الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي

قال البخاري: وزاد ابن سلمة -يعني حماد بن سلمة-عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم لعامه الذي استأمن قال: "ارملوا". ليري المشركون قوتهم، والمشركون من قبل قعيقعان.
وحدثنا محمد، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال: إنما سعى النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وبالصفا والمروة، ليرى المشركون قوته (1) .
ورواه في مواضع أخر، ومسلم والنسائي، من طرق، عن سفيان بن عيينة، به (2) .
وقال أيضا: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، سمع ابن أبي أوفى يقول: لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم؛ أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. انفرد به البخاري دون مسلم (3) .
وقال (4) البخاري أيضا: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا فليح، وحدثني محمد بن الحسين بن إبراهيم، حدثنا أبي حدثنا فليح بن سليمان، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا، فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحا عليهم إلا سيوفا، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا. فاعتمر من العام المقبل، فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن قام بها ثلاثا، أمروه أن يخرج فخرج.
وهو في صحيح مسلم أيضا (5) .
وقال البخاري أيضا: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يَدَعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا: "هذا ما قاضانا عليه محمد رسول الله". قالوا: لا نقر بهذا، ولو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئًا، ولكن أنت محمد بن عبد الله. قال: "أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله". ثم قال لعلي بن أبي طالب: "امح رسول الله". قال: لا والله لا أمحوك أبدا. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، وليس يحسن يكتب، فكتب: "هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله: لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب، وألا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه، وألا يمنع من أصحابه أحدا إن أراد أن يقيم بها" فلما دخلها ومضى الأجل، أتوا عليا فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم، يا عم. فتناولها علي فأخذ بيدها، وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك فحملتها، فاختصم فيها علي وزيد
__________
(1) صحيح البخاري برقم (42579.
(2) صحيح البخاري برقم (1649) وصحيح مسلم برقم (1266) والنسائي في السنن الكبرى برقم (39739.
(3) صحيح البخاري برقم (4255).
(4) في ت: "روى".
(5) صحيح البخاري برقم (4252).

وجعفر، فقال عليّ: أنا أخذتها وهي ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال: "الخالة بمنزلة الأم"، وقال لعلي: "أنت مني وأنا منك" وقال لجعفر: "أشبهت خلقي وخلقي" وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا" قال علي: ألا تتزوج ابنة حمزة؟ قال: "إنها ابنة أخي من الرضاعة" انفرد به من هذا الوجه (1) .
وقوله: { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } أي: فعلم الله تعالى من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة ودخولكم إليها عامكم ذلك ما لم تعلموا أنتم، { فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ } أي: قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، { فَتْحًا قَرِيبًا } : وهو الصلح الذي كان بينكم وبين أعدائكم من المشركين.
ثم قال تعالى، مبشرا للمؤمنين بنصرة الرسول صلوات الله [وسلامه] (2) عليه على عدوه وعلى سائر أهل الأرض: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } أي: بالعلم النافع والعمل الصالح؛ فإن الشريعة تشتمل على شيئين: علم وعمل، فالعلم الشرعي صحيح، والعمل الشرعي مقبول، فإخباراتها حق وإنشاءاتها عدل، { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } أي: على أهل جميع الأديان من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم ومليين (3) ومشركين، { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } أي: أنه رسوله، وهو ناصره.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4251).
(2) زيادة من ت.
(3) في أ: "مسلمين".

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) }
يخبر تعالى عن محمد صلوات الله عليه (1) ، أنه رسوله حقا بلا شك ولا ريب، فقال: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } ، وهذا مبتدأ وخبر، وهو مشتمل على كل وصف جميل، ثم ثنى بالثناء على أصحابه فقال: { وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } ، كما قال تعالى: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [المائدة : 54] وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدا عنيفًا على الكفار، رحيما برًا بالأخيار، غضوبًا عبوسًا في وجه الكافر، ضحوكا بشوشًا في وجه أخيه المؤمن، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } [التوبة : 123]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى
__________
(1) في ت: "صلى الله عليه وسلم" وفي م: "صلوات الله وسلامه عليه".

منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسَّهر" (1) ، وقال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه (2) كلا الحديثين في الصحيح.
وقوله: { تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } : وصفهم بكثرة العمل وكثرة (3) الصلاة، وهي خير الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها لله، عز وجل، والاحتساب عند الله جزيل الثواب، وهو الجنة (4) المشتملة على فضل الله، وهو سعة الرزق عليهم، ورضاه، تعالى، عنهم وهو أكبر من الأول، كما قال: { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [التوبة : 72] .
وقوله: { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } : قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } يعني: السمت الحسن.
وقال مجاهد وغير واحد: يعني: الخشوع والتواضع.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطُّنَافسي، حدثنا حسين الجَعْفي، عن زائدة (5) ، عن منصور عن مجاهد: { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } قال: الخشوع قلت: ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه، فقال: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون.
وقال السدي: الصلاة تحسن وجوههم.
وقال بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.
وقد أسنده ابن ماجه في سننه، عن إسماعيل بن محمد الطَّلْحي، عن ثابت بن موسى، عن شريك، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله (6) صلى الله عليه وسلم: "من كَثُرَتْ صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" والصحيح أنه موقوف (7) .
وقال بعضهم: إن للحسنة نورا في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس.
وقال أمير المؤمنين عثمان: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صَفَحَات وجهه، وفَلتَات لسانه.
والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله أصلح الله ظاهره للناس، كما روي عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه قال: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمود بن محمد المروزي، حدثنا حامد بن آدم المروزي،
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (3011) ومسلم فس صحيحه برقم (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (481) ومسلم في صحيحه برقم (2585) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(3) في ت، م: "وذكر".
(4) في م: "المحبة".
(5) في م: "المحبة".
(6) في ت: "عن النبي".
(7) سنن ابن ماجة برقم (1333).

حدثنا الفضل بن موسى، عن محمد بن عبيد الله العَرْزَمي، عن سلمة بن كُهَيْل (1) ، عن جُنْدَب بن سفيان البَجَلي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر"، العرزمي متروك (2) .
وقال (3) الإمام أحمد: حدثنا حسن بن (4) موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لخرج عمله للناس كائنا ما (5) كان" (6) .
وقال (7) الإمام أحمد [أيضا] (8) : حدثنا حسن، حدثنا زُهَيْر، حدثنا قابوس بن أبي ظَبْيَان: أن أباه حدثه عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الهدي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة" ورواه أبو داود عن عبد الله بن محمد النفيلي، عن زهير، به (9) .
فالصحابة [رضي الله عنهم] (10) خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم.
وقال مالك، رحمه الله: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون: "والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا". وصدقوا في ذلك، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نوه الله بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة (11) ؛ ولهذا قال هاهنا: { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } ، ثُمَّ قَالَ: { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ [فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } : { أَخْرَجَ شَطْأَهُ ] } (12) أي: فراخه، { فَآزَرَهُ } أي: شده { فَاسْتَغْلَظَ } أي: شب وطال، { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } أي: فكذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع، { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } .
ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك -رحمه الله، في رواية عنه-بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية. ووافقه طائفة من العلماء على ذلك. والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة (13) ، ويكفيهم ثناء الله عليهم، ورضاه عنهم.
__________
(1) في ت: "وروى أبو القاسم الطبراني بإسناده".
(2) المعجم الكبير (2/171) وحامد بن آدم كذاب.
(3) في ت: "وروى".
(4) في أ: "عن".
(5) في ت: "من".
(6) المسند (3/28).
(7) في ت: "وروى".
(8) زيادة من ت.
(9) المسند (1/296) وسنن أبي داود برقم (4776).
(10) زيادة من ت، م، أ.
(11) في م: "المقدسة".
(12) زيادة من م.
(13) في م: "كبيرة".

ثم قال: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ } من" هذه لبيان الجنس، { مَغْفِرَةً } أي: لذنوبهم. { وَأَجْرًا عَظِيمًا } أي: ثوابا جزيلا ورزقا كريما، ووعد الله حق وصدق، لا يخلف ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة، رضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم (1) ، وقد فعل.
قال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" (2) .
آخر تفسير سورة الفتح، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في ت، م، أ: "مثواهم".
(2) صحيح مسلم برقم (2540).

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)

تفسير سورة الحجرات
وهي مدنية (1) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) }
هذه آداب (2) ، أدب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [وَاتَّقُوا اللَّهَ ] } (3) ، أي: لا تسرعوا في الأشياء بين يديه، أي: قبله، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ، [إذ] (4) قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن: "بم تحكم؟" قال: بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد؟" قال: بسنة رسول الله. قال: "فإن لم تجد؟" قال: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله، لما يرضي رسول الله".
وقد رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه (5) . فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.
وقال العَوْفي عنه: نهى (6) أن يتكلموا بين يدي كلامه.
وقال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، حتى يقضي الله على لسانه.
وقال الضحاك: لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم.
وقال سفيان الثوري: { لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } بقول ولا فعل.
__________
(1) في أ: "وهي مدنية ثمان عشرة آية".
(2) في م: "آيات".
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من ت، وفي أ: "حيث".
(5) سبق الكلام عليه في مقدمة الكتاب.
(6) في ت، م، أ: "نهوا".

وقال الحسن البصري: { لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال: لا تدعوا قبل الإمام.
وقال قتادة: ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا كذا، وكذا لو صنع كذا، فكره الله ذلك، وتقدم فيه.
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي: فيما أمركم به، { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } أي: لأقوالكم { عَلِيمٌ } بنياتكم.
وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } : هذا أدب ثان أدب الله به المؤمنين ألا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم [فوق صوته] (1) . وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما.
وقال البخاري: حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي، حدثنا نافع بن عمر، عن ابن أبي مُلَيْكَة قال: كاد الخيِّران أن يهلكا، أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر -قال نافع: لا أحفظ اسمه-فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. قال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } الآية، قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه: يعني أبا بكر رضي الله عنه. انفرد به دون مسلم (2) .
ثم قال البخاري: حدثنا حسن بن محمد، حدثنا حَجَّاج، عن ابن جُرَيْج، حدثني ابن أبي مليكة: أن عبد الله بن الزبير أخبره: أنه قَدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمرّ القعقاعَ بن مَعْبد. وقال عمر: بل أمرّ الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلى -أو: إلا-خلافي. فقال عمر: ما أردتُ خلافَك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزلت في ذلك: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، حتى انقضت الآية، { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ } الآية [الحجرات : 5] .
وهكذا رواه هاهنا منفردا به أيضا (3) .
وقال (4) الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا الفضل بن سهل، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حصين بن عُمَر، عن مُخَارق، عن طارق بن شهاب، عن أبى بكر الصديق قال: لما نزلت هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } ، قلت: يا رسول الله، والله لا أكلمك إلا كأخي السّرار (5) .
__________
(1) زيادة من ت، م، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (4845).
(3) صحيح البخاري برقم (4847).
(4) في ت: "وروى".
(5) مسند البزار برقم (2257) "كشف الأستار" وقال: "لا نعلمه يروى متصلا إلا عن أبي بكر، وحصين حدث بأحاديث لم يتابع عليها، ومخارق مشهور، ومن عداه أجلاء".

حصين بن عمر هذا -وإن كان ضعيفًا-لكن قد رويناه من حديث عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة [رضي الله عنه] (1) بنحو ذلك، والله أعلم (2) .
وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا أزهر بن سعد، أخبرنا ابن عون، أنبأني موسى بن أنس (3) ، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه. فأتاه فوجده في بيته مُنَكِّسًا رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر، كان يَرْفَعُ صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله، فهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا، قال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: "اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة" تفرد به البخاري من هذا الوجه (4) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا (5) سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال: لما نزلت هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } إلى: { وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } ، وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حبط عملي، أنا من أهل النار، وجلس في أهله حزينا، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لك؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وأجهر له بالقول حبط عملي، أنا من أهل النار. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال، فقال: "لا بل هو من أهل الجنة". قال أنس: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة. فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف، فجاء ثابت بن قيس بن شماس، وقد تحنط ولبس كفنه، فقال: بئسما تُعوّدون أقرانكم. فقاتلهم حتى قُتل (6) (7) .
وقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البُناني، عن أنس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } إلى آخر الآية، جلس ثابت في بيته، قال: أنا من أهل النار. واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال (8) النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ: "يا أبا عمرو، ما شأن ثابت؟ أشتكى؟" فقال سعد: إنه لجاري، وما علمت له بشكوى. قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله (9) صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أُنزلَت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل، هو من أهل الجنة".
__________
(1) زيادة من أ.
(2) أما حديث أبي هريرة فرواه الحاكم في المستدرك (2/462) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه، وقال: "صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
(3) في ت: "وروى البخاري بسنده".
(4) صحيح البخاري برقم (4846).
(5) في ت: "ابن".
(6) في ت: "حتى قتل رحمه الله".
(7) المسند (3/137).
(8) في م: "فسأل".
(9) في م: "النبي".

ثم رواه مسلم عن أحمد بن سعيد (1) الدارمي، عن حَيَّان بن هلال، عن سليمان بن المغيرة، به، قال: ولم يذكر سعد بن معاذ. وعن قطن بن نُسَير عن جعفر بن سليمان (2) ، عن ثابت، عن أنس بنحوه. وقال: ليس فيه ذكر سعد بن معاذ.
حدثنا هُرَيم (3) بن عبد الأعلى الأسدي، حدثنا المعتمر بن سليمان، سمعت أبي يذكر، عن ثابت، عن أنس قال: لما نزلت هذه الآية، واقتص الحديث، ولم يذكر سعد بن معاذ، وزاد: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رَجلٌ من أهل الجنة. (4) .
فهذه الطرق الثلاث مُعَلّلة لرواية حماد بن سلمة، فيما تفرد به من ذكر سعد بن معاذ. والصحيح: أن حال نزول هذه الآية لم يكن سعد بن معاذ موجودًا؛ لأنه كان قد مات بعد بني قريظة بأيام قلائل سنة خمس، وهذه الآية نزلت في وفد بني تميم، والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة، والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثنا أبو ثابت بن ثابت بن قيس بن شمَّاس، حدثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس، عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية: { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ } قال: قعد ثابت بن قيس (5) في الطريق يبكي، قال: فمر به عاصم بن عدي من بني العَجلان، فقال: ما يبكيك يا ثابت؟ قال: هذه الآية، أتخوف أن تكون نزلت فيَّ وأنا صيت، رفيع الصوت. قال: فمضى عاصم بن عدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وغلبه البكاء، فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أبي بن سلول فقال لها: إذا دخلتُ بيت فَرَسي فشدّي عَلَيّ الضبَّة بمسمار فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه، وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله، عز وجل، أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وأتى عاصم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره، فقال: "اذهب فادعه لي". فجاء عاصم إلى المكان فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفَرَس، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك. فقال: اكسر الضبة. قال: فخرجا فأتيا (6) النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يا ثابت؟". فقال: أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في: { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ } . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تَعِيش حَميدًا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة؟". فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أرفع صوتي أبدا على صوت النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وأنزل الله: { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } (7) . (8)
وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين كذلك، فقد نهى الله عز وجل، عن رفع الأصوات
__________
(1) في أ: "سعد".
(2) في م: "مسلم".
(3) في م: "هدبة".
(4) صحيح مسلم برقم (119).
(5) في أ: "ثابت بن قيس بن شماس".
(6) في أ: "حتى أتيا".
(7) في أ: بعدها: " لهم مغفرة وأجر عظيم " بدل "الآية".
(8) تفسير الطبري (26/75).

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)

بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (1) أنه سمع صَوت رجلين في مسجد رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما، فجاء، فقال: أتدريان أين أنتما؟ ثم قال: مِن أين أنتما؟ قالا من أهل الطائف. فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا (3) .
وقال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره، كما كان يكره في حياته؛ لأنه محترم حيا وفي قبره، صلوات الله وسلامه عليه (4) ، دائما. ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه، بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم؛ ولهذا قال: { وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } ، كما قال: { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } [النور : 63] .
وقوله: { أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } أي: إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك، فيغضب الله لغضبه، فيحبط الله عمل من أغضبه وهو لا يدري، كما جاء في الصحيح: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بَالا يكتب له بها الجنة. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يُلقي لها بالا يَهْوِي بها في النار أبعد ما بين السموات والأرض" (5) .
ثم ندب الله عز وجل (6) ، إلى خفض الصوت عنده، وحَثّ على ذلك، وأرشد إليه، ورغَّب فيه، فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } أي: أخلصها لها وجعلها أهلا ومحلا { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } .
وقد قال (7) الإمام أحمد في كتاب الزهد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: كُتب إلى عمر (8) يا أمير المؤمنين، رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها، أفضل، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر، رضي الله عنه: إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها { أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } (9) .
{ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) }
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت، م: "النبي".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (470) من طريق السائب بن يزيد فذكره.
(4) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(5) صحيح البخاري برقم (6478) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) في ت: "سبحانه وتعالى".
(7) في ت: "وقد روى".
(8) في ت: "عمر بن الخطاب رضي الله عنه".
(9) ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/552) وعزاه لأحمد في الزهد.

وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
ثم إنه تعالى ذَمّ الذين ينادونه من وراء الحجرات، وهي بيوت نسائه، كما يصنع أجلاف الأعراب، فقال: { أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ }
ثم أرشد إلى الأدب في ذلك فقال: { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } أي:

لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة.
ثم قال داعيا لهم إلى التوبة والإنابة: { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقد ذُكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي، فيما أورده غير واحد، قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وُهَيْب، حدثنا موسى بن عقبة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن الأقرع بن حابس؛ أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، فقال: يا محمد، يا محمد -وفي رواية: يا رسول الله-فلم يجبه. فقال: يا رسول الله، إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين، فقال: " ذاك الله، عز وجل" (1) .
وقال ابن جرير: حدثنا أبو عمار الحسين بن حُرَيْث المروزي، حدثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن أبي إسحاق (2) ، عن البراء في قوله: { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ } قال: جاء رجل رسول الله (3) فقال: يا محمد، إن حمدي زين، وذمي شين. فقال: "ذاك الله، عز وجل" (4) .
وهكذا ذكره الحسن البصري، وقتادة مرسلا.
وقال سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي عَمْرَة قال: كان بِشْر بن غالب ولَبِيد بن عُطَارِد -أو بشر بن عطارد ولبيد بن غالب-وهما عند الحجاج جالسان-فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد: نزلت في قومك بني تميم: { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ } قال: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: أما إنه لو علم بآخر الآية أجابه: { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا } [الحجرات : 17] ، قالوا: أسلمنا، ولم يقاتلك بنو أسد (5) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عَمرو بن علي الباهلي، حدثنا المعتمر بن سليمان: سمعت داود الطفاوي يحدث عن أبي مسلم (6) البجلي (7) ، عن زيد بن أرقم قال: اجتمع أناس من العرب فقالوا: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به، وإن يك ملكا نعش بجناحه. قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا، فجاءوا إلى حجرته فجعلوا ينادونه وهو في حجرته: يا محمد، يا محمد. فأنزل الله [عز وجل] (8) : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني فمدها، فجعل يقول: "لقد صدق الله قولك يا زيد، لقد صدق الله قولك يا زيد".
__________
(1) المسند (3/488)، وقال الهيثمي في المجمع (7/108): "إسناد أحمد رجاله رجال الصحيح إن كان أبو سلمة سمع من الأقرع بن حابس، وإلا فهو مرسل".
(2) في ت: "وروى ابن جرير بسنده".
(3) في ت، أ: "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(4) تفسير الطبري (26/77).
(5) تفسير الطبري (26/77).
(6) في م، أ: "سلمة".
(7) في ت: "وروى ابن جرير بسنده".
(8) زيادة من أ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

ورواه ابن جرير، عن الحسن بن عرفة، عن المعتمر بن سليمان، به (1) .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) } .
يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليُحتَاطَ له، لئلا يحكم بقوله فيكون -في نفس الأمر-كاذبًا أو مخطئًا، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه، وقد نهى الله عن اتباع سبيل المفسدين، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال. وقد قررنا (2) هذه المسألة في كتاب العلم من شرح البخاري، ولله الحمد والمنة.
وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق. وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية ملك بني المصطلق، وهو الحارث بن ضِرَار، والد جُويرية (3) بنت الحارث أم المؤمنين، رضي الله عنها، قال الإمام أحمد:
حدثنا محمد بن سابق، حدثنا عيسى بن دينار، حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي يقول: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله، أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، ويُرسل إليَّ رسول الله رسولا لإبَّان كذا وكذا ليأتيك بما جمَعتُ من الزكاة. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول فلم يأته، فظن الحارث أنه قد حدث فيه سُخْطة من الله ورسوله، فدعا بسَرَوات قومه، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وَقَّت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخُلْف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرَق -أي: خاف-فرجع فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث. وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفَصَل عن المدينة لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث، فلما
__________
(1) تفسير الطبري (26/77) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (5/210) من طريق إسحاق بن راهويه عن معتمر بن سليمان به، قال الهيثمي في المجمع (7/108): "فيه داود الطفاوي وثقه ابن حبان، وضعفه ابن معين، وبقية رجاله ثقات".
(2) في ت: "قررت".
(3) في أ: "ميمونة".

غشيهم قال لهم: إلى من بُعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله. قال: لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بَتَّةً ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟" . قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله (1) صلى الله عليه وسلم، خشيت أن يكون كانت سخطة من الله ورسوله. قال: فنزلت الحجرات: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } إلى قوله: { حكيم }
ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان التمار، عن محمد بن سابق به. ورواه الطبراني من حديث محمد بن سابق، به (2) ، غير أنه سماه الحارث بن سرار، والصواب: الحارث بن ضرار، كما تقدم.
وقال (3) ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا جعفر بن عَوْن، عن موسى بن عبيدة، عن ثابت مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة (4) ، فسمع بذلك القوم، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، قالت: فرجع إلى رسول الله (5) فقال: إن بني المصطلق قد منعوني (6) صدقاتهم. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون. قالت: فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصفوا له حين صلى الظهر، فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، بعثت إلينا رجلا مصدقًا، فسررنا بذلك، وقرت به أعيننا، ثم إنه رجع من بعض الطريق، فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ومن رسوله، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال فأذن بصلاة العصر، قالت: ونزلت: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } (7) .
وروى ابن جرير أيضا من طريق العَوْفي، عن ابن عباس في هذه الآية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات، وإنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقون رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لما حُدِّثَ الوليد أنهم خرجوا يتلقونه، رجع الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضبا شديدا، فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا: يا رسول الله، إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أن ما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. وإن النبي صلى الله عليه وسلم استغشهم وهمّ بهم، فأنزل الله (8) عذرهم في الكتاب، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } إلى آخر الآية (9) .
__________
(1) في ت: "احتبس علي يا رسول الله".
(2) المسند (4/279) والمعجم الكبير (3/274) قال الهيثمي في المجمع (7/109): "رجال أحمد ثقات"، وهذا متعقب فإن دينار والدعيسي لم يوثقه إلا ابن حبان، ولا يعرف له راويا غير ابنه عيسى.
(3) في ت: "وروى".
(4) في ت: "الوقعة".
(5) في ت، م، أ: "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(6) في ت، م: "منعوا".
(7) تفسير الطبري (26/78) وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف، وثابت مولى أم سلمة مجهول.
(8) في م: "الله عز وجل".
(9) تفسير الطبري (26/78).

وقال مجاهد وقتادة: أرسل رسول الله الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليُصدّقهم، فتلقوه بالصدقة، فرجع فقال: إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك -زاد قتادة: وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام-فبعث رسول الله خالد بن الوليد إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يعجل. فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فأنزل الله هذه الآية. قال قتادة: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "التَّبيُّن من الله، والعَجَلَة من الشيطان".
وكذا ذكر غير واحد من السلف، منهم: ابن أبي ليلى، ويزيد بن رومان، والضحاك، ومقاتل بن حَيَّان، وغيرهم في هذه الآية: أنها نزلت في الوليد بن عقبة، والله أعلم (1) .
وقوله: { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ } أي: اعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظِّموه ووقروه، وتأدبوا معه، وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم، وأشفق عليكم منكم، ورأيه فيكم أتمّ من رأيكم لأنفسكم، كما قال تعالى: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب : 6] .
ثم بَيَّن [تعالى] (2) أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال: { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ } أي: لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحَرَجكم، كما قال تعالى: { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ } [المؤمنون : 71] .
وقوله: { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي: حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم.
قال (3) الإمام أحمد: حدثنا بَهْز، حدثنا علي بن مَسْعَدة، حدثنا قتادة، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الإسلام علانية، والإيمان في القلب" قال: ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات، ثم يقول: "التقوى هاهنا، التقوى هاهنا" (4) .
{ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } أي: وبغض إليكم الكفر والفسوق، وهي: الذنوب
__________
(1) وقد ذهب إلى ذلك كثير من المفسرين، وهذا القول فيه نظر؛ فإن الروايات التي ساقت القصة معلولة، وأحسنها وهي رواية أحمد عن الحارث بن ضرار الخزاعي، وفي إسنادها مجهول، وقد أنكر القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه "العواصم من القواصم" (ص102) هذه القصة قال: "وقد اختلف فيه، فقيل: نزلت في ذلك -أي في شأن الوليد. وقيل: في علي والوليد في قصة أخرى- وقيل: إن الوليد سيق يوم الفتح في جملة الصبيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح روءسهم وبرك عليهم إلا هو فقال: إنه كان على رأسي خلوق، فامتنع صلى الله عليه وسلم من مسه، فمن يكون في مثل هذه السنن يرسل مصدقا، وبهذا الاختلاف يسقط العلماء الأحاديث القوية، وكيف يفسق رجل هذا الكلام؟ فكيف برجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وللشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله كلام على الوليد بن عقبة في الأنوار الكاشفة (ص263) أثبت فيه أنه لم يؤثر له رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جملة ما نفاه هذا الحديث الذي ذكره ابن العربي.
(2) زيادة من ت.
(3) في ت: "وروى".
(4) المسند (3/134) قال الهيثمي في المجمع (1/52): "رجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة، وقد وثقه ابن حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين وضعفه آخرون".

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)

الكبار. والعصيان وهي جميع المعاصي. وهذا تدريج لكمال النعمة.
وقوله: { أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } أي: المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون، الذين قد آتاهم الله رشدهم.
قال (1) الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي، عن ابن رفاعة الزرقي، عن أبيه قال: لما كان يوم أحد (2) وانكفأ المشركون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استووا حتى أثني على ربي، عز وجل" فصاروا خلفه صفوفًا، فقال: "اللهم لك الحمد كله. اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مُضل لمن هديت. ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت. ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم، إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك النعيم يوم العَيْلَة، والأمن يوم الخوف. اللهم إنى عائذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم، توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين. اللهم، قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق".
ورواه النسائي في اليوم والليلة عن زياد بن أيوب، عن مَرْوَان بن معاوية، عن عبد الواحد بن أيمن، عن عُبَيْد بن رِفاعة، عن أبيه، به (3) .
وفي الحديث المرفوع: "من سرته حسنته، وساءته سيئته، فهو مؤمن" (4) .
ثم قال: { فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً } أي: هذا العطاء (5) الذي منحكموه هو فضل منه عليكم ونعمة من لدنه، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي: عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية، حكيم في أقواله وأفعاله، وشرعه وقدره.
{ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) }
__________
(1) في ت: "روى".
(2) في أ: "الحديبية".
(3) المسند (3/424) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10445).
(4) رواه أحمد في مسنده (1/18) والترمذي في السنن برقم (2165) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه".
(5) في ت: "القضاء".

