الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)

وضعها رجل في رحم لا يحل له" (1) .
{ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) }
يقول تعالى ناهيًا عن قتل النفس بغير حق شرعي، كما ثبت في الصحيحين؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة" (2) .
وفي السنن: "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم (3) " .
وقوله: { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } أي: سلطة على القاتل، فإنه بالخيار فيه إن شاء قتله قَودًا، وإن شاء عفا عنه على الدية، وإن شاء عفا عنه مجانًا، كما ثبتت السنة بذلك. وقد أخذ الإمام الحبر ابن عباس من عموم هذه الآية الكريمة ولاية معاوية السلطنة، وأنه سيملك؛ لأنه كان ولي عثمان، وقد قتل عثمان مظلومًا، رضي الله عنه، وكان معاوية يطالب عليًا، رضي الله عنه، أن يسلمه قتلته حتى يقتص منهم؛ لأنه أموي، وكان علي، رضي الله عنه، يستمهله في الأمر (4) حتى يتمكن ويفعل ذلك، ويطلب علي من معاوية أن يسلمه الشام فيأبى (5) معاوية ذلك حتى يسلمه القتلة، وأبى أن يبايع عليًا هو وأهل الشام، ثم مع المطاولة تمكن معاوية وصار الأمر إليه كما تفاءل (6) ابن عباس واستنبط من هذه الآية الكريمة. وهذا من الأمر العجب وقد روى ذلك الطبراني في معجمه حيث قال:
حدثنا يحيى بن عبد الباقي، حدثنا أبو عمير بن النحاس، حدثنا ضَمْرَةُ بن ربيعة، عن ابن شوذب، عن مطر الوراق، عن زَهْدَم الجَرْمي قال: كنا في سمر ابن عباس فقال: إني محدثكم حديثا ليس بسر ولا علانية؛ إنه لما كان من أمر هذا الرجل ما كان -يعني عثمان -قلت لعلي: اعتزل فلو كنت في جحر طلبت حتى تستخرج، فعصاني، وايم الله ليتأمرن عليكم معاوية، وذلك أن الله تعالى يقول: { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } الآية (7) وليحملنكم (8) قريش على سنة فارس والروم وليقيمن عليكم النصارى واليهود والمجوس، فمن أخذ منكم يومئذ بما يُعْرَف نجا، ومن ترك وأنتم تاركون، كنتم كقرن من القرون، هلك فيمن هلك (9) .
وقوله [تعالى] (10) { فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } قالوا: معناه: فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل.
__________
(1) الورع لابن أبي الدنيا برقم (137) وفيه ثلاث علل: الأولى: تدليس بقية. الثانية: ابن أبي مريم ضعيف. الثالثة: الإرسال. أ. هـ مستفادا من حاشية الأستاذ محمد الحمود، وسيأتي الحديث عند تفسير الآية: 68 من سورة الفرقان.
(2) صحيح البخاري برقم (6878) وصحيح مسلم برقم (1676) من حديث ابن مسعود، رضي الله عنه.
(3) في أ: "المسلم".
(4) في ت: "الأمور".
(5) في ف: "فأبى".
(6) في ت، ف، أ: "قال".
(7) في ت، ف، أ: (إنه كان منصورا) "
(8) في ت: "يتحملنكم".
(9) المعجم الكبير (10/320) وقال الهيثمي في المجمع (7/235): "وفيه من لم أعرفهم".
(10) زيادة من ت.

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)

وقوله: { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } أي أن الولي منصور على القاتل شرعًا، وغالبًا قدرًا.
{ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (35) } .
يقول تعالى: { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي: لا تتصرفوا له إلا بالغبطة { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } [ النساء: 2 ] و { لا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } [ النساء: 6 ].
وقد جاء في صحيح مسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: "يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي: لا تَأَمَّرَن على اثنين، ولا تولين مال يتيم (1) " (2) .
وقوله [تعالى] (3) : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ } أي الذي تعاهدون عليه الناس والعقود التي تعاملونهم بها، فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه { إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا } أي: عنه.
وقوله [تعالى] (4) : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ } أي: من غير تطفيف، ولا تبخسوا الناس أشياءهم. { وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ } قرئ بضم القاف وكسرها، كالقرطاس وهو الميزان. وقال مجاهد: هو العدل بالرومية.
وقوله: { الْمُسْتَقِيمِ } أي: الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا اضطراب.
{ ذَلِكَ خَيْرٌ } أي: لكم في معاشكم ومعادكم؛ ولهذا قال: { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } أي: مآلا ومنقلبًا في آخرتكم.
قال: سعيد، عن قتادة: { ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } أي: خير ثوابًا وعاقبة. وأما ابن عباس كان يقول: يا معشر الموالي، إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم: هذا المكيال، وهذا الميزان. قال وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه، ليس به إلا مخافة الله، إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك" (5) .
{ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا (36) } .
__________
(1) في ت: "بخيل".
(2) صحيح مسلم برقم (1826).
(3) زيادة من ت.
(4) زيادة من ت.
(5) وقد جاء في مسند أحمد (5/78) عن أبي قتادة وأبي الدهماء عن رجل من أهل البادية، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: "إنك لا تدع شيئا اتقاء الله، عز وجل، إلا أعطاك الله خيرا منه".

وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يقول: لا تقل.
وقال العوفي عنه: لا تَرْم أحدًا بما ليس لك به علم.
وقال محمد بن الحَنفية: يعني شهادة الزور.
وقال قتادة: لا تقل: رأيت، ولم تر، وسمعت، ولم تسمع، وعلمت، ولم تعلم؛ فإن الله سائلك عن ذلك كله.
ومضمون ما ذكروه: أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، كما قال تعالى: { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [ الحجرات: 12 ]، وفي الحديث: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذبُ الحديث" (1) . وفي سنن أبي داود: "بئس مطيةُ الرجل: زعموا" (2) ، وفي الحديث الآخر: "إن أفرى الفِرَى أن يُرِي (3) عينيه ما لم تريا" (4) . وفي الصحيح: "من تحلم حلما كُلف يوم القيامة أن يعقد بين شَعيرتين، وليس بعاقد (5) (6) .
وقوله: { كُلُّ أُولَئِكَ } أي: هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد { كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا } أي: سيسأل العبد عنها يوم القيامة، وتُسأل (7) عنه وعما عمل فيها. ويصح استعمال "أولئك" مكان "تلك"، كما قال الشاعر (8) .
ذُمَّ المَنَازلَ بَعْدَ مَنزلة اللِّوَى ... وَالْعَيْش بَعْدَ أولئِكَ الأيّام ...
{ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) } .
يقول تعالى ناهيًا عباده، عن التَّجَبّر والتبختر في المشية: { وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا } أي: متبخترًا متمايلا مشي الجَبَّارين { إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ } أي: لن تقطع الأرض بمشيتك (9) قاله ابن جرير، واستشهد عليه بقول رُؤبة بن العَجَّاج:
وقَاتِم الأعْمَاق خَاوي المُخترقْ (10)
وقوله [تعالى] (11) : { وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا } أي: بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك، بل قد
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (6066) ومسلم في صحيحه برقم (2563) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(2) برقم (4972).
(3) في ف، أ: "يرى الرجل".
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (7043) من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما.
(5) في ف: "بفاعل".
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (7042) معلقا، ووصله النسائي في السنن (8/215) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(7) في ت: "ويسأل".
(8) هو جرير بن عطية، والبيت في تفسير الطبري (15/62).
(9) في ت، ف: "بمشيك".
(10) تفسير الطبري (15/63).
(11) زيادة من ت.

يجازى فاعل ذلك بنقيض (1) قصده. كما ثبت في الصحيح: "بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم، وعليه بُرْدَان يتبختر فيهما، إذ خُسِف به الأرض، فهو يتجلجل (2) فيها إلى يوم القيامة" (3) .
وكذلك (4) أخبر الله [تعالى] (5) عن قارون أنه خرج على قومه في زينته، وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض، وفي الحديث: "من تواضع لله رفعه الله، فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير، ومن استكبر وضعه الله، فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير، حتى لهو أبغض إليهم من الكلب أو الخنزير" (6) .
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب "الخمول والتواضع": حدثنا أحمد بن إبراهيم بن كثير، حدثنا حجاج بن محمد، بن أبي بكر الهذلي قال: بينما نحن مع الحسن، إذ مَر عليه ابن الأهتم (7) -يريد المنصور -وعليه جبَابُ خَزّ قد نُضّد (8) بعضها فوق بعض على ساقه، وانفرج عنها قباؤه، وهو يمشي ويتبختر، إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال: أف أف، شامخ بأنفه، ثان عطفه، مصعر خده، ينظر في عطفيه، أيّ حُمَيْق ينظر في عطفه في نِعَم غير مشكورة ولا مذكورة، غير المأخوذ بأمر الله فيها، ولا المؤدّى حقّ الله منها! والله إن يمشي أحدهم طبيعته يتلجلج تلجلج المجنون، في كل عضو منه نعمة، وللشيطان به لعنة، فسمعه ابن الأهتم (9) فرجع يعتذر إليه، فقال: لا تعتذر إلي، وتب إلى ربك، أما سمعت قول الله تعالى: { وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا } (10) .
ورأى البختريّ العابدُ رجلا من آل علي يمشي وهو يخطِر في مشيته، فقال له: يا هذا، إن الذي أكرمك به لم تكن هذه مشيته! قال: فتركها الرجل بعد.
ورأى ابن عمر رجلا يخطر في مشيته، فقال: إن للشياطين إخوانًا.
وقال: خالد بن مَعْدان: إياكم والخَطْر، فإن الرّجل يَدُه من سائر (11) جسده. رواهما ابن أبي الدنيا.
وقال: ابن أبي الدنيا: حدثنا خلف بن هشام البزار، حدثنا حماد بن زيد، عن (12) يحيى، عن سعيد، عن يُحَنَّس قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مشت أمتي المطيطاء، وخدمتهم فارس والروم،
__________
(1) في ت: "ببعض".
(2) في ت: "يتخلل".
(3) صحيح البخاري برقم (5789) وصحيح مسلم برقم (2088) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(4) في أ: "ولذلك".
(5) زيادة من ف.
(6) رواه أبو نعيم في الحلية (7/129) والخطيب في تاريخ بغداد (2/110) من طريق سعيد بن سلام، عن الثوري عن الأعمش، عن إبراهيم بن عابس، عن ربيعة، عن عمر بن الخطاب بنحوه وقال: "غريب من حديث الثوري، تفرد به سعيد بن سلام، وهو كذاب".
(7) في هـ ، ت، ف: "ابن الأهيم"، والصواب ما أثبتناه من الخمول والتواضع لابن أبي الدنيا.
(8) في ت، ف: "فضل".
(9) في هـ ت، ف: "ابن الأهيم"، والصواب ما أثبتناه من الخمول والتواضع.
(10) الخمول والتواضع برقم (237).
(11) في ت، ف، أ: "من دون سائر".
(12) في ف: "بن".

