الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي

عن أبي حمزة عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في المال حق سوى الزكاة" ثم تلا (1) { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } إلى قوله: { وَفِي الرِّقَابِ }
[وقد أخرجه ابن ماجة والترمذي (2) وضعف أبا حمزة ميمونًا (3) الأعور، قال: وقد رواه بيان (4) وإسماعيل بن سالم عن الشعبي] (5) .
وقوله: { وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } أي: وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها، وسجودها، وطمأنينتها، وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي.
وقوله: { وَآتَى الزَّكَاةَ } يُحْتَمَلُ أن يكون المراد به زكاة النفس، وتخليصها من الأخلاق الدنية (6) الرذيلة، كقوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس:9 ، 10] وقول موسى لفرعون: { هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [النازعات: 18، 19] وقوله تعالى: { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [فصلت: 6، 7] .
ويحتمل أن يكون المرادُ زكاة المال (7) كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان، ويكون المذكور من إعطاء (8) هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة؛ ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس: أن في المال حقا سوى الزكاة، والله أعلم.
وقوله: { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } كقوله: { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } [الرعد: 20] وعكس هذه الصفة النفاق، كما صح في الحديث: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". وفي الحديث الآخر:"إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" (9) .
وقوله: { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } أي: في حال الفقر، وهو البأساء، وفي حال المرض والأسقام، وهو الضراء. { وَحِينَ الْبَأْسِ } أي: في حال القتال والتقاء الأعداء، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومُرّة الهمداني، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك، والضحاك، وغيرهم.
وإنما نُصِبَ { وَالصَّابِرِينَ } على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته، والله أعلم، وهو المستعان وعليه التكلان.
وقوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } أي: هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صَدَقوا في إيمانهم؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }
__________
(1) في جـ، أ، و: "ثم قرأ".
(2) سنن الترمذي برقم (659) وسنن ابن ماجة برقم (1789) وقال الترمذي: "هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة يضعف في الحديث، وقد روى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي قوله، وهو أصح".
(3) في أ: "عونا".
(4) في جـ: "سيار" والصواب ما أثبتناه".
(5) زيادة من جـ، أ.
(6) في جـ: "الذميمة".
(7) في جـ: "زكاة الملك".
(8) في أ، و: "من أعطى".
(9) رواه مسلم في صحيحه برقم (58) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }
يقول تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ } العدلُ في القصاص -أيّها المؤمنون -حُرّكم (1) بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا، كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم، وسبب ذلك قريظة و[بنو] (2) النضير، كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم، فكان إذا قتل النضري القرظيَّ لا يقتل به، بل يُفَادَى بمائة وسق من التمر، وإذا قتل القرظي النضري قتل به، وإن فادَوْه فَدَوه بمائتي وسق من التمر ضعْف دية (3) القرظي، فأمر الله بالعدل في القصاص، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين (4) ، المخالفين لأحكام الله فيهم، كفرا وبغيًا (5) ، فقال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى } .
وذكر في [سبب] (6) نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَير (7) حدثني عبد الله بن لَهيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، في قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } يعني: إذا كان عَمْدا، الحر بالحر. وذلك أن حيَّيْنِ من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم (8) ، فنزلت فيهم.
{ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى } منها منسوخة، نسختها { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [المائدة: 45] .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: { وَالأنْثَى بِالأنْثَى } وذلك أنهم لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة فأنزل الله: النفس بالنفس والعين بالعين، فجعل الأحرار في القصاص (9) سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس، وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستوين (10) فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم
__________
(1) في جـ، أ، و: "فاقتلوا حركم".
(2) زيادة من أ.
(3) في جـ: "ضعف دم".
(4) في أ: "المجرمين".
(5) في جـ: "لهوا ولعبا".
(6) زيادة من جـ.
(7) في جـ، أ: "بكر".
(8) في جـ: "والمرأة منا بالرجل منهم".
(9) في جـ: "القصاص والعبيد".
(10) في أ، و: "مستويين".

ونساؤهم، وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله: { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } .
مسألة: مذهب أبي حنيفة أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة، وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود، وهو مروي عن علي، وابن مسعود، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والحكم، وقال البخاري، وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه: ويقتل السيد بعبده؛ لعموم حديث الحسن عن سمرة: "من قتل عبده قتلناه، ومن جذعه جذعناه، ومن خصاه خصيناه" (1) وخالفهم الجمهور وقالوا: لا يقتل الحر بالعبد؛ لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم تجب فيه دية، وإنما تجب فيه قيمته، وأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق أولى، وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر، كما ثبت في البخاري عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مسلم بكافر" (2) ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة.
مسألة: قال الحسن وعطاء: لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية، وخالفهم الجمهور لآية المائدة؛ ولقوله عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" (3) وقال الليث: إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.
مسألة: ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غلام قتله سبعة فقتلهم، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم، ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة، وذلك كالإجماع. وحكي عن الإمام أحمد رواية: أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة. وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير، وعبد الملك بن مروان والزهري ومحمد بن سيرين وحبيب بن أبي ثابت؛ ثم قال ابن المنذر: وهذا أصح، ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة (4) . وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه، وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر.
وقوله: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } قال مجاهد عن ابن عباس: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فالعفو: أن يَقبل الدية في العمد، وكذا روي عن أبي العالية، وأبي الشعثاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان.
وقال الضحاك عن ابن عباس: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } يقول: فمن ترك له من أخيه شيء يعني: [بعد] (5) أخذ الدّية بعد استحقاق الدم، وذلك العفو { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } يقول: فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قَبِل الدية { وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } يعني: من القاتل من غير ضرر ولا مَعْك، يعني : المدافعة.
وروى الحاكم من حديث سفيان، عن عمرو، عن مجاهد، عن ابن عباس: ويؤدي المطلوب
__________
(1) رواه أبو داود في السنن برقم (4515 ، 4516) والترمذي في السنن برقم (1414) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
(2) صحيح البخاري برقم (111).
(3) رواه ابن ماجة في السنن برقم (2683) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) في أ: "قتل جماعة بواحد".
(5) زيادة من جـ، أ.

بإحسان. وكذا قال سعيد بن جُبَير، وأبو الشعثاء جابر بن زَيد، والحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان.
مسألة: قال مالك -رحمه الله -في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور، وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي في أحد قوليه: ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل، وقال الباقون: له أن يعفو عليها وإن لم يرض القاتل، وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو، منهم الحسن، وقتادة، والزهري، وابن شبرمة، والليث، والأوزاعي، وخالفهم الباقون.
وقوله: { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } يقول تعالى: إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفًا من الله عليكم ورحمة بكم، مما كان محتوما على الأمم قبلكم من القتل أو العفو، كما قال سعيد بن منصور:
حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، أخبرني مجاهد، عن ابن عباس، قال: كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى، ولم يكن فيهم العفو، فقال الله لهذه الأمة (1) { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فالعفو أن يقبل الدية في العمد، ذلك تخفيف [من ربكم ورحمة] (2) مما كتب على من كان قبلكم، فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان (3) .
وقد رواه غير واحد عن عمرو [بن دينار] (4) وأخرجه ابن حبان في صحيحه، عن عمرو بن دينار، به (5) . [وقد رواه البخاري والنسائي عن ابن عباس] (6) ؛ ورواه جماعة عن مجاهد عن ابن عباس، بنحوه.
وقال قتادة: { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ } رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية، ولم تحل لأحد قبلهم، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش (7) وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش.
وهكذا روي عن سعيد بن جبير، ومقاتل بن حيان، والربيع بن أنس، نحو هذا.
وقوله: { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يقول تعالى: فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها، فله عذاب من الله أليم موجع شديد.
وكذا رُوي عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان: أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية، كما قال محمد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن سفيان بن أبي العوجاء، عن أبي شريح الخزاعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) في أ: "فقال الله في هذه الآية".
(2) زيادة من جـ.
(3) سنن سعيد بن منصور برقم (246) بتحقيق د. الحميد.
(4) زيادة من جـ.
(5) صحيح ابن حبان (7/601) "الإحسان" وانظر لتمام تخريج هذا الحديث وذكر طرقه: حاشية الدكتور سعد الحميد- حفظه الله - على سنن سعيد بن منصور.
(6) زيادة من جـ، أ.
(7) في جـ: "أثر".

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)

"من أصيب بقتل أو خَبْل (1) فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية؛ فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه. ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها" رواه (2) أحمد (3) .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية -يعني: لا أقبل منه الدية -بل أقتله" (4) .
وقوله: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } يقول تعالى: وفي شَرْع القصاص لكم -وهو قتل القاتل -حكمة عظيمة لكم، وهي بقاء المُهَج وصَوْنها؛ لأنه إذا علم القاتلُ أنه يقتل انكفّ عن صنيعه، فكان في ذلك حياة النفوس. وفي الكتب المتقدمة: القتلُ أنفى للقتل. فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح، وأبلغ، وأوجز.
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتُل، فتمنعه مخافة أن يُقتل.
وكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي مالك، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، { يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يقول: يا أولي العقول والأفهام والنهى، لعلكم تنزجرون فتتركون محارم الله ومآثمه، والتقوى: اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) }
__________
(1) في أ: "أو ختل".
(2) في جـ: "ورواه".
(3) المسند (4/31).
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (1/421) وعزاه لسمويه في فوائده، وروى البيهقي في السنن الكبرى (8/54) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن مطر عن الحسن مرسلا بنحوه، وروى أبو داود في السنن برقم (4507) من طريق حماد عن مطر عن الحسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعا بنحوه.

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

{ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) }
اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين. وقد كان ذلك واجبًا -على أصح القولين -قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه، وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله، يأخذها أهلوها حتمًا من غير وصية ولا تحمل منَّة (1) الموصي، ولهذا جاء الحديث في السنن وغيرها عن عَمْرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول: "إن الله قد أعطى كلّ ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" (2) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عُلَية، عن يونس بن عبيد، عن محمد بن
__________
(1) في و: "مآنة"، وفي أ: "مانة".
(2) سنن الترمذي برقم (2121) وسنن النسائي (6/247) وسنن ابن ماجة برقم (2712).

سيرين، قال: جلس ابن عباس فقرأ سورة البقرة حتى أتى [على] (1) هذه الآية: { إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } فقال: نسخت هذه الآية.
وكذا رواه سعيد بن منصور، عن هشيم، عن يونس، به. ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرطهما (2) .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } قال: كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية للأقربين، فأنزل الله آية الميراث (3) فبيَّن ميراث الوالدين، وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج، وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس، في قوله: { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } نسختها هذه الآية: { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } [ النساء: 7].
ثم قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر (4) وأبي موسى، وسعيد بن المسيَّب، والحسن، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جُبَير، ومحمد بن سيرين، وعكرمة، وزيد بن أسلم، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حَيّان، وطاوس، وإبراهيم النَّخَعي، وشُرَيح، والضحاك، والزهري: أن هذه الآية منسوخة نسختها آية الميراث.
والعجب من أبي عبد الله محمد بن عمر (5) الرازي -رحمه الله -كيف حكى في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصفهاني (6) أن هذه الآية غير منسوخة، وإنما هي مُفَسرة بآية المواريث، ومعناه: كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث (7) الوالدين والأقربين. من قوله: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } [ النساء: 11] قال: وهو قولُ أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء. قال: ومنهم من قال: إنها منسوخة فيمن يرث، ثابتة فيمن لا يرث، وهو مذهب ابن عباس، والحسن، ومسروق، وطاوس، والضحاك، ومسلم بن يَسَار، والعلاء بن زياد.
قلت: وبه قال أيضًا سعيدُ بن جُبَير، والربيع بن أنس، وقتادة، ومقاتل بن حيان. ولكن على قول هؤلاء (8) لا يسمى هذا نسخا في اصطلاحنا المتأخر؛ لأن آية الميراث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية، لأن "الأقربين" أعم ممن يرث ومن (9) لا يرث، فرفع حكم من يرث بما عين له، وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى. وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم: أن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندبا حتى نسخت. فأما من يقول: إنها كانت واجبة وهو الظاهر من
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) سنن سعيد بن منصور برقم (252) بتحقيق االدكتور الحميد، والمستدرك (2/273).
(3) في أ: "المواريث".
(4) في جـ: "ابن أبي عمر".
(5) في جـ: "ابن أبي عمر".
(6) في أ: "الأصبهاني".
(7) في جـ: "من تواريث".
(8) في أ: "على قول هذا".
(9) في أ: "وممن".

سياق الآية -فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث، كما قاله أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء؛ فإنّ وجوب الوصية للوالدين والأقربين [الوارثين] (1) منسوخ بالإجماع. بل منهي عنه للحديث المتقدم: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث". فآية الميراث حكم مستقل، ووجوب من عند الله لأهل الفروض وللعصبات (2) ، رفع بها حكم هذه بالكلية. بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم، يستحب له أن يُوصَى لهم من الثلث، استئناسًا بآية الوصية وشمولها، ولما ثبت في الصحيحين، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده". قال ابن عمر ما مرت عَلَيّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي (3) .
والآيات والأحاديث بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم، كثيرة جدا.
وقال عبد بن حميد في مسنده: أخبرنا عبيد الله، عن مبارك بن حسان، عن نافع قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: يا ابن آدم، ثنتان لم يكن لك واحدة منهما: جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك؛ لأطهرك به وأزكيك، وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك".
وقوله: { إِنْ تَرَكَ خَيْرًا } أي: مالا. قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جُبَير، وأبو العالية، وَعَطية العَوْفي، والضحاك، والسدي، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، وقتادة، وغيرهم.
ثم منهم من قال: الوصية مشروعة سواء قَلّ المال أو كثُر كالوراثة (4) ومنهم من قال: إنما يُوصِي إذا ترك مالا جزيلا ثم اختلفوا في مقداره، فقال ابن أبي حاتم:
حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، أخبرنا سفيان، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، قال: قيل لعلي، رضي الله عنه: إن رجلا من قريش قد مات، وترك ثلاثمائة دينار أو أربعمائة (5) ولم يوص. قال: ليس بشيء، إنما قال الله: { إِنْ تَرَكَ خَيْرًا } .
قال: وحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا عَبْدة -يعني ابن سليمان -عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن عليا دخل على رجل من قومه يعوده، فقال له: أوصي؟ فقال له علي: إنما قال الله تعالى: { إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ } إنما تركت شيئًا يسيرا، فاتركه لولدك.
وقال الحكم (6) بن أبان: حدثني عن عكرمة، عن ابن عباس: { إِنْ تَرَكَ خَيْرًا } قال ابن عباس: من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرًا، قال الحكم (7) : قال طاوس: لم يترك خيرًا من لم يترك ثمانين دينارا. وقال قتادة: كان يقال: ألفا فما فوقها.
وقوله: { بِالْمَعْرُوفِ } أي: بالرفق والإحسان، كما قال ابن أبي حاتم:
__________
(1) زيادة من جـ، أ، و.
(2) في جـ: "والعصبات".
(3) صحيح البخاري برقم (2738) وصحيح مسلم برقم (1627).
(4) في أ: "كالوارثة".
(5) في أ، و: "أربعمائة دينار".
(6) في جـ: "الحاكم".
(7) في جـ: "الحاكم".

حدثنا الحسن بن أحمد، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن يسار (1) ،حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور، عن الحسن، قوله: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } فقال: نَعَم، الوصية حق، على كل مسلم أن يوصي إذا حضره الموت بالمعروف غير المُنكر.
والمراد بالمعروف: أن يوصي لأقربيه وَصيَّةً لا تجحف بورثته، من غير إسراف ولا تقتير، كما ثبت في الصحيحين أن سعدا قال: يا رسول الله، إن لي مالا ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأوصي بثُلُثَيْ مالي؟ قال: "لا" قال: فبالشَّطْر؟ قال: "لا" قال: فالثلث (2) ؟ قال: "الثلث، والثلث كثير؛ إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس".
وفي صحيح البخاري: أن ابن عباس قال: لو أن الناس غَضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الثلث، والثلث كثير" (3) .
وروى الإمام أحمد، عن أبي سعيد مولى بني هاشم، عن ذيال بن عبيد بن حنظلة، سمعت حنظلة بن حذيم (4) بن حنيفة: أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل، فشقّ ذلك على بنيه، فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال حنيفة: إني أوصيت ليتيم لي بمائة من الإبل، كنا نسميها المطيبة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم، "لا لا لا. الصدقة: خمس، وإلا فعَشْر، وإلا فخمس عشرة، وإلا فعشرون، وإلا فخمس وعشرون، وإلا فثلاثون، وإلا فخمس وثلاثون، فإن أكثرت فأربعون".
وذكر الحديث بطوله (5) .
وقوله: { فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } يقول تعالى: فمن بدل الوصية وحرفها، فغير حكمها وزاد فيها أو نقص -ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى -{ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } قال ابن عباس وغير واحد: وقد وقع أجر الميت على الله، وتعلَّق الإثم بالذين بدلوا ذلك { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي: قد اطلع على ما أوصى به الميت، وهو عليم بذلك، وبما بدله الموصى إليهم.
وقوله: { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا } قال ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي: الجَنَف: الخطأ. وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها، بأن زاد وارثا بواسطة أو وسيلة، كما إذا أوصى ببيعه الشيءَ الفُلانيّ محاباة، أو أوصى لابن ابنته ليزيدها، أو نحو ذلك من الوسائل، إما مخطئًا غير عامد، بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر، أو متعمدًا آثمًا في ذلك، فللوصيّ -والحالة هذه -أن يصلح القضية (6) ويعدلَ في الوصية على الوجه الشرعي. ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به (7) جمعا بين مقصود الموصي
__________
(1) في أ، و: "بن بشار".
(2) في جـ: "فبالثلث".
(3) صحيح البخاري برقم (2743).
(4) في أ: "جديم"، وفي و: "جذيم".
(5) المسند (5/67).
(6) في أ: "القصة".
(7) في جـ: "المأمور به".

والطريق الشرعي. وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء. ولهذا عطف هذا -فبينه (1) -على النهي لذلك، ليعلم أنّ هذا ليس من ذلك بسبيل، والله أعلم.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن الوليد بن مَزيد، قراءة، أخبرني أبي، عن الأوزاعي، قال الزهري: حدثني عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "يُرَدّ من صَدقة الحائف (2) في حياته ما يردّ من وصية المجنف (3) عند موته" (4) .
وهكذا رواه أبو بكر بن مَرْدُوَيه، من حديث العباس بن الوليد، به.
قال ابن أبي حاتم: وقد أخطأ فيه الوليد بن مزيد. وهذا الكلام إنما هو عن عروة فقط. وقد رواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، فلم يجاوز به عروة.
وقال ابن مَرْدويه أيضًا: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا إبراهيم بن يوسف، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عمر بن المغيرة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحيف في الوصية من الكبائر" (5) .
وهذا في رفعه أيضًا نظر (6) . وأحسن ما ورد في هذا الباب ما قال عبد الرزاق:
حدثنا مَعْمَر، عن أشعثَ بن عبد الله، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعملُ بعمل أهل الخير سبعينَ سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله، فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعَمَل أهل الشرّ سبعينَ سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله، فيدخل الجنة" (7) . قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا } [البقرة: 229] .
__________
(1) في أ: "فنبه".
(2) في أ: "الخائف".
(3) في أ: "المخيف".
(4) ورواه أبو داود في المراسيل برقم (194) من طريق عباس بن الوليد بن مزيد، عن أبيه، عن الأوزاعي، به. قال العباس: حدثنا به مرة، عن عروة، ومرة عن عروة، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رواه أبو داود برقم (195) عن عروة مرسلا، وبرقم (196) عن الزهري مرسلا.
(5) ورواه الدارقطني في السنن (4/151) والعقيلي في الضعفاء (3/189) والبيهقي في السنن الكبرى (6/271) من طريق عمر بن المغيرة به نحوه، ورواه البيهقي في السنن الكبرى (6/271) من طريق هشيم عن داود به موقوفا، وقال: "هذا هو الصحيح موقوف، وكذلك رواه ابن عيينة وغيره عن داود موقوفا، وروى من وجه آخر مرفوعا، ورفعه ضعيف".
(6) في جـ: "وهذا أيضا في رفعه نظر".
(7) في جـ: "تقديم وتأخير في العبارتين".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) }
يقول تعالى مخاطبًا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرًا لهم بالصيام، وهو: الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله (1) عز وجل، لما فيه من زكاة النفس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة. وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم، فلهم فيه أسوة، وَليَجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك، كما قال تعالى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } [المائدة: 48] ؛ ولهذا قال هاهنا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان؛ ولهذا ثبت في الصحيحين: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" (2) ثم بين مقدار الصوم، وأنه ليس في كل يوم، لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله (3) وأدائه، بل في أيام معدودات. وقد كان هذا في ابتداء الإسلام يصومون من كل شهر ثلاثة أيام، ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان، كما سيأتي بيانه. وقد رُوي أن الصيام كان أولا كما كان عليه الأمم قبلنا، من كل شهر ثلاثة أيام -عن معاذ، وابن مسعود، وابن عباس، وعطاء، وقتادة، والضحاك بن مزاحم. وزاد: لم يزل هذا مشروعًا من زمان نوح إلى أن نَسَخ الله ذلك بصيام شهر رمضان.
وقال عباد بن منصور، عن الحسن البصري: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } فقال: نعم، والله لقد كُتب الصيام على كل أمة قد خلت كما كتب (4) علينا شهرًا كاملا وأياما معدودات: عددا معلوما. وروي عن السدي، نحوه.
وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبد الرحمن المقري، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني عبد الله بن الوليد، عن أبي الربيع، رجل من أهل المدينة، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم.." في حديث طويل اختصر منه ذلك (5) .
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عمن حدثه عن ابن عمر، قال أنزلت: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (6) } كتب عليهم إذا صلى أحدهم العتمة ونام حرم [الله] (7) عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس، وأبي العالية، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، ومقاتل بن حَيّان، والربيع بن أنس، وعطاء الخراساني، نحو ذلك.
وقال عطاء الخراساني، عن ابن عباس: { كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يعني بذلك: أهل الكتاب. وروي عن الشعبي والسّدي (8) وعطاء الخراساني، مثله.
__________
(1) في جـ: "خالصة لوجه الله تعالى".
(2) صحيح البخاري برقم (5066) وصحيح مسلم برقم (1400) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(3) في أ: "ليشق على النفوس فتضعف عن حكمه".
(4) في أ: "كما كتبه الله".
(5) عزاه الحافظ ابن حجر في الفتح (8/178) لابن أبي حاتم وقال: "في إسناده مجهول".
(6) زيادة من جـ.
(7) زيادة من جـ.
(8) في جـ: "عن السدي والشعبي".

ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فقال: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أي: المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر؛ لما في ذلك من المشقة عليهما، بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر. وأما الصحيح المقيم الذي يُطيق الصيام، فقد كان مخيَّرًا بين الصيام وبين الإطعام، إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وأطعم عن كل يوم مسكينا، فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم، فهو خير، وإن صام فهو أفضل من الإطعام، قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وطاوس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم من السلف؛ ولهذا قال تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا المسعودي، حدثنا عمرو بن مُرّة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، قال: أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال؛ فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، وهو يصلي (1) سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس، ثم إن الله عز وجل أنزل عليه: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } [البقرة: 144] فوجهَهُ اللهُ إلى مكة. هذا حول.
قال: وكانوا يجتمعون للصلاة ويُؤْذِنُ بها بعضهم بعضا حتى نَقَسُوا أو كادوا يَنْقُسُون. ثم إنّ رجلا من الأنصار، يقال له: عبد الله بن زيد، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني رأيت فيما يرى النائم -ولو قلتُ: إني لم أكن نائمًا لصدقتُ -أني (2) بينا أنا بين النائم واليقظان إذْ رأيت شخصًا عليه ثوبان أخضران، فاستقبل القبلة، فقال: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله -مثنى حتى فرغ من الأذان، ثم أمهل ساعة، ثم قال مثل الذي قال، غير أنه يزيد في ذلك: قد قامت الصلاة -مرتين -قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علمها بلالا فَلْيؤذن بها". فكان بلال أول من أذن بها. قال: وجاء عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، [إنه] (3) قد طاف بي مثل الذي طاف به، غير أنه سبقني، فهذان حالان (4) .
قال: وكانوا يأتون الصلاة -قد سبقهم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ببعضها، فكان الرجل يشير إلى الرجل إذًا كم صلى، فيقول: واحدة أو اثنتين، فيصليهما، ثم يدخل مع القوم في صلاتهم. قال: فجاء معاذ فقال: لا أجده على حال أبدًا إلا كنتُ عليها، ثم قضيتُ ما سبقني. قال: فجاء وقد سَبَقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها، قال: فثَبَتَ معه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قَد سن لكم مُعَاذ، فهكذا فاصنعوا". فهذه ثلاثة أحوال (5) .
وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فجعل يصومُ من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء، ثم إن الله فرض عليه الصيام، وأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } .
__________
(1) في جـ: "فصلى".
(2) في جـ: "وأني".
(3) زيادة من جـ، أ، و.
(4) في جـ، أ، و: "حولان".
(5) المسند (5/246).

إلى قوله: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فكان مَنْ شاء صام، ومن شاء أطعم مسكينًا، فأجزأ ذلك عنه. ثم إن الله عز وجل أنزل الآية الأخرى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } إلى قوله: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فأثبت اللهُ صيامَه على المقيم الصحيح (1) ورخَّصَ فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعامُ للكبير (2) الذي لا يستطيع الصيام، فهذان حالان (3) .
قال: وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له: صرمة، كان يعمل صائمًا حتى أمسى، فجاء إلى أهله فصلى العشاء، ثم نام فلم يأكل ولم يشرب، حتى أصبح فأصبح صائما، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدًا شديدًا، فقال: ما لي أراك قد جَهِدْت جهدًا شديدا؟ قال: يا رسول الله، إني عملت أمس فجئتُ حين جئتُ فألقيتُ نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائمًا. قال: وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنزل الله عز وجل: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } إلى قوله: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }
وأخرجه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، من حديث المسعودي، به (4) .
وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: كان عاشوراء يصام، فلما نزل فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر (5) . وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود، مثله (6) .
وقوله: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كما قال معاذ: كان (7) في ابتداء الأمر: من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا. وهكذا روى البخاري عن سَلَمة بن الأكوع أنه قال: لما نزلت: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من أراد أن يُفْطر يفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها (8) .
وروي أيضًا من حديث عبيد الله (9) عن نافع، عن ابن عمر، قال: هي منسوخة.
وقال السدي، عن مرة، عن عبد الله، قال: لما نزلت هذه الآية: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } قال: يقول: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي: يتجشمونه، قال عبد الله: فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا { فَمَنْ تَطَوَّعَ } قال: يقول: أطعم مسكينا آخر { فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } فكانوا كذلك حتى نسختها: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }
__________
(1) في جـ: "الصحيح المقيم".
(2) في جـ: "للنفر".
(3) في أ: "الحولان".
(4) سنن أبي داود برقم (506،507).
(5) صحيح البخاري برقم (4502) وصحيح مسلم برقم (1125).
(6) حديث ابن عمر في صحيح البخاري برقم (4501) وحديث ابن مسعود في صحيح البخاري برقم (4503).
(7) في جـ: "وكان".
(8) صحيح البخاري برقم (4507).
(9) في جـ: "عبد الله".

وقال البخاري أيضًا: حدثنا إسحاق، أخبرنا روح، حدثنا زكريا بن إسحاق، حدثنا عَمْرو بن دينار، عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ: " وعلى الذين يُطَوَّقُونه فدية طعام مسكين " . قال ابن عباس: ليست منسوخة، هو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا (1) .
وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، نحوه.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبد الرحيم ، عن أشعث بن سوار، عن عكرمة، عن ابن عباس [قال] (2) نزلت هذه الآية: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف، فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينًا.
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا الحسين بن محمد بن بِهْرام المحرمي، حدثنا وهب بن بَقِيَّة، حدثنا خالد بن عبد الله، عن ابن أبي ليلى، قال: دخلت على عطاء في رمضان، وهو يأكل، فقال: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا، ثم نزلت هذه الآية فنسخت الأولى، إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينًا وأفطر. فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه، بقوله: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وأما الشيخ الفاني [الهرم] (3) الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه، لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه [إذا أفطر] (4) أن يطعم عن (5) كل يوم مسكينًا إذا كان ذا جِدة؟ فيه قولان للعلماء، أحدهما: لا يجب عليه إطعام؛ لأنه ضعيف عنه لسنّه، فلم يجب عليه فدية كالصبي؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وهو أحد قولي الشافعي. والثاني -وهو الصحيح، وعليه أكثر العلماء -: أنه يجب عليه فدية عن كل يوم، كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي: يتجشمونه، كما قاله ابن مسعود وغيره، وهو اختيار البخاري فإنه قال: وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام، فقد أطعم أنس -بعد أن (6) كبر عامًا أو عامين -كل يوم مسكينًا خبزًا ولحما، وأفطر (7) .
وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده، فقال: حدثنا عُبَيد الله بن مُعَاذ، حدثنا أبي، حدثنا عمران، عن أيوب بن أبي تميمة (8) قال: ضعف أنس [بن مالك] (9) عن الصوم، فصنع جفنة من ثريد، فدعا ثلاثيِن مسكينًا فأطعمهم (10) .
ورواه عبد بن حميد، عن روح بن عبادة، عن عمران -وهو ابن حُدَير (11) -عن أيوب، به.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4505).
(2) زيادة من أ، و.
(3) زيادة من جـ، أ، و.
(4) زيادة من جـ، أ، و.
(5) في أ: "في".
(6) في جـ: "بعد ما".
(7) صحيح البخاري (8/179) "فتح".
(8) في جـ، أ: "بن أبي تميم".
(9) زيادة من أ.
(10) مسند أبي يعلى (7/204) وقال الهيثمي في المجمع (3/164): "رجاله رجال الصحيح" لكنه منقطع.
(11) في و: "وهو ابن خدير".