يقول تعالى آمرًا بالإصلاح بين المسلمين (1) الباغين بعضهم على بعض: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } ، فسماهم مؤمنين مع الاقتتال. وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم. وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن، عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما ومعه على المنبر الحسن بن علي، فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى ويقول: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" (2) . فكان كما قال، صلوات الله وسلامه عليه، أصلح الله به بين أهل الشام وأهل العراق، بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة.
وقوله: { فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } أي: حتى ترجع إلى أمر الله (3) وتسمع للحق وتطيعه، كما ثبت في الصحيح عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". قلت: يا رسول الله، هذا نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: "تمنعه من الظلم، فذاك نصرك إياه" (4) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا معتمر قال: سمعت أبي يحدث: أن أنسًا قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم، لو أتيت عبد الله بن أبي؟ فانطلق إليه نبي الله صلى الله عليه وسلم وركب حمارًا، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إليك عني، فوالله لقد آذاني ريح حمارك" فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك. قال: فغضب لعبد الله رجال من قومه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنزلت فيهم: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا }
ورواه البخاري في "الصلح" عن مُسَدَّد، ومسلم في "المغازي" عن محمد بن عبد الأعلى، كلاهما عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، به نحوه (5) .
وذكر سعيد بن جبير: أن الأوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف والنعال، فأنزل الله هذه الآية، فأمر بالصلح بينهما.
وقال السدي: كان رجلا من الأنصار يقال له: "عمران"، كانت له امرأة تدعى أم زيد (6) ، وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في عُلَيَّة له لا يدخل عليها أحد من أهلها. وإن المرأة بعثت إلى أهلها، فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها، وإن الرجل قد كان خرج، فاستعان أهل الرجل، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها، فتدافعوا واجتلدوا بالنعال، فنزلت فيهم هذه
__________
(1) في أ: "المقتتلين".
(2) صحيح البخاري برقم (2704).
(3) في ت، م: "إلى أمر الله ورسوله".
(4) صحيح البخاري برقم (2443).
(5) المسند (3/157) وصحيح البخاري برقم (2691) وصحيح مسلم برقم (1799).
(6) في أ: "يزيد".

الآية. فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح بينهم، وفاءوا إلى أمر الله.
وقوله: { فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي: اعدلوا بينهم فيما كان أصاب بعضهم لبعض، بالقسط، وهو العدل، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا عبد الأعلى، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب (1) ، عن عبد الله بن عمرو؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن، بما أقسطوا في الدنيا".
ورواه النسائي (2) عن محمد بن المثنى، عن عبد الأعلى، به (3) . وهذا إسناده جيد قوي، رجاله على شرط الصحيح.
وحدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما وَلُوا".
ورواه مسلم والنسائي، من حديث سفيان بن عيينة، به (4) .
وقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } أي: الجميع إخوة في الدين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" (5) . وفي الصحيح: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (6) . وفي الصحيح أيضا: "إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين، ولك بمثله" (7) . والأحاديث في هذا كثيرة، وفي الصحيح: "مثل المؤمنين في تَوادِّهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهَر". وفي الصحيح أيضا: "المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه (8) .
وقال أحمد: حدثنا أحمد بن الحجاج، حدثنا عبد الله، أخبرنا مصعب بن ثابت، حدثني أبو حازم قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان، كما يألم الجسد لما في الرأس" (9) . تفرد به ولا بأس بإسناده.
__________
(1) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
(2) في ت: "مسلم".
(3) النسائي في السنن الكبرى برقم (5917).
(4) صحيح مسلم برقم (1827) وسنن النسائي (8/321).
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (2442) ومسلم في صحيحه برقم (2580) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
(6) صحيح مسلم برقم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) صحيح مسلم برقم (2732) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
(8) صحيح البخاري برقم (6011) وصحيح مسلم برقم (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(9) المسند (5/340) وقال الهيثمي في المجمع (8/187): "رجال أحمد رجال الصحيح".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)

وقوله: { فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } يعني: الفئتين المقتتلتين، { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي: في جميع أموركم { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ، وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) }
ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الكِبْر بطر الحق وغَمْص الناس" ويروى: "وغمط الناس" (1) والمراد من ذلك: احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند الله وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له؛ ولهذا قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ } ، فنص على نهي الرجال وعطف بنهي النساء.
وقوله: { وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } أي: لا تلمزوا الناس . والهمَّاز اللَّماز من الرجال مذموم ملعون، كما قال [تعالى] : (2) { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } [الهمزة : 1] ، فالهمز بالفعل واللمز بالقول، كما قال: { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } [القلم : 11] أي: يحتقر الناس ويهمزهم طاعنًا عليهم، ويمشي بينهم بالنميمة وهي: اللمز بالمقال؛ ولهذا قال هاهنا: { وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } ، كما قال: { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [النساء : 29] أي: لا يقتل بعضكم بعضا (3) .
قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومقاتل بن حَيَّان: { وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } أي: لا يطعن بعضكم على بعض.
وقوله: { وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ } أي: لا تتداعوا بالألقاب، وهي التي يسوء الشخص سماعها.
قال (4) الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: حدثني أبو جَبِيرة (5) بن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة: { وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ } قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دُعِىَ أحد منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله، إنه يغضب من هذا. فنزلت: { وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ }
ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل، عن وُهَيْب، عن داود، به (6) .
وقوله: { بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ } أي: بئس الصفة والاسم الفسوق وهو: التنابز بالألقاب، كما كان أهل الجاهلية يتناعتون، بعدما دخلتم (7) في الإسلام وعقلتموه، { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ }
__________
(1) صحيح مسلم برقم (91) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2) زيادة من ت.
(3) في م: "أي: لا يطعن بعذكم على بعض".
(4) في ت: "وروى".
(5) في ت: "عن أبي جبيرة".
(6) المسند (4/260) وسنن أبي داود برقم ( 4962) ورواه الترمذي في السنن برقم (3268) من طريق داود بن أبي هند به، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
(7) في ت: "دخلوا".

أي: من هذا { فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) }
يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثما محضا، فليجتنب كثير منه احتياطا، وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيرا، وأنت تجد لها في الخير محملا (1) .
وقال أبو عبد الله بن ماجه: حدثنا أبو القاسم بن أبي ضمرة نصر بن محمد بن سليمان الحِمْصي، حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي قيس النَّضري، حدثنا (2) عبد الله بن عمر (3) قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: "ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك. والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه، وأن يظن به إلا خير (4) . تفرد به ابن ماجه من هذا الوجه (5) .
وقال مالك، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن (6) أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا".
رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى بن يحيى، وأبو داود عن العتبي [ثلاثتهم] (7) ، عن مالك، به (8) .
وقال سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس [رضي الله عنه] (9) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام".
رواه مسلم والترمذي -وصححه-من حديث سفيان بن عيينة، به (10) .
__________
(1) رواه أحمد في الزهد كما في الدر المنثور (7/565).
(2) في ت: "وروى ابن ماجه بسنده عن".
(3) في ت: "بن عمر رضي الله عنه".
(4) في ت، م: "خيرا".
(5) سنن ابن ماجه برقم (3932) وقال البوصيري في الزوائد (3/223) "هذا إسناد فيه مقال، نصر بن محمد ضعفه أبو حاتم وذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد ثقات".
(6) في ت، م: "فإنه".
(7) زيادة من أ.
(8) الموطأ (2/908) وصحيح البخاري برقم (6066) وصحيح مسلم برقم (2563).
(9) زيادة من ت.
(10) صحيح مسلم برقم (2559)، وسنن الترمذي برقم (1935).

وقال (1) الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله القِرْمِطي العدوي، حدثنا بكر بن عبد الوهاب المدني، حدثنا إسماعيل بن قيس الأنصاري، حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال، عن أبيه، عن جده حارثة بن النعمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لازمات لأمتي: الطِّيَرَةُ، والحسد وسوء الظن". فقال رجل: ما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال: "إذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فَأمض (2) " (3) . وقال (4) أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد قال: أتي ابن مسعود، رضي الله عنه، برجل (5) ، فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبد الله: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به (6) .
سماه ابن أبي حاتم في روايته الوليد بن عقبة بن أبي معيط (7) .
وقال (8) الإمام أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا لَيْث، عن إبراهيم بن نَشِيط الخَوْلاني، عن كعب بن علقمة، عن أبي الهيثم، عن دُخَيْن كاتب عقبة قال: قلت لعقبة: إن لنا جيرانا يشربون الخمر، وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم. قال: لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم. قال: ففعل فلم ينتهوا. قال: فجاءه دُخَيْن فقال: إني قد نهيتهم فلم ينتهوا، وإني داع لهم الشرط فيأخذونهم. قال: لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم. قال: ففعل فلم ينتهوا. قال: فجاءه دخين فقال: إني قد نهيتهم فلم ينتهوا، وإني داع لهم الشرط فتأخذهم. فقال له عقبة: ويحك لا تفعل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها".
ورواه أبو داود والنسائي من حديث الليث بن سعد، به نحوه (9) .
وقال سفيان الثوري، عن ثور، عن راشد بن سعد، عن معاوية قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم" أو: "كدت أن تفسدهم". فقال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، نفعه الله بها. رواه أبو داود منفردا به من حديث الثوري، به (10) .
وقال أبو داود أيضا: حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا ضَمْضَم بن زُرَعَة، عن شُرَيْح بن عبيد، عن جُبَيْر بن نُفَيْر، وكثير بن مُرَّة، وعمرو بن الأسود، والمقدام بن معد يكرب (11) ، وأبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس،
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) في ت: "وإذا نظرت فاغضض" وفي م، أ: "وإذا تطيرت فاغمض".
(3) المعجم الكبير (3/228)، قال الهيثمي في المجمع (8/78): "فيه إسماعيل بن قيس الأنصاري وهو ضعيف".
(4) في ت: "وروى".
(5) لفظة "برجل" غير موجودة بسنن أبي داود.
(6) سنن أبي داود برقم (4890).
(7) وذلك لما أكثر الناس في الوليد بن عقبة، وقد كان ابن مسعود على بيت المال في ولاية الوليد بن عقبة في عهد عثمان رضي الله عنه وقصة جلد الوليد على الخمر مشهورة في الصحيحين.
(8) في ت: "وروى".
(9) المسند (4/153) وسنن أبي داود برقم (4892) والنسائي في السنن الكبري برقم (7283).
(10) سنن أبي داود برقم (4888).
(11) في م: "معدي كرب".

أفسدهم" (1) .
[وقوله] : (2) { وَلا تَجَسَّسُوا } أي: على بعضكم بعضا. والتجسس غالبا يطلق في الشر، ومنه الجاسوس. وأما التحسس فيكون غالبا في الخير، كما قال تعالى إخبارا عن يعقوب [عليه السلام] (3) أنه قال: { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ } [يوسف : 87] ، وقد يستعمل كل منهما في الشر، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا" (4) .
وقال الأوزاعي: التجسس: البحث عن الشيء. والتحسس: الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون، أو يتسمع على أبوابهم. والتدابر: الصَّرْم. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: { وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } فيه نهي عن الغيبة، وقد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود: حدثنا القَعْنَبِي، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة (5) قال: قيل: يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: "ذكرك أخاك بما يكره". قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته".
ورواه الترمذي عن قتيبة، عن الدَّرَاوَرْدي، به (6) . وقال: حسن صحيح. ورواه ابن جرير عن بُنْدَار، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن العلاء (7) . وهكذا قال ابن عمر، ومسروق، وقتادة، وأبو إسحاق، ومعاوية بن قُرَّة.
وقال (8) أبو داود: حدثنا مُسَدَّد، حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني علي بن الأقمر، عن أبي حذيفة، عن عائشة قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا! -قال غير مسدد: تعني قصيرة-فقال: "لقد قلت كلمة لو مُزِجَتْ بماء البحر لمزجته". قالت: وحكيت له إنسانا، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما أحب أني حكيت إنسانًا، وإن لي كذا وكذا".
ورواه الترمذي من حديث يحيى القَطَّان، وعبد الرحمن بن مَهْدِيّ، ووَكِيع، ثلاثتهم عن سفيان الثوري، عن علي بن الأقمر، عن أبي حذيفة سلمة بن صهيبة الأرحبي، عن عائشة، به. وقال: حسن صحيح (9) .
وقال ابن جرير: حدثني ابن أبي الشوارب: حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا سليمان الشيباني، حدثنا حسان بن المخارق (10) ؛ أن امرأة دخلت على عائشة، فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها
__________
(1) سنن أبي داود برقم (4889).
(2) زيادة من ت.
(3) زيادة من ت.
(4) صحيح البخاري برقم (2442).
(5) في ت: "أبي هريرة رضي الله عنه".
(6) سنن أبي داود برقم (4874) وسنن الترمذي برقم (1935).
(7) تفسير الطبري (26/86).
(8) في ت: "وروى".
(9) سنن أبي داود برقم (4875) وسنن الترمذي برقم (2502، 2503).
(10) في ت: "وروى ابن جرير بسنده".

إلى النبي صلى الله عليه وسلم -أي: إنها قصيرة-فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اغتبتيها" (1) .
والغيبة محرمة بالإجماع، ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل والنصيحة، كقوله صلى الله عليه وسلم (2) ، لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر: "ائذنوا له، بئس أخو العشيرة" (3) ، وكقوله لفاطمة بنت قيس -وقد خطبها معاوية وأبو الجهم-: "أما معاوية فصعلوك (4) ، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه" (5) . وكذا ما جرى مجرى ذلك. ثم بقيتها على التحريم الشديد، وقد ورد فيها الزجر الأكيد (6) ؛ ولهذا شبهها تعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت، كما قال تعالى: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } ؟ أي: كما تكرهون هذا طبعا، فاكرهوا ذاك شرعا؛ فإن عقوبته أشد من هذا وهذا من التنفير عنها والتحذير منها، كما قال، عليه السلام، في العائد في هبته: "كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه"، وقد قال: "ليس لنا مثل السوء". وثبت في الصحاح (7) والحسان والمسانيد من غير وجه أنه، عليه السلام، قال في خطبة [حجة] (8) الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" (9) .
وقال (10) أبو داود: حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا أسباط بن محمد، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام: ماله وعرضه ودمه، حسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم".
ورواه الترمذي (11) عن عبيد بن أسباط بن محمد، عن أبيه، به (12) . وقال: حسن غريب.
وحدثنا عثمان بن أبي شيبة (13) ، حدثنا الأسود بن عامر، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن سعيد بن عبد الله (14) بن جريج، عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته".
تفرد به أبو داود (15) . وقد روي من حديث البراء بن عازب، فقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا إبراهيم بن دينار، حدثنا مصعب بن سلام، عن حمزة بن حبيب الزيات، عن أبي إسحاق
__________
(1) تفسير الطبري (26/87).
(2) في ت: "عليه السلام".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (3132) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) في أ: "فصعلوك لا مال له".
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (1480).
(6) في ت، م: "الشديد".
(7) في ت، م: "الصحيح".
(8) زيادة من ت، م، أ.
(9) رواه مسلم في صحيحه برقم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه.
(10) في ت: "وروى".
(11) في ت: "رواه الترمذي وحسنه".
(12) سنن أبي داود برقم (4882) وسنن الترمذي برقم (1927).
(13) في ت: "وروى أبو داود".
(14) في أ: "عبيد الله".
(15) سنن أبي داود برقم (4880).

السَّبِيعي (1) ، عن البراء بن عازب (2) قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها -أو قال: في خدورها-فقال: "يا معشر من آمن بلسانه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه (3) في جوف بيته" (4) .
طريق أخرى عن ابن عمر: قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي: أخبرنا عبد الله بن ناجية، حدثنا يحيى بن أكثم، حدثنا الفضل بن موسى الشيباني، عن الحسين بن واقد، عن أوفى بن دَلْهَم، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يُفْضِ الإيمانُ إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله". قال: ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك، وللمؤمن أعظمُ حرمة عند الله منك (5) .
قال أبو داود: وحدثنا حَيْوَة بن شُرَيْح، حدثنا بَقِيَّة، عن ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن وقاص بن ربيعة، عن المستورد؛ أنه حدثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها في (6) جهنم (7) ، ومن كُسى ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله في (8) جهنم. ومن قام برجل مقام سمعةٍ ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة". تفرد به أبو داود (9) .
وحدثنا ابن مصفى، حدثنا بقية وأبو المغيرة قالا حدثنا صفوان، حدثني راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما عُرِج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء يا جبرائيل (10) ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم".
تفرد به أبو داود، وهكذا رواه الإمام أحمد، عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الشامي، به (11) .
وقال (12) ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبدة، حدثنا أبو عبد الصمد بن عبد العزيز ابن عبد الصمد العمي، حدثنا أبو هارون العَبْديّ، عن أبي سعيد الخدري [رضي الله عنه] (13) قال: قلنا يا رسول الله، حدثنا ما رأيت ليلة أسريَ بك؟... قال: "ثم انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير، رجال ونساء مُوَكَّل بهم رجال يعمدون إلى عُرْض جنَب أحدهم فَيَحْذُون منه الحُذْوَة من مثل النعل ثم يضعونه في فيّ أحدهم، فيقال له: "كل كما (14) أكلت"، وهو يجد من أكله الموت -يا
__________
(1) في ت: "وروى الحافظ أبو يعلى في مسنده بسنده".
(2) في ت: "البراء بن عازب رضي الله عنه".
(3) في ت: "يفضحه ولو في".
(4) مسند أبي يعلى (3/237) قال الهيثمي في المجمع (8/93): "رجاله ثقات".
(5) ورواه الترمذي في السنن برقم (2032) من طريق الفضل بن موسى به، وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسين بن واقد".
(6) في ت، م، أ: "من".
(7) في ت: "في نار جهنم".
(8) في أ: "من".
(9) سنن أبي داود برقم (4881).
(10) في ت، م: "جبريل".
(11) سنن أبي داود برقم (4878)، والمسند (3/224).
(12) في ت: "وروى".
(13) زيادة من ت.
(14) في ت: "ما".

محمد-لو يجد الموت وهو يكره عليه فقلت: يا جبرائيل (1) ، من هؤلاء: قال: هؤلاء الهمَّازون اللمَّازون أصحاب النميمة. فيقال (2) : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } وهو يكره على أكل لحمه.
هكذا أورد هذا الحديث، وقد سقناه بطوله في أول تفسير "سورة سبحان" ولله الحمد (3) .
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا الربيع، عن يزيد، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يصوموا يوما ولا يفطرن أحدٌ حتى آذن له. فصام الناس، فلما أمسوا جعل الرجل يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: ظللت منذ اليوم صائما، فائذن لي. فأفطر فيأذن له، ويجيء الرجل فيقول ذلك، فيأذن له، حتى جاء رجل فقال: يا رسول الله، إن فتاتين من أهلك ظلتا منذ اليوم صائمتين، فائذن لهما فَلْيفطرا فأعرض عنه، ثم أعاد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما صامتا، وكيف صام من ظل يأكل لحوم الناس؟ اذهب، فمرهما إن كانتا صائمتين أن يستقيئا". ففعلتا، فقاءت كل واحدة منهما عَلَقةً علقَةً فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو ماتتا وهما فيهما لأكلتهما النار" (4) .
إسناد ضعيف، ومتن غريب. وقد رواه الحافظ البيهقي من حديث يزيد بن هارون: حدثنا سليمان التيمي قال: سمعت رجلا يحدث في مجلس أبي عثمان النَّهْدِي عن عبيد -مولى رسول الله (5) -أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رجلا أتى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن هاهنا امرأتين صامتا، وإنهما كادتا تموتان من العطش -أرَاهُ قال: بالهاجرة-فأعرض عنه -أو: سكت عنه-فقال: يا نبي الله، إنهما -والله قد ماتتا أو كادتا تموتان (6) . فقال: ادعهما. فجاءتا، قال: فجيء بقدح -أو عُسّ-فقال لإحداهما: " قيئي" فقاءت من قيح ودم وصديد حتى قاءت نصف القدح. ثم قال للأخرى: قيئي فقاءت قيحا ودما وصديدا ولحما ودما عبيطا وغيره حتى ملأت القدح. فقال: إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس.
وهكذا قد رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وابن أبي عدي، كلاهما عن سليمان بن طِرْخان التيمي، به مثله أو نحوه (7) . ثم رواه أيضا من حديث مُسَدَّد، عن يحيى القَطَّان، عن عثمان بن غياث، حدثني رجل أظنه في حلقة أبي عثمان، عن سعد -مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم-أنهم أمروا بصيام، فجاء رجل في نصف النهار فقال: يا رسول الله، فلانة وفلانة قد بلغتا الجهد. فأعرض عنه مرتين أو ثلاثا، ثم قال: "ادعهما". فجاء بعُس -أو: قَدَح-فقال لإحداهما: "قيئي"، فقاءت لَحْمًا ودمًا عبيطا وقيحا، وقال للأخرى مثل ذلك، فقال: "إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، أتت إحداهما للأخرى فلم تزالا تأكلان لحوم الناس حتى امتلأت أجوافهما
__________
(1) في ت، م: "جبريل".
(2) في أ: "فقال".
(3) عند الآية الأولى.
(4) مسند الطيالسي برقم (2107).
(5) في ت، م: "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(6) في ت: "أن تموتا".
(7) المسند (5/431) ورواه ابن أبي الدنيا في الصمت برقم (171) من طريق يزيد بن هارون عن سليمان التيمي به.

قيحا" (1) .
وقال البيهقي: كذا قال "عن سعد"، والأول -وهو عبيد-أصح.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا عمرو بن الضحاك بن مَخْلَد، حدثنا أبي أبو عاصم، حدثنا ابن جُرَيْج، أخبرني أبو الزبير (2) عن ابن عَمّ لأبي هريرة أن ماعزًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت فأعرض عنه -قالها أربعا-فلما كان في الخامسة قال: "زنيت"؟ قال: نعم. قال: "وتدري ما الزنا؟" قال: نعم، أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا. قال: "ما تريد إلى هذا القول؟" قال: أريد أن تطهرني. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب المِيل في المكحلة والرِّشاء (3) في البئر؟". قال: نعم، يا رسول الله. قال: فأمر برجمه فرجم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجمَ رجم الكلب. ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مَرّ بجيفة حمار فقال: أين فلان وفلان؟ أنزلا فكلا من جيفة هذا الحمار" قالا غفر الله لك يا رسول، الله وهل يُؤكل هذا؟ قال: "فما نلتما من أخيكما (4) آنفا أشد أكلا من، والذي نفسي بيده، إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها" (5) ]إسناده صحيح] (6) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثني أبي، حدثنا واصل -مولى ابن عيينة-حدثني خالد بن عُرْفُطَة، عن طلحة بن نافع، عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح جيفة منتنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين (7) " (8) .
طريق أخرى: قال عبد بن حُميد في مسنده: حدثنا إبراهيم بن الأشعث، حدثنا الفُضيل بن عياض، عن سليمان، عن أبي سفيان -وهو طلحة بن نافع-عن جابر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فهاجت ريح منتنة (9) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن نفرًا من المنافقين اغتابوا ناسا من المسلمين، فلذلك بعثت هذه الريح" وربما قال: "فلذلك هاجت هذه الريح" (10) .
وقال السدي في قوله: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا } : زعم أن سلمان الفارسي كان مع رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفر يخدمهما ويخف لهما، وينال من طعامهما، وأن سلمان لما سار الناس ذات يوم وبقي سلمان نائما، لم يسر معهم، فجعل صاحباه يكلمانه (11) فلم يجداه، فضربا الخِباء فقالا ما يريد سليمان -أو: هذا العبد-شيئا غير هذا: أن يجيء إلى طعام مقدور، وخباء مضروب! فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب لهما إداما، فانطلق فأتى رسول
__________
(1) المسند (5/431).
(2) في ت: "وروى الحافظ أبو يعلى بمسنده".
(3) في ت، م، أ: "والعصا".
(4) في ت: "من عرض أخيكما".
(5) مسند أبي يعلى (6/524) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (8/227) من طريق عمرو بن الضحاك به؛ ورواه أبو داود في السنن برقم (4429) من طريق الضحاك به.
(6) زيادة من ت.
(7) في ت، أ: "الناس".
(8) المسند (3/351) قال الهيثمي في المجمع (8/91): "رجاله ثقات".
(9) في م: "ريح شديدة منتنة".
(10) المنتخب برقم (1026).
(11) في م: "يكلماه".

الله [صلى الله عليه وسلم] (1) ومعه قَدَح له، فقال: يا رسول الله، بعثني أصحابي لِتؤدِمَهم إن كان عندك؟ قال: "ما يصنع أصحابك بالأدْم؟ قد ائتدموا". فرجع سلمان يخبرهما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا لا والذي بعثك بالحق، ما أصبنا طعاما منذ نزلنا. قال: "إنكما قد ائتدمتما بسلمان بقولكما".
قال: ونزلت: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا } ، إنه كان نائما (2) .
وروى الحافظ الضياء المقدسي في كتابه "المختارة" من طريق حَبَّان بن هلال، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر ما رجل يخدمهما، فناما فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاما، فقالا إن هذا لنؤوم، فأيقظاه، فقالا له: ائت رسول الله فقل له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام، ويستأدمانك.
فقال: "إنهما قد ائتدما" فجاءا فقالا يا رسول الله، بأي شيء ائتدمنا؟ فقال: "بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده، إني لأرى لحمه بين ثناياكما". فقالا استغفر لنا يا رسول الله فقال: "مُرَاه فليستغفر لكما" (3) .
وقال (4) الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحكم بن موسى، حدثنا محمد بن مسلم، عن محمد بن إسحاق، عن عمه موسى بن يَسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل من لحم أخيه في الدنيا، قُرِّب له لحمه في الآخرة، فيقال له: كله مَيْتًا كما أكلته حَيًّا. قال: فيأكله ويَكْلَح ويصيح". غريب جدا (5) .
وقوله: { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي: فيما أمركم به ونهاكم عنه، فراقبوه في ذلك واخشوا منه، { إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } أي: تواب على من تاب إليه، رحيم بمن رجع إليه، واعتمد عليه.
قال الجمهور من العلماء: طريق المغتاب للناس في توبته أن يُقلع (6) عن ذلك، ويعزم على ألا يعود. وهل يشترط الندم على ما فات؟ فيه نزاع، وأن يتحلل من الذي اغتابه. وقال آخرون: لا يشترط أن يتحلله فإنه إذا (7) أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه، فطريقه إذًا أن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته، فتكون (8) تلك بتلك، كما قال (9) الإمام أحمد:
حدثنا أحمد بن الحجاج، أخبرنا عبد الله، أخبرنا يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن سليمان؛ أن إسماعيل بن يحيى المعَافِريّ أخبره أن سهل بن معاذ بن أنس الجُهَنِيّ أخبره، عن أبيه، عن (10) النبي
__________
(1) زيادة من ت.
(2) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في الدر المنثور (7/570).
(3) المختارة برقم (1697).
(4) في ت: "وروى".
(5) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4961) "مجمع البحرين" من طريق محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق به، وقال: لم يروه عن ابن إسحاق إلا محمد بن سلمة وقد وقع هنا "محمد بن مسلم" وأظنه تصحيفا، لكني لا أستطيع الجزم بذلك قال الهيثمي في المجمع (8/92): "فيه ابن إسحاق وهو مدلس ومن لم أعرفه".
(6) في م: "يرجع".
(7) في ت: "لو".
(8) في ت: "لتكون".
(9) في ت: "روى".
(10) في ت: "أن".