سلط بعضهم على بعض" (1) .
وقوله تعالى: { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا } أما من قرأ "سيئة" أي: فاحشة. فمعناه عنده: كل هذا الذي نهينا عنه، من قوله: { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } إلى هاهنا، فهو سيئة مؤاخذ عليها { مَكْرُوهًا } عند الله، لا يحبه ولا يرضاه.
وأما من قرأ { سَيِّئُهُ } على الإضافة فمعناه عنده: كل هذا الذي ذكرناه من قوله: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ } إلى هاهنا فسيئه، أي: فقبيحه مكروه (2) عند الله، هكذا وجَّه ذلك ابن جرير، رحمه الله (3) .
__________
(1) الخمول والتواضع برقم (249) وهو مرسل، وجاء من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، رواه الترمذي في السنن برقم (2261) من طريق زيد بن الحباب عن موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عنه، ولفظ آخره "سلط الله شرارها على خيارها" وقال الترمذي: "هذا حديث غريب"
(2) في ت، ف، أ: "قبيحه مكروها".
(3) تفسير الطبري (15/63).

ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)

{ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) } .
يقول تعالى: هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة، ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة، مما أوحينا إليك يا محمد لتأمر به الناس.
{ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا } أي: تلومك نفسك [ويلومك الله] (1) والخلق. { مَدْحُورًا } . قال ابن عباس وقتادة: مطرودًا.
والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صلوات الله وسلامه عليه معصوم.
{ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا (40) } .
يقول تعالى رادًا على المشركين الكاذبين (2) الزاعمين -عليهم لعائن الله -أن الملائكة بناتُ الله، فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا، ثم ادّعوا أنهم بنات الله، ثم عبدوهم فأخطئوا في كل من المقامات الثلاث (3) خطأ عظيمًا، قال تعالى منكرًا عليهم: { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ } أي: خصصكم بالذكور { وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا } أي: اختار لنفسه على زعمكم البنات؟ ثم شدد الإنكار عليهم فقال: { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا } أي: في زعمكم لله ولدًا، ثم جعْلكم ولده الإناث التي تأنفون (4) أن يَكُنّ لكم، وربما قتلتموهُن بالوأد، فتلك إذا قسْمة ضِيزَى. وقال [الله] (5) تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا* تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا* وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا* إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا* لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم: 88 -95 ].
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) في ف: "المكذبين".
(3) في ت، ف: "الثلاث المقامات".
(4) في ت: "تألفون".
(5) زيادة من ف.

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)

{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا (41) } .
يقول تعالى: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا (1) فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا (2) } أي: صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يذكرون ما فيه من الحجج والبينات والمواعظ، فينزجروا (3) عما هم فيه من الشرك والظلم والإفك، { وَمَا يَزِيدُهُمْ } أي: الظالمين منهم { إِلا نُفُورًا } أي: عن الحق، وبعدًا منه.
{ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) } .
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكا من خلقه، العابدين معه غيره ليقربهم إليه زلفى: لو كان الأمر كما تقولون، وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه -لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه ويبتغون إليه الوسيلة والقربة، فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه، فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه، بل يكرهه ويأباه. وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه.
ثم نزه نفسه الكريمة وقدّسها فقال: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ } أي: هؤلاء المشركون المعتدون الظالمون في زعمهم أن معه آلهة أخرى { عُلُوًّا كَبِيرًا } أي: تعاليًا كبيرا، بل هو الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفُوًا أحد.
{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) } .
يقول تعالى: تقدسه السموات السبع والأرض ومن فيهن، أي: من المخلوقات، وتنزهه وتعظمه وتجِّلّه وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون، وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وإلهيته:
فَفي كُلّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلى أنَّه واحد ...
كما قال: تعالى: { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ (4) مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * [وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا] (5) } [ مريم: 90 -92 ].
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا مسكين (6) ابن ميمون مؤذّن مسجد الرملة، حدثنا عروة بن رُوَيم، عن عبد الرحمن بن قرط؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في ت، ف، أ: "صرفنا للناس" وهو خطأ.
(2) في ت، ف: "القرآن من كل مثل" وهو خطأ.
(3) في ف: "فينزجزن".
(4) في ت، ف: "ينفطرن" وهو خطأ.
(5) زيادة من أ.
(6) في ت: "أن".

ليلة أسري إلى المسجد الأقصى، كان (1) بين المقام وزمزم، جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فطار به حتى بلغ السماوات السبع (2) ، فلما رجع قال: سمعت تسبيحًا في السماوات العلى مع تسبيح كثير: سبحت السماوات العلى من ذي المهابة مشفقات لذي العلو بما علا سبحان العليّ الأعلى، سبحانه وتعالى (3) .
وقوله: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } أي: وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله (4) { وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } أي: لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس؛ لأنها بخلاف لغتكم. وهذا عام في الحيوانات (5) والنبات والجماد، وهذا أشهر القولين، كما ثبت في صحيح البخاري، عن ابن مسعود أنه قال: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل (6) .
وفي حديث أبي ذر: أن النبي (7) صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات، فسمع لهن تسبيح كحنين النحل، وكذا يد أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم [أجمعين] (8) ، وهو حديث مشهور في المسانيد (9) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن لَهيعة، حدثنا زَبَّان، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مَرّ على قوم وهم وقوف على دوابّ لهم ورواحل، فقال لهم: "اركبوها سالمة، ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب مركوبة خير من راكبها، وأكثر ذكرا لله منه" (10) .
وفي سنن النسائي عن عبد الله بن عمرو قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع، وقال: "نقيقها تسبيح" (11) .
وقال قتادة، عن عبد الله بن بَابِي (12) ، عن عبد الله بن عمرو: أن الرجل إذا قال: "لا إله إلا الله"، فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملا حتى يقولها. وإذا قال: "الحمد لله" فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قط حتى يقولها، وإذا قال: "الله أكبر" فهي تملأ (13) ما بين السماء والأرض، وإذا قال: "سبحان الله"، فهي صلاة الخلائق التي لم يَدْع الله أحدًا من خلقه إلا قَرّره بالصلاة والتسبيح. وإذا قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله (14) "، قال: أسلم عبدي واستسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، سمعت الصَّقْعَبَ بن زُهير [يحدث] (15) عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابيّ عليه جبة
__________
(1) في ت، ف، أ: "الأقصى، فلما رجع كان".
(2) في ت: "السبع السموات".
(3) المعجم الأوسط برقم (58) "مجمع البحرين" وقال " لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد، تفرد به سعيد". وذكر الذهبي هذا الحديث في الميزان (4/101) في ترجمة مسكين بن أبي ميمون وقال: "منكر".
(4) في ف: "بحمده".
(5) في ت، ف: "الحيوان".
(6) صحيح البخاري برقم (3579).
(7) في ت، ف، أ: "أن رسول الله ".
(8) زيادة من ف.
(9) رواه أحمد في المسند (4/415).
(10) المسند (3/439).
(11) سنن النسائي (7/210) من حديث عبد الرحمن بن عثمان، رضي الله عنه.
(12) في ت: "باني"، وفي ف: "أبي".
(13) في ت: "الله أكبر ملأ".
(14) في أ: "بالله العلي العظيم".
(15) زيادة من ف، أ، والمسند.

من طيالسة مكفوفة (1) بديباج -أو: مزورة بديباج -فقال: إن صاحبكم هذا يريد أن يرفع كل راع ابن راع، ويضع كل رأس ابن رأس. فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم مغضبًا، فأخذ بمجامع جبته فاجتذبه، فقال: "لا أرى عليك ثياب من لا يعقل". ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس فقال: "إن نوحًا، عليه السلام، لما حضرته الوفاة، دعا ابنيه (2) فقال: إني قاص عليكما الوصية: آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين: أنهاكما عن الشرك بالله والكبر، وآمركما بلا إله إلا الله، فإن السماوات والأرض وما بينهما لو وضعت في كفة الميزان، ووضعت "لا إله إلا الله" في الكفة الأخرى، كانت أرجح، ولو أن السماوات والأرضِ كانتا (3) حلقة، فوضعت "لا إله إلا الله" عليهما لفصمتهما أو لقصمتهما. وآمركما بسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء" (4) .
ورواه الإمام أحمد، أيضا، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن الصَّقْعَب (5) بن زهير، به أطول من هذا. تفرد به (6) .
وقال ابن جرير: حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ، حدثنا محمد بن يَعْلى، عن موسى بن عبيدة، عن زيد بن أسلم، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه (7) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه؟ إن نوحا، عليه السلام، قال لابنه: يا بني، آمرك أن تقول: "سبحان الله"، فإنها صلاة الخلق وتسبيح الخلق، وبها يرزق الخلق، قال الله تعالى: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } (8) إسناده فيه ضعف، فإن الرّبذي (9) ضعيف عند الأكثرين.
وقال عكرمة في قوله تعالى: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } قال: الأسطوانة تسبح، والشجرة تسبح (10) -الأسطوانة: السارية.
وقال بعض السلف: إن صرير الباب تسبيحه، وخرير الماء تسبيحه، قال الله تعالى: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ }
وقال سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم قال: الطعام يسبح.
ويشهد لهذا القول آية السجدة أول [سورة] (11) الحج.
وقال آخرون: إنما يسبح ما كان فيه روح. يعنون من حيوان أو نبات.
وقال قتادة في قوله: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } قال: كل شيء فيه الروح يسبح من شجر (12) أو شيء فيه.
__________
(1) في ت، ف: "ملفوفة".
(2) في ت: "بنيه".
(3) في ت: "كانت".
(4) المسند (2/225).
(5) في ف: "الصعقب".
(6) المسند (2/169).
(7) في ف: "عنهما".
(8) تفسير الطبري (15/65).
(9) في ت: "الزيدي" ، وفي ف: "الأودي".
(10) في ت، ف: "والشجر يسبح".
(11) زيادة من ف.
(12) في ف: "من شجرة".

وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)

وقال الحسن، والضحاك في قوله: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } قالا كل شيء فيه الروح.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن حميد، حدثنا يحيى بن واضح وزيد بن حباب قالا حدثنا جرير أبو الخطاب قال: كنا مع يزيد الرَّقاشي، ومعه الحسن في طعام، فقدموا الخوان، فقال يزيد الرقاشي: يا أبا سعيد، يسبح هذا الخِوَان؟ فقال: كان يسبح مرة (1) .
قلت: الخِوَان هو المائدة من الخشب. فكأن الحسن، رحمه الله، ذهب إلى أنه لما كان حيا فيه خضرة، كان يسبح، فلما قطع وصار خشبة يابسة انقطع تسبيحه. وقد يستأنس لهذا القول بحديث ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير (2) ، أما أحدهما فكان لا يَسْتَتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي (3) بالنميمة". ثم أخذ جريدة رطبة، فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة، ثم قال: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا". أخرجاه في الصحيحين (4) .
قال بعض من تكلم على هذا الحديث من العلماء: إنما قال: "ما لم ييبسا" لأنهما يسبحان ما دام فيهما خضرة، فإذا يبسا انقطع تسبيحهما، والله أعلم.
وقوله [تعالى] (5) { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } أي: أنه [تعالى] (6) لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، بل يؤجله وينظره، فإن استمر على كفره وعناده أخذه أخذ عزيز مقتدر، كما جاء في الصحيحين: "إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } (7) [ هود: 102 ] الآية، و قال [الله] (8) تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ الحج: 48 ] . ومن أقلع عما هو فيه من كفر أو عصيان، ورجع إلى الله وتاب إليه، تاب عليه، كما قال تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء: 110 ].
وقال هاهنا: { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } كما قال في آخر فاطر: { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } إلى أن قال: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا } [ فاطر: 41 -45 ].
{ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) }
__________
(1) تفسير الطبري (15/65).
(2) في ت:"كثير".
(3) في ت: "وأما الآخر فيمشي" ، وفي أ: "وكان الآخر يمشي".
(4) صحيح البخاري برقم (218) وصحيح مسلم برقم (292).
(5) زيادة من ت.
(6) زيادة من ت.
(7) صحيح البخاري برقم (4686) وصحيح مسلم برقم (2583) من حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنهما.
(8) زيادة من ف، أ.

يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا قرأت -يا محمد -على هؤلاء المشركين القرآن، جعلنا بينك وبينهم حجابا مستورًا.
قال قتادة، وابن زيد: هو الأكنّة على قلوبهم، كما قال تعالى: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت: 5 ] أي: مانع حائل (1) أن يصل إلينا مما تقول شيء.
وقوله: { حِجَابًا مَسْتُورًا } أي: بمعنى ساتر، كميمون ومشئوم، بمعنى: يامن وشائم؛ لأنه من يَمنهم وشَأمَهم.
وقيل: مستورًا عن الأبصار فلا تراه، وهو مع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى، ومال إلى ترجيحه ابن جرير، رحمه الله.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو موسى الهروي إسحاق بن إبراهيم، حدثنا سفيان، عن الوليد بن كثير، عن يزيد بن تدرس، عن أسماء بنت أبي بكر [الصديق] (2) رضي الله عنها (3) ، قالت: لما نزلت { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب وَتبٍٍَ } [ سورة المسد ] جاءت العوراء أم جميل ولها ولوَلة، وفي يدها فِهْر وهي تقول: مُدَمَّما أتينا -أو: أبينا، قال أبو موسى: الشك مني -ودينه قَلَيْنَا، وأمره عصينا. ورسول الله جالس، وأبو بكر إلى جنبه -أو قال: معه -قال: فقال أبو بكر: لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك، فقال: "إنها لن تراني"، وقرأ قرآنا اعتصم به منها: { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } . قال: فجاءت حتى قامت على أبي بكر، فلم تر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا أبا بكر، بلغني أن صاحبك هجاني. فقال أبو بكر: لا ورب هذا البيت ما هجاك. قال: فانصرفت وهي تقول: لقد (4) علمت قريش أني بنت سيدها (5) .
وقوله: { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } : جمع "كنان"، الذي يغشى القلب { أَنْ يَفْقَهُوهُ } أي: لئلا يفهموا القرآن { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } وهو الثقْل الذي يمنعهم من سماع القرآن سماعًا ينفعهم ويهتدون به.
وقوله: { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ } أي: إذا وحَّدت الله في تلاوتك، وقلت: "لا إله إلا الله" { وَلَّوْا } أي: أدبروا راجعين { عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } ونفور: جمع نافر، كقعود جمع قاعد، ويجوز أن يكون مصدرًا من غير الفعل، والله أعلم، كما قال تعالى: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ الزمر: 45 ].
قال قتادة في قوله: { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } إن المسلمين لما قالوا: "لا إله إلا الله"، أنكر ذلك المشركون، وكبرت عليهم، وضاقها إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن يمضيها وينصرها ويُفْلجها ويظهرها على من ناوأها، إنها كلمة من خاصم بها فلج، ومن قاتل بها
__________
(1) في ف: "مانع وحائل".
(2) زيادة من ت.
(3) في ف، أ: "عنهما".
(4) في ف: "قد".
(5) مسند أبي يعلى (1/53) وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح (7/169).

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)

نصر، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين، التي يقطعها الراكب في ليال قلائل، ويسير الدهر في فئام من الناس، لا يعرفونها ولا يقرّون بها.
قول آخر في الآية:
وروى (1) ابن جرير: حدثني الحسين بن محمد الذارع (2) ، حدثنا روح بن المسيب أبو رجاء الكلبي، حدثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس في قوله: { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } هم الشياطين.
هذا غريب جدًا في تفسيرها، وإلا فالشياطين (3) إذا قرئ القرآن، أو نودي بالأذان، أو ذكر الله، انصرفوا (4) .
{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا (48) } .
يخبر تعالى نبيه -صلوات الله [وسلامه] (5) عليه -بما تناجى به رؤساء كفار قريش، حين جاءوا يستمعون قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًا من قومهم، بما قالوا من أنه رجل مسحور، من السّحر على المشهور، أو من "السَّحْر"، وهو الرئة، أي: إن تتبعون -إن اتبعتم محمدًا -{ إِلا بَشَرًا } يأكل [ويشرب] (6) ، كما قال الشاعر (7) :
فَإن تَسألينا فيم نَحْنُ فَإنَّنا ... عصافيرُ مِنْ هَذا الأنَام المُسَحَّر ...
وقال الراجز (8)
ونُسْحَر (9) بالطَّعام وبالشراب
أي: نُغذى: وقد صوب هذا القول ابنُ جرير، وفيه نظر؛ لأنهم إنما أرادوا هاهنا أنه مسحور له رئي يأتيه بما استمعوه من الكلام الذي يتلوه ومنهم من قال: "شاعر"، ومنهم من قال: "كاهن"، ومنهم من قال: "مجنون"، ومنهم من قال: "ساحر"؛ ولهذا قال تعالى: { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا } أي: فلا يهتدون إلى الحق، ولا يجدون إليه مخلصًا.
قال محمد بن إسحاق في السيرة: حدثني محمد بن مسلم (10) بن شهاب الزهري، أنه حُدث أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شَرِيق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف ابن (11) زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل واحد
__________
(1) في ت، ف: "قال".
(2) في ت، ف، أ: "الذراع".
(3) في ف: "فالشيطان".
(4) في ف: "انصرف".
(5) زيادة من ت، ف، أ.
(6) زيادة من ف، أ.
(7) هو لبيد بن ربيعة، والبيت في ديوانه (ص57).
(8) هو امرؤ القيس، والرجز في اللسان مادة "سحر".
(9) في ت: "تسحر"، وفي أ: "تسحرنا".
(10) في ت: "سلام".
(11) في أ: "بني".

وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)

منهم مجلسًا يستمع فيه، وكلُّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا. حتى إذا جمعتهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئًا، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا حتى إذا جمعتهم (1) الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة، أخذ كل رجل (2) منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجَمعهم (3) الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا.
فلما أصبح الأخنس بن شَريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعتُ أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد بها، وسمعتُ أشياء ما عرفتُ معناها، ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حَلفت به. قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعتُ؟! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الرُّكب، وكنا كفَرَسي رِهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به (4) أبدا ولا نصدقه. قال: فقام عنه الأخنس وتركه (5) .
{ وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) }
__________
(1) في ف، أ: "تفرقوا فجمعتهم".
(2) في ت: "كل واحد".
(3) في ت، ف، أ: "حتى إذا اجمعتهم".
(4) في ف: "بهذا".
(5) السيرة النبوية لابن هشام (1/315).

قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)

{ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا (52) } .
يقول تعالى مخبرًا عن الكفار المستبعدين وقوع المعاد، القائلين استفهام إنكار منهم لذلك: { أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا } أي: ترابًا. قاله مجاهد.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: غبارًا.
{ أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } أي: يوم القيامة { خَلْقًا جَدِيدًا } أي: بعد ما بلينا وصرنا عدمًا لا يذكر. كما أخبر عنهم في الموضع الآخر: { يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ* أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً* قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } [ النازعات: 10 -12 ] قال تعالى (1) : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس: 78 ، 79 ].
__________
(1) في ف: "وقال تعالى".