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

ورواه عبد أيضًا، من حديث ستة من أصحاب أنس، عن أنس -بمعناه.
ومما يلتحق بهذا المعنى: الحامل والمرضع، إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما، ففيهما خلاف كثير بين العلماء، فمنهم من قال: يفطران ويفديان ويقضيان. وقيل: يفديان فقط، ولا قضاء. وقيل: يجب القضاء بلا فدية. وقيل: يفطران، ولا فدية ولا قضاء. وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه (1) . ولله الحمد والمنة.
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) }
يمدح تعالى شهرَ الصيام من بين سائر الشهور، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه، وكما اختصه بذلك، قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء.
قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عمْران أبو العوام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة -يعني ابن الأسقع-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت صُحُف إبراهيم في أول ليلة من رمضان. وأنزلت التوراة لسِتٍّ مَضَين من رمضان، والإنجيل لثلاث عَشَرَةَ خلت من رمضان (2) وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان" (3) .
وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وفيه: أن الزبور أنزل (4) لثنتَي عشرة [ليلة] (5) خلت من رمضان، والإنجيل لثماني عشرة، والباقي كما تقدم. رواه ابن مَردُويه.
أما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل -فنزل كل منها (6) على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في شهر رمضان، في ليلة القدر منه، كما قال تعالى: { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [القدر: 1]. وقال: { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } [الدخان: 3]، ثم نزل بعدُ مفرّقًا (7) بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم. هكذا روي من غير وجه، عن ابن عباس، كما قال إسرائيل، عن السّدي، عن محمد بن أبي المجالد عن مِقْسَم، عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود، فقال: وقع (8) في قلبي الشك من قول الله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } وقوله: { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } وقوله: { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } وقد (9) أنزل في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي المحرم، وصفر، وشهر ربيع. فقال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان، في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل (10) على مواقع النجوم ترتيلا (11) في الشهور والأيام. رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه، وهذا لفظه.
__________
(1) في أ: "الذي أوردناه".
(2) في"أ" بعدها: "وأنزل الزبور لثماني عشرة خلت من رمضان".
(3) المسند (4/107).
(4) في جـ: "نزلت"، وفي أ: "نزل".
(5) زيادة من أ.
(6) في جـ: "منهما".
(7) في و: "متفرقا".
(8) في و: "أوقع".
(9) في جـ: "وهذا".
(10) في جـ: "ثم نزل".
(11) في أ: "رسلا".

وفي رواية سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العِزَّة، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة لجواب كلام الناس.
وفي رواية عكرمة، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة، وكان الله يُحْدثُ لنبيه ما يشاء، ولا يجيء المشركون بمثَل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه، وذلك قوله: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [الفرقان: 32، 33].
[قال فخر الدين: ويحتمل أنه كان ينزل في كل ليلة قدر ما يحتاج الناس إلى إنزاله إلى مثله من اللوح إلى سماء الدنيا، وتوقف، هل هذا أولى أو الأول؟ وهذا الذي جعله احتمالا نقله القرطبي عن مقاتل بن حيان، وحكى الإجماع على أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وحكى الرازي عن سفيان بن عيينة وغيره أن المراد بقوله: { الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } أي: في فضله أو وجوب صومه، وهذا غريب جدا] (1) .
وقوله: { هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه { وَبَيِّنَاتٍ } أي: ودلائل وحُجَج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبَّرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي، ومفرقًا بين الحق والباطل، والحلال، والحرام.
وقد روي عن بعض السلف أنه كَره أن يقال: إلا "شهر رمضان" ولا يقال: "رمضان"؛ قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا محمد بن بكار بن الريَّان، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القُرَظي، وسعيد -هو المقْبُري-عن أبي هريرة، قال: لا تقولوا: رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: شهر رمضان.
قال (2) ابن أبي حاتم: وقد روي عن مجاهد، ومحمد بن كعب نحو ذلك، ورَخَّص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت.
قلت: أبو معشر هو نَجِيح بن عبد الرحمن المدني إمام [في] (3) المغازي، والسير، ولكن فيه ضعف، وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعا، عن أبي هريرة، وقد أنكره عليه الحافظ ابن عدي (4) -وهو جدير بالإنكار-فإنه متروك، وقد وهم في رفع هذا الحديث، وقد انتصر البخاري، رحمه الله، في كتابه لهذا فقال: "باب يقال (5) رمضان" (6) وساق أحاديث في ذلك منها: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" ونحو ذلك.
__________
(1) زيادة من جـ، أ.
(2) في جـ: "قال لي".
(3) زيادة من جـ.
(4) الكامل لابن عدي (7/53).
(5) في جـ: "باب بأن يقال".
(6) الترجمة في الصحيح (4/112): "باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان، ومن رأى كله واسعا".

وقوله: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } هذا إيجاب حَتْمٍ على من شهد استهلال الشهر -أي كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان، وهو صحيح في بدنه -أن يصوم لا محالة. ونَسَخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحًا مقيما أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم، كما تقدم بيانه. ولما حتَّم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار، بشرط القضاء فقال: { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } معناه: ومن كان به مرض في بدنه يَشُقّ عليه الصيام معه، أو يؤذيه (1) أو كان على سفر أي في حال سفر -فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه بعدة ما أفطره في السفر من الأيام؛ ولهذا قال: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } أي: إنما رخَّصَ لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح، تيسيرًا عليكم ورحمة بكم.
وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الآية:
إحداها: أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر في أثنائه، فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه، لقوله: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وإنما يباح الإفطار لمسافر استهل الشهر وهو مسافر، وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه المُحَلى، عن جماعة من الصحابة والتابعين. وفيما حكاه عنهم نظر، والله أعلم. فإنه قد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرَجَ في شهر رمضان لغزوة الفتح، فسار (2) حتى بلغ الكَديد، ثم أفطر، وأمر الناس بالفطر. أخرجه صاحبا الصحيح (3) .
الثانية: ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر، لقوله: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } والصحيح قول الجمهور، أن الأمر في ذلك على التخيير، وليس بحَتْم؛ لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان. قال: "فَمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائمُ على المفطر، ولا المفطر على الصائم (4) ". فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم (5) الصيام، بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل هذه الحالة صائمًا، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء [قال] (6) خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [في شهر رمضان] (7) في حَرٍّ شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه [من شدة الحر] (8) وما فينا صائم إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة (9) .
الثالثة: قالت طائفة منهم الشافعي: الصيام في السفر أفضل من الإفطار، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وقالت طائفة: بل الإفطار أفضل، أخذا بالرخصة، ولما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن الصوم في السفر، فقال: "من أفطر فحَسَن، ومن صام فلا جناح عليه" (10) . وقال في حديث آخر:
__________
(1) في جـ: "أو يمتد به".
(2) في أ، و: "فصام".
(3) صحيح البخاري برقم (1948،4279) وصحيح مسلم برقم (1113).
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (1118) من حديث أنس رضي الله عنه.
(5) في أ: "عليهم في الصيام".
(6) زيادة من و.
(7) زيادة من جـ، أ، و.
(8) زيادة من جـ، أ، و.
(9) صحيح البخاري برقم (1945) وصحيح مسلم برقم (1122).
(10) هذا لفظ حديث حمزة بن عمرو الأسلمي في صحيح مسلم برقم (1121).

"عليكم برخصة الله التي رخص لكم" (1) وقالت طائفة: هما سواء لحديث عائشة: أن حَمْرة بن عمرو الأسلمي قال: يا رسول الله، إني كثير الصيام، أفأصوم في السفر؟ فقال: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر". وهو في الصحيحين (2) . وقيل: إن شق الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد ظُلِّلَ عليه، فقال: "ما هذا؟ " قالوا: صائم، فقال: " ليس من البر الصيام في السفر". أخرجاه (3) . فأما إن رغب عن السنة، ورأى أن الفطر مكروه إليه، فهذا يتعين عليه الإفطار، ويحرم عليه الصيام، والحالة هذه، لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره، عن ابن عمر وجابر، وغيرهما: من لم يقبل رُخْصَةَ الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة (4) .
الرابعة: القضاء، هل يجب متتابعًا أو يجوز فيه التفريق؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يجب التتابع، لأن القضاء يحكي الأداء. والثاني: لا يجب التتابع، بل إن شاء فَرّق، وإن شاء تابع. وهذا قول جُمهور السلف والخلف، وعليه ثبتت الدلائل (5) ؛ لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدَّةَ ما أفطر. ولهذا قال تعالى: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ثم قال: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } قال الإمام أحمد:
حدثنا أبو سلمة الخزاعي، حدثنا ابن (6) هلال، عن حميد بن هلال العدوي، عن أبي قتادة، عن الأعرابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره" (7) .
وقال أحمد أيضًا: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عاصم بن هلال، حدثنا غاضرة بن عُرْوة الفُقَيْمي، حدثني أبي عُرْوَة، قال: كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج رَجلا (8) يَقْطُرُ رأسه من وضوء أو غسل، فصلى، فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه: علينا حرج في كذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دين الله في يسر" ثلاثًا يقولها (9) .
ورواه الإمام أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية من حديث مسلم بن إبراهيم، عن عاصم بن هلال، به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة قال: حدثنا أبو التيّاح، سمعت أنس بن مالك يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يسروا، ولا تعسروا، وسكِّنُوا ولا تُنَفِّروا". أخرجاه في الصحيحين (10) . وفي الصحيحين أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن: "بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا". وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) هذا لفظ حديث جابر وسيأتي.
(2) صحيح البخاري برقم (1943) وصحيح مسلم برقم (1121).
(3) صحيح البخاري برقم (1946) وصحيح مسلم برقم (1121).
(4) المسند (2/71).
(5) في جـ: "تثبت الأدلة".
(6) في أ، و: "حدثنا أبو".
(7) المسند (3/479).
(8) في أ، و: "فخرج رجل".
(9) المسند (5/69).
(10) صحيح البخاري برقم (69) وصحيح مسلم برقم(1734).

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

قال: "بعثت بالحنيفيَّة السمحة" (1) .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره: حدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم، حدثنا يحيى ابن أبي طالب، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا أبو مسعود الجُرَيري، عن عبد الله بن شقيق، عن مِحْجَن بن الأدرع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي فتراءاه ببصره (2) ساعة، فقال: "أتراه يصلي صادقًا؟" قال: قلت: يا رسول الله، هذا أكثر أهل المدينة صلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُسْمِعْه فَتُهلِكَه". وقال: "إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليُسْر، ولم يرد بهم العُسْر" (3) .
ومعنى قوله: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } أي: إنما أرْخَصَ لكم في الإفطار للمرض (4) والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدّة شهركم.
وقوله: { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } أي: ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم، كما قال: { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } [البقرة: 200] وقال: [ { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } ] (5) [ النساء: 103]، { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الجمعة: 10] وقال: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } [ق: 39، 40]؛ ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح، والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات.
وقال ابن عباس: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير؛ ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية: { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر؛ لظاهر الأمر في قوله { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وفي مقابلَته مذهبُ أبي حنيفة -رحمه الله -أنه لا يُشْرَع التكبير في عيد الفطر. والباقون على استحبابه، على اختلاف في تفاصيل بعض الفروع بينهم.
وقوله: { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي: إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه، وترك محارمه، وحفظ حدوده، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك.
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) }
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، أخبرنا جرير، عن عبدة بن أبي برزة السِّجستاني (6) عن الصُّلْب (7) بن حَكيِم بن معاوية بن حيدة القشيري، عن أبيه، عن جده، أن
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4341 ، 4342) وصحيح مسلم برقم (1733).
(2) في أ، و: "ببصره".
(3) ورواه أحمد في المسند (5/32) من طريق حماد عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق عن محجن نحوه.
(4) في أ: "للمريض".
(5) زيادة من جـ.
(6) في جـ، أ، و: "السختياني".
(7) في جـ: "الصلت".

أعرابيًا قال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } (1) .
ورواه ابن مَرْدُويه، وأبو الشيخ الأصبهاني، من حديث محمد بن أبي حميد، عن جرير، به. وقال عبد الرزاق: أخبرنا جعفر بن سليمان، عن عوف، عن الحسن، قال: سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [النبي صلى الله عليه وسلم] (2) : أين ربنا؟ فأنزل الله عز وجل: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } الآية (3) .
وقال ابن جُرَيج عن عطاء: أنه بلغه لما نزلت: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60] قال الناس: لو نعلم أي ساعة ندعو؟ فنزلت: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، حدثنا خالد الحذاء، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الأشعري، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزَاة فجعلنا لا نصعد شَرَفًا، ولا نعلو شَرَفًا، ولا نهبط واديًا إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير. قال: فدنا منا فقال: "يا أيها الناس، أرْبعُوا على أنفسكم؛ فإنَّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا، إن الذي تدعون أقربُ إلى أحدكم من عُنُق راحلته. يا عبد الله بن قيس، ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله".
أخرجاه في الصحيحين، وبقية الجماعة من حديث أبي عثمان النهدي، واسمه عبد الرحمن بن مُل (4) ، عنه، بنحوه (5) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا شعبة، حدثنا قتادة، عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني" (6) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله، أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا إسماعيل بن عبيد الله، عن كريمة بنت الخشخاش المزنية، قالت: حدثنا أبو هريرة: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله: أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه" (7) .
قلت: وهذا كقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [النحل: 128]، وكقوله لموسى وهارون، عليهما السلام: { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه: 46]. والمراد من هذا: أنه تعالى لا يخيب دعاء داع، ولا يشغله عنه شيء، بل هو سميع الدعاء. وفيه ترغيب في الدعاء، وأنه لا يضيع لديه تعالى، كما قال الإمام أحمد:
__________
(1) ورواه الطبري في تفسيره (3/480) من طريق جرير به، وانظر حاشيته ففيها كلام جيد حول الصلب بن حكيم.
(2) زيادة من جـ، أ، و.
(3) ورواه الطبري في تفسيره (3/481) من طريق عبد الرزاق به.
(4) في جـ: "بن ملبك".
(5) المسند (4/402).
(6) المسند (3/210).
(7) المسند (2/540).

حدثنا يزيد، حدثنا رجل أنه سمع أبا عثمان -هو النهدي -يحدث عن سلمان -يعني الفارسي -رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى ليستحيي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرا فيردّهما خائبتين".
قال يزيد: سموا لي هذا الرجل، فقالوا: جعفر بن ميمون (1) .
وقد رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة من حديث جعفر بن ميمون، صاحب الأنماط، به (2) . وقال الترمذي: حسن غريب. ورواه بعضهم، ولم يرفعه.
وقال الشيخ الحافظ أبو الحجاج المِزّي، رحمه الله، في أطرافه: وتابعه أبو همام محمد بن الزبرقان، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، به (3) .
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أبو عامر، حدثنا عَليّ بن دُؤاد أبو المتوكل الناجي، عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجِّل له دعوته، وإما أن يَدّخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" قالوا: إذًا نكثر. قال: "الله أكثر (4) " (5) .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن منصور الكوسج، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن جُبَير بن نفير، أن عُبَادة بن الصامت حدّثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما على ظهر الأرض من رجل مُسْلِم يدعو الله، عز وجل، بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو كف عنه من السوء مثلها، ما لم يَدعُ بإثم أو قطيعة رحم" (6) .
ورواه الترمذي، عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن محمد بن يوسف الفرْيابي، عن ابن ثوبان -وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان -به (7) . وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
وقال الإمام مالك، عن ابن شهاب، عن أبي عبيد -مولى ابن أزهر -عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُسْتَجَاب لأحدكم ما لم يَعْجل، يقول: دعوتُ فلم يستجب لي".
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك، به (8) . وهذا لفظ البخاري، رحمه الله، وأثابه الجنة.
وقال مسلم أيضًا (9) : حدثني أبو الطاهر، حدثنا ابن وهب، أخبرني معاوية بن صالح، عن ربيعة ابن يزيد، عن أبي إدريس الخَوْلاني، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يَدْعُ بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل". قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: "يقول: قد
__________
(1) المسند (5/438).
(2) سنن أبي داود برقم (1488) وسنن الترمذي برقم (1488) وسنن ابن ماجة برقم (3865).
(3) تحفة الأشراف (4/29).
(4) في جـ: "أكثروا".
(5) المسند (3/18).
(6) زوائد المسند (5/329).
(7) سنن الترمذي برقم (3573).
(8) الموطأ (1/213) وصحيح البخاري برقم (684).
(9) في جـ، أ: "وقال مسلم في صحيحه".

دعوتُ، وقد دَعَوتُ، فلم أرَ يستجابُ لي، فَيَسْتَحسر عند ذلك، ويترك (1) الدعاء" (2) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا ابن (3) هلال، عن قتادة، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل". قالوا: وكيف يستعجل؟ قال: "يقول: قد دعوتُ ربي فلم يَسُتَجبْ لي" (4) .
وقال الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره: حدثني يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، حدثني أبو صخر: أن يزيد بن عبد الله بن قسَيط حدثه، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: ما من عَبْد مؤمن يدعو الله بدعوة فتذهب، حتى تُعَجَّل له في الدنيا أو تُدّخر له في الآخرة، إذا لم (5) يعجل أو يقنط. قال عروة: قلت: يا أمَّاه (6) كيف عجلته وقنوطه؟ قالت: يقول: سألت فلم أعْطَ، ودعوت فلم أجَبْ.
قال ابن قُسَيْط: وسمعت سعيد بن المسيب يقول كقول عائشة سواء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا بكر بن عمرو، عن أبي عبد الرحمن الحُبُليّ، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "القلوب أوعية، وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل" (7) .
وقال ابن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن إسحاق بن أيوب، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن أبيَّ بن نافع ابن معد يكرب ببغداد، حدثني أبي بن نافع، حدثني أبي نافع بن معد يكرب، قال: كنت أنا وعائشة سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الآية: { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } قال: "يا رب، مسألة عائشة". فهبط جبريل فقال: الله يقرؤك السلام، هذا عبدي الصالح (8) بالنية الصادقة، وقلبُه نقي (9) يقول: يا رب، فأقول: لبيك. فأقضي حاجته.
هذا حديث غريب من هذا الوجه (10) .
وروى ابن مَرْدُويه من حديث الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: حدثني جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } الآية. فقال رسول
__________
(1) في جـ، أ، و: "ويدع".
(2) صحيح مسلم برقم (2735).
(3) في جـ: "حدثنا أبو".
(4) المسند (3/210).
(5) في جـ، أ: "إذا هو لم".
(6) في أ، و: "يا أمتاه".
(7) المسند (2/177).
(8) في جـ: "عبدي أصلح".
(9) في جـ: "وقلبه تقي".
(10) ذكره ابن الأثير في أسد الغابة (4/530) وقال: "روى حديثه محمد بن إسحاق، عن إسحاق بن إبراهيم بن أبي بن نافع بن معد يكرب عن جده أبي، عن أبيه نافع بن معد يكرب أنه قال، فذكر مثله" ثم قال ابن الأثير: "أخرجه أبو موسى وقال: عند ابن إسحاق هذا، وعند غيره: عن إسحاق بن إبراهيم أحاديث".

الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أمرت بالدعاء، وتوكَّلْتَ بالإجابة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك، أشهد أنك فرد أحد صَمَد لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوًا أحد، وأشهد أن وعدك حق، ولقاءك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنت تبعث من في القبور" (1) .
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الحسن بن يحيى الأرزي (2) ومحمد بن يحيى القُطَعي (3) قالا حدثنا الحجاج بن مِنْهال، حدثنا صالح المُرِّي، عن الحسن، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: يا ابن آدم، واحدة لك وواحدة لي، وواحدة فيما بيني وبينك؛ فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي لك فما عملتَ من شيء وَفَّيْتُكَه (4) وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعليّ الإجابة" (5) .
وفي ذكره تعالى (6) هذه الآية الباعثة على الدعاء، متخللة بين أحكام الصيام، إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العِدّة، بل وعندَ كلّ فطر، كما رواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده:
حدثنا أبو محمد المليكي، عن عَمْرو -هو ابن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة". فكان عبد الله بن عمرو إذ أفطر دعا أهله، وولده ودعا (7) .
وقال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة في سننه: حدثنا هشام بن عمار، أخبرنا الوليد بن مسلم، عن إسحاق بن عبيد الله (8) المدني، عن عَبْد الله (9) بن أبي مُلَيْكة، عن (10) عبد الله بن عَمْرو، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن للصائم عند فطره دَعْوةً ما تُرَدّ". قال عَبْد الله (11) بن أبي مُليَكة: سمعت عبد الله بن عَمْرو يقول إذا أفطر: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعَتْ كل شيء أن تغفر لي (12) .
وفي مسند الإمام أحمد، وسنن الترمذي، والنسائي، وابن ماجة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى (13) يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون (14) الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول: بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين" (15) .
__________
(1) ورواه الديلمي في مسند الفردوس برقم (1798) وابن أبي الدنيا في الدعاء كما في الدر المنثور (1/474) وإسناده واه.
(2) في جـ: "الأزدي".
(3) في جـ: "المقطعي".
(4) في أ، و: "من شيء أو من عمل وفيتكه".
(5) مسند البزار برقم (19) "كشف الأستار" وقال البزار: "تفرد به صالح المري، وصالح المري ضعفه الأئمة".
(6) في جـ: "وفي ذكره تبارك وتعالى".
(7) مسند الطيالسي برقم (2262).
(8) في هـ: "عبد الله"، والصواب ما أثبتناه.
(9) في و: "عبيد الله".
(10) في جـ: "سمعت".
(11) في و : "عبيد الله".
(12) سنن ابن ماجة برقم (1753) وقال البوصيري في الزوائد (2/38): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات" وحسنه الحافظ ابن حجر في "نتائج الأفكار".
(13) في و: "حين".
(14) في أ: "فوق".
(15) المسند (2/445) وسنن الترمذي برقم (3598) وسنن ابن ماجة برقم (1752)

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) }

هذه رُخْصة من الله تعالى للمسلمين، ورَفْع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة. فوجدوا من ذلك مَشَقة كبيرة. والرفث هنا هو: الجماع. قاله (1) ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وطاوس، وسالم بن عبد الله ، وعَمْرو بن دينار (2) والحسن، وقتادة، والزهري، والضحاك، وإبراهيم النَّخَعي، والسّدي، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حيان.
وقوله: { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان: يعني هن سَكَن لكم، وأنتم سكن لهن.
وقال الربيع بن أنس: هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن.
وحاصله أنّ الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر ويُمَاسه ويضاجعه، فناسب أن يُرَخَّص لهم في المجامعة في ليل رمضانَ، لئلا يشقّ ذلك عليهم، ويحرجوا، قال الشاعر (3) إذا ما الضجيع ثَنَى جيدها ... تَدَاعَتْ فكانت عليه لباسا ...
وكان السبب في نزول هذه الآية كما تقدم في حديث معاذ الطويلِ، وقال أبو إسحاق عن البراء ابن عازب قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا فنام قبل أن يفطر، لم يأكل إلى مثلها، وإن قَيْس بن صِرْمة (4) الأنصاري كان صائمًا، وكان يومه ذاك يعمل في أرضه، فلما حَضَر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك. فغلبته عينُه فنام، وجاءت امرأته، فلما رأته نائما قالت: خيبة لك! أنمت؟ فلما انتصف النهار غُشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } إلى قوله: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } ففرحوا بها فرحًا شديدًا (5) .
ولفظ البخاري هاهنا من طريق أبي إسحاق: سمعت البراء قال: لما نزل صومُ رمضان كانوا لا
__________
(1) في أ: "كما قال".
(2) في جـ: "بن يسار".
(3) هو النابغة الجعدي، والبيت في تفسير الطبري (3/490).
(4) في و: "قيس بن أبي صرمة".
(5) هذا اللفظ رواه الطبري في تفسيره (3/495).

يقرَبُون النساء، رَمَضَان كُلّه، وكان رجَال يخونون أنفسهم، فأنزل الله: { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } (1) .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: كان المسلمون في شهر رمضان إذا صَلُّوا العشاء حَرُم عليهم (2) النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن أناسًا من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } وكذا روى العوفي عن ابن عباس.
وقال موسى بن عقبة، عن كُرَيْب، عن ابن عباس، قال: إن الناس كانوا قبل أن ينزل في الصوم ما نزل فيهم يأكلون ويشربون، ويحل لهم شأن النساء، فإذا نام أحدهُم لم يطعم ولم يشرَب ولا يأتي أهله حتى يفطر من القابلة، فبلغنا أن عُمَر بن الخطاب بعدما نام ووجب عليه الصوْمُ وَقَع على أهله، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشكو إلى الله وإليك الذي صنعت. قال: "وماذا صنعت؟ " قال: إني سَوَّلَتْ لي نفسي، فوقعت على أهلي بعد ما نمت وأنا أريد الصوم. فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما كنت خليقًا أن تفعل". فنزل الكتاب: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ }
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قيس بن سعد (3) ، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة في قول الله تعالى (4) { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } إلى قوله: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } قال: كانَ المسلمون قبلَ أن تنزل هذه الآية إذا صلوا العشاء الآخرة حَرُمَ عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا، وإن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء، وأن صِرْمة بن قيس الأنصاري غلبته عينه بعد صلاة المغرب، فنام ولم يشبع من الطعام، ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء، فقام فأكل وشرب، فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره (5) بذلك، فأنزل الله عند ذلك: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } يعني بالرفث: مجامعة النساء { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } يعني: تجامعون النساء، وتأكلون وتشربون بعد العشاء { فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } يعني: جامعوهن { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يعني: الولد { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } فكان ذلك عفوًا من الله ورحمة.
وقال هُشَيم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبِي ليلى، قال: قام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، إني أردت أهلي البارحة (6) على ما يريد الرجلُ أهلهُ فقالت: إنها قد نامت، فظننتها تعْتلّ، فواقعتها، فنزل في عمر: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4508).
(2) في جـ: "حرم الله عليهم".
(3) في جـ: "سعد بن قيس".
(4) في جـ: "في قوله تعالى".
(5) في جـ: "فأخبراه".
(6) في جـ: "البارحة أهلي".

وهكذا رواه شعبة، عن عَمْرو بن مُرّة، عن ابن أبي ليلى، به (1) .
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني المثنى، حدثنا سويد، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن لَهِيعة، حدثني موسى بن جبير -مولى بني سلمة -أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسَى فنام، حُرّم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد. فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سَمَرَ عنده، فوجد امرأته قد نامت، فأرادها، فقالت: إني قد نمت! فقال: ما نمت! ثم وقع بها. وصنع كعب بن مالك مثل ذلك. فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله: { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } [الآية] (2) (3) .
وهكذا روي عن مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والسدي، وقتادة، وغيرهم في سبب نزول هذه الآية في عمر بن الخطاب ومن صنع كما صنع، وفي صِرْمة بن قيس؛ فأباح الجماعَ والطعام والشراب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقًا.
وقوله: { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } قال أبو هريرة، وابن عباس (4) وأنس، وشُرَيح القاضي، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء، والربيع بن أنس، والسدي، وزيد بن أسلم، والحكم بن عتبة (5) ومقاتل بن حيان، والحسن البصري، والضحاك، وقتادة، وغيرهم: يعني الولد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يعني: الجماع.
وقال عَمْرو بن مالك النَّكْري، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس: { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } قال: ليلة القدر. رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر قال: قال قتادة: وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم. وقال سعيد عن قتادة: { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يقول: ما أحل الله لكم.
وقال عبد الرزاق أيضًا: أخبرنا ابن عُيَيْنة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح، قال: قلت لابن عباس: كيف تقرأ هذه الآية: { وَابْتَغُوا } أو: "اتبعوا" ؟ قال: أيتهما شئت: عليك بالقراءة الأولى.
واختار ابن جرير أنّ الآية أعمّ من هذا كله.
وقوله: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } أباح تعالى الأكل والشرب، مع ما تقدم من إباحة الجماع في أيّ الليل شاء الصائمُ إلى أن يتبين ضياءُ الصباح من سواد الليل، وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود، ورفع اللبس بقوله: { مِنَ الْفَجْرِ } كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الله البخاري: حدثنا ابن أبي
__________
(1) رواه ابن مردويه في تفسيره من طريق عمرو بن عون، عن هشيم به. قال الحافظ ابن كثير في "مسند الفاروق" (2/566): "هذا إسناد جيد وابن أبي ليلى مختلف في سماعه من عمر، ولكن قد روي من وجه آخر عن ابن أبي ليلى عن معاذ بن جبل أن عمر فعل مثل هذا". ورواه الطبري في تفسيره (3/493) من طريق شعبة عن عمرو بن مرة به.
(2) زيادة من جـ، أ، و.
(3) تفسير الطبري (3/496).
(4) في جـ: "قال الزهري عن ابن عباس".
(5) في أ: "عيينة"، وفي و: "عتيبة".