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

صلى الله عليه وسلم قال: "من حمى مؤمنا من منافق يعيبه (1) ، بعث الله إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم. ومن رمى مؤمنا بشيء يريد شينه، حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال". وكذا رواه أبو داود من حديث عبد الله -وهو ابن المبارك-به بنحوه (2) .
وقال (3) أبو داود أيضا: حدثنا إسحاق بن الصباح، حدثنا ابن أبي مريم، أخبرنا الليث: حدثني يحيى بن سليم؛ أنه سمع إسماعيل بن بشير يقول: سمعت جابر بن عبد الله، وأبا طلحة بن سهل الأنصاري يقولان: قال (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من امرىء يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في مواطن يحب فيها نصرته. وما من امرئ ينصر امرأ مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته (5) ، إلا نصره الله في مواطن يحب فيها نصرته". تفرد به أبو داود (6) .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) }
يقول تعالى مخبرًا للناس أنه خلقهم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها، وهما آدم وحواء، وجعلهم شعوبا، وهي أعم من القبائل، وبعد القبائل مراتب أخر كالفصائل والعشائر والعمائر والأفخاذ وغير ذلك.
وقيل: المراد بالشعوب بطون العَجَم، وبالقبائل بطون العرب، كما أن الأسباط بطون بني إسرائيل. وقد لخصت هذا في مقدمة مفردة جمعتها من كتاب: "الإنباه" لأبي عمر (7) بن عبد البر، ومن كتاب "القصد والأمم، في معرفة أنساب العرب والعجم". فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضًا، منبها على تساويهم في البشرية: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا } أي: ليحصل التعارف بينهم، كلٌ يرجع إلى قبيلته.
وقال مجاهد في قوله: { لِتَعَارَفُوا } ، كما يقال: فلان بن فلان من كذا وكذا، أي: من قبيلة كذا وكذا.
وقال سفيان الثوري: كانت حِمْير ينتسبون إلى مُخَاليفها، وكانت عرب الحجاز ينتسبون إلى قبائلها.
وقد قال (8) أبو عيسى الترمذي: حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن عبد
__________
(1) في أ "بغيبة".
(2) المسند (3/441) وسنن أبي داود برقم (4883).
(3) في ت: "وروى".
(4) في ت: "أن".
(5) في أ: "عرضه".
(6) سنن أبي داود برقم (4884).
(7) في م: "عمرو".
(8) في ت: "وروى".

الملك بن عيسى الثقفي، عن يزيد -مولى المنبعث-عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم؛ فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر". ثم قال: غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه (1) .
وقوله: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } أي: إنما تتفاضلون عند الله بالتقوى لا بالأحساب. وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال (2) البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن سلام، حدثنا عبدة، عن عبيد الله، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ قال: "أكرمهم عند الله أتقاهم" قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله". قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فعن معادن العرب تسألوني؟" قالوا: نعم. قال: "فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فَقِهُوا" (3) .
وقد رواه البخاري في غير موضع من طرق عن عبدة بن سليمان (4) . ورواه النسائي في التفسير من حديث عبيد الله -وهو ابن عمر العمري-به (5) .
حديث آخر: قال مسلم (6) ، رحمه الله: حدثنا عمرو الناقد، حدثنا كَثِير بن هشام، حدثنا جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة (7) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
ورواه ابن ماجه عن أحمد بن سنان، عن كَثِير بن هشام، به (8) .
حديث آخر: وقال (9) الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن أبي هلال، عن بكر، عن أبي ذر قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "انظر، فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى (10) . تفرد به أحمد (11) .
حديث آخر: وقال (12) الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو عبيدة عبد الوارث بن إبراهيم العسكري، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو بن جَبَلة، حدثنا عبيد بن حنين الطائي، سمعت محمد بن حبيب بن خِرَاش العَصَرِيّ، يحدث عن أبيه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (13) : المسلمون إخوة، لا
__________
(1) سنن الترمذي برقم (1979).
(2) في ت: "فروى".
(3) صحيح البخاري برقم (4689).
(4) صحيح البخاري برقم (3374، 3383).
(5) النسائي في السنن الكبرى برقم (11250).
(6) في ت: "وروى".
(7) في ت: "أبي هريرة رضي الله عنه".
(8) صحيح مسلم برقم (2564) وسنن ابن ماجه برقم (4143).
(9) في ت: "وروى".
(10) في ت: "بتقوى الله".
(11) المسند (5/158).
(12) في ت: "وروى".
(13) في ت: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال".

فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى" (1)
حديث آخر: قال (2) أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا أحمد بن يحيى الكوفي، حدثنا الحسن بن الحسين، حدثنا قيس -يعني ابن الربيع-عن شبيب بن غَرْقَدَة (3) ، عن المستظل بن حصين، عن حذيفة (4) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم بنو آدم. وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله من الجِعْلان".
ثم قال: لا نعرفه عن حذيفة إلا من هذا الوجه (5) .
حديث آخر: قال (6) ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا يحيى بن زكريا القطان، حدثنا موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته القَصْواء يستلم الأركان (7) بمحجن في يده، فما وجد لها مناخًا في المسجد حتى نزل صلى الله عليه وسلم على أيدي الرجال، فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل (8) ثم قال: "يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله. إن الله يقول: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } ثم قال: "أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم".
هكذا (9) رواه عبد بن حميد، عن أبي عاصم الضحاك بن مَخْلَد، عن موسى بن عبيدة، به (10) .
حديث آخر: قال (11) الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لَهِيعة، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحد، كلكم بنو آدم طَفَّ الصاع لم يملؤه، ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى، وكفى بالرجل أن يكون بَذِيّا بخيلا فاحشًا".
وقد رواه ابن جرير، عن يونس، عن ابن وهب، عن ابن لَهِيعة، به (12) ولفظه: "الناس لآدم وحواء، طف الصاع لم يَمْلَئُوه، إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
__________
(1) المعجم الكبير (4/25) وقال الهيثمي في المجمع (8/84): "فيه عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة، وهو متروك".
(2) في ت: "وروى".
(3) في أ: "عروة".
(4) في ت: "عن حذيفة رضي الله عنه".
(5) مسند البزار برقم (3584) وقال الهيثمي في المجمع (8/86): "فيه الحسن بن الحسين العرني وهو ضعيف".
(6) في ت: "وروى".
(7) في ت: "الركن".
(8) في ت، أ: "بما هو عليه".
(9) في ت: "وهكذا".
(10) المنتخب لعبد بن حميد برقم (793) وفيه موسى بن عبيدة الزبدي وهو ضعيف.
(11) في ت: "وروى".
(12) المسند (4/158) وتفسير الطبري (26/89) قال الهيثمي في المجمع (8/84): "فيه ابن لهيعة وفيه لين، وبقية رجاله وثقوا". قلت: الراوي عنه في رواية الطبري عبد اله بن وهب، فهذه متابعة قوية ليحيى بن إسحاق.

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

وليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.
حديث آخر: قال (1) الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا شريك، عن سِمَاك، عن عبد الله بن عَمِيرة زوج درة ابنة أبي لهب، عن درة بنت أبي لهب قالت: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "خير الناس أقرؤهم، وأتقاهم لله عز وجل، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم" (2) .
حديث آخر: قال (3) الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو الأسود، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: ما أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من الدنيا، ولا أعجبه أحد قط، إلا ذو تقى. تفرد به أحمد رحمه الله (4) .
وقوله: { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } أي: عليم بكم، خبير بأموركم، فيهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، ويفضل من يشاء على من يشاء، وهو الحكيم العليم الخبير في ذلك كله. وقد استدل بهذه الآية الكريمة وهذه الأحاديث الشريفة، من ذهب من العلماء إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط، ولا يشترط سوى الدين، لقوله: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وذهب الآخرون إلى أدلة أخرى مذكورة في كتب الفقه، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في "كتاب الأحكام" ولله الحمد والمنة. وقد روى الطبراني عن عبد الرحمن أنه سمع رجلا من بني هاشم يقول: أنا أولى الناس برسول الله. فقال: غيرك أولى به منك، ولك منه نسبه.
{ قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) }
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) المسند (6/432) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (24/257) من طريق شريك به، وقال الهيثمي في المجمع (7/263): "رجالهما ثقات، وفي كلام بعضهم كلام لا يضر".
(3) في ت: "وروى".
(4) المسند (6/69).

يقول تعالى منكرا على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد: { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } . وقد استفيد من هذه الآية الكريمة: أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل، عليه السلام، حين سأل عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، فترقى من الأعم إلى الأخص، ثم للأخص منه.
قال (1) الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئًا، فقال سعد: يا رسول الله، أعطيت فلانًا وفلانا ولم تُعط فلانًا شيئًا، وهو مؤمن؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أو مسلم" حتى أعادها سعد ثلاثا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أو مسلم" ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعطي رجالا وأدع من هو أحب إليّ منهم فلم أعطيه شيئًا؛ مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم".
أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري، به (2) .
فقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلم والمؤمن، فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام. وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب الإيمان من "صحيح البخاري" ولله الحمد والمنة. ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلما ليس منافقًا؛ لأنه تركه من العطاء ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام، فدل هذا على (3) أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم، فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه، فأدبوا في ذلك. وهذا معنى قول ابن عباس وإبراهيم النخعي، وقتادة، واختاره ابن جرير. وإنما قلنا هذا لأن البخاري، رحمه الله، ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يُظهرون الإيمان وليسوا كذلك. وقد روي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وابن زيد أنهم قالوا في قوله: { وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } أي: استسلمنا خوف القتل والسباء. قال مجاهد: نزلت في بني أسد بن خزيمة. وقال قتادة: نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والصحيح الأول؛ أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يحصل لهم بعد، فأدبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد، ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا، كما ذكر المنافقون في سورة براءة. وإنما قيل لهؤلاء تأديبًا: { قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي: لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد.
ثم قال: { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ [شَيْئًا ] } (4) أي: لا ينقصكم من أجوركم شيئا، كقوله: { وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } [الطور : 21] .
وقوله: { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: لمن تاب إليه وأناب.
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) المسند (1/176) وصحيح البخاري برقم (27) وصحيح مسلم برقم (150).
(3) في ت: "إلى".
(4) زيادة من ت.

وقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } أي: إنما المؤمنون الكُمَّل { الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } أي: لم يشكوا ولا تزلزلوا، بل ثبتوا (1) على حال واحدة، وهي التصديق المحض، { وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي: وبذلوا مهجهم (2) ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه، { أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } أي: في قولهم إذا قالوا: "إنهم مؤمنون"، لا كبعض الأعراب الذين ليس معهم من الدين إلا الكلمة الظاهرة.
وقال (3) الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان، حدثنا رِشْدين، حدثني عمرو بن الحارث، عن أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد (4) قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء: [الذين] (5) آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم. ثم الذي إذا أشرف على طمع تركه لله، عز وجل" (6) .
وقوله: { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } أي: أتخبرونه (7) بما في ضمائركم، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } أي: لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
ثم قال [تعالى] (8) : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا } ، يعني: الأعراب [الذين] (9) يمنون بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم على الرسول، يقول الله ردًا عليهم: { قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ } ، فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم، ولله المنة عليكم فيه، { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي: في دعواكم ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين: "يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟" كلما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أَمَنُّ (10) .
وقال (11) الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن محمد بن قيس، عن أبي عون، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (12) قال: جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، أسلمنا وقاتلتك العرب، ولم تقاتلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن فقههم قليل، وإن الشيطان ينطق (13) على ألسنتهم". ونزلت هذه الآية: { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
__________
(1) في ت: "تثبتوا".
(2) في ت: "مهجتهم".
(3) في ت: "وروى".
(4) في ت: "أبي سعيد رضي الله عنه".
(5) زيادة من ت، أ، والمسند.
(6) المسند (3/8) وفي إسناده بن أبي السمح عن أبي الهيثم وهو ضعيف.
(7) في ت: "أتخبرون".
(8) زيادة من ت.
(9) زيادة من ت، أ.
(10) رواه البخاري في صحيحه برقم (4330) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه.
(11) في ت: "وروى".
(12) زيادة من ت.
(13) في أ: "ينطق".

ثم قال: لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه، ولا نعلم روى أبو عون محمد بن عبيد الله، عن سعيد بن جبير، غير (1) هذا الحديث (2) .
ثم كرر الإخبار بعلمه بجميع الكائنات، وبصره بأعمال المخلوقات فقال: { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
آخر تفسير الحجرات، ولله الحمد والمنة
__________
(1) في أ: "سوى".
(2) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11519) من طريق يحيى بن سعيد الأموي به.

تفسير سورة ق
وهي مكية.
وهذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح، وقيل: من الحجرات. وأما ما يقوله العامة (1) : إنه من(عَمّ) فلا أصل له، ولم يقله أحد من العلماء المعتبرين (2) فيما نعلم. والدليل على أن هذه السورة هي أول المفصل ما رواه أبو داود في سننه، باب "تحزيب القرآن" ثم قال:
حدثنا مُسَدَّد، حدثنا قُرَّان بن تمام، وحدثنا عبد الله بن سعيد أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد سليمان بن حبان -وهذا لفظه-عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن جده -قال عبد الله بن سعيد: حدثنيه أوس بن حذيفة-ثم اتفقا. قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف، قال: فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة، وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني مالك في قُبة له -قال مسَدَّد: وكان في الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقيف، قال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (3) كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا -قال أبو سعيد: قائما على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام-فأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه قريش، ثم يقول: لا سواء (4) وكنا مستضعفين مستذلين -قال مُسدَّد: بمكة-فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم، ندال عليهم ويدالون علينا. فلما كانت ليلة أبطأ (5) عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، فقلنا: لقد أبطأت عنا (6) الليلة! قال: "إنه طرأ علي حزبي من القرآن، فكرهت أن أجيء حتى أتمه". قال أوس: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تحزبون القرآن؟ فقالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده.
ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر، به. ورواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الله بن عبد الرحمن، هو ابن (7) يعلى الطائفي به (8) .
إذا علم هذا، فإذا عددت ثمانيا وأربعين سورة، فالتي بعدهن سورة "ق". بيانه: ثلاث: البقرة، وآل عمران، والنساء. وخمس: المائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، وبراءة. وسبع: يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر، والنحل. وتسع: سبحان، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، والحج، والمؤمنون، والنور، والفرقان. وإحدى عشرة: الشعراء، والنمل، والقصص، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والم، السجدة، والأحزاب، وسبأ، وفاطر، و يس. وثلاث عشرة: الصافات، وص، والزمر، وغافر، و حم، السجدة، وحم عسق، والزخرف، والدخان، والجاثية،
__________
(1) في م، أ: "العوام".
(2) في أ: "المفسرين".
(3) زيادة من م، أ.
(4) في م، أ: "لا أساء".
(5) في م: "أبطأ علينا".
(6) في أ: "علينا".
(7) في أ: "أبو".
(8) سنن أبي داود برقم (1393) وسنن ابن ماجه برقم (1345)، والمسند (4/9).

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)

والأحقاف، والقتال، والفتح، والحجرات. ثم بعد ذلك الحزب المفصل كما قاله الصحابة، رضي الله عنهم. فتعين أن أوله سورة "ق" وهو الذي قلناه (1) ، ولله الحمد والمنة.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا مالك، عن ضَمْرة بن سعيد، عن عُبَيد الله (2) بن عبد الله؛ أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيد؟ قال: بقاف، واقتربت.
ورواه مسلم وأهل السنن الأربعة، من حديث مالك، به (3) . وفي رواية لمسلم عن فليح (4) عن ضمرة، عن عبيد الله (5) ، عن أبي واقد قال: سألني عمر، فذكره (6) .
حديث آخر: وقال أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد (7) بن زُرَارة، عن أم هشام بنت حارثة قالت: لقد كان تَنُّورنا وتنور النبي صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين، أو سنة وبعض سنة، وما أخذت { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } إلا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس.
رواه مسلم [أيضا] (8) من حديث ابن إسحاق، به (9) .
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن خبيب (10) ، عن عبد الله بن محمد بن معن، عن ابنة الحارث بن النعمان قالت: ما حفظت "ق" إلا من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخطب بها كل جمعة. قالت: وكان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا.
وكذا رواه مسلم والنسائي وابن ماجه، من حديث شعبة، به (11) .
والقصد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار، كالعيد والجمع، لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور، والمعاد والقيام، والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب.
{ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) }
__________
(1) في أ: "قدمناه".
(2) في م: "عبد الله".
(3) المسند (5/217) وصحيح مسلم برقم (891)، وسنن أبي داود برقم (1154) وسنن الترمذي برقم (534) وسنن النسائي (3/183) وسنن ابن ماجه برقم (1282).
(4) في م، أ: "مالك".
(5) في م: "عبد الله".
(6) صحيح مسلم برقم (891).
(7) في م، أ: "أسعد".
(8) زيادة من م.
(9) المسند (6/435) وصحيح مسلم برقم (873).
(10) في م، أ: "حبيب".
(11) سنن أبي داود برقم (1100) وصحيح مسلم برقم (873) وسنن النسائي (2/157) لكنه ليس من هذا الطريق.

{ ق } : حرف من حروف الهجاء المذكورة (1) في أوائل السور، كقوله:(ص، ن، الم، حم، طس) ونحو ذلك، قاله مجاهد وغيره. وقد أسلفنا الكلام عليها، في أول "سورة البقرة" بما أغنى عن إعادته.
وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا { ق } : جبل محيط بجميع الأرض، يقال له جبل قاف. وكأن هذا -والله أعلم-من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس، لما رأى من جواز الرواية عنهم فيما (2) لا يصدق ولا يكذب. وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما افترى في هذه الأمة -مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها-أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وما بالعهد من قدم، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى، وقلة الحفاظ النقاد فيهم، وشربهم الخمور (3) ، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته! وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: "وحدثوا عن بني إسرائيل، ولا حرج" فيما قد يجوزه العقل، فأما فيما تُحيله العقول ويحكم عليه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل -والله أعلم.
وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين، وكذا طائفة كثيرة من الخلف، من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم، ولله الحمد والمنة، حتى إن الإمام أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، رحمه الله، أورد هاهنا أثرا غريبا لا يصح سنده عن ابن عباس فقال:
حدثنا أبي قال: حدثت عن محمد بن إسماعيل المخزومي: حدثنا ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: خلق الله من وراء هذه الأرض بحرًا محيطًا، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له "ق" السماء الدنيا مرفوعة عليه. ثم خلق الله من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات. ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطًا بها، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له "ق" السماء الثانية مرفوعة عليه، حتى عد سبع أرضين، وسبعة أبحر، وسبعة أجبل، وسبع سموات. قال: وذلك قوله: { وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } [لقمان: 27].
فإسناد هذا الأثر فيه انقطاع، والذي رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { ق } قال: هو اسم من أسماء الله، عز وجل.
والذي ثبت عن مجاهد: أنه حرف من حروف الهجاء، كقوله:(ص، ن، حم، طس، الم) ونحو ذلك. فهذه تُبْعِد ما تقدم عن ابن عباس.
وقيل: المراد "قضِي الأمر واللهِ"، وأن قوله: { ق } دلت على المحذوف من بقية الكلم (4) كقول
__________
(1) في م: "الذي تقدم ذكرها".
(2) في م: "مما".
(3) في أ: "الخمر".
(4) في م، أ: "الكلمة".

الشاعر: قلت لها: قفي فقلت: قاف ...
وفي هذا التفسير نظر؛ لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه، ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف؟.
وقوله: { وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } أي: الكريم العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
واختلفوا في جواب القسم ما هو؟ فحكى ابن جرير عن بعض النحاة أنه قوله: { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ }
وفي هذا نظر، بل الجواب هو مضمون الكلام بعد القسم، وهو إثبات النبوة، وإثبات المعاد، وتقريره وتحقيقه وإن لم يكن القسم متلقى لفظًا، وهذا كثير في أقسام القرآن كما تقدم في قوله: { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [ ص: 1 ، 2 ]، وهكذا قال هاهنا: { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } أي: تعجبوا من إرسال رسول إليهم من البشر كقوله تعالى: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ } [ يونس: 2 ] أي: وليس هذا بعجيب؛ فإن الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس.
ثم قال مخبرًا عنهم في عجبهم أيضًا من المعاد واستبعادهم لوقوعه: { أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } أي: يقولون: أإذا متنا وبلينا، وتقطعت الأوصال منا، وصرنا ترابا، كيف يمكن الرجوع بعد ذلك إلى هذه البنية والتركيب؟ { ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } أي: بعيد الوقوع، ومعنى هذا: أنهم يعتقدون استحالته وعدم إمكانه.
قال الله تعالى رادًا عليهم: { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ } أي: ما تأكل من أجسادهم في البلى، نعلم ذلك ولا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان؟ وأين ذهبت؟ وإلى أين صارت؟ { وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } أي: حافظ لذلك، فالعلم شامل، والكتاب أيضًا فيه كل الأشياء مضبوطة.
قال العوْفِي، عن ابن عباس في قوله: { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ } أي: ما تأكل من لحومهم وأبشارهم، وعظامهم وأشعارهم. وكذا قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، وغيرهم.
ثم بين تعالى سبب كفرهم وعنادهم واستبعادهم ما ليس ببعيد فقال: { بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ } أي: وهذا حال كل من خرج عن الحق، مهما قال بعد ذلك فهو باطل. والمريج: المختلف المضطرب الملتبس المنكر خلاله، كقوله: { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [ الذاريات: 8 ، 9 ].

أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)

{ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) }
يقول تعالى منبها للعباد على قدرته العظيمة التي أظهر بها ما هو أعظم مما تعجبوا مستبعدين لوقوعه: { أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا } ؟ أي: بالمصابيح، { وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ } . قال مجاهد: يعني من شقوق. وقال غيره: فتوق. وقال غيره: من صدوع. والمعنى متقارب، كقوله تعالى: { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ . ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك: 3 ، 4 ] أي: كليل، أي: عن أن يرى عيبًا أو نقصًا.
وقوله: { وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا } أي: وسعناها وفرشناها، { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } وهي: الجبال؛ لئلا تميد بأهلها وتضطرب؛ فإنها مُقَرة على تيار الماء المحيط بها من جميع جوانبها، { وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي: من جميع الزروع والثمار والنبات والأنواع، { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الذاريات: 49 ]، وقوله: { بهيج } أي: حسن نضر.
{ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } أي: ومشاهدة خلق السموات [والأرض] (1) وما جعل [الله] (2) فيهما من الآيات العظيمة تبصرة ودلالة وذكرى لكل عبد منيب، أي: خاضع خائف وجل رَجَّاع إلى الله عز وجل.
وقوله تعالى: { وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا } أي: نافعًا، { فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ } أي: حدائق من بساتين ونحوها، { وَحَبَّ الْحَصِيدِ } وهو: الزرع الذي يراد لحبه وادخاره.
{ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ } أي: طوالا شاهقات. وقال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسدي، وغيرهم: الباسقات الطوال. { لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ } أي: منضود. { رِزْقًا لِلْعِبَادِ } أي: للخلق، { وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا } وهي: الأرض التي كانت هامدة، فلما نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، من أزاهير وغير ذلك، مما يحار الطرف في (3) حسنها، وذلك بعد ما كانت لا نبات بها، فأصبحت تهتز خضراء، فهذا مثال للبعث بعد الموت والهلاك، كذلك يحيي الله الموتى. وهذا المشاهد من عظيم قدرته بالحس أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث (4) كقوله تعالى: { لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر: 57 ]، وقوله: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأحقاف: 33 ]، وقال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً (5) فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ فصلت: 39 ].
__________
(1) زيادة من م، أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في م: "من".
(4) في م، أ: "البعث".
(5) في م: "هامدة" وهو خطأ.

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)

{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) }
يقول تعالى متهددا لكفار قريش بما أحله بأشباههم ونظرائهم وأمثالهم من المكذبين قبلهم، من النقمات والعذاب الأليم في الدنيا، كقوم نوح وما عذبهم الله به من الغرق العام (1) لجميع أهل الأرض، وأصحاب الرس وقد تقدمت قصتهم في سورة "الفرقان" (2) { وَثَمُودُ . وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ } ، وهم أمته الذين بعث إليهم من أهل سدوم ومعاملتها من الغور، وكيف خسف الله بهم الأرض، وأحال أرضهم بحيرة منتنة خبيثة؛ بكفرهم وطغيانهم ومخالفتهم الحق.
{ وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ } وهم قوم شعيب عليه السلام، { وَقَوْمُ تُبَّعٍ } وهو اليماني. وقد ذكرنا من شأنه في سورة الدخان ما أغنى عن إعادته هاهنا ولله الحمد.
{ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ } أي: كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذب رسوله (3) ، ومن كذب رسولا (4) فكأنما كذب جميع الرسل، كقوله: { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } [ الشعراء: 105 ]، وإنما جاءهم رسول واحد، فهم في نفس الأمر لو جاءهم جميع الرسل كذبوهم، { فَحَقَّ وَعِيدِ } أي: فحق عليهم ما أوعدهم الله، على التكذيب من العذاب والنكال فليحذر المخاطبون أن يصيبهم ما أصابهم فإنهم قد كذبوا رسولهم كما كذب أولئك.
وقوله: { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ } أي: أفأعجزنا (5) ابتداء الخلق حتى هم في شك من الإعادة، { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } والمعنى: أن ابتداء الخلق لم يعجزنا والإعادة أسهل منه، كما قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم: 27 ]، وقال الله تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس: 78-79]، وقد تقدم في الصحيح: "يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يقول: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته" (6) .
__________
(1) في م: "العظيم".
(2) تقدم ذلك في سورة الفرقان عند الآية رقم (38).
(3) في أ: "رسولهم".
(4) في م: "برسول".
(5) في م: "فأعجزنا".
(6) صحيح البخاري برقم (4974) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) }

يخبر تعالى عن قدرته على الإنسان بأنه خالقه، وعمله محيط بجميع أموره، حتى إنه تعالى يعلم ما توسوس به نفوس بني آدم من الخير والشر. وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله (1) تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل" (2) .
وقوله: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } يعني: ملائكته تعالى أقربُ إلى الإنسان من حبل وريده (3) إليه. ومن تأوله على العلم فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد، وهما منفيان بالإجماع، تعالى الله وتقدس، ولكن اللفظ لا يقتضيه فإنه لم يقل: وأنا أقرب إليه من حبل الوريد، وإنما قال: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } كما قال في المحتضر: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ } [ الواقعة: 85 ]، يعني ملائكته. وكما قال [تعالى] (4) : { إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر: 9 ]، فالملائكة نزلت بالذكر -وهو القرآن-بإذن الله، عز وجل. وكذلك (5) الملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه بإقدار (6) الله لهم على ذلك، فالملك لَمّة في الإنسان كما أن للشيطان لمة وكذلك: "الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم"، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق؛ ولهذا قال هاهنا: { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ } يعني: الملكين اللذين يكتبان عمل الإنسان. { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } أي: مترصد (7) .
{ مَا يَلْفِظُ } أي: ابن آدم { مِنْ قَوْلٍ } أي: ما يتكلم بكلمة (8) { إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } أي: إلا ولها من يراقبها معتد (9) لذلك يكتبها، لا يترك كلمة ولا حركة، كما قال تعالى: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [ الانفطار: 10 -12 ].
وقد اختلف العلماء: هل يكتب الملك كل شيء من الكلام؟ وهو قول الحسن وقتادة، أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب كما هو قول ابن عباس، على قولين، وظاهر الآية الأول، لعموم قوله: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي، عن أبيه، عن جده علقمة، عن بلال بن الحارث المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه (10) . وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عليه بها (11) سخطه إلى يوم يلقاه". قال: فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث.
ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، من حديث محمد بن عمرو به (12) . وقال الترمذي: حسن
__________
(1) في أ: "إن الله تعالى".
(2) صحيح البخاري برقم (5269) وصحيح مسلم برقم (127).
(3) في أ: "الوريد".
(4) زيادة من م، أ.
(5) في أ: "ولذلك".
(6) في م: "باقتدار".
(7) في م: "مرصد".
(8) في م: "بكلام".
(9) في م: "معد".
(10) في أ: "القيامة".
(11) في م: "له بها عليه".
(12) المسند (3/469) وسنن الترمذي برقم (2319) والنسائي في السنن الكبرى، كما في تحفة الأشراف (2/103) وسنن ابن ماجه برقم (3969).

