَّمَمَ } قال: الذي يلم بالذنب ثم يَدَعه، قال الشاعر:
إنْ تَغْفِر اللهُمّ تغفر جَمّا ... وَأيّ عَبْد لَكَ مَا أَلَمَّا?! ...
__________
(1) في م: "معمر بن أرطأة" وزيادة "ابن أرطأة" خطأ. انظر: تعليق أحمد شاكر على المسند على المسند حديث رقم (7705).
(2) المسند (2/276) وصحيح البخاري برقم (6612) وصحيح مسلم برقم (2657).
(3) في أ: "أبو".
(4) تفسير الطبري (27/39).

وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قول الله: { إِلا اللَّمَمَ } قال: الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه، قال: وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك ما ألما?! ...
وقد رواه ابن جرير وغيره مرفوعا (1) .
قال ابن جرير: حدثني سليمان بن عبد الجبار، حدثنا أبو عاصم، حدثنا زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال: هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك ما ألما?! ...
وهكذا رواه الترمذي، عن أحمد بن عثمان أبي (2) عثمان البصري، عن أبي عاصم النبيل. ثم قال: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق. وكذا قال البزار: لا نعلمه يُروى متصلا إلا من هذا الوجه. وساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم النبيل، وإنما ذكره البغوي في تفسير سورة "تنزيل" وفي صحته مرفوعا نظر (3) .
ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزِيع، حدثنا يزيد بن زُرَيْع، حدثنا يونس، عن الحسن، عن أبي هريرة -أراه رفعه-: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال: "اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود، واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود"، قال: "ذلك (4) الإلمام" (5) .
وحدثنا ابن بشار، حدثنا ابن أبي عَديّ، عن عوف، عن الحسن في قول الله: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال: اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر، ثم لا يعود.
وحدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، عن أبي رَجاء، عن الحسن في قول الله: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: هو الرجل يصيب اللمة من الزنا، واللمة من شرب الخمر، فيجتنبها ويتوب منها.
وقال ابن جرير (6) ، عن عطاء، عن ابن عباس: { إِلا اللَّمَمَ } يلم بها في الحين. قلت: الزنا؟ قال: الزنا ثم يتوب.
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن عُيَيْنَة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن
__________
(1) تفسير الطبري (27/39).
(2) في م: "أي".
(3) سنن الترمذي برقم (3284) وتفسير البغوي (7/128).
(4) في م: "فتلك" وفي أ: "فعلك".
(5) تفسير الطبري (27/39).
(6) في أ: "جريج".

عباس قال: { اللَّمَمَ } الذي يلم المرَّةَ.
وقال السدي: قال أبو صالح: سئلت عن { اللَّمَمَ } فقلت: هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب. وأخبرت بذلك ابن عباس فقال: لقد أعانك عليها مَلَك كريم. حكاه البغوي.
وروى ابن جرير من طريق المثنى بن الصباح -وهو ضعيف-عن عمرو بن شعيب؛ أن عبد الله بن عمرو قال: { اللَّمَمَ } : ما دون الشرك.
وقال سفيان الثوري، عن جابر الجُعفي، عن عطاء، عن ابن الزبير: { إِلا اللَّمَمَ } قال: ما بين الحدين: حد الدنيا (1) وعذاب الآخرة. وكذا رواه شعبة، عن الحكم، عن ابن عباس، مثله سواء.
وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس في قوله: { إِلا اللَّمَمَ } كل شيء بين (2) الحدين: حد الدنيا (3) وحد الآخرة، تكفره الصلوات، وهو (4) اللمم، وهو دون كل موجب، فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا، وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار، وأخَّر عقوبته إلى الآخرة. وكذا قال عكرمة، وقتادة، والضحاك.
وقوله: { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } أي: رحمته وَسِعَت كل شيء، ومغفرته تَسَع الذنوب كلها لمن تاب منها، كقوله: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر: 53].
وقوله: { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْض } أي: هو بصير بكم، عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي تصدر (5) عنكم وتقع منكم، حين أنشأ أباكم آدم من الأرض، واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذَّر، ثم قسمهم فريقين: فريقا للجنة وفريقا للسعير (6) . وكذا قوله: { وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } قد كتب الملك الذي يُوَكَّل به رزقَه وأجَلَه وعمله، وشقي أم سعيد.
قال مكحول: كنا أجنة في بطون أمهاتنا، فسقط منا من سقط، وكنا فيمن بقي، ثم كنا مراضع فهلك منا من هلك. وكنا فيمن بقي ثم صرنا يَفَعَةً، فهلك منا من هلك. وكنا فيمن بقي ثم صرنا شبابًا فهلك منا من هلك. وكنا فيمن بقي ثم صرنا شيوخا -لا أبا لك-فماذا بعد هذا ننتظر؟ (7) رواه ابن أبي حاتم عنه.
وقوله: { فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } أي: تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم، { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } ، كما قال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا } [النساء: 49].
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا عَمْرو الناقد، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا الليث، عن يزيد
__________
(1) في م، أ: "الزنا".
(2) في م: "من".
(3) في أ: "الزنا".
(4) في م: "فهو".
(5) في م، أ: "ستصدر".
(6) في أ: "فريقا في الجنة وفريقا في السعير".
(7) في م، أ: "ينتظر".

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)

بن أبي حبيب، عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي بَرّةَ، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت بَرَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزكوا أنفسكم، إن الله أعلم بأهل البر منكم". فقالوا: بم نسميها؟ قال: "سموها زينب" (1) .
وقد ثبت أيضا في الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا خالد الحَذَّاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكْرَة، عن أبيه قال: مدح رَجُلٌ رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلك! قطعت عُنُقَ صاحبك -مرارًا-إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل: أحسب فلانا -والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا-أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك" (2) .
ثم رواه عن غُنْدَر، عن شعبة، عن خالد الحذاء، به. وكذا رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، من طرق، عن خالد الحذاء، به (3) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث قال: جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه، قال: فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ويقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب.
ورواه مسلم وأبو داود من حديث الثوري، عن منصور، به (4) .
{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى (41) } .
يقول تعالى ذَامًّا لمن تولى عن طاعة الله: { فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى . وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [القيامة: 31 ، 32]، { وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى } قال ابن عباس: أطاع قليلا ثم قطعه. وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، وغير واحد. قال عكرمة وسعيد: كمثل القوم إذا كانوا يحفرون بئرًا، فيجدون في أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل، فيقولون: "أكدينا"، ويتركون العمل.
وقوله: { أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى } أي: أعند هذا الذي قد أمسك يده خشية الإنفاق، وقطع
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2142).
(2) المسند (5/45).
(3) المسند (5/41) وصحيح البخاري برقم (2662) وصحيح مسلم برقم (3000) وسنن أبي داود برقم (4805) وسنن ابن ماجه برقم (3744).
(4) صحيح مسلم برقم (3002) وسنن أبي داود برقم (4804).

معروفه، أعنده علم الغيب أنه سينفد ما في يده، حتى قد أمسك عن معروفه، فهو يرى ذلك عيانا؟! أي: ليس الأمر كذلك، وإنما أمسك عن الصدقة والمعروف والبر والصلة بخلا وشحا وهلعا؛ ولهذا جاء في الحديث: "أنفق بلالا ولا تَخْشَ من ذي العرش إقلالا" (1) ، وقد قال الله تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [سبأ: 39].
وقوله: { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى . وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } قال سعيد بن جبير، والثوري أي بلّغ جميع ما أمر به.
وقال ابن عباس: { وَفَّى } لله بالبلاغ. وقال سعيد بن جُبَير: { وَفَّى } ما أمر به. وقال قتادة: { وَفَّى } طاعة الله، وأدى رسالته الى خلقه. وهذا القول هو اختيار ابن جرير، وهو يشمل الذي قبله، ويشهد له قوله تعالى: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } [البقرة: 124] فقام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلغ الرسالة على التمام والكمال، فاستحق بهذا أن يكون للناس إماما يُقتَدى به في جميع أحواله وأفعاله وأقواله، قال الله تعالى: { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل: 123].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحِمْصي، حدثنا آدم بن أبي أياس العسقلاني، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } قال: "أتدري ما وفى؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "وفى عمل يومه بأربع ركعات من أول النهار".
ورواه ابن جرير من حديث جعفر بن الزبير، وهو ضعيف (2) .
وقال الترمذي في جامعه: حدثنا أبو جعفر السّمْناني، حدثنا أبو مُسْهِر، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن بحير بن سعد (3) ، عن خالد بن مَعْدان، عن جبير بن نُفَير، عن أبي الدرداء وأبي ذر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله، عز وجل، أنه قال: "ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار، أكفك آخره" (4) .
قال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبي، حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثنا زَبَّان بن قائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى؟ إنه كان يقول كلما أصبح وأمسى:
__________
(1) جاء من حديث ابي هريرة وبلال وابن مسعود. أما حديث أبي هريرة: فرواه أبو نعيم في الحلية (2/280) والطبراني في المعجم الكبير (1/341) من طريقين عن محمد بن سيرين عنه به.
وأما حديث بلال: فرواه الطبراني في المعجم الكبير (1/359) من طريق أبي إسحاق عن مسروق عنه به.
وأما حديث ابن مسعود: فرواه الطبراني في المعجم الكبير (10/191) من طريق يحيى بن وثاب عن مسروق عنه به.
(2) تفسير الطبري (27/43).
(3) في م، أ: "يحيى بن سعيد".
(4) سنن الترمذي برقم (475) وقال: "هذا حديث حسن غريب".

{ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُون } [الروم: 17] حتى ختم الآية. ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب، عن رِشْدِين بن سعد، عن (1) زَبَّان، به (2) .
ثم شرع تعالى يبين ما كان أوحاه في صحف إبراهيم وموسى فقال: { أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي: كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنما عليها وزرها، لا يحمله عنها أحد، كما قال: { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } [فاطر: 18] ، { وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى } أي: كما لا يحمل عليه وزر غيره، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه. ومن وهذه الآية الكريمة استنبط الشافعي، رحمه الله، ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم؛ ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما.
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به" (3) ، فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه" (4) . والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه، وقد قال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُم } (5) الآية [يس: 12]. والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضا من سعيه وعمله، وثبت في الصحيح: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا".
وقوله: { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } أي: يوم القيامة، كما قال تعالى: { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون } [التوبة: 105] أي: فيخبركم به، ويجزيكم عليه أتم الجزاء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وهكذا قال هاهنا: { ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى } أي: الأوفر.
__________
(1) في م: "بن".
(2) تفسير الطبري (27/43) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (20/192) من كلا الطريقين وقال الهيثمي في المجمع (10/117): "فيه ضعفاء وثقوا".
قلت في الأولى: ابن لهيعة وهو ضعيف.
وفي الثانية: رشدين بن سعد وهو ضعيف.
وفيهما: زيان بن فائد وهو ضعيف.
(3) صحيح مسلم برقم (1631).
(4) رواه أحمد في المسند (6/31) وأبو داود في السنن برقم (3528) والترمذي في السنن برقم (1358) والنسائي في السنن (7/240) من حديث عائشة رضي الله عنها/ وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
(5) في م: (وآثارهم وكل شيء أحصيناه).

وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)

{ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) }

وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)

{ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) }
يقول تعالى [مخبرا] (1) { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } أي: المعاد يوم القيامة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سُوَيد بن سَعيد، حدثنا مسلم بن خالد، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون الأوْديّ قال: قام فينا معاذ بن جبل فقال: يا بني أود، إني رسول الله إليكم، تعلمون أن المعاد إلى الله، إلى الجنة أو إلى النار.
وذكر البغوي من رواية أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } ، قال: لا فكرةَ في الرب (2) .
قال البغوي: وهذا مثل ما رُوي عن أبي هريرة مرفوعا: "تفكَّروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق، فإنه لا تحيط (3) به الفِكْرة".
كذا أورده، وليس بمحفوظ بهذا اللفظ (4) ، وإنما الذي في الصحيح: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغ أحدكم ذلك فليستعذ بالله وَلْيَنْتَه" (5) .
وفي الحديث الآخر الذي في السنن: "تفكروا في مخلوقات الله، ولا تفكروا (6) في ذات الله، فإن الله خلق ملكا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مَسِيرة ثلاثمائة سنة" أو كما قال (7) .
وقوله: { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } أي: خلق في عباده الضحك، والبكاء وسببهما وهما مختلفان.
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } ، كقوله: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاة } [الملك: 2] ، { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ
__________
(1) زيادة من أ.
(2) معالم التنزيل للبغوي (7/417).
(3) في م: "يحيط".
(4) معالم التنزيل للبغوي (7/417) ورواه ابن عساكر في المجلس التاسع والثلاثون ومائة من الأمالي (50/1) كما في السلسلة الصحيحة (4/395) من طريق محمد بن سلمة البلخي عن بشر بن الوليد عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة به، وفيه بشر بن الوليد وهو ضعيف.
(5) صحيح البخاري برقم (3276) وصحيح مسلم برقم (134).
(6) في أ: "ولا تتفكروا".
(7) لم أجده بهذا اللفظ، وقد روى أبو داود القطعة الثانية في سننه برقم (4727) من حديث جابر رضي الله عنه، مرفوعا بلفظ: "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، وإن ما بين شحمه أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام".
والقطعة الأولى: رويت من حديث أبي ذر مرفوعا: "تفكروا في خلق الله، ولا تتفكروا في الله فتهلكوا".
أخرجه أبو الشيخ في العظمة برقم (4).

الذَّكَرَ وَالأنْثَى . مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى } ، كقوله: { أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى . أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى . ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى . فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى . أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } [القيامة: 36 -40]. (1) .
وقوله: { وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخْرَى } أي: كما خلق البداءة هو قادر على الإعادة، وهي النشأة الآخرة يوم القيامة. { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } أي: مَلَّك عباده المال، وجعله لهم قُنْيَة مقيما عندهم، لا يحتاجون إلى بيعه، فهذا تمام النعمة عليهم. وعلى هذا يدور كلام كثير من المفسرين، منهم أبو صالح، وابن جرير، وغيرهما. وعن مجاهد: { أَغْنَى } : مَوَّل، { وَأَقْنَى } : أخدم. وكذا قال قتادة.
وقال ابن عباس ومجاهد أيضا: { أَغْنَى } : أعطى، { وَأَقْنَى } : رَضّى.
وقيل: معناه: أغنى نفسه وأفقر الخلائق إليه، قاله الحضرمي بن لاحق.
وقيل: { أَغْنَى } من شاء من خلقه و { وَأَقْنَى } : أفقر من شاء منهم، قاله ابن زيد. حكاهما ابن جرير (2) وهما بعيدان من حيث اللفظ.
وقوله: { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى } قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد، وغيرهم: هو هذا النجم الوقاد الذي يقال له: "مِرْزَم الجوزاء" كانت طائفة من العرب يعبدونه.
{ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى } وهم: قوم هود. ويقال لهم: عاد بن إرم بن سام بن نوح، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ . إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ . الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ } [الفجر: 6 -8]، فكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على الله وعلى رسوله، فأهلكهم الله { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ . سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } [الحاقة: 6 ، 7].
وقوله: { وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى } ، أي: دمرهم فلم يبق منهم أحدا، { وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْل } أي: من قبل هؤلاء، { إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى } أي: أشد تمردا من الذين من بعدهم، { وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى } يعني: مدائن لوط، قَلَبها عليهم فجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود؛ ولهذا قال: { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى } يعني: من الحجارة التي أرسلها عليهم { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِين } [الشعراء: 173].
قال قتادة: كان في مدائن لوط أربعة آلاف ألف إنسان، فانضرم عليهم الوادي شيئا من نار ونفط وقَطِران كفم الأتون (3) . رواه (4) ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن محمد بن وهب بن عطية، عن الوليد بن مسلم، عن خليد، عنه به. وهو غريب جدا.
__________
(1) في م: "تمنى".
(2) تفسير الطبري (27/44).
(3) في أ: "كتم الأنوف".
(4) في م: "ورواه".

هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)

{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } أي: ففي أي نعم الله عليك أيها الإنسان تمتري؟ قاله قتادة.
وقال ابن جُرَيج: { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } يا محمد. والأول أولى، وهو اختيار ابن جرير.
{ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى (56) أَزِفَتِ الآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) }
{ هَذَا نَذِيرٌ } يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم { مِنَ النُّذُرِ الأولَى } أي: من جنسهم، أرسل كما أرسلوا، كما قال تعالى: { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُل } [الأحقاف: 9].
{ أَزِفَتِ الآزِفَة } أي: اقتربت القريبة، وهي القيامة، { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ } أي: لا يدفعها إذًا من دون الله أحد، ولا يطلع على علمها سواه.
ثم قال تعالى منكرا على المشركين في استماعهم القرآن وإعراضهم عنه وتلهيهم: { تَعْجَبُونَ (1) } من أن يكون صحيحا، { وَتَضْحَكُونَ (2) } منه استهزاء وسخرية، { وَلا تَبْكُونَ } أي: كما يفعل الموقنون به، كما أخبر عنهم: { وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [الإسراء: 109].
وقوله: { وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ } قال سفيان الثوري، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الغناء، هي يمانية، اسْمِد لنا: غَنّ (3) لنا. وكذا قال عكرمة.
وفي رواية عن ابن عباس: { سَامِدُونَ } : معرضون. وكذا قال مجاهد، وعكرمة. وقال الحسن: غافلون. وهو رواية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وفي رواية عن ابن عباس: تستكبرون. وبه يقول السدي.
ثم قال آمرا لعباده بالسجود له والعبادة المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم والتوحيد والإخلاص: { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } (4) أي: فاخضعوا له وأخلصوا ووحدوا.
قال البخاري: حدثنا أبو مَعْمَر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. انفرد به دون مسلم (5) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا رباح، عن مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن جعفر بن المطلب بن أبي وَدَاعة، عن أبيه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم، فسجد وسَجَد من عنده، فرفعتُ رأسي وأبيتُ أن أسجد، ولم يكن أسلم يومئذ المطلب،
__________
(1) في م: "يعجبون".
(2) في م: "يضحكون".
(3) في م، أ: "تغني".
(4) في م: "فليسجدوا" وهو خطأ.
(5) صحيح البخاري برقم (4862).

فكان بعد ذلك لا يسمع أحدًا يقرؤها (1) إلا سجد معه.
وقد رواه النسائي في الصلاة، عن عبد الملك بن عبد الحميد، عن أحمد بن حنبل، به (2) .
ذكر حديث له مناسبة بما تقدم من قوله تعالى: { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى . أَزِفَتِ الآزِفَة } ، فإن النذير هو: الحذر لما يعاين من الشر، الذي يخشى وقوعه فيمن أنذرهم، كما قال: { إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيد } [سبأ: 46]. وفي الحديث: "أنا النذير العُريان" أي: الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس عليه شيئًا، بل بادر إلى إنذار قومه قبل ذلك، فجاءهم عُريانا مسرعا مناسب لقوله: { أَزِفَتِ الآزِفَة } أي: اقتربت القريبة، يعني: يوم القيامة كما قال في أول السورة التي بعدها: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ } [القمر: 1 ]، قال الإمام أحمد:
حدثنا أنس بن عياض، حدثني أبو حازم -لا أعلم إلا عن سهل بن سعد-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خُبْزَتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه". وقال أبو حازم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -قال أبو ضَمْرَة: لا أعلم إلا عن سهل بن سعد-قال: "مثلي مثل الساعة كهاتين" وفرق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام، ثم قال: "مثلي ومثل الساعة كمثل فَرسَي رِهَان"، ثم قال: "مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة، فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه: أتيتم أتيتم". ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا ذلك" (3) . وله شواهد من وجوه أخر من صحاح وحِسان. ولله الحمد والمنة، وبه الثقة والعصمة.
آخر [تفسير] (4) سورة النجم ولله الحمد والمنة
__________
(1) في م، أ: "يقرأ بها".
(2) المسند (6/399) وسنن النسائي (2/160).
(3) المسند (5/331).
(4) زيادة من م، أ.

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)

تفسير سورة القمر (1)
وهي مكية.
قد تقدم في حديث أبي واقد (2) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بقاف، واقتربت الساعة، في الأضحى والفِطْر، وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار، لاشتمالهما على ذكر الوعد والوعيد وبدء الخلق وإعادته، والتوحيد وإثبات النبوات، وغير ذلك من المقاصد العظيمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) }
يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها. كما قال تعالى: { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [سُبْحَانَهُ ] } [ النحل : 1 ]، (3) وقال: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] وقد وردت الأحاديث بذلك، قال الحافظ أبو بكر البزار:
حدثنا محمد بن المثنى وعمرو بن علي قالا حدثنا خلف بن موسى، حدثني أبي، عن قتادة، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطَبَ أصحابه ذات يوم، وقد كادت الشمس أن تغرب فلم يبق منها إلا شِفٌّ (4) يسير، فقال: "والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه، وما نرى من الشمس إلا يسيرا" (5) .
قلت: هذا حديث مداره على خلف بن موسى بن خلف العَمِّيّ، عن أبيه. وقد ذكره ابن حِبَّان في الثقات، وقال: ربما أخطأ.
حديث آخر يعضد الذي قبله ويفسره، قال الإمام أحمد: حدثنا الفضل بن دُكَيْن، حدثنا شريك، حدثنا سلمة بن كُهَيْل، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم والشمس على قُعَيْقِعان بعد العصر، فقال: "ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من النهار فيما مضى" (6) .
__________
(1) في أ: "اقتربت".
(2) انظر أول تفسير سورة: "ق".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "شيء".
(5) رواه الطبري في تاريخه (1/11) حدثنا ابن بشار ومحمد بن المثنى عن خلف بن موسى به.
قال الهيثمي في المجمع (10/311): "رواه البزار من طريق خلف بن موسى عن أبيه وقد وثقا".
(6) المسند (2/115).

وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين، حدثنا محمد بن مُطَرِّف، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بُعِثتُ والساعة (1) هكذا". وأشار بإصبعيه: السبابة والوسطى.
أخرجاه من حديث أبي حازم سلمة بن دينار (2) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عُبَيد، حدثنا الأعمش، عن أبي خالد، عن وهب السَّوَائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهذه من هذه إن كادت لتسبقها (3) " وجمع الأعمش بين السبابة والوسطى (4) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا الأوزاعي، حدثنا إسماعيل بن عبيد (5) الله، قال: قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك فسأله: ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر به الساعة؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنتم والساعة كهاتين".
تفرد به أحمد، رحمه الله (6) . وشاهد ذلك أيضا في الصحيح في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه الحاشر الذي يُحْشَرُ الناس على قدميه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا بَهْزُ بن أسد، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، عن خالد بن عمير قال: خطب عتبة بن غَزْوَان -قال بهز: وقال قبل هذه المرة-خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإن الدنيا قد آذنت بصَرْمٍ وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صُبَابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يُلقَى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاما (7) ما يدرك لها قعرًا، والله لتملؤنه، أفعجبتم! والله لقد ذكر لنا أن ما بين مِصْرَاعَي الجنة مسيرة أربعين عاما، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ الزحام" وذكر تمام الحديث، انفرد به مسلم (8) .
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني يعقوب، حدثني ابن عُلَيَّةَ، أخبرنا عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي قال: نزلنا المدائن فكنا منها على فَرْسَخ، فجاءت (9) الجمعة، فحضر أبي وحضرت معه فخطبنا حذيفة فقال: ألا إن الله يقول: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } ، ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار، وغدا السباق، فقلت لأبي: أيستبق الناس غدا؟ فقال: يا بني إنك لجاهل، إنما هو السباق بالأعمال.
__________
(1) في م: "بعثت أنا والساعة".
(2) المسند (5/388) وصحيح البخاري برقم (6503) وصحيح مسلم برقم (2950).
(3) في م، أ: "لتسبقني".
(4) المسند (4/309).
(5) في أ: "عبد".
(6) المسند (3/223).
(7) في م: "خريفا".
(8) المسند (4/174) وصحيح مسلم برقم (2967).
(9) في أ: "حانت".

ثم جاءت الجمعة الأخرى فحضرنا فخطب حذيفة، فقال: ألا إن الله، عز وجل يقول: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق، ألا وإن الغاية النار، والسابق من سبق إلى الجنة (1) .
وقوله: { وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } : قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة. وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: "خمس قد مضين: الروم، والدخان، واللزام، والبطشة، والقمر" (2) . وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أي انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات.
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك:
رواية أنس بن مالك:
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر بمكة مرتين، فقال: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } .
ورواه مسلم، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق (3) .
وقال البخاري: حدثني عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك؛ أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شِقَّين، حتى رأوا حِرَاء بينهما (4) .
وأخرجاه أيضا من حديث يونس بن محمد المؤدّب، عن شيبان، عن قتادة (5) . ورواه مسلم أيضا من حديث أبي داود الطيالسي، ويحيى القطان، وغيرهما، عن شعبة، عن قتادة، به (6) .
رواية جبير بن مطعم رضي الله عنه:
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سليمان بن كثير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين: فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد. فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.
تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه، وأسنده البيهقي في "الدلائل" من طريق محمد بن كثير،
__________
(1) تفسير الطبري (27/51).
(2) صحيح البخاري برقم (4767).
(3) المسند (3/165) وصحيح مسلم برقم (2802).
(4) صحيح البخاري برقم (3868).
(5) صحيح البخاري برقم (4867) وصحيح مسلم برقم (2802).
(6) صحيح مسلم برقم (2802) ورواه البخاري في صحيحه برقم (4868) من طريق يحيى عن شعبة به.

عن أخيه سليمان بن كثير، عن حصين بن عبد الرحمن، [به] (1) (2) . وهكذا رواه ابن جرير (3) من حديث محمد بن فضيل وغيره، عن حصين، به (4) . ورواه البيهقي أيضا من طريق إبراهيم بن طَهْمَان وهُشَيْم، كلاهما عن حُصَين عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده فذكره (5) .
رواية عبد الله بن عباس [رضي الله عنهما] (6)
قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا بكر، عن جعفر، عن عِرَاك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: انشق القمر في زمان رسول (7) الله صلى الله عليه وسلم (8) .
ورواه البخاري أيضا ومسلم، من حديث بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة، عن عِرَاك [بن مالك] (9) ، به مثله (10) .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن مثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود بن أبي هند، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ . وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } قال: قد مضى ذلك، كان قبل الهجرة، انشق القمر حتى رأوا شقيه.
وروى العَوْفي، عن ابن عباس نحو هذا.
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن عمرو البزار، حدثنا محمد بن يحيى القُطَعِي، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كُسِفَ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سُحِر القمر. فنزلت: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } إلى قوله: { مستمر } .
رواية عبد الله بن عمر:
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا العباس بن محمد الدّوري، حدثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر في قوله تعالى: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } قال: وقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فِلْقَتَين: فِلْقَة من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشهد".
__________
(1) زيادة من م.
(2) المسند (4/81) ودلائل النبوة للبيهقي (2/268).
(3) في أ: "جبير".
(4) تفسير الطبري (27/51).
(5) دلائل النبوة (2/268).
(6) زيادة من م.
(7) في م، أ: "النبي".
(8) صحيح البخاري برقم (4866).
(9) زيادة من أ.
(10) صحيح البخاري برقم (3638) وصحيح مسلم برقم (2803).

وهكذا رواه مسلم، والترمذي، من طرق عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، به (1) . قال مسلم كرواية مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود. وقال الترمذي: حسن صحيح.
رواية عبد الله ابن مسعود:
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن أبي مَعْمَر، عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقين حتى نظروا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشهدوا".
وهكذا رواه البخاري ومسلم، من حديث سفيان بن عيينة، به (2) . وأخرجاه من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر عبد الله بن سَخْبَرَة، عن ابن مسعود، به (3) .
وقال ابن جرير: حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، حدثنا عمي يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن رجل، عن عبد الله، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر، فأخذت فرقة خلف الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا، اشهدوا" (4) .
قال البخاري: وقال أبو الضحى، عن مسروق، عن عبد الله: بمكة (5) .
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة. قال: فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السّفَّار، فإن محمدًا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. قال: فجاء السّفَّار فقالوا: ذلك (6) .
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد الدَّوْري، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا هُشَيْم، حدثنا مغيرة، عن أبى الضحى، عن مسروق، عن عبد الله، قال: انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين، فقال كفار قريش أهل مكة: هذا سحر سحركم به ابن أبي كَبْشَة، انظروا السفار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سِحْرٌ سحركم به. قال: فسئل السفار، قال: وقدموا من كل وجهة، فقالوا: رأيناه.
رواه ابن جرير من حديث المغيرة، به (7) . وزاد: فأنزل الله عز وجل: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } . ثم قال ابن جرير:
__________
(1) دلائل النبوة للبيهقي (2/267) وصحيح مسلم برقم (2801) وسنن الترمذي برقم (3288).
(2) المسند (1/377) وصحيح البخاري برقم (4865) وصحيح مسلم برقم (2800).
(3) صحيح البخاري برقم (4864) وصحيح مسلم برقم (2800).
(4) تفسير الطبري (27/50).
(5) صحيح البخاري برقم (295).
(6) مسند الطيالسي برقم (295).
(7) دلائل النبوة للبيهقي (2/266) وتفسير الطبري (27/50).

حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، أخبرنا أيوب، عن محمد -هو ابن سيرين-قال: نبئت أن ابن مسعود، رضي الله عنه، كان يقول: لقد انشق القمر (1) .
وقال ابن جرير أيضا: حدثني محمد بن عمارة، حدثنا عمرو بن حماد، حدثنا أسباط، عن سماك، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله قال: لقد رأيت الجبل من فَرْج القمر حين انشق.
ورواه الإمام أحمد عن مُؤَمَّل، عن إسرائيل، عن سِمَاك، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رأيت الجبل من بين فرجتي القمر (2) .
وقال ليث عن مجاهد: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "اشهد يا أبا بكر". فقال المشركون: سُحِر القمر حتى انشق (3) .
وقوله: { وَإِنْ يَرَوْا آيَةً } أي: دليلا وحجة وبرهانا { يعرضوا } أي: لا ينقادون له، بل يعرضون عنه ويتركونه وراء ظهورهم، { وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } أي: ويقولون: هذا الذي شاهدناه من الحجج، سحرٌ سحرنا به.
ومعنى { مُسْتَمِرٌّ } أي: ذاهب. قاله مجاهد، وقتادة، وغيرهما، أي: باطل مضمحل، لا دوام له.
{ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } أي: كذبوا بالحق إذ جاءهم، واتبعوا ما أمرتهم به آراؤهم وأهواؤهم من جهلهم وسخافة عقلهم.
وقوله: { وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ } قال (4) قتادة: معناه: أن الخير واقع بأهل الخير، والشر واقع بأهل الشر.
وقال ابن جريج: مستقر بأهله. وقال مجاهد: { وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ } أي: يوم القيامة.
وقال السدي: { مُسْتَقِرٌّ } أي: واقع.
وقوله: { وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ } أي: من الأخبار عن قصص الأمم المكذبين بالرسل، وما حل بهم من العقاب والنكال والعذاب، مما يتلى عليهم في هذا القرآن، { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي: ما فيه واعظ لهم عن الشرك والتمادي على التكذيب.
وقوله: { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } أي: في هدايته تعالى لمن هداه وإضلاله لمن أضله، { فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } يعني (5) : أي شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة، وختم على قلبه؟ فمن الذي يهديه من بعد الله؟ وهذه الآية كقوله تعالى: { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنعام : 149 ]، وكذا قوله تعالى: { وَمَا تُغْنِي (6) الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 101 ].
__________
(1) تفسير الطبري (27/51).
(2) المسند (1/413).
(3) تفسير الطبري (27/51).
(4) في م: "قاله".
(5) في م، أ: "بمعنى".
(6) في م، أ: "فما تغني".

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)

{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) }

خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)

{ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) } .
يقول تعالى: فتول يا محمد عن هؤلاء الذين إذا رأوا آية يعرضون ويقولون: هذا سحر مستمر، أعرض عنهم وانتظرهم، { يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ } أي: إلى شيء منكر فظيع، وهو موقف الحساب وما فيه من البلاء، بل والزلازل والأهوال، { خشَّعًا أَبْصَارُهُمْ } أي: ذليلة أبصارهم { يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ } وهي: القبور، { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ } أي: كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي { جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ } في الآفاق؛ ولهذا قال: { مُهْطِعِينَ } أي: مسرعين { إِلَى الدَّاعِي } ، لا يخالفون ولا يتأخرون، { يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } أي: يوم شديد الهول عَبُوس قَمْطَرِير { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ . عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } [ المدثر : 9 ، 10 ].
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) } .
يقول تعالى: { كَذَّبَتْ } قبل قومك يا محمد { قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا } أي: صرحوا له بالتكذيب واتهموه بالجنون، { وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ } قال مجاهد: { وَازْدُجِرَ } أي: استطير جنونا. وقيل: { وَازْدُجِرَ } أي: انتهروه وزجروه وأوعدوه: { لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ } [ الشعراء : 116 ]. قاله ابن زيد، وهذا متوجه حسن.
{ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } أي: إني ضعيف عن هؤلاء وعن مقاومتهم { فَانْتَصِرْ } أنت لدينك . قال الله تعالى: { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ } . قال السدي: هو الكثير { وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا } أي: نبعت جميعُ أرجاء الأرض، حتى التنانير التي هي محال النيران نبعت عيونا، { فَالْتَقَى الْمَاءُ } أي: من السماء ومن الأرض { عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } أي: أمر مقدر.
قال ابن جُرَيْج، عن ابن عباس: { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ } كثير، لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده، ولا من السحاب؛ فتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم، فالتقى الماءان على أمر قد قدر.
وروى ابن أبي حاتم أن ابن الكُوَّاء سأل عليا عن المجرة فقال: هي شرج السماء، ومنها فتحت

السماء بماء منهمر.
{ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } : قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والقرظي، وقتادة، وابن زيد: هي المسامير، واختاره ابن جرير، قال: وواحدها دسار، ويقال: دَسير، كما يقال: حبيك وحباك، والجمع حُبُك.
وقال مجاهد: الدسر: أضلاع السفينة. وقال عكرمة والحسن: هو صدرها الذي يضرب به الموج.
وقال الضحاك: الدسر: طرفها وأصلها.
وقال العَوْفي عن ابن عباس: هو كلكلها.
وقوله: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } أي: بأمرنا بمرأى منا وتحت حفظنا وكلاءتنا { جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ } أي جزاء لهم على كفرهم بالله وانتصارًا لنوح، عليه السلام.
وقوله: { وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً } قال قتادة: أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أول هذه الأمة. والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفن، كقوله تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ . وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } [ يس : 41، 42 ]. وقال { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ . لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 11، 12]؛ ولهذا قال ها هنا: { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } أي: فهل من يتذكر ويتعظ؟
قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن ابن مسعود، قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن، مُدَّكر أو مُذَّكر؟ قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم: { مُدَّكِرٍ } (1)
وهكذا رواه البخاري: حدثنا يحيى، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأسود (2) بن يزيد، عن عبد الله قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم: { فَهَلْ مِنْ مُذَّكِرٍ } فقال النبي صلى الله عليه وسلم: { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } (3)
وروى البخاري أيضا من حديث شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } (4) .
وقال: حدثنا أبو نُعَيم، حدثنا زُهَيْر، عن أبي إسحاق؛ أنه سمع رجلا يسأل الأسود: { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } أو { مُذَّكِر } ؟ قال: سمعت عبد الله يقرأ: { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } . وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها: { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } دالا.
__________
(1) المسند (1/395).
(2) في م: "عن أبي الأسود".
(3) صحيح البخاري برقم (4874).
(4) صحيح البخاري برقم (4869).

كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)

وقد أخرج مسلم هذا الحديث وأهل السنن إلا ابن ماجه، من حديث أبي إسحاق (1) .
وقوله: { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي: كيف كان عذابي لمن كفر بي وكذب رسلي ولم يتعظ بما جاءت به نُذُري، وكيف انتصرت لهم، وأخذت لهم بالثأر.
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } أي: سهلنا لفظه، ويسرنا معناه لمن أراده، ليتذكر الناس. كما قال: { كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ (2) أُولُو الألْبَابِ } [ ص : 29 ] ، وقال تعالى: { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } [ مريم : 97 ].
قال مجاهد: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } يعني: هَوّنّا قراءته.
وقال السدي: يسرنا تلاوته على الألسن.
وقال الضحاك عن ابن عباس: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين، ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله، عز وجل.
قلت: ومن تيسيره، تعالى، على الناس تلاوة القرآن ما تَقدّم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف". وأوردنا الحديث بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته هاهنا، ولله الحمد والمنة.
وقوله: { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } أي: فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد يَسَّر الله حفظه ومعناه؟
وقال محمد بن كعب القرظي: فهل من منزجر عن المعاصي؟
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن رافع، حدثنا ضَمْرَة (3) ، عن ابن شَوْذَب، عن مَطَر -هو الوراق-في قوله تعالى: { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } هل من طالب علم فَيُعَان عليه؟
وكذا علقه البخاري بصيغة الجزم، عن (4) مطر الوراق و[كذا] (5) رواه ابن جرير (6) ، وروي عن قتادة مثله.
{ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنزعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) } .
يقول تعالى مخبرا عن عاد قوم هود: إنهم كذبوا رسولهم أيضا، كما صنع قوم نوح، وأنه تعالى
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4871) وصحيح مسلم برقم (823) وسنن أبي داود برقم (3994) وسنن الترمذي برقم (2937) وسنن النسائي (2/150).
(2) في م: "ليذكر".
(3) في أ: "حمزة".
(4) في أ: "على".
(5) زيادة من م.
(6) تفسير الطبري (27/57).

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)

أرسل { عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا } ، وهي الباردة الشديدة البرد، { فِي يَوْمِ نَحْسٍ } أي: عليهم. قاله الضحاك، وقتادة، والسّدّي. { مُسْتَمِرٍّ } عليهم نحسه ودماره؛ لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي.
وقوله: { تَنزعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ } وذلك أن الريح كانت تأتي أحدهم فترفعه حتى تغيبه عن الأبصار، ثم تنكسه على أم رأسه، فيسقط إلى الأرض، فتثلغ رأسه فيبقى جثة بلا رأس؛ ولهذا قال: { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ . فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ . وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } .
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) } .

وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)

{ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) } .
وهذا إخبار عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحا، { فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ } ، يقولون: لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا كُلّنا قيادنا لواحد منا!
ثم تعجبوا من إلقاء الوحي عليه خاصة من دونهم، ثم رموه بالكذب فقالوا: { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } أي: متجاوز في حد الكذب. قال الله تعالى: { سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ } وهذا تهديد لهم شديد ووعيد أكيد.
ثم قال تعالى: { إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ } أي: اختبارا لهم؛ أخرج الله لهم ناقة عظيمة عُشراء من صخرة صمَّاء طبق ما سألوا، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح، عليه السلام، فيما جاءهم به.
ثم قال آمرا لعبده ورسوله صالح: { فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ } أي: انتظر ما يؤول إليه أمرهم، واصبر عليهم، فإن العاقبة لك والنصر لك في الدنيا والآخرة، { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } أي: يوم لهم ويوم للناقة؛ كقوله: { قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [الشعراء : 155].
وقوله: { كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ } قال مجاهد: إذا غابت حضروا الماء، وإذا جاءت حضروا اللبن.
ثم قال تعالى: { فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ } قال المفسرون: هو عاقر الناقة، واسمه قُدّار بن سالف، وكان أشقى قومه. كقوله: { إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا } [ الشمس :12 ]. { فَتَعَاطَى } أي: فَجَسر (1)
{ فَعَقَرَ . فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي: فعاقبتهم، فكيف كان عقابي (2) [لهم] (3) على كفرهم بي
__________
(1) في م: "حسر".
(2) في م: "عذابي".
(3) زيادة من م، أ.

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)

وتكذيبهم رسولي؟ { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ } أي: فبادوا عن آخرهم لم تبق (1) منهم باقية، وخَمَدوا وهَمَدوا كما يهمد يَبِيس الزرع والنبات. قاله غير واحد من المفسرين. والمحتظر -قال السدي-: هو المرعى بالصحراء حين يبيس وتحرق ونسفته الريح.
وقال ابن زيد: كانت العرب يجعلون حِظَارًا على الإبل والمواشي من يَبِيس الشوك، فهو المراد من قوله: { كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ } .
وقال سعيد بن جُبَير: { كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ } : هو التراب المتناثر من الحائط. وهذا قول غريب، والأول أقوى، والله أعلم.
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) } .
يقول تعالى مخبرا عن قوم لوط كيف كذبوا رسولهم وخالفوه، وارتكبوا المكروه من إتيان الذكور، وهي الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين؛ ولهذا أهلكهم الله هلاكا لم يُهلكه أمةً من الأمم، فإنه تعالى أمر جبريل، عليه السلام، فحمل مدائنهم حتى وصل بها إلى عَنَان السماء، ثم قلبها عليهم وأرسلها، وأتبعت بحجارة من سجيل منضود؛ ولهذا قال هاهنا. { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا } وهي: الحجارة، { إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ } أي: خرجوا من آخر الليل فنجوا مما أصاب قومهم، ولم يؤمن بلوط من قومه أحد ولا رجل واحد حتى ولا امرأته، أصابها ما أصاب قومها، وخرج نبي الله لوط وبنات له من بين أظهرهم سالما لم يمسَسْه سوء؛ ولهذا قال تعالى: { كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ . وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا } أي: ولقد كان قبل حلول العذاب بهم قد أنذرهم بأس الله وعذابه، فما التفتوا إلى ذلك، ولا أصغوا إليه، بل شكوا فيه وتماروا به، { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ } وذلك ليلة ورَدَ عليه الملائكة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل في صورة شباب مُرد حِسان محنَةً من الله بهم، فأضافهم لوط [عليه السلام] (2) وبعثت امرأته العجوز السوءُ إلى قومها، فأعلمتهم بأضياف لوط، فأقبلوا يُهْرَعُونَ إليه من كل مكان، فأغلق لوط دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب، وذلك عشية، ولوط، عليه السلام، يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه، ويقول لهم: { هَؤُلاءِ بَنَاتِي } يعني: نساءهم، { إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } [ الحجر:71 ]{ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ } أي: ليس لنا فيهن أرَبٌ، { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } [ هود:79 ] فلما اشتد الحال وأبوا إلا الدخول، خرج عليهم جبريل، عليه السلام، فضرب أعينهم بطرف جناحه، فانطمست أعينهم. يقال: إنها غارت من وجوههم.
__________
(1) في م، أ: "يبق".
(2) زيادة من أ.

وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)

وقيل: إنه لم تبق لهم عيون بالكلية، فرجعوا على أدبارهم يتحسسون بالحيطان، ويتوعدون لوطا، عليه السلام، إلى الصباح.
قال الله تعالى: { وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ } أي: لا محيد لهم عنه، ولا انفكاك لهم منه، { فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ . وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } .
{ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) } .
يقول تعالى مخبرا عن فرعون وقومه إنهم جاءهم رسول الله موسى وأخوه هارون بالبشارة إن آمنوا، والنذارة إن كفروا، وأيدهما بمعجزات عظيمة وآيات متعددة، فكذبوا بها كلها، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، أي: فأبادهم الله ولم (1) يُبق منهم مخبرًا ولا عينًا ولا أثرًا.
ثم قال: { أَكُفَّارُكُمْ } أي: أيها المشركون من كفار قريش { خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ } يعني: من الذين تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل، وكفرهم بالكتب: أأنتم خير أم أولئك؟ { أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ } أي: أم معكم (2) من الله براءة ألا ينالكم عذاب ولا نكال؟ .
ثم قال مخبرا عنهم: { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ } أي: يعتقدون أنهم مناصرون (3) بعضهم بعضا، وأن جمعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء، قال الله تعالى: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } أي: سيتفرق شملهم ويغلبون.
قال البخاري: حدثنا إسحاق، حدثنا خالد، عن خالد -وقال أيضا: حدثنا محمد، حدثنا (4) عفان بن مسلم، عن وُهيب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -وهو في قبة له يوم بدر-: "أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تُعبد بعد اليوم (5) أبدا". فأخذ أبو بكر، رضي الله عنه، بيده وقال: حسبك يا رسول الله! ألححت على ربك. فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ . بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } .
وكذا رواه البخاري والنسائي في غير موضع، من حديث خالد -وهو مِهْران (6) الحذاء-به (7) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الربيع الزّهرَاني، حدثنا حماد عن أيوب، عن عكرمة، قال: لما نزلت { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [قال] (8) قال عمر: أيّ جمَع يهزم؟ أيّ جَمْع
__________
(1) في م: "فلم".
(2) في م: "معهم".
(3) في م، أ: "يتناصرون".
(4) في م: "بن".
(5) في م: "بعد اليوم في الأرض".
(6) في م، أ: "وهو ابن مهران".
(7) صحيح البخاري برقم (2915، 3953، 4875، 4877) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11557).
(8) زيادة من أ.

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)

يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، وهو يقول: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } فعرفت تأويلها يومئذ (1) .
وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف؛ أن ابن جُرَيج أخبرهم: أخبرني يوسف بن ماهَكَ قال: إني عند عائشة أم المؤمنين، قالت: نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة -وإني لجارية ألعب-{ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } هكذا رواه ها هنا مختصرا (2) . ورواه في فضائل القرآن مطولا (3) ، ولم يخرجه مسلم.
{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) } .
__________
(1) رواه عبد الرزاق في تفسيره (2/209) من طريق معمر عن أيوب به.
(2) صحيح البخاري برقم (4876).
(3) صحيح البخاري برقم (4993).

وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

{ وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) }
يخبرنا (1) تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحق، وسُعُر مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء، وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق.
ثم قال: { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ } أي: كما كانوا في سُعُر وشك وتردد أورثهم ذلك النار، وكما كانوا ضلالا سُحبوا فيها على وجوههم، لا يدرون أين يذهبون، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا: { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } .
وقوله: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، كقوله: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [ الفرقان:2 ] وكقوله: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى . الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى :1-3 ] أي: قدر قدرا، وهدى الخلائق إليه؛ ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمةُ السنة على إثبات قَدَر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها، وردّوا بهذه الآية وبما (2) شاكلها من الآيات، وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرْقة القَدرية الذين نبغوا (3) في أواخر عصر الصحابة. وقد تكلمنا على هذا المقام مفصلا وما ورد فيه من الأحاديث في شرح "كتاب الإيمان" من "صحيح البخاري" رحمه الله، ولنذكر هاهنا الأحاديث المتعلقة بهذه الآية الكريمة:
قال أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان الثوري، عن زياد بن إسماعيل السهمي، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن أبي هُرَيرَة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت: { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } .
__________
(1) في م: "يخبر".
(2) في م: "وما".
(3) في أ: "سعوا".

وهكذا رواه مسلم والترمذي وابن ماجه، من حديث وكيع، عن سفيان الثوري، به (1) .
وقال البزار: حدثنا عمرو بن على، حدثنا الضحاك بن مَخْلَد، حدثنا يونس بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: ما نزلت هذه الآيات: { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ . يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، إلا في أهل القدر (2) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سهل (3) بن صالح الأنطاكي، حدثني قُرَّة بن حبيب، عن كنانة حدثنا جرير بن حازم، عن سعيد بن عمرو بن جَعْدَةَ، عن ابن زُرَارة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية: { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، قال: "نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون بقدر الله" (4) .
وحدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا مَرْوان بن شجاع الجزَري، عن عبد الملك بن جُرَيْج، عن عطاء بن أبي رَبَاح، قال: أتيت ابن عباس وهو يَنزع من زمزم، وقد ابتلّت أسافل ثيابه، فقلت له: قد تُكُلّم في القدر. فقال: أو [قد] (5) فعلوها؟ قلت: نعم. قال: فوالله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم: { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، أولئك شرار هذه الأمة، فلا تعودوا مرضاهم ولا تُصَلّوا على موتاهم، إن رأيت أحدا منهم فقأت عينيه بأصبعيّ هاتين.
وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر، وفيه مرفوع، فقال:
حدثنا أبو المغيرة، حدثنا الأوزاعي، عن بعض إخوته، عن محمد بن عُبَيد المكي، عن عبد الله بن عباس، قال: قيل له: إن رجلا قدم علينا يُكَذّب بالقدر فقال: دلوني عليه -وهو أعمى-قالوا: وما تصنع به يا أبا عباس قال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضَّنّ أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته في يدي لأدقنها؛ فإني (6) سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كأني بنساء بني فِهْر يَطُفْنَ بالخزرج، تصطفق ألياتهن مشركات، هذا أول شرك هذه الأمة، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قَدّر خيرا، كما أخرجوه من أن يكون قدر شرا" (7) .
ثم رواه أحمد عن أبي المغيرة، عن الأوزاعي، عن العلاء بن الحجاج، عن محمد بن عبيد، فذكر مثله (8) . لم يخرجوه.
__________
(1) المسند (2/444) وصحيح مسلم برقم (2656) وسنن الترمذي برقم (3290) وسنن ابن ماجة برقم (83).
(2) مسند البزار برقم (2265) "كشف الأستار"، وقال الهيثمي في المجمع (7/117): "فيه يونس بن الحارث، وثقه ابن معين وابن حيان وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات".
(3) في أ: "سهيل".
(4) رواه الطبراني في المعجم الكبير (5/276) من طريق قرة بن حبيب عن جرير بن حازم -وأظن أن كنانة ساقط منه- عن سعيد بن عمرو به.
(5) زيادة من م.
(6) في أ: "قال".
(7) المسند (1/330).
(8) المسند (1/330).

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني أبو صخر، عن نافع قال: كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه (1) ، فكتب إليه عبد الله بن عمر: إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إليّ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر".
رواه أبو داود، عن أحمد بن حنبل، به (2) .
وقال أحمد: حدثنا أنس بن عياض، حدثنا عمر بن عبد الله مولى غُفْرَة، عن عبد الله بن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون: لا قدر. إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم" (3) .
لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه.
وقال أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا رِشْدِين، عن أبي صخر حُمَيد بن زياد، عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في هذه الأمة مسخ، ألا وذاك في المكذبين بالقدر والزنديقية".
ورواه الترمذي وابن ماجه، من حديث أبي صخر حميد بن زياد، به (4) . وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
وقال أحمد: حدثنا إسحاق بن الطباع، أخبرني مالك، عن زياد بن سعد، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس اليماني قال: سمعت ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدرن حتى العجز والكيس".
ورواه مسلم منفردا به، من حديث مالك (5) (6) .
وفي الحديث الصحيح: "استعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك أمر فقل: قَدَّرُ الله وما شاء فعل، ولا تقل: لو أني فعلت لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان" (7) .
وفي حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم يكتبه الله لك، لم ينفعوك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يكتبه الله عليك، لم يضروك. جفّت الأقلام وطويت الصحف" (8) .
__________
(1) في م: "فكاتبه".
(2) المسند (2/90) وسنن أبي داود برقم (4613).
(3) المسند (2/86).
(4) المسند (2/108) وسنن الترمذي برقم (2152) وسنن ابن ماجه برقم (4061).
(5) في م: "ورواه مسلم من حديث مالك منفردا به".
(6) المسند (2/110) وصحيح مسلم برقم (2655).
(7) رواه مسلم في صحيحه برقم (2664) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(8) رواه الإمام أحمد في مسنده (1/293).

وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن سَوَّار، حدثنا الليث (1) ، عن معاوية، عن أيوب بن زياد، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة، حدثني أبي قال: دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه، أوصني واجتهد لي. فقال: أجلسوني. فلما أجلسوه قال: يا بني، إنك لما تطعم طعم الإيمان، ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله، حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبتاه، وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك. يا بني، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم. ثم قال له: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة" يا بني، إن متَّ ولستَ على ذلك دخلت النار (2) .
ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى البَلْخِي، عن أبي داود الطيالسي، عن عبد الواحد بن سليم، عن عطاء بن أبي رباح، عن الوليد بن عبادة، عن أبيه، به. وقال: حسن صحيح غريب (3) .
وقال سفيان الثوري، عن منصور، عن رِبْعِي بن خِرَاش، عن رجل، عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر خيره وشره".
وكذا رواه الترمذي من حديث النضر بن شُمَيْل، عن شعبة، عن منصور، به (4) . ورواه من حديث أبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن (5) منصور، عن ربعي، عن علي، فذكره وقال: "هذا عندي أصح". وكذا رواه ابن ماجه من حديث شريك، عن منصور، عن ربعي، عن علي، به (6) .
وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره، عن أبي (7) هانئ الخولاني، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة" زاد ابن وهب: { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } [هود: 7]. ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب (8) .
وقوله: { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } . وهو إخبار عن نفوذ مشيئته في خلقه كما أخبر
__________
(1) في م: "ليث".
(2) المسند (5/317).
(3) سنن الترمذي برقم (3319).
(4) سنن الترمذي برقم (2145) ورواه أحمد في مسنده (1/133) عن وكيع والحاكم في مستدركه (1/33) عن أبي حذيفة، كلاهما عن سفيان الثوري به.
وقد رجح هذه الرواية الدارقطني في العلل (3/196) فقال: "حديث شريك وورقاء وجرير وعمرو بن أبي قيس عن منصور عن ربعي عن علي. وخالفهم سفيان الثوري وزائدة أبو الأحوص وسليمان التيمي فرووه: عن منصور عن ربعي عن رجل من بني راشد عن علي وهو الصواب".
(5) في م: "بن".
(6) سنن الترمذي برقم (2145) وسنن ابن ماجه برقم (81).
(7) في أ: "أم".
(8) صحيح مسلم برقم (2653) وسنن الترمذي برقم (2156).

بنفوذ قدره فيهم، فقال: { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ } أي: إنما نأمر بالشيء مرة واحدة، لا نحتاج إلى تأكيد بثانية، فيكون ذلك الذي نأمر به حاصلا موجودا كلمح البصر (1) ، لا يتأخر طرفة عين، وما أحسن ما قال بعض الشعراء:
إذَا ما أرَادَ الله أمْرًا فَإِنَّما ... يقُولُ لهُ: كُنْ ، قَوَلةً (2) فَيَكُونُ ...
وقوله: { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ } يعني: أمثالكم وسلفكم من الأمم السابقة المكذبين بالرسل، { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } أي: فهل من متعظ بما أخزى الله أولئك، وقدر لهم من العذاب، كما قال: { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ } [ سبأ : 54 ].
وقوله: { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } أي: مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام، { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ } أي: من أعمالهم { مُسْتَطَرٌ } أي: مجموع عليهم، ومسطر في صحائفهم، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا سعيد بن مسلم بن بانك: سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير، حدثني عوف بن الحارث -وهو ابن أخي عائشة لأمها-عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "يا عائشة، إياك ومُحَقِّرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا".
ورواه النسائي وابن ماجه، من طريق سعيد بن مسلم بن بانك المدني (3) . وثقه (4) أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، وغيرهم.
وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا من وجه آخر (5) ، ثم قال سعيد: فحدثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي: ويحك يا سعيد بن مسلم! لقد حدثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنبا فاستصغره، فأتاه آت في منامه فقال له: يا سليمان:
لا تَحْقِرنَّ مِنَ الذنوبِ صَغِيرا ... إن الصَّغير غدًا يعود (6) كبيرا ...
إن الصغير ولو تقادم عهده ... عند الإله مُسَطَّرٌ تسطيرا ...
فازجر هواك عن البطالة لا تكن ... صعب القياد وشمرن (7) تشميرا ...
إن المُحِبَّ إذا أحب إلههُ ... طار الفؤاد وأُلْهِم التفكيرا ...
فاسأل هدايتك الإله بِنِيَّة ... فَكَفَى بِرَبّكَ هاديا ونصيرا (8)
__________
(1) في م: "كلمح البصر".
(2) في أ: "في الوجود".
(3) المسند (6/151) وسنن ابن ماجه برقم (4243).
(4) في أ: "الذي وثقه".
(5) تاريخ دمشق (7/353 "المخطوط") من طريق أبي عامر العقدي والقعنبي، كلاهما عن سعيد بن مسلم به.
(6) في أ: "يكون".
(7) في م: "وشمر".
(8) تاريخ دمشق (7/353 "القسم المخطوط").

وقوله: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } أي: بعكس ما الأشقياء فيه من الضلال والسُّعر والسحب في النار على وجوههم، مع التوبيخ والتقريع والتهديد.
وقوله: { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } أي: في دار كرامة الله ورضوانه وفضله، وامتنانه وجوده وإحسانه، { عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } أي: عند الملك العظيم الخالق للأشياء كلها ومقدرها، وهو مقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون؛ وقد قال الإمام أحمد:
حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس، عن عبد الله بن عمرو (1) -يَبلُغُ به النبي صلى الله عليه وسلم-قال: "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا".
انفرد بإخراجه مسلم والنسائي، من حديث سفيان بن عيينة، بإسناده مثله (2) .
آخر تفسير سورة "اقتربت"، ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة
__________
(1) في م: "عبد الله بن أبي عمرو" وهو خطأ.
(2) صحيح مسلم برقم (1827) وسنن النسائي (8/221).