مريم، حدثنا أبو غَسَّان محمد بن مُطَرِّف، حدثني أبو حازم، عن سهل بن سعد، قال: أنزلت: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ } ولم يُنزلْ { مِنَ الْفَجْرِ } وكان رجال إذا أرادوا الصوم، رَبَطَ أحدُهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد: { مِنَ الْفَجْرِ } فعلموا أنما يعني: الليل والنهار (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيم، أخبرنا حُصَين، عن الشعبي، أخبرني عَديّ بن حاتم قال: لما نزلت هذه الآية: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ } عَمَدت إلى عقالين، أحدُهما أسود والآخر أبيض، قال: فجعلتهما تحت وسادتي، قال: فجعلت أنظر إليهما فلا تَبَيَّن (2) لي الأسود من الأبيض، ولا الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت. فقال: "إنّ وسادك إذًا لعريض، إنما ذلك بياض النهار وسواد (3) الليل" (4) .
أخرجاه في الصحيحين من غير وجه، عن عَديّ (5) . ومعنى قوله: "إن وسادك إذًا لعريض" أي: إن كان يسعُ لوضع الخيط الأسود والخيط الأبيض المرادين من هذه الآية تحتها، فإنهما بياض النهار وسواد الليل. فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب.
وهكذا وقع في رواية البخاري مفسرا بهذا: أخبرنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن حُصَين، عن الشعبي، عن عَدِيّ قال: أخذ عَدي عقالا أبيض وعقالا أسود، حتى كان بعض الليل نظر فلم يتبينا (6) . فلما أصبح قال: يا رسول الله، جعلت تحت وسادتي. قال: "إن وسادك إذًا لعريض، إنْ كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك" (7) .
وجاء في بعض الألفاظ: إنك لعريض القفا. ففسره بعضهم بالبلادة، وهو ضعيف. بل يرجع إلى هذا؛ لأنه إذا كان وساده عريضا فقفاه أيضًا عريض، والله أعلم. ويفسره رواية البخاري أيضًا:
حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن مُطَرّف، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أهما الخيطان؟ قال: "إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين". ثم قال: "لا بل هو (8) سواد الليل وبياض النهار" (9) .
وفي إباحته تعالى جوازَ الأكل إلى طلوع الفجر، دليل على استحباب السَّحُور؛ لأنه من باب الرخصة، والأخذ بها محبوب؛ ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحث على السَّحور [لأنه من باب الرخصة والأخذ بها] (10) ففي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَسَحَّرُوا فإن في السَّحور بركة" (11) . وفي صحيح مسلم، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: قال
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4511).
(2) في جـ: "فلما يتبين".
(3) في جـ: "من سواد".
(4) المسند (4/377).
(5) صحيح البخاري برقم (1916،4509) وصحيح مسلم برقم (1090).
(6) في أ، و: "فلم يستبينا".
(7) صحيح البخاري برقم (4509).
(8) في جـ: "بل هما".
(9) صحيح البخاري برقم (4510).
(10) زيادة من جـ.
(11) صحيح البخاري برقم (1923) وصحيح مسلم برقم (1095).

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن فَصْل (1) ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السَّحَر (2) " (3) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى (4) هو ابن الطباع، حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السَّحور أكْلُهُ بركة؛ فلا تدعوه، ولو أنّ أحدكم يَجْرَع جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" (5) .
وقد ورد في الترغيب في السحور أحاديث كثيرة حتى ولو بجرعة من ماء، تشبهًا (6) بالآكلين. ويستحب تأخيره إلى قريب انفجار الفجر، كما جاء في الصحيحين، عن أنس بن مالك، عن زيد بن ثابت، قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة. قال أنس: قلت لزيد: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية (7) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لَهِيعة، عن سالم بن غيلان، عن سليمان (8) بن أبي عثمان، عن عَديّ بن حاتم الحمصي، عن أبي ذَرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال أمتي بخير ما عَجَّلوا الإفطار وأخَّروا السحور" (9) . وقد ورد في أحاديث كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمَّاه الغَدَاء المبارك، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجة من رواية حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش، عن حذيفة بن اليمان قال: تسحَّرْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النهار إلا أن الشمس لم تطلع (10) . وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النَّجُود، قاله النسائي، وحمله على أن المراد قربُ النهار، كما قال تعالى: { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [الطلاق: 2] أي: قاربن انقضاء العدة، فإما إمساك (11) أو تَرْك للفرَاق. وهذا الذي قاله هو المتعيَّن حملُ الحديث عليه: أنهم تسحروا ولم يتيقنوا طلوع الفجر، حتى أن بعضهم ظن طلوعه وبعضهم لم يتحقق ذلك. وقد رُوي عن طائفة كثيرة من السلف أنَّهم تسامحوا (12) في السحور عند مقاربة الفجر. روي مثل هذا عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت وعن طائفة كثيرة من التابعين، منهم: محمد بن علي بن الحسين، وأبو مِجْلز، وإبراهيم النَّخَعَي، وأبو الضُّحَى، وأبو وائل، وغيره (13) من أصحاب ابن مسعود وعطاء، والحسن، والحكم بن عيينة (14) ومجاهد، وعروة بن الزبير، وأبو الشعثاء جابر بن زيد. وإليه ذهب الأعمش معمر (15) بن راشد. وقد حررنا أسانيد ذلك في كتاب
__________
(1) في أ: "إن أفضل".
(2) في أ: "السحور".
(3) صحيح مسلم برقم (1096).
(4) في جـ: "بن إسحاق".
(5) المسند (3/44).
(6) في أ: "تشبيها".
(7) صحيح البخاري برقم (1921) وصحيح مسلم برقم (1097).
(8) في جـ: "عن سلمان".
(9) المسند (5/172).
(10) المسند (5/396) وسنن النسائي (4/142) وسنن ابن ماجة برقم (1695).
(11) في جـ: "إمساك بمعروف".
(12) في أ: "أنهم سامحوا".
(13) في أ: "وغيرهما".
(14) في جـ: "ابن قتيبة"، وفي و: "ابن عتيبة".
(15) في جـ، أ: "ومعمر".

الصيام المفرد، ولله الحمد.
وحكى أبو جَعفر بن جرير في تفسيره، عن بعضهم: أنَّه إنما يجب الإمساك من طلوع الشمس كما يجوز الإفطار بغروبها.
قلت: وهذا القول ما أظنّ أحدًا من أهل العلم يستقر له قَدَم عليه، لمخالفته نصّ القرآن في قوله: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } وقد وَرَدَ في الصحيحين من حديث القاسم، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعكم (1) أذانُ بلال عن سَحُوركم، فإنه ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر". لفظ البخاري (2) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا محمد بن جابر، عن قيس بن طَلْق، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الفجرُ المستطيل في الأفق ولكنه المعترض الأحمر" (3) . ورواه أبو داود، والترمذي ولفظهما: "كلوا واشربوا ولا يَهِيدَنَّكُمْ الساطع المصعد، فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر" (4) .
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شعبة، عن شيخ من بني قشير: سمعت سَمُرة بن جُنْدَب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر الفجر، أو يطلع الفجر".
ثم رواه من حديث شعبة وغيره، عن سوادة بن حنظلة، عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعكم من سَحُوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق" (5) .
قال: وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَية، عن عبد الله بن سَوادة القُشَيري، عن أبيه، عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض، تعمدوا الصبح حين يستطير" (6) .
ورواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن إبراهيم -يعني (7) ابن علية -مثله سواء (8) .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حمَيد، حدثنا ابن المبارك، عن سُلَيمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعَنّ أحدكم أذان بلال عن سحوره -أو قال نداء بلال -فإن بلالا يؤذن -أو [قال] (9) ينادي -لينبه نائمكم وليَرْجع قائمكم، وليس الفجر أن يقول
__________
(1) في و: "لا يمنعنكم".
(2) صحيح البخاري برقم (1918،622) وصحيح مسلم برقم (1092) وقوله: "لا يمنعنكم أذان بلال عن سحوركم" لم يقع في البخاري من حديث عائشة وإنما من حديث عبد الله بن مسعود، هذا ما ظهر لي بعد البحث، والله أعلم.
(3) المسند (4/23).
(4) سنن أبي داود برقم (2348) وسنن الترمذي برقم (705).
(5) هذا الحديث لم أجده في تفسير الطبري المطبوع.
(6) في أ، و: "لعمود الصبح حتى يستطير".
(7) في و: "هو".
(8) صحيح مسلم برقم (1094).
(9) زيادة من و.

هكذا أوهكذا، حتى يقول هكذا".
ورواه من وجه آخر عن التيمي، به (1) .
وحدثني الحسن بن الزبرقان النخعي، حدثنا أبو أسامة عن محمد بن أبي ذئْب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفجر فجران، فالذي كأنه ذنب السرحان لا يُحَرِّم شيئًا، وأما المستطير الذي يأخذ الأفق، فإنه يحل الصلاة ويحرّم الطعام" (2) . وهذا مرسل جيد.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: سمعت ابن عباس يقول: هما فجران، فأما الذي يسطع في السماء فليس يُحِلّ ولا يحرِّم شيئا، ولكن الفجر الذي يستبين (3) على رؤوس الجبال، هو الذي يحرّم الشراب. قال عطاء: فأما إذا سطع سطوعًا في السماء، وسطوعه أن يذهب في السماء طولا فإنه لا يحرم به شراب لصيام ولا صلاة، ولا يفوت به حج (4) ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال، حرم الشراب للصيام وفات الحج.
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء، وهكذا رُوي عن غير واحد من السلف، رحمهم الله.
مسألة: ومِن جَعْله تعالى الفجرَ غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام، يُسْتَدَلّ على أنه من أصبح جُنُبًا فليغتسل، وليتم صومه، ولا حرج عليه. وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا، لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة، رضي الله عنهما، أنهما قالتا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جُنُبًا من جماع غير احتلام، ثم يغتسل ويصوم (5) . وفي حديث أم سلمة عندهما: ثم لا يفطر ولا يقضي. وفي صحيح مسلم، عن عائشة: أن رجلا قال: يا رسول الله، تُدْركني الصلاة وأنا جنب، فأصوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب، فأصوم". فقال: لست مثلنا -يا رسول الله -قد غفرَ اللهُ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: "والله إني لأرجو أن أكونَ أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" (6) . فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن همام، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا نودي للصلاة -صلاة الصبح -وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ" (7) فإنه حديث جيد الإسناد على شرط الشيخين، كما ترى (8) وهو في الصحيحين عن أبي هريرة، عن الفضل بن عباس عن النبي
__________
(1) لم أجد هذا الحديث في المطبوع من تفسير الطبري ورواه البخاري في صحيحه برقم (621، 5298) ومسلم في صحيحه برقم (1093) من طريق أبي عثمان النهدي به.
(2) تفسير الطبري (3/514).
(3) في أ: "حتى يستنير".
(4) في أ: "به الحج".
(5) صحيح البخاري برقم (1925 ، 1926) وصحيح مسلم برقم (1109).
(6) صحيح مسلم برقم (1109).
(7) المسند (2/314).
(8) في جـ: "كما ترى على شرط الشيخين".

صلى الله عليه وسلم (1) وفي سنن النسائي (2) عنه، عن أسامة بن زيد، والفضل بن عباس ولم يرفعه (3) . فمن العلماء من علَّل هذا الحديث بهذا، ومنهم من ذهب إليه، ويُحْكى هذا عن أبي هريرة، وسالم، وعطاء، وهشام بن عروة، والحسن البصري. ومنهم من ذهب إلى التفرقة بين أن يصبح جنبًا نائمًا فلا عليه، لحديث عائشة وأم سلمة، أو مختارًا فلا صومَ له، لحديث أبي هريرة. يحكى (4) هذا عن عُروة، وطاوس، والحسن. ومنهم من فرق بين الفرض فيتمه ويقضيه وأما النَّفْل فلا يضره. رواه الثوري، عن منصور، عن إبراهيم النخَعي. وهو رواية عن الحسن البصري أيضًا، ومنهم من ادعى نسخ حديث أبي هريرة بحديثي عائشة وأم سلمة، ولكن لا تاريخ معه.
وادعى ابن حزم أنه منسوخ بهذه الآية الكريمة، وهو بعيد أيضًا، وأبعد؛ إذ لا تاريخ، بل الظاهر من التاريخ خلافه. ومنهم من حمل حديث أبي هريرة على نفي الكمال "فلا صوم له" لحديث عائشة وأم سلمة الدالين على الجواز. وهذا المسلك أقرب الأقوال وأجمعها، والله أعلم.
وقوله تعالى: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } يقتضي الإفطار عند غُرُوب الشمس حكمًا شرعيًا، كما جاء في الصحيحين، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا، فقد أفطر الصائم" (5) .
وعن سهل بن سعد الساعدي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" أخرجاه أيضًا (6) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثنا قُرّة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله، عز وجل: إن أحبّ عبادي إلي أعجلُهم فِطْرًا".
ورواه الترمذي من غير وجه، عن الأوزاعي، به (7) . وقال: هذا حديث حسن غريب.
وقال أحمد أيضًا: حدثنا عفان، حدثنا عبيد الله (8) بن إياد، سمعت إياد بن لقيط قال: سمعت ليلى امرأة بَشِير بن الخَصَاصِيَّة، قالت: أردت أن أصومَ يومين مواصلة، فمنعني بشير وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه. وقال: "يفعل ذلك النصارى، ولكنْ صُوموا كما أمركم الله، وأتموا الصيامَ إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا" (9) .
[وروى الحافظ ابن عساكر، حدثنا بكر بن سهل، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا يحيى بن
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1925) وصحيح مسلم برقم (1109).
(2) في أ: "وفي سنن أبي داود والنسائي".
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (2933 ، 2934).
(4) في جـ: "ويحكي".
(5) صحيح البخاري برقم (1954) وصحيح مسلم برقم (1100).
(6) صحيح البخاري برقم (1957) وصحيح مسلم برقم (1098).
(7) المسند (2/238) وسنن الترمذي برقم (700 ، 701).
(8) في أ: "عبد الله".
(9) المسند (5/225).

حمزة، عن ثور بن يزيد، عن علي بن أبي طلحة، عن عبد الملك بن أبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واصل يومين وليلة؛ فأتاه جبريل فقال: إن الله قد قبل وصالك، ولا يحل لأحدٍ بعدك، وذلك بأن الله قال: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } فلا صيام بعد الليل، وأمرني بالوتر قبل الفجر، وهذا إسناد لا بأس به، أورده في ترجمة عبد الملك بن أبي ذر في تاريخه] (1) (2) .
ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن الوصال، وهو أن يصل صوم يوم بيوم آخر، ولا يأكل بينهما شيئًا. قال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تواصلوا". قالوا: يا رسول الله، إنك تواصل. قال: "فإني لست مثلكم، إني أبِيتُ يُطْعمني ربي ويسقيني". قال: فلم ينتهوا عن الوصال، فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين وليلتين، ثم رأوا الهلال، فقال: "لو تأخر الهلال لزدتكم" كالمُنكِّل بهم (3) .
وأخرجاه في الصحيحين، من حديث الزهري به (4) . وكذلك أخرجا النهى عن الوصال من حديث أنس وابن عمر (5) .
وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال، رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل. قال: "إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني" (6) .
فقد ثبت النهي عنه من غير وجه، وثبت أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يقوى على ذلك ويعان، والأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان معنويًا لا حسيًا، وإلا فلا يكون مواصلا مع الحسي، ولكن كما قال الشاعر:
لها أحاديثُ من ذكراك تَشْغَلها ... عن الشراب وتُلْهيها عَن الزادِ ...
وأما من أحبّ أن يُمْسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك، كما في حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر". قالوا: فإنك تواصِل يا رسول الله. قال: "إني (7) لست كهيئتكم، إني أبيت لي مُطْعِم يطعمني، وساق يسقيني". أخرجاه في الصحيحين أيضًا (8) .
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُريْب، حدثنا أبو نعيم، حدثنا أبو إسرائيل العَبْسي (9) عن أبي بكر ابن حفص، عن أمّ ولد حاطب بن أبي بَلْتعة: أنها مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر، فدعاها إلى الطعام. فقالت: إني صائمة. قال: وكيف تصومين؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أين أنت من
__________
(1) زيادة من جـ أ، و.
(2) انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (15/192).
(3) في جـ: "لهم".
(4) صحيح البخاري برقم (6851) وصحيح مسلم برقم (1105).
(5) حديث أنس في صحيح البخاري برقم (1961) وفي صحيح مسلم برقم (1104)، وحديث ابن عمر في صحيح البخاري برقم (1962) وفي صحيح مسلم برقم (1102).
(6) صحيح البخاري برقم (1964) وصحيح مسلم برقم (1105).
(7) في جـ: "فإني".
(8) صحيح البخاري برقم (1963) ولم أقع عليه في صحيح مسلم.
(9) في أ: "القيسي".

وصال آل محمد، من السَّحَر إلى السَّحَر" (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن محمد بن علي، عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من السَّحَر إلى السَّحَر (2) .
وقد روى ابن جرير، عن عبد الله بن الزّبير وغيره من السلف، أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة [وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف] (3) وحمله منهم على أنهم كانُوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم، لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة. والله أعلم. ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرْشَاد،[أي] (4) من باب الشفقة، كما جاء في حديث عائشة: "رحمة لهم"، فكان ابن الزبير وابنُه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشمون ذلك ويفعلونه، لأنهم كانوا يجدون قُوة عليه. وقد ذُكرَ عنهم أنهم كانوا أول ما يفطرون على السمن والصَّبِر لئلا تتخرق الأمعاء بالطعام أولا. وقد رُوي عن ابن الزبير أنَّه كان يواصل سبعة أيام ويصبح في اليوم السابع أقواهم وأجلدهم. وقال أبو العالية: إنما فرض الله الصيام بالنهار فإذا جاء بالليل فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل.
وقوله تعالى: { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان، فحرّم الله عليه أن ينكح النساء ليلا ونهارا (5) حتى يقضي اعتكافه.
وقال الضحاك: كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد، جامع إن شاء، فقال الله تعالى: { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } أي: لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد (6) ولا في غيره. وكذا قال مجاهد، وقتادة وغير واحد إنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن مسعود، ومحمد بن كعب، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وقتادة، والضحاك والسُّدِّي، والربيع بن أنس، ومقاتل، قالوا: لا يقربها وهو معتكف. وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء: أن المعتكف يحرمُ عليه النساءُ ما دامَ معتكفًا في مسجده، ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها فلا يحل له أن يتلبَّث (7) فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك، من قضاء الغائط، أو أكل، وليس له أن يقبل امرأته، ولا يضمها إليه، ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه، ولا يعود المريض، لكن يسأل عنه وهو مار في طريقه.
وللاعتكاف أحكام مفصلة في بابه، منها ما هو مجمع عليه بين العلماء، ومنها ما هو مختلف فيه (8) . وقد ذكرنا قِطْعَة صالحة من ذلك في آخر كتاب الصيام، ولله الحمد (9) .
ولهذا كان الفقهاء المصنفون يُتْبِعون كتاب الصيام بكتاب الاعتكاف، اقتداء بالقرآن العظيم، فإنه نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم. وفي ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على
__________
(1) تفسير الطبري (3/537 ، 538).
(2) المسند (1/91 ، 141).
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من جـ.
(5) في جـ، أ: "أو نهارا".
(6) في أ: "في المساجد".
(7) في جـ: "أن يمكث".
(8) في أ: "فيها".
(9) في جـ: "ولله الحمد والمنة".

الاعتكاف في الصيام، أو في آخر (1) شهر الصيام، كما ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يعتكف العشرَ الأواخر من شهر رمضان، حتى توفاه الله، عز وجل. ثم اعتكف أزواجُه من بعده. أخرجاه من حديث عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها (2) ، وفي الصحيحين أن صَفيَّة بنت حُيي كانت (3) تزور النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت لترجع إلى منزلها -وكان ذلك ليلا -فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليمشي معها حتى تبلغ دارها، وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة، فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا -وفي رواية: تواريا-أي حياء من النبي صلى الله عليه وسلم لكون أهله معه (4) ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: "على رِسْلكما إنها صفية بنت حيي" أي: لا تسرعا، واعلما أنها صفية بنت حيي، أي: زوجتي. فقالا سبحان الله يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا" أو قال: "شرًّا" (5) .
قال الشافعي، رحمه الله: أراد، عليه السلام، أنْ يعلم أمّته التبري من التُّهْمَة في محلها، لئلا يقعا في محذور، وهما كانا أتقى لله أن يظنا بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئًا. والله أعلم.
ثم المراد بالمباشرة: إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل، ومعانقة ونحو ذلك، فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به؛ فقد ثبت في الصحيحين، عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدْني إليّ رأسه فأرجِّلُه وأنا حائض، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان. قالت عائشة: ولقد كان المريضُ يكون في البيت فما أسأل عنه إلا وأنا مارة (6) .
وقوله: { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي: هذا الذي بيناه، وفرضناه، وحددناه من الصيام، وأحكامه، وما أبحنا فيه وما حرّمنا، وذِكْر (7) غاياته ورخصه وعزائمه، حدود الله، أي: شرعها الله وبيَّنها بنفسه { فَلا تَقْرَبُوهَا } أي: لا تجاوزوها، وتعتدوها (8) .
وكان الضحاك ومقاتل يقولان في قوله تعالى: { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي: المباشرة في الاعتكاف.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني هذه الحدود الأربعة، ويقرأ (9) { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } حتى بلغ: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } قال: وكان أبي وغيره من مَشْيَختنا (10) يقولون هذا ويتلونه علينا.
{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ } أي: كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله، كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي: يَعْرفون كيف يهتدون، وكيف يطيعون كما قال تعالى: { هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } ] (11) . [الحديد: 9].
__________
(1) في أ، و: "أو في أواخر".
(2) صحيح البخاري برقم (2033) وصحيح مسلم برقم (1172) واللفظ لمسلم.
(3) في جـ، أ: "جاءت".
(4) في جـ: "معه أهله".
(5) صحيح البخاري برقم (2035 ، 6219) وصحيح مسلم برقم (2175) من حديث صفية رضي الله عنها.
(6) صحيح البخاري برقم (2029) وصحيح مسلم برقم (297).
(7) في جـ: "وذكرنا".
(8) في جـ: "تتجاوزوها أو تعتدوها".
(9) في جـ: "ويقول".
(10) في أ: "من مشايخنا".
(11) زيادة من و، وفي جـ، ط، أ، هـ: "الآية".

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

{ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) }
قال علي ابن أبي طلحة، وعن ابن عباس: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بَيِّنة، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل حرامٍ.
وكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جُبَير، وعكرمة، والحسن، وقتَادة، والسدّي، ومقاتل بن حَيّان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا: لا تُخَاصمْ وأنت تعلمُ أنَّك ظالم. وقد ورد (1) في الصحيحين عن أم سلمة: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إنما أنا بَشَر، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار، فَلْيَحْملْهَا، أو ليذَرْها" (2) . فدلت هذه الآية الكريمة، وهذا الحديث على أنّ حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر، فلا يُحلّ في نفس الأمر حرامًا هو حرام، ولا يحرم حلالا هو حلال، وإنما هو يلزم (3) في الظاهر، فإن طابق في (4) نفس الأمر فذاك، وإلا فللحاكم أجرُه وعلى المحتال وزْره؛ ولهذا قال تعالى: { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا } [أي : طائفة] (5) { مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي: تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجون في كلامكم.
قال قتادة: اعلم -يا ابن آدم -أن قضاء القاضي لا يُحِل لك حرامًا، ولا يُحقُّ لك باطلا وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى (6) ويشهد به الشهود، والقاضي بَشَر يخطئ ويصيب، واعلموا أنّ من قُضي له بباطل أنّ خصومته لم تَنْقَض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة، فيقضي على المبطل للمحق بأجودَ مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا.
وقال أبو حنيفة: حكم الحاكم بطلاق الزوجة إذا شهد عنده شاهدا زور في نفس الأمر، ولكنهما عدلان عنده يحلها للأزواج حتى للشاهدين ويحرمها على زوجها الذي حكم بطلاقها منه، وقالوا: هذا كلعان المرأة، إنه يبينها من زوجها ويحرمها عليه، وإن كانت كاذبة في نفس الأمر، ولو علم الحاكم بكذبها لحدها ولما حرمها وهذا أولى.
مسألة: قال القرطبي: أجمع أهل السنة على أن من أكل مالا حرامًا ولو ما يصدق عليه اسم المال أنه يفسق، وقال بشر بن المعتمر في طائفة من المعتزلة: لا يفسق إلا بأكل مائتى درهم فما زاد، ولا يفسق بما دون ذلك، وقال الجبائي: يفسق بأكل درهم فما فوقه إلا بما دونه.
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) }
__________
(1) في جـ: "وقد روي".
(2) صحيح البخاري برقم (2458 ، 6967) وصحيح مسلم برقم (1713) من حديث أم سلمة رضي الله عنها
(3) في جـ: "هو ملزم".
(4) في جـ: "ما في".
(5) زيادة من جـ، أ.
(6) في جـ: "على نحو ما ترى".

قال العوفي عن ابن عباس: سأل الناسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة، فنزلت هذه الآية: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [وَالْحَجِّ] (1) } يعلمون بها حِلَّ دَيْنهم، وعدّة نسائهم، ووقتَ حَجِّهم.
وقال أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: بلغنا أنَّهم قالوا: يا رسول الله، لم خُلِقَتْ الأهلة؟ فأنزل الله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } يقول: جَعَلَهَا الله مواقيت لصَوْم المسلمين وإفطارهم، وعدة نسائهم، ومَحَلّ دَيْنهم.
وكذا رُوي عن عَطَاء، والضحاك، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس، نحو ذلك.
وقال عبد الرزاق، عن عبد العزيز بن أبي رَوّاد، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فَعُدُّوا ثلاثين يومًا".
ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث ابن أبي رواد، به (2) . وقال: كان ثقة عابدًا مجتهدًا شريف النسب، فهو صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وقال محمد بن جابر، عن قيس بن طلق؛ عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جعل الله الأهلَّة، فإذا رأيتم الهلال فصُوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن أغْمي عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" (3) . وكذا روي من حديث أبي هريرة، ومن كلام عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه (4) (5) .
وقوله: { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } قال البخاري: حدثنا عبيد الله (6) بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتَوْا البيت من ظهره، فأنزل الله { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } (7) .
وكذا رواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كانت الأنصار إذا قدموا من سَفَر لم يدخل الرجل من قبل بابه، فنزلت هذه الآية.
وقال الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر: كانت قريش تدعى الحُمْس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينا رسول الله
__________
(1) زيادة من أ.
(2) المستدرك (1/423).
(3) رواه أحمد في المسند (4/23) من طريق محمد بن جابر به.
(4) في جـ: "عنهم".
(5) حديث أبي هريرة رواه البخاري في صحيحه برقم (1909) ومسلم في صحيحه برقم (1081).
(6) في أ: "عبد الله".
(7) صحيح البخاري برقم (4512).

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

صلى الله عليه وسلم في بستان إذْ خرج من بابه، وخرج معه قُطْبة بن عامر الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله، إن قطبة ابن عامر رجل تاجر (1) وإنه خرج معك من الباب. فقال له: "ما حملك على ما صنعت؟ " قال: رأيتك فعلتَه ففعلتُ كما فعلتَ. فقال: "إني [رجل] (2) أحمس". قال له: فإن ديني دينك. فأنزل الله { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } رواه ابن أبي حاتم. ورواه العوفي عن ابن عباس بنحوه. وكذا روي عن مجاهد، والزهري، وقتادة، وإبراهيم النخعي، والسدي، والربيع بن أنس.
وقال الحسن البصري: كان أقوام من أهل الجاهليّة إذا أراد أحدُهم سَفرًا وخرج من بيته يُريد سفره الذي خرج له، ثم بدا له بَعْد خُروجه أن يُقيم ويدعَ سفره، لم يدخل البيت من بابه، ولكن يتسوّره من قبل ظهره، فقال (3) الله تعالى: { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى] (4) } الآية.
وقال محمد بن كعب: كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت، فأنزل الله هذه الآية.
وقال عطاء بن أبي رباح: كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها ويَرَوْنَ أن ذلك أدنى إلى البر، فقال الله تعالى: { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا }
وقوله: { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي: اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به، واتركوا ما نهاكم عنه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } غدا إذا وقفتم بين يديه، فيجزيكم (5) بأعمالكم على التمام، والكمال.
{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) }
قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله تعالى: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } قال: هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله، ويكف عَمَّن كف عنه حتى نزلت سورة براءة وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حتى قال: هذه منسوخة بقوله: { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [التوبة: 5] وفي هذا نظر؛ لأن قوله: { الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } إنما هو تَهْييج وإغراء بالأعداء الذين همّتْهم قتال الإسلام وأهله، أي: كما
__________
(1) في جـ: "فاجر".
(2) زيادة من جـ، أ.
(3) في أ: "فأنزل".
(4) زيادة من جـ.
(5) في جـ، أ: "فيجازيكم".