صحيح. وله شاهد (1) في الصحيح (2) .
وقال الأحنف بن قيس: صاحب اليمين يكتب الخير، وهو أمير على صاحب الشمال، فإن أصاب العبد خطيئة قال له: أمسك، فإن استغفر الله تعالى نهاه أن يكتبها، وإن أبى كتبها. رواه ابن أبي حاتم.
وقال الحسن البصري وتلا هذه الآية: { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } : يا ابن آدم، بُسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك فاعمل (3) ما شئت، أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك، وجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول: { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [ الإسراء: 13 ، 14 ] ثم يقول: عدل -والله-فيك من جعلك حسيب نفسك.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } قال: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر، حتى إنه ليكتب قوله: "أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت"، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر، وألقى سائره، وذلك قوله: { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [ الرعد: 39 ]، وذكر عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه، فبلغه عن طاوس أنه قال: يكتب الملك كل شيء حتى الأنين. فلم يئن أحمد حتى مات رحمه الله (4) .
وقوله: { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } ، يقول تعالى: وجاءت -أيها الإنسان-سكرة الموت بالحق، أي: كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه، { ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } أي: هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك، فلا محيد ولا مناص، ولا فكاك ولا خلاص.
وقد اختلف المفسرون في المخاطب بقوله: { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } ، فالصحيح أن المخاطب بذلك الإنسان من حيث هو. وقيل: الكافر، وقيل: غير ذلك.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا إبراهيم بن زياد -سَبَلان-أخبرنا عَبَّاد بن عَبَّاد عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص (5) أن عائشة، رضي الله عنها، قالت: حضرت أبي وهو يموت، وأنا جالسة عند رأسه، فأخذته غشيةٌ فتمثلت ببيت من الشعر:
من لا يزال دمعه مُقَنَّعا ... فإنه لا بد مرةً (6) مدقوق (7)
__________
(1) في أ: "شواهد".
(2) شاهده حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه البخاري في صحيحه برقم (6478).
(3) في أ: "فاملل".
(4) رواه صالح بن الإمام أحمد في سيرة أبيه.
(5) في أ: "أبي وقاص" وهو خطأ. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب.
(6) في أ: "من دمعه".
(7) البيت في النهاية لابن الأثير (4/115) وعنده: لا بد يوما أن يهراق.

قالت: فرفع رأسه فقال: يا بنية، ليس كذلك ولكن كما قال تعالى: { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } .
وحدثنا (1) خلف بن هشام؛ حدثنا أبو شهاب [الخياط] (2) ، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن البهي قال: لما أن ثقل أبو بكر (3) ، رضي الله عنه، جاءت عائشة، رضي الله عنها، فتمثلت بهذا البيت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر (4)
فكشف عن وجهه وقال: ليس كذلك، ولكن قولي: { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } وقد أوردت لهذا الأثر طرقا [كثيرة] (5) في سيرة الصديق عند ذكر وفاته، رضي الله عنه.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: "سبحان الله! إن للموت لسكرات". وفي قوله: { ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } قولان:
أحدهما: أن "ما" هاهنا موصولة، أي: الذي كنت منه تحيد -بمعنى: تبتعد وتنأى وتفر-قد حل بك ونزل بساحتك.
والقول الثاني: أن "ما" نافية بمعنى: ذلك ما كنت تقدر على الفرار منه ولا الحيد عنه.
وقد قال الطبراني في المعجم الكبير: حدثنا محمد بن علي الصائغ المكي، حدثنا حفص بن عمر الحدي، حدثنا معاذ بن محمد الهُذَلي، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن سَمُرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي يفر من الموت مثل الثعلب، تطلبه الأرض بدَيْن، فجاء يسعى حتى إذا أعيى وأسهر دخل جحره، فقالت له الأرض: يا ثعلب، ديني. فخرج وله حصاص، فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه ومات" (6) .
ومضمون هذا المثل: كما لا انفكاك له ولا محيد عن الأرض كذلك الإنسان لا محيد له عن الموت.
وقوله: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ } . قد تقدم الكلام على حديث النفخ في الصور والفزع والصعق والبعث (7) ، وذلك يوم القيامة. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن له". قالوا: يا رسول الله كيف نقول؟ قال: "قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل". فقال القوم: حسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
(1) في أ: "وحديث".
(2) زيادة من م، أ.
(3) في م: "أبا بكر".
(4) البيت لحاتم الطائي وهو في ديوانه ص (50) أ. هـ مستفادا من طبعة الشعب.
(5) زيادة من م، أ.
(6) المعجم الكبير (7/222) وقال الهيثمي في المجمع (2/320): "فيه معاذ بن محمد الهذلي، قال العقيلي: لا يتابع على رفع حديثه".
(7) في م: "للفزع وللصعق وللبعث".

{ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } أي: ملك يسوقه إلى المحشر، وملك يشهد عليه بأعماله. هذا هو الظاهر من الآية الكريمة. وهو اختيار ابن جرير، ثم روي من حديث إسماعيل بن أبى خالد عن يحيى بن رافع -مولى لثقيف-قال: سمعت عثمان بن عفان يخطب (1) ، فقرأ هذه الآية: { وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } ، فقال: سائق يسوقها إلى الله، وشاهد يشهد عليها بما عملت. وكذا قال مجاهد، وقتادة، وابن زيد.
وقال مُطَرِّف، عن أبي جعفر -مولى أشجع-عن أبي هريرة: السائق: الملك والشهيد: العمل. وكذا قال الضحاك والسدي.
وقال العَوْفي عن ابن عباس: السائق من الملائكة، والشهيد: الإنسان نفسه، يشهد على نفسه. وبه قال الضحاك بن مُزاحِم أيضا.
وحكى ابن جرير ثلاثة أقوال في المراد بهذا الخطاب في قوله: { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }
أحدها: أن المراد بذلك الكافر. رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وبه يقول الضحاك بن مزاحم وصالح بن كيسان.
والثاني: أن المراد بذلك كل أحد من بر وفاجر؛ لأن الآخرة بالنسبة إلى الدنيا كاليقظة والدنيا كالمنام. وهذا اختيار ابن جرير، ونقله عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس.
والثالث: أن المخاطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وبه يقول زيد بن أسلم، وابنه. والمعنى على قولهما: لقد كنت في غفلة من هذا الشأن (2) قبل أن يوحى إليك، فكشفنا عنك غطاءك بإنزاله إليك، فبصرك اليوم حديد.
والظاهر من السياق خلاف هذا، بل الخطاب مع الإنسان من حيث هو، والمراد بقوله: { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } يعني: من هذا اليوم، { فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } أي: قوي؛ لأن كل واحد يوم القيامة يكون مستبصرا، حتى الكفار في الدنيا يكونون يوم القيامة على الاستقامة، لكن لا ينفعهم ذلك. قال الله تعالى: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [ مريم: 38 ]، وقال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [ السجدة: 12].
__________
(1) في م: "خطب".
(2) في أ: "القرآن".

وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)

{ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (29) }
يقول تعالى مخبرًا عن الملك الموكل بعمل ابن آدم: أنه يشهد عليه يوم القيامة بما فعل (1) ويقول: { هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } أي: معتد (2) محضر (3) بلا زيادة ولا نقصان.
وقال مجاهد: هذا كلام الملك السائق يقول: هذا ابن آدم الذي وكلتني به، قد أحضرته.
وقد اختار ابن جرير أن يعم السائق والشهيد، وله اتجاه وقوة.
فعند ذلك يحكم الله، سبحانه تعالى، في الخليقة بالعدل فيقول: { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ }
وقد اختلف النحاة في قوله: { ألقيا } فقال بعضهم: هي لغة لبعض العرب يخاطبون المفرد بالتثنية، كما روي عن الحجاج أنه كان يقول: يا حرسي، اضربا عنقه، ومما أنشد ابن جرير على هذه اللغة قول الشاعر:
فإن تزجراني -يا ابن عفان-أنزجر ... وإن تتركاني أحم عرضا ممنعا (4)
وقيل: بل هي نون التأكيد، سهلت إلى الألف. وهذا بعيد؛ لأن هذا إنما يكون في الوقف، والظاهر أنها مخاطبة مع السائق والشهيد، فالسائق أحضره إلى عرصة الحساب، فلما أدى الشهيد عليه، أمرهما الله تعالى بإلقائه في نار جهنم وبئس المصير.
{ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } أي: كثير الكفر والتكذيب بالحق، { عنيد } : معاند للحق، معارض له بالباطل مع علمه بذلك. { مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ } أي: لا يؤدي ما عليه من الحقوق، ولا بر فيه ولا صلة ولا صدقة، { معتد } أي: فيما ينفقه ويصرفه، يتجاوز فيه الحد.
وقال قتادة: معتد في منطقه وسيرته وأمره.
{ مريب } أي: شاك في أمره، مريب لمن نظر في أمره.
{ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } أي: أشرك بالله فعبد معه غيره، { فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ } . وقد تقدم في الحديث: أن عنقًا من النار يبرز للخلائق فينادي بصوت يسمع الخلائق: إني وكلت بثلاثة، بكل جبار، ومن جعل مع الله إلها آخر، وبالمصورين ثم تلوى (5) عليهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية -هو ابن هشام-حدثنا شيبان، عن فِراس عن عطية (6) ، عن أبي سعيد الخدري عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يخرج عنق من النار يتكلم، يقول: وكلت اليوم بثلاثة:
__________
(1) في أ: "بما عمل".
(2) في م، أ: "معد".
(3) في أ: "محص".
(4) تفسير الطبري (26/103).
(5) في م، أ: "تنطوي".
(6) في م: "حدثنا شيبان هو ابن هشام عن فراس عن عطية".

يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)

بكل جبار، ومن جعل مع الله إلها آخر، ومن قتل نفسا بغير نفس (1) . فتنطوي عليهم، فتقذفهم في غمرات جهنم" (2) .
{ قَالَ قَرِينُهُ } : قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغيرهم: هو الشيطان الذي وكل به: { رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } أي: يقول عن الإنسان الذي قد وافى القيامة كافرًا، يتبرأ منه شيطانه، فيقول: { رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } أي: ما أضللته، { وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } أي: بل كان هو في نفسه ضالا قابلا للباطل معاندًا للحق. كما أخبر تعالى في الآية الأخرى في قوله: { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ إبراهيم: 22 ].
وقوله: { قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ } يقول (3) الرب عز وجل للإنسي وقرينه من الجن، وذلك أنهما يختصمان بين يدي الحق فيقول الإنسي: يا رب، هذا أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني. ويقول الشيطان: { رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } أي: عن منهج الحق. فيقول الرب عز وجل لهما: { لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ } أي: عندي، { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ } أي: قد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل، وأنزلت الكتب، وقامت عليكم الحجج والبينات والبراهين.
{ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ } قال مجاهد: يعني قد قضيت ما أنا قاض، { وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } أي: لست أعذب أحدا بذنب أحد، ولكن لا أعذب أحدًا إلا بذنبه، بعد قيام الحجة عليه.
{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) }
يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة: هل امتلأت؟ وذلك أنه وعدها أن سيملؤها من الجنة والناس أجمعين، فهو سبحانه يأمر بمن (4) يأمر به إليها، ويلقى وهي تقول: { هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } أي: هل بقي شيء تزيدوني؟ هذا هو الظاهر من سياق الآية، وعليه تدل الأحاديث:
قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا حَرَمي بن عُمَارة حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُلقَى في النار، وتقول: هل من مزيد، حتى يضع قدمه فيها، فتقول قط قط" (5) .
__________
(1) في م: "حق".
(2) المسند (3/40).
(3) في م: "يقوله".
(4) في م: "من".
(5) صحيح البخاري برقم (4848).

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط، وعزتك وكَرَمِك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول (1) الجنة" (2) .
ثم رواه مسلم من حديث قتادة، بنحوه (3) . ورواه أبان العطار وسليمان التيمي، عن قتادة، بنحوه (4) .
حديث آخر: قال (5) البخاري: حدثنا محمد بن موسى القطان، حدثنا أبو سفيان الحميري سعيد بن يحيى بن مهدي، حدثنا عَوْف، عن محمد عن أبي هريرة -رفعه، وأكثر ما كان يوقفه أبو سفيان-: "يقال لجهنم: هل امتلأت، وتقول: هل من مزيد، فيضع الرب، عز وجل، قدمه عليها (6) ، فتقول: قط قط" (7) .
رواه أيوب وهشام بن حسان عن محمد بن سيرين، به (8) .
طريق أخرى: قال (9) البخاري: وحدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن همام (10) عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله، عز وجل، للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: إنما أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله، فتقول: قط قط، فهنالك تمتلئ ويزوي (11) بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا آخر" (12) .
حديث آخر: قال (13) مسلم في صحيحه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتجت الجنة والنار، فقالت النار: فيَّ الجبارون والمتكبرون. وقالت الجنة: فيَّ ضعفاء الناس ومساكينهم. فقضى بينهما، فقال للجنة: إنما أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: إنما أنت عذابي، أعذب بك من
__________
(1) في أ: "فضل".
(2) المسند (3/234).
(3) صحيح مسلم برقم (4848).
(4) أخرجه الطبري في تفسيره (26/106).
(5) في م: "وقال".
(6) في م: "عليها قدمه".
(7) صحيح البخاري برقم (4849).
(8) رواه احمد في مسنده (2/507) من طريق هشام بن حسان به. ورواه الطبري في تفسيره (26/107) من طريق أيوب وهشام بن حسان به.
(9) في م: "وقال".
(10) في م: "همام بن منبه".
(11) في أ: "ينزوي".
(12) صحيح البخاري برقم (4850).
(13) في م: "وقال".

أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها" انفرد به مسلم دون البخاري (1) من هذا الوجه. والله، سبحانه وتعالى، أعلم.
وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى، عن أبي سعيد بأبسط من هذا السياق فقال:
حدثنا حسن وروح قالا حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "افتخرت الجنة والنار، فقالت النار: يا رب، يدخلني الجبابرة والمتكبرون والملوك والأشراف. وقالت الجنة: أي رب، يدخلني الضعفاء والفقراء والمساكين. فيقول الله، عز وجل، للنار: أنت عذابي، أصيب بك من أشاء. وقال للجنة: أنت رحمتي، وسعت كل شيء، ولكل واحدة منكما ملؤها، فيلقى في النار أهلها فتقول: هل من مزيد؟ قال: ويلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ ويلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يأتيها (2) عز وجل، فيضع قدمه عليها، فتزوي وتقول: قدني، قدني. وأما الجنة فيبقى فيها ما شاء الله أن يبقى، فينشئ الله لها خلقا ما يشاء" (3) .
حديث آخر: وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا عقبة بن مُكْرَم، حدثنا يونس، حدثنا عبد الغفار بن القاسم، عن عُدي بن ثابت، عن زِرِّ بن حُبَيْش، عن أبي بن كعب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يعرفني الله، عز وجل، نفسه يوم القيامة، فأسجد سجدة يرضى بها عني، ثم أمدحه مدحة يرضى بها عني، ثم يؤذن لي في الكلام، ثم تمر أمتي على الصراط -مضروب بين ظهراني جهنم-فيمرون أسرع من الطرف والسهم، وأسرع من أجود الخيل، حتى يخرج الرجل منها يحبو، وهي الأعمال. وجهنم تسأل المزيد، حتى يضع فيها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط! وأنا على الحوض". قيل: وما الحوض يا رسول الله؟ قال: "والذي نفسي بيده، إن شرابه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأطيب ريحا من المسك. وآنيته أكثر من عدد النجوم، لا يشرب منه إنسان فيظمأ أبدا، ولا يصرف فيروى أبدا" (4) . وهذا القول هو اختيار ابن جرير.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى الحمَّاني (5) عن نضر الخزاز، عن عكرمة، عن ابن عباس، { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } قال: ما امتلأت، قال: تقول: وهل في من مكان يزاد في.
وكذا روى الحكم بن أبان عن عكرمة: { وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } : وهل في مدخل واحد، قد
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2847).
(2) في م: "يأتيها ربها".
(3) المسند (3/13).
(4) ورواه ابن أبي عاصم في السنة برقم (790) من طريق عقبة بن مكرم به.
وقال الألباني: "إسناده موضوع آفته عبد الغفار بن القاسم، وهو أبو مريم الأنصاري كان يضع الحديث كما قال ابن المديني وأبو داود".
(5) في م: "الحمان".

امتلأت.
[و] (1) قال الوليد بن مسلم، عن يزيد بن أبي مريم أنه سمع مجاهدًا يقول: لا يزال يقذف فيها حتى تقول: قد امتلأت فتقول: هل [فيَّ] (2) من مزيد؟ وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو هذا.
فعند هؤلاء أن قوله تعالى: { هَلِ امْتَلأتِ } ، إنما هو بعد ما يضع عليها قدمه، فتنزوي وتقول حينئذ: هل بقي في [من] (3) مزيد؟ يسع شيئا.
قال العوفي، عن ابن عباس: وذلك حين لا يبقى فيها موضع [يسع] (4) إبرة. فالله (5) أعلم.
وقوله: { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } : قال قتادة، وأبو مالك، والسدي: { أُزْلِفَتِ } أدنيت وقربت من المتقين، { غَيْرَ بَعِيدٍ } وذلك يوم القيامة، وليس ببعيد؛ لأنه واقع لا محالة، وكل ما هو آت آت.
{ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ } (6) أي: رجاع تائب مقلع، { حفيظ } أي: يحفظ العهد فلا ينقضه و[لا] (7) ينكثه.
وقال عبيد بن عمير: الأواب: الحفيظ الذي لا يجلس مجلسًا [فيقوم] (8) حتى يستغفر الله، عز وجل.
{ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } أي: من خاف الله في سره حيث لا يراه أحد إلا الله. كقوله [عليه السلام] (9) ورجل ذكر الله خاليا، ففاضت عيناه".
{ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } أي: ولقي الله يوم القيامة بقلب سليم منيب إليه خاضع لديه.
{ ادْخُلُوهَا } أي: الجنة { بِسَلامٍ } ، قال قتادة: سلموا من عذاب الله، وسلم عليهم ملائكة الله.
وقوله: { ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ } أي: يخلدون في الجنة فلا يموتون أبدًا، ولا يظعنون أبدًا، ولا يبغون عنها حولا.
وقوله: { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا } أي: مهما اختاروا وجدوا من أي أصناف الملاذ طلبوا أحضر لهم.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا بَقِيَّة، عن بَحِير (10) بن سعد، عن خالد بن مَعْدان، عن كثير بن مُرَّة قال: من المزيد أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول: ماذا تريدون فأمطره لكم؟ فلا يدعون بشيء إلا أمطرتهم. قال كثير: لئن أشهدني الله ذلك لأقولن: أمطرينا جواري مزينات.
__________
(1) زيادة من م.
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من م، أ.
(5) في م: "والله".
(6) في أ: (أواب حفيظ).
(7) زيادة من م.
(8) زيادة من م، أ.
(9) زيادة من م، أ.
(10) في م: "يحيى".

وفي الحديث عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إنك لتشتهي الطير في الجنة، فيخر بين يديك مشويا" (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن عامر الأحول، عن أبي الصديق (2) ، عن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة، كان حمله ووضعه وسِنّه في ساعة واحدة".
ورواه الترمذي وابن ماجه، عن بُنْدار، عن معاذ بن هشام، به (3) وقال الترمذي: حسن غريب، وزاد "كما يشتهي".
وقوله: { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } كقوله تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ يونس: 26]. وقد تقدم في صحيح مسلم عن صُهَيب بن سنان الرومي: أنها النظر إلى وجه الله الكريم. وقد روى البزار وابن أبي حاتم، من حديث شريك القاضي، عن عثمان بن عمير أبي اليقظان، عن أنس بن مالك في قوله عز وجل: { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } قال: يظهر لهم الرب، عز وجل، في كل جمعة (4) .
وقد رواه الإمام أبو عبد الله الشافعي مرفوعًا فقال في مسنده: أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثني موسى بن عبيدة، حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة، عن عبد الله بن عبيد بن عمير (5) أنه سمع أنس بن مالك يقول: أتى جبرائيل بمرآة بيضاء فيها نكتة إلى رسول الله، فقال النبي (6) صلى الله عليه وسلم: "ما هذه؟" فقال: هذه الجمعة، فُضّلتَ بها أنت وأمتك، فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى، ولكم فيها خير، ولكم فيها ساعة لا يوافقها مؤمن (7) يدعو الله بخير إلا استجيب له، وهو عندنا يوم المزيد. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل، وما يوم المزيد؟" قال: إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب المسك، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله ما شاء (8) من ملائكته، وحوله منابر من نور، عليها مقاعد النبيين، وحف تلك المنابر بمنابر من ذهب، مكللة بالياقوت والزبرجد، عليها الشهداء والصديقون (9) فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب، فيقول الله عز وجل: أنا ربكم، قد صدقتكم وعدي، فسلوني أعطكم. فيقولون: ربنا، نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم، ولكم علي ما تمنيتم، ولدي مزيد. فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير، وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش، وفيه خلق آدم، وفيه تقوم الساعة".
__________
(1) رواه الحسن بن عرفة في جزئه برقم (22) والبزار في مسنده برقم (3532) "كشف الأستار" وابن عدي في الكامل (6/689) من طريق خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود مرفوعا به. وفيه حميد الأعرج، قال البخاري: منكر الحديث وقال ابن حبان: أحاديثه شبه الموضوعة.
(2) في م: "عن أبي بكر الصديق".
(3) المسند (3/9) وسنن الترمذي برقم (2563) وسنن ابن ماجة برقم (4338).
(4) في أ: "جهة".
(5) في م: "عن عبيد الله بن عمير" وفي الأصل: "عبد الله عمير" والتصويب من الأم للشافعي.
(6) في م: "رسول الله".
(7) في أ: "لا يوافقها عبد مؤمن".
(8) في م: "ناسا".
(9) في أ: "الصالحون".

[و] (1) هكذا أورده الإمام الشافعي في كتاب "الجمعة" من الأم (2) ، وله طرق عن أنس بن مالك، رضي الله عنه. وقد أورد ابن جرير هذا من رواية عثمان بن عمير، عن أنس بأبسط من هذا (3) وذكر هاهنا أثرًا مطولا عن أنس بن مالك موقوفًا وفيه غرائب كثيرة (4) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا دَراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل في الجنة ليتكئ في الجنة سبعين سنة قبل أن يتحول ثم تأتيه امرأة فتضرب على منكبه (5) فينظر وجهه في خدها أصفى من المرآة، وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب. فتسلم عليه، فيرد السلام، فيسألها: من أنت؟ فتقول: أنا من المزيد. وإنه ليكون عليها سبعون حلة، أدناها مثل النعمان، من طوبى، فينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك، وإن عليها من التيجان، إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب" (6) .
وهكذا رواه عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، به (7) .
__________
(1) زيادة من م.
(2) الأم (1/185).
(3) تفسير الطبري (26/109).
(4) تفسير الطبري (26/109).
(5) في أ: "منكبيه".
(6) المسند (3/75) وفيه: دراج عن أبي الهيثم، ضعيف.
(7) رواه الطبري في تفسيره (26/110) والكلام عليه كسابقه.

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)

{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) }
يقول تعالى: وكم أهلكنا قبل هؤلاء المنكرين (1) : { مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا } أي: كانوا أكثر منهم وأشد قوة، وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها؛ ولهذا قال هاهنا: { فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ } قال ابن عباس: أثروا فيها. وقال مجاهد: { فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ } : ضربوا في الأرض. وقال قتادة: فساروا في البلاد، أي ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب أكثر مما طفتم أنتم فيها ويقال لمن طوف في البلاد: نقب فيها. قال امرؤ القيس:
لقد نَقَّبْتُ في الآفاق حَتّى ... رضيتُ من الغَنِيمة بالإيَابِ (2)
__________
(1) في م، أ: "المكذبين".
(2) البيت في تفسير الطبري (26/110).

وقوله: { هَلْ مِنْ مَحِيصٍ } أي: هل من مفر كان لهم من قضاء الله وقدره؟ وهل نفعهم ما جمعوه ورد عنهم عذاب الله إذ جاءهم لما كذبوا الرسل؟ فأنتم أيضًا لا مفر لكم ولا محيد ولا مناص ولا محيص.
وقوله: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى } أي: لعبرة { لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أي: لُبٌّ يَعِي به. وقال مجاهد: عقل { أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } أي: استمع الكلام فوعاه، وتعقله بقلبه وتفهمه بلبه.
وقال مجاهد: { أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ } يعني: لا يحدث نفسه بغيره، { وَهُوَ شَهِيدٌ } وقال: شاهد بالقلب (1) .
وقال الضحاك: العرب تقول: ألقى فلان سمعه: إذا استمع بأذنيه وهو شاهد يقول غير غائب. وهكذا قال الثوري وغير واحد.
وقوله: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } : فيه تقرير المعاد؛ لأن من قدر على خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن، قادر على أن يحيي الموتى بطريق الأولى والأحرى.
وقال قتادة: قالت اليهود -عليهم لعائن الله-: خلق الله السموات والأرض في ستة أيام، ثم استراح في اليوم السابع، وهو يوم السبت، وهم يسمونه يوم الراحة، فأنزل الله تكذيبهم فيما قالوه وتأولوه: { وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } أي: من إعياء ولا نصب ولا تعب، كما قال في الآية الأخرى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأحقاف: 33 ]، وكما قال: { لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر:57 ] وقال { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا } [ النازعات: 27 ].
وقوله: { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } يعني: المكذبين، اصبر عليهم واهجرهم هجرًا جميلا { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } ، وكانت الصلاة المفروضة قبل الإسراء ثنتين قبل طلوع الشمس في وقت الفجر، وقبل الغروب في وقت العصر، وقيام الليل كان واجبًا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته حولا ثم نسخ في حق الأمة وجوبه. ثم بعد ذلك نسخ الله ذلك كله ليلة الإسراء بخمس صلوات، ولكن منهن (2) صلاة الصبح والعصر، فهما قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم (3) ، عن جرير بن عبد الله قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: "أما إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر، لا تضامون فيه، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، فافعلوا" ثم قرأ: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ }
__________
(1) في م: "القلب".
(2) في أ: "بينهن".
(3) في أ: "حاتم".