تفسير سورة الرحمن
وهي مكية.
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، عن عاصم، عن زِرٍّ، أن رجلا قال لابن مسعود: كيف تعرف هذا الحرف: "ماء غير ياسن أو آسن"؟ فقال: كل القرآن قد قرأت. قال: إني لأقرأ المفصل؛ أجمع في ركعة واحدة. فقال: أهذًّا كهذِّ الشعر، لا أبا لك؟ قد علمت قرائن النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يقرن قرينتين قرينتين من أول المفصل، وكان أول مفصل ابن مسعود: { الرحمن } (1) .
وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا عبد الرحمن بن واقد أبو مسلم، حدثنا الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة "الرحمن" من أولها إلى آخرها، فسكتوا فقال: "لقد قرأتها على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلما أتيت على قوله: { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ، قالوا: لا بشيء من نعمك -ربنا-نكذب، فلك الحمد" (2) .
ثم قال: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد. ثم حكي عن الإمام أحمد أنه كان لا يعرفه، ينكر (3) رواية أهل الشام عن زهير بن محمد هذا.
ورواه الحافظ أبو بكر البزار، عن عمرو بن مالك، عن الوليد بن مسلم. وعن عبد الله بن أحمد بن شبوية، عن هشام بن عمار، كلاهما عن الوليد بن مسلم، به. ثم قال: لا نعرفه يروى إلا من هذا الوجه (4) .
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا محمد بن عباد بن موسى، وعمرو بن مالك البصري قالا حدثنا يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة "الرحمن" -أو: قُرِئَت عنده-فقال: "ما لي أسمع الجن أحسن جوابا لربها منكم؟" قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "ما أتيت على قول الله: { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلا قالت الجن: لا بشيء من نعمة (5) ربنا نكذب".
ورواه الحافظ البزار عن عمرو بن مالك، به (6) . ثم قال: لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.
__________
(1) المسند (1/412).
(2) سنن الترمذي برقم (3291).
(3) في م، أ: "يستنكر".
(4) ورواه الحاكم في المستدرك (2/473) من طريق هشام بن عمار وعبد الرحمن بن واقد، كلاهما عن الوليد بن مسلم به.
(5) في م، أ: "نعم".
(6) مسند البزار (2269) "كشف الأستار" وشيخه عمرو بن مالك الراسبي ضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات.

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)

بسم الله الرحمن الرحيم
{ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) }
يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه: أنه أنزل على عباده القرآن ويسر حفظه وفهمه على من رحمه، فقال: { الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الإنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } قال الحسن: يعني: النطق (1) . وقال الضحاك، وقتادة، وغيرهما: يعني الخير والشر. وقول الحسن ها هنا أحسن وأقوى؛ لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن، وهو أداء تلاوته، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين، على اختلاف مخارجها وأنواعها.
وقوله: { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } أي: يجريان متعاقبين بحساب مُقَنَّن لا يختلف ولا يضطرب، { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ]، وقال تعالى: { فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ الأنعام : 96 ].
وعن عكرمة أنه قال: لو جعل الله نور جميع أبصار الإنس والجن والدواب والطير في عيني عبد، ثم كشف حجابا واحدا من سبعين حجابا دون الشمس، لما استطاع أن ينظر إليها. ونور الشمس جزء من سبعين جزءًا من نور الكرسي، ونور الكرسي جزء من سبعين جزءًا من نور العرش، ونور العرش جزء من سبعين جزءًا من نور الستر. فانظر ماذا أعطى الله عبده من النور في عينيه وقت النظر إلى وجه ربه الكريم عيانا. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } قال ابن جرير: اختلف المفسرون في معنى قوله: { والنجم } بعد إجماعهم على أن الشجر ما قام على ساق، فروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: النجم ما انبسط على وجه الأرض -يعني من النبات. وكذا قال سعيد بن جبير، والسدي، وسفيان الثوري. وقد اختاره ابن جرير رحمه الله.
وقال مجاهد: النجم الذي في السماء. وكذا قال الحسن وقتادة. وهذا القول هو الأظهر والله أعلم؛ لقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ } الآية [ الحج : 18 ].
__________
(1) في أ: "المنطق".

وقوله: { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } يعني: العدل، كما قال: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [ الحديد : 25 ]، وهكذا قال هاهنا: { أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ } أي: خلق السموات والأرض بالحق والعدل، لتكون (1) الأشياء كلها بالحق والعدل؛ ولهذا قال: { وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } أي: لا تبخسوا الوزن، بل زِنوا بالحق والقسط، كما قال [تعالى] (2) { وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } [ الشعراء : 182 ].
وقوله: { وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ } أي: كما رفع السماء وضع الأرض ومهدها، وأرساها بالجبال الراسيات الشامخات، لتستقر لما على وجهها من الأنام، وهم: الخلائق المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم وألسنتهم، في سائر أقطارها وأرجائها. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: الأنام: الخلق.
{ فِيهَا فَاكِهَةٌ } أي: مختلفة الألوان والطعوم والروائح، { وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ } أفرده بالذكر لشرفه ونفعه، رطبا ويابسا. والأكمام -قال ابن جُرَيْج عن ابن عباس: هي أوعية الطلع. وهكذا قال غير واحد من المفسرين، وهو الذي يطلع فيه القنو ثم ينشق عن العنقود، فيكون بسرا ثم رطبا، ثم ينضج ويتناهى يَنْعُه واستواؤه.
قال ابن أبي حاتم (3) ذُكِرَ عن عمرو بن علي الصيرفي: حدثنا أبو قتيبة، حدثنا يونس بن الحارث الطائفي، عن الشعبي قال: كتب قيصر إلى عمر بن الخطاب: أخبرك أن رسلي أتتني من قبلك، فزعمت أن قبلكم شجرة ليست بخليقة لشيء من الخير، تخرج مثل آذان الحمير، ثم تشقق مثل اللؤلؤ، ثم تخضر فتكون مثل الزمرد (4) الأخضر، ثم تحمر فتكون كالياقوت الأحمر، ثم تَيْنَع وتنضج فتكون كأطيب فالوذج أُكِل، ثم تيبس فتكون عصمة للمقيم وزادًا للمسافر، فإن تكن رسلي صدقتني فلا أرى هذه الشجرة إلا من شجر الجنة. فكتب إليه عمر بن الخطاب (5) من عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم، إن رسلك قد صدقوك (6) ، هذه الشجرة عندنا، وهي الشجرة التي أنبتها الله على مريم حين نفست بعيسى ابنها، فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلها من دون الله، فإن { مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [ آل عمران : 59 ، 60 ] (7) .
وقيل: الأكمام رفاتها، وهو: الليف الذي على عنق النخلة. وهو قول الحسن وقتادة.
{ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ } يعني: التبن.
__________
(1) في م: "ليكون".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "ابن جرير".
(4) في م: "كالرمد".
(5) في م: "عمر بن عبد الله".
(6) في م، أ: "صدقتك".
(7) في م: "تكونن".

وقال العَوْفي، عن ابن عباس: { الْعَصْفِ } ورق الزرع الأخضر الذي قطع رؤوسه، فهو يسمى العصف إذا يبس. وكذا قال قتادة، والضحاك، وأبو مالك: عصفه: تبنه.
وقال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد: { والريحان } يعني: الورق.
وقال الحسن: هو ريحانكم هذا.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { والريحان } خضر (1) الزرع.
ومعنى هذا -والله أعلم-أن الحب كالقمح والشعير ونحوهما له في حال نباته عصف، وهو: ما على السنبلة، وريحان، وهو: الورق الملتف على ساقها.
وقيل: العصف: الورق أول ما ينبت الزرع بقلا. والريحان: الورق، يعني: إذا أدجن وانعقد فيه الحب. كما قال زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته المشهورة.
وَقُولا له: من يُنْبِتُ الحَبَّ في الثَّرى ... فَيُصْبِحَ منه البقلُ يَهْتَزُّ رابيا? ...
وَيُخْرجَ منْه حَبَّه في رُؤوسه? ... فَفي ذاك آياتٌ لِمَنْ كَانَ واعيا (2)
وقوله: { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي: فبأي الآلاء (3) -يا معشر الثقلين، من الإنس والجن-تكذبان؟ قاله مجاهد، وغير واحد. ويدل عليه السياق بعده، أي: النِّعَمُ ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها، لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها (4) ، فنحن نقول كما قالت الجن المؤمنون: "اللهم، ولا بشيء من آلائك ربنا نكذِّب، فلك الحمد". وكان ابن عباس يقول: "لا بأيِّها يا رب". أي: لا نكذب بشيء منها.
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عُرْوَة، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ، وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر، والمشركون يستمعون (5) { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } (6) .
__________
(1) في أ: "خضرة".
(2) انظر الأبيات في السيرة النبوية لابن هشام (1/228).
(3) في م: "آلاء".
(4) في م: "جحدها".
(5) في م: "يسمعون".
(6) المسند (6/349).

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)

{ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) }

رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)

{ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) } .
يذكر تعالى خلقه الإنسان من صلصال كالفخار، وخلقه (1) الجان من مارج من نار، وهو: طرف لهبها. قاله الضحاك، عن ابن عباس. وبه يقول عكرمة، ومجاهد، والحسن، وابن زيد.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس: { مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ } من لهب النار، من أحسنها.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ } من خالص النار. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، والضحاك وغيرهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم".
ورواه مسلم، عن محمد بن رافع، وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق، به (2) .
وقوله: { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره.
{ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } يعني: مشرقي الصيف والشتاء، ومغربي الصيف والشتاء. وقال في الآية الأخرى: { فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ } [ المعارج : 40 ]، وذلك باختلاف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم، وبروزها منه إلى الناس. وقال في الآية الأخرى: { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } [ المزمل:9 ]. وهذا المراد منه جنس المشارق والمغارب، ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب، مصالح للخلق من الجن والإنس قال : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؟ .
وقوله: { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } قال ابن عباس: أي أرسلهما.
وقوله: { يلتقيان } قال ابن زيد: أي: منعهما أن يلتقيا، بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما.
والمراد بقوله: { البحرين } الملح والحلو، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس. وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة "الفرقان" عند قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا } [ الفرقان:53 ]. وقد اختار ابن جرير هاهنا أن المراد بالبحرين: بحر السماء وبحر الأرض، وهو مروي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وعطية وابن أبْزَى.
قال ابن جرير: لأن اللؤلؤ يتولد من ماء السماء، وأصداف (3) بحر الأرض (4) . وهذا وإن كان هكذا ليس المراد [بذلك] (5) ما ذهب إليه، فإنه لا يساعده اللفظ؛ فإنه تعالى قد قال: { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ } أي: وجعل بينهما برزخا، وهو: الحاجز من الأرض، لئلا يبغي هذا على هذا، وهذا على
__________
(1) في أ: "خلق".
(2) المسند (6/168) وصحيح مسلم برقم (2996).
(3) في م: "واختلاف".
(4) تفسير الطبري (27/75).
(5) زيادة من م، أ.

هذا، فيفسد كل واحد منهما الآخر، ويزيله عن صفته التي هي مقصودة منه. وما بين السماء والأرض لا يسمى برزخا وحجرا محجورا.
وقوله: { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } أي: من مجموعهما، فإذا وجد ذلك لأحدهما (1) كفى، كما قال تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } [ الأنعام:130 ] والرسل إنما كانوا في الإنس خاصة دون الجن، وقد صح هذا الإطلاق. واللؤلؤ معروف، وأما المرجان فقيل: هو صغار اللؤلؤ. قاله مجاهد، وقتادة، وأبو رزين، والضحاك. وروي عن علي.
وقيل: كباره وجيده. حكاه ابن جرير عن بعض السلف. ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن (2) أنس، وحكاه عن السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس. وروي مثله عن علي، ومجاهد أيضا، ومرة الهمداني.
وقيل: هو نوع من الجواهر أحمر اللون. قال السدي، عن أبي مالك، عن مسروق، عن عبد الله قال: المرجان: الخرز الأحمر. قال السدي وهو البُسَّذ (3) بالفارسية.
وأما قوله: { وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } [ فاطر:12 ]، فاللحم من كل من الأجاج والعذب، والحلية، إنما هي من الملح دون العذب.
قال ابن عباس: ما سقطت قط قطرة من السماء في البحر، فوقعت في صدفة إلا صار منها لؤلؤة. وكذا قال عكرمة، وزاد: فإذا لم تقع في صدفة نبتت بها عنبرة. وروي من غير وجه عن ابن عباس نحوه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيّ، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إذا أمطرت السماء، فتحت الأصداف في البحر أفواهها، فما وقع فيها -يعني: من قطر-فهو اللؤلؤ.
إسناده (4) صحيح، ولما كان اتخاذ هذه الحلية نعمة على أهل الأرض، امتن بها عليهم فقال (5) : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
وقوله: { وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ } يعني: السفن التي تجري في البحر، قال مجاهد: ما رفع قلعه من السفن فهي منشأة، وما لم يرفع قلعه فليس بمنشأة، وقال قتادة: { المنشآت } يعني المخلوقات. وقال غيره: المنشآت -بكسر الشين-يعني: البادئات.
{ كالأعلام } أي: كالجبال في كبرها، وما فيها من المتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم، مما فيه من صلاح للناس في (6) جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع؛ ولهذا قال [تعالى] (7) { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
__________
(1) في أ: "أحدهما".
(2) في أ: "عن".
(3) في م، أ: "الكسد".
(4) في م: "إسناد".
(5) في م: "وقال".
(6) في م: "من".
(7) زيادة من أ.

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا العرار بن سويد، عن عميرة بن سعد قال: كنت مع علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، على شاطئ الفرات إذ أقبلت سفينة مرفوع شراعها، فبسط على يديه ثم قال: يقول الله عز وجل: { وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ } . والذي أنشأها تجري في [بحر من] (1) بحوره ما قتلتُ عثمان، ولا مالأت على قتله.
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) }
يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون، وكذلك أهل السموات، إلا من شاء الله، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم؛ فإن الرب -تعالى وتقدس-لا يموت، بل هو الحي الذي لا يموت أبدا.
قال قتادة: أنبأ بما خلق، ثم أنبأ أن ذلك كله كان (2) .
وفي الدعاء المأثور: يا حي، يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك نستغيث (3) ، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك.
وقال الشعبي: إذا قرأت { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } ، فلا تسكت حتى تقرأ: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } .
وهذه الآية كقوله تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } [ القصص:88 ]، وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنه { ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } أي: هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يطاع فلا يخالف، كقوله: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الكهف:28 ]، وكقوله إخبارا عن المتصدقين: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ } [ الإنسان:9 ]
قال ابن عباس: { ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } ذو العظمة والكبرياء.
ولما أخبر عن تساوي أهل الأرض كلهم في الوفاة، وأنهم سيصيرون إلى الدار الآخرة، فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل قال: { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
وقوله: { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } وهذا إخبار عن غناه عما سواه وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات، وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم، وأنه كل يوم هو في شأن.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في م: "فان".
(3) في م: "استغيث".

قال الأعمش، عن مجاهد، عن عبيد بن عمير: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } ، قال: من شأنه أن يجيب داعيا، أو يعطي سائلا أو يفك عانيا، أو يشفي سقيما.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كل يوم هو يجيب داعيا، ويكشف كربا، ويجيب مضطرا ويغفر ذنبا.
وقال قتادة: لا يستغني عنه أهل السموات والأرض، يحيي حيا، ويميت ميتا، ويربي صغيرا، ويفك أسيرا، وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم، ومنتهى شكواهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان الحِمْصيّ، حدثنا حرير بن عثمان، عن سُوَيْد بن جبلة -هو الفزاري-قال: إن ربكم كل يوم هو في شأن، فيعتق رقابا، ويعطي رغابا، ويقحم عقابا.
وقال ابن جرير: حدثني عبد الله بن محمد بن عمرو الغُزّي، حدثني إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي، حدثني عمرو بن بكر السَّكْسكي (1) ، حدثنا الحارث بن عبدة بن رباح الغساني، عن أبيه، عن منيب بن عبد الله بن منيب الأزدي، عن أبيه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } ، فقلنا: يا رسول الله، وما ذاك الشأن؟ قال: "أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين (2) " (3) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، وسليمان بن أحمد الواسطي قالا حدثنا الوزير (4) بن صَبِيح الثقفي أبو روح الدمشقي -والسياق لهشام-قال: سمعت يونس بن ميسرة بن حَلْبَس، يحدث عن أم الدرداء عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } قال: "من شأنه أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين (5) " (6) .
وقد رواه ابن عساكر من طرق متعددة، عن هشام بن عمار، به. ثم ساقه من حديث أبي همام الوليد بن شجاع، عن الوزير بن صَبِيح قال: ودلنا عليه الوليد بن مسلم، عن مُطرِّف، عن الشعبي، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. قال: والصحيح الأول. يعني إسناده الأول (7) .
قلت: وقد روي موقوفا، كما (8) علقه البخاري بصيغة الجزم، فجعله من كلام أبي الدرداء (9) ، فالله أعلم.
__________
(1) في م: "الشكسي".
(2) في أ: "قوما".
(3) تفسير الطبري (27/79) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3401) "مجمع البحرين" والبزار في مسنده برقم (2266) "كشف الأستار" من طريق عمرو بن بكر السكسكي -وهو متروك- عن الحارث بن عبدة به.
(4) في م: "أبو رزين".
(5) في أ: قوما".
(6) رواه ابن ماجه برقم (202) من طريق هشام بن عمار به.
قال البوصيري في الزوائد (1/88): "هذا إسناد حسن لتقاصر الوزير عن درجة الحفظ والإتقان".
(7) تاريخ دمشق (17/771) "القسم المخطوط").
(8) في م، أ: "وقد".
(9) صحيح البخاري (8/620) "فتح"، ورواه البيهقي في شعب الإيمان موصولا برقم (1102) من طريق إسماعيل بن عبد الله عن أم الدرداء عن أبي الدرداء موقوفا.

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)

وقال البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن الحارث، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } ، قال: "يغفر ذنبا، ويكشف كربا" (1) .
ثم قال ابن جرير: وحدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي حمزة الثُّمَالي، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، أن الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء، دفّتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، عرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة، يخلق في كل نظرة، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء (2) .
{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) } .
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ } ، قال: وعيد من الله للعباد، وليس بالله شغل وهو فارغ. وكذا قال الضحاك: هذا وعيد. وقال قتادة: قد دنا من الله فراغ لخلقه. وقال ابن جريج: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } أي: سنقضي لكم.
وقال البخاري: سنحاسبكم (3) ، لا يشغله شيء عن شيء، وهو معروف في كلام العرب، يقال (4) لأتفرغن لك" وما به شغل، يقول: "لآخذنك على غِرَّتك (5) ".
وقوله: { أَيُّهَا الثَّقَلانِ } الثقلان: الإنس والجن، كما جاء في الصحيح: "يسمعها كل شيء إلا الثقلين" وفي رواية: "إلا الجن والإنس". وفي حديث الصور: "الثقلان الإنس والجن" { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
ثم قال: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ } أي: لا تستطيعون هربا من أمر الله وقدره، بل هو محيط بكم، لا تقدرون على التخلص من حكمه، ولا النفوذ عن حكمه فيكم، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام المحشر، الملائكة محدقة بالخلائق، سبع صفوف من كل جانب، فلا يقدر أحد على الذهاب { إِلا بِسُلْطَانٍ } أي: إلا بأمر الله، { يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ . كَلا لا وَزَرَ . إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } [ القيامة :10-12 ]. وقال تعالى: { وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ يونس : 27 ]
__________
(1) مسند البزار برقم (2268) "كشف الأستار". قال ابن حجر: "البيلماني ضعيف".
(2) تفسير الطبري (27/79).
(3) في م: "سيحاسبكم".
(4) في أ: "يقول".
(5) في م: "غرة".

؛ ولهذا قال : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ } .
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الشواظ: هو لهب النار.
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: الشواظ: الدخان.
وقال مجاهد: هو: اللهيب (1) الأخضر المنقطع. وقال أبو صالح الشواظ هو اللهيب (2) الذي فوق النار ودون الدخان. وقال الضحاك: { شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ } سيل من نار.
وقوله: { وَنُحَاسٌ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَنُحَاسٌ } دخان النار. وروي مثله عن أبي صالح، وسعيد بن جبير، وأبي سنان.
قال ابن جرير: والعرب تسمي الدخان نحاسا -بضم النون وكسرها-والقراء (3) مجمعة على الضم، ومن النحاس بمعنى الدخان قول نابغة جعدة (4) يُضِيءُ كَضَوءِ سراج السَّلِيـ ... ـط لم يَجْعَل اللهُ فيه نُحَاسا
يعني: دخانا، هكذا قال (5) .
وقد روى الطبراني من طريق جُويَبْر، عن الضحاك؛ أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الشواظ فقال: هو اللهب الذي لا دخان معه. فسأله شاهدا على ذلك من اللغة، فأنشده قول أمية بن أبي الصلت في حسان:
ألا من مُبلغٌ حَسًّان عَنِّي ... مُغَلْغلةً تدبّ (6) إلى عُكَاظِ ...
أليس أبُوكَ فِينَا كان قَينًا ... لَدَى (7) القينَات فَسْلا في الحَفَاظ ...
يَمَانِيًّا يظل يَشدُ (8) كِيرًا ... وينفخ دائبًا لَهَبَ الشُّواظ ...
قال: صدقت، فما النحاس؟ قال: هو الدخان الذي لا لهب له. قال: فهل تعرفه العرب؟ قال: نعم، أما سمعت نابغة بني ذبيان يقول (9)
يُضِيءُ كَضَوء سَراج السَّليط ... لَمْ يَجْعَل اللهُ فيه نُحَاسا (10)
وقال مجاهد: النحاس: الصُّفّر، يذاب (11) فيصب على رؤوسهم. وكذا قال قتادة. وقال
__________
(1) في م، أ: "اللهب".
(2) في م، أ: "اللهب".
(3) في م: "القراءة".
(4) في م، أ "نابغة بني جعدة" وفي تفسير الطبري: "نابغة بني ذبيان" ولم أجده في ديوانه، والبيت في مجاز القرآن لأبي عبيدة منسوبا للنابغة الجهدي 2/244، 245، والبيت أيضا في ديوان الجعدي واللسان، مادة "نحس" مستفادا من هامش ط. الشعب.
(5) تفسير الطبري (27/81).
(6) في م: "يدب".
(7) في م: "إلى".
(8) في م: "يشب".
(9) كذا، وقد سبق تخريج البيت ونسبته إلى الجعدي.
(10) المعجم الكبير (10/305) وفيه جويبر وهو متروك لم يلق ابن عباس.
(11) في م: "المذاب".

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)

الضحاك: { ونحاس } سيل من نحاس.
والمعنى على كل قول: لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا (1) ؛ ولهذا قال: { فَلا تَنْتَصِرَانِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }
{ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) }
__________
(1) في م: "لرجعوا".

يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)

{ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) } .
يقول [تعالى] (1) : { فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ } يوم القيامة، كما دلت عليه هذه الآية مع ما شاكلها من الآيات الواردة في معناها، كقوله: { وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } [ الحاقة: 16 ]، وقوله: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا } [ الفرقان:25 ]، وقوله: { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ . وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الانشقاق :1، 2 ].
وقوله: { فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ } أي: تذوب كما يذوب الدّرْدي والفضة في السبك، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء، وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة العظيم. وقد قال الإمام أحمد:
حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الصهباء، حدثنا نافع أبو غالب الباهلي، حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يبعث الناس يوم القيامة والسماء تَطِش عليهم" (2) .
قال الجوهري: الطش: المطر الضعيف.
وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: { وَرْدَةً كَالدِّهَانِ } ، قال: هو الأديم الأحمر. وقال أبو كُدَيْنة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: { فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ } : كالفرس الورد. وقال العوفي، عن ابن عباس: تغير لونها . وقال أبو صالح: كالبِرْذَون الورد، ثم كانت بعد كالدهان.
وحكى البَغَوي وغيره: أن الفرس الورد تكون في الربيع صفراء، وفي الشتاء حمراء، فإذا اشتد البرد اغْبَرَّ لونها.
وقال الحسن البصري: تكون ألوانا. وقال السدي. تكون كلون البغلة الوردة، وتكون كالمهل كدردي الزيت. وقال مجاهد: { كَالدِّهَان } : كألوان الدهان. وقال عطاء الخراساني: كلون دُهْن الوَرْد في الصفرة. وقال قتادة: هي اليوم خضراء، ويومئذ لونها إلى الحمرة يوم ذي ألوان. وقال أبو الجوزاء:
__________
(1) زيادة من م.
(2) المسند (3/226).

في صفاء الدهن. وقال [أبو صالح] (1) بن جريج: تصير السماء كالدهن الذائب، وذلك حين يُصيبها حر جهنم.
وقوله: { فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ } ، وهذه كقوله: { هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ . وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات :35، 36 ]، فهذا في حال، وثَمّ حال يسأل الخلائق فيها عن جميع أعمالهم، قال الله تعالى: { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الحجر :92، 93 ]؛ ولهذه قال قتادة: { فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ } ، قال: قد كانت مسألة، ثم ختم على أفواه القوم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: لا يسألهم: هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول: لم عملتم كذا وكذا؟ فهو قول ثان.
وقال مجاهد في هذه الآية: لا يسأل الملائكة عن المجرم، يُعْرَفُون بسيماهم.
وهذا قول (2) ثالث. وكأن هذا بعد ما يؤمر بهم إلى النار، فذلك الوقت لا يسألون عن ذنوبهم، بل يقادون إليها (3) ويلقون فيها، كما قال تعالى: { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } أي: بعلامات تظهر عليهم.
وقال الحسن وقتادة: يعرفونهم باسوداد الوجوه وزرقة العيون.
قلت: وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء.
وقوله: { فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ } أي: تجمع الزبانية ناصيته مع قدميه، ويلقونه في النار كذلك.
وقال الأعمش عن ابن عباس: يؤخذ بناصيته وقدمه (4) ، فيكسر كما يكسر الحطب في التنور.
وقال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدميه (5) في سلسلة من وراء ظهره.
وقال السدي: يجمع بين ناصية الكافر وقدميه، فتربط ناصيته بقدمه، ويُفتل ظهره.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثنا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام -يعني جده-أخبرني عبد الرحمن، حدثني رجل من كندة قال: أتيت عائشة فدخلت عليها، وبيني وبينها حجاب، فقلت: حدثك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأتي عليه ساعة لا يملك لأحد فيها شفاعة؟ قالت: نعم، لقد سألته عن هذا وأنا وهو في شِعَار واحد، قال: "نعم حين يوضع الصراط، ولا أملك لأحد فيها شفاعة، حتى أعلم أين يسلك بي؟ ويوم تبيض وجوه وتسود وجوه، حتى أنظر ماذا يفعل بي -أو قال: يوحى-وعند الجسر حين يستحد ويستحر" فقالت: وما يستحد وما يستحر؟ قال: "يستحد حتى يكون مثل شفرة السيف، ويستحر حتى يكون
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في م: "جواب".
(3) في م: "إلى النار".
(4) في أ: "قدميه".
(5) في أ: "قدمه".

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)

مثل الجمرة، فأما المؤمن فيجيزه لا يضره، وأما المنافق فيتعلق حتى إذا بلغ أوسطه خر من قدمه فيهوي بيده إلى قدميه، فتضربه الزبانية بخطاف في ناصيته وقدمه، فتقذفه في جهنم، فيهوي (1) فيها مقدار خمسين عاما". قلت: ما ثقل الرجل؟ قالت: ثقل عشر خلفات سمان، فيومئذ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام.
هذا حديث غريب [جدا] (2) ، وفيه ألفاظ منكر رفعها، وفي الإسناد من لم يُسَمّ، ومثله لا يحتج به (3) ، والله أعلم.
وقوله: { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ } أي: هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها ها هي حاضرة تشاهدونها عيانًا، يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتصغيرا وتحقيرا.
وقوله: { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } أي: تارة يعذبون في الجحيم، وتارة يسقون من الحميم، وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب، يقطع الأمعاء والأحشاء، وهذه كقوله تعالى: { إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ . فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } [ غافر : 71، 72 ].
وقوله: { آن } أي: حار وقد بلغ الغاية في الحرارة، لا يستطاع من شدة ذلك.
قال ابن عباس في قوله: { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } قد انتهى غلْيه، واشتد حرّه. وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، والحسن، والثوري، والسدي.
وقال قتادة: قد أنَى طبخه منذ خلق الله السموات والأرض. وقال محمد بن كعب القرظي: يؤخذ العبد فيحرّكُ بناصيته في ذلك الحميم، حتى يذوب (4) اللحم ويبقى العظم والعينان في الرأس. وهي كالتي يقول الله تعالى: { فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } . والحميم الآن: يعني الحار. وعن القرظي رواية أخرى: { حَمِيمٍ آنٍ } أي: حاضر. وهو قول ابن زيد أيضا، والحاضر، لا ينافي ما روي عن القرظي أولا أنه الحار، كقوله تعالى: { تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } [ الغاشية : 5 ] أي حارة شديدة الحر لا تستطاع. وكقوله: { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } [ الأحزاب:53 ] يعني: استواءه ونضجه. فقوله: { حَمِيمٍ آنٍ } أي: حميم حار جدا. ولما كان معاقبة العصاة (5) المجرمين وتنعيم المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه، وكان إنذاره لهم عذابه وبأسه مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك، قال ممتنا بذلك على بريته: { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) } .
__________
(1) في م: "فهوى".
(2) زيادة من م.
(3) رواه عبد الرزاق في المصنف كما في الدر المنثور (7/704) عن رجل من كنده بنحوه.
(4) في م: "حتى تذوب".
(5) في أ: "العاصين".