وهكذا أمر رسوله ههنا (1) أن يجيبهم فقال: { قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا } وهما (2) أشد امتناعا من العظام والرفات { أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ }
قال ابن إسحاق عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: سألت ابن عباس عن ذلك فقال: هو الموت.
وروى عطية، عن ابن عمر أنه قال في تفسير هذه الآية: لو كنتم موتى لأحييتكم. وكذا قال سعيد بن جبير، وأبو صالح، والحسن، وقتادة، والضحاك.
ومعنى ذلك: أنكم لو فرضتم أنكم لو (3) صِرْتُم مَوْتًا الذي هو ضد الحياة لأحياكم الله إذا شاء، فإنه لا يمتنع (4) عليه شيء إذا أراده.
وقد ذكر بن جرير [هاهنا] (5) حديث: "يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كَبْش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة، أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم. ثم يقال: يا أهل النار، أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم. فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود بلا موت، ويا أهل النار، خلود بلا موت" (6) .
وقال مجاهد: { أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } يعني: السماء والأرض والجبال.
وفي رواية: ما شئتم فكونوا، فسيعيدكم الله بعد موتكم.
وقد وقع في التفسير المروي عن الإمام مالك، عن الزهري في قوله { أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } قال: النبي صلى الله عليه وسلم، قال مالك: ويقولون: هو الموت.
وقوله [تعالى] (7) { فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا } أي: من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديدًا أو خلقًا آخر شديدًا { قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي: الذي خلقكم ولم تكونوا شيئًا مذكورًا، ثم صرتم بشرًا تنتشرون؛ فإنه قادر على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم: 27 ].
وقوله [تعالى] (8) : { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ } : قال ابن عباس وقتادة: يحركونها استهزاء.
وهذا الذي قالاه هو الذي تفهمه العرب من لغاتها؛ لأن (9) الإنغاض هو: التحرك من أسفل إلى أعلى، أو من أعلى إلى أسفل، ومنه قيل للظليم -وهو ولد النعامة -: نغضًا؛ لأنه إذا مشى عَجل (10) في مشيته وحَرَك رأسه. ويقال: نَغَضَت (11) سنُه إذا تحركت وارتفعت من مَنْبَتها؛ قال: الراجز (12) .
ونَغَضَتْ مِنْ هَرَم أسنانها ...
وقوله: { وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ } إخبار عنه بالاستبعاد منهم لوقوع (13) ذلك، كما قال تعالى: { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ الملك: 25 ]
__________
(1) في ف: "هنا".
(2) في ف: "إذا هما".
(3) في ف: "قد".
(4) في ت: "إذا شاء فلا".
(5) زيادة من أ.
(6) تفسير الطبري (15/69) من طريق العوفيين عن ابن عمر، رضي الله عنه، وإسناده مسلسل بالضعفاء وأصله في صحيح مسلم برقم (2849) من جديث أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه.
(7) زيادة من ت.
(8) زيادة من ت.
(9) في ت، ف: "فإن".
(10) في ت، ف: "أعجل".
(11) في ت: "نغض".
(12) الرجز في تفسير الطبري (15/70).
(13) في ت: "وقوع".

وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)

، وقال تعالى: { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا } [ الشورى: 18 ].
وقوله: { قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا } أي: احذروا ذلك، فإنه قريب إليكم، سيأتيكم لا محالة، فكل ما هو آت آت.
وقوله [تعالى] (1) : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } أي: الرب تعالى { إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ } [ الروم: 25 ] أي: إذا أمركم بالخروج منها فإنه لا يُخالَف ولا يُمَانع، بل كما قال [تعالى] (2) { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر: 50 ]{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل: 40 ] وقال { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ . فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } [ النازعات: 13 ، 14 ] أي: إنما هو أمر واحد بانتهار، فإذا الناس قد خرجوا من باطن الأرض إلى ظاهرها (3) كما قال: { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } أي: تقومون (4) كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } أي: بأمره. وكذا قال ابن جريج.
وقال قتادة: بمعرفته وطاعته.
وقال بعضهم: { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } أي: وله الحمد في كل حال، وقد جاء في الحديث: "ليس على أهل "لا إله إلا الله" وحشة في قبورهم، وكأني (5) بأهل "لا إله إلا الله" يقومون من قبورهم ينفضون التراب عن رءوسهم، يقولون: لا إله إلا الله". وفي رواية يقولون: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } [ فاطر: 34 ] وسيأتي في سورة فاطر [إن شاء الله تعالى] (6) .
وقوله: { وَتَظُنُّونَ } أي: يوم تقومون من قبوركم { إِنْ لَبِثْتُمْ } [أي] (7) : في الدار الدنيا { إِلا قَلِيلا } ، وكما قال: { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات: 46 ] وقال تعالى: { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا } [ طه: 102 -104 ]، وقال تعالى: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ } [ الروم: 55 ]، وقال تعالى: { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ المؤمنون: 112 -114 ].
{ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) } .
يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين، أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام
__________
(1) زيادة من ت.
(2) زيادة من ت.
(3) في ت: "ظهرها".
(4) في ت، ف: "تقولون".
(5) في ت، ف: "فكأني".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) زيادة من ف.

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)

الأحسن والكلمة الطيبة؛ فإنه إذ لم يفعلوا ذلك، نزغ الشيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة، فإن الشيطان عدو لآدم وذريته من حين امتنع من السجود لآدم، فعداوته ظاهرة بينة؛ ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزغ في يده، أي: فربما أصابه بها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمر، عن همام، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشيرنّ أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزع في يده، فيقع في حفرة من نار (1) .
أخرجاه من حديث عبد الرزاق (2) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أنبأنا علي بن زيد، عن الحسن قال: حدثني رجل من بني سَلِيط قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أزْفَلَة من الناس، فسمعته يقول: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، التقوى هاهنا -[قال حماد: وقال بيده إلى صدره -ماتواد رجلان في الله فتفرَّق بينهما إلا بحدث يحدثه أحدهما] (3) والمحدث شَر، والمحدث شر، والمحدث شر" (4) .
{ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (55) } .
يقول الله تعالى: { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } أيها الناس، من يستحق منكم الهداية ومن لا يستحق { إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } بأن يوفقكم لطاعته والإنابة إليه { أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ } [يا محمد] (5) { عَلَيْهِمْ وَكِيلا } أي: إنما أرسلناك نذيرًا، فمن أطاعك دخل الجنة، ومن عصاك دخل النار.
وقوله: { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي: بمراتبهم في الطاعة والمعصية { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ } ، كَمَا قَالَ: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } [ البقرة: 253 ].
وهذا لا ينافي ما [ثبت] (6) في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تفضلوا بين الأنبياء" (7) ؛ فإن المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية (8) ، لا بمقتضى الدليل، [فإنه إذا دل الدليل] (9) على شيء وجب اتباعه، ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء، وأن أولي العزم منهم أفضلهم، وهم الخمسة المذكورون نصا (10) في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [ الأحزاب: 7 ]
__________
(1) في ف، أ: "النار".
(2) المسند (2/317) وصحيح البخاري برقم (7073) وصحيح مسلم برقم (2617).
(3) زيادة من ف، أ، والمسند.
(4) المسند (5/71).
(5) زيادة من ف، أ.
(6) زيادة من ف.
(7) صحيح البخاري برقم (3414) وصحيح مسلم برقم (2373) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(8) في ت: "والمعصية".
(9) زيادة من ف، وفي ت: "فإنه إذا كان".
(10) في ت: "قصا".

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)

، وفي الشورى [في قوله] (1) : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى: 13 ]. ولا خلاف أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضلهم، ثم بعده إبراهيم، ثم موسى على المشهور، وقد بسطنا هذا بدلائله في غير هذا الموضع، والله الموفق.
وقوله: { وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } تنبيه على فضله وشرفه.
قال البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمر، عن هَمَّام، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خُفف على داود القرآن، فكان يأمر بدابته لتُسْرج، فكان يقرأ قبل أن يَفْرغ" . يعني القرآن (2) .
{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) } .
يقول تعالى : { قُلِ } يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله: { ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ } من الأصنام والأنداد، فارغبوا إليهم، فإنهم " لا يملكون كشف الضر عنكم" أي: بالكلية، { وَلا تَحْوِيلا } أي: أن يحولوه إلى غيركم.
والمعنى: أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له الذي له الخلق والأمر.
قال العَوْفي، عن ابن عباس في قوله: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا } قال: كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا، وهم الذين يدعون، يعني الملائكة والمسيح وعزيرًا.
وقوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } . روى البخاري، من حديث سليمان بن مِهْران الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي مَعْمر، عن عبد الله في قوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } قال: ناس من الجن، كانوا يعبدون، فأسلموا. وفي رواية قال: كان ناس من الإنس، يعبدون ناسًا من الجن، فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم (3) .
وقال قتادة، عن معبد (4) بن عبد الله الزِّمَّاني (5) ، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن مسعود في قوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } قال: نزلت في نفر من العرب، كانوا يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم الجِنِّيُّون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم،
__________
(1) زيادة من ف.
(2) صحيح البخاري برقم (4713).
(3) صحيح البخاري برقم (4714 ، 4715).
(4) في ت: "سعيد" .
(5) في ت، ف: "الرماني".

وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)

فنزلت هذه الآية.
وفي رواية عن ابن مسعود: كانوا يعبدون صنفًا من الملائكة يقال لهم: الجن، فذكره.
وقال السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } قال: عيسى وأمه، وعُزير.
وقال مغيرة، عن إبراهيم: كان ابن عباس يقول في هذه الآية: هم عيسى، وعُزير، والشمس، والقمر.
وقال مجاهد: عيسى، والعُزير، والملائكة.
واختار ابن جرير قول ابن مسعود؛ لقوله: { يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } ، وهذا لا يعبر به (1) عن الماضي، فلا يدخل فيه عيسى والعُزير. قال: والوسيلة هي القربة، كما قال قتادة؛ ولهذا قال: { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ }
وقوله: { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } : لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء، فبالخوف ينكف (2) عن المناهي، وبالرجاء ينبعث على (3) الطاعات.
وقوله: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } أي: ينبغي أن يحذر منه، ويخاف من وقوعه وحصوله، عياذًا بالله منه.
{ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) } .
هذا إخبار من الله عز وجل بأنه قد حتَمَ وقضى بما قد كتبه عنده في اللوح المحفوظ: أنه ما من قرية إلا سيهلكها، بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم { عَذَابًا شَدِيدًا } إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء، وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم، كما قال عن الأمم الماضين: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } [ هود: 101 ] وقال تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا } [ الطلاق: 7 ، 8 ].
__________
(1) في ت: "لا يغن به".
(2) في ف، أ: "ينكشف".
(3) في ف: "إلى".

وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)

{ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا (59) } .
قال سُنَيْد، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جُبَيْر قال: قال المشركون: يا محمد، إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء، فمنهم من سُخّرت له الريح، ومنهم من كان يحيي الموتى، فإن سَرّك أن نؤمن بك ونصدقك، فادع ربك أن يكون لنا الصفا ذهبًا. فأوحى الله إليه: "إني قد سمعت الذي

قالوا، فإن شئت أن نفعل الذي قالوا، فإن لم يؤمنوا نزل العذاب؛ فإنه ليس بعد نزول الآية مناظرة، وإن شئت أن نَستأني بقومك استأنيتُ بهم؟" قال: "يا رب، استأن بهم" .
وكذا قال قتادة، وابن جريج، وغيرهما.
قال (1) الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس (2) ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم، وإن شئت أن نُؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكتُ من كان قبلهم من الأمم: قال: "لا بل استأن بهم". وأنزل الله: { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً } رواه (3) النسائي من حديث جرير، به (4) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن سَلَمة بن كُهيل، عن عمران أبى الحكيم (5) ، عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا، ونؤمن بك. قال: "وتفعلون؟" قالوا: نعم. قال: فدعا فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح الصفا لهم ذهبًا، فمن كفر منهم بعد ذلك عَذّبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. فقال: "بل باب التوبة والرحمة" (6) .
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا محمد بن إسماعيل بن علي الأنصاري، حدثنا خلف ابن تميم المصيصي، عن عبد الجبار بن عمار الأيلِيّ، عن عبد الله بن عطاء بن إبراهيم، عن جدته أم عطاء مولاة الزبير بن العوام قالت: سمعت الزبير يقول: لما نزلت: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } [ الشعراء: 214 ] صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي قَبِيس: "يا آل عبد مناف، إني نذير!" فجاءته قريش فحذرهم وأنذرهم، فقالوا: تزعم أنك نبي يوحى إليك، وأن سليمان سخر له الريح والجبال، وأن موسى سخر له البحر، وأن عيسى كان يحيي الموتى، فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال، ويفجر (7) لنا الأرض أنهارًا، فنتخذها محارث فنزرع ونأكل، وإلا فادع الله أن يحيي لنا موتانا فنكلمهم ويكلمونا، وإلا فادع الله أن يصير لنا هذه الصخرة التي تحتك ذهبًا، فننحت منها، وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف، فإنك تزعم أنك كهيئتهم! قال: فبينا نحن حوله، إذ نزل عليه الوحي، فلما سري عنه قال: "والذي نفسي بيده، لقد أعطاني ما سألتم، ولو شئت لكان، ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة، فيؤمن مؤمنكم، وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم، فتضلوا عن باب الرحمة، فلا يؤمن منكم أحد، فاخترت باب الرحمة، فيؤمن مؤمنكم. وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم، أنه يعذبكم عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين" ونزلت: { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ }
__________
(1) في ف: "وقال".
(2) في ف، أ: "ابن أبي إياس".
(3) في أ: "قد رواه".
(4) المسند (1/258) وسنن النسائي الكبرى برقم (11290).
(5) في هـ: "عمران بن حكيم"، والتصويب من أطراف المسند وكتب الرجال.
(6) المسند (1/242).
(7) في ف: "وتفجر".

وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)

وحتى قرأ ثلاث آيات ونزلت: { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } [ الرعد: 31 ] (1) .
ولهذا قال تعالى: { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ } أي: نبعث الآيات ونأتي بها على ما سأل قومك منك، فإنه سهل علينا يسير لدينا، إلا أنه قد كذب بها الأولون بعدما سألوها، وجرت سنتنا فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤخرون إذا كذبوا بها بعد نزولها، كما قال الله تعالى في المائدة: : { قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } [ المائدة: 115 ] وقال تعالى عن ثمود، حين سألوا آية: ناقة تخرج (2) من صخرة عَيَّنُوها، فدعا صالح ربه، فأخرج له منها ناقة على ما سألوا " فظلموا بها" (3) أي: كفروا بمن خلقها، وكذبوا رسوله وعقروا الناقة فقال: { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود: 65 ] ؛ ولهذا قال تعالى: { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ } أي: دالة على وحدانية من خلقها وصدق الرسول الذي أجيب دعاؤه فيها { فَظَلَمُوا بِهَا } أي: كفروا بها ومنعوها شِرْبها وقتلوها، فأبادهم الله عن آخرهم، وانتقم منهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وقوله: { وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا } قال قتادة: إن الله خوف الناس بما يشاء (4) من آياته لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود فقال: يا أيها الناس، إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه.
وهكذا رُوي أن المدينة زُلزلت على عهد عمر بن الخطاب مرات، فقال عمر: أحدثتم، والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن. وكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله، عز وجل، يرسلهما يخوف بهما (5) عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره" . ثم قال: " يا أمة محمد، والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا" (6) .
{ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) } .
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم محرّضًا له على إبلاغ رسالته، ومخبرًا له بأنه قد عصمه من الناس، فإنه القادر عليهم، وهم في قبضته وتحت قهره وغلبته.
قال مجاهد، وعروة بن الزبير، والحسن، وقتادة، وغيرهم في قوله: { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ }
__________
(1) مسند أبي يعلى (2/40) وقال الهيثمي في المجمع (7/85): "رواه أبو يعلى من طريق عبد الجبار بن عمر الأيلي، عن عبد الله بن عطاء بن إبراهيم، وكلاهما وثق، وقد ضعفهما الجمهور".
(2) في ف، أ: "أن يخرج لهم ناقة".
(3) في أ: "فلما ظلموا بها" وهو خطأ.
(4) في ف: "بأشياء".
(5) في ف، أ: "ولكن يخوف الله بهما".
(6) صحيح البخاري برقم (1044) وصحيح مسلم برقم (901).

أي: عصمك منهم.
وقوله: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ليلة أسري به { وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ } شجرة الزقوم (2) .
وكذا رواه أحمد، وعبد الرزاق، وغيرهما، عن سفيان بن عيينة به (3) ، وكذا رواه العوفي، عن ابن عباس، وهكذا فسر ذلك بليلة الإسراء: مجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، ومسروق، وإبراهيم، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد، وغير واحد. وقد تقدمت أحاديث الإسراء في أول السورة مستقصاة، ولله (4) الحمد والمنة. وتقدم أن ناسًا رجعوا عن دينهم بعدما كانوا على الحق؛ لأنه لم تحمل قلوبهم وعقولهم ذلك، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وجعل الله ذلك ثباتًا ويقينًا لآخرين؛ ولهذا (5) قال: { إِلا فِتْنَةً } أي: اختبارًا وامتحانًا. وأما "الشجرة الملعونة"، فهي شجرة الزقوم، كما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة والنار، ورأى شجرة الزقوم، فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل لعنه الله (6) [بقوله] (7) هاتوا لنا تمرًا وزبدًا، وجعل يأكل هذا بهذا ويقول: تَزَقَّموا، فلا نعلم الزقوم غير هذا.
حكى ذلك ابن عباس، ومسروق، وأبو مالك، والحسن البصري، وغير واحد، وكل من قال: إنها ليلة الإسراء، فسره كذلك (8) بشجرة الزقوم.
وقد قيل: المراد بالشجرة الملعونة: بنو أمية. وهو غريب ضعيف.
قال ابن جرير: حدثت عن محمد بن الحسن بن زَبَالة، حدثنا عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد، حدثني أبي عن جدي قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القرود (9) فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكًا حتى مات. قال: وأنزل (10) الله في ذلك: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } الآية (11) .
وهذا السند ضعيف جدًا؛ فإن "محمد بن الحسن بن زَبَالة" متروك، وشيخه أيضًا ضعيف بالكلية. ولهذا اختار ابن جرير: أن المراد بذلك ليلة الإسراء، وأن الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم، قال: لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك، أي: في الرؤيا والشجرة.
وقوله: { وَنُخَوِّفُهُمْ } أي: الكفار بالوعيد والعذاب والنكال { فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا } أي: تماديا فيما هم فيه من الكفر والضلال. وذلك من خذلان الله لهم.
__________
(1) في ف: "النبي صلى الله عليه وسلم".
(2) صحيح البخاري برقم (4716).
(3) المسند (1/221).
(4) في ت: "فلله".
(5) في ت: "فلهذا".
(6) في ف، أ: "عليه لعائن الله" .
(7) زيادة من ت.
(8) في ف: "فسر ذلك".
(9) في أ: "القردة".
(10) في ف: "فأنزل".
(11) تفسير الطبري (15/77).

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)

{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا (62) }
يذكر تعالى عَدَاوَةَ إبليس -لعنه الله -لآدم، عليه السلام، وذريته، وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم، فإنه تعالى أمرالملائكة بالسجود، فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له؛ افتخارًا عليه واحتقارًا له { قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } كما قال في الآية الأخرى: { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } [ الأعراف: 12 ].
وقال أيضًا: { أَرَأَيْتَكَ } ، يقول للرب جراءة وكفرًا، والرب يحلم (1) وينظر { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا }
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول: لأستولين على ذريته إلا قليلا.
وقال مجاهد: لأحتوين. وقال ابن زيد: لأضلنهم.
وكلها متقاربة، والمعنى: أنه يقول: أرأيتك هذا الذي شرفته وعظمته عليّ، لئن أنظرتني لأضلن ذرّيته إلا قليلا منهم.
{ قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا (65) } .
لما سأل إبليس [عليه اللعنة] (2) النظرة قال الله له: { اذْهَبْ } فقد أنظرتك. كما قال في الآية الأخرى: { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } [ الحجر: 37 ، 38 ] ثم أوعده ومن تَبِعه من ذرية آدم جهنم، فقال: { فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ } أي: على أعمالكم { جَزَاءً مَوْفُورًا }
قال مجاهد: وافرا. وقال قتادة: مُوَفّرا عليكم، لا ينقص لكم منه.
وقوله: { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } قيل: هو الغناء. قال مجاهد: باللهو والغناء، أي: استخفهم بذلك.
وقال ابن عباس في قوله: { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } قال: كل داع دعا إلى معصية الله، عز وجل، وقال قتادة، واختاره ابن جرير.
__________
(1) في ت، أ: "يحكم".
(2) زيادة من ف، أ.