ورواه البخاري ومسلم وبقية الجماعة، من حديث إسماعيل، به (1) .
وقوله: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } أي: فصل له، كقوله: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [ الإسراء: 79 ].
{ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } قال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس: هو التسبيح بعد الصلاة.
ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال: جاء فقراء المهاجرين فقالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالدرجات (2) العُلَى والنعيم المقيم. فقال: "وما ذاك؟" قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق! قال: "أفلا أعلمكم شيئًا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين". قال: فقالوا: يا رسول الله، سمع إخواننا أهل الأموال (3) بما فعلنا، ففعلوا مثله. قال: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" (4) .
والقول الثاني: أن المراد بقوله: { وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } هما الركعتان بعد المغرب، روي ذلك عن عمر وعلي، وابنه الحسن وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي أمامة، وبه يقول مجاهد، وعكرمة، والشعبي، والنَّخَعِي والحسن، وقتادة وغيرهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وعبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضَمْرَة، عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على أثر كل صلاة مكتوبة ركعتين (5) إلا الفجر والعصر. وقال عبد الرحمن: دبر كل صلاة.
ورواه أبو داود والنسائي، من حديث سفيان الثوري، به (6) . زاد النسائي: ومطرف، عن أبي إسحاق، به (7) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا ابن فضيل، عن رشدين بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس قال: بت ليلة عند رسول صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين خفيفتين، اللتين قبل الفجر. ثم خرج إلى الصلاة فقال: "يا ابن عباس، ركعتين قبل صلاة الفجر إدبار النجوم، وركعتين بعد المغرب إدبار السجود".
ورواه الترمذي عن أبي هشام الرفاعي، عن محمد بن فضيل، به (8) . وقال: غريب لا نعرفه إلا
__________
(1) المسند (4/365) وصحيح البخاري برقم (4851) وصحيح مسلم برقم (633) وسنن أبي داود برقم (3729) وسنن الترمذي برقم (2551) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11330) وسنن ابن ماجه برقم (117).
(2) في أ: "بالأجور".
(3) في أ: "الإيمان".
(4) صحيح البخاري برقم (6329) وصحيح مسلم برقم (595).
(5) في م: "ركعتين مكتوبة".
(6) المسند (1/124) وسنن أبي داود برقم (1275) والنسائي في السنن الكبرى برقم (341).
(7) النسائي في السنن الكبرى برقم (346).
(8) سنن الترمذي برقم (3275).

وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)

من هذا الوجه.
وحديث ابن عباس، وأنه بات في بيت خالته ميمونة وصلى تلك الليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة، ثابت في الصحيحين (1) وغيرهما، فأما هذه الزيادة فغريبة [و] (2) لا تعرف إلا من هذا الوجه، ورِشْدِين بن كُرَيْب ضعيف، ولعله من كلام ابن عباس موقوفا عليه، والله أعلم.
{ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) }
يقول تعالى: { وَاسْتَمِعْ } يا محمد { يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ } قال قتادة: قال كعب الأحبار: يأمر الله [تعالى] (3) ملكا (4) أن ينادي على صخرة بيت المقدس: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.
{ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ } يعني: النفخة في الصور التي تأتي بالحق الذي كان أكثرهم فيه يمترون. { ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ } أي: من الأجداث.
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ } أي: هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه، وإليه مصير (5) الخلائق كلهم، فيجازي كلا بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
وقوله: { يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا } : وذلك أن الله تعالى (6) ينزل مطرًا من السماء تنبت به أجساد الخلائق في قبورها، كما ينبت الحب في الثرى بالماء، فإذا تكاملت الأجساد أمر الله إسرافيل فينفخ في الصور، وقد أودعت الأرواح في ثقب في الصور، فإذا نفخ إسرافيل فيه خرجت الأرواح تتوهج بين السماء والأرض، فيقول الله، عز وجل: وعزتي وجلالي، لترجعن كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره، فترجع كل روح إلى جسدها، فتدب فيه كما يدب السم في اللديغ وتنشق (7) الأرض عنهم، فيقومون إلى موقف الحساب سراعا، مبادرين إلى أمر الله، عز وجل، { مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [ القمر: 8 ]، وقال الله تعالى: { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا } [ الإسراء: 52 ]، وفي صحيح مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" (8) .
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1198) وصحيح مسلم برقم (763).
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من م.
(4) في م: "ملكان".
(5) في م: "تصير".
(6) في م: "عز وجل".
(7) في م: "وتتشقق".
(8) رواه مسلم في صحيحه برقم (2278) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولم أهتد إليه من حديث أنس.

وقوله: { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } أي: تلك إعادة سهلة علينا، يسيرة لدينا، كما قال تعالى: { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر: 50 ]، وقال تعالى: { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [ لقمان: 28 ].
وقوله: { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } أي: نحن علمنا محيط بما يقول لك المشركون من التكذيب فلا يهيدنك ذلك، كقوله [تعالى] (1) : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ . وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر: 97 -99 ].
وقوله: { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } أي: ولست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى، وليس ذلك ما كلفت به.
وقال مجاهد، وقتادة، والضحاك: { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } أي: لا تتجبر عليهم.
والقول الأول أولى، ولو أراد ما قالوه لقال: ولا تكن جبارًا عليهم، وإنما قال: { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } بمعنى: وما أنت بمجبرهم على الإيمان إنما أنت مبلغ.
قال الفراء: سمعت العرب تقول: جبر فلان فلانا على كذا (2) ، بمعنى أجبره (3) .
ثم قال تعالى: { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } أي: بلغ أنت رسالة ربك، فإنما (4) يتذكر من يخاف الله ووعيده ويرجو وعده، كقوله [تعالى] (5) : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد: 40 ]، وقوله: { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية: 21، 22]، { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ البقرة: 272 ]، { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ القصص: 56 ]، ولهذا قال هاهنا: { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } كان قتادة يقول: اللهم، اجعلنا ممن يخاف وعيدك، ويرجو موعودك، يا بار، يا رحيم.
آخر تفسير سورة(ق)، والحمد لله وحده، وحسبنا الله ونعم الوكيل
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م: "جبر فلان على فلان كذا".
(3) انظر تفسير الطبري (26/115).
(4) في م: "فأما".
(5) زيادة من م.

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)

تفسير سورة الذاريات
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) }

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)

{ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) }
قال شعبة (1) بن الحجاج، عن سِمَاك، عن خالد بن عَرْعَرَة أنه سمع عليا وشعبة أيضًا، عن القاسم بن أبي بزَّة، عن أبي الطُّفَيْل، سمع عليًا. وثبت أيضًا من غير وجه، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: أنه صعد منبر الكوفة فقال: لا تسألوني عن آية في كتاب الله، ولا عن سنة عن رسول الله، إلا أنبأتكم بذلك. فقام إليه ابن الكواء فقال: يا أمير المؤمنين، ما معنى قوله تعالى: { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا } ؟ قال: الريح [قال] (2) : { فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا } ؟ قال: السحاب. [قال] (3) : { فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا } ؟ قال: السفن. [قال] (4) : { فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا } ؟ قال: الملائكة (5) .
وقد روي في ذلك حديث مرفوع، فقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن هانئ، حدثنا سعيد بن سلام العطار، حدثنا أبو بكر بن أبي سَبْرَة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: جاء صَبِيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن { الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا } ؟ فقال: هي الرياح، ولولا أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته. قال: فأخبرني عن { الْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا } قال: هي الملائكة، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته. قال: فأخبرني عن { الْجَارِيَاتِ يُسْرًا } قال: هي السفن، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته. ثم أمر به فضرب مائة، وجعل في بيت، فلما برأ (6) [دعا به و] (7) ضربه مائة أخرى، وحمله على قَتَب، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: امنع الناس من مجالسته. فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف بالأيمان الغليظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا. فكتب في ذلك إلى عمر، فكتب عمر: ما إخاله إلا صدق، فخل بينه وبين مجالسة الناس.
__________
(1) في أ: "سعيد".
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من م.
(5) رواه الطبري في تفسيره (26/115) عن محمد بن المثنى عن محمد بن جعفر عن شعبة به.
(6) في م: "برد".
(7) زيادة من م، أ.

قال أبو بكر البزار: فأبو بكر بن أبي سبرة لين، وسعيد بن سلام ليس من أصحاب الحديث (1) .
قلت: فهذا الحديث ضعيف رفعه، وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر، فإن قصة صَبِيغ بن عسل مشهورة مع عمر (2) ، وإنما ضربه لأنه ظهر له من أمره فيما يسأل تعنتا وعنادا، والله أعلم.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر هذه القصة في ترجمة صبيغ مطولة (3) . وهكذا فسرها ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والسدي، وغير واحد. ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك.
وقد قيل: إن المراد بالذاريات: الريح كما تقدم وبالحاملات وقرًا: السحاب كما تقدم؛ لأنها تحمل الماء، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل:
وَأسْلَمْتُ نَفْسي لمَنْ أسْلَمَتْ ... لَهُ المزْنُ تَحْمِلُ عَذْبا زُلالا (4)
فأما الجاريات يسرًا، فالمشهور عن الجمهور -كما تقدم-: أنها السفن، تجري ميسرة في الماء جريا سهلا. وقال بعضهم: هي النجوم تجري يسرا (5) في أفلاكها، ليكون ذلك ترقيا من الأدنى إلى الأعلى، إلى ما هو أعلى منه، فالرياح فوقها السحاب، والنجوم فوق ذلك، والمقسمات أمرا الملائكة فوق ذلك، تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية. وهذا قسم من الله عز جل على وقوع المعاد؛ ولهذا قال: { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } أي: لخبر صدق، { وَإِنَّ الدِّينَ } ، وهو: الحساب { لواقع } أي: لكائن لا محالة.
ثم قال: { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ } قال ابن عباس: ذات البهاء والجمال والحسن والاستواء. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَيْر، وأبو مالك (6) ، وأبو صالح، والسدي، وقتادة، وعطية العوفي، والربيع بن أنس، وغيرهم.
وقال الضحاك، والمِنْهَال بن عمرو، وغيرهما: مثل تجعد الماء والرمل والزرع إذا ضربته الريح، فينسج بعضه بعضا طرائق [طرائق] (7) ، فذلك الحبك.
قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "إن من ورائكم الكذاب المضل، وإن رأسه من ورائه حُبُك حُبُك" يعني بالحبك: الجعودة (8) .
وعن أبي صالح: { ذَاتِ الْحُبُكِ } : الشدة. وقال خصيف: { ذَاتِ الْحُبُكِ } : ذات الصفافة.
__________
(1) مسند البزار برقم (2259) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/112): "فيه أبو بكر بن أبي سبرة، وهو متروك".
(2) في م: "مع التميمي عمر".
(3) تاريخ دمشق (8/230) "القسم المخطوط".
(4) البيت في سيرة ابن هشام (1/231).
(5) في أ: "سيرا".
(6) في م: "وابن مالك".
(7) زيادة من م، أ.
(8) تفسير الطبري (26/118) ورواه أحمد في مسنده (5/410) من طريق إسماعيل بن علية به.

وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: { ذَاتِ الْحُبُكِ } : حبكت بالنجوم.
وقال قتادة: عن سالم بن أبي الجَعْد، عن مَعْدان بن أبي طلحة، عن عمرو البكالي، عن عبد الله بن عمرو: { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ } : يعني: السماء السابعة.
وكأنه -والله أعلم-أراد بذلك السماء التي فيها الكواكب الثابتة، وهي عند كثير من علماء الهيئة في الفلك الثامن الذي فوق السابع، والله أعلم. وكل هذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد، وهو الحسن والبهاء، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما (1) ، فإنها من حسنها مرتفعة شفافة صفيقة، شديدة البناء، متسعة الأرجاء، أنيقة البهاء، مكللة بالنجوم الثوابت والسيارات، موشحة بالشمس والقمر والكواكب الزاهرات.
وقوله: { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ } أي: إنكم أيها المشركون المكذبون للرسل لفي قول مختلف مضطرب، لا يلتئم ولا يجتمع.
وقال قتادة: إنكم لفي قول مختلف، [يعني] (2) ما بين مصدق بالقرآن ومكذب به.
{ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } أي: إنما يروج على من هو ضال في نفسه؛ لأنه قول باطل إنما ينقاد له ويضل بسببه ويؤفك عنه من هو مأفوك ضال غَمْر، لا فهم له، كما قال تعالى: { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } [ الصافات: 161 -163 ] .
قال ابن عباس، والسدي: { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } : يضل عنه من ضل. وقال مجاهد: { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } يؤفن عنه من أفن. وقال الحسن البصري: يصرف عن هذا القرآن من كذب به.
وقوله: { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ } قال مجاهد: الكذابون. قال: وهي مثل التي في عبس: { قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ } [ عبس: 17 ]، والخراصون الذين يقولون لا نبعث ولا يوقنون.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ } أي: لعن المرتابون.
وهكذا كان معاذ، رضي الله عنه، يقول في خطبه: هلك المرتابون. وقال قتادة: الخراصون أهل الغرة والظنون.
وقوله: { الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } : قال ابن عباس وغير واحد: في الكفر والشك غافلون لاهون.
{ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ } : وإنما يقولون هذا تكذيبا وعنادا وشكا واستبعادا. قال الله تعالى: { يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ } .
قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وغير واحد: { يفتنون } : يعذبون [قال مجاهد] (3) : كما
__________
(1) في م، أ: "عنه".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من م، أ.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

يفتن الذهب على النار.
وقال جماعة آخرون كمجاهد أيضا، وعكرمة، وإبراهيم النَّخَعِي، وزيد بن أسلم، وسفيان الثوري: { يفتنون } : يحرقون.
{ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ } : قال مجاهد: حريقكم. وقال غيره: عذابكم. { هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } : أي: يقال لهم ذلك تقريعًا وتوبيخًا وتحقيرًا وتصغيرًا.
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) }
يقول تعالى مخبرا عن المتقين لله، عز وجل: إنهم يوم معادهم يكونون في جنات وعيون، بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه من العذاب والنكال، والحريق والأغلال.
وقوله: { آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } : قال ابن جرير: أي عاملين بما آتاهم الله (1) من الفرائض. { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } أي: قبل أن يفرض (2) عليهم الفرائض. كانوا محسنين في الأعمال أيضا. ثم روى عن ابن حميد، حدثنا مهْرَان، عن سفيان، عن أبي عمر، عن مسلم البطين، عن ابن عباس في قوله: { آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } قال: من الفرائض، { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } : قبل الفرائض يعملون. وهذا الإسناد ضعيف، ولا يصح (3) عن ابن عباس. وقد رواه عثمان بن أبي شيبة، عن معاوية بن هشام، عن سفيان، عن أبي عمر البزار، عن مسلم (4) البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فذكره. والذي فسر به ابن جرير فيه نظر؛ لأن قوله: { آَخِذِينَ } حال من قوله: { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } : فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون آخذون ما آتاهم ربهم (5) ، أي: من النعيم والسرور والغبطة.
وقوله (6) : { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ } أي: في الدار الدنيا { محسنين } ، كقوله: { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ } [ الحاقة: 24 ] ثم إنه تعالى بَيَّن إحسانهم في العمل فقال: { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } ، اختلف المفسرون في ذلك على قولين:
أحدهما: أن "ما" نافية، تقديره: كانوا قليلا من الليل لا يهجعونه. قال ابن عباس: لم تكن
__________
(1) في م: "ربهم".
(2) في م: "تفرض".
(3) في م: "لا يصح".
(4) في م: "عن أبي مسلم".
(5) في م: "الله".
(6) في م: "وقولهم".

تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئا. وقال قتادة، عن مطرف بن عبد الله: قلَّ ليلة تأتي عليهم لا يصلون فيها لله، عز وجل، إما من أولها وإما من أوسطها. وقال مجاهد: قلَّ ما يرقدون ليلة حتى (1) الصباح لا يتهجدون. وكذا قال قتادة. وقال أنس بن مالك، وأبو العالية: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء. وقال أبو جعفر الباقر، كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة.
والقول الثاني: أن "ما" مصدرية، تقديره: كانوا قليلا من الليل هجوعهم ونومهم. واختاره ابن جرير. وقال الحسن البصري: { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } : كابدوا قيام الليل، فلا ينامون من الليل إلا أقله، ونشطوا فمدوا إلى السحر، حتى كان الاستغفار بسحر. وقال قتادة: قال الأحنف بن قيس: { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } : كانوا لا ينامون إلا قليلا ثم يقول: لست من أهل هذه الآية. وقال الحسن البصري: كان الأحنف بن قيس يقول: عرضت عملي على عمل أهل الجنة، فإذا قوم قد باينونا بونًا بعيدا، إذا قوم لا نبلغ أعمالهم، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون. وعرضت عملي على عمل أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم يكذبون (2) بكتاب الله وبرسل الله، يكذبون بالبعث بعد الموت، فوجدت من خيرنا منزلة قومًا خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال رجل من بني تميم لأبي: يا أبا أسامة، صفة لا أجدها فينا، ذكر الله قوما فقال: { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } ، ونحن والله قليلا من الليل ما نقوم. فقال له أبي: طوبى لمن رقد إذا نعس، واتقى الله إذا استيقظ.
وقال عبد الله بن سلام: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، انجفل الناس إليه، فكنت فيمن انجفل. فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه رَجُل كذاب، فكان أول ما سمعته يقول: "يا أيها الناس، أطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وأفشوا السلام، وصَلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام" (3) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني حيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلى، عن عبد الله بن عمرو؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها". فقال أبو موسى الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: "لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وبات لله قائما، والناس نيام" (4) .
وقال مَعْمَر في قوله: { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } : كان (5) الزهري والحسن يقولان:
__________
(1) في م: "إلى".
(2) في م: "فيكذبون".
(3) رواه أحمد في المسند (5/451) والترمذي في السنن برقم (2485) وابن ماجه في السنن برقم (1334).
(4) المسند (2/173) وقال الهيثمي في المجمع 05/16): "فيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات" ولعل تحسين الحافظ الهيثمي لحديث ابن لهيعة لأنه قد توبع: تابعه عبد الله بن وهب -روايته عن ابن لهيعة صحيحة- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم (103) "الجزء المفقود".
(5) في م: "قال".

كانوا كثيرا من الليل ما يصلون.
وقال ابن عباس، وإبراهيم النَّخَعِي: { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } : ما ينامون.
وقال الضحاك: { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلا } ثم ابتدأ فقال: { مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } .
وقوله عز وجل: { وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } . قال مجاهد، وغير واحد: يصلون. وقال آخرون: قاموا الليل، وأخروا الاستغفار إلى الأسحار. كما قال تعالى: { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } [ آل عمران: 17 ]، فإن كان الاستغفار في صلاة فهو أحسن. وقد ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فيعطى سؤله؟ حتى يطلع الفجر" (1) .
وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخبارا عن يعقوب: أنه قال لبنيه: { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } [ يوسف 98 ] قالوا: أخرهم إلى وقت السحر.
وقوله: { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } : لما وصفهم بالصلاة ثنى بوصفهم (2) بالزكاة والبر والصلة، فقال: { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ } (3) أي: جزء مقسوم قد أفرزوه { لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } ، أما السائل فمعروف، وهو الذي يبتدئ بالسؤال، وله حق، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا وَكِيع وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن مصعب بن محمد، عن يعلى بن أبي يحيى، عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للسائل حق وإن جاء على فرس".
ورواه أبو داود من حديث سفيان الثوري، به (4) ثم أسنده من وجه آخر عن علي بن أبي طالب (5) . وروي من حديث الهِرْماس بن زياد مرفوعا (6) .
وأما { المحروم } ، فقال ابن عباس، ومجاهد: هو المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم. يعني: لا سهم له في بيت المال، ولا كسب له، ولا حرفة يتقوت منها.
وقالت أم المؤمنين عائشة: هو المحارَف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه. وقال الضحاك: هو الذي لا يكون له مال إلا ذهب، قضى الله له ذلك.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (758).
(2) في م، أ: "وصفهم".
(3) في م، أ: (حق للسائل والمحروم).
(4) المسند (1/201) وسنن أبي داود برقم (1665).
(5) سنن أبي داود برقم (1666).
(6) رواه الطبراني في المعجم الكبير (22/203) من طريق سليمان الدمشقي عن عثمان بن فايد عن عكرمة بن عمار عن الهرماس مرفوعا به وفيه عثمان بن فايد وهو ضعيف.

وقال أبو قِلابَة: جاء سيل باليمامة فذهب بمال رجل، فقال رجل من الصحابة: هذا المحروم.
وقال ابن عباس أيضا، وسعيد بن المسيَّب، وإبراهيم النخعي، ونافع -مولى ابن عمر-وعطاء بن أبي رباح { المحروم } : المحارف.
وقال قتادة، والزهري: { الْمَحْرُوم } : الذي لا يسأل الناس شيئا، قال الزهري وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين بالطوَّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يُفطن له فيتصدق عليه".
وهذا الحديث قد أسنده الشيخان في صحيحيهما من وجه آخر (1) .
وقال سعيد بن جبير: هو الذي يجيء وقد قُسِّم المغنم، فيرضخ له.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني بعض أصحابنا قال: كنا مع عمر بن عبد العزيز في طريق مكة فجاء كلب فانتزع عمر كتف شاة فرمى بها إليه، وقال: يقولون: إنه المحروم.
وقال الشعبي: أعياني أن أعلم ما المحروم.
واختار ابن جرير أن المحروم: [هو] (2) الذي لا مال له بأي سبب كان، قد ذهب ماله، سواء كان لا يقدر على الكسب، أو قد هلك ماله أو نحوه (3) بآفة أو نحوها.
وقال الثوري، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا، فجاء قوم لم يشهدوا الغنيمة فنزلت هذه الآية: { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } (4) .
وهذا يقتضي أن هذه مدنية، وليس كذلك، بل هي مكية شاملة لما بعدها.
وقوله: { وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ } أي: فيها من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة، مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات، والمهاد والجبال، والقفار والأنهار والبحار، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى، وما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم والحركات، والسعادة والشقاوة، وما في تركيبهم من الحكم في وضع كل عضو من أعضائهم (5) في المحل الذي هو محتاج إليه فيه؛ ولهذا قال: { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ } : قال قتادة: من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة.
ثم قال: { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ } يعني: المطر، { وَمَا تُوعَدُونَ } يعني: الجنة. قاله ابن عباس،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4539) وصحيح مسلم برقم (1039) من طريق شريك بن عبد الله عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة مرفوعا.
(2) زيادة من م.
(3) في م: "أو ثمرة".
(4) رواه الطبري في تفسيره (26/125).
(5) في م، أ: "أجسادهم".

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)

ومجاهد وغير واحد.
وقال سفيان الثوري: قرأ واصل الأحدب هذه الآية: { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } فقال: ألا إني (1) أرى رزقي في السماء، وأنا أطلبه في الأرض؟ فدخل خربة فمكث [فيها] (2) ثلاثا لا يصيب شيئا، فلما أن كان في اليوم الثالث إذا هو بِدَوْخَلَة من رطب، وكان له أخ أحسن نية منه، فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق الموت بينهما (3) .
وقوله: { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } يقسم تعالى بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به من أمر القيامة والبعث والجزاء، كائن لا محالة، وهو حق لا مرية فيه، فلا تشكوا فيه كما لا تشكوا في نطقكم حين تنطقون. وكان معاذ، رضي الله عنه، إذا حدث بالشيء يقول لصاحبه: إن هذا لحق كما أنك هاهنا.
قال مسدد، عن ابن أبي عَدِيّ، عن عَوْف، عن الحسن البصري قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قاتل الله أقوامًا أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا".
ورواه ابن جرير، عن بُنْدَار، عن ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، فذكره مرسلا (4) .
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) }
هذه القصة قد تقدمت في سورة "هود" و "الحجر" (5) أيضا. وقوله: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ } أي: الذين أرصد لهم الكرامة. وقد ذهب الإمام أحمد وطائفة من العلماء إلى وجوب الضيافة للنزيل، وقد وردت السنة بذلك كما هو ظاهر التنزيل.
وقوله: { قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ } : الرفع أقوى وأثبت من النصب، فرده أفضل من التسليم؛ ولهذا قال تعالى: { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } [ النساء: 86 ]، فالخليل اختار الأفضل.
وقوله: { قَوْمٌ مُنْكَرُونَ } : وذلك أن الملائكة وهم: جبريل وإسرافيل وميكائيل قدموا عليه في صور شبان حسان عليهم مهابة عظيمة؛ ولهذا قال: { قَوْمٌ مُنْكَرُونَ } .
__________
(1) في م: "لا أرى رزقي".
(2) زيادة من م.
(3) في م: "بينهما الموت".
(4) تفسير الطبري (26/127).
(5) تقدم تفسير ذلك في سورة هود عند الآيات: 69- 73 وكذلك في سورة الحجر عند الآيات: 51- 56.

وقوله: { فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ } أي: انسل خفية في سرعة، { فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } أي: من خيار ماله. وفي الآية الأخرى: { فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } [ هود: 69 ] أي: مشوي على الرَّضف، { فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ } أي: أدناه منهم، { قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ } : تلطف في العبارة وعرض حسن.
وهذه الآية انتظمت آداب الضيافة؛ فإنه جاء بطعامه (1) من حيث لا يشعرون بسرعة، ولم يمتن عليهم أولا فقال: "نأتيكم بطعام؟" بل جاء به بسرعة (2) وخفاء، وأتى بأفضل ما وجد من ماله، وهو عجل فتي سمين مشوي، فقربه إليهم، لم يضعه، وقال: اقتربوا، بل وضعه بين أيديهم، ولم يأمرهم أمرا يشق على سامعه بصيغة الجزم، بل قال: { أَلا تَأْكُلُونَ } على سبيل العرض والتلطف، كما يقول القائل اليوم: إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق، فافعل (3) .
وقوله: { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } : هذا محال على ما تقدم في القصة في السورة الأخرى، وهو (4) قوله: { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ } [ هود: 70 ، 71 ] أي: استبشرت بهلاكهم؛ لتمردهم وعتوهم على الله، فعند ذلك بشرتها الملائكة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب. { قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } [ هود 72 ، 73 ]؛ ولهذا قال هاهنا: { وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } ، فالبشارة له هي بشارة لها؛ لأن الولد منهما، فكل منهما بشر به.
وقوله: { فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ } أي: في صرخة عظيمة (5) ورنة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو صالح، والضحاك، وزيد بن أسلم والثوري والسدي وهي قولها: { يَا وَيْلَتَا } { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } (6) أي: ضربت بيدها على جبينها، قاله مجاهد وابن (7) سابط.
وقال ابن عباس: لطمت، أي تعجبا كما تتعجب (8) النساء من الأمر الغريب، { وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } أي: كيف ألد وأنا عجوز [عقيم] (9) ، وقد كنتُ في حال الصبا عقيما لا أحبل؟.
{ قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } (10) أي: عليم بما تستحقون من الكرامة، حكيم في أقواله وأفعاله.
__________
(1) في م: "بطعام".
(2) في أ: "في سرعة".
(3) وقد توسع الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه "جلاء الأفهام" (ص181- 184) في الكلام على آداب الضيافة في هذه الآيات.
(4) في م: "وهي".
(5) في م، أ: "وعيطة".
(6) في م: "وصكت".
(7) في م: "وأبو".
(8) في م: "يتعجب".
(9) زيادة من أ.
(10) في م: "العليم الحكيم" وهو خطأ.