قال ابن شَوْذب، وعطاء الخراساني: نزلت هذه الآية: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } في أبي بكر الصديق.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا بَقيَّة، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن عطية بن قيس في قوله: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } : نزلت في الذي قال: أحرقوني بالنار، لعلي أضل الله، قال: تاب يوما وليلة بعد أن تكلم بهذا، فقبل الله منه وأدخله الجنة.
والصحيح أن هذه الآية عامة كما قاله ابن عباس وغيره، يقول تعالى: ولمن خاف مقامه بين يدي الله، عز وجل، يوم القيامة، { وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } [ النازعات:40 ]، ولم يطغ، ولا آثر الدنيا، وعلم أن الآخرة خير وأبقى، فأدى فرائض الله، واجتنب محارمه، فله يوم القيامة عند ربه جنتان، كما قال البخاري، رحمه الله.
حدثنا عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العَمّي، حدثنا أبو عِمْران الجَوْني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداءُ الكبرياء على وجهه في جنة عدن".
وأخرجه بقية الجماعة إلا أبا داود، من حديث عبد العزيز، به (1) .
وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه -قال حماد: ولا أعلمه إلا قد رفعه-في قوله تعالى: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ، وفي قوله: { وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [قال ]: (2) جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من ورِق لأصحاب اليمين.
وقال ابن جرير: حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري (3) ، حدثنا ابن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، عن محمد بن أبي حَرْمَلَة، عن عطاء بن يَسَار، أخبرني أبو الدرداء؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوما هذه الآية: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ، فقلت: وإن زنى أو سرق؟ فقال: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ، فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ فقال: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } . فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال: "وإن رغم أنف أبي الدرداء".
ورواه النسائي من حديث محمد بن أبي حَرْمَلَة، به (4) ورواه النسائي أيضا عن مؤمِّل (5) بن هشام، عن إسماعيل، عن الجُرَيري، عن موسى، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبي الدرداء، به (6) . وقد روي موقوفًا على أبي الدرداء. وروي عنه أنه قال: إن من خاف مقام ربه لم يزْنِ
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4878) وصحيح مسلم برقم (180) وسنن الترمذي برقم (2528) والنسائي في السنن الكبرى برقم (7765) وسنن ابن ماجه برقم (186).
(2) زيادة من أ.
(3) في م: "المقري".
(4) تفسير الطبري (5/490) "ط. المعارف"، والنسائي في السنن الكبرى برقم (11560).
(5) في أ: "موسى".
(6) النسائي في السنن الكبرى برقم (11561).

ولم يسرق.
وهذه الآية عامة في الإنس والجن، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا؛ ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
ثم نعت هاتين الجنتين فقال: { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } أي: أغصان نَضِرَة حسنة، تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } . هكذا (1) قال عطاء الخراساني وجماعة: إن الأفنان أغصان الشجَر يمس بعضُها بعضا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا مسلم بن قتيبة، حدثنا عبد الله بن النعمان، سمعت عكرمة يقول: { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } ، يقول: ظِل الأغصان على الحيطان، ألم تسمع قول الشاعر حيث يقول:
ما هاجَ شَوقَكَ من هَديل حَمَامَةٍ ... تَدْعُو على فَنَن الغُصُون حَمَاما ...
تَدْعُو أبا فَرْخَين صادف طاويا ... ذا مخلبين من الصقور قَطاما (2)
وحكى البغوي، عن مجاهد، وعكرمة، والضحاك، والكلبي: أنه الغصن المستقيم (3) [طوالا] (4) .
قال: وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبد السلام بن حرب، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } : ذواتا ألوان.
قال: و [قد] (5) روي عن سعيد بن جبير، والحسن، والسدي، وخُصَيف، والنضر بن عربي (6) ، وأبي سِنَان مثل ذلك. ومعنى هذا القول أن فيهما فنونا من الملاذ، واختاره ابن جرير.
وقال عطاء: كل غصن يجمع فنونا من الفاكهة، وقال الربيع بن أنس: { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } : واسعتا الفناء.
وكل هذه الأقوال صحيحة، ولا منافاة بينها، والله أعلم. وقال قتادة: { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } ينبئ بسعتها وفضلها (7) ومزيتها على ما سواها.
وقال محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن أسماء (8) قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وذكر سدرة المنتهى-فقال: "يسير في ظل الفَنَن منها الراكب مائة سنة-أو قال: يستظل في ظل الفَنَن منها مائة راكب-فيها فراش الذهب، كأن ثمرها القِلال".
__________
(1) في أ: "وكذا".
(2) رواه عبد بن حميد وابن المنذر وأبو بكر بن حيان في الفنون وابن الأنباري في الوقف والابتداء كما في الدر المنثور (7/709).
(3) في م: "الغصن المنيف طولا".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من م.
(6) في أ: "عدي".
(7) في م: "بفضلها وسعتها".
(8) في م: "أسماء بنت يزيد"، وفي ا: "أسماء بنت أبي بكر".

مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)

رواه الترمذي من حديث يونس بن (1) بكير، به (2) .
{ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } أي: تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان فتثمر من جميع الألوان، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال الحسن البصري: إحداهما يقال لها: "تسنيم"، والأخرى "السلسبيل".
وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين.
ولهذا قال بعد هذا: { فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } أي: من جميع أنواع الثمار مما يعلمون وخير مما يعلمون، ومما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
قال إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس: ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظلة (3) .
وقال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء، يعني: أن بين ذلك بَونًا عظيما، وفرقًا بينا في التفاضل.
{ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) } .
يقول تعالى: { مُتَّكِئِينَ } يعني: أهل الجنة. والمراد بالاتكاء هاهنا: الاضطجاع. ويقال: الجلوس على صفة التّربّع. { عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } وهو: ما غلظ من الديباج. قاله عكرمة، والضحاك وقتادة.
وقال أبو عِمْران الجَوْني: هو الديباج المغَرّي (4) بالذهب. فنبه على شرف الظهارة بشرف البطانة. وهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى.
قال أبو إسحاق، عن هُبَيْرة بن يَرِيم (5) ، عن عبد الله بن مسعود قال: هذه البطائن فكيف لو رأيتم الظواهر؟
وقال مالك بن دينار: بطائنها من إستبرق، وظواهرها من نور.
__________
(1) في م، أ: "عن".
(2) سنن الترمذي برقم (2541) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
(3) في م: "الحنظل".
(4) في م، أ: "المعمول".
(5) في أ: "سرية".

وقال سفيان الثوري -أو شريك-: بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد.
وقال القاسم بن محمد (1) : بطائنها من إستبرق، وظواهرها من الرحمة.
وقال ابن شَوْذَب، عن أبي عبد الله الشامي: ذكر الله البطائن ولم يذكر الظواهر، وعلى الظواهر المحابس، ولا يعلم ما تحت المحابس إلا الله. ذكر ذلك كله الإمام ابن أبي حاتم.
{ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } أي: ثمرها قريب إليهم، متى شاءوا تناولوه على أي صفة كانوا، كما قال: { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } [ الحاقة:23 ]، وقال: { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا } [ الإنسان:14 ] أي: لا تمنع ممن تناولها، بل تنحط إليه من أغصانها، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
ولما ذكر الفرش وعظمتها قال بعد ذلك: { فِيهِنَّ } أي: في الفرش { قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي غضيضات عن غير أزواجهن، فلا يرين شيئا أحسن في الجنة من أزواجهن. قاله ابن عباس، وقتادة، وعطاء الخراساني، وابن زيد.
وقد ورد أن الواحدة منهن تقول لبعلها: والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك، ولا في الجنة شيئ أحب إلي منك، فالحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك.
{ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ } أي: بل هن أبكار عرب أتراب، لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الإنس والجن. وهذه أيضا من الأدلة على دخول مؤمني الجن الجنة.
قال أرطاة بن المنذر: سئل ضَمْرَةُ بن حبيب: هل يدخل الجن الجنة؟ قال: نعم، وينكحون، للجن جنيات، وللإنس إنسيات. وذلك قوله: { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
ثم قال ينعتهن للخطاب: { كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } ، قال مجاهد، والحسن، [والسدي] (2) ، وابن زيد، وغيرهم: في صفاء الياقوت وبياض المرجان، فجعلوا المرجان هاهنا اللؤلؤ.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا عُبِيدة بن حُمَيْد، عن عطاء بن السائب، عن عمرو بن ميمون الأودي (3) ، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المرأة من نساء أهل الجنة ليُرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من الحرير (4) ، حتى يرى مخها، وذلك أن الله تعالى يقول: { كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } ، فأما الياقوت فإنه حَجَرٌ لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه".
وهكذا رواه الترمذي من حديث عُبَيْدَة بن حميد وأبي الأحوص، عن عطاء بن السائب، به (5) . ورواه موقوفا، ثم قال: وهو أصح (6) .
__________
(1) في م: "مخيمر".
(2) زيادة من م.
(3) في أ: "الأزدي".
(4) في م: "حرير".
(5) سنن الترمذي برقم (2533).
(6) سنن الترمذي برقم (2534).

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا يونس، عن محمد بن سِيرِين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين، على كل واحدة سبعون حلة، يُرى مخ ساقها من وراء الثياب".
تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه (1) . وقد رواه مسلم من حديث إسماعيل بن عُلَيَّة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين قال: إما تفاخروا وإما تذكروا، الرجال أكثر في الجنة أم النساء؟ فقال أبو هريرة: أو لم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضْوَأ كوكب دُرّي في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان، يُرَى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب" (2) .
وهذا الحديث مُخَرّجٌ في الصحيحين، من حديث هَمّام بن مُنَبّه وأبي زُرْعَة، عن أبي هريرة رضي الله عنه (3) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا محمد بن طلحة، عن حميد عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَغَدْوَةٌ في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، وَلَقَابُ قوس أحدكم -أو موضع قيده (4) -يعني: سوطه-من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا، ولطاب ما بينهما، ولنَصِيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها".
ورواه البخاري من حديث أبي إسحاق، عن حميد، عن أنس بنحوه (5) .
وقوله: { هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ } أي: ما لمن أحسن في الدنيا العمل (6) إلا الإحسان إليه في الدار الآخرة. كما قال تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ يونس:26 ].
وقال البغوي: أخبرنا أبو سعيد الشَّريحِي، حدثنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني ابن فَنجُوَيه، حدثنا ابن شيبة، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن بَهْرَام، حدثنا الحجاج بن يوسف المُكْتَب، حدثنا بِشْر بن الحسين، عن الزبير بن عَدِيّ، عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ } ، قال: "هل تدرون ما قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "يقول هل جزاء ما أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة" (7) .
ولما كان في الذي ذُكِرَ نعم عظيمة لا يقاومها عمل، بل مجرد تفضل وامتنان، قال بعد ذلك كله: { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
__________
(1) المسند (2/345).
(2) صحيح مسلم برقم (2834).
(3) صحيح البخاري برقم (3245) وصحيح مسلم برقم (2834).
(4) في م: "قده" وفي أ: "قدمه".
(5) المسند (3/141) وصحيح البخاري برقم (2796).
(6) في م: "العمل في الدنيا".
(7) معالم التنزيل للبغوي (7/456) وفيه بشر الأصبهاني يروي عن الزبير بن عدي عن أنس بنسخة موضوعة.

وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67)

ومما يتعلق بقوله تعالى: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ، ما رواه الترمذي والبغوي، من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم، عن أبي عقيل الثقفي، عن أبي فروة يزيد بن سِنان الرّهاوي، عن بُكَيْر ابن فيروز (1) ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة".
ثم قال الترمذي: غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر (2) .
وروى البغوي من حديث علي بن حُجْر، عن إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن أبي حَرْمَلَة -مولى حويطب بن عبد العزى-عن عطاء بن يَسَار، عن أبي الدرداء؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ، قلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } . فقلت الثانية: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال [رسول الله صلى الله عليه وسلم] (3) { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } . فقلت الثالثة: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال: "وإن، رغم أنف أبي الدرداء" (4) .
{ وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) } .
__________
(1) في أ: "فيروز الديلمي".
(2) سنن الترمذي برقم (2450) وتفسير البغوي (7/451).
(3) زيادة من م، أ.
(4) معالم التنزيل للبغوي (7/452).

فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)

{ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ (78) } .
هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن، قال الله تعالى: { وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } .
وقد تقدم في الحديث: "جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، فالأوليان (1) للمقربين، والأخريان (2) لأصحاب اليمين".
__________
(1) في م: "فالأولتان".
(2) في م: "والأخيرتان".

وقال أبو موسى: جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من فضة لأصحاب اليمين.
وقال ابن عباس: { وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } من دونهما في الدرج. وقال ابن زيد: من دونهما في الفضل.
والدليل على شرف الأوليين على الأخريين وجوه: أحدها: أنه نعت الأولين قبل هاتين، والتقديم يدل على الاعتناء ثم قال: { وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } . وهذا ظاهر في شرف التقدم (1) وعلوه على الثاني.
وقال هناك: { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } : وهي الأغصان أو الفنون في الملاذ، وقال هاهنا: { مُدْهَامَّتَان } أي سوداوان من شدة الري.
قال ابن عباس في قوله: { مُدْهَامَّتَان } قد اسودتا من الخضرة، من شدة الري من الماء.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن فُضَيْل، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { مُدْهَامَّتَان } : قال: خضراوان. ورُوي عن أبي أيوب الأنصاري، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن أبي أَوْفَى، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، ومجاهد -في إحدى الروايات-وعطاء، وعطية العَوْفي، والحسن البصري، ويحيى بن رافع، وسفيان الثوري، نحو ذلك.
وقال محمد بن كعب: { مُدْهَامَّتَان } : ممتلئتان من الخضرة. وقال قتادة: خضراوان من الري ناعمتان. ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشبكة بعضها في بعض. وقال هناك: { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } ، وقال هاهنا: { نَضَّاخَتَان } ، وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أي فياضتان. والجري أقوى من النضخ.
وقال الضحاك: { نَضَّاخَتَان } أي ممتلئتان لا تنقطعان.
وقال هناك: { فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } ، وقال هاهنا: { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } ، ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على فاكهة، وهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم؛ ولهذا فسر قوله: { وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } من باب عطف الخاص على العام، كما قرره البخاري وغيره، وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما.
قال عبد بن حميد: حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا حصين بن عمر، حدثنا مخارق، عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب قال: جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أفي (2) الجنة فاكهة؟ قال: "نعم، فيها فاكهة ونخل ورمان". قالوا: أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا؟ قال: "نعم وأضعاف". قالوا: فيقضون الحوائج؟ قال: "لا ولكنهم يعرقون ويرشحون، فيذهب الله ما في بطونهم من أذى" (3) .
__________
(1) في أ: "التقديم".
(2) في م: "في".
(3) المنتخب برقم (35) وفيه حصين بن عمر وهو متروك.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا الفَضْل بن دُكَيْن، حدثنا سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: نخل الجنة سعفها كسوة لأهل الجنة، منها مُقَطَّعَاتهم، ومنها حُلَلهم، وكَرَبُها ذهب أحمر، وجذوعها زمرد أخضر، وثمرها أحلى من العسل، وألين من الزبد، وليس له عجم.
وحدثنا أبي: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد -هو ابن سلمة-عن أبي هارون، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نظرت إلى الجنة فإذا الرّمانة من رمانها كمثل البعير المُقْتَب" (1) .
ثم قال: { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } قيل: المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة، قاله قتادة. وقيل: خيرات جمع خيرة، وهي المرأة الصالحة الحسنة الخُلُق الحسنة الوجه، قاله الجمهور. وروي مرفوعا عن أم سلمة (2) . وفي الحديث الآخر الذي سنورده في سورة "الواقعة" (3) : أن الحور العين يغنين: نحن الخيرات الحسان، خلقنا لأزواج كرام. ولهذا قرأ بعضهم: "فيهن خَيّرات"، بالتشديد { حِسَانٌ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
ثم قال: { حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ } ، وهناك قال: { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } ، ولا شك أن التي قد قَصَرَت طرفها بنفسها أفضل ممن قُصرت، وإن كان الجميع مخدرات.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن القاسم بن أبي بزَّة، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد الله قال: إن لكل مسلم خَيرة، ولكل خَيرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبواب، يدخل عليها (4) كل يوم تحفة وكرامة وهدية لم تكن قبل ذلك، لا مَرّاحات ولا طَمّاحات، ولا بخرات ولا ذفرات، حور عين، كأنهن بيض مكنون.
وقوله: { فِي الْخِيَامِ } ، قال البخاري:
حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، حدثنا أبو عمران الجوني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة، عرضها ستون (5) ميلا في كل زاوية منها أهلٌ ما يَرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمنون".
ورواه أيضا من حديث أبي عمران، به (6) . وقال: "ثلاثون ميلا". وأخرجه مسلم من حديث أبي عمران، به. ولفظه: "إن للمؤمن في الجنة لخيمةً من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلا
__________
(1) رواه الثعلبي في تفسيره كما في تخريج الإحياء (6/2787) وابن عساكر في تاريخ دمشق كما في تهذيبه (5/462) من طريق أبي هارون العبدي به.
وأبو هارون العبدي اسمه عمارة بن جوين كذبه بعض الأئمة.
(2) رواه الطبراني في المعجم الكبير (23/367) مطولا وفيه سليمان بن أبي كريمة وهو ضعيف.
(3) عند تفسير الآيات 35- 38 من نفس السورة.
(4) في م: "عليهم".
(5) في أ: "سبعون".
(6) صحيح البخاري برقم (4879)، (3243).

للمؤمن فيها أهل (1) يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضا" (2) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أبي الربيع، حدثنا عبد الرزَّاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، أخبرني خُلَيْد العَصَري، عن أبي الدرداء قال: الخيمة لؤلؤة واحدة، فيها سبعون بابا من در.
وحدثنا أبي حدثنا عيسى بن أبي فاطمة، حدثنا جرير، عن هشام، عن محمد بن المثنى، عن ابن عباس في قوله: { حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ } ، وقال: [في] (3) خيام اللؤلؤ، وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة، أربع فراسخ في أربعة فراسخ، عليها أربعة آلاف مصراع من الذهب.
وقال عبد الله بن وهب: أخبرنا عمرو أن دَرَّاجا أبا السَّمح حدثه، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم، واثنتان وسبعون زوجة، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت، كما بين الجابية وصنعاء".
ورواه الترمذي من حديث عمرو بن الحارث، به (4) .
وقوله: { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ } : [قد] (5) تقدم مثله سواء، إلا أنه زاد في وصف الأوائل بقوله: { كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
وقوله: { مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } : قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الرفرف: المحابس. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والضحاك، وغيرهما: هي المحابس. وقال العلاء بن بدر (6) الرفرف على السرير، كهيئة المحابس المتدلي.
وقال عاصم الجحدري: { مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ } يعني: الوسائد. وهو قول الحسن البصري في رواية عنه.
وقال أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: { مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ } قال: الرفرف: رياض الجنة.
وقوله: { وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } : قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي: العبقري: الزرابي. وقال سعيد بن جبير: هي عتاق الزرابي، يعني: جيادها.
وقال مجاهد: العبقري: الديباج.
وسئل الحسن البصري عن قوله: { وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } فقال: هي بسط أهل الجنة -لا أبا لكم-
__________
(1) في م: "أهلون".
(2) صحيح مسلم برقم (2838).
(3) زيادة من م.
(4) سنن الترمذي برقم (2562) وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين". ولم يتفرد به رشدين بل تابعه ابن وهب كما هنا، وفي إسناده دراج يروي عن أبي الهيثم مناكير.
(5) زيادة من م، أ.
(6) في م: "زيد".

فاطلبوها. وعن الحسن [البصري] (1) رواية: أنها المرافق. وقال زيد بن أسلم: العبقري: أحمر وأصفر وأخضر. وسئل العلاء بن زيد عن العبقري، فقال: البسط أسفل من ذلك. وقال أبو حَزْرَة (2) يعقوب بن مجاهد: العبقري: من ثياب أهل الجنة، لا يعرفه أحد. وقال أبو العالية: العبقري: الطنافس المخْمَلة، إلى الرقة ما هي. وقال القتيبي: كل ثوب مُوَشى عند العرب عبقري. وقال أبو عبيدة: هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي. وقال الخليل بن أحمد: كل شيء يسر (3) من الرجال وغير ذلك يسمى عند العرب عبقريا. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر: "فلم أر عبقريا يفري فريه" (4) .
وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من هذه الصفة؛ فإنه قد قال هناك: { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } ، فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها (5) ، اكتفاءً بما مدح به البطائن بطريق الأولى والأحرى. وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة: { هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ } فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى المراتب والنهايات، كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام، ثم الإيمان. فهذه وجوه عديدة في تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخيريين (6) ، ونسأل الله الكريم الوهاب أن يجعلنا من أهل الأوليين.
ثم قال: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } أي: هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى.
وقال ابن عباس: { ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } ذي العظمة والكبرياء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن عمير (7) بن هانئ، عن أبي العذراء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجِدّوا الله يغفر لكم" (8) .
وفي الحديث الآخر: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وذي السلطان، وحامل القرآن (9) غير الغالي فيه ولا الجافي عنه" (10) .
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو يوسف الجيزي (11) ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا حميد الطويل، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألظّوا بيا ذا الجلال والإكرام".
وكذا رواه الترمذي، عن محمود بن غيلان، عن مؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، به (12) .
__________
(1) زيادة من م، أ.
(2) في أ: "حزيرة".
(3) في م، أ: "نفيس".
(4) صحيح البخاري برقم (3682) وصحيح مسلم برقم (2393) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(5) في م: "ظهارتها".
(6) في م: "الأخيرتين".
(7) في أ: "عمر".
(8) المسند (5/199) وقال الهيثمي في المجمع (1/31): "وفي إسناده أبو العذراء وهو مجهول".
(9) في م: "الذكر".
(10) رواه أبو داود في السنن برقم (4843) والبيهقي في السنن الكبرى (8/163) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(11) في الأصل وبقية النسخ: "الحربي" والتصويب من أبي يعلى.
(12) مسند أبي يعلى (6/445) وسنن الترمذي برقم (3522).
وقال ابن طاهر: "وقد تابع المؤمل فيه روح بن عبادة وروح حافظ ثقة".
أخرجه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي (3/396) من طريق روح بن عبادة عن حماد بن سلمة عن+

ثم قال: غلط المؤمل فيه، وهو غريب وليس بمحفوظ، وإنما يروى هذا عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن يحيى بن حسان المقدسي، عن ربيعة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألظوا بذي الجلال والإكرام".
ورواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك، به (1) .
وقال الجوهري: ألظ فلان بفلان: إذا لزمه (2) .
وقول ابن مسعود: "ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام" أي: الزموا. ويقال: الإلظاظ هو الإلحاح.
قلت: وكلاهما قريب من الآخر -والله أعلم-وهو المداومة واللزوم والإلحاح. وفي صحيح مسلم والسنن الأربعة من حديث عبد الله بن الحارث، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد -يعني: بعد الصلاة-إلا قدر ما يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام" (3) .
آخر تفسير سورة الرحمن، ولله الحمد [والمنة] (4)
__________
(1) المسند (4/177) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11563).
(2) لسان العرب (7/459).
(3) صحيح مسلم برقم (592) وسنن أبي داود برقم (1512) وسنن الترمذي برقم (298) وسنن النسائي (3/69) وسنن ابن ماجه برقم (924).
(4) زيادة من م، أ.

تفسير سورة الواقعة
وهي مكية.
قال أبو إسحاق عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، قد شبتَ؟ قال: "شيَّبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعَمَّ يتساءلون، وإذا الشمس كورت".
رواه الترمذي وقال: حسن غريب (1)
وقال الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن مسعود بسنده إلى عمرو بن الربيع بن طارق المصري: حدثنا السُّرِّي بن يحيى الشيباني، عن أبي شجاع، عن أبي ظبية قال: مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه، فعاده عثمان بن عفان فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: يكون لبناتك من بعدك؟ قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قرأ سورة الواقعة كل ليلة، لم تصبه فاقة أبدا". (2) .
ثم قال ابن عساكر: كذا قال والصواب: عن "شجاع"، كما رواه عبد الله بن وهب عن السُّرِّي. وقال عبد الله بن وهب: أخبرني السُّرِّي بن يحيى أن شجاعا حَدَّثه، عن أبي ظَبْيَة، عن عبد الله بن مسعود، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا". فكان أبو ظبية لا يدعها (3) .
وكذا رواه أبو يعلى، عن إسحاق بن إبراهيم، عن محمد بن مُنِيب، عن السُّرِّي بن يحيى، عن شجاع، عن أبي ظَبْيَة، عن ابن مسعود، به. ثم رواه عن إسحاق بن أبي إسرائيل، عن محمد بن مُنِيب العدني، عن السُّرِّي بن يحيى، عن أبي ظبية، عن ابن مسعود؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة، لم تصبه فاقة أبدا". لم يذكر في سنده "شجاعا" (4) . قال: وقد أمرت بناتي أن يقرأنها كل ليلة.
وقد رواه ابن عساكر أيضا من حديث حجاج بن نصير وعثمان بن اليمان، عن السري بن يحيى، عن شجاع، عن أبي فاطمة قال: مرض عبد الله، فأتاه عثمان بن عفان يعوده، فذكر الحديث
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3297).
(2) تاريخ دمشق (ق 294) "مصورة معهد المخطوطات" ورواه ابن عبد البر في التمهيد (5/269) من طريق حبشي بن عمرو بن الربيع، عن أبيه عمرو بن الربيع المصري به.
(3) ورواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/112) من طريق خالد عن عبد الله بن وهب به.
(4) ورواه عن أبي يعلى أبو بكر بن السني في عمل اليوم والليلة برقم (674).

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)

بطوله. قال عثمان بن اليمان: كان أبو فاطمة هذا مولى لعلي بن أبي طالب (1) .
وقال [الإمام] (2) أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا إسرائيل، ويحيى بن آدم، حدثنا إسرائيل، عن سِمَاك بن حرب؛ أنه سمع جابر بن سَمُرَة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم، ولكنه كان يخفف. كانت صلاته أخف من صلاتكم، وكان يقرأ في الفجر "الواقعة" ونحوها من السور (3) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) } .
الواقعة: من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها، كما قال: { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } [الحاقة: 15]
وقوله: { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } أي: ليس لوقوعها إذا أراد الله كونها صارف يصرفها، ولا دافع يدفعها، كما قال: { اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ } [الشورى:47]، وقال: { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ . لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } [المعارج:1، 2]، وقال تعالى: { وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } [الأنعام: 73] .
ومعنى { كَاذِبَة } -كما قال محمد بن كعب-: لا بد أن تكون. وقال قتادة: ليس فيها مثنوية ولا
__________
(1) تاريخ دمشق (ق 294) "مصورة معهد المخطوطات" وكذا رواه حجاج بن المنهال عن السري بن يحيى فقال: عن أبي فاطمة: أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم (2498) وقد أعمل الزيلعي رحمه الله هذا الحديث بأربع علل تلاجح بعدها ضعفه: الأولى: الانقطاع كما ذكره الدارقطني وابن أبي حاتم في علله نقلا عن أبيه. الثانية: نكارة متنه قاله الإمام أحمد. الثالثة: ضعف رواته: السري بن يحيى وشجاع كما ذكره ابن الجوزي. الرابعة: الاضطراب فمنهم من يقول: أبو طيبة بالطاء المهملة ومنهم من يقول: أبو ظبية بالظاء المعجمة. ومنهم من يقول: أبو فاطمة ومنهم من يقول: شجاع ومنهم من يقول: أبو شجاع وقد اجتمع على ضعفه: الإمام أحمد وأبو حاتم وابنه والدار قطني والبيهقي وابن الجوزي تلويحا وتصريحا والله أعلم.
(2) زيادة من م.
(3) المسند (5/104).

ارتداد ولا رجعة.
قال ابن جرير: والكاذبة: مصدر كالعاقبة والعافية.
وقوله: { خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ } أي: تحفض (1) أقواما إلى أسفل سافلين إلى الجحيم، وإن كانوا في الدنيا أعزّاء. وترفع آخرين إلى أعلى عليّين، إلى النعيم المقيم، وإن كانوا في الدنيا وضعاء. وهكذا قال الحسن وقتادة، وغيرهما.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يزيد بن عبد الرحمن بن مصعب المعنى، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، عن أبيه، عن سِمَاك، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس: { خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ } تخفض أناسًا وترفع آخرين.
وقال عبيد الله (2) العتكي، عن عثمان بن سراقة، ابن خالة عمر بن الخطاب: { خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ } [قال (3) ]: الساعة خفضت أعداء الله إلى النار، ورفعت أولياء الله إلى الجنة.
وقال محمد بن كعب: تخفض رجالا كانوا في الدنيا مرتفعين، وترفع رجالا كانوا في الدنيا مخفوضين.
وقال السُّدِّيّ: خفضت المتكبرين، ورفعت المتواضعين.
وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس: { خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ } أسمعت القريب والبعيد. وقال عكرمة: خفضت فأسمعت الأدنى، ورفعت فأسمعت الأقصى. وكذا قال الضحاك، وقتادة.
وقوله: { إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا } أي: حركت تحريكا فاهتزت واضطربت بطولها وعرضها. ولهذا قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغير واحد في قوله: { إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا } أي: زلزلت زلزالا [شديدا] (4) .
وقال الربيع بن أنس: ترج بما فيها كرج الغربال بما فيه.
وهذه كقوله تعالى: { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا } [الزلزلة: 1]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [الحج: 1] .
وقوله: { وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا } أي: فُتِّتَتْ فَتًّا (5) . قاله ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمَة، وقتادة، وغيرهم.
وقال ابن زيد: صارت الجبال كما قال [الله] (6) تعالى: { كَثِيبًا مَهِيلا } [المزمل: 14] .
وقوله: { فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا } ، قال أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي، رضي الله عنه: { هَبَاءً مُنْبَثًّا }
__________
(1) في م: "تخفض".
(2) في أ: "عبد الله".
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من م.
(5) في م: "تفتيتا".
(6) زيادة من أ.