يقاتلونكم فقاتلوهم أنتم، كما قال: { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } [التوبة: 36]؛ ولهذا قال في هذه الآية: { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي: لتكن همتكم منبعثة على قتالهم، كما أن همتهم منبعثة على قتالكم، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها، قصاصًا.
وقد حكى عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، أن أول آية نزلت في القتال بعد الهجرة، { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } الآية [الحج: 39] وهو الأشهر وبه ورد الحديث.
وقوله: { وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } أي: قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي -كما قاله الحسن البصري -من المَثُلة، والغُلُول، وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم، والرهبان وأصحاب الصوامع، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة، كما قال ذلك ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، ومقاتل بن حيان، وغيرهم. ولهذا جاء في صحيح مسلم، عن بُرَيدة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تَغُلّوا، ولا تَغْدروا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تقتلوا وليدًا، ولا أصحاب الصوامع". رواه الإمام أحمد (1) .
وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بَعَث جيوشه قال: "اخرجوا بسم الله، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا، ولا تُمَثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصّوامع". رواه الإمام أحمد (2) .
ولأبي داود، عن أنس مرفوعًا، نحوه (3) . وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: وجُدت امرأة في بعض مغازي النبيّ صلى الله عليه وسلم مقتولة، فأنكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتلَ النساء والصبيان (4) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا مُصعب بن سَلام، حدثنا الأجلح، عن قيس بن أبي مسلم، عن رِبْعي ابن حِرَاش، قال: سمعت حُذَيفة يقول: ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالا واحدًا، وثلاثة، وخمسة، وسبعة، وتسعة، وأحدَ عشَرَ، فضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها مثلا وترك سائرَها، قال: "إن قومًا كانوا أهلَ ضَعْف ومسكنة، قاتلهم أهلُ تجبر وعداء، فأظهر الله أهل الضعف عليهم، فعمدوا إلى عَدُوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه" (5) .
هذا حديث حَسَنُ الإسناد. ومعناه: أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء، فاعتَدوا عليهم واستعملوهم فيما لا يليق بهم، أسخطوا الله عليهم بسبب (6) هذا الاعتداء. والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًا.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1731) والمسند (5/352).
(2) المسند (1/300).
(3) سنن أبي داود برقم (2614).
(4) صحيح البخاري برقم (3015) وصحيح مسلم برقم (1744).
(5) المسند (5/407).
(6) في جـ: "لسبب".

ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتلُ الرجال، نبَّه تعالى على أنّ ما هم مشتملون (1) عليه من
__________
(1) في جـ: "مقيمون".

الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطَم من القتل؛ ولهذا قال: { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } قال أبو مالك: أي: ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل.
وقال أبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع ابن أنس في قوله: { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } يقول: الشرك أشد من القتل.
وقوله: { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } كما جاء في الصحيحين: "إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه، حَرَام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعْضَد شجره، ولا يُخْتَلى خَلاه. فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم" (1) .
يعني بذلك -صلوات الله وسلامه عليه -قتالَه أهلها يومَ فتح مكة، فإنه فتحها عنوة، وقتلت رجال منهم عند الخَنْدمَة، وقيل: صلحًا؛ لقوله: من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
[وقد حكى القرطبي: أن النهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخ. قال قتادة: نسخها قوله: { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ } [التوبة: 5]. قال مقاتل بن حيان: نسخها قوله: { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وفي هذا نظر] (2) .
وقوله: { حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } يقول تعالى: لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يَبْدَؤوكم بالقتال فيه، فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعا للصيال (3) كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال، لَمَّا تألبت عليه بطونُ قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ، ثم كف الله القتال بينهم فقال: { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } [الفتح: 24]، ، وقال: { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [الفتح: 25].
وقوله: { فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: فإن تَركُوا القتال في الحرم، وأنابوا إلى الإسلام والتوبة، فإن الله [غفور رحيم] (4) يغفر ذنوبهم، ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله، فإنه تعالى لا يتعاظَمُه ذَنْب أنْ يغفره لمن تاب منْه إليه.
ثم أمر تعالى بقتال الكفَّار: { حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي: شرك. قاله ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والربيع، ومقاتل بن حيان، والسُّدي، وزيد بن أسلم.
{ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } أي: يكونَ دينُ الله هو الظاهر [العالي] (5) على سائر الأديان، كما ثبت في الصحيحين: عن أبي موسى الأشعري، قال: سُئِل النبي (6) صلى الله عليه وسلم عن الرجل يُقاتل شجاعة، ويقاتل حَميَّة، ويقاتل رياء، أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1834) وصحيح مسلم برقم (1353) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) زيادة من جـ، أ.
(3) في أ: "للقتال".
(4) زيادة من جـ.
(5) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(6) في جـ، ط، : "سئل رسول الله".

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

في سبيل الله" (1) . وفي الصحيحين: "أمرْتُ أنْ أقاتلَ الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله" (2) وقوله: { فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ } يقول: فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك، وقتال المؤمنين، فكُفُّوا عنهم، فإنّ مَنْ قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم، ولا عُدوانَ إلا على الظالمين، وهذا معنى قول مجاهد: لا يُقَاتَلُ إلا من قاتل. أو يكون تقديره؛ فإن انتهوا فقد تَخَلَّصُوا من الظلم، وهو الشرك. فلا عدوان عليهم بعد ذلك، والمراد بالعُدْوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة، كقوله: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وقوله: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [الشورى: 40]، { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل: 126]. ولهذا قال عكرمة وقتادة: الظالم: الذي أبى أن يقول: لا إله إلا الله.
وقال البخاري: قوله: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] (3) } الآية: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا عُبَيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا (4) : إن الناس صنعوا (5) وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ قال: يمنعني أن الله حرم دم أخي. قالا ألم يقل الله: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؟ قال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. زاد عثمان ابن صالح (6) عن ابن وهب قال: أخبرني فلان وحيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو المعافري (7) أن بُكَير بن عبد الله حدثه، عن نافع: أن رجلا أتى ابن عمر فقال [له] (8) يا أبا عبد الرحمن، ما حملك على أن تحج عامًا وتعتمر (9) عامًا، وتترك الجهاد في سبيل الله، وقد علمت ما رغب الله فيه؟ فقال: يا ابن أخي، بُني الإسلام على خمس: الإيمان بالله ورسوله، والصلوات الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت. قال: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [الحجرات: 9]، { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } قال: فعلنا على عهد النبي (10) صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلا وكان الرجل يفتن في دينه: إما قتلوه أو عذبوه (11) حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة، قال: فما قولك في علي وعثمان؟ قال: أما عثمان فكان الله عفا عنه، وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا (12) عنه، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه، وأشار بيده فقال: هذا بيته حيث ترون (13) .
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2810 ، 3126) وصحيح مسلم برقم (1904).
(2) صحيح البخاري برقم (25) وصحيح مسلم برقم (22) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(3) زيادة من جـ، ط.
(4) في ط: "فقالوا".
(5) في و: "ضيعوا".
(6) في جـ: "عثمان بن أبي صالح".
(7) في أ: "المغافري".
(8) زيادة من جـ، ط، أ.
(9) في و: "وتقيم".
(10) في جـ: "رسول الله".
(11) في أ، و: "أو يعذبوه".
(12) في جـ: "يعفو".
(13) صحيح البخاري برقم (4513-4515).

قال عكرمة، عن ابن عباس، والضحاك، والسدي، ومِقْسَم، والربيع بن أنس، وعطاء وغيرهم: لما سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُعْتَمِرًا في سنة ست من الهجرة، وحَبَسَه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت، وصدّوه بمن معه من المسلمين في ذي القعْدة، وهو شهر حرام، حتى قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية، هو ومن كان [معه] (1) من المسلمين، وأقَصه الله منهم، فنزلت في ذلك هذه الآية: { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ }
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا ليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزى ويُغْزَوا (2) فإذا حضره أقام حتى ينسلخ (3) .
هذا إسناد صحيح؛ ولهذا لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم -وهو مُخَيِّم بالحديبية -أن عثمان قد قتل -وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين -بايع أصحابه، وكانوا ألفًا وأربعمائة تحتَ الشجرة على قتال المشركين، فلما بلغه أن عثمان لم يقْتل كفّ عن ذلك، وجنح إلى المسالمة والمصالحة، فكان ما كان.
وكذلك لما فرغ من قتال هَوازِن يوم حنين وتَحَصَّن فَلُّهم بالطائف، عَدَل إليها، فحاصَرَها ودخل ذو القَعْدة وهو محاصرها بالمنجنيق، واستمر عليها إلى كمال أربعين يومًا، كما ثبت في الصحيحين عن أنس (4) . فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تُفْتَحْ، ثم كر راجعًا إلى مكة واعتمر من الجعرانه، حيث قسم غنائم حُنين. وكانت عُمْرته هذه في ذي القعدة أيضًا عام ثمان، صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } أمْر بالعدل حتى في المشركين: كما قال: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل: 126]. وقال: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [الشورى: 40] .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } نزلت بمكة حيث لا شوكة ولا جهَاد، ثم نسخ بآية الجهاد (5) بالمدينة. وقد رَدّ هذا القول ابنُ جرير، وقال: بل [هذه] (6) الآية مدنية بعد عُمْرة القَضيَّة، وعزا ذلك إلى مجاهد، رحمه الله.
وقد أطلق هاهنا الاعتداء على الاقتصاص، من باب المقابلة، كما قال عمرو بن أم كلثوم:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا ...
وقال ابن دريد:
__________
(1) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(2) في جـ: "إلا يغزوا الغزو"، وفي أ: "إلا أن يقر ويقروا".
(3) المسند (3/345).
(4) الحديث بهذا المعنى في صحيح مسلم برقم (1059).
(5) في جـ، ط، أ، و: "بآية القتال".
(6) زيادة من جـ، ط، أ.

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

لي استواء إن موالى استوا ... لي التواء إن تعادى التوا ...
وقال غيره:
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج ...
ومن رام تقويمي فإني مقوم ... ومن رام تعويجي فإني معوج ...
وقوله: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أمْرٌ لهم بطاعة الله وتقواه، وإخبارٌ بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة.
{ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) }
قال البخاري: حدثنا إسحاق، أخبرنا النضر، أخبرنا شعبة عن سليمان قال: سمعت أبا وائل، عن حذيفة: { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } قال: نزلت في النفقة (1) .
ورواه ابن أبي حاتم، عن الحسن بن محمد بن الصباح، عن أبي معاوية عن الأعمش، به مثله. قال: وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حَيَّان، نحو ذلك.
وقال الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خَرَقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشَهِدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار نَجِيَا، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونَصْرِه، حتى فشا الإسلام وكثر أهلُه، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما. فنزل (2) فينا: { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } فكانت التهلكة [في] (3) الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد.
رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وعَبْدُ بن حُمَيد في تفسيره، وابن أبي حاتم، وابن جرير (4) وابن مَرْدُويه، والحافظ أبو يعلى في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب، به (5) .
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. وقال الحاكم: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ولفظ أبي داود عن أسلم أبي عمران: كنا (6) بالقسطنطينية -وعلى أهل مصر عقبة بن عامر؛
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4516).
(2) في جـ: "فنقيم فيهم فنزلت".
(3) زيادة من و.
(4) في جـ: "وابن جرير وابن أبي حاتم".
(5) سنن أبي داود برقم (2512) وسنن الترمذي برقم (2972) وسنن النسائي الكبرى برقم (11029) وتفسير الطبري (3/590) وصحيح ابن حبان برقم (1667) "موارد" والمستدرك (2/275).
(6) في جـ: "إنا كنا".

وعلى أهل الشام رجل، يريد بن فَضَالة بن عُبَيد -فخرج من المدينة صَف عظيم من الروم، فصففنا لهم فحَمَل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم: ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه فقالوا: سبحان الله، ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: يا أيها الناس، إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار، وإنا لما أعز الله دينه، وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها. فأنزل الله هذه الآية.
وقال أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق السَّبِيعي قال: قال رجل للبراء بن عازب: إن حملتُ على العدوّ وحدي فقتلوني أكنت ألقيتُ بيدي إلى التهلكة؟ قال: لا قال الله لرسوله: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ } [النساء: 84]، إنما هذا في النفقة. رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، به. وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه (1) . ورواه الثوري، وقيس بن الربيع، عن أبي إسحاق، عن البراء -فذكره. وقال بعد قوله: { لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ } ولكن التهلكة أن يُذْنِبَ الرجلُ الذنبَ، فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح -كاتب الليث -حدثني الليث، حدثنا عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبره: أنهم حاصروا دمشق، فانطلق رجل من أزد شنوءة، فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل، فعاب ذلك عليه المسلمون ورفعوا حديثه إلى عَمْرو بن العاص، فأرسل إليه عمرو فَرَدّه، وقال عمرو: قال الله: { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }
وقال عطاء بن السائب (2) عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } ليس (3) ذلك في القتال، إنما هو في النفقة أن تُمْسكَ بيدك عن النفقة في سبيل الله. ولا تلق بيدك إلى التهلكة.
وقال حماد بن سلمة، عن داود، عن الشعبي، عن الضحاك بن أبي جُبَيْرة (4) قال: كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم، فأصابتهم سَنَة، فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله فنزلت: { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }
وقال الحسن البصري: { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } قال: هو البخل.
وقال سِمَاك بن حرب، عن النعمان بن بشير في قوله: { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } أن يذنب الرجل الذنب، فيقول: لا يغفر لي، فأنزل الله: { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } رواه ابن مَرْدويه.
وقال ابن أبي حاتم: ورُويَ عن عُبيدَة السلماني، والحسن، وابن سيرين، وأبي قلابة -نحو ذلك. يعني: نحوُ قول النعمان بن بشير: إنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له، فيلقي بيده إلى التهلكة، أي: يستكثر من الذنوب فيهلك. ولهذا رَوَى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:
__________
(1) المستدرك (2/275).
(2) في أ: "عطاء بن أبي السائب".
(3) في جـ: "وليس".
(4) في أ: "بن أبي صبرة".

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

التهلكة: عذاب الله.
وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعًا: حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، أخبرني أبو صخر، عن القُرَظي: أنه كان يقول في هذه الآية: { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } قال: كان القوم في سبيل الله، فيتزود الرجل. فكان أفضل زادًا من الآخر، أنفق البائس (1) من زاده، حتى لا يبقى من زاده شيء، أحب أن يواسي صاحبه، فأنزل الله: { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } (2) .
وقال (3) ابن وهب أيضًا: أخبرني عبد الله بن عياش (4) عن زيد بن أسلم في قول الله: { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } وذلك أنّ رجالا كانوا يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بغير نفقة، فإما يُقْطَعُ بهم، وإما كانوا عيالا فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله، ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع أو العطش أو من المشي . وقال لمن بيده فضل: { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
ومضمون الآية: الأمرُ بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القُرُبات ووجوه الطاعات، وخاصّة (5) صرفَ الأموال في قتال الأعداء وبذلهَا فيما يَقْوَى به المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار إن (6) لزمه واعتاده. ثم عطف بالأمر بالإحسان، وهو أعلى مقامات الطاعة، فقال: { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) }
لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعَطَفَ بذكر الجِهَاد، شرَعَ في بيان المناسك، فأمرَ بإتمام الحجّ والعُمْرة، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما (7) ؛ ولهذا قال بعده: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } أي: صُدِدْتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما. ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة مُلْزِمٌ، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها، كما هما قولان للعلماء. وقد ذكرناهما
__________
(1) في جـ، ط، و: "أنفقوا الباقين".
(2) تفسير الطبري (3/584).
(3) في جـ، ط، أ: "وبه قال".
(4) في أ: "بن عباس".
(5) في جـ: "وحاصله".
(6) في جـ: "كمن"، وفي ط، أ: "لمن".
(7) في ط: "فيها".

بدلائلهما في كتابنا "الأحكام" مستقصى (1) ولله الحمد والمنة.
وقال شعبة، عن عمرو بن مُرّة، عن عبد الله بن سَلَمة، عن علي: أنه قال في هذه الآية: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } قال: أن تُحْرِم من دُوَيرة أهلك.
وكذا قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وطاوس. وعن سفيان الثوري أنه قال في هذه الآية: إتمامهما (2) أن تحرم من أهلك، لا تريد إلا الحج والعمرة، وتُهِلّ من الميقات ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة، حتى إذا كنت قريبًا من مكة قلت: لو حججت أو اعتمرت، وذلك يجزئ، ولكن التمام أن تخرج له، ولا تخرج لغيره.
وقال مكحول: إتمامهما إنشاؤهما جميعًا من الميقات.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر عن الزهري قال: بلغنا أنّ عمر قال في قول الله (3) : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [قال] (4) : من تمامهما أن تُفْرد كُلَّ واحد منهما من الآخر، وأن تعتمر في غير أشهر الحج؛ إن الله تعالى يقول: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } .
وقال هُشَيْم عن ابن عون قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة (5) فقيل له: العمرة في المحرم؟ قال: كانوا يرونها تامة. وكذا روي عن قتادة بن دعامة، رحمهما الله.
وهذا القول فيه نظر؛ لأنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عُمَرٍ كلها في ذي القعدة: عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، وعمرة الجِعرّانة في ذي القعدة سنة ثمان، وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معًا في ذي القعدة سنة عشر، ولا اعتمر قَطّ في غير ذلك بعد هجرته، ولكن قال لأم هانئ (6) "عُمْرة في رمضان تعدل حجة معي" (7) . وما ذاك إلا لأنها [كانت] (8) قد عزمت على الحج معه، عليه السلام، فاعتاقَتْ عن ذلك بسبب الطهر، كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري، ونَصّ سعيد بن جبير على أنه من خصائصها، والله أعلم.
وقال السدي في قوله: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } أي: أقيموا الحج والعمرة. وقال علي بن أبي طلحة (9) عن ابن عباس في قوله: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } يقول: من أحرم بالحج أو بالعمرة (10) فليس له أن يحل حتى يتمهما، تمام الحج يوم النحر، إذا رمى جمرة العقبة، وطاف (11) بالبيت، وبالصفا، والمروة، فقد حل.
وقال قتادة، عن زُرَارة، عن ابن عباس أنه قال: الحج عرفة، والعمرة الطواف. وكذا روى الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة في قوله: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } قال: هي [في] (12) قراءة عبد الله:
__________
(1) في جـ: "المستقصى".
(2) في جـ: "تمامهما".
(3) في جـ: "في قوله".
(4) زيادة من جـ.
(5) في جـ: "تامة"، وفي أ: "بتمامها".
(6) في جـ، ط، أ: "ولكن قال لتلك المرأة".
(7) كذا وقع هنا أم هانئ وهو وهم، والصواب: أم سنان، والحديث في صحيح البخاري برقم (1863).
(8) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(9) في أ: "ابن أبي صالح".
(10) في جـ، ط: "بحج أو عمرة".
(11) في جـ، ط، و: "وزار".
(12) زيادة من أ.

"وأقيموا (1) الحج والعمرة إلى البيت" لا تُجاوز بالعمرة البيت. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد ابن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس.
وقال سفيان عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قال: "وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت" وكذا روى الثوري أيضًا عن إبراهيم، عن منصور، عن إبراهيم أنه قرأ: "وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت".
وقرأ الشعبي: "وأتموا (2) الحج والعمرةُ لله" برفع العمرة، وقال: ليست بواجبة. وروي عنه خلاف ذلك.
وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة، عن أنس وجماعة من الصحابة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في إحرامه بحج وعمرة، وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه: "من كان معه هَدْي فليهل بحج وعمرة" (3) .
وقال في الصحيح أيضًا: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة".
وقد روى الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية حديثًا غريبًا فقال: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو عبد الله الهروي، حدثنا غسان الهروي، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَان، عن عطاء، عن صفوان بن أمية أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمخ بالزعفران، عليه جبة، فقال: كيف تأمرنى يا رسول الله في عمرتي؟ قال: فأنزل الله: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أين السائل عن العُمْرة؟ " فقال: ها أنا ذا. فقال له: "ألق عنك ثيابك، ثم اغتسل، واستنشق ما استطعت، ثم ما كنت صانعًا في حَجّك فاصنعه في عمرتك" (4) هذا حديث غريب وسياق عجيب، والذي ورد في الصحيحين، عن يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة فقال: كيف ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه جُبة وخَلُوق؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه الوحي، ثم رفع رأسه فقال: "أين السائل؟ " فقال: ها أنا ذا، فقال: "أما الجبة فانزعها، وأما الطيب الذي بك فاغسله، ثم ما كنت صانعًا في حجك فاصنعه في عُمْرتك" (5) . ولم يذكر فيه الغسل والاستنشاق (6) ولا ذكر نزول الآية (7) ، وهو عن يعلى بن أمية، لا [عن] (8) صفوان بن أمية، والله أعلم.
وقوله: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } ذكروا أنّ هذه الآية نزلت في سنة ست، أيْ عام الحديبية، حين حال المشركون بين رسُول الله صلى الله عليه وسلم وبين الوصول إلى البيت، وأنزل الله في ذلك سورةَ الفتح بكمالها، وأنزل لهم رُخْصَةً: أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنة، وأن يَتَحَللوا من
__________
(1) في أ، و: "وأتموا".
(2) في جـ: "وأقيموا".
(3) صحيح مسلم برقم (1236) من حديث أسماء رضي الله عنها.
(4) صحيح مسلم برقم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه.
(5) ورواه ابن عبد البر في التمهيد (2/251) من طريق محمد بن سابق، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن عطاء، عن صفوان بن أمية به.
(6) في جـ: "ولا الاستنشاق".
(7) في ط: "نزول الحق".
(8) زيادة من جـ، ط.

إحرامهم، فعند ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رؤوسهم ويتحللوا. فلم يفعلوا انتظارا للنسخ حتى خرج فحلق رأسه، ففعل الناس وكان منهم من قَصّر رأسه ولم يحلقه، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: "رَحِم الله المُحَلِّقين". قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ فقال في الثالثة: "والمقصرين" (1) . وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك، كُلُّ سبعة في بَدَنة، وكانوا ألفًا وأربعمائة، وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم، وقيل: بل كانوا على طَرف الحرم، فالله أعلم.
ولهذا اختلف العلماء هل يختص الحصر بالعدو، فلا يتحلل إلا من حصره عَدُو، لا مرض ولا غيره؟ على قولين:
فقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان، عَنْ عمرو بن دينار، عن ابن عباس، وابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، وابن أبي نَجِيح [ومجاهد] (2) عن ابن عباس، أنه قال: لا حَصْرَ إلا حصرُ العدو، فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء، إنما قال الله تعالى: { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } فليس الأمن حصرًا.
قال: وروي عن ابن عمر، وطاوس، والزهري، وزيد بن أسلم، نحو ذلك.
والقول الثاني: أن الحصر أعمّ من أن يكون بعدُوّ أو مرض أو ضلال -وهو التَّوَهان عن الطريق أو نحو ذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا حَجَّاج بن الصوّافُ، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن الحجاج بن عمرو (3) الأنصاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كُسِر أو عَرِج فقد حل، وعليه حجة أخرى".
قال: فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا صدق.
وأخرجه (4) أصحاب الكتب الأربعة من حديث يحيى بن أبي كثير، به (5) . وفي رواية لأبي داود وابن ماجة: من عرج أو كُسر أو مَرض -فذكر معناه. ورواه ابن أبي حاتم، عن الحسن بن عرفة، عن إسماعيل بن عُلَيَّة، عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف، به. ثم قال: وروي عن ابن مسعود، وابن الزبير، وعلقمة، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، ومجاهد، والنخعي، وعطاء، ومقاتل بن حيان، أنهم قالوا: الإحصار من عدو، أو مرض، أو كسر.
وقال الثوري: الإحصار من كل شيء آذاه. وثبت في الصحيحين عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَل على ضُبَاعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فقالت: يا رسول الله، إني أريد الحج وأنا شاكية. فقال: "حُجِّي واشترطي: أنَّ مَحِلِّي حيثُ حبَسْتَني" (6) . ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله (7) . فذهب من ذهب من العلماء إلى صحة الاشتراط في الحج لهذا الحديث. وقد علق الإمام محمد بن إدريس
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (1301) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
(2) زيادة من جـ، ط.
(3) في أ: "بن عمر".
(4) في جـ: "وقد أخرجه".
(5) المسند (3/450) وسنن أبي داود برقم (1862) وسنن الترمذي برقم (940) وسنن النسائي (5/ 198) وسنن ابن ماجة برقم (3078).
(6) صحيح البخاري برقم (5089) وصحيح مسلم برقم (1207).
(7) صحيح مسلم برقم (1208).

الشافعي القولَ بصحة هذا المذهب على صحة هذا الحديث. قال البيهقي وغيره من الحفاظ: فقد صح، ولله الحمد.
وقوله: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } قال الإمام مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي ابن أبي طالب أنه كان يقول: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } شاة. وقال ابن عباس: الهَدْي من الأزواج الثمانية: من الإبل والبقر والمعز والضأن.
وقال الثوري، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } قال: شاة. وكذا قال عطاء، ومجاهد، وطاوس، وأبو العالية، ومحمد بن علي بن الحسين، وعبد الرحمن بن القاسم، والشعبي، والنّخعي، والحسن، وقتادة، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغيرهم مثلَ ذلك، وهو مذهب الأئمة الأربعة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم، عن عائشة وابن عمر: أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر.
قال: ورُوِي عن سالم، والقاسم، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير -نحوُ ذلك.
قلت: والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قضية (1) الحديبية، فإنه لم يُنْقَل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذاك شاة، وإنما ذبحوا الإبل والبقر، ففي الصحيحين عن جابر قال: أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة (2) .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } قال: بقدر يَسَارته (3) .
وقال العوفي، عن ابن عباس: إن كان موسرًا فمن الإبل، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم. وقال هشام بن عروة، عن أبيه: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } قال: إنما ذلك فيما بين الرّخص والغلاء.
والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجْزَاء ذبح الشاة في الإحصار: أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي، أي: مهما تيسر مما يسمى هديًا، والهَدْي من بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، كما قاله الحَبْر البحر (4) ترجمان القرآن وابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ثَبتَ في الصحيحين عن عائشة أمّ المؤمنين، رضي الله عنها، قالت: أهْدَى النبي صلى الله عليه وسلم مَرة غنمًا (5) .
وقوله: { وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } معطوف على قوله: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وليس معطوفًا على قوله: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } كما زعمه ابن جرير، رحمه الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق { حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ }
__________
(1) في جـ، أ: "قصة".
(2) صحيح مسلم برقم (1318).
(3) في أ: "يساره".
(4) في ط: "البحر الحبر".
(5) صحيح البخاري برقم (1701) وصحيح مسلم برقم (1321).

ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة، إن كان قارنًا، أو من فعْل أحدهما إن كان مُفْردًا أو متمتعًا، كما ثبت في الصحيحين عن حَفْصَةَ أنها قالت: يا رسول الله، ما شأن (1) الناس حَلّوا من العمرة، ولم تَحِلّ أنت من عمرتك؟ فقال: "إني لَبَّدْتُ رأسي وقلَّدت هَدْيي، فلا أحلّ حتى أنحر" (2) .
وقوله: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } قال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني: سمعت عبد الله بن مَعْقل، قال: فعدت إلى كعب بن عُجْرَةَ في هذا المسجد -يعني مسجد الكوفة -فسألته عن { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ } فقال: حُملْتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقملُ يتناثر على وجهي. فقال: "ما كنتُ أرَى أن الجَهد بلغ بك هذا! أما تجد شاة؟ " قلت: لا. قال: "صُمْ ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك". فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة (3) .
وقال الإمام أحمدُ: حدثنا إسماعيلُ، حدثنا أيوب، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عُجْرَة قال: أتى عَلَيّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر، والقَمْلُ يتناثَرُ على وجهي -أو قال: حاجبي -فقال: "يُؤْذيك (4) هَوَامُّ رأسك؟ ". قلت: نعم. قال: "فاحلقه، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة". قال أيوب: لا أدري بأيتهن بدأ (5) .
وقال أحمد أيضا: حدثنا هُشَيْم، أخبرنا أبو بشر (6) عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، ونحن محرمون وقد حصره المشركون (7) وكانت لي وَفْرة، فجعلت الهوام تَسَاقَطُ على وجهي، فمر بي رسول الله (8) صلى الله عليه وسلم فقال: "أيؤذيك هوام رأسك؟ " فأمره أن يحلق. قال: ونزلت هذه الآية: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } (9) .
وكذا رواه عفان، عن شعبة، عن أبي بشر، وهو جعفر بن إياس، به. وعن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، به (10) . وعن شعبة، عن داود، عن الشعبي، عن كعب بن عُجْرَة، نحوه.
ورواه الإمام مالك عن حميد بن قيس، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب ابن عجرة -فذكر نحوه (11) .
وقال سعد (12) بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن أبان بن صالح، عن الحسن البصري: أنه
__________
(1) في جـ: "ما بال".
(2) صحيح البخاري برقم (1725) وصحيح مسلم برقم (1229).
(3) صحيح البخاري برقم (4517).
(4) في جـ: "أيؤذيك".
(5) المسند (4/241).
(6) في جـ: "حدثنا يونس".
(7) في جـ: "العدو".
(8) في جـ، ط، أ: "فمر بي النبي".
(9) المسند (4/241).
(10) رواه أحمد في المسند كما في أطرافه لابن حجر (5/219).
(11) الموطأ (1/417).
(12) في طـ، أ: "وقال سعيد".