وقوله: { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } يقول: واحمل عليهم بجنودك خَيَّالتهم ورَجْلتَهم (1) ؛ فإن "الرّجْل" جمع "راجل" ، كما أن "الركب" جمع "راكب" و"صحب" جمع "صاحب".
ومعناه: تسلط عليهم بكل ما تقدرعليه. وهذا أمر قدري، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } [ مريم: 83 ] أي: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا، وتسوقهم إليها (2) سوقًا. وقال ابن عباس، ومجاهد في قوله: { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } قال: كل راكب وماش في معصية الله.
وقال قتادة: إن له خيلا ورجالا من الجن والإنس، وهم الذين يطيعونه.
وتقول العرب: "أجلب فلان على فلان": إذا صاح عليه. ومنه: "نهى في المسابقة عن الجَلَب والجَنَب" ومنه اشتقاق "الجلبة" ، وهي ارتفاع الأصوات.
وقوله: { وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ } قال ابن عباس ومجاهد: هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله.
وقال عطاء: هو الربا. وقال الحسن: [هو] (3) جمعها من خبيث، وإنفاقها في حرام. وكذا قال قتادة.
وقال العوفي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما: أما مشاركته إياهم في أموالهم، فهو ما حرموه من أنعامهم، يعني: من البحائر والسوائب ونحوها. وكذا قال الضحاك وقتادة.
[ثم] (4) قال ابن جرير: والأولى أن يقال: إن الآية تعم ذلك كله.
وقوله: { وَالأولادِ } قال العوفي عن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك: يعني أولاد الزنا.
وقال علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفهًا بغير علم.
وقال قتادة، عن الحسن البصري: قد والله شاركهم في الأموال والأولاد مَجَّسُوا وهودوا ونَصّروا وصبغوا غير صبغة الإسلام، وجَزَّؤوا من أموالهم جزءًا للشيطان (5) وكذا قال قتادة سواء.
وقال أبو صالح، عن ابن عباس: هو تسميتهم أولادهم "عبد الحارث" و"عبد شمس" و"عبد فلان".
قال ابن جرير: وأولى الأقوال بالصواب أن يقال: كل مولود ولدته أنثى، عصى الله فيه، بتسميته ما (6) يكرهه الله، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله، أو بالزنا بأمه، أو بقتله ووأده، وغير ذلك من الأمور التي يعصي (7) الله بفعله به أو فيه، فقد دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك الولد له أو منه؛ لأن الله لم يخصص بقوله: { وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ } معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى، فكل ما عصي الله فيه -أو به، وأطيع فيه الشيطان -أو به، فهو مشاركة.
__________
(1) في ت، ف: "ورجالتهم".
(2) في ت: "إلينا".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ف: "الشيطان".
(6) في ف: "بما".
(7) في ت: "يعفى".

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)

وهذا الذي قاله مُتَّجه، وكل (1) من السلف، رحمهم الله، فسر بعض المشاركة، فقد ثبت في صحيح مسلم، عن عياض بن حمار (2) ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حُنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم (3) عن دينهم، وحَرّمت عليهم ما أحللت لهم" (4) .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يُقَدّر بينهما ولد في ذلك، لم يضره الشيطان أبدًا" (5) .
وقوله: { وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } كما أخبر تعالى عن إبليس أنه يقول إذا حصحص الحق يوم يقضى بالحق: { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } الآية[ إبراهيم: 22 ] .
وقوله: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } : إخبار بتأييده تعالى عباده المؤمنين، وحفظه إياهم، وحراسته لهم من الشيطان الرجيم؛ ولهذا قال: { وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا } أي: حافظًا ومؤيدًا وناصرًا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لَهيعة، عن موسى بن وَرْدَان، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن ليُنْضي شياطينه (6) كما ينضي أحدكم بَعيرَه في السفر" (7) .
ينضي، أي: يأخذ بناصيته ويقهره.
{ رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) } .
يخبر تعالى عن لطفه بخلقه في تسخيره لعباده الفلك في البحر، وتسهيلها (8) لمصالح عباده لابتغائهم من فضله (9) في التجارة من إقليم إلى إقليم؛ ولهذا قال: { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } أي: إنما فعل هذا بكم من فضله عليكم، ورحمته بكم.
__________
(1) في ت، ف" "فكل".
(2) في ف، أ: "عن ابن عباس عن عياض بن حمار". وفي ت: "حماد" بدل "حمار".
(3) في ت: "واجتالتهم".
(4) صحيح مسلم برقم (2865).
(5) صحيح البخاري برقم (141) وصحيح مسلم برقم (1434).
(6) في ت: "شيطانه".
(7) المسند (2/380).
(8) في ت، ف، أ: "وتسهيله لها".
(9) في ف، أ: "فضله لهم".

وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)

{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا (67) }

أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)

.
يخبر تعالى أنه إذا مس الناس ضرّ، دعوه منيبين إليه، مخلصين له الدين؛ ولهذا قال: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ } أي: ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله، كما اتفق لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فارًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة، فذهب هاربًا، فركب في البحر ليدخل الحبشة، فجاءتهم (1) ريح عاصف، فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعو الله وحده. فقال عكرمة في نفسه: والله لئن كان لا ينفع في البحر غيره، فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك عليّ عهد، لئن أخرجتني منه لأذهبن فَأضعن (2) يدي في يديه (3) ، فلأجدنه رءوفًا رحيمًا. فخرجوا من البحر، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن (4) إسلامه، رضي الله عنه وأرضاه.
وقوله: { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ } أي: نسيتم ما عرفتم من توحيده في البحر، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له.
{ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا } أي: سَجِيَّتُه هذا، ينسى النعم ويجحدها، إلا من عصم الله.
{ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا (68) }
يقول تعالى: أفحسبتم أن نخرجكم (5) إلى البر أمنتم من انتقامه وعذابه!
{ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } ، وهو: المطر الذي فيه حجارة. قاله مجاهد، وغير واحد، كما قال تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ (6) حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ } [ القمر: 34 ] وقد قال في الآية الأخرى: { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } (7) [ هود: 82 ] وقال: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [ الملك: 16 ، 17 ].
وقوله: { ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا } أي: ناصرًا يرد ذلك عنكم، وينقذكم منه [والله سبحانه وتعالى أعلم] (8) .
{ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) } .
يقول تعالى: { أَمْ أَمِنْتُمْ } أيها المعرضون عنا بعدما اعترفوا بتوحيدنا في البحر، وخرجوا إلى البر (9) { أَنْ يُعِيدَكُمْ } في البحر مرة ثانية { فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ } أي: يقصف الصواري
__________
(1) في ف: "فجاءهم".
(2) في ت: "فأضع"، وفي ف: "فلأضعن".
(3) في أ: "يدي محمد".
(4) في ت: " صلى الله عليه وسلم فأحسن".
(5) في ت، "أن يخرجوكم"، وفي ف، أ: "أن يخرجكم".
(6) في ف: "عليكم" وهو خطأ.
(7) في ت، ف، أ: "من طين" وهو خطأ.
(8) زيادة من ف.
(9) في ت: "إلى التراب".

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)

ويغرق المراكب.
قال ابن عباس وغيره: القاصف: ريح البحار (1) التي تكسر المراكب وتغرقها (2) .
وقوله: { فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ } (3) أي: بسبب كفركم وإعراضكم عن الله تعالى.
وقوله: { ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } قال ابن عباس: نصيرًا.
وقال مجاهد: نصيرًا ثائرًا، أي: يأخذ بثأركم بعدكم.
وقال قتادة: ولا نخاف أحدًا يتبعنا بشيء من ذلك.
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا (70) } .
يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم، وتكريمه إياهم، في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها (4) كما قال: { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين: 4 ] أي: يمشي قائمًا منتصبًا على رجليه، ويأكل بيديه -وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه -وجعل له سمعًا وبصرًا وفؤادًا، يفقه بذلك كله وينتفع به، ويفرق بين الأشياء، ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدنيوية والدينية.
{ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ } (5) أي: على الدواب من الأنعام والخيل والبغال، وفي "البحر" أيضًا على السفن الكبار والصغار.
{ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } أي: من زروع وثمار، ولحوم وألبان، من سائر أنواع الطعوم (6) والألوان، المشتهاة اللذيذة، والمناظر الحسنة، والملابس الرفيعة (7) من سائر الأنواع، على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها، مما يصنعونه لأنفسهم، ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي.
{ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا } أي: من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات.
وقد استُدل بهذه الآية على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة، قال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن زيد بن أسلم قال: قالت الملائكة: يا ربنا، إنك أعطيت بني آدم الدنيا، يأكلون منها ويتنعمون، ولم تعطنا ذلك فأعطناه في الآخرة. فقال الله: "وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي، كمن قلت له: كن فكان" (8) .
وهذا الحديث مرسل من هذا الوجه، وقد روي من وجه آخر متصلا.
وقال (9) الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد بن صَدَقَة البغدادي، حدثنا إبراهيم
__________
(1) في ت: "البحارة".
(2) في ف: "يكسر المراكب ويغرقها".
(3) في ت: "فتغرقكم". وفي ف: "فيغرقكم".
(4) في أ: "وأجملها".
(5) في ت، ف: "البر والبحر".
(6) في ت: "الأطعمة".
(7) في ت، ف، أ: "المرتفعة".
(8) تفسير عبد الرزاق (1/325).
(9) في ف: "فقال".

يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)

بن عبد الله بن خالد المِصِّيصِيّ، حدثنا حجاج بن محمد، حدثنا أبو غَسَّان محمد بن مطرف، عن صفوان بن سُليم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة قالت: يا ربنا، أعطيت بني آدم الدنيا، يأكلون فيها (1) ويشربون ويلبسون، ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة. قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي، كمن قلت له: كن، فكان" (2) .
وقد روى ابن عساكر من طريق محمد بن أيوب الرازي، حدثنا الحسن بن علي بن خلف الصيدلاني، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن، حدثني عثمان بن حصن بن عبيدة بن عَلاق، سمعت عروة بن رُوَيْم اللخمي، حدثني أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة قالوا: ربنا، خلقتنا وخلقت بني آدم، فجعلتهم يأكلون الطعام، ويشربون الشراب، ويلبسون الثياب، ويتزوجون النساء، ويركبون الدواب، ينامون (3) ويستريحون، ولم تجعل لنا من ذلك شيئًا، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة. فقال الله عز وجل: لا أجعل من خلقته بيدي، ونفخت فيه من روحي، كمن قلت له: كن، فكان" (4) .
وقال الطبراني: حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا عمر (5) بن سهل، حدثنا عبيد الله بن تمام، عن خالد الحذاء، عن بشر بن شِغَاف (6) عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم". قيل: يا رسول الله ولا الملائكة؟ قال: "ولا الملائكة، الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر" (7) . وهذا حديث غريب جدًا.
{ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا (72) } .
يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة: أنه يحاسب كل أمة بإمامهم.
وقد اختلفوا في ذلك، فقال مجاهد وقتادة: أي بنبيهم. وهذا كقوله: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [ يونس: 47 ].
__________
(1) في ت: "منها".
(2) وفي إسناده إبراهيم بن عبد الله المصيصي وهو كذاب، ورواه في المعجم الأوسط برقم (87) "مجمع البحرين" من طريق طلحة بن زيد عن صفوان بن سليم به، وقال: "لم يروه عن صفوان إلا طلحة، وأبو غسان محمد بن مطرف" وفي إسناده طلحة بن زيد وهو كذاب.
(3) في ت: "وينامون".
(4) وذكره الهندي في كنز العمال (12/191) وعزاه لابن عساكر من حديث أنس، وقد جاء من وجه آخر؛ فرواه الطبراني في مسند الشاميين من طريق أحمد بن يعلى، عن هشام بن عمار، عن عثمان بن علاق قال: سمعت عروة بن رويم يحدث عن جابر فذكره، ورواه البيهقي في الأسماء والصفات من طريق جنيد بن حكيم، عن هشام بن عمار، عن عبد ربه بن صالح قال: سمعت عروة بن رويم يحدث عن جابر فذكره. أ. هـ. مستفادا ذلك الزيلعي في كتابه تخريج الكشاف.
(5) في ت، ف: "معمر".
(6) في ف: "شعاب".
(7) قال الهيثمي في المجمع (1/82): "رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبيد الله بن تمام وهو ضعيف".