كرهَج الغبار يسطع ثم يذهب، فلا يبقى منه شيء.
وقال العَوْفِيّ عن ابن عباس في قوله: { فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا } : الهباء الذي يطير من النار، إذا اضطرمت (1) يطير منه الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئا.
وقال عكرمة: المنبث: الذي ذرته الريح وبثته. وقال قتادة: { هَبَاءً مُنْبَثًّا } كيبيس الشجر الذي تذروه (2) الرياح.
وهذه الآية كأخواتها الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة، وذهابها وتسييرها ونسفها -أي قلعها-وصيرورتها كالعهن المنفوش.
وقوله: { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً } أي: ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف: قوم عن يمين العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن، ويؤتون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذ بهم ذات اليمين. قال السُّدِّيّ: وهم جمهور أهل الجنة. وآخرون عن يسار العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر، ويؤتون كتبهم بشمائلهم، ويؤخذ بهم ذات الشمال، وهم عامة أهل النار -عياذًا بالله من صنيعهم-وطائفة سابقون بين يديه وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم سادتهم، فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء، وهم أقل عددا من أصحاب اليمين؛ ولهذا قال: { فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ . وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ . وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم، وهكذا ذكرهم في قوله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } الآية [فاطر:32]، وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه كما تقدم بيانه.
قال سفيان الثوري، عن جابر الجعفي، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً } قال: هي التي في سورة الملائكة: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } .
وقال ابن جُرَيْج عن ابن عباس: هذه الأزواج الثلاثة هم المذكورون في آخر السورة وفي سورة الملائكة.
وقال يزيد الرقاشي: سألت ابن عباس عن قوله: { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً } قال: أصنافا ثلاثة.
وقال (3) مجاهد: { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً } [قال] (4) : يعني: فرقا ثلاثة. وقال ميمون بن مِهْران: أفواجا ثلاثة. وقال عُبَيد الله (5) العتكي، عن عثمان بن سراقة ابن خالة عمر بن الخطاب: { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً } اثنان في الجنة، وواحد في النار.
__________
(1) في م: "اضطربت".
(2) في م: "تذراه".
(3) في أ: "عن".
(4) زيادة من م.
(5) في أ: "عبد الله".

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا الوليد بن أبي ثور، عن سِمَاك، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } [التكوير: 7] قال: الضرباء، كل رجل من قوم كانوا يعملون عمله، وذلك بأن الله يقول: { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً . فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ . وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ . وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } قال: هم الضرباء (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله المثنى، حدثنا البراء الغنوي، حدثنا الحسن، عن معاذ بن جبل؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا (2) هذه الآية: { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ } (3) ، { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ } (4) فقبض بيده قبضتين فقال: "هذه للجنة (5) ولا أبالي، وهذه للنار (6) ولا أبالي" (7) .
وقال أحمد أيضا: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثنا خالد بن أبي عمران، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "أتدرون من السابقون إلى ظل يوم القيامة؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم" (8) .
وقال محمد بن كعب وأبو حَرْزَةَ يعقوب بن مجاهد: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } : هم الأنبياء، عليهم السلام. وقال السُّدِّيّ: هم أهل عليين. وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } ، قال: يوشع بن نون، سبق إلى موسى، ومؤمن آل "يس"، سبق إلى عيسى، وعلي بن أبي طالب، سبق إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه ابن أبي حاتم، عن محمد بن هارون الفلاس، عن عبد الله بن إسماعيل المدائني البزاز، عن شُعَيْب بن الضحاك المدائني، عن سفيان بن عُيَيْنَة، عن ابن أبي نَجِيح به.
وقال ابن أبي حاتم: وذكر محمد (9) بن أبي حماد، حدثنا مِهْرَان، عن خارجة، عن قُرَّة،َ عن ابن سِيرين: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } الذين صلوا للقبلتين.
ورواه ابن جرير (10) من حديث خارجة، به.
وقال الحسن وقتادة: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } أي: من كل أمة.
وقال الأوزاعي، عن عثمان بن أبي سودة أنه قرأ هذه الآية: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } ثم قال: أولهم رواحًا إلى المسجد، وأولهم خروجًا في سبيل الله.
__________
(1) سيأتي تخريج الحديث عند الآية: 7 من سورة التكوير.
(2) في أ: "قرأ".
(3) في م، أ: "وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين".
(4) في م، أ: "وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال".
(5) في م، أ: "هذه في الجنة".
(6) في م، أ: "وهذه في النار".
(7) المسند (5/239) والحسن لم يسمع من معاذ.
(8) المسند (6/67).
(9) في أ: "وذكر عن محمد".
(10) في أ: "ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير".

ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)

وهذه الأقوال كلها صحيحة، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا، كما قال تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ } [آل عمران: 133]، وقال: { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } [الحديد: 22]، فمن سابق إلى هذه الدنيا وسبق إلى الخير، كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان؛ ولهذا قال تعالى: { أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ . فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن زكريا القزاز (1) الرازي، حدثنا خارجة بن مُصعَب، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو قال: قالت الملائكة: يا رب، جعلت لبني آدم الدنيا فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون، فاجعل لنا الآخرة. فقال: لا أفعل. فراجعوا ثلاثا، فقال: لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له: كن، فكان . ثم قرأ عبد الله: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ . فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } .
وقد روى هذا الأثر الإمام عثمان (2) بن سعيد الدارمي في كتابه: "الرد على الجهمية"، ولفظه: فقال الله عز وجل: "لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي، كمن قلت له: كن فكان" (3) .
{ ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) } .
__________
(1) في أ: "الفزاري".
(2) في أ: "عمر".
(3) وقد رواه عثمان بن سعيد الدارمي فرفعه كما في البداية والنهاية (1/55) للمؤلف وقال: "وهو أصح" وله شاهد من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/48) وقال: "هذا حديث لا يصح".

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)

{ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا (25) إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا (26) } .
يقول تعالى مخبرًا عن هؤلاء السابقين أنهم { ثُلَّةٌ } أي: جماعة { مِنَ الأوَّلِينَ . وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ } . وقد اختلفوا في المراد بقوله: { الأوَّلِينَ } ، و { الآخِرِينَ } . فقيل: المراد بالأولين: الأمم الماضية، والآخرين: هذه الأمة. هذا رواية عن مجاهد، والحسن البصري، رواها عنهما ابن أبي حاتم. وهو اختيار ابن جرير، واستأنس بقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" (1) . ولم يحك غيره ولا عزاه إلى أحد.
__________
(1) لم أجد الحديث في تفسير الطبري والحديث أخرجه البخاري في صحيحه برقم (896) ومسلم في صحيحه برقم (885) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ومما يستأنس به لهذا القول، ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع، حدثنا شريك، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: لما نزلت: { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ . وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ } شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ . وثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ } فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة -أو: شطر أهل الجنة-وتقاسمونهم النصف الثاني".
ورواه الإمام أحمد، عن أسود بن عامر، عن شريك، عن محمد، بياع الملاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، فذكره (1) . وقد روي من حديث جابر نحو هذا، ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق هشام بن عمار: حدثنا عبد ربه بن صالح، عن عروة بن رويم، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم: لما نزلت: { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } ، ذكر فيها { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ . وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ } ، قال عمر: يا رسول الله، ثلة من الأولين وقليل منا؟ قال: فأمسك آخر السورة سنة، ثم نزل: { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ . وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عمر، تعال فاسمع ما قد أنزل الله: { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ . وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ } ، ألا وإن من آدم إليَّ ثلة، وأمتي ثلة، ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل، ممن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له".
هكذا أورده في ترجمة "عروة بن رويم" (2) ، إسنادا ومتنا، ولكن في إسناده نظر. وقد وردت طرق كثيرة متعددة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" الحديث بتمامه (3) ، وهو مفرد في "صفة الجنة" ولله الحمد والمنة. وهذا الذي اختاره ابن جرير هاهنا، فيه نظر، بل هو قول ضعيف؛ لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة. والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم، والله أعلم. فالقول الثاني في هذا المقام، هو الراجح، وهو أن يكون المراد بقوله: { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ } أي: من صدر هذه الأمة، { وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ } أي: من هذه الأمة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عفان، حدثنا عبد الله بن بكر (4) المزني، سمعت الحسن: أتى على هذه الآية: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } فقال: أما السابقون، فقد مضوا، ولكن اللهم اجعلنا من أهل اليمين.
ثم قال: حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا السُّرِّيّ بن يحيى قال: قرأ الحسن: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ . فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ . ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ } ثلة ممن مضى من هذه الأمة.
__________
(1) المسند (2/391).
(2) تاريخ دمشق لابن عساكر (11/ق279) "مصورة معهد المخطوطات".
(3) منها حديث عمران بن حصين، أخرجه الترمذي في السنن برقم (3168) وحديث عبد الله بن مسعود، أخرجه أحمد في المسند (1/420).
(4) في أ: "بكير" وفي م: "أبي بكر".

وحدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المَنْقَري، حدثنا أبو هلال، عن محمد بن سيرين، أنه قال في هذه الآية: { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ . وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ } قال: كانوا يقولون، أو يرجون، أن يكونوا كلهم من هذه الأمة. فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأمة. ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها، فيحتمل أن يعم الأمر (1) جميع الأمم كل أمة بحسبها؛ ولهذا ثبت في الصحاح وغيرها، من غير وجه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (2) الحديث بتمامه.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا زياد أبو عمر، عن الحسن، عن عمار بن ياسر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره" (3) ، فهذا الحديث، بعد الحكم بصحة إسناده، محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الأمة في إبلاغه إلى من بعدهم، كذلك هو محتاج إلى القائمين به في أواخرها، وتثبيت الناس على السنة وروايتها وإظهارها، والفضل للمتقدم. وكذلك الزرع الذي يحتاج (4) إلى المطر الأول وإلى المطر الثاني، ولكن العمدة الكبرى على الأول، واحتياج الزرع إليه آكد، فإنه لولاه ما نبت في الأرض، ولا تعلق أساسه فيها؛ ولهذا قال، عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، إلى قيام الساعة". وفي لفظ: "حتى يأتي أمر الله وهم كذلك". والغرض أن هذه الأمة أشرف من سائر الأمم، والمقربون فيها أكثر من غيرها وأعلى منزلة؛ لشرف دينها وعظم نبيها. ولهذا ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن في هذه الأمة سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب. وفي لفظ: "مع كل ألف سبعون ألفا". وفي آخر (5) مع كل واحد سبعون ألفا".
وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هشام (6) بن مرثد (7) الطبراني، حدثنا محمد -هو ابن إسماعيل بن عياش-حدثني أبي، حدثني ضَمْضَم -يعني ابن زُرْعَة-عن شريح -هو ابن عبيد-عن أبي مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفسي بيده، ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض، تقول الملائكة لما جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم أكثر مما جاء مع الأنبياء، عليهم السلام" (8) .
وحسن أن يذكر هاهنا [عند قوله: { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ . وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ } ] (9) الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في "دلائل النبوة" حيث قال: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أخبرنا أبو عمرو بن مطر، حدثنا جعفر -[هو] (10) بن محمد بن المستفاض الفريابي -حدثني أبو وهب الوليد بن عبد
__________
(1) في م: "الأمة".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (3651) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(3) المسند (4/319).
(4) في م: "هو محتاج".
(5) في أ: "آخره".
(6) في أ: "هاشم".
(7) في هـ وبقية النسخ: "يزيد" والتصويب من المعجم الكبير.
(8) المعجم الكبير (3/297) وفي إسناده محمد بن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف لم يسمع من أبيه.
(9) زيادة من أ.
(10) زيادة من أ.

الملك بن عبيد الله (1) بن مُسَرِّح الحرَّاني، حدثنا سليمان بن عطاء القرشي الحراني، عن مسلمة (2) بن عبد الله الجهني، عن عمه أبي مَشْجَعة بن رِبْعِي، عن ابن زَمْل الجهني، رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح قال، وهو ثان رجله: "سبحان الله وبحمده. أستغفر الله، إن الله كان توابا" سبعين مرة، ثم يقول: "سبعين بسبعمائة، لا خير لمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة". ثم يقول ذلك مرتين، ثم يستقبل الناس بوجهه، وكان يعجبه الرؤيا، ثم يقول: "هل رأى أحد منكم شيئا؟" قال ابن زمل: فقلت: أنا يا رسول الله. فقال: "خير تلقاه، وشر توقاه، وخير لنا، وشر على أعدائنا، والحمد لله رب العالمين. اقصص رؤياك". فقلت: رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل لا حب، والناس على الجادة منطلقين، فبينما هم كذلك، إذ أشفى ذلك الطريق على مرج لم تر عيني مثله، يرف رفيفا يقطر ماؤه، فيه من أنواع الكلأ قال: وكأني بالرعلة (3) الأولى حين أشفوا على المرج كبّروا، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فلم يظلموه يمينا ولا شمالا. قال: فكأني أنظر إليهم منطلقين. ثم جاءت الرعلة الثانية وهم أكثر منهم أضعافا، فلما أشفوا على المرج كبّروا، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث. ومضوا على ذلك. قال: ثم قدم عظم الناس، فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا:(هذا خير المنزل). كأني أنظر إليهم يميلون يمينا وشمالا فلما رأيت ذلك، لزمت الطريق حتى آتي أقصى المرج، فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات وأنت في أعلاها درجة، وإذا عن يمينك رجل آدم شثل أقنى، إذا هو تكلم يسمو فيفرع الرجال طولا وإذا عن يسارك رجل ربعة باذ (4) كثير خيلان الوجه، كأنما حمم شعره بالماء، إذا هو تكلم أصغيتم إكراما له. وإذا أمام ذلك رجل شيخ أشبه الناس بك خلقا ووجها، كلكم تؤمونه تريدونه، وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف، وإذا أنت يا رسول الله كأنك تبعثها. قال: فامتقع لون رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سري عنه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمّا ما رأيت من الطريق السهل الرحب اللا حب، فذاك ما حملتم (5) عليه من الهدى وأنتم عليه. وأما المرج الذي رأيت، فالدنيا (6) مضيت أنا وأصحابي لم نتعلق منها بشيء، ولم تتعلق منا، ولم نردها ولم تردنا. ثم جاءت (7) الرعلة الثانية من بعدنا وهم أكثر منا أضعافا، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث، ونجوا (8) على ذلك. ثم جاء عظم الناس، فمالوا في المرج يمينا وشمالا فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأما أنت، فمضيت على طريقة صالحة، فلن تزال عليها حتى تلقاني. وأما المنبر الذي رأيت فيه سبع درجات وأنا في أعلاها درجة، فالدنيا سبعة آلاف سنة، أنا في آخرها ألفا. وأما الرجل الذي رأيت على يميني الآدم الشثل، فذلك موسى، عليه السلام، إذا تكلم، يعلو الرجال بفضل كلام الله إياه. والذي رأيت عن يساري الباز الربعة الكثير خيلان الوجه، كأنما حمم شعره بالماء، فذلك عيسى ابن مريم، نكرمه لإكرام الله إياه. وأما الشيخ الذي رأيت أشبه الناس بي خلقا ووجها فذاك أبونا إبراهيم، كلنا نؤمه ونقتدي به. وأما الناقة التي رأيت ورأيتني أبعثها، فهي الساعة، علينا تقوم، لا نبي بعدي، ولا أمة بعد أمتي". قال: فما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رؤيا بعد هذا إلا أن يجيء الرجل، فيحدثه بها متبرعا (9) .
وقوله: { عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ } قال ابن عباس: أي مرمولة بالذهب، يعني: منسوجة به. وكذا قال مجاهد، وعِكْرِمَة، وسعيد بن جُبَيْر، وزيد بن أسلم، وقتادة، والضحاك، وغيره.
وقال السُّدِّيّ: مرمولة بالذهب واللؤلؤ. وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت. وقال ابن جرير: ومنه سمي وضين الناقة الذي تحت بطنها، وهو فعيل بمعنى مفعول؛ لأنه مضفور، وكذلك السرر في الجنة مضفورة بالذهب واللآلئ.
وقال: { مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ } أي: وجوه بعضهم إلى بعض، ليس أحد وراء أحد. { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ } أي: مخلدون على صفة واحدة، لا يكبرون عنها ولا يشيبون ولا يتغيرون، { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ } ، أما الأكواب فهي: الكيزان التي لا خراطيم لها ولا آذان. والأباريق: التي جمعت الوصفين. والكؤوس: الهنابات، والجميع من خمر من عين جارية مَعِين، ليس من أوعية تنقطع وتفرغ، بل من عيون سارحة.
وقوله: { لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ } أي: لا تصدع رؤوسهم ولا تنزف عقولهم، بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة.
وروى الضحاك، عن ابن عباس، أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول. فذكر الله خمر الجنة ونزهها عن هذه الخصال.
وقال مجاهد، وعِكْرِمَة، وسعيد بن جُبَيْر، وعطية، وقتادة، والسُّدِّيّ: { لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } يقول: ليس لهم فيها صداع رأس.
وقالوا في قوله: { وَلا يُنزفُونَ } أي: لا تذهب بعقولهم.
وقوله: { وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ . وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ } أي: ويطوفون عليهم بما يتخيرون من الثمار.
وهذه الآية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخير لها، ويدل على ذلك حديث "عِكْراش بن ذؤيب" الذي رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي، رحمه الله، في مسنده: حدثنا العباس بن الوليد النَّرْسِي، حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية، حدثنا عبيد الله بن عِكْراش، عن أبيه عِكْراش بن ذؤيب، قال: بعثني بنو مرة في صدقات أموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت المدينة فإذا هو جالس بين المهاجرين والأنصار، وقدمت عليه بإبل كأنها عروق الأرطى، قال: "من الرجل؟"
__________
(1) في م، أ: "عبد الله".
(2) في م، أ: "مسلم".
(3) في أ: "وكانوا بالرعلة".
(4) في م: "بار".
(5) في أ: "حملتكم".
(6) في م، أ: "فالدنيا ونضارة عيشها".
(7) في م: "ثم كانت".
(8) في م: "ثم نجوا".
(9) دلائل النبوة (7/36) وفي إسناده سليمان بن عطاء بن قيس، قال ابن حبان في المجروحين (1/329): "شيخ يروي عن مسلمة ابن عبد الله الجهني عن عمه أبي مشجعة بن ربعي بأشياء موضوعة لا تشبه حديث الثقات فلست أدري التخليط فيها منه أو من مسلمة بن عبد الله".

قلت: عِكْراش بن ذؤيب. قال: "ارفع في النسب"، فانتسبت له إلى "مرة بن عبيد"، وهذه صدقة "مرة بن عبيد". فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: هذه إبل قومي، هذه صدقات قومي. ثم أمر بها أن توسم بميسم إبل الصدقة وتضم إليها. ثم أخذ بيدي فانطلقنا إلى منزل أم سلمة، فقال: "هل من طعام؟" فأتينا بحفنة كثيرة الثريد والوذر، فجعل يأكل منها، فأقبلت أخبط بيدي في جوانبها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليسرى على يدي اليمنى، فقال: "يا عِكْراش، كل من موضع واحد، فإنه طعام واحد". ثم أتينا بطبق فيه تمر، أو رطب -شك عبيد الله رطبا كان أو تمرا-فجعلت آكل من بين يدي، وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق، وقال: "يا عِكْراش، كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد". ثم أتينا بماء، فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ومسح بِبَلَلِ كفيه وجهه وذراعيه ورأسه ثلاثا، ثم قال: "يا عِكْراش، هذا الوضوء مما غيرت النار".
وهكذا رواه الترمذي مطولا وابن ماجه جميعًا، عن محمد بن بشار، عن أبي الهزيل العلاء بن الفضل، به (1) . وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديثه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز بن أسد وعفان -وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا شيبان -قالوا: حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا ثابت، قال: قال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا، فربما رأى الرجل الرؤيا فسأل عنه إذا لم يكن يعرفه، فإذا أثني عليه معروف، كان أعجب لرؤياه إليه. فأتته امرأة فقالت: يا رسول الله، رأيت كأني أتيت فأخرجت من المدينة، فأدخلت الجنة فسمعت وَجبَة انتحبت لها الجنة، فنظرت فإذا فلان ابن فلان، وفلان ابن فلان، فسَمَّتْ اثني عشر رجلا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث سرية قبل ذلك، فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم، فقيل: اذهبوا بهم إلى نهر البيدخ -أو: البيذخ-قال: فغمسوا فيه، فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر، فأتوا بصحفة من ذهب فيها بُسر، فأكلوا من بُسره ما شاؤوا، فما يقلبونها من وجه إلا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا، وأكلت معهم. فجاء البشير من تلك السرية، فقال: كان (2) من أمرنا (3) كذا وكذا، وأصيب (4) فلان وفلان. حتى عد اثني عشر رجلا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة فقال: "قصي رؤياك" فقصتها، وجعلت تقول: فجيء بفلان وفلان كما قال.
هذا لفظ أبي يعلى، قال الحافظ الضياء: وهذا على شرط مسلم (5) .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا معاذ بن المثنى، حدثنا علي بن المديني، حدثنا ريحان بن سعيد، عن عباد بن منصور، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، قال: قال
__________
(1) سنن الترمذي برقم (1848) وسنن ابن ماجة برقم (3274) وعبيد الله بن عكراش تكلم فيه، وتكلم في حديثه هذا.
قال البخاري: "لا يثبت حديثه" ونقل العقيلي عنه أنه قال: "في إسناده نظر".
(2) في م، أ: "فقال: ما كان".
(3) في م، أ: "رؤيا".
(4) في م، أ: "فأصيب".
(5) المسند للإمام أحمد (3/135) ومسند أبي يعلى برقم (3289) (6/44) وقال الهيثمي في المجمع (7/175): "رجاله رجال الصحيح".

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل إذا نزع ثمرة في الجنة، عادت مكانها أخرى" (1) .
وقوله: { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ } ، قال الإمام أحمد:
حدثنا سيار بن حاتم، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، حدثنا ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن طير الجنة كأمثال البخت، يرعى (2) في شجر الجنة". فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن هذه لطير ناعمة فقال: "أكلتها (3) أنعم منها -قالها ثلاثا-وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها". تفرد به أحمد من هذا الوجه (4) .
وروى الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه "صفة الجنة" من حديث إسماعيل بن علي الخُطَبِيّ، عن أحمد بن علي الخُيُوطي، عن عبد الجبار بن عاصم، عن عبد الله بن زياد، عن زُرْعَة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: ذكرت عند النبي صلى الله عليه وسلم طوبى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر، هل بلغك ما طوبى؟" قال: الله ورسوله أعلم. قال: "طوبى شجرة في الجنة، ما يعلم طولها إلا الله، يسير الراكب تحت غصن من أغصانها سبعين خريفا، ورقها الحلل، يقع عليها الطير كأمثال البخت". فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن هناك لطيرا ناعما؟ قال: "أنعم منه من يأكله، وأنت منهم إن شاء الله" (5) .
وقال قتادة في قوله: { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ } : ذكر لنا أن أبا بكر قال: يا رسول الله، إني أرى طيرها ناعمة كما أهلها ناعمون. قال: "من يأكلها -والله يا أبا بكر (6) -أنعم منها، وإنها لأمثال البخت، وإني لأحتسب على الله أن تأكل منها (7) يا أبا بكر" (8) .
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني مجاهد بن موسى، حدثنا مَعْنُ بن عيسى، حدثني ابن أخي ابن شهاب، عن أبيه، عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكوثر فقال: "نهر أعطانيه ربي، عز وجل، في الجنة، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طيور أعناقها يعني كأعناق الجزر". فقال عمر: إنها لناعمة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آكلها أنعم منها".
وكذا رواه الترمذي عن عبد (9) بن حميد، عن القَعْنَبِي، عن محمد بن عبد الله بن مسلم بن شهاب، عن أبيه، عن أنس، وقال: حسن (10) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسي، حدثنا أبو معاوية، عن عبيد الله (11) بن الوليد الوَصَّافي، عن عطية العَوْفِيّ، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) المعجم الكبير (2/102) وفي إسناده عباد متكلم فيه.
(2) في م: "ترعى".
(3) في م، أ: "أكلها".
(4) المسند (3/221).
(5) ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في الدر المنثور (4/649).
(6) في م: "يا أبا بكر والله".
(7) في م: "أن آكل منها".
(8) وهذا مرسل وقد روى من طريق الحسن مرسلا أيضا أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (12/13).
(9) في م: "عبيد" وهو خطأ.
(10) سنن الترمذي برقم (2542) وقال فيه: "حسن غريب".
(11) في أ: "عبد الله".

"إن في الجنة لطيرا فيه سبعون ألف ريشة، فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة فينتفض، فيخرج من كل ريشة -يعني: لونا-أبيض من اللبن، وألين من الزبد، وأعذب من الشهد، ليس منها لون يشبه صاحبه (1) ثم يطير" (2) .
هذا حديث غريب جدا، والوَصَّافي وشيخه ضعيفان. ثم قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح -كاتب الليث-حدثني الليث، حدثنا خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي حازم عن عطاء، عن كعب، قال: إن طائر الجنة أمثال البخت، يأكل (3) مما خلق من ثمرات الجنة، ويشرب (4) من أنهار الجنة، فيصطففن له، فإذا اشتهى منها شيئا أتاه حتى يقع بين يديه، فيأكل من خارجه وداخله ثم يطير لم ينقص منه شيء. صحيح إلى كعب.
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا خلف بن خليفة، عن حميد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا" (5) .
وقوله: { وَحُورٌ عِينٌ . كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } قرأ بعضهم بالرفع، وتقديره: ولهم فيها حور عين. وقراءة الجر تحتمل معنيين، أحدهما: أن يكون الإعراب على الاتباع بما قبله؛ لقوله: { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ . بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ . لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ . وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ . وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ . وَحُورٌ عِينٌ } ، كَمَا قَالَ { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } [المائدة: 6]، وكما قال: { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } [الإنسان:21]. والاحتمال الثاني: أن يكون مما يطوف به الولدان المخلدون عليهم الحور العين، ولكن يكون ذلك في القصور، لا بين بعضهم بعضا، بل في الخيام يطوف عليهم الخدام بالحور العين، والله أعلم.
وقوله: { كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } أي: كأنهن اللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه، كما تقدم في "سورة الصافات" { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ } [الصافات: 49] وقد تقدم في سورة "الرحمن" وصفهن أيضا؛ ولهذا قال: { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي: هذا الذي اتحفناهم به مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل.
ثم قال: { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا . إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا } أي: لا يسمعون في الجنة كلامًا لاغيا، أي: غثا (6) خاليا عن المعنى، أو مشتملا على معنى حقير أو ضعيف، كما قال: { لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً } [الغاشية:11]
__________
(1) في أ: "الآخر".
(2) ورواه هناد في الزهد برقم (119) حدثنا أبو معاوية به.
(3) في م: "يأكلن".
(4) في م: "يشربن".
(5) جزء الحسن بن عرفة برقم (22) وحميد الأعرج منكر الحديث.
(6) في م: "عبثا".

وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)

أي: كلمة لاغية { وَلا تَأْثِيمًا } أي: ولا كلامًا فيه قبح (1) ، { إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا } أي: إلا التسليم منهم بعضهم على بعض، كما قال: { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ } [إبراهيم: 23] وكلامهم أيضًا سالم من اللغو والإثم.
{ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لأصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ (40) } .
لما ذكر تعالى مآل السابقين -وهم المقربون-عطف عليهم بذكر أصحاب اليمين -وهم الأبرار-كما قال ميمون بن مِهْرَان: أصحاب اليمين منزلة دون المقربين، فقال: { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ } أي: أي شيء أصحاب اليمين؟ وما حالهم؟ وكيف مآلهم (2) ؟ ثم فسر ذلك فقال: { فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ } . قال ابن عباس، وعِكْرِمَة، ومجاهد، وأبو الأحوص، وقسَامة بن زُهَير، والسَّفر بن نُسَير، والحسن، وقتادة، وعبد الله بن كثير، والسُّدِّيّ، وأبو حَرْزَة، وغيرهم: هو الذي لا شوك فيه. وعن ابن عباس: هو المُوَقَر بالثمر. وهو رواية عن عِكْرِمَة، ومجاهد، وكذا قال قتادة أيضا: كنا نُحَدِّث أنه المُوقَر الذي لا شوك فيه.
والظاهر أن المراد هذا وهذا فإن سدر الدنيا كثير الشوك قليل الثمر، وفي الآخرة على عكس من هذا لا شوك فيه، وفيه الثمر الكثير الذي قد أثقل أصله، كما قال الحافظ أبو بكر بن سلمان النجّاد.
حدثنا محمد (3) بن محمد هو البغوي، حدثني حمزة بن عباس (4) ، حدثنا عبد الله بن عثمان، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا صفوان بن عمرو، عن سليم بن عامر، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم؛ قال: أقبل أعرابي يومًا فقال: يا رسول الله، ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما هي؟". قال: السِّدر، فإن له شوكًا موذيًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس الله يقول: { فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ } ، خَضَد الله شوكه، فجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها لتنبت ثمرًا تَفَتَّق الثمرةُ منها عن اثنين (5) وسبعين لونًا من طعام، ما فيها لون يشبه الآخر" (6) .
طريق أخرى: قال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا محمد بن المبارك، حدثنا يحيى بن حمزة، حدثني ثور بن يزيد، حدثني حبيب بن عبيد، عن عُتْبة بن عبد السلمي
__________
(1) في م: "قبيحا".
(2) في أ: "وكيف حالهم".
(3) في أ: "وحدثنا عبد الله".
(4) في م، أ: "بن العباس".
(5) في أ: "عن مائتي".
(6) ورواه الحاكم في المستدرك (2/476) من طريق الربيع، عن بشر بن بكر عن صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر عن أبي أمامة قال: كان أصحاب رسول الله فذكر مثله، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه".

قال: كنت جالسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي فقال: يا رسول الله، أسمعك تذكر في الجنة شجرة لا أعلم شجرة أكثر شوكًا منها؟ يعني: الطلح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل خُصْوَة التيس الملبود، فيها سبعون لونًا من الطعام، لا يشبه لون آخر" (1) .
وقوله: { وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ } : الطلح: شجر عظام يكون بأرض الحجاز، من شجر العضَاه، واحدته طلحة، وهو شجر كثير الشوك، وأنشد ابن جرير لبعض الحداة (2) :
بَشَّرَهَا دَليلها وقالا ... غدًا تَرينَ الطَّلحَ والجبَالا ...
وقال مجاهد: { مَنْضُودٍ } أي: متراكم الثمر، يذكر بذلك قريشًا؛ لأنهم كانوا يعجبون من وَجّ، وظلاله من طلح وسدر.
وقال السُّدّي: { مَنْضُودٍ } : مصفوف. قال ابن عباس: يشبه طلح الدنيا، ولكن له ثمر أحلى من العسل.
قال الجوهري: والطلح لغة في الطلع.
قلت: وقد روى ابن أبي حاتم من حديث الحسن بن سعد، عن شيخ من همدان قال: سمعت عليًّا يقول: هذا الحرف في { وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ } قال: طلع منضود، فعلى هذا يكون هذا من صفة السدر، فكأنه وصفه بأنه مخضود وهو الذي لا شوك له، وأن طلعه منضود، وهو كثرة ثمره، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو معاوية، عن إدريس، عن جعفر بن إياس، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد: { وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ } قال: الموز. قال: وروي عن ابن عباس، وأبي هريرة، والحسن، وعِكْرِمَة، وقسامة بن زهير، وقتادة، وأبي حَزْرَة، مثل ذلك، وبه قال مجاهد وابن زيد -وزاد فقال: أهل اليمن يسمون الموز الطلح. ولم يحك ابن جرير غير هذا القول (3) .
وقوله: { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } : قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة -يبلُغُ به النبي صلى الله عليه وسلم-قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، اقرؤوا إن شئتم: { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } .
ورواه مسلم من حديث الأعرج، به (4) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا سُرَيج، حدثنا فُلَيح، عن هلال بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة، اقرؤوا إن شئتم: { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } .
__________
(1) البعث لابن أبي داود برقم (69) ورواه الطبراني في مسند الشاميين برقم (492) وعنه أبو نعيم في الحلية (6/103) عن أبي زرعة عن أبي مسهر عن يحيى بن حمزة به، وقال الهيثمي في المجمع (10/414): "رجاله رجال الصحيح".
(2) تفسير الطبري (27/104).
(3) تفسير الطبري (27/104).
(4) صحيح البخاري برقم (4881) وصحيح مسلم برقم (2826).

وكذا رواه البخاري، عن محمد بن سِنَان (1) ، عن فُلَيح به (2) ، وكذا رواه عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن هَمَّام، عن أبي هريرة (3) . وكذا رواه حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة (4) ، والليث بن سعد، عن سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبيه، عن أبي هريرة (5) ، وعوف، عن ابن سيرين، عن أبي هُرَيرة [به] (6) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا حدثنا شعبة، سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هُرَيرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين، أو مائة سنة، هي شجرة الخلد" (7) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا يزيد بن هارون، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله قال: "في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها، واقرؤوا إن شئتم: { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } .
إسناده جيد، ولم يخرجوه (8) . وهكذا رواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن عبدة وعبد الرحيم، عن محمد بن عمرو، به. وقد رواه الترمذي، من حديث عبد الرحيم بن سليمان، به (9) .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مِهْرَان، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن زياد -مولى بني مخزوم-عن أبي هريرة قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة، اقرؤوا إن شئتم: { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } . فبلغ ذلك كعبًا فقال: صدق، والذي أنزل التوراة على موسى والفرقان على محمد، لو أن رجلا ركب حِقَّة أو جَذَعة، ثم دار حول (10) تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هَرَمًا، إن الله غرسها بيده ونفخ فيها من روحه، وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة، وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة (11) .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا محمد بن مِنْهَال الضرير، حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } ، قال: "في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها".
وكذا رواه البخاري، عن روح بن عبد المؤمن، عن يزيد بن زُرَيع (12) ، وهكذا رواه أبو داود
__________
(1) في هـ: "محمد بن شيبان" والمثبت من م، أ، وصحيح البخاري.
(2) المسند (2/482) وصحيح البخاري برقم (3252).
(3) المصنف لعبد الرزاق برقم (20877).
(4) رواه أحمد في المسند (2/469).
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (2826).
(6) زيادة من م.
(7) المسند (2/445).
(8) رواه ابن ماجة في السنن برقم (4335) من طريق عبد الرحمن بن عثمان عن محمد بن عمرو به مثله.
(9) تفسير الطبري (27/105) وسنن الترمذي برقم (3292).
(10) في م: "بأعلى" وفي أ: "بأصل".
(11) تفسير الطبري (27/105).
(12) صحيح البخاري برقم (3251).

الطيالسي، عن عمران بن دَاوَر القطان، عن قتادة به. وكذا رواه مَعْمَر، وأبو هلال، عن قتادة، به. وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وسهل بن سعد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المُضَمَّر السريع مائة عام ما يقطعها" (1) .
فهذا حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل متواتر مقطوع بصحته عند أئمة الحديث النقاد، لتعدد طرقه، وقوة أسانيده، وثقة رجاله.
وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا أبو كُرَيْبَ، حدثنا أبو بكر، حدثنا أبو حُصَين قال: كنا على باب في موضع، ومعنا أبو صالح وشقيق -يعني: الضبي-فحدث أبو صالح قال: حدثني أبو هُرَيْرَة قال: إن في الجنة شجرةً يسير الراكب في ظلها سبعين عامًا. قال أبو صالح: أتكَذّب أبا هريرة؟ قال: ما أكذّب أبا هريرة، ولكني أكذِّبك أنت. فشق ذلك على القراء يومئذ (2) .
قلت: فقد أبطل من يكذب بهذا الحديث، مع ثبوته وصحته ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الترمذي :حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا زياد بن الحسن بن الفُرَات القَزَّاز، عن أبيه، عن جده، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما في الجنة شجرة إلا ساقها من ذهب". ثم قال: حسن غريب (3) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أبي الربيع، حدثنا أبو عامر العَقَدي، عن زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال: الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها، قدر ما يسير الراكب في نواحيها مائة عام. قال: فيخرج إليها أهل الجنة؛ أهل الغرف وغيرهم، فيتحدثون في ظلها. قال: فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا، فيرسل الله ريحًا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا.
هذا أثر غريب وإسناده جيد قَويّ حسن.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن (4) يمان، حدثنا سفيان، حدثنا أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون في قوله: { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } قال: سبعون ألف سنة. وكذا رواه ابن جرير، عن بُنْدَار، عن ابن مهدي، عن سفيان، مثله. ثم قال ابن جرير:
حدثنا ابن حميد، حدثنا مِهْرَان، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون: { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } قال: خمسمائة ألف سنة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا حصين بن نافع، عن الحسن في قوله الله تعالى: { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } قال: في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6552، 6553) وصحيح مسلم برقم (2827، 2828).
(2) تفسير الطبري (27/106).
(3) سنن الترمذي برقم (2525).
(4) في أ: "حدثنا أبو".

وقال عوف عن الحسن: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها". رواه ابن جرير (1) .
وقال شبيب عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس: في الجنة شَجَر لا يحمل، يُستظَلُّ به. رواه ابن أبي حاتم.
وقال الضحاك، والسُّدِّيّ، وأبو حَرْزَةَ في قوله: { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } لا ينقطع، ليس فيها شمس ولا حر، مثل قبل طلوع الفجر.
وقال ابن مسعود: الجنة سَجْسَج، كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
وقد تقدمت الآيات كقوله: { وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا } [النساء: 57]، وقوله: { أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا } [الرعد:35]، وقوله: { فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ } [المرسلات:41] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: { وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ } قال الثوري: [يعني] (2) يجري في غير أخدود.
وقد تقدم الكلام عند (3) تفسير قوله تعالى: { فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ } الآية [محمد: 15]، بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله: { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ . لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ } أي: وعندهم من الفواكه الكثيرة المتنوعة في الألوان ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } [البقرة: 25] أي: يشبه الشكلُ الشكلَ، ولكن الطعم غيرُ الطعم. وفي الصحيحين في ذكر سدرة المنتهى قال: "فإذا ورقها كآذان الفيلة ونبقها مثل قلالَ هجر" (4) .
وفيهما أيضًا من حديث مالك، عن زيد، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس قال: خُسِفَت الشمس، فصلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، فذكر الصلاة. وفيه: قالوا: يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئًا في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت (5) . قال: "إني رأيت الجنة، فتناولت منها عنقودًا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا" (6) .
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خَيْثَمة، حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا عبيد الله، حدثنا ابن (7) عقيل، عن جابر قال: بينا نحن في صلاة الظهر، إذ تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدمنا معه، ثم تناول شيئًا ليأخذه ثم تأخر، فلما قضى الصلاة قال له أبيّ بن كعب: يا رسول الله، صنعتَ اليومَ
__________
(1) تفسير الطبري (27/105).
(2) زيادة من م، أ.
(3) في م، أ: "على".
(4) صحيح البخاري برقم (3207) وصحيح مسلم برقم (162) من حديث أنس رضي الله عنه.
(5) في أ: "تكفكفت".
(6) صحيح البخاري برقم (1052) وصحيح مسلم برقم (907).
(7) في م، أ: "حدثنا أبو".

في الصلاة شيئًا ما كنت تصنعه؟ قال: "إنه عُرِضَتْ علَيَّ الجنة، وما فيها من الزَّهْرَة والنُّضْرَة، فتناولت منها قِطْفًا من عنب لآتيكم به، فحِيلَ بيني وبينه، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه" (1) .
وروى مسلم، من حديث أبي الزبير، عن جابر، نحوه (2) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن بحر، حدثنا هشام بن يوسف، أخبرنا مَعْمَر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عامر بن زيد البَكَالي: أنه سمع عتبة بن عبد السلمي يقول: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الحوض وذكر الجنة، ثم قال (3) الأعرابي: فيها فاكهة؟ قال: "نعم، وفيها شجرة تدعى طوبى" فذكر شيئًا لا أدري ما هو، قال: أي شجر أرضنا تشبه؟ قال: "ليست تشبه شيئا من شجر أرضك". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتيتَ الشام؟" قال: لا. قال: "تشبه شجرة بالشام تدعى الجَوزة، تنبت على ساق واحد، وينفرش أعلاها". قال: ما عظم أصلها؟ قال: "لو ارتحلت جَذعَة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرمًا". قال: فيها عنب؟ قال: "نعم". قال: فما عظم العنقود؟ قال: "مسيرة شهر للغراب الأبقع، ولا يفتر". قال: فما عظَم الحَبَّة؟ قال: "هل ذبح أبوك تيسًا من غنمه قط عظيمًا؟" قال: نعم. قال: "فسلخ إهابه فأعطاه أمك، فقال: اتخذي لنا منه دلوًا؟" قال: نعم. قال الأعرابي: فإن تلك الحبة لتشبعني وأهل بيتي؟ قال: "نعم وعامَّة عشيرتك" (4) .
وقوله: { لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ } أي: لا تنقطع شتاء ولا صيفًا، بل أكلها دائم مستمر أبدًا، مهما طلبوا وجدوا، لا يمتنع عليهم بقدرة الله شيء.
قال قتادة: لا يمنعهم من تناولها عودٌ ولا شوكٌ ولا بُعدٌ. وقد تقدم في الحديث: "إذا تناول الرجل الثمرة عادت مكانها أخرى".
وقوله: { وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ } أي: عالية وطيئة ناعمة.
قال النسائي وأبو عيسى الترمذي: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا رِشْدِِين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ } قال: "ارتفاعها كما بين السماء والأرض، ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام" (5) .
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه، إلا من حديث رشدين بن سعد. قال: وقال بعض أهل العلم: معنى هذا الحديث: ارتفاع الفرش في الدرجات، وبعد ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض.
__________
(1) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية: 35 من سورة الرعد.
(2) تقدم الحديث في الموضع السابق.
(3) في م: "فقال".
(4) المسند (4/184).
(5) سنن الترمذي برقم (2540) ووقع فيه: "هذا حديث غريب لا نعرفه" ليس فيه: "حسن" وكذا وقع في تحفة الأشراف.

هكذا قال: إنه لا يعرف هذا إلا من رواية رشدين بن سعد، وهو المصري، وهو ضعيف. وهكذا رواه أبو جعفر بن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن رشدين (1) . ثم رواه هو وابن أبي حاتم، كلاهما عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، فذكره. وكذا رواه ابن أبي حاتم أيضًا عن نُعَيم بن حماد، عن ابن وهب. وأخرجه الضياء في صفة الجنة من حديث حرملة عن ابن وهب، به مثله. ورواه الإمام أحمد عن حسن بن موسى، عن ابن لَهِيعَة، حدثنا دراج، فذكره (2) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو معاوية، عن جُوَيْبر، عن أبي سهل -يعني: كثير بن زياد-عن الحسن:: { وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ } قال: ارتفاع فراش الرجل من أهل الجنة مسيرة ثمانين سنة.
وقوله: { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً . فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا . عُرُبًا أَتْرَابًا . لأصْحَابِ الْيَمِينِ } جرى الضمير على غير مذكور. لكن لما دل السياق، وهو ذكر الفرش على النساء اللاتي يضاجَعن فيها، اكتفى بذلك عن ذكرهن، وعاد الضمير عليهن، كما في قوله: { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ . فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } [ص:31، 32] يعني: الشمس، على المشهور من قول المفسرين.
قال الأخفش في قوله: { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً } أضمرهن ولم يذكرهن قبل ذلك. وقال أبو عبيدة: ذكرن في قوله: { وَحُورٌ عِينٌ . كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } [الواقعة:22، 23] .
فقوله: { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ } أي: أعدناهن في النشأة الآخرة بعدما كُنَّ عجائز (3) رُمْصًا، صرن أبكارًا عربًا، أي: بعد الثّيوبة عُدْن أبكارًا عُرُبًا، أي: متحببات إلى أزواجهن بالحلاوة والظرافة والملاحة.
وقال بعضهم: { عُرُبًا } أي: غَنِجات.
قال موسى بن عُبَيدة الرَّبَذِي، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً } قال: "نساء عجائز كُنّ في الدنيا عُمْشًا رُمْصًا". رواه الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم. ثم قال الترمذي: غريب، وموسى ويزيد ضعيفا (4) (5) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي، حدثنا آدم -يعني: ابن أبي إياس-حدثنا شيبان، عن جابر، عن يزيد بن مُرَّة، عن سلمة بن يزيد قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله: { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً } يعني: "الثيب والأبكار اللاتي كُنَّ في الدنيا" (6) .
__________
(1) تفسير الطبري (27/106).
(2) المسند (3/75).
(3) في أ: "ماكن عجاف".
(4) في أ: "ضعيفان".
(5) سنن الترمذي برقم (3296) وتفسير الطبري (27/107).
(6) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (7/40) وأبو نعيم في صفة الجنة برقم (389) من طريق شيبان به، وجابر بن يزيد ضعيف.

وقال عبد بن حُمَيد: حدثنا مصعب بن المقدام، حدثنا المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: أتت عجوز فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة. فقال: "يا أم فلان، إن الجنة لا تدخلها عجوز". قال: فَوَلَّت تبكي، قال: "أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً . فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا }
وهكذا رواه الترمذي في الشمائل عن عبد بن حميد (1) .
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا بكر بن سهل الدمياطي، حدثنا عمرو بن هاشم البيروتي، حدثنا سليمان بن أبي كريمة، عن هشام بن حسان، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن قول الله: { وَحُورٌ عِينٌ } [الواقعة: 22]، قال: "حور: بيض، عين: ضخام العيون، شُفْر الحوراء بمنزلة جناح النسر". قلت: أخبرني عن قوله: { كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } [الواقعة: 23]، (2) قال: "صفاؤهن صفاءُ الدر الذي في الأصداف، الذي لم تَمَسّه الأيدي". قلت: أخبرني عن قوله: { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [الرحمن:70]. قال: "خَيّراتُ الأخلاق، حِسان الوجوه". قلت: أخبرني عن قوله: { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ } [الصافات: 49]، قال: "رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القشر، وهو: الغِرْقئُ". قلت: يا رسول الله، أخبرني عن قوله: { عُرُبًا أَتْرَابًا } . قال: "هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز رُمْصًا شُمطًا، خلقهن الله بعد الكبر، فجعلهن عذارى عُرُبًا متعشقات محببات، أترابًا على ميلاد واحد". قلت: يا رسول الله، نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: "بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين، كفضل الظّهارة على البطانة". قلت: يا رسول الله، وبم ذاك؟ قال: "بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله، عز وجل، ألبس الله وجوههن النور، وأجسادهن الحرير، بيض الألوان، خضر الثياب، صفر الحلي، مَجَامِرُهُنَّ الدُّرّ، وأمشاطهن الذهب، يقلن: نحن الخالدات فلا نموت أبدًا، ونحن الناعمات فلا نبأس أبدًا، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدًا، ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدًا، طوبى لمن كُنَّا له وكان لنا". قلت: يا رسول الله، المرأة منا تتزوج زوجين والثلاثة والأربعة، ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها، من يكون زوجها؟ قال: "يا أم سلمة، إنها تُخَيَّر فتختار أحسنهم خلقًا، فتقول: يا رب، إن هذا كان أحسن خلقًا معي فزوجنيه، يا أم سلمة (3) ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة" (4) .
وفي حديث الصور الطويل المشهور (5) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفع للمؤمنين كلهم في دخول الجنة فيقول الله: قد شفعتك وأذنت لهم في دخولها. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والذي بعثني بالحق، ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم،
__________
(1) الشمائل المحمدية للترمذي برقم (230).
(2) في أ: "كأنهن" وهو خطأ.
(3) في أ: "يا أم سليم".
(4) المعجم الكبير (23/368) وقال الهيثمي في المجمع (7/119): "فيه إسماعيل بن أبي كريمة ضعفه أبو حاتم وابن عدي".
(5) حديث الصور مضى عند تفسير الآية: 73 من سورة الأنعام.

فيدخل الرجل منهم على ثنتين وسبعين زوجة، سبعين مما ينشئ الله، وثنتين من ولد (1) آدم لهما فضل على من أنشأ الله، بعبادتهما الله في الدنيا، يدخل على الأولى منهما في غرفة من ياقوتة، على سرير من ذهب مُكَلَّل باللؤلؤ، عليه سبعون زوجًا من سُنْدُس وإستبرق وإنه ليضع يده بين كتفيها، ثم ينظر إلى يده من صدرها من وراء ثيابها وجلدها ولحمها، وإنه لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت، كبده لها مرآة -يعني: وكبدها له مرآة-فبينما هو عندها لا يملها ولا تمله، ولا يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء، ما يفتر ذَكَرُه، ولا تشتكي قُبُلها إلا أنه لا مني ولا مَنيَّة، فبينما هو كذلك إذ نودي: إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل، إلا أن لك أزواجًا غيرها، فيخرج، فيأتيهن واحدة واحدة (2) ، كلما جاء واحدة قالت: والله ما في الجنة شيء أحسن منك، وما في الجنة شيء أحب إليّ منك".
وقال عبد الله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج، عن ابن حُجَيرة (3) ، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال له: أَنَطأ في الجنة؟ قال: "نعم، والذي نفسي بيده دَحْمًا دحمًا، فإذا قام عنها رَجَعتْ مُطهَّرة بكرًا" (4) .
وقال الطبراني: حدثنا إبراهيم بن جابر الفقيه البغدادي، حدثنا محمد بن عبد الملك الدقيق الواسطي، حدثنا معلى بن عبد الرحمن الواسطي، حدثنا شريك، عن عاصم الأحول، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عُدن أبكارًا" (5) . وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا عِمْران، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في النساء". قلت: يا رسول الله، ويطيق ذلك؟ قال: "يعطى قوة مائة".
ورواه الترمذي من حديث أبي داود وقال: صحيح غريب (6) .
وروى أبو القاسم الطبراني من حديث حسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ قال: "إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء" (7) .
قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي: هذا الحديث عندي على شرط الصحيح، والله أعلم.
وقوله: { عُرُبًا } قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: يعني متحببات إلى أزواجهن، ألم تر إلى الناقة الضبعة، هي كذلك.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: العُرُب: العواشق لأزواجهن، وأزواجهن لهن عاشقون. وكذا قال عبد الله بن سَرْجس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو العالية، ويحيى بن أبي كثير، وعطية،
__________
(1) في م: "من ابن".
(2) في م: "واحدة بعد واحدة".
(3) في أ: "عن ابن حجرة".
(4) رواه ابن حبان في صحيحه برقم (2633) "موارد" وأبو نعيم في صفة الجنة برقم (393) من طريق ابن وهب به، ودراج متكلم فيه.
(5) المعجم الصغير (1/91) وفيه معلى بن عبد الرحمن وهو كذاب.
(6) مسند الطيالسي برقم (2012) وسنن الترمذي برقم (2536).
(7) المعجم الصغير (2/12،13).

والحسن، وقتادة، والضحاك، وغيرهم.
وقال ثور بن زيد، عن عِكْرِمَة قال: سئل ابن عباس عن قوله: { عُرُبًا } قال: هي الملِقَةُ لزوجها.
وقال شعبة، عن سِمَاك، عن عكرمة: هي الغَنِجة.
وقال الأجلح بن عبد الله، عن عكرمة: هي الشَّكلة.
وقال صالح (1) بن حَيَّان، عن عبد الله بن بُرَيْدَة في قوله: { عُرُبًا } قال: الشكلة بلغة أهل مكة، والغنجة (2) بلغة أهل المدينة.
وقال تميم بن حذلم: هي حسن التَّبَعل.
وقال زيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن: العُرُب: حسنات الكلام.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن سهل بن عثمان العسكري: حدثنا أبو علي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { عُرُبًا } قال: "كلامهن عربي".
وقوله: { أَتْرَابًا } قال الضحاك، عن ابن عباس يعني: في سن واحدة، ثلاث وثلاثين سنة.
وقال مجاهد: الأتراب: المستويات. وفي رواية عنه: الأمثال. وقال عطية: الأقران. وقال السدي: { أَتْرَابًا } أي: في الأخلاق المتواخيات بينهن، ليس بينهن تباغض ولا تحاسد، يعني: لا كما كن ضرائر [في الدنيا] (3) ضرائر متعاديات.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن عبد الله بن الكهف، عن الحسن ومحمد: { عُرُبًا أَتْرَابًا } قالا المستويات الأسنان، يأتلفن جميعًا، ويلعبن جميعًا.
وقد روى أبو عيسى الترمذي، عن أحمد بن منيع، عن أبي معاوية، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن علي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لمجتمعًا للحور العين، يرفعن أصواتًا لم تسمع الخلائق بمثلها، يقلن (4) نحن الخالدات فلا نبِيد، ونحن الناعمات فلا نبأس، ونحن الراضيات فلا نسخط، طوبى لمن كان لنا وكُنَّا له". ثم قال: هذا حديث غريب (5) .
وقال الحافظ أبو (6) يعلى: حدثنا أبو خَيْثَمة، حدثنا إسماعيل بن عمر، حدثنا ابن أبي ذئب، عن فلان بن عبد الله بن رافع، عن بعض ولد أنس بن مالك، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الحور العين ليغنين (7) في الجنة، يقلن نحن خَيِّرات حِسان، خُبِّئنا لأزواج كرام" (8) .
__________
(1) في أ: "أبو صالح".
(2) في م: "والمفتوجة".
(3) زيادة من م.
(4) في م، أ: "قال: قلن".
(5) سنن لبترمذي برقم (2564).
(6) في هـ: "ابن" والصواب ما أثبتناه من م، أ.
(7) في م: "ليتغنين".
(8) ذكره الحافظ بن حجر في المطالب العالية (4/402) وعزاه لأبي يعلى، ونقل المحقق قول البصيري: "ورواه أبو يعلى وفيه راو لم يسم". ورواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة برقم (254): حدثنا أبو خيثمة، حدثنا إسماعيل بن عمر، حدثنا ابن أبي ذئب عن ابن عبد الله بن رافع عن بعض ولد أنس بن مالك، عن أنس بن مالك به.

قلت: إسماعيل بن عُمَر هذا هو أبو المنذر الواسطي أحد الثقات الأثبات. وقد روى هذا الحديث الإمام عبد الرحيم بن إبراهيم الملقب بدُحَيْم، عن ابن أبي فُدَيْك، عن ابن أبي ذئب، عن عون بن الخطاب بن عبد الله بن رافع، عن ابنٍ لأنس، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحور العين يغنين في الجنة: نحن الجوار الحسان، خلقنا لأزواج كرام" (1) .
وقوله: { لأصْحَابِ الْيَمِينِ } أي: خلقنا لأصحاب اليمين، أو: ادخرن لأصحاب اليمين، أو: زوجن لأصحاب اليمين. والأظهر أنه متعلق بقوله: { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً . فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا . عُرُبًا أَتْرَابًا . لأصْحَابِ الْيَمِينِ } فتقديره: أنشأناهن لأصحاب اليمين. وهذا توجيه ابن جرير (2) .
رُوِي عن أبي سليمان الدَّاراني -رحمه الله-قال: صليتُ ليلة، ثم جلست أدعو، وكان البردُ شديدًا، فجعلت أدعو بيد واحدة، فأخذتني عيني فنمت، فرأيت حوراء لم ير مثلها وهي تقول: يا أبا سليمان، أتدعو بيد واحدة وأنا أُغذَّى لك في النعيم من خمسمائة سنة!
قلت: ويحتمل أن يكون قوله: { لأصْحَابِ الْيَمِينِ } متعلقًا بما قبله، وهو قوله: { أَتْرَابًا لأصْحَابِ الْيَمِينِ } أي: في أسنانهم. كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، من حديث جرير، عن عُمَارة بن القعقاع، عن أبي زُرْعَة، عن أبي هُرَيرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دُرّيّ في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يتمخطون، أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألُوّة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خَلْق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعًا في السماء" (3) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون وعفان قالا حدثنا حماد بن سلمة -وروى الطبراني، واللفظ له، من حديث حماد بن سلمة-عن علي بن زيد بن جُدْعَان، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ جُردا مُردًا بيضًا جِعادًا مُكَحَّلين، أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين، وهم على خَلْق آدم ستون ذراعًا في عرض سبعة أذرع" (4) .
وروى الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي، عن عمران القطان، عن قتادة، عن شَهْر بن حَوْشب، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن مُعَاذ بن جَبَل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ جُردًا مُردًا مكحلين أبناء ثلاثين، أو ثلاث وثلاثين سنة". ثم قال: حسن غريب (5)
__________
(1) ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (432) من طريق دحيم به، ورواه البيهقي في البعث برقم (420) من طريق ابن عبد الحكم، وابن أبي داود في البعث برقم (75) عن كثير بن عبيد كلاهما عن ابن أبي فديك به نحوه، ورواه الطبراني في الأوسط برقم (4887) "مجمع البحرين" من طريق الحسن بن داود عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب، عن عون بن الخطاب عن أنس به نحوه. قال المنذري في الترغيب والترهيب (4/226): "رواه ابن أبي الدنيا والطبراني وإسناده مقارب، ورواه البيهقي عن ابن لأنس لم يسمه عن أنس" وأشار البخاري إلى اختلاف فيه في التاريخ الكبير (7/16).
(2) تفسير الطبري (27/109).
(3) صحيح البخاري برقم (3327) وصحيح مسلم برقم (2834).
(4) المسند (2/295) والمعجم الأوسط برقم (4894) "مجمع البحرين".
(5) سنن الترمذي برقم (2545).