سمع كعب بن عُجْرَة يقول: فذبحت شاة. رواه ابن مَرْدُوَيه. وروي أيضًا من حديث عمر بن قيس، سندل -وهو ضعيف (1) -عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النسك شاة، والصيام ثلاثة أيام، والطعام (2) فَرَق، بين ستة" (3) .
وكذا رُوي عن علي، ومحمد بن كعب، وعكرمة (4) وإبراهيم [النخعي] (5) ومجاهد، وعطاء، والسدي، والربيع بن أنس.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا عبد الله بن وهب: أن مالك بن أنس حدثه (6) عن عبد الكريم بن مالك الجَزَري، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب ابن عُجْرة: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآذاه القَمْل في رأسه، فأمره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه، وقال: "صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، مُدّين مدّين لكل إنسان، أو انسُك شاة، أيَّ ذلك فعلتَ أجزأ عنك" (7) .
وهكذا روى ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } قال: إذا كان "أو" فأيه أخذتَ أجزأ عنك.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد، وعكرمة، وعطاء، وطاوس، والحسن، وحُميد الأعرج، وإبراهيم النخَعي، والضحاك، نحو ذلك.
قلت: وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء أنه يُخَيَّر (8) في هذا المقام، إن شاء صام، وإن شاء تصدّق بفَرق، وهو ثلاثة آصع، لكل مسكين نصفُ صاع، وهو مُدّان، وإن شاء ذبح شاة وتصدّق بها على الفقراء، أيّ ذلك فعل أجزأه. ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاءَ بالأسهل فالأسهل: { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } ولما أمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم كعبَ بن عجرة بذلك، أرشده إلى الأفضل، فالأفضل فقال: انسك شاة، أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام. فكلّ حسن في مقامه. ولله الحمد والمنة.
وقال ابن جرير: حدّثنا أبو كُرَيْب، حدّثنا أبو بكر بن عياش قال: ذكر الأعمشُ قال: سأل إبراهيمُ سعيدَ بن جبير عن هذه الآية: { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } فأجابه يقول: يُحْكَم عليه طعام، فإن كان عنده اشترى شاة، وإن لم يكن قوّمت الشاة دراهم، وجعل مكانها طعام فتصدق، وإلا صام بكل نصف صاع يومًا، قال إبراهيم: كذلك سمعت علقمة يذكر. قال: لما قال لي سعيد بن جبير: من هذا؟ ما أظرفه! قال: قلت: هذا إبراهيم. فقال: ما أظرفه! كان يجالسنا. قال: فذكرت ذلك لإبراهيم، قال: فلما قلت: "يجالسنا" انتفض منها (9) .
__________
(1) في جـ: "سنده عنه ضعيف".
(2) في جـ: "والإطعام".
(3) ذكره السيوطي في الدر المنثور (1/515) وعزاه لابن مردويه والواحدي.
(4) في جـ، ط، أ: "وعلقمة".
(5) زيادة من جـ، ط.
(6) في جـ: "حدثهم".
(7) الحديث في الموطأ (1/417).
(8) في جـ، ط: "مخيرا"، وفي و: "محير".
(9) تفسير الطبري (4/74).

وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا ابن أبي عمران، حدثنا عبُيَد الله (1) بن معاذ، عن أبيه، عن أشعث، عن الحسن في قوله: { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } قال: إذا كان بالمُحْرِم أذى من رأسه، حَلَق وافتدى بأيّ هذه الثلاثة شاء، والصيام عشرة أيام، والصدقة على عشرة مساكين، كلّ مسكين مَكُّوكين: مكوكا من تمر، ومكوكا من بُر، والنسك شاة.
وقال قتادة، عن الحسن وعكرمة في قوله: { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } قال: إطعام عشرة مساكين.
وهذان القولان من سعيد بن جبير، وعلقمة، والحسن، وعكرمة قولان غريبان فيهما نظر؛ لأنه قد ثَبَتت السنةُ في حديث كعب بن عُجْرة بصيام ثلاثة أيام، [لا عشرة و] (2) لا ستة، أو إطعام ستة مساكين أو نسك شاة، وأن ذلك على التخيير كما دَلّ عليه سياق القرآن. وأما هذا الترتيبُ فإنما هو معروفٌ في قَتْل الصيد، كما هو نص القرآن. وعليه أجمع الفقهاء هناك، بخلاف هذا، والله أعلم.
وقال هُشَيم: أخبرنا ليث، عن طاوس: أنه كان يقول: ما كان من دم أو طعام (3) فبمكة، وما كان من صيام فحيث شاء. وكذا قال عطاء، ومجاهد، والحسن.
وقال هُشَيم: أخبرنا حجاج وعبد الملك وغيرهما عن عطاء: أنه كان يقول: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء.
وقال هشيم: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد، أخبرنا أبو أسماء مولى ابن جعفر، قال: حج عثمان بن عفان، ومعه علي والحسين (4) بن علي، فارتحل عثمان. قال أبو أسماء: وكنت مع ابن جعفر، فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه، قال: فقلت: أيها النؤوم (5) . فاستيقظ، فإذا الحسين (6) بن علي. قال: فحمله ابنُ جعفر حتى أتينا به السُّقْيا قال: فأرسل إلى علي ومعه أسماء بنت عميس. قال: فمرضناه نحوا من عشرين ليلة. قال: قال علي للحسين: ما الذي تجد؟ قال: فأومأ بيده إلى رأسه. قال: فأمر به عَليّ فَحَلَق رأسه، ثم دعا ببدنَةٍ فنحرها. فإن كانت هذه الناقة عن الحلق ففيه أنه نحرها دون مكة. وإن كانت عن (7) التحلل فواضح.
وقوله: { فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } أي: إذا تمكنتم من أداء المناسك، فمن كان منكم مُتَمتِّعًا بالعُمرة إلى الحج، وهو يشمل من أحرم بهما، أو أحرم بالعمرة أولا فلما فرغ منها أحرم بالحج وهذا هو التمتع الخاص، وهو المعروف في كلام الفقهاء. والتمتع العام يشمل القسمين، كما دلت عليه الأحاديثُ الصحاح، فإن من الرُواة من يقولُ: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وآخر يقول: قَرَن. ولا خلاف أنّه ساق الهدي (8) .
وقال تعالى: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } أي: فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقله شاة، وله أن يذبح البقر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر. وقال الأوزاعي،
__________
(1) في جـ، أ: "عبد الله".
(2) زيادة من جـ، أ.
(3) في جـ: "أو إطعام".
(4) في جـ: "الحسن".
(5) في أ: "أيها النائم".
(6) في جـ: "الحسن".
(7) في أ: "من".
(8) في أ، و: "أنه ساق هديا".

عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة (1) عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح بقرة عن نسائه، وكن متمتعات. رواه أبو بكر بن مَرْدويه (2) .
وفي هذا دليل على شرعية (3) التمتع، كما جاء في الصحيحين عن عمْران بن حُصين قال: نزلت آية المتعة (4) في كتاب الله، وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لم يُنزل قرآن يُحَرّمه، ولم يُنْهَ عنها، حتى مات. قال رجل بِرَأيه ما شاء (5) . قال البخاري: يقال: إنه عُمَر. وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحًا به أن عمر، رضي الله عنه، كان ينهى الناس عن التمتع، ويقول: إن (6) نأخذ بكتاب الله فإنّ الله يأمر بالتمام. يعني قوله: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وفي نفس الأمر لم يكن عمر، رضي الله عنه، ينهى عنها محَرِّمًا لها، إنما كان يَنْهَى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين، كما قد صرح به، رضي الله عنه.
وقوله: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } يقول تعالى: فمن لم يجد هَدْيًا فَلْيصمْ ثلاثة أيام في الحج، أي: في أيام المناسك. قال العلماء: والأولى أن يصومها قبل يوم عَرَفة في العشر (7) ، قاله عطاء. أو من حين يحرم، قاله ابن عباس وغيره، لقوله: { فِي الْحَجِّ } ومنهم من يجوِّز صيامها من أول شوال، قاله طاوس ومجاهد وغير واحد. وجوز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين، وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جُبَير، والسّدّي، وعطاء، وطاوس، والحكم، والحسن، وحماد، وإبراهيم، وأبو جعفر الباقر، والربيع، ومقاتل بن حَيّان. وقال العوفي، عن ابن عباس: إذا لم يجد هَدْيًا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإذا كان يومُ عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله. وكذا رَوَى أبو إسحاق عن وبرة، عن ابن عمر، قال: يصوم يومًا قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة. وكذا رَوَى عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي أيضًا.
فلو لم يَصُمْها أو بعضها قبل [يوم] (8) العيد فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق؟ فيه قولان للعلماء، وهما للإمام الشافعي أيضًا، القديم منهما أنه يجوزُ له صيامها لقول عائشة وابن عمر في صحيح البخاري: لم يرَخّص في أيام التشريق أن يُصَمن (9) إلا لمن لا يجد الهَدي (10) . وكذا رواه مالك، عن الزّهري، عن عروة، عن عائشة. وعن سالم، عن ابن عمر [إنما قالوا ذلك لعموم قوله: { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ } ] (11) . (12) وقد روي من غير وجه عنهما. ورواه سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي أنه كان يقول: من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام
__________
(1) في هـ: "أبي مسلم"، والصواب ما أثبتناه من جـ، أ.
(2) ورواه أبو داود في السنن برقم (1751) من طريق الوليد عن الأوزاعي به.
(3) في جـ: "على مشروعية".
(4) في أ: "آية التمتع".
(5) صحيح البخاري برقم (4518) وصحيح مسلم برقم (1226).
(6) في أ: "إنا".
(7) في أ: "في العشرة".
(8) زيادة من أ.
(9) في أ: "أن يصوم".
(10) صحيح البخاري برقم (1997).
(11) زيادة من جـ، أ.
(12) الموطأ: (1/426).

التشريق. وبهذا يقول عُبَيد بن عُمَير الليثي (1) وعكرمة، والحسن البصري، وعروة بن الزبير؛ وإنما قالوا ذلك لعموم قوله: { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } والجديد من القولين: أنه لا يجوز صيامها أيام التشريق، لما رواه مسلم عن نبَيْشَة (2) الهذلي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله" (3) .
وقوله: { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } فيه قولان:
أحدهما: إذا رجعتم في الطريق. ولهذا قال مجاهد: هي رخصة إذا شاء صامها في الطريق. وكذا قال عطاء بن أبي رباح.
والقول الثاني: إذا رجعتم إلى أوطانكم؛ قال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن سالم، سمعت ابن عمر قال: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } قال: إذا رَجَع إلى أهله (4) ، وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والزهري، والربيع بن أنس. وحكى على ذلك أبو جعفر بن جرير الإجماع.
وقد قال البخاري : حدثنا يحيى بن بُكَير، حدثنا الليث، عن عُقَيل، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهَدْي من ذي الحُلَيفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهلَّ بالعمرة، ثم أهلَّ بالحج، فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج. فكان مِنَ الناس مَنْ أهدى فساق الهَدْي، ومنهم من لم يُهْد. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: "من كان منكم أهدى فإنه لا يَحل لشيء حَرُم منه حتَى يقضي حَجّه، ومَنْ لم يكن منكم أهدى فَلْيَطُفْ بالبيت وبالصفا والمروة، وَلْيُقَصِّر وليَحللْ (5) ثم ليُهِلّ بالحج، فمن لم يجد هديًا فليصُمْ ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله". وذكر تمام الحديث (6) .
قال الزهري: وأخبرني عروة، عن عائشة بمثل ما أخبرني سالم عن أبيه والحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري، به (7) .
وقوله: { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } قيل: تأكيد، كما تقول العرب: رأيت بعيني، وسمعت بأذني وكتبت بيدي. وقال الله تعالى: { وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام: 38] وقال: { وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [العنكبوت: 48]، وقال: { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } [الأعراف: 142].
وقيل: معنى { كَامِلَةٌ } الأمْرُ بإكمالها وإتمامها، اختاره ابنُ جرير. وقيل: معنى { كَامِلَةٌ } أي: مُجْزئة عن الهَدْي. قال (8) هُشَيْم، عن عباد بن راشد، عن الحسن البصري، في قوله: { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } قال: مِنَ الهَدْي.
__________
(1) في جـ: "المكثي".
(2) في جـ: "عن ابن نبيشة".
(3) صحيح مسلم برقم (1141).
(4) تفسير عبد الرزاق (1/93).
(5) في جـ: "وليتحلل".
(6) صحيح البخاري برقم (1691).
(7) صحيح البخاري برقم (1692) وصحيح مسلم برقم (1228).
(8) في أ: "قاله".

وقوله: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال ابن جرير: اختلف أهلُ التأويل فيمن عُني بقوله: { لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم مَعْنِيُّون به، وأنه لا متعة لهم، فقال بعضهم: عني بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم.
حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان -هو الثوري -قال: قال ابن عباس ومجاهد: هم أهل الحَرَم. وكذا روى ابن المبارك، عن الثوري، وزاد: الجماعة عليه.
وقال قتادة: ذُكر لنا أن ابن عباس كان يقول: يا أهل مكة، لا متعة لكم، أحلت لأهل الآفاق وحُرِّمت عليكم، إنما يقطع أحدكم واديا -أو قال: يجعل بينه وبين الحرم واديًا (1) -ثم يُهِلّ بعمرة.
وقال عبد الرزاق: حدثنا (2) مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: المتعةُ للناس -لا لأهل مكة -مَنْ لم يكن أهله من الحرم. وذلك قول الله عز وجل: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال: وبلغني عن ابن عباس مثلُ قول طاوس.
وقال آخرون: هم أهل الحرم ومن بَيْنه وبين المواقيت، كما قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن رجل، عن عطاء، قال: من كان أهله دون المواقيت، فهو كأهل مكة، لا يتمتع (3) .
وقال عبد الله بن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن مكحول، في قوله: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال: من كان دون الميقات.
وقال ابن جُرَيْج عن عطاء: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال: عرفة، ومَرّ، وعُرَنة، وضَجْنان، والرجيع (4) .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، سمعت الزهري يقول: من كان أهله على يوم أو نَحْوه تَمتَّع. وفي رواية عنه: اليوم واليومين. واختار ابن جرير في ذلك مذهب الشافعي أنهم أهل الحرم، ومن كان منه على مسافة لا تُقْصَر منها (5) الصلاة؛ لأن من كان كذلك يعد حاضرا لا مسافرًا، والله أعلم.
وقوله: { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي: فيما أمركم (6) وما نهاكم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي: لمن خالف (7) أمره، وارتكب ما عنه زجره.
__________
(1) في ط: "واديا واديا".
(2) في ط: "أخبرنا".
(3) تفسير عبد الرزاق (1/ 93).
(4) في و: "الضجيع".
(5) في جـ، ط، أ، و: "فيها".
(6) في ط: "فيما أمركم به".
(7) في ط: "لمن خاف".

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)

{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ (197) }
اختلف أهل العربية في قوله: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } فقال بعضهم: [تقديره] (1) الحج حَجُّ أشهر معلومات، فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام به فيما عداها، وإن كان ذاك صحيحا، والقول بصحة الإحرام بالحج في جميع السّنَةِ مذهبُ مالك، وأبي حنيفة، وأحمد
__________
(1) زيادة من جـ، أ، و.

بن حنبل، وإسحاق بن رَاهويه، وبه يقول إبراهيم النخَعي، والثوري، والليث بن سعد. واحْتَجّ لهم بقوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } [البقرة: 189] وبأنه أحد النسكين. فصح الإحرام به في جميع السَّنَةِ كالعمرة.
وذهب الشافعي، رحمه الله، إلى أنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره (1) فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به، وهل ينعقد عُمْرة؟ فيه قولان عنه. والقول بأنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره مَرْويّ عن ابن عباس، وجابر، وبه يقول عطاء، وطاوس، ومجاهد، رحمهم الله، والدليل عليه قوله تعالى: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وظاهره التقدير الآخر الذي ذهب إليه النحاة، وهو أن: وقت الحج أشهر مَعْلُومات، فخصصه بها من بين سائر شهور السنة، فدلّ على أنه لا يصح قبلها، كميقات الصلاة.
قال الشافعي، رحمه الله: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، أخبرني عُمَر بن عَطَاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يُحْرِم بالحج إلا في شهور (2) الحج، من أجل قول الله: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن يحيى بن مالك السوسي، عن حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج، به. ورواه ابن مَرْدويه في تفسيره من طريقين، عن حجاج بن أرطاة، عن الحكم بن عُتَيبة (3) عن مِقْسَم، عن ابن عباس: أنه قال: من السُّنَّة ألا يحرم [بالحج] (4) إلا في أشهر الحج.
وقال ابن خزيمة في صحيحه: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن شعبة، عن الحكم، عن مقْسَم، عن ابن عباس، قال: لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج (5) . وهذا إسناد صحيح، وقول الصحابي: "من السنة كذا" في حكم المرفوع عند الأكثرين، ولا سيما قول ابن عباس تفسيرا للقرآن، وهو ترجمانه.
وقد ورد فيه حديث مرفوع، قال (6) ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن قانع (7) حدثنا الحسن بن المُثَنى، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج".
وإسناده لا بأس به. لكن (8) رواه الشافعي، والبيهقي من طُرق، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل: أيُهَلّ بالحج قبل أشهر الحج؟ فقال: لا (9) .
وهذا الموقوف أصحّ وأثبت من المرفوع، ويبقى حينئذ مذهب صحابي، يتقوّى بقول ابن عباس: "من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهره". والله أعلم.
وقوله: { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } قال البخاري: قال ابن عمر: هي شوال، وذو القَعْدة، وعشر من ذي الحجة (10) . وهذا الذي علقه البخاري عنه بصيغة الجزم رواه ابن جرير موصولا حدثنا أحمد بن
__________
(1) في جـ: "إلا في أشهر الحج".
(2) في أ: "في أشهر".
(3) في أ، و: "بن عيينة".
(4) زيادة من جـ.
(5) صحيح ابن خزيمة برقم (2596).
(6) في جـ: "وقال".
(7) في جـ: "بن نافع".
(8) في جـ: "ولكن".
(9) الأم للشافعي (2/136) والسنن الكبرى للبيهقي (4/343).
(10) صحيح البخاري (3/419) "فتح".

حازم بن أبي غَرْزة (1) حدثنا أبو نعيم، حدثنا ورقاء، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } قال: شوال، وذو القعدة وعشر من ذي الحجة (2) .
إسناد (3) صحيح، وقد رواه الحاكم أيضًا في مستدركه، عن الأصم، عن الحسن بن علي بن عفان، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله (4) عن نافع، عن ابن عمر -فذكره وقال: على شرط الشيخين (5) .
قلت: وهو مَرْويّ عن عُمَر، وعليّ، وابن مسعود، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، ومكحول، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حَيّان. وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وأبي يوسف، وأبي ثَوْر، رحمهم الله. واختار هذا القول ابن جرير، قال: وصح إطلاق الجمع (6) على شهرين وبعض الثالث للتغليب، كما تقول العرب: "زرته العام، ورأيته اليوم". وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم؛ قال الله تعالى: { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة: 203] وإنما تعجل في يوم ونصف.
وقال الإمام مالك بن أنس [والشافعي في القديم] (7) :هي (8) :شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله. وهو رواية عَن ابن عُمَر أيضًا؛ قال ابن جرير:
حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: شوال وذو القعدة وذو الحجة.
وقال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني ابن جريج، قال: قلت لنافع: أسمعت عبد الله بن عُمَر يسمي شُهُور الحج؟ قال: نعم، كان عبد الله يسمي: "شوال وذو القعدة وذو الحجة". قال (9) ابن جريج: وقال ذلك ابن شُهاب، وعطاء، وجابر بن عبد الله صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا إسناد صحيح إلى ابن جريج. وقد حُكي هذا أيضًا عن طاوس، ومجاهد، وعروة بن الزبير، والربيع بن أنس، وقتادة. وجاء فيه حديث مرفوع، ولكنه موضوع، رواه الحافظ بن مَرْدويه، من طريق حُصَين بن مخارق -وهو متهم بالوضع -عن يونس بن عبيد، عن شهر بن حَوْشَب، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحج أشهر معلومات: شوال وذو القعدة وذو الحجة" (10) .
وهذا كما رأيت لا يَصح رفعه، والله أعلم.
وفائدة مذهب مالك أنَّه إلى آخر ذي الحجة، بمعنى أنه مختص بالحج، فيكره الاعتمار في بقية
__________
(1) في جـ: "بن أبي عزرة".
(2) تفسير الطبري (4/116).
(3) في جـ: "إسناده".
(4) في هـ، أ: "عبد الله"، والصواب ما أثبتناه من جـ، ط، و.
(5) المستدرك (2/276).
(6) في ط: "الجميع".
(7) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(8) في جـ: "هو".
(9) في جـ: "وقال".
(10) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (1693) "مجمع البحرين" من طريق محمد بن ثواب عن حصين بن مخارق به.

ذي الحجة، لا أنه يصح الحج بعد ليلة النحر.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنان، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن قيس بن مُسلم، عن طارق بن شهاب، قال: قال عبد الله: الحج أشهر معلومات، ليس فيها عمرة. وهذا إسناد صحيح.
قال ابن جرير: إنما أراد من ذَهَب إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة أنّ هذه الأشهر ليست أشهر العمرة، إنما هي للحج، وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء أيام منى، كما قال محمد بن سيرين: ما أحد مِن أهل العلم يَشُكّ في أن عمرة في غير أشهر الحجّ أفضل من عمرة في أشهر الحج.
وقال ابن عون: سألت القاسم بن محمد، عن العمرة في أشهر الحج، فقال: كانوا لا يرونها تامة.
قلت: وقد ثبت عن عمر وعثمان، رضي الله عنهما، أنهما كانا يحبان (1) الاعتمار في غير أشهر الحج، وينهيان عن ذلك في أشهر الحج، والله أعلم.
وقوله: { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي: أوجب بإحرامه حَجًّا. فيه دلالة على لزوم الإحرام بالحج والمضي فيه. قال ابن جرير: أجمعوا على أن المراد من الفَرْض هاهنا الإيجاب والإلزام.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } يقول: من أحرم بحَجّ أو عمرة. وقال عطاء: الفرضُ الإحرامُ. وكذا قال إبراهيم، والضحاك، وغيرهم.
وقال ابن جُرَيج: أخبرني عمر بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه قال { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } فلا ينبغي أن يلبي بالحج ثم يقيم بأرض. قال ابن أبي حاتم: ورَوُي عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وعطاء، وإبراهيم النخَعي، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وسفيان الثوري، والزهري، ومقاتل بن حَيّان -نحو ذلك.
وقال طاوس، والقاسمُ بن محمد: هو التلبية.
وقوله: { فَلا رَفَثَ } أي: من أحرم بالحج أو العمرة، فليجتنب الرفث، وهو الجماع، كما قال تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } [البقرة: 187]، وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك، وكذا التكلم به بحضرة النساء.
قال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس: أن نافعا أخبره: أن عبد الله بن عمر كان يقول: الرفثُ إتيانُ النساء، والتكلم بذلك: الرجالُ والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم.
قال ابن وهب: وأخبرني أبو صخر، عن محمد بن كَعْب، مثله.
قال ابن جرير: وحدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن رجل، عن أبي العالية الرَّياحي، عن ابن عباس: أنه كان يحدو -وهو محرم -وهو يقول:
وَهُنَّ يَمْشينَ بنَا هَمِيسَا ... إنْ يَصْدُق الطَّيْرُ نَنَلْ لَميسَا ...
قال أبو العالية فقلت: تَكَلّمُ بالرفث وأنت محرم؟! قال: إنما الرفث ما قيل عند النساء (2) .
__________
(1) في أ: "يحثان".
(2) تفسير الطبري (4/126).

ورواه الأعمش، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، عن ابن عباس، فذكره.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا ابن أبي عدي، عن عَون (1) حدثني زياد بن حصين، حدثني أبي حصين بن قيس، قال: أصْعَدْتُ مع ابن عباس في الحاجِّ، وكنت خليلا له، فلما كان بعد إحرامنا قال ابن عباس، فأخذ بذَنَب بعيره فجعل يلويه و[هو] (2) يرتجز، ويقول:
وَهُنَّ يَمْشِينَ بنَا هَمِيسَا ... إنْ يَصْدُق الطَّيْرُ نَنَلْ لَميسَا ...
قال: فقلت: أترفث وأنت محرم؟ فقال: إنما الرفث ما قيل عند النساء (3) .
وقال عبد الله بن طاوس، عن أبيه: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى: { فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ } قال: الرفث التعريض بذكر الجماع، وهي العَرَابَة في كلام العرب، وهو أدنى الرفث.
وقال عطاء بن أبي رباح: الرفثُ: الجماع، وما دونه من قول الفحش، وكذا قال عمرو بن دينار. وقال عطاء: كانوا يكرهون العَرَابة، وهو التعريض بذكر الجماع وهو مُحْرِم.
وقال طاوس: هو أن تقُول للمرأة: إذا حَلَلْت أصبتُك. وكذا قال أبو العالية.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الرفث: غِشْيان النساء والقُبَل والغَمْز، وأن يُعَرّض لهَا بالفحش (4) من الكلام، ونحو ذلك.
وقال ابن عباس أيضًا وابن عمر: الرفثُ: غشيانُ النساء. وكذا قال سعيدُ بن جُبَير، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم، وأبو العالية، وعطاء، ومكحول، وعطاء بن يسار، وعطية، وإبراهيم النَّخَعي، والربيع، والزهري، والسدي، ومالك بن أنس، ومقاتل بن حَيَّان، وعبد الكريم بن مالك، والحسن، وقتادة والضحاك، وغيرهم.
وقوله: { وَلا فُسُوقَ } قال مِقْسَم وغير واحد، عن ابن عباس: هي المعاصي. وكذا قال عطاء، ومجاهد، وطاوس، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، وإبراهيم النخعي، والزهري، ومكحول، وابن أبان، والربيع بن أنس، وعطاء بن يسار، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حيان.
وقال محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر (5) قال: الفسوق: ما أصيبَ من معاصي الله به صَيْد أو غيره. وكذا روى ابن وهب، عن يونس، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم.
وقال آخرون: الفسوقُ هاهنا السباب، قاله ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، ومجاهد، والسدي، وإبراهيم والحسن. وقد يتمسك لهؤلاء (6) بما ثبت في الصحيح (7) "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".
__________
(1) في جـ، ط، أ: "عن عوف".
(2) زيادة من جـ، ط، أ.
(3) تفسير الطبري (4/126).
(4) في جـ: "يعرض لها الفحشاء".
(5) في جـ: "أن عبد الله بن عمر".
(6) في جـ: "هؤلاء".
(7) في أ: "الصحيحين".

ولهذا رواه هاهنا الحبرُ أبو محمد بن أبي حاتم، رحمه الله، من حديث سفيان الثوري عن يزيد (1) عن أبي وائل، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" (2) . وروي من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه (3) ومن حديث أبي إسحاق عن محمد بن سعد عن أبيه (4) ] (5) .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الفسوق هاهنا: الذبح للأصنام. قال الله تعالى: { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [الأنعام: 145].
وقال الضحاك: الفسوق: التنابز بالألقاب.
والذين قالوا: الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي، معهم الصواب، كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم، وإن كان في جميع السنة منهيًا عنه، إلا أنه في الأشهر الحرم آكَدُ؛ ولهذا قال: { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [التوبة: 36]، وقال في الحرم: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الحج: 25] .
واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا: هو ارتكاب ما نُهي عنه في الإحرام، من قتل الصيد، وحَلْق الشعر، وقَلْم الأظفار، ونحو ذلك، كما تقدم عن ابن عمر. وما ذكرناه أولى، والله أعلم. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" (6) .
وقوله: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } فيه قولان:
أحدهما: ولا مجادلة في وقت الحج وفي مناسكه، وقد بينه الله أتَمّ بيان ووضحه أكمل إيضاح. كما قال وَكِيع، عن العلاء بن عبد الكريم: سمعت مجاهدًا يقول: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قد بين الله أشهر الحَج، فليس فيه جدال بين الناس.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال: لا شهر يُنْسَأ، ولا جدال في الحج، قد تَبَيَّن، ثم ذكر كيفية ما كان المشركون يصنعون في النسيء الذي ذمهم الله به.
وقال الثوري، عن عبد العزيز بن رُفَيع، عن مجاهد في قوله: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال: قد استقام الحج، فلا جدَال فيه. وكذا قال السدي.
وقال هُشَيم: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال: المراء في الحج.
__________
(1) في أ: "عن زيد"، وفي و: "عن زبيد".
(2) ورواه البخاري في صحيحه برقم (6044) ومسلم في صحيحه برقم (63) من طريق منصور بن المعتمر عن أبي وائل به.
(3) رواه الترمذي في السنن برقم (2634) والنسائي في السنن (7/ 122).
(4) رواه ابن ماجة في السنن برقم (3941).
(5) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(6) صحيح البخاري برقم (1521) وصحيح مسلم برقم (1350).