وقال بعض السلف: هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث؛ لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن زيد: بكتابهم الذي أنزل على نبيهم، من التشريع.
واختاره ابن جرير، وروي عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أنه قال: بكتبهم. فيحتمل أن يكون أراد هذا، وأن يكون أراد ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } أي: بكتاب أعمالهم، وكذا قال أبو العالية، والحسن، والضحاك. وهذا القول هو الأرجح؛ لقوله تعالى: { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } [يس : 12] . وقال تعالى: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف : 49] .
وقال تعالى: { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية : 28 ، 29] .
وهذا لا ينافي (1) أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته، فإنه لا بد أن يكون شاهدا عليها بأعمالها، كما قال: { وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } [الزمر : 69] ، وقال { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } [النساء : 41] ..
ولكن المراد هاهنا بالإمام (2) هو كتاب الأعمال؛ ولهذا قال تعالى: { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ } أي: من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح، يقرؤه ويحب قراءته، كما قال تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } إلى أن قال: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } [الحاقة : 19 -26] ..
وقوله: { وَلا يُظْلَمُونَ (3) فَتِيلا } قد تقدم أن "الفتيل" هو الخيط المستطيل في شق النواة.
وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثًا في هذا فقال: حدثنا محمد بن يَعْمَر (4) ومحمد بن عثمان بن كرامة قالا حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السُّدِّيّ، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله: { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } قال: "يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويمد له في جسمه، ويُبَيَّض وجهه، ويجعل على رأسه تاج من لؤْلؤة تَتَلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد، فيقولون: اللهم ائتنا (5) بهذا، وبارك لنا في هذا. فيأتيهم فيقول لهم: أبشروا، فإن لكل رجل منكم مثل هذا. وأما الكافر فَيُسْود وجهه، ويمدّ له في جسمه، ويراه أصحابه فيقولون: نعوذ بالله من هذا -أو: من شر هذا -اللهم لا تأتنا به. فيأتيهم فيقولون: اللهم اخزه (6) فيقول: أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا".
__________
(1) في ت، ف: "لا ينفي".
(2) في ف: "بالإمام هاهنا".
(3) في ف: "تظلمون".
(4) في ت، ف، أ: "معمر".
(5) في هـ، ت: "اعترينا"، والمثبت من ف.
(6) في ت: "أجرنا".

وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)

ثم قال البزار: لا يروى إلا من هذا الوجه (1) .
وقوله: { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا } قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد: { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ } أي: في الحياة الدنيا { أَعْمَى } عن حجج الله وآياته وبيناته { فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى } أي: كذلك يكون { وَأَضَلُّ سَبِيلا } أي: وأضل منه كما كان في الدنيا، عياذًا بالله من ذلك.
{ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا (74) إِذًا لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) } .
يخبر تعالى عن تأييد (2) رسوله، صلوات الله عليه وسلامه (3) ، وتثبيته، وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه، بل هو وليه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره، ومظهر (4) دينه على من عاداه وخالفه وناوأه، في مشارق الأرض ومغاربها، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرًا إلى يوم الدين.
__________
(1) ورواه الترمذي في السنن برقم (3136) من طريق عبد الله بن عبد الرحمن، عن عبيد الله بن موسى به، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
(2) في ف: "تأييده".
(3) في ت: "صلوات الله وسلامه عليه".
(4) في ت: "فيظهر".

وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)

{ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا (77) } .
قيل: نزلت في اليهود، إذ أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسكنى الشام بلاد الأنبياء، وترك سكنى المدينة.
وهذا القول ضعيف؛ لأن هذه الآية مكية، وسكنى المدينة بعد ذلك.
وقيل: إنها نزلت بتبوك. وفي صحته نظر.
قال البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار العُطاردي، عن يونس بن بُكيْر، عن عبد الحميد بن بَهْرَام، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن عبد الرحمن بن غَنْم؛ أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقالوا: يا أبا القاسم، إن كنت صادقًا أنك نبي، فالحق بالشام؛ فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء. فصدق (1) ما قالوا، فغزا غزوة تبوك، لا يريد إلا الشام. فلما بلغ تبوك، أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة: { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا } إلى قوله: { تَحْوِيلا } فأمره الله بالرجوع إلى المدينة، وقال: فيها محياك ومماتك، ومنها تبعث (2) .
__________
(1) في ت، ف: "قال: فصدق".
(2) دلائل النبوة (5/254).

أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)

وفي هذا الإسناد نظر. والأظهر أن هذا ليس (1) بصحيح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغز تبوك عن قول اليهود، إنما غزاها امتثالا لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ } [التوبة : 123] ، وقوله (2) تعالى: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة : 29]. وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة، من أصحابه، والله أعلم. ولو صح هذا لحمل عليه الحديث الذي رواه الوليد بن مسلم، عن عُفَير بن معدان، عن سُلَيم بن عامر، عن أبي أمامة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة: مكة، والمدينة، والشام" (3) . قال الوليد: يعني بيت المقدس. وتفسير الشام بتبوك أحسن مما قال الوليد: إنه بيت المقدس والله أعلم.
وقيل: نزلت في كفار قريش، هموا بإخراج الرسول من بين أظهرهم، فتوعدهم الله بهذه الآية، وأنهم لو أخرجوه (4) لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيرًا. وكذلك وقع؛ فإنه لم يكن بعد هجرته من بين أظهرهم، بعد ما اشتد أذاهم له، إلا سنة ونصف. حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد، فأمكنه منهم وسلطه عليهم وأظفره بهم، فقتل أشرافهم (5) وسبى سراتهم (6) ؛ ولهذا قال: { سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا } أي: هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم: يخرج الرسول من بين أظهرهم: ويأتيهم العذاب. ولولا أنه عليه [الصلاة و] (7) السلام رسول الرحمة، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به؛ ولهذا قال تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الأنفال : 33] .
{ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) } .
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمرًا له بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها: { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } قيل (8) لغروبها. قاله ابن مسعود، ومجاهد، وابن زيد.
وقال هُشَيْم، عن مغيرة، عن الشعبي، عن ابن عباس: "دلوكها": زوالها. ورواه نافع، عن ابن عمر. ورواه مالك في تفسيره، عن الزهري، عن ابن عمر. وقاله أبو بَرْزَة الأسلمي وهو رواية أيضًا عن ابن مسعود. ومجاهد. وبه قال الحسن، والضحاك، وأبو جعفر الباقر، وقتادة. واختاره ابن جرير، ومما استشهد عليه ما رواه عن ابن حميد، عن الحكم بن بشير، حدثنا عمرو بن قيس، عن ابن أبي ليلى، [عن رجل] (9) ، عن جابر بن عبد الله قال: دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اخرج يا أبا بكر، فهذا حين دلكت الشمس" (10) .
__________
(1) في ت: "ليس هذا".
(2) في ف: "ولقوله".
(3) رواه الطبراني في المعجم الكبير (8/201). من طريق هشام بن عمار، عن الوليد بن مسلم به، وعفير بن معدان ضعيف.
(4) في ت: "خرجوه".
(5) في ت: "أشرارهم".
(6) في ف، أ: "ذراريهم".
(7) زيادة من ف، أ.
(8) في ت: "قبل".
(9) زيادة من ف، أ، والطبري.
(10) تفسير الطبري (15/93).

ثم رواه عن سهل بن بكار، عن أبي عَوَانة، عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنزي، عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحوه. فعلى هذا تكون هذه الآية دخل فيها أوقات الصلاة الخمسة فمن قوله: { لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } وهو : ظلامه، وقيل: غروب الشمس، أخذ منه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقوله [تعالى] (1) : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } يعني: صلاة الفجر.
وقد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواترًا من أفعاله وأقواله (2) بتفاصيل هذه الأوقات، على ما عليه عمل أهل الإسلام (3) اليوم، مما تلقوه خلفًا عن سلف، وقرنًا بعد قرن، كما هو مقرر في مواضعه، ولله الحمد.
{ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } قال الأعمش، عن إبراهيم، عن ابن مسعود -وعن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه (4) ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: { إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } قال: "تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار" (5) .
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن أبي سلمة -وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر". ويقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } (6) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسباط، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم -وحدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } قال: "تشهده ملائكة الليل، وملائكة النهار".
ورواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ثلاثتهم عن عُبَيْد بن أسباط بن محمد، عن أبيه، به (7) وقال الترمذي: حسن صحيح.
وفي لفظ في الصحيحين، من طريق مالك، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يتعاقبون فيكم ملائكة الليل وملائكة النهار (8) ، ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر، فَيَعْرُجُ الذين باتوا فيكم فيسألهم -وهو أعلم بكم -كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون" (9) وقال عبد الله بن مسعود: يجتمع الحرسان (10) في صلاة الفجر، فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت: "أقواله وأفعاله".
(3) في ت: "السلام".
(4) في ت، ف، أ: "عنهما".
(5) رواه الطبري في تفسيره (15/94).
(6) صحيح البخاري برقم (4717).
(7) المسند (2/474) وسنن الترمذي برقم (3135) وسنن النسائي الكبرى برقم (11293) وسنن ابن ماجة برقم (670) وهو عند أهل السنن من رواية الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه.
(8) في ت: "بالليل وملائكة بالنهار".
(9) صحيح البخاري برقم (555) وصحيح مسلم برقم (632).
(10) في ت، ف: "الحرستان".