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)

{ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ (37) }

وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)

قال الله مخبرا عن إبراهيم، عليه السلام: { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } [ هود: 74 -76 ] .
وقال هاهنا: { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ } أي: ما شأنكم وفيم جئتم؟.
{ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ } يعنون قوم لوط.
{ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً } أي: معلمة { عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } أي: مكتتبة عنده بأسمائهم، كل حجر عليه اسم صاحبه، فقال في سورة العنكبوت: { قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } [ العنكبوت: 32] .وقال هاهنا: { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ، وهم لوط وأهل بيته إلا امرأته.
{ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } احتج بهذه [الآية] (1) من ذهب إلى رأي المعتزلة، ممن لا يفرق بين مسمى الإيمان والإسلام؛ لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين. وهذا الاستدلال ضعيف؛ لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين، وعندنا أن كل مؤمن مسلم لا ينعكس، فاتفق الاسمان هاهنا لخصوصية الحال، ولا يلزم ذلك في كل حال.
وقوله: { وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ } أي: جعلناها عبرة، لما أنزلنا بهم من العذاب والنكال وحجارة السجيل، وجعلنا (2) محلتهم بحيرة منتنة خبيثة، ففي ذلك عبرة للمؤمنين، { لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ }
{ وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) }
يقول تعالى: { وَفِي مُوسَى } [آية] (3) { إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أي: بدليل باهر وحجة قاطعة، { فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ } أي: فأعرض فرعون عما جاءه (4) به موسى من الحق المبين، استكبارا
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م، أ: "وجعل".
(3) زيادة من م.
(4) في م: "جاء".

وعنادا.
وقال مجاهد: تعزز بأصحابه. وقال قتادة: غلب عدُو الله على قومه. وقال ابن زيد: { فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ } أي: بجموعه التي معه، ثم قرأ: { لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } [ هود: 80 ] .
والمعنى الأول قوي كقوله: { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ الحج: 9 ] أي: معرض عن الحق مستكبر، { وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } أي: لا يخلو أمرك فيما جئتني به من أن تكون ساحرا، أو مجنونا.
قال الله تعالى: { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ } أي: ألقيناهم في اليم، وهو البحر، { وَهُوَ مُلِيمٌ } أي: وهو ملوم كافر جاحد فاجر معاند.
ثم قال: { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ } أي: المفسدة التي لا تنتج شيئا. قاله الضحاك، وقتادة، وغيرهما.
ولهذا قال: { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ } أي: مما تفسده الريح { إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } أي: كالشيء الهالك البالي.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله بن أخي ابن وهب، حدثنا عمي عبد الله بن وهب، حدثني عبد الله -يعني: ابن عياش (1) -القتباني، حدثني عبد الله بن سليمان، عن دراج، عن عيسى بن هلال الصَّدَفِي، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الريح مسخرة من الثانية -يعني من الأرض الثانية-فلما أراد الله أن يهلك عادًا أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا تهلك عادا، قال: أي رَبَ، أرسل عليهم [من] (2) الريح قدر منخر الثور؟ قال له الجبار: لا إذًا تكفأ الأرض ومن عليها، ولكن أرسل [عليهم] (3) بقدر خاتم. فهي التي يقول (4) الله في كتابه: { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ }
هذا الحديث رفعه منكر (5) ، والأقرب أن يكون موقوفا على عبد الله بن عمرو، من زاملتيه اللتين (6) أصابهما يوم اليرموك، والله أعلم.
قال سعيد بن المسيب وغيره في قوله: { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ } قالوا: هي الجنوب. وقد ثبت في الصحيح من رواية شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدبور" (7) .
{ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ } قال ابن جرير: يعني إلى وقت فناء آجالكم.
__________
(1) في م: "ابن عباس".
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من م.
(4) في م، أ: "قال".
(5) رواه الحاكم في المستدرك (4/594) وابن منده في كتاب التوحيد (1/186) من طريق عبد الله بن وهب بأطول منه.
وقال ابن منده: إسناده متصل مشهور ورواته مصريين. وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله: "بل منكر، فيه عبد الله بن عياس ضعفه أبو داود، وعند مسلم أنه ثقة، ودراج وهو كثير المناكير".
(6) في م: "اللذين".
(7) صححه مسلم برقم (900).

وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)

.
والظاهر أن هذه كقوله: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ } [ فصلت: 17 ] .
وهكذا قال هاهنا: { وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ } ، وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام وجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بُكْرَة النهار { فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ } أي: من هَرَبٍ ولا نهوض، { وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ } أي: ولا يقدرون على أن ينتصروا مما هم فيه.
وقوله: { وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ } أي: وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } وكل هذه القصص قد تقدمت مبسوطة في أماكن كثيرة، من سور متعددة.
{ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) }
يقول تعالى منبها على خلق العالم العلوي والسفلي: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا } أي: جعلناها سقفا [محفوظا] (1) رفيعا { بأيد } أي: بقوة. قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والثوري، وغير واحد، { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } ، أي: قد وسعنا أرجاءها ورفعناها بغير عمد، حتى استقلت كما هي.
{ وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا } أي: جعلناها فراشًا للمخلوقات، { فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } أي: وجعلناها مهدا لأهلها.
{ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } أي: جميع المخلوقات أزواج: سماء وأرض، وليل ونهار، وشمس وقمر، وبر وبحر، وضياء وظلام، وإيمان وكفر، وموت وحياة، وشقاء وسعادة، وجنة ونار، حتى الحيوانات [جن وإنس، ذكور وإناث] (2) والنباتات، ولهذا قال: { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي: لتعلموا أن الخالق واحدٌ لا شريك له.
{ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ } أي: الجئوا إليه، واعتمدوا في أموركم عليه، { إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ } .
{ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } أي: [و] (3) لا تشركوا به شيئا، { إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ } .
__________
(1) زيادة من م.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من م.

كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

{ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) }

يقول تعالى مسليا نبيه صلى الله عليه وسلم: وكما قال لك هؤلاء المشركون، قال المكذبون الأولون لرسلهم: { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } !.
قال الله تعالى: { أَتَوَاصَوْا بِهِ } أي: أوصى بعضُهم بعضا بهذه المقالة؟ " { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } أي: لكن هم قوم طغاة، تشابهت قلوبهم، فقال متأخرهم كما قال متقدمهم.
قال الله تعالى: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي: فأعرض عنهم يا محمد، { فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ } يعني: فما نلومك على ذلك.
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } أي: إنما تنتفع (1) بها القلوب المؤمنة.
ثم قال: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } أي: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { إِلا لِيَعْبُدُونِ } أي: إلا ليقروا بعبادتي طوعا أو كرها (2) وهذا اختيار ابن جرير.
وقال ابن جُرَيْج: إلا ليعرفون. وقال الربيع بن أنس: { إِلا لِيَعْبُدُونِ } أي: إلا للعبادة. وقال السدي: من العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع، { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ لقمان: 25 ] هذا منهم عبادة، وليس ينفعهم مع الشرك. وقال الضحاك: المراد بذلك المؤمنون.
وقوله: { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } قال (3) الإمام أحمد:
حدثنا يحيى بن آدم وأبو سعيد قالا حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد (4) ، عن عبد الله بن مسعود قال: أقرأني رسول الله (5) صلى الله عليه وسلم: "إني لأنا الرزاق ذو القوة المتين".
ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، من حديث إسرائيل، وقال الترمذي: حسن صحيح (6) .
ومعنى الآية: أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا عمران -يعني ابن زائدة بن نَشِيط-عن أبيه، عن أبي خالد -هو الوالبي-عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله: "يا ابن
__________
(1) في م، أ: "فإنما ينتفع".
(2) في م: "وكرها".
(3) في م: "وقال".
(4) في أ: "زيد".
(5) في م: "النبي".
(6) المسند (1/394) وسنن أبي داود برقم (3989) وسنن الترمذي برقم (2940) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11527).

آدم، تَفَرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غِنًى، وأسدّ فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك".
ورواه الترمذي وابن ماجه، من حديث عمران بن زائدة، وقال الترمذي: حسن غريب (1) .
وقد روى الإمام أحمد عن وكيع وأبي معاوية، عن الأعمش، عن سلام أبي شُرحْبِيل، سمعت حَبَّة وسواء ابني خالد يقولان: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمل عملا أو يبني بناء -وقال أبو معاوية: يصلح شيئا-فأعناه عليه، فلما فرغ دعا لنا وقال: "لا تيأسا من الرزق ما تهززت رءوسكما، فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة، ثم يعطيه الله ويرزقه" (2) . و [قد ورد] (3) في بعض الكتب الإلهية: "يقول الله تعالى: ابن آدم، خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب فاطلبني تجدني؛ فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء".
وقوله: { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا } أي: نصيبا من العذاب، { مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ } أي: فلا يستعجلون ذلك، فإنه واقع [بهم] (4) لا محالة.
{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } يعني: يوم القيامة.
آخر تفسير سورة الذاريات
__________
(1) المسند (2/358) وسنن الترمذي برقم (2466) وسنن ابن ماجه برقم (4107).
(2) المسند (3/469).
(3) زيادة من م، أ.
(4) زيادة من أ.

وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)

تفسير سورة الطور
وهي مكية
قال مالك، عن الزهري، عن محمد بن جُبَير بن مطعم، عن أبيه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فما سمعت أحدا أحسن صوتا -أو قراءة-منه.
أخرجاه من طريق مالك (1) وقال البخاري:
حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن محمد بن عبد الرحمن بن نَوْفَل، عن عُرْوَةَ، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي، فقال: "طُوفي من وراء الناس وأنت راكبة"، فطفت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور (2) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4845) وصحيح مسلم برقم (463).
(2) صحيح البخاري برقم (4853) وصحيح مسلم برقم (1276).

أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)

{ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) }
يقسم تعالى بمخلوقاته الدالة على قدرته العظيمة: أن عذابه واقع بأعدائه، وأنه لا دافع له عنهم. فالطور هو: الجبل الذي يكون فيه أشجار، مثل الذي كلم الله عليه موسى، وأرسل منه عيسى، وما لم يكن فيه شجر لا يسمى طورا، إنما يقال له: جبل .
{ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } قيل: هو اللوح المحفوظ. وقيل: الكتب المنزلة المكتوبة التي تقرأ على الناس جهارا؛ ولهذا قال: { فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ } . ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء -بعد مجاوزته إلى السماء السابعة-: "ثم رفع بي (1) إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم" يعني: يتعبدون فيه ويطوفون، كما
__________
(1) في م: "لي".

يطوف أهل الأرض بكعبتهم كذلك ذاك البيت، هو كعبة أهل السماء السابعة؛ ولهذا وجد إبراهيم الخليل، عليه السلام، مسندا ظهره إلى البيت المعمور؛ لأنه باني الكعبة الأرضية، والجزاء من جنس العمل، وهو بحيال الكعبة، وفي كل سماء بيت يتعبد فيه أهلها، ويصلون إليه، والذي في السماء الدنيا يقال له: بيت العزة. والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا روح بن جناح، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في السماء السابعة بيت يقال له: "المعمور"؛ بحيال الكعبة، وفي السماء الرابعة نهر يقال له: "الحيوان" يدخله جبريل كل يوم، فينغمس فيه انغماسة، ثم يخرج فينتفض انتفاضة يخر عنه سبعون ألف قطرة، يخلق الله من كل قطرة ملكا يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور، فيصلوا (1) فيه فيفعلون، ثم يخرجون فلا يعودون إليه أبدا، ويولي عليهم أحدهم، يؤمر أن يقف بهم من السماء موقفا يسبحون الله فيه إلى أن تقوم الساعة".
هذا حديث غريب جدا، تفرد به روح بن جناح هذا، وهو القرشي الأموي مولاهم أبو سعد الدمشقي، وقد أنكر هذا الحديث عليه جماعة من الحفاظ منهم: الجوزجاني، والعقيلي، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، وغيرهم.
قال الحاكم: لا أصل له من حديث أبي هريرة، ولا سعيد، ولا الزهري (2)
وقال ابن جرير: حدثنا هَنَّاد بن السُّريّ، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن خالد بن (3) عرعرة؛ أن رجلا قال لعلي: ما البيت المعمور؟ قال: بيت في السماء يقال له: "الضُّراح" وهو بحيال الكعبة من فوقها، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة، لا (4) يعودون فيه أبدا (5)
وكذا رواه شعبة وسفيان الثوري، عن سِمَاك وعندهما أن ابن الكواء هو السائل عن ذلك، ثم رواه ابن جرير عن أبي كُرَيب، عن طَلْق بن غنام، عن زائدة، عن عاصم، عن علي بن ربيعة قال: سأل ابن الكواء عليا عن البيت المعمور، قال: مسجد في السماء يقال له: "الضُّراح"، يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة، ثم لا يعودون فيه أبدا . ورواه من حديث أبي الطُّفَيْل، عن علي بمثله.
وقال العَوْفي عن ابن عباس: هو بيت حذاء العرش، تعمره الملائكة، يصلي فيه كل يوم سبعون
__________
(1) في م: "فيصلون".
(2) ورواه ابن عدي في الكامل (3/144) من طريق هشام بن عمار به، وقال: "سمعت ابن حماد يقول: قال السعدي: روح بن جناح ذكر عنالزهري حديثا معضلا في البيت المعمور" ثم ساقه بإسناده وتعقبه بقوله: "ولا يعرف هذا الحديث إلا بروح بن جناح عن الزهري".
(3) في م: "عن".
(4) في م: "ثم لا".
(5) تفسير الطبري (27/10)

ألفا من الملائكة ثم لا يعودون إليه، وكذا قال عكرمة، ومجاهد، والربيع بن أنس، والسدي، وغير واحد من السلف.
وقال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه: "هل تدرون ما البيت المعمور؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة، لو خر لخر عليها، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم".
وزعم الضحاك أنه يعمره طائفة من الملائكة يقال لهم: الحِن (1) ، من قبيلة إبليس (2) ، فالله أعلم.
وقوله: { وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ } : قال سفيان الثوري، وشعبة، وأبو الأحوص، عن سِمَاك، عن خالد بن عَرْعَرَة، عن علي: { وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ } يعني: السماء، قال سفيان: ثم تلا { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 32 ]. وكذا قال مجاهد، وقتادة، والسدي، وابن جُرَيْج، وابن زيد، واختاره ابن جرير.
وقال الربيع بن أنس: هو العرش يعني: أنه سقف لجميع المخلوقات، وله اتجاه، وهو يُراد مع غيره كما قاله الجمهور.
وقوله: { وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } : قال الربيع بن أنس: هو الماء الذي تحت العرش، الذي ينزل [الله] (3) منه المطر الذي يحيى به الأجساد في قبورها يوم معادها. وقال الجمهور: هو هذا البحر. واختلف في معنى قوله: { المسجور } ، فقال بعضهم: المراد أنه يوقد يوم القيامة نارا كقوله: { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } [ التكوير: 6 ] أي: أضرمت فتصير (4) نارا تتأجج، محيطة بأهل الموقف. رواه سعيد بن المسيب’ عن علي بن أبي طالب، ورُوي عن ابن عباس. وبه يقول سعيد بن جبير، ومجاهد، وعبد الله بن عبيد بن عُمير (5) وغيرهم.
وقال العلاء بن بدر: إنما سمي البحر المسجور لأنه لا يُشرب منه ماء، ولا يسقى به زرع، وكذلك البحار يوم القيامة. كذا رواه عنه ابن أبي حاتم.
وعن سعيد بن جُبير: { وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } يعني: المرسل. وقال قتادة: { [وَالْبَحْرِ] الْمَسْجُورِ } (6) المملوء. واختاره ابن جرير ووجهه بأنه ليس موقدا اليوم فهو مملوء.
وقيل: المراد به الفارغ، قال الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء، عن ذي الرمة، عن ابن عباس في قوله: { وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } قال: الفارغ؛ خرجت أمة تستسقي فرجعت فقالت: "إن الحوض مسجور"، تعني: فارغا. رواه ابن مردويه في مسانيد الشعراء.
__________
(1) في م، أ: "الجن".
(2) تفسير الطبري (27/11).
(3) زيادة من م، أ.
(4) في م: "فصيرت".
(5) في م: "وعبيد الله بن عمير".
(6) زيادة من م.

وقيل: المراد بالمسجور: الممنوع المكفوف عن الأرض؛ لئلا (1) يغمرها فيغرق أهلها . قاله (2) علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه يقول السدي وغيره، وعليه يدل الحديث الذي رواه الإمام أحمد، رحمه الله، في مسنده، فإنه قال:
حدثنا يزيد، حدثنا (3) العوام، حدثني شيخ كان مرابطا بالساحل قال: لقيت أبا صالح مولى عمر بن الخطاب فقال: حدثنا عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات، يستأذن الله أن ينفضخ (4) عليهم، فيكفه الله عز وجل" (5) .
وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي: حدثنا الحسن بن سفيان، عن إسحاق بن راهويه، عن يزيد -وهو ابن هارون-عن العوام بن حوشب، حدثني شيخ مرابط قال: خرجت ليلة لحرسي (6) لم يخرج أحد من الحرس غيري، فأتيت الميناء فصعدت، فجعل يخيل إليَّ أن البحر يشرف يحاذي رءوس الجبال، فعل ذلك مرارا وأنا مستيقظ، فلقيت أبا صالح فقال: حدثنا عمر بن الخطاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ليلة إلا والبحر يشرف ثلاث مرات، يستأذن الله أن ينفضخ عليهم، فيكفه الله عز وجل". فيه رجل مبهم لم يسم (7) .
وقوله: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } : هذا هو المقسم عليه، أي: الواقع (8) بالكافرين، كما قال في الآية الأخرى: { مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ } أي: ليس له دافع يدفعه عنهم إذا أراد الله بهم ذلك.
قال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن داود، عن صالح المري، عن جعفر بن (9) زيد العبدي قال: خرج عمر يَعِسّ المدينة ذات ليلة، فمر بدار رجل من المسلمين، فوافقه قائما يصلي، فوقف يستمع قراءته فقرأ: { والطور } حتى بلغ { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ } قال: قسم -ورب الكعبة-حق. فنزل عن حماره واستند إلى حائط، فمكث مليا، ثم رجع إلى منزله، فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه، رضي الله عنه (10) .
وقال الإمام أبو عبيد في "فضائل القرآن": حدثنا محمد بن صالح، حدثنا هشام بن حسان، عن الحسن: أن عمر قرأ: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ } (11) ، فربا لها ربوة عيد منها عشرين يوما (12) .
وقوله: { يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا } : قال ابن عباس وقتادة: تتحرك تحريكا. وعن ابن عباس: هو تشققها، وقال مجاهد: تدور دورا. وقال الضحاك: استدارتها وتحريكها لأمر الله، وموج بعضها في
__________
(1) في م: "لا".
(2) في م: "وقال".
(3) في م: "بن".
(4) في م: "ينفضح".
(5) المسند (1/43) ورواه من طريق ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/52) وقال: "العوام ضعيف، والشيخ مجهول".
(6) في م: "لمحرثي".
(7) وذكره المؤلف في مسند عمر (2/608) من رواية الإسماعيلي، وقال: "فيه رجل مبهم لم يسم، والله أعلم بحاله".
(8) في م: "واقع".
(9) في أ: "عن".
(10) وذكره المؤلف في مسند عمر (2/608) من رواية ابن أبي الدنيا وفي إسناده صالح المري، ووقع في مسند عمر "المدني" فإن كان المري فهو ضعيف.
(11) زيادة من م.
(12) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص 64).

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)

بعض. وهذا اختيار ابن جرير أنه التحرك (1) في استدارة . قال: وأنشد أبو عبيدة معمر بن المثنى بيت الأعشى:
كأن مشْيَتَها من بيتِ جَارتها ... مَورُ السحابة لا رَيْثٌ ولا عجل (2)
{ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا } أي: تذهب فتصير هباء منبثا، وتنسف نسفا .
{ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } أي: ويل لهم ذلك اليوم من عذاب الله ونكاله بهم، وعقابه لهم .
{ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } أي: هم في الدنيا يخوضون في الباطل، ويتخذون دينهم هزوا ولعبا.
{ يَوْمَ يُدَعُّونَ } أي: يدفعون ويساقون، { إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } : وقال مجاهد، والشعبي، ومحمد بن كعب، والضحاك، والسدي، والثوري: يدفعون فيها دفعا .
{ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } أي: تقول لهم الزبانية ذلك تقريعا وتوبيخا .
{ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا } أي: ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته { فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ } أي: سواء صبرتم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا، لا محيد لكم عنها ولا خلاص لكم منها (3) ، { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: ولا يظلم الله أحدا، بل يجازي كلا بعمله .
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) }
يخبر تعالى عن حال السعداء فقال: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ } ، وذلك بضد ما أولئك فيه من العذاب والنكال.
{ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } أي: يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم، من أصناف الملاذ، من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك، { وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أي: وقد نجاهم من عذاب النار، وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها مع ما أضيف إليها من دخول الجنة، التي فيها من السرور ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر .
وقوله: { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ، كقوله: { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ } [ الحاقة : 24 ]. أي هذا بذاك، تفضلا منه وإحسانا .
وقوله: { مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ } قال الثوري، عن حصين، عن مجاهد، عن ابن عباس: السرر في الحجال.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا صفوان بن عمرو؛ أنه سمع الهيثم بن
__________
(1) في م، أ: "المتحرك".
(2) البيت في تفسير الطبري (27/13).
(3) في أ: "فيها".

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)

مالك الطائي يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول عنه ولا يمله، يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه".
وحدثنا أبي، حدثنا هُدْبَة بن خالد، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت قال: بلغنا أن الرجل ليتكئ في الجنة سبعين سنة، عنده من أزواجه وخدمه وما أعطاه الله من الكرامة والنعيم، فإذا حانت منه نظرة فإذا أزواج له لم يكن رآهن قبل ذلك، فيقلن: قد آن لك أن تجعل لنا منك نصيبا.
ومعنى { مصفوفة } أي: وجوه بعضهم إلى بعض، كقوله: { عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } [ الصافات : 44 ]. { وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ } أي: وجعلناهم قرينات صالحات، وزوجات حسانا من الحور العين.
وقال مجاهد: { وزوجناهم } : أنكحناهم بحور عين، وقد تقدم وصفهن في غير موضع بما أغنى عن إعادته.
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) }
يخبر تعالى عن فضله وكرمه، وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه: أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يُلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه، بأن يرفع الناقص العمل، بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته، للتساوي بينه وبين ذاك؛ ولهذا قال: { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ }
قال الثوري، عن عمرو بن مُرَّة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل، لتقر بهم عينه ثم قرأ: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ }
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري، به . وكذا رواه ابن جرير من حديث شعبة عن عمرو بن مُرَّة به (1) . ورواه البزار، عن سهل بن بحر (2) ، عن الحسن بن حماد الوراق، عن قيس بن الربيع، عن عمرو بن مُرّة، عن سعيد، عن ابن عباس مرفوعا، فذكره، ثم قال: وقد رواه
__________
(1) تفسير الطبري (27/15).
(2) في أ: "يحيى".

الثوري، عن عمرو بن مرة، عن سعيد عن ابن عباس موقوفا (1) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد (2) البيروتي، أخبرني محمد بن شعيب (3) أخبرني شيبان، أخبرني ليث، عن حبيب بن أبي ثابت الأسدي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله، عز وجل: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } قال: هم ذرية المؤمن، يموتون على الإيمان: فإن كانت منازل آبائهم، أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم، ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوا شيئا.
وقال الحافظ الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التُّسْتَرِي، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن غَزْوان، حدثنا شريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -أظنه عن النبي صلى الله عليه وسلم-قال: "إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك. فيقول: يا رب، قد عملت لي ولهم. فيؤمر بإلحاقهم به، وقرأ ابن عباس { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ } الآية (4) .
وقال العَوْفي، عن ابن عباس في هذه الآية: يقول: والذين أدرك ذريتهم الإيمان فعملوا بطاعتي، ألحقتهم بإيمانهم إلى الجنة، وأولادهم الصغار تلحق بهم.
وهذا راجع إلى التفسير الأول، فإن ذاك مفسر أصرح من هذا. وهكذا يقول الشعبي، وسعيد بن جبير، وإبراهيم، وقتادة، وأبو صالح، والربيع بن أنس، والضحاك، وابن زيد. وهو اختيار ابن جرير. وقد قال عبد الله بن الإمام أحمد:
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا حمد بن فُضَيْل، عن محمد بن عثمان، عن زاذان، عن علي قال: سألتْ خديجة النبي صلى الله عليه وسلم، عن ولدين ماتا لها في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هما في النار". فلما رأى الكراهة في وجهها قال: "لو رأيت مكانهما لأبغضتهما". قالت: يا رسول الله، فولدي منك. قال: " في الجنة". قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [الآية] (5) (6) .
هذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء، وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء، فقد
__________
(1) مسند البزار برقم (2260) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/114): "فيه قيس بن الربيع وثقه شعبة والثوري، وفيه ضعف".
(2) في م، أ: "يزيد".
(3) في م: "شعبة".
(4) رواه الطبراني في المجمع الكبير (11/440) حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن غزوان به. ورواه في المعجم الصغير برقم (640) حدثنا عبد الله بن يزيد الدقيقي حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن غزوان به. ولم أجد رواية الحسين بن إبراهيم التستري.
(5) زيادة من م.
(6) زوائد عبد الله على المسند (1/134) وقال الهيثمي في المجمع (7/217): "فيه محمد بن عثمان ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح".

قال الإمام أحمد:
حدثنا يزيد، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب، أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك" (1) .
إسناده (2) صحيح، ولم يخرجوه من هذا الوجه، ولكن له شاهد في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (3)
وقوله: { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } لما أخبر عن مقام الفضل، وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل يقتضي ذلك، أخبر عن مقام العدل، وهو أنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد، بل { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } أي: مرتهن بعمله، لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس، سواء كان أبا أو ابنا، كما قال: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ } [ المدثر : 38 -41 ] .
وقوله: { وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ } أي: وألحقناهم بفواكه ولحوم من أنواع شتى، مما يستطاب ويشتهى.
وقوله { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا } أي: يتعاطون فيها كأسا، أي: من الخمر. قاله الضحاك. { لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ } أي: لا يتكلمون عنها (4) بكلام لاغ أي: هَذَيَان ولا إثم أي: فُحْش، كما تتكلم به الشربة من أهل الدنيا.
وقال ابن عباس: اللغو: الباطل. والتأثيم: الكذب.
وقال مجاهد: لا يستبون ولا يؤثمون.
وقال قتادة: كان ذلك في الدنيا مع الشيطان.
فنزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها، فنفى عنها -كما تقدم-صداع الرأس، ووجع البطن، وإزالة العقل بالكلية، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيئ الفارغ عن الفائدة المتضمن هَذَيَانا وفُحشا، وأخبر بحسن منظرها، وطيب طعمها ومخبرها فقال: { بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ } [ الصافات : 46 ، 47 ]، وقال { لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ } [ الواقعة : 19 ]، وقال هاهنا: { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ }
__________
(1) المسند (2/509).
(2) في م: "إسناد".
(3) صحيح مسلم برقم (1631).
(4) في م: "فيها".

فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)

وقوله: { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ } : إخبار عن خَدَمهم وحَشَمهم في الجنة كأنهم اللؤلؤ الرطب، المكنون في حسنهم وبهائهم (1) ونظافتهم وحسن ملابسهم، كما قال { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ } [ الواقعة : 17 ، 18 ] .
وقوله: { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } أي: أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، وهذا كما يتحادث أهل الشراب على شرابهم إذا أخذ فيهم الشراب بما كان من أمرهم .
{ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } أي: قد كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلنا خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه، { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } أي: فتصدق علينا وأجارنا مما نخاف.
{ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ } أي: نتضرع إليه فاستجاب [الله] (2) لنا وأعطانا سؤلنا، { إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ }
وقد ورد في هذا المقام حديث، رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده فقال: حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا سعيد بن دينار، حدثنا الربيع بن صبيح، عن الحسن، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان، فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا، فيتحدثان، فيتكئ هذا ويتكئ هذا، فيتحدثان بما كان في الدنيا، فيقول أحدهما لصاحبه: يا فلان، تدري أي يوم غفر الله لنا؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا، فدعونا الله -عز وجل-فغفر لنا".
ثم قال البزار: لا نعرفه يُرْوَى إلا بهذا الإسناد (3) .
قلت: وسعيد بن دينار الدمشقي قال أبو حاتم: هو مجهول، وشيخه الربيع بن صبيح قد تكلم فيه غير واحد من جهة حفظه، وهو رجل صالح ثقة في نفسه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأوْدِيّ، حدثنا وَكيع، عن الأعمش، عن أبي الضحَى، عن مسروق، عن عائشة؛ أنها قرأت هذه الآية: { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } فقالت: اللهم مُنَّ علينا وقنا عذاب السموم، إنك أنت البر الرحيم. قيل للأعمش: في الصلاة؟ قال: نعم (4) .
{ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) }
__________
(1) في م: "وبياضهم".
(2) زيادة من أ.
(3) مسند البزار برقم (3553) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (10/421): "رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن دينار والربيع بن صبيح وهما ضعيفان وقد وثقا".
(4) ورواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في شعيب الإيمان كما في الدر المنثور للسيوطي (7/634).

أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)

{ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) }

يقول (1) تعالى آمرا رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، بأن يبلغ رسالته إلى عباده، وأن يذكرهم بما أنزل الله عليه. ثم نفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور فقال: { فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ } أي: لست بحمد الله بكاهن كما تقوله (2) الجهلة من كفار قريش. والكاهن: الذي يأتيه الرئي من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء، { وَلا مَجْنُونٍ } : وهو الذي يتخبطه الشيطان من المس.
ثم قال تعالى منكرا عليهم في قولهم في الرسول، صلوات الله وسلامه عليه: { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } أي: قوارع الدهر. والمنون: الموت: يقولون: ننظره ونصبر عليه حتى يأتيه الموت فنستريح منه ومن شأنه، قال الله تعالى: { قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ } أي: انتظروا فإني منتظر معكم، وستعلمون لمن تكون العاقبة والنّصرة في الدنيا والآخرة.
قال محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس: إن قريشا لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم: احتبسوه (3) في وثاق، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك، كما هلك من هلك قبله من الشعراء: زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم. فأنزل الله في ذلك من قولهم: { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } (4) .
ثم قال تعالى: { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا } أي: عقولهم تأمرهم بهذا الذي يقولونه فيك من الأقوال الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور؟ { أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } أي: ولكن هم قوم ضلال معاندون، فهذا هو الذي يحملهم على ما قالوه فيك.
وقوله: { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } أي: اختلقه وافتراه من عند نفسه، يعنون القرآن: قال الله: { بَلْ لا يُؤْمِنُونَ } أي: كفرهم هو الذي يحملهم (5) على هذه المقالة. { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } أي: إن كانوا صادقين في قولهم: "تَقوَّله وافتراه" فليأتوا بمثل ما جاء به محمد [صلى الله عليه وسلم] (6) من هذا القرآن، فإنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض من الجن والإنس، ما جاءوا بمثله، ولا بعشر سور [من] (7) مثله، ولا بسورة من مثله.
__________
(1) في م: "قال".
(2) في م: "يقوله".
(3) في أ: "احبسوه".
(4) رواه الطبري في تفسيره (27/19) من طريق ابن إسحاق به
(5) في م: "حملهم"
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من م.

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)

{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) }
هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية، فقال تعالى: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } أي: أوجدوا من غير موجد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي: لا هذا ولا هذا، بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا.
قال البخاري: حدثنا الحُمَيديّ، حدثنا سفيان قال: حدثوني عن الزهري، عن محمد بن جبير ابن مطعم، عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ } كاد قلبي أن يطير (1) .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طرق، عن الزهري، به (2) . وجبير بن مطعم كان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسارى، وكان إذ ذاك مشركا، وكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك.
ثم قال تعالى: { أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ } أي: أهم خلقوا السموات والأرض؟ وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله، وهم يعلمون أنه الخالق وحده، لا شريك له. ولكن عدم إيقانهم هو الذي يحملهم على ذلك، { أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ } أي: أهم يتصرفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن، { أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ } أي: المحاسبون للخلائق، ليس الأمر كذلك، بل الله، عز وجل، هو المالك المتصرف الفعال لما يريد.
وقوله: { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } أي: مرقاة إلى الملأ الأعلى، { فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أي: فليأت الذي يستمع لهم بحجة ظاهرة.
على صحة ما هم فيه من الفعال والمقال، أي: وليس لهم سبيل إلى ذلك، فليسوا على شيء، ولا لهم دليل.
ثم قال منكرا عليهم فيما نسبوه إليه من البنات، وجعلهم الملائكة إناثا، واختيارهم لأنفسهم الذكور على الإناث، بحيث إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم. هذا وقد جعلوا الملائكة بنات الله، وعبدوهم مع الله، فقال: { أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ } وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا } أي: أجرة على إبلاغك إياهم رسالة الله؟ أي: لست تسألهم على ذلك شيئا، { فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ } أي: فهم (3) من أدنى شيء يتبرمون منه، ويثقلهم ويشق عليهم، { أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } أي: ليس الأمر كذلك، فإنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله، { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ } يقول تعالى: أم يريد هؤلاء بقولهم
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4854).
(2) صحيح البخاري برقم (765)، (4023) وصحيح مسلم برقم (463).
(3) في م، أ: "فإنهم".

وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

هذا في الرسول وفي الدين غرور الناس وكيد الرسول وأصحابه، فكيدهم إنما يرجع وباله على أنفسهم، فالذين كفروا هم المكيدون، { أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله. ثم نزه نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون، فقال: { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
{ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) }
يقول تعالى مخبرا عن المشركين بالعناد والمكابرة للمحسوس: { وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا } أي: عليهم يعذبون به، لما صدقوا ولما (1) أيقنوا، بل يقولون: هذا { سَحَابٌ مَرْكُومٌ } أي: متراكم. وهذه كقوله تعالى: { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ . لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ } [ الحجر : 14 ، 15 ] . قال الله تعالى: { فذرهم } أي: دعهم -يا محمد-{ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } ، وذلك يوم القيامة، { يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } أي: لا ينفعهم كيدهم ومكرهم الذي استعملوه في الدنيا، لا يُجدي عنهم يوم القيامة شيئا، { وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ }
ثم قال: { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ } أي: قبل ذلك في الدار الدنيا، كقوله: { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ السجدة : 21 ] ، ولهذا قال: { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي: نعذبهم في الدنيا، ونبتليهم فيها بالمصائب، لعلهم يرجعون وينيبون (2) ، فلا يفهمون ما يراد بهم، بل إذا جلي عنهم مما كانوا فيه، عادوا إلى أسوأ (3) ما كانوا عليه، كما جاء في بعض الأحاديث: "إن المنافق إذا مرض وعوفي مثله في ذلك كمثل البعير، لا يدري فيما عقلوه ولا فيما أرسلوه" (4) . وفي الأثر الإلهي: كم أعصيك ولا تعاقبني؟ قال الله: يا عبدي، كم أعافيك (5) وأنت لا تدري؟
وقوله: { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } أي: اصبر على أذاهم ولا تبالهم، فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا، والله يعصمك من الناس.
وقوله: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } قال الضحاك: أي إلى الصلاة: سبحانك اللهم
__________
(1) في م: "ولا".
(2) في أ: "ينسون"
(3) في أ: "أشر".
(4) رواه أبو داود في السنن برقم (3089) من حديث عامر الرام رضي الله عنه.
(5) في م، أ: "أعاقبك".

وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك.
وقد روي مثله عن الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهما.
وروى مسلم في صحيحه، عن عمر أنه كان يقول هذا في ابتداء الصلاة (1) . ورواه أحمد وأهل السنن، عن أبي سعيد وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك (2) .
وقال أبو الجوزاء: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } أي: من نومك من فراشك. واختاره ابن جرير: ويتأيد هذا القول بما رواه الإمام أحمد:
حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثني عُمَير (3) بن هانئ، حدثني جنادة بن أبي أمية، حدثنا عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي -أو قال: ثم دعا-استجيب له، فإن عزم فتوضأ، ثم صلى تقبلت صلاته" .
وأخرجه البخاري في صحيحه، وأهل السنن، من حديث الوليد بن مسلم، به (4) .
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } قال: من كل مجلس.
وقال الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } قال: إذا أراد الرجل أن يقوم من مجلسه قال: سبحانك اللهم وبحمدك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الدمشقي، حدثنا محمد ابن شعيب، أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء بن أبي رباح؛ أنه حدثه عن قول الله: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } يقول: حين تقوم من كل مجلس، إن كنت أحسنت ازددت خيرا، وإن كان غير ذلك كان هذا كفارة له.
وقد قال عبد الرزاق في جامعه: أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجَزَرِي، عن أبي عثمان الفقير؛ أن جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. قال معمر: وسمعت غيره يقول: هذا القول كفارة المجالس (5)
وهذا مرسل، وقد وردت أحاديث مسندة من طرق -يقوي بعضها بعضا-بذلك، فمن ذلك حديث ابن جُرَيْج، عن سُهَيْل بن (6) أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
__________
(1) صحيح مسلم برقم (399).
(2) المسند (3/50) وسنن أبي داود برقم (775) وسنن الترمذي برقم (242) وسنن النسائي (2/132) وسنن ابن ماجة برقم (804).
(3) في أ: "عمر".
(4) المسند (5/313) وصحيح البخاري برقم (1154) وسنن أبي داود برقم (5060) وسنن الترمذي برقم (3414) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10697) وسنن ابن ماجة برقم (3878).
(5) المصنف برقم (19796).
(6) في م: "عن".

من جلس في مجلس فكثر (1) فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر (2) له ما كان في مجلسه ذلك".
رواه الترمذي -وهذا لفظه-والنسائي في اليوم والليلة، من حديث ابن جريج. وقال الترمذي: حسن صحيح. وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال: إسناد على شرط مسلم، إلا أن البخاري علله (3) .
قلت: علله الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو حاتم، وأبو زُرَعة، والدارقطني، وغيرهم. ونسبوا الوهم فيه إلى ابن جُرَيْج. على أن أبا داود قد رواه في سننه من طريق غير (4) ابن جريج إلى أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه (5) ورواه أبو داود -واللفظ له-والنسائي، والحاكم في المستدرك، من طريق الحجاج بن دينار، عن هاشم (6) عن أبي العالية، عن أبي بَرْزَة الأسلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس: "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك". فقال رجل: يا رسول الله، إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى؟! قال: "كفارة لما يكون في المجلس" (7) .
وقد روي مرسلا عن أبي العالية، والله (8) أعلم. وهكذا رواه النسائي والحاكم، من حديث الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن رافع بن خَدِيج، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء (9) وروي مرسلا أيضا، والله أعلم. وكذا رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو؛ أنه قال: "كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات، إلا كفر بهن عنه، ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر، إلا ختم له بهن كما يختم بالخاتم على الصحيفة: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك" (10) وأخرجه الحاكم من حديث أم المؤمنين عائشة، وصححه، ومن رواية جُبَير بن مطعم (11) ورواه أبو بكر الإسماعيلي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أفردت لذلك جزءا على حدة بذكر طرقه وألفاظه وعلله، وما يتعلق به، ولله الحمد والمنة (12)
وقوله: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } أي: اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة في الليل، كما قال: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [ الإسراء : 79 ] .
__________
(1) في: "فأكثر".
(2) في م، أ: "إلا غفر الله له".
(3) سنن الترمذي برقم (3433) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10230) والمستدرك (1/536).
(4) في أ: "عن".
(5) سنن أبي داود برقم (4858).
(6) في أ: "عن أبي هاشم".
(7) سنن أبي داود برقم (4859) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10259) والمستدرك (1/537).
(8) في م: "فالله".
(9) النسائي في السنن الكبرى برقم (10260) والمستدرك (1/537).
(10) سنن أبي داود برقم (4857).
(11) المستدرك (1/537).
(12) وقد ذكرت أحاديث كفارة المجلس عند تفسير الصافات في خاتمتها.

وقوله: { وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } قد تقدم في حديث ابن عباس أنهما الركعتان اللتان قبل صلاة الفجر، فإنهما مشروعتان عند إدبار النجوم، أي: عند جنوحها للغيبوبة. وقد روى (1) [في حديث] (2) ابن سيلان، عن أبي هريرة مرفوعا: "لا تَدَعُوهما، وإن طردتكم الخيل". يعني: ركعتي الفجر (3) رواه أبو داود. ومن هذا الحديث حكي عن بعض أصحاب الإمام أحمد القول بوجوبهما، وهو ضعيف لحديث: "خمس صلوات في اليوم والليلة". قال: هل علي غيرها (4) ؟ قال: "لا إلا أن تطوع" (5) وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر (6) وفي لفظ لمسلم: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" (7)
آخر تفسير سورة الطور [ والله أعلم] (8)
__________
(1) في م، أ: "ورد".
(2) زيادة من م، أ.
(3) رواه أبو داود في السنن برقم (1258).
(4) في أ: "غيرهن".
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (46) ومسلم في صحيحه برقم (11) من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
(6) صحيح البخاري برقم (1169) وصحيح مسلم برقم (724).
(7) صحيح مسلم برقم (725).
(8) زيادة من أ.

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)

تفسير سورة النجم
وهي مكية.
قال البخاري: حدثنا نصر بن علي، أخبرني أبو أحمد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد، عن عبد الله قال: أولُ سورة أنزلت فيها سَجْدة: { والنَّجم } ، قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه، إلا رجلا رأيته أخذ كفًّا من تُرَاب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قُتِل كافرًا، وهو أمية بن خَلَف (1) .
وقد رواه البخاري أيضا في مواضع، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، من طرق، عن أبي إسحاق، به (2) . وقوله في الممتنع: إنه أمية بن خلف في هذه الرواية مشكل، فإنه قد جاء من غير هذه الطريق أنه عتبة بن ربيعة.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى (4) } .
قال الشعبي وغيره: الخالق يُقسِم بما شاء من خَلْقه، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق. رواه ابن أبي حاتم.
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } فقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: يعني بالنجم: الثُّريَّا إذا سقطت مع الفجر. وكذا رُوي عن ابن عباس، وسفيان الثوري. واختاره ابن جرير. وزعم السدي أنها الزهرة.
وقال الضحاك: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } إذا رُمي به الشياطين. وهذا القول له اتجاه.
وروى الأعمش، عن مجاهد في قوله: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } يعني: القرآن إذا نزل. وهذه الآية كقوله تعالى: { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ . وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ . إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ . لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ . تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الواقعة: 75 -80 ] .
وقوله: { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } هذا هو المقسم عليه، وهو الشهادة للرسول، صلوات الله وسلامه عليه، بأنه بار راشد تابع للحق، ليس بضال، وهو: الجاهل الذي يسلك على غير طريق
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4863).
(2) صحيح البخاري برقم (1070، 3853، 3972) وصحيح مسلم برقم (576) وسنن أبي داود برقم (1406) وسنن النسائي (2/160).

بغير علم، والغاوي: هو العالم بالحق العادل عنه قصدًا إلى غيره، فنزه الله [سبحانه وتعالى] (1) رسوله وشَرْعَه عن مشابهة أهل (2) الضلال كالنصارى وطرائق اليهود، وعن (3) علم الشيء وكتمانه والعمل بخلافه، بل هو صلوات الله وسلامه عليه، وما بعثه الله به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد؛ ولهذا قال: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } أي: ما يقول قولا عن هوى وغرض، { إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } أي: إنما يقول ما أمر به، يبلغه إلى الناس كاملا موفَّرًا من غير زيادة ولا نقصان، كما رواه الإمام أحمد.
حدثنا يزيد، حدثنا حَرِيز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن مَيْسَرَة، عن أبي أمامة؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليدخلنّ الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثلُ الحيين -أو: مثل أحد الحيين-: رَبِيعة ومُضَر". فقال رجل: يا رسول الله، أو ما ربيعة من مضر؟ قال: "إنما أقول ما أقول" (4) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عُبَيد الله بن الأخنس، أخبرنا الوليد بن عبد الله، عن يوسف بن مَاهَك، عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، يتكلم في الغضب. فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "اكتب، فوالذي نفسي بيده، ما خرج مني إلا حق".
ورواه أبو داود عن مُسَدَّد وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن يحيى بن سعيد القَطَّان، به (5) .
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، عن ابن عَجْلان، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أخبرتكم أنه الذي من عند الله، فهو الذي لا شَكّ فيه". ثم قال: لا نعلمه يُروَى إلا بهذا الإسناد (6) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا ليث، عن محمد، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أقول إلا حقا". قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال: "إني لا أقول إلا حقا" (7) .
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م: "أصحاب".
(3) في م: "وهي".
(4) المسند (5/257) وقال الهيثمي في المجمع (10/381): "رجال أحمد رجال الصحيح غير عبد الرحمن بن ميسرة وهو ثقة".
(5) المسند (2/162) وسنن أبي داود برقم (3646).
(6) مسند البزار برقم (203) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (1/179): "فيه أحمد بن منصور الرمادي وهو ثقة، وفيه كلام لا يضر وبقية رجاله رجال الصحيح، وعبد الله بن صالح مختلف فيه".
(7) المسند (2/340) ورواه الترمذي في السنن برقم (1990) من طريق المقبري به وقال: "هذا حديث حسن صحيح".

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)

{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) } .
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه عَلَّمه الذي جاء به إلى الناس { شَدِيدُ الْقُوَى } ، وهو جبريل، عليه السلام، كما قال: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ . ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ . مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [ التكوير: 19 -21 ] .
وقال هاهنا: { ذُو مِرَّةٍ } أي: ذو قوة. قاله مجاهد، والحسن، وابن زيد. وقال ابن عباس: ذو منظر حسن.
وقال قتادة: ذو خَلْق طويل حسن.
ولا منافاة بين القولين؛ فإنه، عليه السلام، ذو منظر حسن، وقوة شديدة. وقد ورد في الحديث الصحيح من رواية أبي هريرة وابن عمرو (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحل الصدقة لغنيٍّ، ولا لِذِي مرّة سَوِيّ" (2) .
وقوله: { فَاسْتَوَى } يعني: جبريل، عليه السلام. قاله مجاهد والحسن وقتادة، والربيع بن أنس.
{ وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى } يعني: جبريل، استوى في الأفق الأعلى. قاله عكرمة وغير واحد. قال عكرمة: والأفق الأعلى: الذي يأتي منه الصبح. وقال مجاهد: هو مطلع الشمس. وقال قتادة: هو الذي يأتي منه النهار. وكذا قال ابن زيد، وغيرهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا مُصَرِّف بن عمرو اليامي أبو القاسم، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن طلحة بن مصرف، حدثني أبي، عن الوليد -هو ابن قيس-عن إسحاق بن أبي الكَهْتَلَة أظنه ذكره عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين، أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق. وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد، فذلك (3) قوله: { وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى } .
وقد قال ابن جرير هاهنا قولا لم أره لغيره، ولا حكاه هو عن أحد، وحاصله: أنه ذهب إلى أن المعنى: { فَاسْتَوَى } أي: هذا الشديد القوى ذو المرة هو ومحمد صلى الله عليهما وسلم { بِالأفُقِ الأعْلَى } أي: استويا جميعا بالأفق، وذلك ليلة الإسراء كذا قال، ولم يوافقه أحد على ذلك. ثم
__________
(1) في م: "ابن عمرو وأبي هريرة".
(2) حديث عبد الله بن عمرو: رواه أبو داود في السنن برقم (1634) والترمذي في السنن برقم (652) عن ريحان بن يزيد عنه وحديث أبي هريرة: رواه النسائي في السنن (5/99) وابن ماجه في السنن برقم (1839) عن سالم بن أبي الجعد عنه.
(3) في م: "فكذلك".

شرع يوجه ما قال من حيث العربية فقال: وهذا كقوله تعالى: { أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا } [ النمل:67 ]، فعطف بالآباء على المكنّى في { كنا } من غير إظهار "نحن"، فكذلك قوله: { فَاسْتَوَى . وَهُوَ } قال: وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده:
ألم تَرَ أنّ النبعَ يَصْلُبُ عُودُه ... ولا يَسْتَوي والخرْوعُ المُتَقصِّفُ (1)
وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك؛ فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء، بل قبلها، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، فهبط عليه جبريل، عليه السلام، وتدلى إليه، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، يعني ليلة الإسراء، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة بعد ما جاءه جبريل، عليه السلام، أول مرة، فأوحى الله إليه صدر سورة "اقرأ"، ثم فتر الوحي فترة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مرارا ليتردى من رؤوس الجبال، فكلما هَمّ بذلك ناداه جبريل من الهواء: "يا محمد، أنت رسول الله حقا، وأنا جبريل". فيسكن لذلك جأشه، وتقر عينه، وكلما طال عليه الأمر عاد لمثلها، حتى تَبَدّى له جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأبطح في صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح قد سد عُظْم خلقه الأفق، فاقترب منه (2) وأوحى إليه عن الله، عز وجل، ما أمره به، فعرف عند ذلك عظمة المَلَك الذي جاءه بالرسالة، وجلالة قَدْره، وعلوّ مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه. فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حيث قال:
حدثنا سلمة بن شَبِيب، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا الحارث بن عبيد، عن أبي عمران الجَوْني، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا قاعد إذ جاء جبريل، عليه السلام، فوَكَز بين كتفي، فقمت إلى شجرة فيها كَوَكْرَي الطير، فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر. فَسَمَت وارتفعت حتى سَدّت الخافقين وأنا أقلب طرفي، ولو شئت أن أمس السماء لمسست، فالتفت إلي جبريل كأنه حلْس لاطٍ (3) ، فعرفتُ فضل علْمه بالله علي. وفُتِح لي بابٌ من أبواب السماء ورأيت النور الأعظم، وإذا دون الحجاب رفرفة الدر والياقوت. وأوحى إلي ما شاء الله أن يوحي".
ثم قال البزار: لا يرويه إلا الحارث بن عبيد، وكان رجلا مشهورا من أهل البصرة (4) .
قلت: الحارث بن عُبَيد هذا هو أبو قدامة الإيادي، أخرج له مسلم في صحيحه إلا أن ابن معين ضعَّفه، وقال: ليس هو بشيء. وقال الإمام أحمد: مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم الرازي: كتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان: كَثُر وَهَمه فلا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. فهذا الحديث من غرائب رواياته، فإن فيه نكارة وغرابة ألفاظ وسياقًا عجيبا، ولعله منام، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا شريك، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (27/25) وهو لجرير بن عطية.
(2) في م: "وأقرب منه".
(3) في م: "لاطي".
(4) مسند البزار برقم (58).

قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سَدّ الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم (1) . انفرد به أحمد (2) .
وقال أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن إدريس بن مُنَبِّه، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أن يراه في صورته، فقال: ادع ربك. فدعا ربه، عز وجل، فطلع عليه سواد من قبل المشرق، فجعل يرتفع وينتشر، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم صعِق، فأتاه فَنَعَشَه ومسح البزاق عن شِدْقه.
انفرد به أحمد (3) . وقد رواه ابن عساكر في ترجمة "عتبة بن أبي لهب"، من طريق محمد بن إسحاق، عن عثمان بن عروة بن الزبير، عن أبيه، عن هَبَّار بن الأسود قال: كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام، فتجهزت معهما، فقال ابنه عتبة: والله لأنطلقن إلى محمد ولأوذينه في ربه، سبحانه، فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، هو يكفر بالذي دنى فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم ابعث إليه كلبا من كلابك". ثم انصرف عنه فرجع إلى أبيه فقال: يا بني، ما قلت له؟ فذكر له ما قال له، قال: فما قال لك؟ قال: قال: "اللهم سلط عليه كلبا من كلابك" قال: يا بني، والله ما آمنُ عليك دُعاءه. فسرنا حتى نزلنا الشراة، وهي مأْسَدَة، ونزلنا إلى صَوْمَعة راهب، فقال الراهب: يا معشر العرب، ما أنزلكم هذه البلاد فإنها تسرح الأسْدُ فيها كما تسرح الغنم؟ فقال لنا أبو لهب: إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوةً -والله-ما آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة، وافرشوا لابني عليها، ثم افرشوا حولها. ففعلنا، فجاء الأسد فَشَمّ وجوهنا، فلما لم يجد ما يريد تَقَبّض، فوثب، فإذا هو فوق المتاع، فشم وجهه ثم هزمه هَزْمة فَفَضخ رأسه. فقال أبو لهب: قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد (4) .
وقوله: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } أي: فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض، حتى كان بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أي: بقدرهما إذا مُدّا. قاله (5) مجاهد، وقتادة.
وقد قيل: إن المراد بذلك بُعدُ ما بين وتر القوس إلى كبدها.
وقوله: { أَوْ أَدْنَى } قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه، كقوله: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة: 74 ]، أي: ما هي بألين من الحجارة، بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة. وكذا قوله: { يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [ النساء: 77 ]، وقوله: { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات: 147]،
__________
(1) في أ: "أعلم".
(2) المسند (1/395).
(3) المسند (1/322).
(4) لم أجد ترجمة عتبة بن أبي لهب في تاريخ دمشق المخطوط ولا في مختصره لابن منظور.
(5) في م: "قال".

أي: ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة، أو يزيدون عليها. فهذا تحقيق للمخبر به لا شك ولا تردد (1) ، فإن هذا ممتنع هاهنا، وهكذا هذه الآية: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } .
وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم، إنما هو جبريل، عليه السلام، هو قول أم المؤمنين عائشة، وابن مسعود، وأبي ذر، وأبي هريرة، كما سنورد أحاديثهم قريبا إن شاء الله. وروى مسلم في صحيحه، عن ابن عباس أنه قال: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين" (2) . فجعل هذه إحداهما. وجاء في حديث شريك بن أبي نمر، عن أنس في حديث الإسراء: "ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى" ولهذا تكلم (3) كثير من الناس في متن هذه الرواية، وذكروا أشياء فيها من الغرابة، فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أخرى، لا أنها تفسير لهذه الآية؛ فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء؛ ولهذا قال بعده: { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } ، فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض.
وقد قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا سليمان الشيباني، حدثنا زر بن حبيش قال: قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت جبريل له ستمائة جناح" (4) .
وقال ابن وهب: حدثنا ابن لَهِيعة، عن أبي الأسود، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت: كان أولَ شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى في منامه جبريل بأجياد، ثم إنه خرج ليقضي حاجته فصرخ به جبريل: يا محمد، يا محمد. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينا وشمالا فلم ير شيئًا (5) -ثلاثا-ثم رفع بصره فإذا هو ثان إحدى رجليه مع (6) الأخرى على أفق السماء فقال: يا محمد، جبريل، جبريلُ -يُسكّنه-فهرب النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخل في الناس، فنظر فلم ير شيئًا، ثم خرج من الناس، ثم نظر فرآه، فدخل في الناس فلم ير شيئًا، ثم خرج فنظر فرآه، فذلك قول الله عز وجل: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . [مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (7) ] } إلى قوله: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } يعني جبريل إلى محمد، { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } : ويقولون: القاب نصف الأصبع. وقال بعضهم: ذراعين كان بينهما.
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث ابن وهب (8) . وفي حديث الزهري عن أبي سلمة، عن جابر شاهد لهذا.
وروى البخاري عن طَلْق بن غنام، عن زائدة، عن الشيباني قال: سألت زرًّا عن قوله:
__________
(1) في م، أ: "ولا ترديد".
(2) صحيح مسلم برقم (176).
(3) في م: "ولهذا قد تكلم".
(4) تفسير الطبري (27/27).
(5) في م: "أحدا".
(6) في م، أ: "على".
(7) زيادة من م.
(8) تفسير الطبري (27/27).

{ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى . فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } قال: حدثنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح (1) .
وقال ابن جرير: حدثني ابن بَزِيع البغدادي، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله: { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلتا (2) رفرف، قد ملأ ما بين السماء والأرض (3) .
فعلى ما ذكرناه يكون قوله: { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } معناه: فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى. أو: فأوحى الله إلى عبده محمد ما أوحى بواسطة جبريل وكلا المعنيين صحيح، وقد ذُكر عن سعيد بن جبير في قوله: { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } ، قال: أوحى إليه: "ألم أجدك يتيما" { ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ الشرح: 4 ] .
وقال غيره: أوحى [الله] (4) إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.
وقوله: { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } قال مسلم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وَكيع، حدثنا الأعمش، عن زياد بن حُصَين، عن أبي العالية، عن ابن عباس: { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } ، { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى } قال: رآه بفؤاده مرتين (5) .
وكذا رواه سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله. وكذا قال أبو صالح والسّدي وغيرهما: إنه رآه بفؤاده مرتين [أو مرة] (6) ، وقد خالفه ابن مسعود وغيره (7) ، وفي رواية عنه أنه أطلق الرؤية، وهي محمولة على المقيدة بالفؤاد. ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب، فإنه لا يصح في ذلك شيء عن الصحابة، رضي الله عنهم، وقولُ البغوي في تفسيره: وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه، وهو قول أنس والحسنُ وعكرمة. فيه نظر، والله أعلم (8) .
وقال الترمذي: حدثنا محمد بن عمرو بن نَبْهان (9) بن صفوان، حدثنا يحيى بن كثير العنبري، عن سَلْم بن جعفر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه. قلت: أليس الله يقول: { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } [الأنعام: 103] قال: ويحك! ذاك إذا تَجَلى بنوره الذي هو نُورُه، وقد رأى ربه مرتين.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4857).
(2) في م، أ: "ليا".
(3) تفسير الطبري (27/29).
(4) زيادة من أ.
(5) صحيح مسلم برقم (176).
(6) زيادة من م.
(7) في م: "ابن عمرو عنه".
(8) انظر تفسير البغوي (7/403).
(9) في م: "منهال".

ثم قال: حسن غريب (1) .
وقال أيضا: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن مجالد، عن الشعبي قال: لقي ابن عباس كعبًا بعرفة، فسأله عن شيء فكَبَّر حتى جاوبته الجبال، فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم فقال كعب: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى، فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين. وقال مسروق: دخلتُ على عائشة فقلت: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد تكلمت بشيء قَفَّ له شعري. فقلت: رُوَيدًا، ثم قرأتُ: { لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى }
فقالت: أين يُذهَبُ بك؟ إنما هو جبريل من أخبرك أن محمدا رأى ربه أو كتم شيئا مما أمرَ به، أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ } [لقمان:34]، فقد أعظم الفرية (2) ، ولكنه رأى جبريل، لم يره في صورته إلا مرتين، مرة عند سدرة المنتهى ومرة في جياد (3) ، وله ستمائة جناح قد سد الأفق (4) .
وقال النسائي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الحُلَّة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد، عليهم السلام؟! (5) .
وفي صحيح مسلم، عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل رأيتَ ربك؟ فقال: "نورٌ أنّى أراه". وفي رواية: "رأيت نورا" (6) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد، عن موسى بن عُبيدةَ، عن محمد بن كعب قال: قالوا: يا رسول الله، رأيت (7) ربك؟ قال: "رأيته بفؤادي مرتين" ثم قرأ: { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } .
ورواه ابنُ جرير، عن ابن حُمَيد، عن مِهْرَان، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلنا: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ قال: "لم أره بعيني، ورأيته بفؤادي مرتين" ثم تلا { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } (8) .
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3279).
(2) في م: "أعظم على الله الفرية".
(3) في م: "أجنادين".
(4) سنن الترمذي برقم (3278).
(5) النسائي في السنن الكبرى برقم (11539).
(6) صحيح مسلم برقم (178).
(7) في أ: "هل رأيت".
(8) تفسير الطبري (27/27).

ثم قال ابن أبي حاتم: وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، أخبرني عَبَّاد بن منصور قال: سألت عكرمة: { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } ، فقال عكرمة: تريد أن أخبرك أنه قد رآه؟ قلت: نعم. قال: قد رآه، ثم قد رآه. قال: فسألت عنه الحسن فقال: رأى جلاله وعَظَمته ورِداءَه.
وحدثنا أبي، حدثنا محمد بن مجاهد، حدثنا أبو عامر العقدي، أخبرنا أبو خلدة، عن أبي العالية قال: سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: "رأيت نهرا، ورأيت وراء النهر حجابا، ورأيت وراء الحجاب نورا لم أر غير" (1) .
وذلك غريب جدا، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا أسود بن عامر، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ربي عز وجل" (2) .
فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح، لكنه مختصر من حديث المنام كما رواه الإمام أحمد أيضا:
حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن أيوب، عن أبي قِلابة عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني ربي الليلة في أحسن صورة -أحسبه يعني في النوم-فقال: يا محمد، أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟" قال: "قلت: لا. فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بَرْدَها بين ثدييّ -أو قال: نَحْرِي-فعلمت ما في السموات وما في الأرض، ثم قال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟" قال: "قلت: نعم، يختصمون في الكفارات والدرجات". قال: "وما الكفارات والدرجات؟" قال: "قلت: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجُمُعات (3) ، وإبلاغ الوضوء في المكاره، من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه. وقال: قل يا محمد إذا صليت: اللهم، إني أسألك الخيرات (4) وترك المنكرات، وحبّ المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون". قال: "والدرجات بَذْلُ الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام" (5) .
وقد تقدم في آخر سورة "ص"، عن معاذ نحوه (6) . وقد رواه ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس، وفيه سياق آخر وزيادة غريبة فقال:
حدثني أحمد بن عيسى التميمي، حدثني سليمان بن عُمَر بن سَيَّار، حدثني أبي، عن سعيد بن زَرْبِي، عن عمر بن سليمان (7) ، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت ربي في
__________
(1) ورواه ابن المنذر كما في الدر المنثور (7/648) وهو مرسل.
(2) المسند (1/285).
(3) في هـ، أ: "الجماعات".
(4) في م: "إني أسألك فعل الخيرات".
(5) المسند (1/368).
(6) انظر تفسير الآية: 69 من سورة "ص".
(7) في أ: "سليم".

أحسن صورة فقال لي: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: لا يا رب. فوضع يده بين كتفي فوجدت بَرْدَها بين ثدييّ، فعلمت ما في السموات والأرض، فقلت: يا رب، في الدرجات والكفارات، ونقل الأقدام إلى الجُمُعات (1) ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. فقلت: يا رب إنك اتخذت إبراهيم خليلا وكلمتَ موسى تكليما، وفعلت وفعلت، فقال: ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أضع عنك وِزْرَك؟ ألم أفعل بك؟ ألم أفعل؟ قال: "فأفضى إلي بأشياء لم يؤذن لي أن أحدثكموها" قال: "فذاك قوله في كتابه: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } ، فجعل نور بصري في فؤادي، فنظرت إليه بفؤادي". إسناده ضعيف (2) .
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر بسنده إلى هَبَّار بن الأسود، رضي الله عنه؛ أن عتبة بن أبي لهب لما خرج في تجارة إلى الشام قال لأهل مكة: اعلموا أني كافر بالذي دنا فتدلى. فبلغ قوله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "سَلَّطَ الله عليه كلبا من كلابه". قال هبار: فكنت معهم، فنزلنا بأرض كثيرة الأسد، قال: فلقد رأيت الأسد جاء فجعل يشم رؤوس القوم واحدا واحدا، حتى تخطى إلى عتبة فاقتطع رأسه من بينهم (3) .
وذكر ابن إسحاق وغيره في السيرة: أن ذلك كان بأرض الزرقاء، وقيل: بالسراة، وأنه خاف ليلتئذ، وأنهم جعلوه بينهم وناموا من حوله، فجاء الأسد فجعل يزأر، ثم تخطاهم إليه فضغم رأسه، لعنه الله.
وقوله: { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } ، هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، وكانت ليلة الإسراء. وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الإسراء بطرقها وألفاظها في أول سورة "سبحان" بما أغنى عن إعادته هاهنا، وتقدم أن ابن عباس، رضي الله عنهما، كان يثبت الرؤية ليلة الإسراء، ويستشهد بهذه الآية. وتابعه جماعة من السلف والخلف، وقد خالفه جماعات من الصحابة، رضي الله عنهم، والتابعين وغيرهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بَهْدَلَة، عن زر بن حُبَيْش، عن ابن مسعود في هذه الآية: { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت جبريل وله ستمائة جناح، ينتثر من ريشه التهاويل: الدرّ والياقوت" (4) . وهذا إسناد جيد قوي.
وقال أحمد أيضا: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا شريك، عن جامع بن أبي راشد، عن أبي وائل،
__________
(1) في أ: "الجماعات".
(2) تفسير الطبري (27/28).
(3) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (27/63) ولم يقع لي في ترجمته فيما بين يدي من مخطوطات تاريخ دمشق.
(4) المسند (1/460).

عن عبد الله قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق: يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم" (1) . إسناده حسن أيضا.
وقال أحمد أيضا: حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثني حسين، حدثني عاصم بن بَهْدَلَة قال: سمعت شَقِيق بن سلمة يقول: سمعت ابن مسعود يقول قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت جبريل على سدرة (2) المنتهى وله ستمائة جناح" سألت عاصما عن الأجنحة فأبى أن يخبرني. قال: فأخبرني بعض أصحابه أن الجناح ما بين المشرق والمغرب (3) . وهذا أيضا إسناد جيد.
وقال أحمد: حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا حسين، حدثني عاصم بن بَهْدَلَة (4) ،حدثني (5) شقيق (6) قال: (7) سمعت ابن مسعود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل، عليه السلام، في خُضر معلق به الدر (8) " (9) . إسناده جيد أيضا.
وقال الإمام أحمد: حدثني يحيى عن إسماعيل، حدثنا عامر قال: أتى مسروقُ عائشة فقال: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل؟ قالت: سبحان الله لقد قَفّ شعري لما قلت، أين أنت من ثلاث من حَدّثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمدًا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } [ الأنعام: 103 ]، { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } [ الشورى: 51 ]، ومن أخبرك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ } الآية [ لقمان:34 ]، ومن أخبرك أن محمدا قد كتم (10) ، فقد كذب، ثم قرأت: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } [ المائدة: 67 ]، ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين (11) .
وقال أحمد أيضا: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق قال: كنت عند عائشة فقلت: أليس الله يقول: { وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ } [ التكوير:23 ]، { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى } فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل (12) رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: "إنما ذاك جبريل". لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين، رآه منهبطا من السماء إلى الأرض، سادًّا عُظْمُ خلقه ما بين السماء والأرض.
أخرجاه في الصحيحين، من حديث الشعبي، به (13) .
رواية أبي ذر، قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن عبد الله بن شقيق
__________
(1) لم أجده في المسند وذكره الحافظ ابن حجر في أطرف المسند (4/158).
(2) في م: "السدرة".
(3) المسند (1/407).
(4) في أ: "حصين".
(5) في م: "قال سمعت".
(6) في م: "شقيق بن سلمة".
(7) في م، أ: "يقول".
(8) في م: "الدر به".
(9) المسند (1/407).
(10) في أ: "كتم شيئا من الوحي".
(11) المسند (6/49).
(12) في أ: "سألت".
(13) المسند (6/241) وصحيح البخاري برقم (4855) وصحيح مسلم برقم (177) بنحوه.

قال: قلت لأبي ذر: لو رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. قال: وما كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله: هل رأى ربه، عز وجل؟ فقال: إني قد سألته فقال: "قد رأيته، نورا أنى أراه" (1) .
هكذا وقع في رواية الإمام أحمد، وقد أخرجه مسلم من طريقين بلفظين فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وَكِيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: "نور أنى أراه".
وقال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: قلت: كنت أسأله: هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر: قد سألت فقال: "رأيت نورا" (2) .
وقد حكى الخلال في "علله" أن الإمام أحمد سُئل عن هذا الحديث فقال: ما زلتُ منكرا له، وما أدري ما وجهه (3) .
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عون الواسطي، أخبرنا هُشَيْم، عن منصور، عن الحكم، عن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي ذر قال: رآه بقلبه، ولم يره بعينه.
وحاول ابن خُزَيمة أن يدعي انقطاعه بين عبد الله بن شَقِيق وبين أبي ذر، وأما ابن الجوزي فتأوله على أن أبا ذر لعله سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء، فأجابه بما أجابه به، ولو سأله بعد الإسراء لأجابه بالإثبات. وهذا ضعيف جدا، فإن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، قد سألت عن ذلك بعد الإسراء، ولم يثبت لها الرؤية. ومن قال: إنه خاطبها على قدر عقلها، أو حاول تخطئتها فيما ذهبت إليه -كابن خُزيمة في كتاب التوحيد (4) -، فإنه هو المخطئ، والله أعلم.
وقال النسائي: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشام (5) ، عن منصور، عن الحكم، عن يزيد بن شريك، عن أبي ذر قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه، ولم يره ببصره (6) .
وقد ثبت في صحيح مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن علي بن مُسْهِر، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه قال في قوله: { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى } ، قال: رأى جبريل (7) ، عليه السلام (8) .
وقال مجاهد في قوله: { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى } قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته مرتين، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس، وغيرهم.
__________
(1) المسند (5/147).
(2) صحيح مسلم برقم (178).
(3) ووجه الإنكار لا محل له في المتن، فإن له شواهد وهو دليل على نفي الرؤية في الدنيا.
(4) التوحيد لابن خزيمة (ص205، 206) (ص225).
(5) في م، أ: "هشيم".
(6) النسائي في السنن الكبرى برقم (11536).
(7) في أ: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل".
(8) صحيح مسلم برقم (175).

وقوله تعالى: { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } : قد تقدم في أحاديث الإسراء أنه غشيتها الملائكة مثل الغِربان، وغشيها نور الرب، وغشيها ألوان ما أدري ما هي.
وقال الإمام أحمد: حدثنا مالك بن مِغْوَل، حدثنا الزبير بن عدي، عن (1) طلحة، عن مرة، عن عبد الله-هو ابن مسعود-قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السابعة (2) ، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها، { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } قال: فراش من ذهب، قال: وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغُفر لمن لا يشرك بالله شيئًا من أمته المُقحمات. انفرد به مسلم (3) .
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي هريرة أو غيره -شك أبو جعفر-قال: لما أسري برسول الله انتهى إلى السدرة، فقيل له: هذه السدرة [قال]: (4) فغشيها نور الخلاق، وغشيتها الملائكة مثل الغربان حين يقعن على الشجر، قال: فكلمه عند ذلك، فقال له: سل.
وقال (5) ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } قال: كان أغصان السدرة لؤلؤا وياقوتا وزبرجدا، فرآها محمد، ورأى ربه بقلبه.
وقال ابن زيد: قيل: يا رسول الله، أيّ شيء رأيت يغشى تلك السدرة؟ قال: "رأيتُ يغشاها فَرَاشٌ من ذهب، ورأيت على كل ورقة من ورقها مَلَكا قائما يسبح الله، عز وجل" (6) .
وقوله: { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } قال ابن عباس: ما ذهب يمينا ولا شمالا { وَمَا طَغَى } ما جاوز ما أمر به.
وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة، فإنه ما فعل إلا ما أمر به، ولا سأل فوق ما أعطي. وما أحسن ما قال الناظم:
رأَى جَنَّةَ المَأوَى وَمَا فَوْقَها، وَلَو ... رَأى غَيرُهُ ما قَد رَآه لتَاهَا ...
وقوله: { لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } ، كقوله: { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا } [ طه: 23 ] (7) أي: الدالة على قدرتنا وعظمتنا. وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة أن الرؤية تلك الليلة لم تقع؛ لأنه قال: { لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } ، ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك ولقال ذلك للناس، وقد تقدم تقرير ذلك في سورة "سبحان" وقد قال الإمام أحمد:
حدثنا أبو النضر، حدثنا محمد بن طلحة، عن الوليد بن قيس، عن إسحاق بن أبي الكَهْتَلة (8)
__________
(1) في أ: "بن".
(2) في م: "السادسة".
(3) المسند (1/422) وصحيح مسلم برقم (173).
(4) زيادة من أ.
(5) في م: "فقال".
(6) وهذا من مراسيل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف.
(7) في م: "لنريه".
(8) في م، أ: "الكهبلة".

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)

قال محمد: أظنه عن ابن مسعود -أنه قال: إن محمدا لم ير جبريل في صورته إلا مرتين، أما مرة فإنه سأله أن يُريه نفسه في صورته، فأراه صورته فسد الأفق. وأما الأخرى فإنه صَعد معه حين صعد به. وقوله: { وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى . فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } قال: فلما أحسَّ (1) جبريل ربه، عز وجل، عاد في صورته وسجد. فقوله: { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } قال: خَلْقَ جبريل عليه السلام.
هكذا رواه الإمام أحمد، وهو غريب (2) .
{ أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) }
يقول تعالى مُقَرِّعا للمشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان، واتخاذهم لها البيوت مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن، عليه [الصلاة و] (3) السلام: { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ } ؟ وكانت "اللات" (4) صخرةً بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف له أستار وسَدَنة، وحوله فناء معظّم عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش.
قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله [تعالى] (5) ، فقالوا: اللات، يعنون مؤنثة منه، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. وحكي عن ابن عباس، ومجاهد، والربيع بن أنس: أنهم قرؤوا "اللاتّ" بتشديد التاء، وفسروه بأنه كان رجلا يَلُتُّ للحجيج في الجاهلية السويق، فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه.
وقال البخاري: حدثنا مسلم -هو ابن إبراهيم-حدثنا أبو الأشهب، حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس (6) : { اللاتَ وَالْعُزَّى } قال: كان اللات رجلا يلت السَّويق، سويق الحاج (7) .
قال ابن جرير: وكذا العُزَّى من العزيز.
وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف، كانت قريش يعظمونها، كما
__________
(1) في أ: "أخبر".
(2) المسند (1/407).
(3) زيادة من م.
(4) في م: "العزى".
(5) زيادة من م.
(6) في م: "عن ابن عباس عن".
(7) صحيح البخاري برقم (4859).

قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزى ولا عزَّى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم" (1) .
وروى البخاري من حديث الزهري، عن حُمَيد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله. ومن قال لصاحبه: تعال أقَامرْك، فليتصدق" (2) .
وهذا محمول على من سبق لسانه في (3) ذلك، كما كانت ألسنتهم قد اعتادته في زمن الجاهلية، كما قال النسائي: أخبرنا أحمد بن بَكَّار وعبد الحميد بن محمد قالا حدثنا مَخْلَد، حدثنا يونس، عن أبيه، حدثني مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: حلفت باللات والعزى، فقال لي أصحابي: بئس ما قلت! قلت هجرا! فأتيت رسول صلى الله عليه سلم، فذكرت ذلك له، فقال: "قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وانفث عن شمالك ثلاثا، وتعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم لا تعد" (4) .
وأما "مناة" فكانت بالمُشَلَّل (5) -عند قُدَيد، بين مكة والمدينة-وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويُهلّون منها للحج إلى الكعبة. وروى البخاري عن عائشة نحوه (6) . وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها.
قال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، بها (7) سدنة وحجاب، وتهدي لها كما يهدى (8) للكعبة، وتطوف بها كطَوْفَاتِها بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم، عليه السلام، ومسجده. فكانت لقريش وبني كنانة العُزَّى بنخلة، وكانت سدنتها وحجابها (9) بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم (10) .
قلت: بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها، وجعل يقول:
يا عُزَّ، كُفْرَانَك لا سُبْحَانَك ... إني رأيت الله قَدْ أهَانَك ...
وقال النسائي: أخبرنا علي بن المنذر، أخبرنا ابن فُضَيْل، حدثنا الوليد بن جُمَيْع، عن أبي الطُّفَيْلِ قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سَمُرات، فقطع السَّمُرات، وهدم البيت الذي كان عليها. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) تقدم تخريج الحديث عند تفسير سورة "محمد" الآية: 11.
(2) صحيح البخاري برقم (4860).
(3) في م: "إلى".
(4) سنن النسائي (7/8).
(5) في أ: "بالمنال".
(6) صحيح البخاري برقم (4861).
(7) في م: "لها".
(8) في م: "تهدي".
(9) في م: "وحجبتها".
(10) السيرة النبوية لابن هشام (1/83).

فأخبره فقال: "ارجع فإنك لم تصنع شيئًا". فرجع خالد، فلما أبصرته السَّدَنة -وهم حَجَبتها-أمعنوا في الحِيَل وهم يقولون: "يا عزى، يا عزى". فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن (1) التراب على رأسها، فغمسها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "تلك العزى" (2) .
قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سَدَنتها وحجابها بنى مُعَتّب (3) .
قلت: وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب، فهدماها وجعلا مكانها مسجد الطائف.
قال ابن إسحاق: وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المُشَلّل بقديد، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم [إليها] (4) أبا سفيان صخر بن حرب، فهدمها. ويقال: علي بن أبي طالب.
قال: وكانت ذو الخَلَصة (5) لدَوس وخَثعم وبَجِيلة، ومن كان ببلادهم من العرب بِتَبَالة.
قلت: وكان يقال لها: الكعبة اليمانية، وللكعبة التي بمكة الكعبة الشامية.
فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي فهدمه.
قال: وكانت فَلْس (6) لطيئ ولمن يليها بجبلي طيئ من (7) سَلمى وأجا.
قال ابن هشام: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه علي بن أبي طالب فهدمه، واصطفى منه سيفين: الرّسُوب والمخْذَم، فَنفَّله أياهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهما سيفا علي (8) .
قال ابن إسحاق: وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له: ريام. وذكر أنه كان به كلب أسود، وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه، وهدما البيت.
قال ابن إسحاق: وكانت "رُضَاء" بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، ولها يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد حين هدمها في الإسلام:
ولقد شَدَدْتُ عَلَى رُضَاء شَدّةً ... فَتَرَكْتُها قَفْرًا بِقَاع أسحَمَا ...
قال ابن هشام: إنه عاش ثلاثمائة وثلاثين (9) سنة، وهو القائل:
وَلَقَد سَئِمْتُ مِنَ الحيَاةِ وَطُولِهَا ... وَعُمّرْتُ منْ عَدَد السّنِينَ مِئِينَا ...
مائَةً حَدّتها بَعْدَها مائَتَان لي ... وازددت (10) مِنْ عَدَد الشّهور سِنِينَا ...
هَلْ مَا بَقِي إلا كَمَا قَدْ فَاتَنَا ... يَومٌ يَمُرُّ وَلَيلةٌ تَحْدُونَا ...
__________
(1) في م: "تحثو".
(2) النسائي في السنن الكبرى رقم (11567).
(3) في م: "مغيت".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ: "الحليفة".
(6) في م: "فيس".
(7) في م، أ: "بين".
(8) السيرة النبوية لابن هشام (1/87).
(9) في أ: "وستون".
(10) في م، أ: "وعمرت".

قال ابن إسحاق: وكان ذو الكَعَبَات لبكر وتغلب ابني وائل، وإياد بِسَنْداد وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة:
بَيْنَ الخَوَرْنَق والسَّدير وَبَارقٍ ... والبيت ذو الكَعَبَات من سَنْدَاد (1)
ولهذا قال [تعالى] (2) : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى . وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى } ؟ .
ثم قال: { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى } ؟ أي: أتجعلون له ولدا، وتجعلون ولده أنثى، وتختارون لأنفسكم الذكور، فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة لكانت { قِسْمَةٌ ضِيزَى } أي: جورا باطلة، فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها.
ثم قال منكرا عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر، من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة : { إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ } أي: من تلقاء أنفسكم { مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } أي: من حجة، { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ } أي: ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، وإلا حظ نفوسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين، { وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } أي: ولقد أرسل الله إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة، ومع هذا ما اتبعوا ما جاؤوهم به، ولا انقادوا له.
ثم قال: { أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى } أي: ليس كل من تمنى خيرا حصل له، { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ } [ النساء: 123 ]، ما كل من زعم أنه مهتد يكون كما قال، ولا كل من ود (3) شيئا يحصل له.
قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق، حدثنا أبو عَوَانة، عن عمر (4) بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى، فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته". تفرد به أحمد (5) .
وقوله: { فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأولَى } أي: إنما الأمر كله لله، مالك الدنيا والآخرة، والمتصرف في الدنيا والآخرة، فهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
وقوله: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } ، كقوله: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [البقرة: 255]، { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [سبأ: 23]، فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله، وهو لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه؟.
__________
(1) انظر السيرة النبوية لابن هشام (1/87، 88).
(2) زيادة من م.
(3) في م: "رد".
(4) في أ: "عمرو".
(5) المسند (1/357) وقال الهيثمي في المجمع (10/151): "رجاله رجال الصحيح".

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)

{ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) }
يقول تعالى منكرا على المشركين في تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى، وجعلهم لها أنها بنات الله، كما قال: { وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } [الزخرف: 19]؛ ولهذا قال: { وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم } أي: ليس لهم علم صحيح يصدق ما قالوه، بل هو كذب وزور وافتراء، وكفر شنيع. { ٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } أي: لا يجدي شيئا، ولا يقوم أبدا مقام الحق. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" (1) .
وقوله: { فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا } أي: أعرِضْ عن الذي أعرَضَ عن الحق واهجره.
وقوله: { وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي: وإنما (2) أكثر (3) همه ومبلغ علمه الدنيا، فذاك هو غاية ما لا خير فيه. ولذلك (4) قال: { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } أي: طلب الدنيا والسعي لها هو غاية ما وصلوا إليه.
وقد روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة [رضي الله عنها] (5) قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له" (6) وفي الدعاء المأثور: "اللهم لا تجعل الدنيا أكبر هَمِّنَا، ولا مَبْلَغَ علمنا".
وقوله: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى } أي: هو الخالق لجميع المخلوقات، والعالم بمصالح عباده، وهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وذلك كله عن قدرته وعلمه وحكمته، وهو العادل الذي لا يجور أبدًا، لا في شرعه ولا في قَدَره.
{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5143) وصحيح مسلم برقم (2563) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) في م: "وإنا".
(3) في أ: "أكبر".
(4) في م، أ: "ولهذا".
(5) زيادة من م.
(6) المسند (6/71).

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49