وقال عبد الله بن وهب: قال مالك: قال الله تعالى: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } فالجدال في الحج -والله أعلم -أنّ قريشًا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة، وكانت العرب، وغيرهم يقفون بعَرفَة، وكانوا يتجادلون، يقول هؤلاء: نحن أصوب. ويقول هؤلاء: نحن أصوب. فهذا فيما نرى، والله أعلم.
وقال ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كانوا يقفُون مَوَاقف مختلفة يتجادلون، كُلّهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم فقطعه الله حين أعلم نَبَّيه بالمناسك.
وقال ابن وهب، عن أبي صخر، عن محمد بن كعب، قال: كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء: حجُّنا أتّم من حجكم. وقال هؤلاء: حجّنا أتم من حَجكم.
وقال حماد بن سلمة عن جبر (1) بن حبيب، عن القاسم بن محمد أنه قال: الجِدَال في الحج أن يقول بعضهم: الحجّ غدًا. ويقول بعضهم: اليوم.
وقد اختار ابن جرير مضمونَ هذه الأقوال، وهو قطع التنازع في مناسك الحج.
والقول الثاني: أن المراد بالجدال هاهنا: المخاصمة.
قال ابن جرير: حدثنا عبد الحميد بن بيان (2) حدثنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله -هو ابن مسعود -في قوله: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال: أنْ تماري صاحبك حتى تغضبه.
وبهذا الإسناد إلى أبي إسحاق، عن التميمي: سألت ابن عباس عن "الجدال" قال: المراء، تماري صاحبك حتى تغضبه. وكذا روى مِقْسَم والضحاك، عن ابن عباس. وكذا قال أبو العالية، وعطاء ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وجابر بن زيد، وعطاء الخراساني، ومكحول، وعمرو بن دينار، والسدي، والضحاك، والربيع بن أنس، وإبراهيم النَّخَعي، وعطاء بن يسار، والحسن، وقتادة، والزهري، ومقاتل بن حيّان.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال الجدال: المراء والملاحاة، حتى تغضب أخاك وصاحبك، فنهى الله عن ذلك.
وقال إبراهيم النخعي: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } قال: كانوا يكرهون الجدال. وقال محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الجدال: السباب والمنازعة. وكذا روى ابن وهب، عن يونس، عن نافع: أن ابن عمر كان يقول: الجدال في الحج: السباب، والمراء، والخصومات، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن الزبير، والحسن، وإبراهيم، وطاوس، ومحمد بن كعب، قالوا: الجدال المراء.
وقال عبد الله بن المبارك، عن يحيى بن بشر (3) عن عكرمة: { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } والجدال الغضب، أن تُغْضب عليك مسلمًا، إلا أن تستعتب مملوكًا فتُغْضبه من غير أن تضربه، فلا بأس عليك، إن شاء الله.
__________
(1) في جـ: "عن حسين"، وفي أ: "عن جبير".
(2) في جـ: "بن سنان".
(3) في أ: "بن بشير".

قلت: ولو ضربه لكان جائزًا سائغًا. والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن إدريس، حدثنا محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه: أنّ أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُجّاجًا، حتى إذا كنا بالعَرْج نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلست عائشةُ إلى جنب رسول الله، وجلستُ إلى جَنْب أبي. وكانت (1) زِمَالة أبي بكر وزِمَالة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة مع غلام أبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظره إلى أن يطلع عليه، فأطْلَعَ وليس معه بعيره، فقال: أين بعيرك؟ فقال: أضللتُه البارحة. فقال أبو بكر: بعير واحد تُضلَّه؟ فطفق يضربه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول: "انظروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنع؟ ".
وهكذا أخرجه أبو داود، وابن ماجة، من حديث ابن إسحاق (2) . ومن هذا الحديث حكى بعضُهم عن بعض السلف أنه قال: من تمام الحج ضَرْبُ الجمال. ولكن يستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر: "انظروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنع؟ " -كهيئة الإنكار اللطيف -أن الأولى تركُ ذلك، والله أعلم.
وقد قال الإمام عبد بن حميد في مسنده: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة (3) عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قضَى نُسُكَه وسلِم المسلمون من لسانه ويده، غفر له ما تقدم من ذنبه (4) " (5) .
وقوله: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } لما نهاهم عن إتيان القبيح قولا وفعْلا حَثَّهم على فعل الجميل، وأخبرهم أنه عالم به، وسيجزيهم عليه أوفرَ الجزاء يوم القيامة.
وقوله: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } قال العوفي، عن ابن عباس: كان أناس يخرجون من أهليهم ليست (6) معهم أزْودة، يقولون: نَحُجُّ بيت الله ولا يطعمنا.. فقال الله: تزودوا (7) ما يكف وجوهكم عن الناس.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة: قال: إن ناسًا كانوا يحجون بغير زاد، فأنزل الله: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }
وكذا رواه ابن جرير عن عمرو -وهو الفَلاس (8) -عن ابن عيينة.
قال ابن أبي حاتم: وقد روى هذا الحديث ورَقْاء، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس. قال: وما يرويه عن ابن عيينة أصح.
__________
(1) في ط: "وكان".
(2) المسند (6/344) وسنن أبي داود برقم (1818) وسنن ابن ماجة برقم (2933).
(3) في جـ: "عن أخيه عن عبد الله".
(4) في جـ: "ما تقدم من ذنبه وما تأخر".
(5) المنتخب لعبد بن حميد برقم (1148) وموسى بن عبيدة ضعيف.
(6) في جـ: "ليس".
(7) في أ: "وتزودوا".
(8) في جـ: "وهو ابن العلاء" وفي أ: "أبو الفلاس".

قلت: قد رواه النسائي، عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس [قال] (1) كان نَاس يحجون بغير زاد، فأنزل الله: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } (2) . وأما حديث ورقاء فأخرجه البخاري، عن (3) يحيى بن بشر، عن (4) شَبَابة (5) . وأخرجه أبو داود، عن أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازي، ومحمد بن عبد الله المُخَرَّمي، عن شبابة، عن ورقاء، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان أهل اليمن يَحُجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون (6) . فأنزل الله: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } (7) .
ورواه عبد بن حميد في تفسيره، عن شَبابة [به] (8) . ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث شبابة، به.
وروى ابن جرير وابن مَرْدُويه من حديث عَمْرو بن عبد الغفار [عن محمد بن سوقة] (9) عن نافع، عن ابن عمر، قال: كانوا إذا أحرموا -ومعهم أزوادهم -رموا بها، واستأنفوا زادًا آخر (10) ؛ فأنزل الله تعالى: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } فَنُهوا عن ذلك، وأمِرُوا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق. وكذا قال ابن الزبير، وأبو العالية، ومجاهد، وعكرمة، والشعبي، والنخعي، وسالم بن عبد الله، وعطاء الخراساني، وقتادة، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان.
وقال سعيد بن جبير: فتزودوا (11) الدقيق والسويق والكعك (12) وقال وكيع [بن الجراح] (13) في تفسيره: حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة (14) عن سعيد بن جبير: { وَتَزَوَّدُوا } قال: الخشكنانج والسويق. وقال وكيع أيضًا: حدثنا إبراهيم المكي، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: إن من كَرَم الرجل طيب زاده في السفر. وزاد فيه حماد بن سلمة، عن أبي ريحانة أنّ ابن عمر كان يشترط على من صحبه الجَوْزَة (15) .
وقوله: { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى إليها، كما قال: { وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } [الأعراف: 26]. لما ذكر اللباس الحسي نَبّه مرشدًا إلى اللباس المعنوي، وهو الخشوع، والطاعة (16) والتقوى، وذكر أنه خير من هذا، وأنفع.
قال عطاء الخراساني في قوله: { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } يعني: زاد الآخرة.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا عبدان، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا مروان بن
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (11033).
(3) في ط: "حدثنا".
(4) في أ: "بن بشير نبا".
(5) في ط: "شبابة قال".
(6) في ط: "نحن متوكلون".
(7) صحيح البخاري برقم (1523) وسنن أبي داود برقم (1730).
(8) زيادة من أ، و.
(9) زيادة من الطبري.
(10) تفسير الطبري (4/ 156).
(11) في جـ، ط، و: "يتزودوا" وفي أ: "تزودوا".
(12) في أ: "كما بينه".
(13) زيادة من أ.
(14) في جـ: "صوفة".
(15) في ط، أ، و: "الجودة".
(16) في أ: "الخشوع في الطاعة".

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

معاوية، عن إسماعيل عن قيس، عن جرير بن عبد الله، عن النبي، صلى الله عليه وسلم [قال ] : (1) "من يتزود في الدنيا يَنْفَعه في الآخرة" (2) .
وقال مقاتل بن حيان: لما نزلت هذه الآية: { وَتَزَوَّدُوا } قام رجل من فقراء المسلمين فقال: يا رسول الله، ما نجد زادًا نتزوده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تزود ما تكف به وجهك عن الناس، وخير ما تزودتم التقوى". رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: { وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ } يقول: واتقوا عقابي، ونكالي، وعذابي، لمن خالفني ولم يأتمر بأمري، يا ذوي العقول والأفهام.
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) }
قال البخاري: حدثنا محمد، أخبرني ابن عيينة، عن عَمْرو، عن ابن عباس، قال: كانت عكاظ ومَجَنَّة، وذو المجاز أسواق الجاهلية، فتأثَّموا أن يتجروا في المواسم (3) فنزلت: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } في مواسم الحج (4) .
وهكذا رواه عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وغير واحد، عن سفيان بن عيينة، به (5) .
ولبعضهم: فلما جاء الإسلام تأثموا أن يتجروا، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله هذه الآية. وكذلك (6) رواه ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: كان متجر الناس في الجاهلية عكاظُ ومَجّنةُ وذو المجاز، فلما كان (7) الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى نزلت هذه الآية.
وروى أبو داود، وغيره، من حديث يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كانوا يَتَّقون البيوع والتجارة في الموسم، والحج، يقولون: أيام ذكر، فأنزل الله: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } (8) .
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس: أنه قال: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج".
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل
__________
(1) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(2) المعجم الكبير (2/305) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 311): "رجاله رجال الصحيح".
(3) في جـ، ط: "في الموسم".
(4) صحيح البخاري برقم (4519).
(5) تفسير عبد الرزاق (1/65) وسنن سعيد بن منصور برقم (347).
(6) في ط: "وكذا".
(7) في جـ، ط: "فلما جاء".
(8) سنن أبي داود برقم (1731).

الإحرام وبعده. وهكذا رَوَى العوفي، عن ابن عباس.
وقال وَكِيع: حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرأ: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج". [وقال عبد الرزاق: عن أبيه عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد: سمعت ابن الزبير يقول: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج" ] (1) .
ورواه عبد بن حميد، عن محمد بن الفضل، عن حماد بن زيد، عن عبيد الله (2) بن أبي يزيد، سمعت ابن الزبير يقرأ (3) -فذكر مثله سواء (4) . وهكذا فسرها مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومنصور بن المعتمر، وقتادة، وإبراهيم النخعي، والربيع بن أنس، وغيرهم.
وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا شبابة بن سَوّار، حدثنا شعبة، عن أبي أميمة (5) قال: سمعت ابن عمر -وسُئِل عن الرجل يحجُّ ومعه تجارة -فقرأ ابن عمر: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ }
وهذا موقوف، وهو قوي جيد (6) . وقد روي مرفوعًا قال أحمد: حدثنا [أحمد بن] (7) أسباط، حدثنا الحسن بن عَمْرو الفُقَيمي، عن أبي أمامة التيمي، قال: قلت لابن عمر: إنا نُكْرَي، فهل لنا من حج، قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المُعَرَّفَ، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ قال: قلنا (8) : بلى. فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أنتم حجاج" (9) .
وقال (10) عبد الرزاق: أخبرنا الثوري، عن العلاء بن المسيب، عن رجل من بني تيم الله قال: جاء رَجُل إلى عبد الله بن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنا قوم نُكْرَي، ويزعمون أنه ليس لنا حج. قال: ألستم تحرمون كما يحرمون، وتطوفون كما يطوفون، وترمون كما يرمون؟ قال: بلى. قال: فأنت حاج (11) . ثم قال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عما سألت عنه، فنزلت هذه الآية: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } (12) .
ورواه عَبْد [بن حميد في تفسيره] (13) عن عبد الرزاق به. وهكذا روى هذا الحديث ابن (14)
__________
(1) زيادة من جـ، ط، و.
(2) في جـ: "عبد الله".
(3) في جـ: "يقول".
(4) في و: يقرأ: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج".
(5) في جـ، ط: "عن أبي أمامة".
(6) في أ: "جدا".
(7) زيادة من أ.
(8) في ط: "قال: قلت".
(9) المسند (2/155).
(10) في جـ، ط، أ، و: "وقد قال".
(11) في جـ: "فأنتم حجاج".
(12) ورواه الطبري في تفسيره (4/169) من طريق عبد الرزاق به.
(13) زيادة من و.
(14) في جـ، ط، أ، و: "أبو".

حذيفة، عن الثوري، مرفوعًا. وهكذا روي من غير هذا الوجه مرفوعًا (1) .
وقال (2) ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عباد بن العوام، عن العلاء بن المسيب، عن أبي أمامة التيمي، قال: قلت لابن عمر: إنا أناس نُكْرَي في هذا الوجه إلى مكة، وإن أناساً يزعمون أنّه لا حج لنا، فهل ترى لنا حجاً؟ قال: ألستم تحرمون، وتطوفون بالبيت، وتقفون (3) المناسك؟ قال: قلت: بلى. قال: فأنتم حجاج. ثم قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن [مثل] (4) الذي سألت، فلم يَدْر ما يعود عليه -أو قال: فلم يَرُدّ عليه شيئا -حتى نزلت: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } فدعا الرجل، فتلاها عليه، وقال: "أنتم حجاج" (5) .
وكذا رواه مسعود بن سعد، وعبد الواحد بن زياد، وشَريك القاضي، عن العلاء بن المسيب به مرفوعاً.
وقال ابن جرير: حدثني طليق (6) بن محمد الواسطي، حدثنا أسباط -هو ابن محمد -أخبرنا الحسن بن عَمْرو-هو الفقَيْمِي -عن أبي أمامة التيمي. قال: قلت لابن عمر: إنا قوم نُكْرَي، فهل لنا من حج؟ فقال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المُعَرّف، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ قلنا: بلى. قال (7) جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يدر ما يقول له، حتى نزل جبريل، عليه السلام، بهذه الآية: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } إلى آخر الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم حجاج" (8) .
وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا مَنْدل، عن عبد الرحمن بن المهاجر، عن أبي صالح مولى عمر، قال: قلت: يا أمير المؤمنين، كنتم تتجرون في الحج؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج؟
وقوله تعالى: { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ }
إنما صَرَفَ "عرفات" وإن كان علما على مؤنث؛ لأنه في الأصل جَمْع كمسلمات ومؤمنات، سمي به بقعة معينة، فروعي فيه الأصل، فصرف. اختاره ابن جرير.
وعرفة: موضع الموقف (9) في الحج، وهي عمدة أفعال الحج؛ ولهذا روى الإمام أحمدُ، وأهل السنن، بإسناد صحيح، عن الثوري، عن بكير بن (10) عطاء، عن عبد الرحمن بن يَعْمر الديَلي،
__________
(1) وانظر ذكر هذه الطرق في: حاشية الشيخ سعد الحميد على سنن سعيد بن منصور برقم (352) فقد أجاد وأفاد، ولولا خشية الإطالة لنقلته هاهنا.
(2) في جـ، ط، أ، و: "فقال".
(3) في جـ، ط، أ، و: "تقضون".
(4) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(5) ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (3051) من طريق مروان بن معاوية عن العلاء بن المسيب به، ورواه أبو داود في السنن برقم (1733) من طريق عبد الواحد بن زياد عن العلاء بن المسيب به.
(6) في جـ: "طلق".
(7) في جـ، ط: "فقال".
(8) تفسير الطبري (4/164).
(9) في جـ، ط، و: "موضع الوقوف" وفي أ: "مواضع الوقوف".
(10) في جـ، ط، أ، و: "عن" والمثبت من أ.

قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحج عرفات -ثلاثا -فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر، فقد أدرك. وأيام منى ثلاثة (1) فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه" (2) .
ووقت الوقوف من الزوال يومَ عرفة إلى طُلُوع الفجر الثاني من يوم النحر؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع، بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس، وقال: "لتأخُذوا عني مناسككم" (3) .
وقال في هذا الحديث: "فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك" وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي رحمهم الله. وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عَرَفة. واحتجوا بحديث الشعبي، عن عروة بن مُضَرِّس بن حارثة بن لام (4) الطائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة، حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جَبَليْ (5) طيئ، أكللت (6) راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حَج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شَهِد صلاتنا هذه، فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا، فقد تم حَجّه، وقضى تَفَثَه".
رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وصححه الترمذي (7) .
ثم قيل: إنما سميت عَرَفات لما رواه عبد الرزاق: أخبرني ابن جريج قال: قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب: بعث الله جبريل، عليه السلام، إلى إبراهيم، عليه السلام، فحج به، حتى إذا أتى عرفة قال: عرفت، وكان قد (8) أتاها مرة قبل ذلك، فلذلك سميت عَرَفة.
وقال ابن المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، قال: إنما سميت عرفة، أنّ جبريل كان يُرِي إبراهيم المناسك، فيقول: عَرَفْتُ عَرَفْتُ. فسمي "عرفات". وروي نحوه عن ابن عباس، وابن عمر وأبي مِجْلز، فالله أعلم.
وتسمى عرفات المشعر الحلال، والمشعر (9) الأقصى، وإلال -على وزن هلال -ويقال للجبل في وسطها: جَبَلُ الرحمة. قال أبو طالب في قصيدته المشهورة:
وبالمشعَر الأقصى إذا قصدوا له ... إلال إلى تلك الشِّراج القَوَابل (10)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا حماد بن الحسن بن عَنْبَسَة، حدثنا أبو عامر، عن زمعة -هو ابن
__________
(1) في أ: "ثلاث".
(2) المسند (4/335) وسنن أبي داود برقم (1949) وسنن الترمذي برقم (2975) وسنن النسائي (5/264) وسنن ابن ماجة برقم (3015).
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (1297) من حديث جابر رضي الله عنه.
(4) في جـ: "ابن الإمام".
(5) في جـ، ط، أ: :من جبل".
(6) في جـ: "أظللت".
(7) المسند (4/15) وسنن أبي داود برقم (1950) وسنن الترمذي برقم (891) وسنن النسائي (5/263) وسنن ابن ماجة برقم (3016).
(8) في جـ: "وقد كان".
(9) في ط: "المشعر الحرام".
(10) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/274).

صالح -عن سلمة -هو ابن وَهْرَام (1) -عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان أهل الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال، كأنها العمائم على رؤوس الرجال، دفعوا، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدفعة من عرفة حتى غربت الشمس.
ورواه ابن مَرْدُويه، من حديث زمعة بن صالح، وزاد: ثم وقف بالمزدلفة، وصلى الفجر بغَلَس، حتى إذا أسفر (2) كل شيء وكان في الوقت الآخر، دفع. وهذا حَسَنُ الإسناد.
وقال ابن جُرَيْج، عن محمد بن قيس، عن المسْوَر بن مَخْرَمة قال: خَطَبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهو بعرفات، فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: "أما بعد -وكان إذا خطب خطبة قال: أما بعد -فإن هذا اليوم الحجَ الأكبر، ألا وإن أهلَ الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس، إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال، كأنها عمائم الرجال في وجوهها، وإنا ندفع بعد أن تغيب الشمس، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع الشمس، إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس، مُخَالفاً هَدْيُنَا هَدْي أهل الشرك".
هكذا رواه ابن مَرْدُيَه وهذا لفظه، والحاكم في مستدركه، كلاهما من حديث عبد الرحمن بن المبارك العيشي، عن عبد الوارث بن سعيد، عن ابن جريج، به. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. قال: وقد صح وثَبَت بما ذكرناه سماع المِسْوَر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا كما يتوهمه رعاع أصحابنا أنّه ممن له رؤية (3) بلا سماع (4) .
وقال وَكِيع، عن شعبة، عن إسماعيل بن رجاء [الزبيدي] (5) عن المعرور بن سويد، قال: رأيت عمر، رضي الله عنه، حين دفع من عرفة، كأني أنظر إليه رَجُلا أصلع على بعير له، يُوضِع (6) وهو يقول: إنا وجدنا الإفاضة هي الإيضاع.
وفي حديث جابر بن عبد الله الطويل، الذي في صحيح مسلم، قال فيه: فلم يزل واقفا -يعني بعرفة -حتى غربت الشمس، وذهبت (7) الصُّفْرَة قليلا حتى غاب القُرْصُ، وأردف أسامة خلفه، ودفعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شَنَقَ للقصواء الزّمام، حتى إنّ رأسها ليصيب مَوْرك رحله، ويقول بيده اليمنى: "أيها الناس، السكينة السكينة". كلما أتى جبلا من الجبال أرْخَى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المُزْدَلِفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يُسَبِّحْ بينهما شيئا، ثم اضطجع حتى طلع الفَجرُ فصلى الفجر حين تَبَيَّن له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعرَ الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهَلَّله ووحَّده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلُع الشمس (8) وفي الصحيح (9) عن أسامة بن زيد، أنه سُئِل كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دَفَعَ؟
__________
(1) في جـ: "هو ابن هشام".
(2) في أ: "إذا استقر".
(3) في جـ: "ممن له رواية".
(4) المستدرك (2/277).
(5) زيادة من و.
(6) في أ: "فوضع".
(7) في جـ، ط، أ، و: "وبدت".
(8) صحيح مسلم برقم (1218).
(9) في جـ، ط، أ، و: "وفي الصحيحين".

قال: "كان يسير العَنَق، فإذا وجد فَجْوَة نَص" (1) . والعنق: هو انبساط السير، والنص، فوقه.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو محمد ابن بنت الشافعي، فيما كَتَب إليّ، عن أبيه أو عمه، عن سفيان بن عيينة قوله: { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } وهي الصلاتين (2) جميعاً.
وقال أبو إسحاق السَّبِيعي، عن عمرو بن ميمون: سألت عبد الله بن عَمْرو عن المشعر الحرام، فسكت حتى إذا هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ هذا المشعر الحرام.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سالم قال: قال ابن عمر: المشعر الحرام المزدلفة كلها (3) .
وقال هُشَيم، عن حجاج (4) عن نافع، عن ابن عمر: أنه سئل عن قوله: { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } قال: فقال: هو الجبل وما حوله.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: رآهم ابن عُمَر يزدحمون على قُزَحَ، فقال: عَلام يزدحم هؤلاء؟ كل ما هاهنا مشعر (5) .
وروي عن ابن عباس، وسعيد بن جُبير، وعكرمة، ومجاهد، والسدي، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة أنهم قالوا: هو ما بين الجبلين.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أين المزدلفة؟ قال: إذا أفَضْت (6) من مَأزمي عرفة فذلك إلى مُحَسِّر. قال: وليس المأزمان مَأزما عرفة من المزدلفة، ولكن مُفَاضَاهما (7) . قال: فقِف (8) بينهما إن شئت، قال: وأحب أن تَقفَ دون قُزَح، هَلُمّ إلينا من أجل طريق الناس.
قلت: والمشاعر هي المعالم الظاهرة، وإنما سميت المزدلفة المشعر الحرام؛ لأنها داخل الحرم، وهل الوقوف بها ركن في الحج لا يصح إلا به، كما ذهب إليه طائفة من السلف، وبعض أصحاب الشافعي، منهم: القفال، وابن خُزَيمة، لحديث عُرْوة بن مُضَرَس؟ أو واجب، كما هو أحد قولي الشافعي يجْبَر بدم؟ أو مستحب لا يجب (9) بتركه شيء كما هو القول الآخر؟ في ذلك ثلاثة أقوال للعلماء، لبسطها موضع آخر غير هذا، والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1666 ، 4413) وصحيح مسلم برقم (1286).
(2) كذا في جـ، ط، وهو خطأ، والصواب: "الصلاتان".
(3) رواه الطبري في تفسيره (4/176) من طريق عبد الرزاق به.
(4) في جـ: "عن الحجاج".
(5) رواه الطبري في تفسيره (4/177، 178) من طريق عبد الرزاق به.
(6) في جـ، ط: "إذا أفضيت"، وفي أ: "إذا قضيت".
(7) في أ، و: "مقضاهما".
(8) في جـ: "فتقف".
(9) في جـ: "لا يجبره".

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)

وقال عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عَرَفَةُ كلها موقف، وارفعوا عن عُرَنة (1) ، وجَمْع كلها مَوقف إلا مُحَسرًا" (2) .
هذا حديث مرسل. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، حدثني سليمان بن موسى، عن جبير بن مطعم (3) ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "كل عرفات موقف، وارفعوا عن عُرَنة (4) . وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن مُحَسِّر، وكل فجاج مكة مَنْحر، وكل أيام التشريق ذبح" (5) .
وهذا أيضا منقطع، فإن سليمان بن موسى هذا -وهو الأشدق -لم يدرك جُبَير بن مطعم. ولكن رواه الوليد بن مسلم، وسويد بن عبد العزيز، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان، فقال الوليد: عن ابن لجبير (6) بن مطعم، عن أبيه. وقال سويد: عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره، والله أعلم.
وقوله: { وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } تنبيه لهم على ما أنْعَم به عليهم، من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج، على ما كان عليه إبراهيم الخليل، عليه السلام؛ ولهذا قال: { وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } قيل: من قبل هذا الهدي، وقبل القرآن، وقبل الرسول، والكل متقارب، ومتلازم، وصحيح.
{ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) }
"ثم" هاهنا لعطف خبر على خبر وترتيبه عليه، كأنه تعالى أمر الواقف بعرفات أن يَدْفَع إلى المزدلفة، ليذكر الله عند المشعر الحرام، وأمره أن يكون وقوفه مع جمهور الناس بعرفات، كما كان جمهور الناس يصنعون، يقفون بها إلا قريشًا، فإنهم لم يكونوا يخرجون من الحرم، فيقفون في طرف الحرم عند أدنى الحِل (7) ، ويقولون: نحن أهل الله في بلدته، وقُطَّان بيته.
وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن حازم، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يُسَمّون الحُمْس، وكان (8) سائر العرب يقفون بعرفات. فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يَأتَي عرفات، ثم يقف بها ثم يُفيض
__________
(1) في أ، و: "عن عرفة".
(2) رواه الطبري في التفسير (4/179) وقد جاء موصولا من حديث جابر رضي الله عنه، ورواه ابن ماجة في السنن برقم (3012) وأصله في صحيح مسلم برقم (1218) أ. هـ مستفادا من حاشية الشيخ أحمد شاكر على تفسير الطبري.
(3) في ط: "عن جبير بن مطعم عن أبيه".
(4) في أ: "عرفات" وفي و: "عرنات".
(5) المسند (4/82).
(6) في أ: "عن جبير".
(7) في أ: "الجبل".
(8) في جـ، ط، أ: "وكانت".

منها، فذلك قوله: { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } (1) .
وكذا قال ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وقتادة، والسدي، وغيرهم. واختاره ابن جرير، وحكى عليه الإجماع، رحمهم الله.
وقال الإمام أحمد، حدثنا سُفْيان، عن عمرو، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: أضللتُ بعيرًا لي بعرفة، فذهبت أطلبه، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم واقف، قلت: إن هذا من الحَمْس (2) ما شأنه هاهنا؟
أخرجاه في الصحيحين (3) . ثم روى البخاري من حديث موسى بن عقبة، عن كُرَيب، عن ابن عباس ما يقتضي أن المراد بالإفاضة هاهنا هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى لرمي الجمار (4) . فالله أعلم. وحكاه ابنُ جرير، عن الضحاك بن مزاحم فقط. قال: والمراد بالناس: إبراهيم، عليه السلام. وفي رواية عنه: الإمام. قال ابن جرير (5) ولولا إجماع الحجة على خلافه لكان هو الأرجح.
وقوله: { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } كثيرًا ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات؛ ولهذا ثبت في صحيح مسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر ثلاثًا. وفي الصحيحين أنَّه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير، ثلاثًا وثلاثين، ثلاثًا وثلاثين (6) .
وقد روى ابن جرير هاهنا حديث (7) ابن عباس (8) بن مرداس السلمي في استغفاره، عليه السلام، لأمته عَشِيَّةَ عرفة، وقد أوردناه (9) في جُزْء جمعناه في فضل يوم عرفة (10) .
وأورد ابن مَرْدويه هاهنا الحديث الذي رواه البخاري، عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوءُ لك بنعمتك عَلَيّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة، ومن قالها في
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4520).
(2) في أ: "الحميس".
(3) المسند (4/80) وصحيح البخاري برقم (1664) وصحيح مسلم برقم (1220).
(4) صحيح البخاري برقم (4521).
(5) في جـ: "ابن جريج".
(6) في جـ: "ثلاث وثلاثين وثلاث وثلاثين".
(7) في ط: "هاهنا حديثا حديث".
(8) في ط: "حديث العباس".
(9) في جـ: "أفردناه".
(10) قال الطبري في تفسيره (4/192): "حدثني إسماعيل بن سيف العجلي قال: حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي قال: حدثنا ابن كنانة - ويكنى أبا كنانة - عن أبيه، عن العباس بن مرداس السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوت الله يوم عرفة أن يغفر لأمتي ذنوبها، فأجابني: أن قد غفرت، إلا ذنوبها بينها وبين خلقي، فأعدت الدعاء يومئذ، فلم أجب بشيء، فلما كان غداة المزدلفة قلت: يا رب، إنك قادر أن تعوض هذا المظلوم من ظلامته وتغفر لهذا الظالم، فأجابني: أن قد غفرت" قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلنا: يا رسول الله، رأيناك تضحك في يوم لم تكن تضحك فيه !! قال: "ضحكت من عدو الله إبليس لما سمع بما سمع، إذ هو يدعو بالويل والثبور، ويضع التراب على رأسه".