وقال ابن وهب: أخبرنا عمرو بن الحارث أنّ دَرَّاجًا أبا السمح حَدَّثه عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير، يُرَدون بني ثلاث وثلاثين في الجنة، لا يزيدون عليها أبدًا، وكذلك أهل النار".
ورواه الترمذي عن سُوَيْد بن نصر، عن ابن المبارك، عن رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، به (1)
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا القاسم بن هاشم، حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا روَّاد بن الجراح العسقلاني، حدثنا الأوزاعي، عن هارون بن رئاب، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ على طول آدم ستين ذراعًا بذراع الملك! على حُسْن يوسف، وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة، وعلى لسان محمد، جُرْدٌ مُرْدٌ مُكَحَّلُون" (2) .
وقال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا محمود بن خالد وعباس بن الوليد قالا حدثنا عمر عن الأوزاعي، عن هارون بن رئاب، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُبعث (3) أهل الجنة على صورة آدم في ميلاد ثلاثٍ وثلاثين، جُردًا مُردًا مكحلين، ثم يذهب بهم إلى شجرة في الجنة فيكسون منها، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم" (4) .
وقوله: { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ . وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ } أي: جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا محمد بن بكار، حدثنا سعيد بن بَشير، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حُصَين، عن عبد الله بن مسعود -قال: وكان بعضهم يأخذ عن بعض-قال: أكرينا ذات ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم غدونا عليه، فقال: "عُرضت عليَّ الأنبياء وأتباعها بأممها، فيمر علي النبي، والنبي في العصابة، والنبي في الثلاثة، والنبي ليس معه أحد -وتلا قتادة هذه الآية: { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ } [هود: 78] -قال: حتى مرَّ عليَّ موسى بن عمران في كبكبة من بني إسرائيل". قال: "قلتُ: ربي من هذا؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران ومن معه (5) من بني إسرائيل". قال: "قلت: رب فأين أمتي؟ قال: انظر عن يمينك في الظراب (6) . قال: "فإذا وجوه الرجال". قال: "قال: أرضيت؟" قال: قلت: "قد رضيت، رب". قال: انظر إلى الأفق عن يسارك فإذا وجوه الرجال. قال: أرضيت؟ قلت: "رضيت، رب". قال: فإن مع هؤلاء سبعين ألفا، يدخلون الجنة بغير حساب". قال: وأنشأ عُكَّاشة بن مُحْصَن من بني أسد -قال سعيد: وكان بَدْريًّا-قال: يا نبي الله، ادع الله أن يجعلني منهم. قال: فقال: "اللهم اجعله منهم". قال: أنشأ (7) رجل آخر، قال: يا نبي الله، ادع الله
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2562) ورواه من طريق ابن وهب وأبو نعيم في صفة الجنة برقم (259).
(2) صفة الجنة لابن أبي الدنيا برقم (215).
(3) في أ: "يدخل".
(4) البعث لابن أبي داود برقم (64) وانظر كلام المحقق الفاضل في سماع هارون بن رئاب عن أنس.
(5) في م: "ومن تبعه".
(6) في م، أ: "الضراب".
(7) في م: "ثم أنشأ".

وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)

أن يجعلني منهم. فقال: "سبقك بها عكاشة" قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإن استطعتم -فداكم أبي وأمي-أن تكونوا من أصحاب السبعين فافعلوا وإلا فكونوا (1) من أصحاب الظراب (2) ، وإلا فكونوا من أصحاب الأفق، فإني قد رأيت ناسًا كثيرًا قد تأشَّبوا حوله" (3) . ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة". فكبرنا، ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة". قال: فكبرنا، قال: "إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة". قال: فكبرنا. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ . وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ } قال: فقلنا بيننا: من هؤلاء السبعون ألفا؟ فقلنا: هم الذين ولدوا في الإسلام، ولم يشركوا. قال: فبلغه ذلك فقال: "بل هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون".
وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة، به نحوه (4) . وهذا الحديث له طرق كثيرة من غير هذا الوجه في الصحاح وغيرها.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مِهْرَان، حدثنا سفيان، عن أبان بن أبي عياش، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ . وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ } قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هُمَا جميعًا من أمتي" (5) .
{ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) } .
__________
(1) في م: "ولا تكونوا".
(2) في أ: "الضراب".
(3) في م: "حوالهم".
(4) تفسير الطبري (27/109).
(5) تفسير الطبري (27/110) ورواه ابن عدي في الكامل (1/387) من طريق محمد بن كثير، عن سفيان الثوري عن أبان بن أبي عياش به، وقال ابن عدي: "أبان بن أبي عياش له روايات غير ما ذكرت وعامة ما يرويه لا يتابع عليه".

ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)

{ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نزلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) } .
لما (1) ذكر تعالى حال أصحاب اليمين، عطف عليهم بذكر أصحاب الشمال، فقال: { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ } أي: أي شيء هم فيه أصحاب الشمال؟ ثم فَسَّر ذلك فقال: { فِي سَمُومٍ } وهو: الهواء الحار { وَحَمِيمٍ } وهو: الماء الحار.
{ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ } قال ابن عباس: ظل الدخان. وكذا قال مجاهد، وعِكْرِمَة، وأبو صالح، وقتادة، والسُّدِّيّ، وغيرهم. وهذه كقوله تعالى: { انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ . انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ . لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ . إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ . كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات: 29، 34] ،
__________
(1) في م: "ولما".

ولهذا قال هاهنا: { وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ } وهو الدخان الأسود { لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ } أي: ليس طيب الهبوب ولا حَسَن المنظر، كما قال الحسن وقتادة: { وَلا كَرِيمٍ } أي: ولا كريم المنظر. وقال الضحاك: كل شراب ليس بعذب فليس بكريم.
وقال ابن جرير: العرب تتبع هذه اللفظة في النفي، فيقولون: "هذا الطعام ليس بطيب ولا كريم، هذا اللحم ليس بسمين ولا كريم، وهذه الدار ليست بنظيفة ولا كريمة".
ثم ذكر تعالى استحقاقهم لذلك، فقال تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } أي: كانوا في الدار الدنيا منعمين مقبلين على لذات أنفسهم، لا يلوون على ما جاءتهم به الرسل.
{ وَكَانُوا يُصِرُّونَ } أي: يُصَمِّمون ولا ينوون توبة { عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ } وهو الكفر بالله، وجعل الأوثان والأنداد أربابًا من دون الله.
قال ابن عباس: { الْحِنْثِ الْعَظِيمِ } الشرك. وكذا قال مجاهد، وعِكْرِمَة، والضحاك، وقتادة، والسُّدِّيّ، وغيرهم.
وقال الشعبي: هو اليمين الغموس.
{ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ . أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ } ؟ يعني: أنهم يقولون ذلك مكذبين به مستبعدين لوقوعه، قال الله تعالى: { قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ . لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } أي: أخبرهم يا محمد أن الأولين والآخرين من بني آدم سيجمعون إلى عَرَصات القيامة، لا نغادر منهم أحدًا، كما قال: { ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ . وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ . يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [هود: 103-105] . ولهذا قال هاهنا: { لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } أي: هو موقت بوقت مُحَدَّد، لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص.
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ . لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ . فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } : وذلك أنهم يقبضون ويُسَجَرون حتى يأكلوا من شجر الزقوم، حتى يملؤوا منها بطونهم، { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ . فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ } وهي الإبل العطاش، واحدها أهيم، والأنثى هيماء، ويقال: هائم وهائمة.
قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، وعكرمة: الهِيم: الإبل العطاش الظماء.
وعن عِكْرِمَة أنه قال: الهيم: الإبل المراض، تَمص الماء مَصًّا ولا تَرْوَى.
وقال السدي: الهيم: داء يأخذ الإبل فلا تَرْوَى أبدًا حتى تموت، فكذلك أهل جهنم لا يروون من الحميم أبدًا.

نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)

وعن خالد بن معدان: أنه كان يكره أن يشرب شُرْبَ الهيم عَبَّة واحدة من غير أن يتنفس ثلاثًا.
ثم قال تعالى: { هَذَا نزلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ } أي: هذا الذي وصفنا هو ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم، كما قال في حق المؤمنين: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نزلا } [الكهف: 107] أي: ضيافة وكرامة.
{ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) } .
يقول تعالى مُقررًا للمعاد (1) ، وردًّا على المكذبين به من أهل الزيغ والإلحاد، من الذين قالوا: { أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [الصافات: 16]، وقولهم ذلك صدر منهم على وجه التكذيب والاستبعاد، فقال: { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ } أي: نحن ابتدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا، أفليس الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى؛ فلهذا قال: { فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ } أي: فهلا تصدقون بالبعث! ثم قال مستدلا عليهم بقوله: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ . أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ } أي: أنتم تقرونه في الأرحام وتخلقونه فيها، أم الله الخالق لذلك؟
ثم قال: { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ } أي: صرفناه بينكم.
وقال الضحاك: ساوى فيه بين أهل السماء والأرض.
{ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي: وما نحن بعاجزين.
{ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ } أي: نغير خلقكم يوم القيامة، { وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ } أي: من الصفات والأحوال.
ثم قال: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ } أي: قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة -وهي البَداءة-قادر على النشأة الأخرى، وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى، وكما قال: { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27]، وقال: { أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } [مريم: 67]، وقال: { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ . وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ . قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس: 77-79]، وقال تعالى: { أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى . أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى . ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى . فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى . أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } ؟ [القيامة: 36-40].
__________
(1) في أ: "للعباد".

أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)

{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) }
يقول: { . أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ } ؟ وهو شق الأرض وإثارتها والبذر فيها، { أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ } أي: تنبتونه في الأرض { أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } أي: بل نحن الذين نُقِرُّه قراره وننبته في الأرض.
قال ابن جرير: وقد حدثني أحمد بن الوليد القرشي، حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجَرْمي، حدثنا مخلد بن الحسين، عن هشام، عن محمد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولن: زرعتُ، ولكن قل: حرثتُ" قال أبو هريرة: ألم تسمع إلى قوله: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ . أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } .
ورواه البزار، عن محمد بن عبد الرحيم، عن مسلم، الجميع به (1) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن عطاء، عن أبي عبد الرحمن: لا تقولوا: زرعنا ولكن قولوا: حرثنا.
وروي عن حُجْر المدَرِيّ أنه كان إذا قرأ: { أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } وأمثالها يقول: بل أنت يا رب.
وقوله: { لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا } أي: نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا، وأبقيناه لكم رحمة بكم، ولو نشاء لجعلناه حطامًا، أي: لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده، { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } . ثم فسر ذلك بقوله: { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ . بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي: لو جعلناه حطاما لظَلْتُم تفكهون في المقالة، تنوعون كلامكم، فتقولون تارة: { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } أي: لَمُلْقَون.
وقال مجاهد، وعكرمة: إنا لمولع بنا، وقال قتادة: معذبون. وتاره تقولون: بل نحن محرومون.
وقال مجاهد أيضا: { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } ملقون للشر، أي: بل نحن مُحَارَفون، قاله قتادة، أي: لا يثبت لنا مال، ولا ينتج لنا ربح.
__________
(1) تفسير الطبري (27/114) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1135) والبيهقي في السنن الكبرى (6/138) من طريق مسلم بن أبي مسلم الجرمي عن مخلد بن الحسين به نحوه وضعفه السيوطي في الدر المنثور (8/23) وأشار البيهقي إلى ضعفه فقال بعد أن ذكره من قول مجاهد: "وقد روى فيه حديث مرفوع غير قوي".

وقال مجاهد: { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي: مجدودون، يعني: لا حظ لنا.
قال ابن عباس، ومجاهد: { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } : تعجبون. وقال مجاهد أيضًا: { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } تفجعون وتحزنون على ما فاتكم من زرعكم.
وهذا يرجع إلى الأول، وهو التعجب من السبب الذي من أجله أصيبوا في مالهم. وهذا اختيار ابن جرير (1) .
وقال عكرمة: { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } تلاومون. وقال الحسن، وقتادة، والسدي: { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } تندمون. ومعناه إما على ما أنفقتم، أو على ما أسلفتم من الذنوب.
قال الكسائي (2) : تفكه من الأضداد، تقول العرب: تفكهت بمعنى تنعمت، وتفكهت بمعنى حزنت.
ثم قال تعالى: { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ . أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ } يعني: السحاب. قاله ابن عباس، ومجاهد وغير واحد. { . أَمْ نَحْنُ الْمُنزلُونَ } يقول: بل نحن المنزلون.
{ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا } أي: زُعاقًا مُرًّا لا يصلح لشرب ولا زرع، { فَلَوْلا تَشْكُرُونَ } أي: فهلا تشكرون نعمة الله عليكم في إنزاله المطر عليكم عذبًا زلالا! { لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ . يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 10، 11] .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عثمان بن سعيد بن مرة، حدثنا فُضَيل بن مرزوق، عن جابر، عن أبي جعفر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه إذا شرب الماء قال: "الحمد لله الذي سقانا عذبًا فراتًا برحمته، ولم يجعله ملحًا أجاجًا بذنوبنا" (3) .
ثم قال: { أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ } أي: تقدحون من الزناد وتستخرجونها (4) من أصلها.
{ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ } أي: بل نحن الذين جعلناها مودعة في موضعها، وللعرب شجرتان: إحداهما: المرخ، والأخرى: العَفَار، إذا أخذ منهما غصنان أخضران فحُك أحدهما بالآخر، تناثر من بينهما شرر النار.
وقوله: { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً } قال مجاهد، وقتادة: أي تُذَكّر النارَ الكبرى.
قال قتادة: ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا قوم، ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم". قالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية! قال: "قد ضُربت بالماء ضربتين -أو: مرتين-حتى يستنفع بها بنو آدم ويدنوا منها" (5) .
__________
(1) تفسير الطبري (27/115).
(2) في أ: "قال السدي".
(3) وهذا مرسل وعزاه الهندي في كنز العمال (7/111) إلى أبي نعيم في الحلية.
(4) في م: "وتستخرجون".
(5) رواه الطبري في تفسيره (27/117).

وهذا الذي أرسله قتادة رواه الإمام أحمد في مسنده، فقال:
حدثنا سفيان، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، وضربت بالبحر مرتين، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد" (1) .
وقال الإمام مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم". فقالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية فقال: "إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا".
رواه البخاري من حديث مالك، ومسلم، من حديث أبي الزناد (2) ، ورواه مسلم، من حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن همام، عن أبي هريرة، به (3) . وفي لفظ: "والذي نفسي بيده، لقد فُضِّلَت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها".
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عمرو الخلال، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا مَعْن بن عيسى القزاز، عن مالك، عن عمه أبي السهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم؟ لهي أشد سوادًا من [دخان] (4) ناركم هذه بسبعين ضعفًا" (5) .
قال الضياء المقدسي: وقد رواه ابن (6) مصعب عن مالك، ولم يرفعه، وهو عندي على شرط الصحيح.
وقوله: { وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ } قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والنضر بن عربي: معنى { لِلْمُقْوِينَ } المسافرين، واختاره ابن جرير، وقال: ومنه قولهم: "أقوت الدار إذا رحل أهلها".
وقال غيره: القيّ والقَوَاء: القفر الخالي البعيد من العمران.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المقوي هنا الجائع.
وقال ليث ابن أبي سليم، عن مجاهد: { وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ } للحاضر والمسافر، لكل طعام لا يصلحه إلا النار. وكذا روى سفيان، عن جابر الجعفي، عن مجاهد.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قوله: { لِلْمُقْوِينَ } المستمتعين، الناس أجمعين. وكذا ذكر عن عكرمة.
__________
(1) المسند (2/244).
(2) صحيح البخاري برقم (3265) وصحيح مسلم برقم (2843).
(3) صحيح مسلم برقم (2843).
(4) زيادة من المعجم الأوسط للطبراني.
(5) المعجم الأوسط برقم (4843) "مجمع البحرين".
(6) في م، أ: "وقد رواه أبو".

فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)

وهذا التفسير أعم من غيره، فإن الحاضر والبادي من غني وفقير الكل (1) محتاجون للطبخ والاصطلاء والإضاءة وغير ذلك من المنافع. ثم من لطف الله تعالى أن أودعها في الأحجار، وخالص الحديد بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه، فإذا احتاج إلى ذلك في منزله أخرج زنده وأورى، وأوقد ناره فأطبخ بها واصطلى، واشتوى واستأنس بها، وانتفع بها سائر الانتفاعات. فلهذا أفرد المسافرون وإن كان ذلك عامًّا في حق الناس كلهم. وقد يستدل له بما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي خِدَاش حَبَّان بن زَيد الشَّرعَبي الشَّامي، عن رجل من المهاجرين من قَرَن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمون شركاء في ثلاثة: النار والكلأ والماء" (2) .
وروى ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ لا يُمْنَعْنَ: الماء والكلأ والنار" (3) .
وله من حديث ابن عباس مرفوعًا مثل هذا وزيادة: "وثمنه حرام" (4) . ولكن في إسناده "عبد الله بن خِرَاش بن حَوْشب" وهو ضعيف، والله أعلم.
وقوله: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } أي: الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة الماء العذب الزلال البارد، ولو شاء لجعله ملحًا أجاجًا كالبحار المغرقة. وخلق النار المحرقة، وجعل ذلك مصلحة للعباد، وجعل هذه منفعة لهم في معاش دنياهم، وزاجرًا لهم في المعاد.
{ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) } .
__________
(1) في م، أ: "الجميع".
(2) المسند (5/364) وسنن أبي داود برقم (3477).
(3) سنن ابن ماجه برقم (2472).
(4) سنن ابن ماجه برقم (2472).

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)

{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) } .
قال جُوَيبر، عن الضحاك: إن الله لا يقسم بشيء من خلقه، ولكنه استفتاح يستفتح به كلامه.
وهذا القول ضعيف. والذي عليه الجمهور أنه قسم من الله عز وجل، يقسم بما شاء من خلقه، وهو دليل على عظمته. ثم قال بعض المفسرين: "لا" هاهنا زائدة، وتقديره: أقسم بمواقع النجوم. ورواه ابن جرير، عن سعيد بن جُبَيْر. ويكون جوابه: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } .
وقال آخرون: ليست "لا" زائدة لا معنى لها، بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسمًا به على منفي، كقول عائشة رضي الله عنها: "لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط" وهكذا هاهنا تقدير الكلام: "لا أقسم بمواقع النجوم ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة، بل هو قرآن كريم".

وقال ابن جرير: وقال بعض أهل العربية: معنى قوله: { فَلا أُقْسِمُ } فليس الأمر كما تقولون، ثم استأنف القسم بعد فقيل: أقسم.
واختلفوا في معنى قوله: { بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } ، فقال حكيم بن جُبَيْر، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس يعني: نجوم القرآن؛ فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا، ثم نزل مُفَرَّقًا (1) في السنين بعد. ثم قرأ ابن عباس هذه الآية.
وقال الضحاك عن ابن عباس: نزل القرآن جملة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السَّفَرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجَّمَته السَّفرة على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، فهو قوله: { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } نجوم القرآن.
وكذا قال عِكْرِمَة، ومجاهد، والسُّدِّيّ، وأبو حَزْرَة.
وقال مجاهد أيضًا: { بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } في السماء، ويقال: مطالعها ومشارقها. وكذا قال الحسن، وقتادة، وهو اختيار ابن جرير. وعن قتادة: مواقعها: منازلها. وعن الحسن أيضًا: أن المراد بذلك انتثارها يوم القيامة. وقال الضحاك: { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } يعني بذلك: الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا مُطِروا، قالوا: مطرنا بنوء كذا وكذا.
وقوله: { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } أي: وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم، لو تعلمون (2) عظمته لعظمتم المقسم به عليه، { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } أي: إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لكتاب عظيم. { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } أي: معظّم في كتاب معظم محفوظ موقر.
قال ابن جرير: حدثني إسماعيل بن موسى (3) ، أخبرنا شريك، عن حكيم -هو ابن جبير-عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } قال: الكتاب الذي في السماء.
وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس: { [ لا يَمَسُّهُ ] إِلا الْمُطَهَّرُونَ } (4) يعني: الملائكة. وكذا قال أنس، ومجاهد، وعِكْرِمَة، وسعيد بن جُبَيْر، والضحاك، وأبو الشعثاء جابر بن زيد، وأبو نَهِيك، والسُّدِّيّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، حدثنا معمر، عن قتادة: { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } قال: لا يمسه عند الله إلا المطهرون، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس، والمنافق الرجس. وقال: وهي في قراءة ابن مسعود: { مَا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } .
وقال أبو العالية: { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } ليس أنتم أصحاب الذنوب.
وقال ابن زيد: زَعَمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال: { وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ . وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ . إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [الشعراء: 210-212] .
__________
(1) في أ: "متفرقا".
(2) في أ: "لو علمتم".
(3) في م، أ: "موسى ابن إسماعيل".
(4) زيادة من م.

وهذا القول قول جيد، وهو لا يخرج عن الأقوال التي قبله.
وقال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به.
وقال آخرون: { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } أي: من الجنابة والحدث. قالوا: ولفظ الآية خبر ومعناها الطلب، قالوا: والمراد بالقرآن هاهنا المصحف، كما روى مسلم، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن يناله العدو (1) . واحتجوا في ذلك بما رواه الإمام مالك في موطئه، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزم: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: ألا يمس القرآن إلا طاهر (2) . وروى أبو داود في المراسيل، من حديث الزهري قال: قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ولا يمس القرآن إلا طاهر" (3) .
وهذه وِجَادةٌ جيدة. قد قرأها الزهري وغيره، ومثل هذا ينبغي (4) الأخذ به. وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم، وعبد الله بن عمر، وعثمان بن أبي العاص، وفي إسناد كل منها نظر (5) ، والله أعلم.
وقوله: { تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي: هذا القرآن منزل من [الله] (6) رب العالمين، وليس هو كما يقولون: إنه سحر، أو كهانة، أو شِعر، بل هو الحق الذي لا مِرْية فيه، وليس وراءه حق نافع.
وقوله: { أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ } قال العَوْفِيّ، عن ابن عباس: أي مكذبون غير مصدقين. وكذا قال الضحاك، وأبو حَزْرَة، والسُّدِّيّ.
وقال مجاهد: { مُدْهِنُونَ } أي: تريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم.
{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } قال بعضهم: يعني: وتجعلون رزقكم بمعنى شكركم أنكم تكذبون، أي: تكذبون بدل الشكر.
وقد روي عن علي، وابن عباس أنهما قرآها: "وتجعلون شكركم (7) أنكم تكذبون" كما سيأتي.
وقال ابن جرير: وقد ذكر عن الهيثم بن عدي: أن من لغة أزد شَنوءةَ: ما رزق فلان بمعنى: ما شكر فلان.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن أبي
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1869) وهو أيضا في صحيح البخاري برقم (2990).
(2) الموطأ (1/199).
(3) المراسيل برقم (257).
(4) في أ: "لا ينبغي".
(5) سنن الدار قطني (1/12، 122).
(6) زيادة من أ.
(7) في أ: "بشكركم".

عبد الرحمن، عن علي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } ، يقول: "شكركم { أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } ، تقولون: مطرنا بِنَوء كذا وكذا، بنجم كذا وكذا" (1) .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن مُخَوَّل (2) بن إبراهيم النهدي -وابن جرير، عن محمد بن المثنى، عن عبيد الله بن موسى، وعن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى بن أبي بُكَيْر، ثلاثتهم عن إسرائيل، به مرفوعًا (3) . وكذا رواه الترمذي، عن أحمد بن مَنِيع، عن حسين بن محمد -وهو المروزي-به. وقال: "حسن غريب". وقد رواه سفيان، عن عبد الأعلى، ولم يرفعه (4) .
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: ما مُطِرَ قوم قط إلا أصبح بعضهم كافرًا يقولون: مُطِرْنَا بنوء كذا وكذا. وقرأ ابن عباس: "وتجعلون شكركم أنكم تكذبون".
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس.
وقال مالك في الموطأ، عن صالح بن كيْسَان، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زيد بن خالد الجُهَنّي أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب. وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا. فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب".
أخرجاه في الصحيحين، وأبو داود، والنسائي، كلهم من حديث مالك، به (5) .
وقال مسلم: حدثنا محمد بن سلمة المرادي، وعَمْرو بن سَوّاد، حدثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث؛ أن أبا يونس حَدَّثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، ينزل الغيث، فيقولون: بكوكب كذا وكذا".
تَفَرَّد به مسلم من هذا الوجه (6) .
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا سفيان، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لَيُصْبِحُ القومَ بالنعمة أو يُمسيهم بها فيصبح بها قوم كافرين يقولون: مُطِرنا بنوء كذا وكذا".
__________
(1) المسند (1/108).
(2) في أ: "عن محمد".
(3) تفسير الطبري (27/119).
(4) سنن الترمذي برقم (3295).
(5) الموطأ (1/192) وصحيح البخاري برقم (846) وصحيح مسلم برقم (71) وسنن أبي داود برقم (3906) وسنن النسائي (3/164).
(6) صحيح مسلم برقم (72).

فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)

قال محمد -هو ابن إبراهيم-: فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب، فقال: ونحن قد سمعنا من أبي هُرَيرة، وقد أخبرني من شهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وهو يستسقي، فلما استسقى التفت إلى العباس فقال: يا عباس، يا عم رسول الله، كم بقى من نوء الثريا؟ فقال: العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعًا. قال: فما مضت سابعة حتى مُطِروا (1) .
وهذا مَحمول على السؤال عن الوقت الذي أجرى الله فيه العادة بإنزال المطر، لا أن ذلك النوء يؤثر بنفسه في نزول المطر؛ فإن هذا هو المنهي عن اعتقاده. وقد تقدم شيء من هذه الأحاديث عند قوله: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا } [فاطر:2].
وقال ابن جرير: حدثني يونس،أخبرنا سفيان،عن إسماعيل بن أمية -أحسبه أو غيره-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا -ومطروا-يقول: مُطِرنا ببعض عَشَانين الأسد. فقال: "كذبت! بل هو رزق الله" (2) .
ثم قال ابن جرير: حدثني أبو صالح الصراري، حدثنا أبو جابر محمد بن عبد الملك الأزدي (3) ، حدثنا جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما مُطِر قوم من ليلة إلا أصبح قوم بها كافرين" (4) . ثم قال: " { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } ، يقول قائل: مُطِرنا بنجم كذا وكذا" (5) .
وفي حديث عن أبي سعيد مرفوعًا: "لو قُحِطَ الناس سبع سنين ثم مطروا لقالوا: مطرنا بنوء المِجْدَح" (6) .
وقال مجاهد: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } قال: قولهم في الأنواء: مُطِرنا بنوء كذا، وبنوء كذا، يقول: قولوا: هو من عند الله، وهو رزقه. وهكذا قال الضحاك وغير واحد.
وقال قتادة: أما الحسن فكان يقول: بئس ما أخذ قوم لأنفسهم، لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب. فمعنى قول الحسن هذا: وتجعلون حظكم من كتاب الله أنكم تكذبون به؛ ولهذا قال قبله: { أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ . وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }
{ فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) }.
يقول تعالى: { فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ } أي: الروح { الْحُلْقُومَ } أي: الحلق، وذلك حين الاحتضار
__________
(1) تفسير الطبري (27/120).
(2) تفسير الطبري (27/120).
(3) في أ: "الأودي".
(4) في أ: "كافرون" وهو خطأ.
(5) تفسير الطبري (27/120).
(6) رواه الإمام أحمد في مسنده (3/7) وابن حبان في صحيحه برقم (606) "موارد" من طريق عمرو بن دينار عن عتاب بن حنين عن أبي سعيد بلفظ: "لو أمسك الله القطر عن الناس سبع سنين ثم أرسله لأصبحت طائفة بها كافرين يقولون: مطرنا بنوء المجدح".

فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

كما قال: { كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ . وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ . وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ . وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ . إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } [القيامة: 26، 30]؛ ولهذا قال هاهنا: { وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ } أي: إلى المحتضر وما يُكابده من سكرات الموت.
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ } أي: بملائكتنا { وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ } أي: ولكن لا ترونهم. كما قال في الآية الأخرى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ . ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } [الأنعام: 61 ، 62] .
وقوله: { فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا } : معناه: فهلا تَرجعُون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول (1) ، ومقرها في الجسد إن كنتم غير مدينين.
قال ابن عباس: يعني محاسبين. ورُوي عن مجاهد، وعِكْرِمَة، والحسن، وقتادة، والضحاك، والسُّدِّيّ، وأبي حَزْرَة، مثله.
وقال سعيد بن جُبَيْر، والحسن البَصْرِي: { فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } غير مصدقين أنكم تُدانون وتبعثون وتجزون، فردوا هذه النفس.
وعن مجاهد: { غَيْرَ مَدِينِينَ } غير موقنين.
وقال ميمون بن مِهْران: غير معذبين مقهورين.
{ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنزلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) }.
هذه الأحوال الثلاثة هي أحوال الناس عند احتضارهم: إما أن يكون من المقربين (2) ، أو يكون ممن دونهم من أصحاب اليمين. وإما أن يكون من المكذبين الضالين عن الهدى، الجاهلين بأمر الله؛ ولهذا قال تعالى: { فَأَمَّا إِنْ كَانَ } أي: المحتضر، { مِنَ الْمُقَرَّبِينَ } ، وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات، { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } أي: فلهم روح وريحان، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت، كما تقدم في حديث البراء: أن ملائكة الرحمة تقول: "أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان".
قال علي بن طلحة (3) ، عن ابن عباس: { فَرَوْحٌ } يقول: راحة وريحان، يقول: مستراحة.
__________
(1) في م: "الأولى".
(2) في أ: "المقربين العلية".
(3) في م، أ: "علي بن أبي طلحة".

وكذا قال مجاهد: إن الروح: الاستراحة.
وقال أبو حَزْرَة: الراحة من الدنيا. وقال سعيد بن جُبَيْر، والسدي: الروح: الفرح. وعن مجاهد: { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } : جنة ورخاء. وقال قتادة: فروح ورحمة (1) . وقال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: { وَرَيْحَانٌ } : ورزق.
وكل هذه الأقوال متقاربة صحيحة، فإن من مات مقربًا حصل له جميعُ ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة، والفرح والسرور والرزق الحسن، { وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } .
وقال أبو العالية: لا يفارق أحد من المقربين حتى يُؤْتَى بغصن من ريحان الجنة، فيقبض روحه فيه.
وقال محمد بن كعب: لا يموت أحدٌ من الناس حتى يعلم: أمن أهل الجنة هو أم [من] (2) أهل النار؟
وقد قدمنا أحاديث الاحتضار عند قوله تعالى في سورة إبراهيم: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ] } [إبراهيم: 27]، (3) ، ولو كتبت هاهنا لكان حسنًا! ومن جملتها حديث تميم الداري، عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يقول الله لملك الموت: انطلق إلى فلان (4) فأتني به، فإنه قد جربته بالسراء والضراء فوجدته حيث أحب، ائتني به فلأريحنه. قال: فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة، معهم أكفان وحَنُوط من الجنة، ومعهم ضَبَائر الريحان، أصل الريحانة واحد وفي رأسها عشرون لونًا، لكل لون منها ريح سوى ريح صاحبه، ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك".
وذكر تمام الحديث بطوله كما تقدم (5) ، وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية: قال (6) الإمام أحمد:
حدثنا يونس بن محمد، حدثنا هارون، عن بُدَيل بن ميسرة (7) ، عن عبد الله بن شَقِيق، عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: { فَرُوْحٌ وَرَيْحَانٌ } برفع الراء.
وكذا رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، من حديث هارون -وهو ابن موسى الأعور-به (8) ، وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديثه.
وهذه القراءة هي قراءة يعقوب وحده، وخالفه الباقون فقرؤوا: { فَرَوْحٌ } بفتح الراء.
__________
(1) في أ: "فروح وريحان".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من م.
(4) في م، أ: "إلى وليي".
(5) انظر: تفسير سورة إبراهيم الآية: 27 .
(6) في م: "فقال".
(7) في أ: "بن قيس".
(8) المسند (6/64) وسنن أبي داود برقم (3991) وسنن الترمذي برقم (2938) وسنن النسائي الكبرى برقم (11566).

وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثنا أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل: أنه سمع درّة بنت معاذ تحدث عن أم هانئ: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتزاور إذا متنا ويرى بعضنا بعضًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكون النَسمُ (1) طيرًا يعلق بالشجر، حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها" (2) .
هذا الحديث فيه بشارة لكل مؤمن، ومعنى "يعلق": يأكل، ويشهد له بالصحة أيضًا ما رواه الإمام أحمد، عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي، عن الإمام مالك بن أنس، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما نَسَمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" (3) . وهذا إسناد عظيم، ومتن قويم.
وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة (4) حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش" (5) الحديث.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا عطاء بن السائب قال: كان أول يوم عرفت فيه عبد الرحمن بن أبي ليلى: رأيت شيخًا (6) أبيض الرأس واللحية على حمار، وهو يتبع جنازة، فسمعته يقول: حدثني فلان بن فلان، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه". قال: فأكب القوم يبكون فقال: "ما يُبكيكم؟" فقالوا: إنا نكره الموت. قال: "ليس ذاك، ولكنه إذا حُضِر { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ . فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } ، فإذا بُشِّر بذلك أحب لقاء الله عز وجل، والله، عز وجل، للقائه أحب { وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ . فَنزلٌ مِنْ حَمِيمٍ [ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ] } (7) فإذا بُشِّر بذلك كره لقاء الله، والله للقاءه أكره.
هكذا رواه الإمام أحمد (8) ، وفي الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها-شاهد لمعناه (9) .
وقوله: { وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } أي: وأما إن كان المحتضر من أصحاب اليمين، { فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } أي: تبشرهم الملائكة بذلك، تقول لأحدهم: سلام لك، أي: لا بأس عليك، أنت إلى سلامة، أنت من أصحاب اليمين.
وقال قتادة وابن زيد: سَلِمَ من عذاب الله، وسَلَّمت عليه ملائكة الله. كما قال عِكْرِمَة تسلم عليه الملائكة، وتخبره أنه من أصحاب اليمين.
__________
(1) في م، أ: "النسمة".
(2) المسند (6/424).
(3) المسند (3/455).
(4) في م: "في رياض الجنة".
(5) تقدم الحديث عند تفسير الآية: 169 من سورة آل عمران، وانظر تخريجه هناك.
(6) في أ: "شخصا".
(7) زيادة من م.
(8) المسند (4/259).
(9) صحيح مسلم برقم (2684).

وهذا معنى حسن ويكون ذلك كقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } [فصلت: 30-32].
وقال البخاري: { فَسَلامٌ لَكَ } أي: مُسلم لك، أنك من أصحاب اليمين. وألغيت "إن" (1) وهو: معناها، كما تقول: أنت مُصَدق مسافر عن قليل. إذا كان قد قال: إني مسافر عن قليل. وقد يكون كالدعاء له، كقولك: سقيًا لك من الرجال، إن رفعت "السلام" فهو من الدعاء (2) .
وقد حكاه ابن جرير هكذا عن بعض أهل العربية، ومال إليه، والله أعلم (3) .
وقوله: { وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ . فَنزلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أي: وأما إن كان المحتضر من المكذبين بالحق، الضالين عن الهدى، { فَنزلٌ } أي: فضيافة { مِنْ حَمِيمٍ } وهو المذاب الذي يصهر به ما في بطونهم والجلود، { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أي: وتقرير له في النار التي تغمره من جميع جهاته.
ثم قال تعالى: { إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ } أي: إن هذا الخبر لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه، ولا محيد لأحد عنه.
{ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } قال أحمد:
حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا موسى بن أيوب الغافقي، حدثني عمِّي إياس بن عامر، عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } قال: "اجعلوها في ركوعكم" ولما نزلت: { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } [الأعلى:1]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في سجودكم".
وكذا رواه أبو داود، وابن ماجة من حديث عبد الله بن المبارك، عن موسى بن أيوب، به (4) .
وقال روح بن عبادة: حدثنا حَجَّاجُ الصَّوافُ، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال: سبحان الله العظيم وبحمده، غُرِسَتْ له نخلة في الجنة".
هكذا رواه الترمذي من حديث روح (5) ، ورواه هو والنسائي أيضًا من حديث حماد بن سلمة، من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم (6) ، وقال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير.
__________
(1) في م: "من".
(2) صحيح البخاري (8/625) "فتح".
(3) تفسير الطبري (27/123).
(4) المسند (4/155) وسنن أبي داود برقم (2869) وسنن ابن ماجه برقم (887).
(5) سنن الترمذي برقم (3464).
(6) سنن الترمذي برقم (3465) وسنن النسائي الكبرى برقم (10663) لكن النسائي رواه من طريق حماد بن سلمة عن حجاج الصواف، عن أبي الزبير خلافا للترمذي، فإنه لم يذكر في هذه الرواية حجاج الصواف فليتنبه.

وقال البخاري في آخر كتابه: حدثنا أحمد بن إشكاب، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا عُمارة بن القعقاع، عن أبي زُرْعَة، عن أبي هُريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
ورواه بقية الجماعة إلا أبا داود، من حديث محمد بن فضيل، بإسناده، مثله (1) .
__________
(1) صحيح البخاري برقم (7563) وصحيح مسلم برقم (2694) وسنن الترمذي برقم (3467) وسنن النسائي الكبرى برقم (10666) وسنن ابن ماجه برقم (3806).

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)

تفسير سورة الحديد
وهي مدنية.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، حدثني بحير بن سعد، عن خالد بن مَعْدَان، عن بن أبي بلال، عن عِرْبَاض بن سارية، أنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، وقال: "إن فيهن آية أفضل من ألف آية".
وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، من طرق عن بقية، به (1) وقال الترمذي: حسن غريب.
ورواه النسائي عن ابن أبي السرح، عن ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم... فذكره مُرْسَلا لم يذكر عبد الله بن أبي بلال، ولا العرباض بن سارية (2)
والآية المشار إليها في الحديث هي-والله أعلم-قوله: { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } كما سيأتي بيانه إن شاء الله وبه الثقة (3)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
يخبر تعالى أنه يسبح له ما في السموات والأرض أي: من الحيوانات والنباتات، كما قال في الآية الأخرى: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [الإسراء: 44].
وقوله: { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي: الذي قد خضع له كل شيء { الحكيم } في خلقه وأمره وشرعه
{ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي: هو المالك المتصرف في خلقه فيحيي ويميت، ويعطي من يشاء ما يشاء، { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي: ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وقوله: { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } وهذه الآية هي المشار إليها في حديث العرباض بن سارية: أنها أفضل من ألف آية.
__________
(1) المسند (4/128) وسنن أبي داود برقم (5057) وسنن الترمذي برقم (3406) وسنن النسائي الكبرى برقم (8026)
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (10551).
(3) في م، أ: "سيأتي بيانه قريبًا إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل".

وقال أبو داود حدثنا عباس بن عبد العظيم حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة-يعنى بن عمار-حدثنا أبو زُمَيْل قال: سألت بن عباس فقلت: ما شيء أجده في صدري؟ قال ما هو؟ قلت والله لا أتكلم به قال: فقال لي أشيء من شك ؟ قال -وضحك -قال: ما نجا من ذلك أحد قال حتى أنزل الله { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ [ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ] } (1) الآية [يونس:94] قال: وقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل: { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (2)
وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية وأقوالهم على نحو من بضعة عشر قولا.
وقال البخاري: قال يحيى: الظاهر على كل شيء علمًا والباطن على كل شيء علمًا (3)
قال شيخنا الحافظ المزيّ: يحيى هذا هو بن زياد الفراء، له كتاب سماه: "معاني القرآن".
وقد ورد في ذلك أحاديث، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا ابن عياش، عن سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو (4) عند النوم: "اللهم، رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول ليس (5) قبلك شيء وأنت الآخر ليس (6) بعدك شيء، وأنت الظاهر ليس فوقك شيء وأنت الباطن ليس دونك شيء. اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر" (7)
ورواه مسلم في صحيحه: حدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير عن سُهَيل قال: كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام: أن يضطجع على شقه الأيمن، ثم يقول: اللهم، ربّ السموات وربّ الأرض وربّ العرش العظيم، رَبَّنَا وربّ كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، اللهم، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر.
وكان يروي ذلك، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (8)
وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن عائشة أم المؤمنين نحو هذا، فقال حدثنا عقبة، حدثنا يونس، حدثنا السري بن إسماعيل، عن الشعبى، عن مسروق، عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بفراشه فيفرش له مستقبل القبلة، فإذا أوى إليه توسد كفه اليمنى، ثم همس-ما يدرى ما يقول-فإذا كان في آخر الليل رفع صوته فقال: "اللهم، رب السموات السبع ورب العرش العظيم، إله كل شيء، ورب كل شيء، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان،
__________
(1) زيادة من م.
(2) سنن أبي داود برقم (5110).
(3) صحيح البخاري (13/361) "فتح".
(4) في م: "يقول".
(5) في م: "فليس".
(6) في م: "فليس"
(7) المسند (2/404).
(8) صحيح مسلم برقم (2713).

فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته اللهم، أنت الأول الذي ليس (1) قبلك شيء، وأنت الآخر الذي ليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر" (2)
السري بن إسماعيل هذا ابن عم الشعبي، وهو ضعيف جداً والله أعلم.
وقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية: حدثنا عبدُ بن حميد وغير واحد-المعنى واحد-قالوا: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة قال: حدث الحسن، عن أبي هريرة قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه، إذ أتى عليهم سَحَاب فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون ما هذا؟". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "هذا العَنَان، هذه رَوَايا الأرض تسوقه إلى قوم لا يشكرونه ولا يَدْعُونه". ثم قال: "هل تدرون ما فوقكم ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال " فإنها الرقيع، سقف محفوظ، وموج مكفوف". ثم قال: "هل تدرون كم بينكم وبينها" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "بينكم وبينها خمسمائة سنة". ثم قال: "هل تدرون ما فوق ذلك؟" قالوا: الله ورسوله أعلم قال: " فإن فوق ذلك سماء (3) بُعدُ ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة-حتى عدَّ سبع سموات-ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض". ثم قال: "هل تدرون ما فوق ذلك؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " فإن فوق ذلك العرش، وبينه وبين السماء بُعدُ (4) ما بين السماءين". ثم قال: "هل تدرون ما الذي تحتكم؟". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها الأرض". ثم قال: "هل تدرون ما الذي تحت ذلك؟". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإن تحتها أرضاً أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة-حتى عدَّ (5) سبع أرضين-بين كل أَرْضَيْن مسيرة خمسمائة سنة". ثم قال: "والذي نفس محمد بيده، لو أنكم دَليتم بحبل إلى الأرض السفلي لهبط على الله"، ثم قرأ: { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، ويُروى عن أيوب ويونس-يعني بن عبيد-وعلي بن زيد قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة. وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا: إنما هَبَط على علْم الله وقدرته وسلطانه، وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش، كما وصف في كتابه. انتهى كلامه (6)
وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث عن سريج، عن الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره، وعنده بُعدُ ما بين الأرْضين مسيرة سبعمائة عام، وقال: "لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السفلي السابعة لهبط على الله"، ثم قرأ: { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
__________
(1) في م: "فليس".
(2) مسند أبي يعلى (8/210).
(3) في م: "سماء بعد سماء".
(4) في م، أ: "مثل بعد".
(5) في م: "عدد".
(6) سنن الترمذي برقم (3298).

ورواه بن أبي حاتم والبزار من حديث أبي جعفر الرازي، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة... فذكر الحديث، ولم يذكر بن أبي حاتم آخره وهو قوله: "لو دليتم بحبل"، وإنما قال: "حتى عَدّ سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام"، ثم تلا { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
وقال البزار: لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو هريرة.
ورواه بن جرير، عن بشر، عن يزيد، عن سعيد، عن قتادة: { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في أصحابه إذ ثار عليهم سحاب، فقال: "هل تدرون ما هذا؟" (1) وذكر الحديث مثل سياق الترمذي سواء، إلا أنه مرسل من هذا الوجه، ولعل هذا هو المحفوظ، والله أعلم. وقد روي من حديث أبي ذر الغفاري، رضي الله عنه وأرضاه، رواه البزار في مسنده، والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات (2) ولكن في إسناده نظر، وفي متنه غرابة ونكارة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال ابن جرير عند قوله تعالى { وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ } [الطلاق "12"] حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن مَعْمَر، عن قتادة قال: التقى أربعة من الملائكة بين السماء والأرض، فقال بعضهم لبعض: من أين جئت؟ قال أحدهم: أرسلني ربي، عز وجل، من السماء السابعة وتركته ثَمّ، قال الآخر: أرسلني ربي، عز وجل من الأرض السابعة وتركته ثَمّ، قال الآخر: أرسلني ربي من المشرق وتركته ثَمّ، قال الآخر: أرسلني ربي من المغرب وتركته ثَمّ (3)
وهذا [حديث] (4) غريب جداً، وقد يكون الحديث الأول موقوفًا على قتادة كما روي هاهنا من قوله، والله أعلم.
__________
(1) تفسير الطبري (27/124).
(2) الأسماء والصفات للبيهقي (ص 506) من طريق أحمد بن عبد الجبار، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي نصر، عن أبي ذر، ومن طريق البيهقي رواه الجوزقاني في الأباطيل (1/68) وقال: "هذا حديث منكر"
(3) تفسير الطبري (28/99).
(4) زيادة من م.

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) }
يخبر تعالى عن خلقه السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم أخبر باستوائه على العرش بعد خلقهن، وقد تقدم الكلام على هذه الآية وأشباهها في سورة "الأعراف (1) بما أغنى عن إعادته هاهنا.
__________
(1) عند تفسير الآية:54.

{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ } أي: يعلم عدد ما يدخل فيها من حب وقطر { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من زرع ونَبات وثمار، كما قال: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام: 59].
وقوله: { وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ } أي: من الأمطار، والثلوج والبرَد، والأقدار والأحكام مع الملائكة الكرام، وقد تقدم في سورة "البقرة" أنه ما ينزل من قطرة من السماء إلا ومعها ملك يُقرّرها في المكان الذي يأمر الله به حيث يشاء تعالى.
وقوله: { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } أي: من الملائكة والأعمال، كما جاء في الصحيح: "يُرْفَعُ إليه عَمَلُ الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل" (1)
وقوله: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي: رقيب عليكم، شهيد على أعمالكم حيث أنتم، وأين كنتم، من بر أو بحر، في ليل أو نهار، في البيوت أو القفار، الجميع في علمه على السواء، وتحت بصره وسمعه، فيسمع كلامكم ويرى مكانكم، ويعلم سركم ونجواكم، كما قال: { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [هود: 5]. وقال { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [الرعد: 10]، فلا إله غيره ولا رب سواه. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال لجبريل، لما سأله عن الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وروى الحافظ أبو بكر الإسماعيلي من حديث نصر بن خزيمة بن جنادة بن محفوظ بن علقمة، حدثني أبي، عن نصر بن علقمة، عن أخيه، عن عبد الرحمن بن عائذ قال: قال عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: زودني كلمة أعيش بها فقال: "اسْتَحِ الله كما تستحي رجلا من صَالِح عشيرتك لا يفارقك" (2)
هذا حديث غريب، وروى أبو نعيم من حديث عبد الله بن معاوية الغاضري مرفوعًا: "ثلاث من فَعَلَهُنَّ فقد طَعِمَ الإيمان: من عبد الله وحده، وأعطى زكاة ماله طيبةً بها نفسه في كل عام، ولم يعط الهَرَمة ولا الدَرنة، ولا الشَّرط اللئيمة ولا المريضة ولكن من أوسط أموالكم. وزكى نَفْسَه" وقال رجل: يا رسول الله، ما تزكية المرء نفسه؟ فقال: "يعلم أن الله معه حيث كان" (3)
وقال نُعَيْم بن حَمّاد، رحمه الله: حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي، عن محمد بن مهاجر، عن عُرْوَةَ بن رُوَيم، عن عبد الرحمن بن غَنم، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت". غريب. (4)
__________
(1) صحيح مسلم برقم (179) من حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه.
(2) وذكره المؤلف في مسند عمر بن الخطاب (2/609) من طريق الإسماعيلي وقال: "إسناده غريب، وفي حديث القدر: "فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وله شاهد من حديث سعيد بن يزيد عن بن عم له قال: قلت يا رسول الله أوصني، قال: "استح من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك". أخرجه مجشل في تاريخ واسط (ص209).
(3) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (4/96) من طريق الزبيدي عن يحيى بن جابر، أن عبد الرحمن بن جبير حدثه أن أباه حدثه أن عبد الله بن معاوية الغاضري به، ورواه أبو داود من طريق الزبيدي عن يحيى بن جابر، عن جبير بن نفير به نحوه، والأول أصح.
(4) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (47) "مجمع البحرين" عن مطلب، عن نعيم بن حماد به وقال: "تفرد به عثمان". ورواه أبو نعيم في الحلية (6/124) عن الطبراني، عن يحيى بن عثمان، عن نعيم بن حماد به، وقال: "غريب من حديث عروة لم نكتبه إلا من حديث محمد بن مهاجر". وعثمان بن سعيد لم يعرفه الهيثمي في المجمع (1/60)، وذكره بن أبي حاتم في الجرح والتعديل (6/152) ونقل عن يحيى بن معين أنه ثقة.

آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)

وكان الإمام أحمد ينشد هذين البيتين:
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلا تَقُلْ ... خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ: عَلَيَّ رَقِيبُ ...
وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفَلُ سَاعَةً ... وَلا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ ...
وقوله: { لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } أي: هو المالك للدنيا والآخرة كما قال: { وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى } [الليل: 13]، وهو المحمود على ذلك، كما قال: { وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ } [القصص:70]، وقال { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } [سبأ: 1]. فجميع ما في السماوات والأرض ملك له، وأهلهما عبيد أرقاء أذلاء بين يديه كما قال: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم: 93-95]. ولهذا قال: { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } أي: إليه المرجع يوم القيامة، فيحكم في خلقه بما يشاء، وهو العادل الذي لا يجور ولا يظلم مثقال ذرة، بل إن يكن أحدهم عمل حسنة واحدة يضاعفها إلى عشر أمثالها، { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 40] وكما قال تعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء: 47].
وقوله: { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } أي: هو المتصرف في الخلق، يقلب الليل والنهار ويقدرهما بحكمته كما يشاء، فتارة يطول الليل ويقصر النهار، وتارة بالعكس، وتارة يتركهما معتدلين. وتارة يكون الفصل شتاء ثم ربيعًا ثم قيظًا ثم خريفًا، وكل ذلك بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه، { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي: يعلم السرائر وإن دقت، وإن خفيت.
{ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) }

أمر تعالى بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل، والدوام والثبات على ذلك والاستمرار، وحث على الإنفاق مما جعلكم مستخلفين فيه أي مما هو معكم على سبيل العارية، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم، فأرشد تعالى إلى استعمال ما استخلفهم فيه من المال في طاعته، فإن (1) يفعلوا وإلا حاسبهم عليه وعاقبهم لتركهم الواجبات فيه.
وقوله: { مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفًا عنك، فلعل وارثك أن يطيع الله فيه، فيكون أسعد بما أنعم الله به عليك منك، أو يعصي الله فيه فتكون قد سعيت في معاونته على الإثم والعدوان.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت قتادة يحدث، عن مُطَرَّف-يعني بن عبد الله بن الشّخّير-عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } [التكاثر:1]، يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟".
ورواه مسلم من حديث شعبة، به (2) وزاد: "وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس"
وقوله: { فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } ترغيب في الإيمان والإنفاق في الطاعة،
ثم قال: { وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ } ؟ أي: وأي شيء يمنعكم من الإيمان والرسول بين أظهركم، يدعوكم إلى ذلك ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به؟ وقد روينا في الحديث من طُرُق في أوائل شرح "كتاب الإيمان" من صحيح البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه: "أيُّ المؤمنين أعجب إليكم إيمانًا؟" قالوا: الملائكة. قال: "وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟" قالوا: فالأنبياء. قال: "وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟". قالوا: فنحن؟ قال: "وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيؤون بعدكم يجدون صُحُفًا يؤمنون بما فيها" (3)
وقد ذكرنا طرفًا من هذا في أول سورة "البقرة" عند قوله: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } [البقرة: 3].
وقوله: { وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ } كما قال: { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [المائدة:7] . ويعني بذلك: بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وزعم ابن جرير أن المراد بذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم، وهو مذهب مجاهد، فالله أعلم.
وقوله: { هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي: حججًا واضحات، ودلائل باهرات، وبراهين قاطعات، { لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أي: من ظلمات الجهل والكفر والآراء
__________
(1) في م: "وإن لم".
(2) المسند (4/24) وصحيح مسلم برقم (2958).
(3) سبق تخريج الحديث عند تفسير الآية: 3 من سورة البقرة.

المتضادة إلى نور الهدى واليقين والإيمان، { وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي: في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهداية الناس، وإزاحة العلل وإزالة الشبه.
ولما أمرهم أولا بالإيمان والإنفاق، ثم حثهم على الإيمان، وبين أنه قد أزال عنهم موانعه، حثهم (1) أيضًا على الإنفاق. فقال: { وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي: أنفقوا ولا تخشَوا فقرًا (2) وإقلالا فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السموات والأرض، وبيده مقاليدهما، وعنده خزائنهما، وهو مالك العرش بما حوى، وهو القائل: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [سبأ:39]، وقال { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } [النحل:96] فمن توكل على الله أنفق، ولم يخش من ذي العرش إقلالا وعلم أن الله سيخلفه عليه.
وقوله: { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } أي: لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله، وذلك أن قبل فتح مكة كان الحال شديدًا، فلم يكن يؤمن حينئذ إلا الصديقون، وأما بعد الفتح فإنه ظهر الإسلام ظهورًا عظيمًا، ودخل الناس في دين الله أفواجا؛ ولهذا قال: { أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى }
والجمهور على أن المراد بالفتح هاهنا فتح مكة. وعن الشعبي وغيره أن المراد بالفتح هاهنا: صلح الحديبية، وقد يستدل لهذا القول بما قال الإمام أحمد:
حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا زُهَير، حدثنا حُمَيد الطويل، عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها؟ فبلغنا أن ذلك ذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده، لو أنفقتم مثل أحد-أو مثل الجبال-ذهبًا، ما بلغتم أعمالهم" (3)
ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد المواجه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبية وفتح مكة، وكانت هذه المشاجرة بينهما في بني جَذيمة الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بعد الفتح، فجعلوا يقولون: "صبأنا، صبأنا"، فلم يحسنوا أن يقولوا: "أسلمنا"، فأمر خالد بقتلهم وقتل من أسر منهم، فخالفه عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمر وغيرهما. فاختصم خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك (4)
والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نَصيفه" (5)
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم، من حديث ابن وهب: أخبرنا هشام بن سعد، عن زيد بن
__________
(1) في م: "ثم حثهم".
(2) في أ: "قترًا".
(3) المسند (3/266).
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (7189) من حديث بن عمر، رضي الله عنه.
(5) صحيح البخاري برقم (3673) وصحيح مسلم برقم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه.

أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم" فقلنا: من هم يا رسول الله أقريش؟ قال: لا ولكن أهل اليمن، هم أرق أفئدةً وألين قلوبًا". فقلنا: أهم خير منا يا رسول الله؟ قال: "لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه، ما أدرك مُدّ أحدكم ولا نَصيفه، ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس، { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (1)
]وهذا الحديث غريب بهذا السياق، والذي في الصحيحين من رواية جماعة، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد -ذَكَر الخوارج-: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" (2) الحديث. ولكن روى ابن جرير هذا الحديث من وجه آخر، فقال:
حدثني بن البرقي، حدثنا بن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، أخبرني زيد بن أسلم، عن أبي سعيد التمار، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم". قلنا: من هم يا رسول الله؟ قريش؟ قال: "لا ولكن أهل اليمن، لأنهم أرق أفئدة، وألين قلوبًا". وأشار بيده إلى اليمن، فقال: "هم أهل اليمن، ألا إن الإيمان يمان، والحكمة يمانية". فقلنا: يا رسول الله، هم خير منا؟ قال: "والذي نفسي بيده، لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدى مُدّ أحدكم ولا نصيفه". ثم جمع أصابعه ومد خنصره، وقال: "ألا إن هذا فضلُ ما بيننا وبين الناس، { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ]" (3) (4)
فهذا السياق ليس فيه ذكر الحديبية فإن كان ذلك محفوظا كما تقدم، فيحتمل أنه أنزل قبل الفتح إخبارا عما بعده، كما في قوله تعالى في سورة "المزمل"-وهي مكية، من أوائل ما نزل-: { وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الآية [المزمل: 20] فهي بشارة بما يستقبل، وهكذا هذه والله أعلم.
وقوله: { وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } يعني المنفقين قبل الفتح وبعده، كلهم لهم ثواب على ما عملوا، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء كما قال: { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء:95]. وهكذا (5) الحديث الذي في الصحيح: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف،
__________
(1) تفسير الطبري (27/127).
(2) صحيح البخاري برقم (6931) وصحيح مسلم برقم (4601).
(3) زيادة من م، أ.
(4) تفسير الطبري (17/127).
(5) في م، أ: "وهذا".

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49