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)

يومه فمات دخل الجنة" (1) .
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عَمْرو: أن أبا بكر قال: يا رسول الله، عَلمني دعاء أدعو به في صلاتي؟ فقال: "قل: اللهمّ إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مَغْفِرةً من عندك وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرحيم" (2) .
والأحاديث في الاستغفار كثيرة.
{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) }
يأمرُ تعالى بذكره والإكثار منه بعد قَضَاء المناسك وفراغها.
وقوله: { كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ } اختلفوا في معناه، فقال ابن جُرَيج، عن عطاء: هو (3) كقول الصبي: "أبَهْ أمَّهْ"، يعني: كما يَلْهَج الصبي بذكر أبيه وأمه، فكذلك أنتم، فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك. وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس. وروى ابنُ جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس -نحوه.
وقال سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس [قال] (4) : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم (5) فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحَمَالات [ويحمل الديات] (6) . ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم. فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: { فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا }
قال ابن أبي حاتم: ورُوي عن أنس بن مالك، وأبي وائل، وعطاء بن أبي رباح في أحد قوليه، وسعيد بن جُبَير، وعكرمة في إحدى رواياته، ومجاهد، والسدي، وعطاء الخراساني، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب، ومقاتل بن حيان، نحو ذلك. وهكذا حكاه ابن جرير أيضًا عن جماعة، والله أعلم.
والمقصود منه الحث على كثرة الذكر لله عز وجل؛ ولهذا كان انتصاب قوله: { أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } على التمييز، تقديره كذكركم آباءكم أو أشد منه ذكرًا. و"أو" هاهنا لتحقيق المماثلة في الخبر، كقوله: { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة: 74]، وقوله: { يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [النساء: 77]،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6306).
(2) صحيح البخاري برقم (7378) وصحيح مسلم برقم (2705).
(3) في جـ: "وهو".
(4) زيادة من جـ، ط.
(5) في أ: "في المواسم".
(6) زيادة من أ، و.

{ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات: 147]، { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [النجم: 9]. فليست هاهنا للشك قطعًا، وإنما هي لتحقيق الخبر عنه بأنه كذلك أو أزْيَد منه. ثم إنه تعالى أرشد إلى دُعَائه بعد كثرة ذكره، فإنه مظنة الإجابة، وذَمَّ من لا يسأله إلا في أمر دنياه، وهو معرض عن أخراه، فقال: { فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } أي: مِنْ نَصِيب ولا حظ. وتضمَّن هذا الذمّ التنفير عن التشبه (1) بمن هو كذلك. قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف، فيقولون: اللهم اجعله عام غَيث وعام خصْب وعام ولاد حسن. لا يذكرون (2) من أمر الآخرة شيئًا، فأنزل الله فيهم: { فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } (3) وكان يجيء بعدهم آخرون [من المؤمنين] (4) فيقولون: { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } فأنزل الله: { أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } ولهذا مدح من يسأله للدنيا والأخرى، فقال: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } فجمعت هذه الدعوةُ كلَّ خير في الدنيا، وصرَفت كلّ شر فإن الحسنة في الدنيا تشملُ كلّ مطلوب دنيوي، من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عباراتُ المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا. وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن (5) من الفزع الأكبر في العَرَصات، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام (6) .
وقال القاسم بن (7) عبد الرحمن: من أعطي قلبا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وجسدًا صابرًا، فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار.
ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء. فقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللَّهم ربَّنا، آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" (8) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس (9) قال: كان أكثر دعوة يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول] (10) : "اللهم ربَّنا، آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار" (11) .
__________
(1) في أ: "عن التشبيه".
(2) في جـ: "لا يذرون".
(3) في و: "فمن الناس من" وهو الصواب.
(4) زيادة من أ، و.
(5) في جـ: "وتوابع ذلك الأمن".
(6) في جـ: "في الحرام"، وفي أ: "واجتناب الحرام".
(7) في أ، و: "قال القاسم أبو".
(8) صحيح البخاري برقم (4522).
(9) في و: "حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال: سأل قتادة أنسا: أي دعوة كان أكثر يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم؟ ".
(10) زيادة من و.
(11) المسند (3/101).

[وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه] (1) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد السلام بن شداد -يعني أبا طالوت -قال: كنت عند أنس بن مالك، فقال له ثابت: إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم. فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. وتحدثوا ساعة حتى إذا أرادوا القيام، قال (2) : يا أبا حمزة، إن إخوانك يريدون القيام فادع لهم فقال: تريدون أن أشَققَ لكم الأمور، إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقاكم عذاب النار فقد آتاكم الخير كله.
وقال أحمد أيضًا: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن حميد، [وعبد الله بن بكر السهمي، حدثنا حميد] (3) عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رَجُلا من المسلمين قد صار مثل الفَرْخ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدعو (4) الله بشيء أو تسأله إيَّاه؟ " قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله! لا تطيقه -أو لا تستطيعه -فهلا قلت: { رَبَّنَا (5) آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } ". قال: فدعا الله، فشفاه.
انفرد بإخراجه مسلم، فرواه من حديث ابن أبي عدي -به (6) .
وقال الإمام الشافعي: أخبرنا سعيد بن سالم القداح، عن ابن جريج، عن يحيى بن عبيد -مولى السائب -عن أبيه، عن عبد الله بن السائب: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين الركن اليماني والركن الأسود: { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (7) . ورواه الثوري عن ابن جريج كذلك.
وروى ابن ماجة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو ذلك. وفي سنده ضعف (8) والله أعلم.
وقال ابن مَرْدويه: حدثنا عبد الباقي، أخبرنا أحمد بن القاسم بن مساور، حدثنا سعيد بن سليمان، عن إبراهيم بن سليمان، عن عبد الله بن هرمز، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مررت على الركن إلا رأيت عليه ملكًا يقول: آمين. فإذا مررتم عليه فقولوا: { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
__________
(1) زيادة من أ، و.
(2) في أ: "قالوا".
(3) زيادة من مسند الإمام أحمد (3/107).
(4) في جـ، ط: "هل كنت تدعو".
(5) في جـ، ط: "اللهم" وهو خطأ.
(6) المسند (3/107).
(7) ورواه البغوي في شرح السنة (7/128) من طريق الشافعي به، ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1001) "موارد" من طريق يحيى القطان عن ابن جريج به نحوه.
(8) سنن ابن ماجة برقم (2957).

وقال الحاكم في مستدركه: أخبرنا أبو زكريا العنبري، حدثنا محمد بن عبد السلام، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا جرير، عن الأعمش، عن مُسْلم البطين، عن سعيد بن جبير قال: جاء رَجُل إلى ابن عباس فقال: إني أجرت نفسي من قوم على أن يحملوني، ووضعت لهم من أجرتي على أن يَدعُوني أحج معهم، أفيجزي ذلك؟ فقال: أنت من الذين قال الله [فيهم] (1) : { أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } ثم قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه (2) .
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) المستدرك (2/277).

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

{ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) }
قال ابن عباس: "الأيام المعدودات" أيام التشريق، و"الأيام المعلومات" أيام العَشْر. وقال عكرمة: { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } يعني: التكبير أيامَ التشريق بعد الصلوات المكتوبات: الله أكبر، الله أكبر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا موسى بن علي، عن أبيه، قال: سمعت عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوم عَرَفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدُنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب" (1) .
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا هُشَيم، أخبرنا خالد، عن أبي المليح، عن نُبَيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أيامُ أكل وشرب وذكر الله". رواه (2) مسلم أيضًا (3) وتقدم حديث جبير بن مطعم: "عَرَفَة كلها موقف، وأيام التشريق كلها ذبح". وتقدم [أيضًا] (4) حديث عبد الرحمن بن يَعْمَر الدِّيلي (5) "وأيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه".
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم وخلاد بن أسلم، قالا حدثنا هُشَيم، عن عَمْرو بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيام التشريق أيام طُعْم وذكر (6) " (7) .
وحدثنا خلاد بن أسلم، حدثنا رَوْح، حدثنا صالح، حدثني ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حُذافة يطوف في منى: "لا تصوموا هذه الأيام، فإنها أيام أكل وشرب، وذكر الله، عز وجل" (8) .
__________
(1) المسند (4/153).
(2) في جـ، ط: "ورواه".
(3) المسند (5/75) وصحيح مسلم برقم (1141).
(4) زيادة من و.
(5) في أ: "معمر الديلمي".
(6) في جـ، ط، أ، و: "وذكر الله".
(7) تفسير الطبري (4/211).
(8) تفسير الطبري (4/211).

وحدثنا يعقوب، حدثنا هُشَيم، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة، فنادى في أيام التشريق فقال: "إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله، إلا من كان عليه صَوْم من هَدْي".
زيادة حسنة ولكن مرسلة. وبه قال هُشَيم، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عمرو بن دينار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بشْرَ بن سحيم، فنادى في أيام التشريق فقال: "إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله".
وقال هُشَيم، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عائشة قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق، قال: "هي أيام أكل وشرب وذكر الله".
وقال محمد بن إسحاق، عن حكيم بن حكيم، عن مسعود بن الحاكم الزُّرَقي، عن أمه قالت: لكأني (1) أنظر إلى عليّ على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، حتى وقف (2) على شعب الأنصار وهو يقول: "يا أيها الناس، إنها ليست بأيام صيام، إنما هي أيام أكل وشرب وذكر" (3) .
وقال مِقْسَم عن ابن عباس: الأيام المعدودات: أيام التشريق، أربعة أيام: يوم النحر، وثلاثة [أيام] (4) بعده ، ورُوي عن ابن عمر، وابن الزبير، وأبي موسى، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد ابن جُبَير، وأبي مالك، وإبراهيم النخَعي، [ويحيى بن أبي كثير] (5) والحسن، وقتادة، والسدي، والزهري، والربيع بن أنس، والضحاك، ومقاتل بن حيّان، وعطاء الخراساني، ومالك بن أنس، وغيرهم -مثل ذلك.
وقال علي بن أبي طالب (6) :هي ثلاثة، يوم النحر ويومان بعده، اذبح في أيِّهنّ شئت، وأفضلها أولها.
والقول الأول هو المشهور وعليه دل ظاهر الآية الكريمة، حيث قال: { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } فدل على ثلاثة بعد النحر.
ويتعلق بقوله: { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } ذكْرُ الله على الأضاحي، وقد تقدم، وأن الراجح في ذلك مذهب الشافعي، رحمه الله، وهو أن وقت الأضحية من يوم النحر إلى آخر أيام التشريق. ويتعلق به أيضًا الذكر المؤقت خلف الصلوات، والمطلق في سائر الأحوال. وفي وقته أقوال (7) للعلماء، وأشهرها الذي عليه العمل أنَّه من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وهو آخر النَّفْر الآخِر. وقد جاء فيه حديث رواه الدارقطني، ولكن لا يصح مرفوعا (8) والله أعلم. وقد ثبت أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان يكبر في قبته، فيكبر أهل السوق
__________
(1) في أ: "وكأني".
(2) في أ: "حتى وقفت".
(3) رواه الطبري في تفسيره (4/213) من طريق ابن علية عن ابن إسحاق به.
(4) زيادة من أ، و.
(5) زيادة من أ، و.
(6) في أ: "وقال علي بن أبي طلحة رضي الله عنه".
(7) في جـ: "وفيه أقوال".
(8) سنن الدارقطني (2/49، 50) من طرق عن جابر رضي الله عنه.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

بتكبيره، حتى ترتج منى تكبيرًا.
ويتعلق بذلك أيضًا التكبيرُ وذكر الله عند رمي الجمرات كلّ يوم من أيام التشريق. وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: "إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله عز وجل" (1) .
ولما ذكر الله تعالى النَّفْر الأول والثاني، وهو تفرق الناس من موسم الحج إلى سائر الأقاليم والآفاق بعد اجتماعهم في المشاعر والمواقف، قال: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [أي: تجتمعون يوم القيامة] (2) ، كما قال: { وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [المؤمنون: 79].
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) }
قال السدي: نزلت في الأخنس بن شَرِيق الثقفي، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك. وعن ابن عباس: أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خُبَيب وأصحابه الذين قتلوا بالرّجيع وعابُوهم، فأنزل الله في ذم المنافقين ومدح خُبَيب وأصحابه: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ }
وقيل: بل ذلك عام في المنافقين كلهم وفي المؤمنين كلهم. وهذا قول قتادة، ومجاهد، والرّبيع ابن أنس، وغير واحد، وهو الصحيح.
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن القرظي، عن نَوْف -وهو البكالي، وكان ممن يقرأ الكتب -قال: إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل: قَوم يحتالون على الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمَرّ من الصّبرِ، يلبسون للناس (3) مُسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب. يقول الله تعالى : فعليّ يجترئون! وبي يغتَرون! حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها (4) حيران. قال القرظي: تدبرتها في القرآن، فإذا هم المنافقون، فوجدتها: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } الآية.
وحدثني محمد بن أبي معشر، أخبرني أبي أبو معشر نَجِيح قال: سمعت سعيدًا المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي، فقال سعيد: إن في بعض الكتب: إنّ [لله] (5) عبادًا ألسنتهم أحلى من
__________
(1) سنن أبي داود برقم (1888).
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ، ط، أ، و: "يلبسون لباس".
(4) في أ: "فيهم".
(5) زيادة من جـ، ط، أ، و.

العسل، وقلوبهم أمَرّ من الصّبر، لبسوا للناس مُسُوك الضأن من اللين، يَجْترّون الدنيا بالدين. قال الله تعالى: عليّ (1) تجترئون! وبي تغترون!. وعزتي لأبعثنّ عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران. فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله. فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله؟ قال: قول الله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } الآية. فقال سعيد: قد عرفتُ فيمن أنزلت هذه الآية. فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل في الرجل، ثم تكون عامة بعد. وهذا الذي قاله القرظي حسن صحيح.
وأما قوله: { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } فقرأه ابن محيصن: "ويَشْهَدُ اللهُ" بفتح الياء، وضم الجلالة { عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } ومعناها: أن هذا وإن أظهر لكم الحيل (2) لكن الله يعلم من قلبه القبيح، كقوله تعالى: { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [المنافقون: 1] .
وقراءة الجمهور بضم الياء، ونصب الجلالة { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } ومعناه: أنه يُظْهرُ للناس الإسلام ويبارزُ الله بما في قلبه من الكفر والنفاق، كقوله تعالى: { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ } الآية [النساء: 108] هذا معنى ما رواه ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن (3) عكرمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وقيل: معناه أنه إذا أظهر للناس الإسلام حَلَف وأشهد الله لهم: أن الذي في قلبه موافق للسانه. وهذا المعنى صحيح، وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير، وعزاه إلى ابن عباس، وحكاه عن مجاهد، والله أعلم.
وقوله: { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } الألد في اللغة: [هو] (4) الأعوج، { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } [مريم:97] أي: عُوجًا. وهكذا المنافق في حال خصومته، يكذب، ويَزْوَرّ عن الحق ولا يستقيم معه، بل يفتري ويفجر، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
وقال البخاري: حدثنا قَبيصةُ، حدثنا سفيان، عن ابن جُرَيج، عن ابن أبي مُلَيْكة، عن عائشة تَرْفَعُه قال: "أبغض الرجال إلى الله الألَدُّ الخَصم" (5) .
قال: وقال عبد الله بن يزيد: حدثنا سفيان، حدثني ابن جريج، عن ابن أبي مُلَيكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" (6) .
وهكذا رواه عبد الرزاق، عن مَعْمَر في قوله: { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" (7) .
__________
(1) في أ: "أعلي".
(2) في جـ، و: "الجميل".
(3) في جـ، ط: "أو".
(4) زيادة من جـ، ط.
(5) صحيح البخاري برقم (4523).
(6) صحيح البخاري برقم (4523).
(7) تفسير عبد الرزاق (1/97).

وقوله: { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ } أي: هو أعوج المقال، سيّئ الفعَال، فذلك قوله، وهذا فعله: كلامه كَذِب، واعتقاده فاسد، وأفعاله قبيحة.
والسعي هاهنا هو: القَصْد. كما قال إخبارًا عن فرعون: { ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى* فَحَشَرَ فَنَادَى* فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى* فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى* إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [النازعات: 22-26]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [الجمعة: 9] أي: اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة، فإن السعي الحسي إلى الصلاة منهيّ عنه بالسنة النبوية: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تَسْعَوْن، وأتوها وعليكم السكينةُ والوقار".
فهذا المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض، وإهلاك الحرث، وهو: مَحل نماء الزروع والثمار والنسل، وهو: نتاج الحيوانات الذين لا قوَام للناس إلا بهما.
وقال مجاهد: إذا سُعى في الأرض فسادًا، منع الله القَطْرَ، فهلك الحرث والنسل. { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ } أي: لا يحب من هذه صفَته، ولا من يصدر منه ذلك.
وقوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ } أي: إذا وُعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله، وقيل له: اتق الله، وانزع عن قولك وفعلك، وارجع إلى الحق -امتنع وأبى، وأخذته الحميَّة والغضب بالإثم، أي: بسبب ما اشتمل عليه من الآثام، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [الحج: 72]، ولهذا قال في هذه الآية: { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } أي: هي كافيته عقوبة في ذلك.
وقوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة، ذَكَر صفات المؤمنين الحميدة، فقال: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ }
قال ابن عباس، وأنس، وسعيد بن المسيب، وأبو عثمان النّهدي، وعكرمة، وجماعة: نزلت في صُهيب بن سنَان الرومي، وذلك أنَّه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة، منعه الناس أن يهاجر بماله، وإنْ أحب أن يتجرّد منه ويهاجر، فَعَل. فتخلص منهم وأعطاهم ماله، فأنزل الله فيه هذه الآية، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرّة. فقالوا (1) : رَبح البيع. فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أنّ الله أنزل فيه هذه الآية. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "ربِح البيع صهيب، ربح البيع صهيب".
قال ابن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن عبد الله بن رُسْتَة، حدثنا سليمان ابن داود، حدثنا جعفر بن سليمان الضَبَعي، حدثنا عوف، عن أبي عثمان النهدي، عن صهيب قال: لما أردتُ الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش: يا صهيبُ، قَدمتَ إلينا ولا مَالَ لك،
__________
(1) في جـ، و: "فقالوا له".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

وتخرج أنت ومالك! والله لا يكون ذلك أبدًا. فقلت لهم: أرأيتم إن دَفَعْتُ إليكم مالي تُخَلُّون عني؟ قالوا: نعم. فدفعتُ إليهم مالي، فخلَّوا عني، فخرجت حتى قدمتُ المدينة. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "رَبح صهيبُ، ربح صهيب" مرتين (1) .
وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: أقبل صهيب مهاجرًا نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نَفَر من قريش، فنزل عَنْ راحلته، وانتثل ما في كنانته. ثم قال (2) يا معشر قريش، قد علمتم أنّي من أرماكم رجلا وأنتم والله لا تصلون إلي حتى أرمي كُلّ سهم في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شَيْء، ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي وقُنْيتي بمكة وخلَّيتم سبيلي؟ قالوا: نعم. فلما قَدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ربح البيع، ربح البيع". قال: ونزلت: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
وأما الأكثرون فحمَلوا ذلك على أنها نزلت في كل مُجَاهد في سبيل الله، كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 111] . ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين، أنكر عليه بعضُ الناس، فردّ عليهم عُمَر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما، وتلوا هذه الآية: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) }
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين به المصدّقين برسوله: أنْ يأخذوا بجميع عُرَى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك.
قال العوفي، عن ابن عباس، ومجاهد، وطاوس، والضحاك، وعكرمة، وقتادة، والسُّدّي، وابن زيد، في قوله: { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ } يعني: الإسلام.
وقال الضحاك، عن ابن عباس، وأبو العالية، والربيعُ بن أنس: { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ } يعني: الطاعة. وقال قتادة أيضًا: الموادعة.
وقوله: { كَافَّةً } قال ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، والربيع، والسّدي، ومقاتل بن حَيَّان، وقتادة والضحاك: جميعًا، وقال مجاهد: أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر.
وزعم عكرمة أنها نزلت في نفر ممن أسلم من اليهود وغيرهم، كعبد الله بن سلام، وثعلبة وأسَد
__________
(1) ورواه ابن سعد في الطبقات (2/227) عن هوذة، عن عوف، عن أبي عثمان قال: بلغني أن صهيبا، فذكر نحوه، ورواه ابن سعد في الطبقات (2/228) وأبو نعيم في الحلية (1/151) من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب، فذكر نحو القصة.
(2) في جـ: "وقال"، وفي أ، و: "كما قال".

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

بن عُبَيد وطائفة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يُسْبتوا، وأن يقوموا بالتوراة ليلا. فأمرهم الله بإقامة شعائر الإسلام والاشتغال بها عما عداها. وفي ذكر عبد الله بن سلام مع هؤلاء نظر، إذْ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت، وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه وبطلانه، والتعويض عنه بأعياد الإسلام.
ومن المفسرين من يجعل قوله: { كَافَّةً } حالا من الداخلين، أي: ادخلوا في الإسلام كلكم. والصحيح الأول، وهو أنَّهم أمروا [كلهم] (1) أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام، وهي كثيرة جدًا ما استطاعوا منها. وقال (2) ابن أبي حاتم: أخبرنا علي بن الحسين، أخبرنا أحمد بن الصباح، أخبرني الهيثم بن يمان، حدثنا إسماعيل بن زكريا، حدثني محمد بن عون، عن عكرمة، عن ابن عباس: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } -كذا قرأها بالنصب -يعني مؤمني أهل الكتاب، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمْر التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم، فقال الله: { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } يقول: ادخلوا في شرائع دين محمد صلى الله عليه وسلم ولا تَدَعَوا منها شيئًا وحسبكم بالإيمان بالتوراة وما فيها.
وقوله: { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي: اعملوا الطاعات (3) ، واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان فـ { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 169]، و { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [فاطر: 6]؛ ولهذا قال: { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } قال مُطَرِّف: أغش عباد الله لعَبِيد الله الشيطان.
وقوله: { فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ } أي: عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم الحُجَجُ، فاعلموا أن الله عزيز [أي] (4) في انتقامه، لا يفوته هارب، ولا يَغلبه غالب. حكيم في أحكامه ونقضه وإبرامه؛ ولهذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس: عزيز في نقمته، حكيم في أمره. وقال محمد بن إسحاق: العزيز في نصره ممن كفر به إذا شاء، الحكيم في عذره وحجته إلى عباده.
{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (210) }
يقول تعالى مُهَدّدًا للكافرين بمحمد صلوات الله وسلامه عليه: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ } يعني: يوم القيامة، لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزي كُلّ عامل بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، ولهذا قال: { وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } كما قال: { كَلا إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا* وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا* وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } [الفجر: 21 -23]، وقال: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } الآية [الأنعام: 158].
__________
(1) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(2) في جـ، ط: "كما قال".
(3) في أ: "اعملوا بالطاعات".
(4) زيادة من جـ، ط، أ، و.

وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير هاهنا حديث الصور بطوله من أوله، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم، وفيه: "أنّ الناس إذا اهتموا لموقفهم (1) في العرصات تشفعوا إلى ربهم بالأنبياء واحدًا واحدًا، من آدم فمن بعده، فكلهم يحيد عنها حتى ينتهوا إلى محمد، صلوات الله وسلامه عليه، فإذا جاؤوا إليه قال: أنا لها، أنا لها. فيذهب فيسجد لله تحت العرش، ويشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء بين العباد، فيُشفّعه الله، ويأتي في ظُلَل من الغمام بعد ما تنشق (2) السماء الدنيا، وينزل من فيها من الملائكة، ثم الثانية، ثم الثالثة إلى السابعة، وينزل (3) حملة العرش والكَرُوبيّون (4) ، قال: وينزل الجبار، عز وجل، في ظُلَل من الغمام والملائكةُ، ولهم زَجَل مِنْ تسبيحهم يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان رب العرش ذي الجبروت (5) سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سُبّوح قدوس، رب الملائكة والروح، قدوس قدوس، سبحان ربنا الأعلى، سبحان ذي السلطان والعظمة، سبحانه أبدًا أبدًا" (6) .
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه هاهنا أحاديث فيها غرابة والله أعلم؛ فمنها ما رواه من حديث المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن مسروق، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم، قيامًا شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فَصْل القضاء، وينزل الله في ظُلَل من الغمام من العرش إلى الكرسي" (7) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا أبو بكر بن عطاء بن مقدم، حدثنا معتمر بن سليمان، سمعت عبد الجليل القَيْسي، يحدّث عن عبد الله بن عمرو: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } الآية، قال: يهبط حين يهبط، وبينه وبين خَلْقه سبعون ألف حِجَاب، منها: النور، والظلمة، والماء. فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتًا تنخلع له القلوب.
قال: وحدثنا أبي: حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي، حدثنا الوليد قال: سألت زهير بن محمد، عن قول الله: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } قال: ظلل من الغمام، منظوم من الياقوت (8) مكلَّل بالجوهر والزبَرْجَد.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد { فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } قال: هو غير السحاب، ولم يكن قَطّ إلا لبني إسرائيل في تيههم حين تاهوا.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ }
__________
(1) في ط: "لمواقفهم".
(2) في جـ: "بعد ما تشقق".
(3) في طـ: "وتنزل".
(4) في أ: "الكرسيون".
(5) في جـ: "والجبروت".
(6) تفسير الطبري (4/266) وسيأتي الحديث بطوله عند تفسير الآية: 73 من سورة الأنعام.
(7) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (9/416 ، 417) من طريقين عن المنهال بن عمرو به مطولا، وقال الذهبي: "إسناده حسن".
(8) في أ، و: "منظوم بالياقوت".

[قال] (1) : يقول: والملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والله تعالى يجيء فيما يشاء -وهي في بعض القراءة: "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظُلَل من الغمام" وهي كقوله: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا } [الفرقان: 25] .
__________
(1) زيادة من جـ، ط.

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) }
يقول تعالى مُخْبرًا عن بني إسرائيل: كم قد شاهدوا مع موسى { مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } أي: حجة قاطعة على صدقه فيما جاءهم به، كَيَدهِ وعصاه وفَلْقه البحر وضَرْبه الحجر، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر، ومن إنزال المَنّ والسلوى وغير ذلك من الآيات الدالات على وجود الفاعل المختار، وصدق من جرت هذه الخوارق على يَدَيه، ومع هذا أعرض كثير منهم عنها، وبَدلوا نعمة الله [كفرًا] (1) أي: استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها، والإعراض عنها. { وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } كما قال إخبارًا عن كفار قريش: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [إبراهيم: 28، 29].
ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين رُضُوا بها واطمأنّوا إليها، وجمعوا الأموال ومنعوها عَنْ مصارفها التي أمروا بها مما يُرْضِي الله عنهم، وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها، وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم، وبذلوا ابتغاء وجه الله؛ فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم، فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومَنْشَرهم، ومسيرهم ومأواهم، فاستقروا في الدرجات في أعلى علّيين، وخلد أولئك في الدركات في أسفل السافلين؛ ولهذا قال تعالى: { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي: يرزق من يشاء من خَلْقه، ويعطيه عطاء كثيرًا جزيلا بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة (2) كما جاء في الحديث: "ابن آدم، أَنْفقْ أُنْفقْ عليك"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا" (3) . وقال تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } [سبأ: 39]، وفي (4) الصحيح أن مَلَكين ينزلان من السماء صَبيحة كل يوم، يقول (5) أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا. ويقول الآخر: اللهم أعط مُمْسكا تلفًا. وفي الصحيح (6) "يقول
__________
(1) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(2) في طـ: "في الدنيا ولا في الآخرة".
(3) رواه الطبراني في المعجم الكبير (10/192) من طريق يحيى بن وثاب، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا، وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (2/51).
(4) في جـ، أ، و: "وهو في".
(5) في جـ، ط: "فيقول".
(6) في أ: "وفي الصحيحين".

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

ابن آدم: مالي، مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، وما لَبسْتَ فأبليتَ، وما تصدقت فأمضيت (1) ؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس".
وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يَجمَعُ من لا عقل له" (2) .
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) }
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو داود، أخبرنا هَمَّام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان بين نوح وآدم (3) عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق. فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا".
ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث بُنْدَار عن محمد بن بشار. ثم قال: صحيح ولم يخرجاه (4) .
وكذا روى أبو جعفر الرازي، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: أنه كان يقرؤها: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّيِّنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ".
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } قال: كانوا على الهدى جميعًا، "فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين منذرين" فكان أول نَبي بعث نوحًا. وهكذا قال مجاهد، كما قال ابن عباس أولا.
وقال العوفي، عن ابن عباس: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } يقول: كانوا كفارًا، { فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ }
والقول الأول عن ابن عباس أصح سندًا ومعنى؛ لأن الناس كانوا على ملة آدم، عليه السلام، حتى عبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم نوحًا، عليه السلام، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.
ولهذا قال: { وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ }
__________
(1) في أ: "فأبقيت".
(2) المسند (6/71) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) في ط: "كان بين آدم ونوح".
(4) تفسير الطبري (4/275) والمستدرك (2/546).

أي: من بعد ما قامت عليهم الحجج وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض، { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
وقال عبد الرزاق: حدثنا مَعْمَر، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في قوله: { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون الأولون (1) يوم القيامة، نحن أوّلُ الناس دخولا الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا له (2) فالناس لنا فيه تبع، فغدًا لليهود، وبعد غد للنصارى".
ثم رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة (3) .
وقال ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه في قوله: { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } فاختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد. فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة. واختلفوا في القبلة؛ فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، فهدى الله أمة محمد للقبلة. واختلفوا في الصلاة؛ فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في إبراهيم، عليه السلام، فقالت اليهود: كان يهوديًا، وقالت النصارى: كان نصرانيًا، وجعله الله حنيفًا مسلمًا، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في عيسى، عليه السلام، فكذّبت به اليهود، وقالوا لأمه بهتانًا عظيمًا، وجعلته النصارى إلهًا وولدًا، وجعله الله روحه، وكلمته، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك.
وقال الربيع بن أنس في قوله: { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } أي: عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف، أقاموا على الإخلاص لله عز وجل وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف، وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهودًا (4) على قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وآل فرعون، أنّ رسلهم قد بلغوهم، وأنهم قد كذبوا رسلهم.
وفي (5) قراءة أبي بن كعب: "وَلِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"، وكان أبو العالية يقول: في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.
وقوله: { بِإِذْنِهِ } أي: بعلمه، بما هداهم له. قاله ابن جرير: { وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } أي: منْ
__________
(1) في أ: "السابقون".
(2) في أ: "فهدانا الله له".
(3) تفسير عبد الرزاق (1/99) والحديث مخرج في الصحيحين.
(4) في أ: "شهدوا".
(5) في أ، و: "وهي في".

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

خلقه { إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي: وله الحكم (1) والحجة البالغة. وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم، رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم (2) بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" (3) . وفي الدعاء المأثور: اللهم، أرنا الحق حَقّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا ووفّقنا لاجتنابه، ولا تَجْعَلْه ملتبسًا علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إمامًا.
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) }
يقول تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ } قبل أن تُبتَلُوا وتختبروا وتمتحنوا، كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم؛ ولهذا قال: { وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ } وهي: الأمراض؛ والأسقام، والآلام، والمصائب والنوائب.
قال ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومُرّة الهَمْداني، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، والسّدي، ومقاتل بن حَيّان: { الْبَأْسَاءُ } الفقر. قال ابن عباس: { وَالضَّرَّاءُ } السّقم.
{ وَزُلْزِلُوا } خَوْفًا من الأعداء زلْزالا شديدًا، وامتحنوا امتحانًا عظيمًا، كما جاء في الحديث الصحيح عن خَبَّاب بن الأرَتّ قال: قلنا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فقال: "إنّ من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفْرَق رأسه فيخلص إلى قدميه، لا يَصْرفه (4) ذلك عن دينه، ويُمْشَطُ بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه". ثم قال: "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون".
وقال الله تعالى: { الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت: 1 -3] .
وقد حصل من هذا (5) جانب عظيم للصحابة، رضي الله عنهم، في يوم الأحزاب، كما قال الله تعالى: { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا* وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا }
__________
(1) في و: "وله الحكمة".
(2) في أ: "أنت الحكيم".
(3) صحيح مسلم برقم (770).
(4) في ط: "لا يفتنه".
(5) في أ: "من ذلك".

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

الآيات [الأحزاب: 10 -12].
ولما سأل هرقلُ أبا سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف كان (1) الحرب بينكم؟ قال: سِجَالا يدال علينا ونُدَال عليه. قال: كذلك الرسل تُبْتَلى، ثم تكون لها العاقبة (2) (3) .
وقوله: { مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } أي: سنتهم. كما قال تعالى: { فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ } [الزخرف: 8] .
وقوله: { وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } أي: يستفتحون على أعدائهم، ويَدْعون بقُرْب الفرج والمخرج، عند ضيق الحال والشدة. قال الله تعالى: { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } كما قال: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [ الشرح: 5، 6].
وكما تكون الشدة ينزل من النصر (4) مثلُها؛ ولهذا قال تعالى: { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } وفي حديث أبي رَزين: "عَجب ربّك (5) من قُنُوط عباده، وقُرْب غيثه (6) فينظر إليهم قَنطين، فيظل يضحك، يعلم أنّ فرجهم (7) قريب" الحديث (8) .
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) }
قال مُقَاتل بن حَيّان: هذه الآية في نفقة التطوّع. وقال السدي: نَسَختها الزكاة. وفيه نظر. ومعنى الآية: يسألونك كيف ينفقون؟ قاله ابن عباس ومجاهد، فبين لهم تعالى ذلك، فقال: { قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } أي: اصرفُوها في هذه الوجوه. كما جاء في الحديث: "أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك". وتلا ميمون بن مِهْرَان هذه الآية، ثم قال: هذه مواضع النفقة ما ذكر فيها طبلا ولا مزمارًا، ولا تصاوير الخشب، ولا كُسوة الحيطان.
ثم قال تعالى: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } أي: مهما صَدَرَ منكم من فعل معروف، فإن الله يعلَمُه، وسيجزيكم على ذلك أوفرَ الجزاء؛ فإنه لا يظلم أحدًا مثقالَ ذَرّة.
__________
(1) في أ، و: "فكيف كانت".
(2) في أ: "الرجل يبتلى ثم تكون له العاقبة".
(3) حديث هرقل رواه البخاري في صحيحه برقم (7).
(4) في أ، و: "الصبر".
(5) في أ: "عجب ربكم".
(6) في أ: "وقرب خيره".
(7) في أ: "أن فرجكم".
(8) رواه ابن ماجة في السنن برقم (181) من طريق يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عدس، عن أبي رزين به، وقال البوصيري في الزوائد (1/85): "هذا إسناد فيه مقال".

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) }
هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين: أن يكُفُّوا شرّ الأعداء عن حَوْزة الإسلام.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

وقال الزهري: الجهادُ واجب على كلّ أحد، غزا أو قعد؛ فالقاعد عليه إذَا استعين أن يَعينَ، وإذا استُغيثَ أن يُغيثَ، وإذا استُنْفرَ أن ينفر، وإن لم يُحتَجْ إليه قعد.
قلت: ولهذا ثَبَت في الصحيح (1) "من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بغزو مات ميتة جاهلية" (2) . وقال عليه السلام يوم الفتح: "لا هجرة، ولكن جهاد ونيَّة، إذا استنفرتم فانفروا" (3) .
وقوله: { وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } أي: شديد عليكم ومشقة. وهو كذلك، فإنه إما أن يُقْتَلَ أو يجرحَ مع (4) مشقة السفر ومجالدَة الأعداء.
ثم قال تعالى: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } أي: لأنّ القتالَ يعقبه النصر والظفر على الأعداء، والاستيلاء على بلادهم، وأموالهم، وذرَاريهم، وأولادهم.
{ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } وهذا عام في الأمور كلّها، قد يُحِبّ المرءُ شيئًا، وليس له فيه خيرة ولا مصلحة. ومن ذلك القُعُود عن القتال، قد يَعْقُبُه استيلاء العدو على البلاد والحكم.
ثم قال تعالى: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي: هو أعلم بعواقب الأمور منكم، وأخبَرُ بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم؛ فاستجيبوا له، وانقادوا لأمره، لعلكم ترشدون.
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) }
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، حدثني الحَضْرَمي، عن أبي السَّوار، عن جُنْدَب بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَهْطًا، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجَرّاح [أو عبيدة بن الحارث] (5) فلما ذهب ينطلق، بَكَى صَبَابة (6) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَجَلَس، فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش، وكتب له كتابًا، وأمره ألا يقرأ
__________
(1) في أ: "في الصحيحين".
(2) صحيح مسلم برقم (1910) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (1834، 2783 ، 2825) ومسلم في صحيحه برقم (1353) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) في أ: "على".
(5) زيادة من طـ، أ، و.
(6) في جـ: "بكى صبيانه".

الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا، وقال: لا تُكْرِهَنّ أحدًا على السير معك من أصحابك. فلما قرأ الكتابَ استرجع، وقال: سمعًا وطاعة لله ولرسوله. فخبَّرهم الخبر، وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان، وبقي بقيَّتُهم، فلقوا ابن الحَضْرَمي فقتلوه، ولم يَدْرُوا أن ذلك اليوم من رجب أو من جُمَادى. فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام! فأنزل الله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } الآية.
وقال السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرّة، عن ابن مسعود: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سَرِيَّة، وكانوا سَبْعَة نفر، عليهم عبد الله بن جَحْش الأسدي، وفيهم عَمَّار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عُتْبَة بن ربيعة، وسعد بن أبي وَقَّاص، وعتبة بن غَزْوان السُّلمي -حليف لبني نَوْفل -وسُهَيل بن بيضاء، وعامر بن فُهيرة، وواقد بن عبد الله اليَرْبوعي، حليف لعمر بن الخطاب. وكتب لابن جحش كتابًا، وأمره ألا يقرأه حتى ينزل بطن مَلَل (1) فلما نزل بطن مَلَل (2) فتح الكتاب، فإذا فيه: أنْ سِرْ حتى تنزل بطن نخلة. فقال لأصحابه: مَنْ كان يريد الموت فَلْيمض ولْيوص، فإنني مُوص وماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسار، فتخلف عنه سعد بن أبي وقَّاص، وعتبة، وأضلا راحلة لهما فَأتيا بُحْران (3) يطلبانها، وسار ابنُ جحش إلى بطن نخلة، فإذا هو بالحكم بن كيسان، والمغيرة بن عثمان، وعمرو بن الحضرمي، وعبد الله بن المغيرة. وانفلت [ابن] (4) المغيرة، [فأسروا الحكم بن كيسان والمغيرة] (5) وقُتِل عَمْرو، قتله واقد بن عبد الله. فكانت أوّل غنيمة غنمها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين (6) وما أصابوا المال، أراد أهل مكة أن يفادوا الأسيرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى ننظر ما فعل صاحبانا" فلما رجع سعد وصاحبه، فادى بالأسيرين، ففجر عليه المشركون وقالوا: إن محمدًا يزعم أنه يتبع طاعة الله، وهو أول من استحل الشهر الحرام، وقتل صاحبنا في رجب. فقال المسلمون: إنما قتلناه في جمادى -وقيل: في أول رجب، وآخر ليلة من جمادى -وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب. فأنزل الله يُعَيِّر أهل مكة: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } لا يحل، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام، حين كفرتم بالله، وصدَدْتم عنه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابَه، وإخراجُ أهل المسجد الحرام منه، حين أخرجوا محمدًا صلى الله عليه وسلم أكبر من القتل عند الله.
وقال العوفي، عن ابن عباس: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وذلك أنّ المشركين صَدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَرَدوه عن المسجد [الحرام] (7) في شهر حرام، ففتح الله على نبيه في شهر حَرَام من العام المقبل. فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتالَ في شهر حرام. فقال الله: { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ } من القتال فيه. وأنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث سرية فلقوا عَمْرو بن الحضرمي، وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى، وأوّل ليلة من
__________
(1) في جـ: "مالك".
(2) في جـ: "مالك".
(3) في أ، و: "يجوبان".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) في جـ، ط، أ، و: "بأسيرين".
(7) زيادة من أ.

رجب. وأنّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب ولم يشعروا، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه. وأنّ المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك. فقال الله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وغير ذلك أكبر منه: صَدّ عن سبيل الله، وكفر به والمسجد الحرام، وإخراجُ أهله منه (1) ، إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصابَ أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم، والشرك أشد منه.
وهكذا روى أبو سَعد (2) البقَّال، عن عكرمة، عن ابن عباس أنها أنزلت (3) في سَريَّة عبد الله بن جحش، وقتْل عمرو بن الحضرمي.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: نزل فيما كان من مصاب عَمْرو بن الحضرمي: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } إلى آخر الآية.
وقال عبد الملك بن هشام راوي السيرة، عن زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني، رحمه الله، في كتاب السيرة له، أنَّه قال: وبعث -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم -عبد الله بن جَحش بن رئاب الأسدي في رجب، مَقْفَله من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابًا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يَسْتكره من أصحابه أحدًا. وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين. ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف: أبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، ومن حلفائهم: عبد الله بن جحش، وهو أمير القوم، وعُكَّاشة بن محْصن بن حُرْثان، أحد بني أسد ابن خزيمة، حليف لهم. ومن بني نَوفل بن عبد مناف: عتبة بن غَزْوَان بن جابر، حليف لهم. ومن بني زُهرة بن كلاب: سعد بن أبي وقاص. ومن بني عدي بن كعب: عامر بن ربيعة، حليف لهم من عَنز بن وائل، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عَرِين بن ثعلبة بن يربوع، أحد بني تميم، حليف لهم. وخالد بن البُكَير أحد بني سعد بن ليث، حليف لهم. ومن بني الحارث بن فِهْر: سُهَيل بن بيضاء.
فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة، بين مكة والطائف، ترصد بها قريشًا، وتعلم لنا من أخبارهم". فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعًا وطاعة. ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة، أرصد بها قريشًا، حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم. فمن كان منكم يريد الشهادةَ ويرغب فيها فَلْيَنطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد.
فسلك على الحجاز، حتى إذا كان بِمَعْدن، فوق الفُرْع، يقال له: بُحْران (4) أضلّ سعد بن
__________
(1) في جـ: "منه أكبر عند الله".
(2) في ط: "أبو سعيد".
(3) في جـ، أ: "أنها نزلت".
(4) في جـ: "نجران".

أبي وقاص وعُتبة بن غزوان بعيرًا لهما، كانا يَعْتقبانه، فتخلفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا وتجارة من تجارة قريش، فيها: عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان، والحكم بن كَيسان، مولى هشام بن المغيرة.
فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنُوا وقالوا: عُمَّار، لا بأس عليكم منهم. وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلةَ ليدخلن الحرم، فليمتنعنّ منكم به، ولئن قتلتموهم لتقْتُلنَّهم في الشهر الحرام. فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قَدروا عليه منهم، وأخْذ ما معهم. فرمى واقدُ بن عبد الله التميمي (1) عمرَو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمانَ بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت القوم نوفلُ بن عبد الله فأعجزهم. وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.
قال ابن إسحاق: وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش: أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس، وذلك قبل أن يَفْرض الله الخمس من المغانم، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه.
قال ابن إسحاق: فلما قدموا على رسول الله قال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام". فوقَّف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنَّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا. وقالت قريش: قد استحلّ محمد وأصحابه الشهرَ الحرام، وسفكوا فيه (2) الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال. فقال من يَرُدّ عليهم من المسلمين ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان.
وقالت: يهودُ تَفَاءلُ بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله: عمرو: عمرت الحرب، والحضرمي: حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله: وقدت الحرب. فجعل الله عليهم ذلك لا لهم.
فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } أي: إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم (3) منهم، { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } أي: قد كانوا يفتنون المسلم في دينه، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه (4) فذلك أكبر عند الله من القتل:
__________
(1) في أ: "السهمي".
(2) في جـ: "فيها".
(3) في جـ: "من قتل".
(4) في أ: "يفتنون المسلمين في دينهم حتى يردوهم إلى الكفر بعد إيمانهم".

{ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا } أي: ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين.
قال ابن إسحاق: فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشَّفَق قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نُفْديكموهما حتى يقدم صاحبانا -يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة ابن غَزْوان -فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. فقدم سعد وعتبة، فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.
فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسُن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدًا. وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة، فمات بها كافرًا.
قال ابن إسحاق: فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طَمعُوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله، أنطمع أن تكون لنا غزوة نُعطَى فيها أجر المجاهدين [المهاجرين] (1) ؟ فأنزل الله عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء.
قال ابن إسحاق: والحديث في هذا عن الزهري، ويزيد بن رُومان، عن عروة.
وقد روى يونس بن بُكَيْر، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قريبًا من هذا السياق. وروى موسى بن عقبة عن الزهري نفسه، نحو ذلك.
وروى شعيب بن أبي حَمزة، عن الزهري، عن عروة بن الزبير نحوا من هذا أيضًا، وفيه: فكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين والمشركين، فركب وفد من كفار قريش حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقالوا: أيحلّ القتالُ في الشهر الحرام؟ فأنزل الله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ [قِتَالٍ فِيهِ] (2) } الآية. وقد استقصى ذلك الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب "دلائل النبوة".
ثم قال ابن هشام عن زياد، عن ابن إسحاق: وقد ذكر عن بعض آل عبد الله [بن جحش] (3) أن الله قسم الفيء حين أحلَّه، فجعل أربعة أخماس لمن أفاءه، وخمسًا إلى الله ورسوله. فوقع على ما كان عبد الله بن جحش صنع في تلك العير (4) .
قال ابن هشام: وهي أول غنيمة غنمها المسلمون. وعمرو بن الحضرمي أول من قتل المسلمون، وعثمان بن عبد الله، والحكم بن كَيْسان أول من أسر المسلمون (5) .
قال ابن إسحاق: فقال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، في غزوة عبد الله بن جحش، ويقال: بل عبد الله بن جحش قالها، حين قالت قريش: قد أحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، فسفكوا فيه
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) زيادة من جـ، ط.
(3) زيادة من أ.
(4) السيرة النبوية لابن هشام (1/605).
(5) السيرة النبوية لابن هشام (1/605).

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)

الدم، وأخذوا فيه المال، وأسروا فيه الرجال. قال ابن هشام: هي لعبد الله بن جحش:
تَعُدّون قَتْلا في الحرام عظيمةً ... وأعظم منه لو يَرى الرشد راشد ...
صدودُكمُ عما يقول محمد ... وكفر به والله راءٍ وشاهدُ ...
وإخراجُكمْ من مسجد الله أهلَه ... لئلا يُرَى لله في البيت ساجدُ ...
فإنَّا وإن عَيَّرْتمونا بقتله ... وأرجف بالإسلام باغٍ وحاسدُ ...
سَقَيَنْا من ابن الحضرميّ رماحَنَا ... بنخلةَ لمَّا أوقَدَ الحربَ واقدُ ...
دما وابنُ عبد الله عثمانُ بيننا ... ينازعه غُلٌّ من القدّ عاندُ ...
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) }

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

{ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) }
قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر أنَّه قال: لما نزل تحريم الخمر قال: اللهم بَيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت هذه الآية التي في البقرة: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ] (1) } فدُعي عمر فقرئتْ عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في النساء: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } [النساء: 43]، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: ألا يقربنّ الصلاة سكرانُ. فدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في المائدة. فدعي عمر، فقرئت عليه، فلما بلغ: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [المائدة: 91]؟ قال عمر: انتهينا، انتهينا (2) .
وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي من طرق، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق (3) . وكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مَرْدويه من طريق الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، واسمه عمرو بن شُرَحْبِيل الهَمْداني الكوفي، عن عمر. وليس له عنه سواه، لكن قال أبو زُرْعَة: لم يسمع منه. والله أعلم. وقال علي بن المديني: هذا إسناد صالح وصحّحه الترمذي. وزاد ابن أبي حاتم -بعد قوله: انتهينا -: إنها تذهب المال وتذهب العقل. وسيأتي هذا الحديث أيضا مع ما رواه أحمد من
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) المسند (1/53).
(3) سنن أبي داود برقم (3670) وسنن الترمذي برقم (3049) وسنن النسائي (8/286).

طريق أبي هريرة أيضًا (1) -عند قوله في سورة المائدة: { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة: 90] الآيات.
فقوله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } أما الخمر فكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إنه كل ما خامر العقل. كما سيأتي بيانُه في سورة المائدة، وكذا الميسر، وهو القمار.
وقوله: { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أما إثمهما فهو في الدين، وأما المنافع فدنيوية، من حيث إن (2) فيها نفع البدن، وتهضيم الطعام، وإخراجَ الفضلات، وتشحيذ بعض الأذهان، ولذّة الشدّة المطربة التي فيها، كما قال حسان بن ثابت في جاهليته:
ونشربها فتتركنا ملوكًا ... وأسْدًا لا يُنَهْنهها اللقاءُ ...
وكذا بيعها والانتفاع بثمنها. وما كان يُقَمِّشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله. ولكن هذه المصالح لا توازي مضرّته ومفسدته الراجحة، لتعلقها بالعقل والدين، ولهذا قال: { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } ؛ ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات، ولم تكن مصرحة بل معرضة؛ ولهذا قال عمر، رضي الله عنه، لما قرئت عليه: اللهم بَين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [المائدة: 90، 91] وسيأتي الكلام على ذلك في سورة المائدة إن شاء الله، وبه الثقة.
قال ابن عمر، والشعبي، ومجاهد، وقتادة، والرّبيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذه (3) أوّل آية نزلت في الخمر: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ] (4) } ثم نزلت الآية التي في سورة النساء، ثم التي في المائدة، فحرمت الخمر (5) .
وقوله: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } قُرئ بالنصب وبالرفع (6) وكلاهما حسن متَّجَه قريب.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان، حدثنا يحيى أنه بلغه: أنّ معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله، إن لنا أرقاء وأهلين [فما ننفق] (7) من أموالنا. فأنزل الله: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } (8) .
وقال الحكم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } قال: ما يفضل عن أهلك.
__________
(1) في جـ: "عنه".
(2) في و: "إن كان فيها".
(3) في أ: "هذا".
(4) زيادة من جـ.
(5) في أ: "فحرمت الخمر فلله الحمد".
(6) في جـ: "بالرفع والنصب".
(7) زيادة من أ.
(8) وهذا منقطع، فإن يحيى بن سعيد بينه وبين معاذ قرن من الزمان.

وكذا روي عن ابن عمر، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، والقاسم، وسالم، وعطاء الخراساني، والربيع بن أنس، وغير واحد: أنهم قالوا في قوله: { قُلِ الْعَفْوَ } يعني الفضل.
وعن طاوس: اليسير من كل شيء، وعن الربيع أيضًا: أفضل مالك، وأطيبه.
والكل يرجع إلى الفضل.
وقال عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا هوذة بن خليفة، عن عوف، عن الحسن: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } قال: ذلك ألا تجهد مالك ثم تقعد تسأل الناس.
ويدل على ذلك ما رواه ابنُ جرير: حدثنا علي بن مسلم، حدثنا أبو عاصم، عن ابن عَجْلان، عن المَقْبُريّ، عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله، عندي دينار؟ قال: "أنفقه على نفسك". قال: عندي آخر؟ قال: "أنفقه على أهلك". قال: عندي آخر؟ قال: "أنفقه على ولدك". قال: عندي آخر؟ قال: "فأنت أبصَرُ".
وقد رواه مسلم في صحيحه (1) . وأخرج مسلم أيضًا عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "ابدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإن فَضَل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا" (2) .
وعنده عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الصدقة ما كان عن ظَهْر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول" (3) .
وفي الحديث أيضًا: "ابن آدم، إنك إن تبذُل الفضلَ خيرٌ لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تُلام على كَفَافٍ" (4) .
ثم قد قيل: إنها منسوخة بآية الزكاة، كما رواه علي بن أبي طلحة، والعوفي عن ابن عباس، وقاله عطاء الخراساني والسدي، وقيل: مبينة بآية الزكاة، قاله مجاهد وغيره، وهو أوجه.
وقوله: { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } أي: كما فصَّل لكم هذه الأحكام وبينَها وأوضحها، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده، ووعيده، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة.
__________
(1) تفسير الطبري (4/340)، وأما قول الحافظ بأنه في صحيح مسلم، فقد قال الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله -: "وهم - رحمه الله - فإن الحديث ليس في صحيح مسلم على اليقين بعد طول التتبع مني ومن أخي السيد محمود". قلت: لم يذكره المزي في تحفة الأشراف معزوا لمسلم، وإنما عزاه لأبي داود وغيره.
(2) صحيح مسلم برقم (997).
(3) هو في صحيح البخاري برقم (1428) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو في صحيح مسلم برقم (1034) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (1036) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافسي، حدثنا أبو أسامة، عن الصعَّق العيشي (1) قال: شهدت الحسن -وقرأ هذه الآية من البقرة: { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } قال: هي والله لمن تفكر فيها، ليعلم أن الدنيا دار بلاء، ثم دار فناء، وليعلم أن الآخرة دار جزاء، ثم دار بقاء.
وهكذا قال قتادة، وابن جُرَيْج، وغيرهما.
وقال عبد الرزاق عن مَعْمَر، عن قتادة: لتعلموا فضل الآخرة على الدنيا. وفي رواية عن قتادة: فآثرُوا الآخرة على الأولى.
[وقد ذكرنا عند قوله تعالى في سورة آل عمران: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } [آل عمران: 190] آثارًا كثيرة عن السلف في معنى التفكر والاعتبار] (2) .
وقوله: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ } الآية: قال ابن جرير:
حدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: لما نزلت: { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [الإسراء: 34] و { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [النساء: 10] انطلق من كان عنده يتيم فعزَل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضُل له الشيء من طعامه فيُحبَس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم (3) .
وهكذا رواه أبو داود، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن مَرْدويه، والحاكم في مستدركه من طرق، عن عطاء بن السائب، به (4) . وكذا رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وكذا رواه السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة، عن ابن مسعود -بمثله. وهكذا ذكر (5) غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد، وعطاء، والشعبي، وابن أبي ليلى، وقتادة، وغير واحد من السلف والخلف.
قال وَكِيع بن الجراح: حدثنا هشام الدَّسْتَوائي (6) عن حماد، عن إبراهيم قال: قالت عائشة:
__________
(1) في جـ، أ، و: "التميمي".
(2) زيادة من جـ.
(3) تفسير الطبري (4/350).
(4) سنن أبي داود برقم (2871) وسنن النسائي (6/256) والمستدرك (2/278).
(5) في جـ: "وهكذا رواه".
(6) في جـ: "حدثنا صاحب الدستوائي"، وفي أ: "حدثنا هشام صاحب الدستوائي".

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي عُرّة (1) حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي.
فقوله: { قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } أي: على حدَة { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } أي: وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم، فلا بأس عليكم؛ لأنهم إخوانكم في الدين؛ ولهذا قال: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } أي: يعلم مَنْ قَصْدُه ونيته الإفسادَ أو الإصلاح.
وقوله: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي: ولو شاء لضيّق عليكم وأحرجَكم (2) ولكنه وَسَّع عليكم، وخفَّف عنكم، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن، كما قال: { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [الأنعام: 152]، ، بل قد جوز الأكل منه للفقير بالمعروف، إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر، أو مجانًا كما سيأتي بيانه في سورة النساء، إن شاء الله، وبه الثقة.
{ وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) }
هذا تحريم من الله عزّ وجل على المؤمنين أن يتزوّجوا المشركات من عبدة الأوثان. ثم إن كان عمومُها مرادًا، وأنَّه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية، فقد خَص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ] (3) } [المائدة: 5].
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب. وهكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومكحول، والحسن، والضحاك، وزيد بن أسلم، والربيع بن أنس، وغيرهم.
وقيل: بل المراد بذلك المشركون (4) من عبدة الأوثان، ولم يُردْ أهل الكتاب بالكلية، والمعنى قريب من الأول، والله أعلم.
فأما ما رواه ابن جرير: حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني، حدثنا أبي، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرَام الفزاري، حدثنا شَهْر بن حَوْشَب قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات، وحرّم كل ذات دين غير الإسلام، قال الله عز وجل: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [المائدة: 5] . وقد نكح طلحة بن عُبَيد الله يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب غضبًا شديدًا، حتى هَمَّ أن يسطو عليهما. فقالا نحن نطَلق يا أمير المؤمنين، ولا تغضب! فقال: لئن حَلّ طلاقهن لقد حل نكاحهن، ولكني أنتزعهن منكم صَغَرَة قَمأة (5) -فهو حديث غريب جدًا. وهذا الأثر عن عمر غريب أيضًا.
__________
(1) في جـ: "عندي حدة".
(2) في أ، و: "وأخرجكم".
(3) زيادة من جـ.
(4) في أ، و: "المشركين".
(5) تفسير الطبري (4/364).

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49