وكذا قال إبراهيم النَّخَعي، ومجاهد، وقتادة، وغير واحد في تفسير هذه الآية.
وأما الحديث الذي رواه ابن جرير هاهنا -من حديث الليث بن سعد، عن زيادة، عن محمد بن كعب القرظي، عن فضالة بن عُبيد، عن أبي الدرداء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديث النزول وأنه تعالى يقول: "من يستغفرني أغفر له، من يسألني أعطه (1) ، من يدعني فأستجيب له حتى يطلع الفجر". فلذلك يقول: { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } فيشهده الله، وملائكة الليل، وملائكة النهار (2) -فإنه تفرد به زيادة، وله بهذا حديث في سنن أبي داود (3) .
وقوله: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ } أمر له بقيام الليل بعد المكتوبة، كما ورد في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: "صلاة الليل" (4) .
ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل، فإن التهجد: ما كان بعد نوم. قاله علقمة، والأسود وإبراهيم النخعي، وغير واحد وهو المعروف في لغة العرب. وكذلك ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يتهجد بعد نومه، عن ابن عباس، وعائشة، وغير واحد من الصحابة، رضي الله عنهم، كما هو مبسوط في موضعه (5) ، ولله الحمد والمنة.
وقال الحسن البصري: هو ما كان بعد العشاء. ويحمل (6) على ما بعد النوم.
واختلف في معنى قوله: { نَافِلَةً لَكَ } فقيل: معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك، فجعلوا قيام الليل واجبًا في حقه دون الأمة. رواه العوفي عن ابن عباس، وهو أحد قولي العلماء، وأحد قولي الشافعي، رحمه الله، واختاره ابن جرير.
وقيل: إنما جعل قيام الليل (7) في حقه نافلة على الخصوص؛ لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيرهُ من أمته إنما يكفر عنه صلواته النوافل الذنوب التي عليه، قاله مجاهد، وهو في المسند عن أبي أمامة الباهلي، رضي الله عنه (8) .
وقوله: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } أي: افعل هذا الذي أمرتك به، لنقيمك يوم القيامة مقاما يحسدك فيه الخلائق كلهم وخالقهم، تبارك وتعالى.
قال ابن جرير: قال أكثر أهل التأويل: ذلك هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن (9) أبي إسحاق، عن
__________
(1) في ف: "أعطيه".
(2) تفسير الطبري (15/94).
(3) سنن أبي داود برقم (3892) وأوله: "من اشتكى منكم شيئا أو اشتكاه أخ له فليقل". وزيادة منكر الحديث.
(4) صحيح مسلم برقم (1163).
(5) في ف: "مواضعه".
(6) في ت: "ويحتمل".
(7) في ف، أ: "قيام الليل واجبا".
(8) المسند (5/256).
(9) في ت: "ابن".

صلة بن زُفَر، عن حذيفة قال: يجمع الناس في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، حفاة عُراة كما خلقوا قيامًا، لا تكلم نفس إلا بإذنه، ينادى: يا محمد، فيقول: "لبيك وسعدَيك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهديّ من هَدَيْت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت". فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله عز وجل (1) (2) .
ثم رواه عن بُنْدَار، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن أبي إسحاق، به (3) . وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر والثوري، عن أبي إسحاق، به (4) .
وقال ابن عباس: هذا المقام المحمود مقام الشفاعة. وكذا قال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد. وقاله الحسن البصري.
وقال قتادة: هو أول من تنشق عنه الأرض (5) ، وأول شافع، وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود الذي قال الله: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا }
قلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا تشريفات [يوم القيامة] (6) لا يشركه فيها (7) أحد، وتشريفات لا يساويه فيها أحد؛ فهو أول من تنشق عنه الأرض (8) ويبعث راكبا إلى المحشر، وله اللواء الذي آدم فمن دُونَه تحت لوائه، وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر واردًا منه، وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق، وذلك بعدما يسأل الناس آدم ثم نوحًا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى، فكل يقول: "لست لها" حتى يأتوا إلى محمد (9) صلى الله عليه وسلم فيقول: "أنا لها، أنا لها" كما سنذكر ذلك مفصلا في هذا الموضع، إن شاء الله تعالى. ومن ذلك أنه يشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار، فيردون عنها. وهو أول الأنبياء يقضي بين أمته، وأولهم إجازة على الصراط بأمته. وهو أول شفيع في الجنة، كما ثبت في صحيح مسلم. وفي حديث الصور: أن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته وهو أول داخل إليها وأمته قبل الأمم كلهم. ويشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم. وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة، لا تليق إلا له. وإذا أذن الله تعالى في الشفاعة للعصاة (10) شفع (11) الملائكة والنبيون والمؤمنون، فيشفع هو في خلائق لا يعلم عدتهم (12) إلا الله، ولا يشفع أحد مثله ولا يساويه في ذلك. وقد بسطت ذلك مستقصى في آخر كتاب "السيرة" في باب الخصائص، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في أ، ف: "الله تعالى".
(2) تفسير الطبري (15/97).
(3) تفسير الطبري (15/97) والرواية كما هي عند الطبري: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر "غندر" فلعله سبق نظر.
(4) تفسير الطبري (15/98).
(5) في ت: "تنشق الأرض عنه".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في ت: "فينا".
(8) في ت: "الأرض عنه".
(9) في أ، ف: "يأتوا محمدا".
(10) في ت، ف: "في العصاة".
(11) في أ: "تشفع".
(12) في ت: "عددهم".

ولنذكر الآن (1) الأحاديث الواردة في المقام المحمود، وبالله المستعان:
قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن أبان، حدثنا أبو الأحوص، عن آدم بن علي، سمعت ابن عمر [يقول] (2) : إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًا، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع، يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله مقامًا محمودًا (3) .
ورواه حمزة بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جرير: حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا (4) شعيب بن الليث، حدثنى (5) الليث، عن عبيد الله بن أبي جعفر أنه قال: سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشمس لَتدنو حتى يبلغ (6) العَرَقُ نصفَ الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا (7) بآدم، فيقول: لست صاحب ذلك، ثم بموسى فيقول كذلك، ثم بمحمد فيشفع بين الخلق (8) ، فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا". [يحمده أهل الجنة كلهم] (9) .
وهكذا رواه البخاري في "الزكاة" عن يحيى بن بُكَيْر، وعبد الله بن صالح، كلاهما عن الليث بن سعد، به (10) ، وزاد "فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا، بحمده أهل الجمع كلهم" .
قال البخاري: وحدثنا علي بن عَيَّاش، حدثنا شعيب بن أبي حَمْزة، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حَلَّت له شفاعتي يوم القيامة". انفرد به دون مسلم (11) .
حديث أبيّ:
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر الأزدي، حدثنا زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة، كنت إمام الأنبياء وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم غير فَخْر" (12) .
وأخرجه الترمذي، من حديث أبي عامر عبد الملك بن عَمْرو العَقَديّ، وقال: "حسن صحيح ". وابن ماجه من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل به. وقد قدمنا في حديث: "أبي بن كعب" في قراءة القرآن على سبعة أحرف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخره: "فقلت: اللهم، اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ فيه الخلق، حتى إبراهيم عليه السلام" (13) .
__________
(1) في ت: "الآية".
(2) زيادة من ت، ف،أ ، والبخاري.
(3) صحيح البخاري برقم (4718).
(4) في ت: "قال: حدثنا".
(5) في ت: "قال: حدثني".
(6) في ت: "تبلغ".
(7) في ت: "استغاث".
(8) في ت: "الخلائق".
(9) زيادة من أ.
(10) تفسير الطبري (15/98) وصحيح البخاري برقم (1475).
(11) صحيح البخاري برقم (4719).
(12) المسند (5/137).
(13) سنن الترمذي برقم (3613) وسنن ابن ماجة برقم (4314).

حديث أنس بن مالك:
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبة، حدثنا قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجتمع (1) المؤمنون يوم القيامة، فيلهمون ذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فأراحنا من مكاننا هذا. فيأتون آدم فيقولون: يا آدم، أنت أبو (2) البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كلّ شيء، فاشفع لنا إلى ربك (3) حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول لهم آدم: لست هناكم، ويذكر ذنبه الذي أصاب، فيستحيي ربه، عز وجل، من ذلك، ويقول: ولكن ائتوا نوحًا، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. فيأتون نوحًا فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئة (4) سؤاله ربه ما ليس له به علم، فيستحيي ربه من ذلك، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن. فيأتونه فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا موسى، عبدًا كلمه الله، وأعطاه التوراة. فيأتون موسى فيقول: لست هناكم، ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس (5) فيستحيي ربه من ذلك، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته وروحه، فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمدًا عبدًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني" . قال الحسن هذا الحرف (6) : "فأقوم فأمشي بين سِماطين من المؤمنين". قال أنس: "حتى أستأذن على ربي، فإذا رأيت ربي وقعت له -أو: خررت -ساجدًا لربي، فيدعني ما شاء الله أن يدعني". قال: "ثم يقال: ارفع محمد، قل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه. فأرفع رأسي، فأحمده بتحميد يُعَلِّمُنيه، ثم أشفع فيحدّ لي حدًا، فأدخلهم الجنة": "ثم (7) أعود (8) إليه الثانية، فإذا رأيت ربي وقعت (9) -أو: خررت -ساجدًا لربي، فيدعني ما شاء الله أن يدعني. ثم يقال: ارفع محمد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يُعَلِّمُنيه، ثم أشفع فيحدّ لي حدًا، فأدخلهم الجنة، ثم أعود في الثالثة؛ فإذا رأيت ربي وقعت -أو: خررت -ساجدًا لربي، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع محمد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يُعَلِّمُنيه ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة. ثم أعود الرابعة فأقول: يا رب، ما بقي إلا من حبسه القرآن". فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيخرج من النار من قال: "لا إله إلا الله" وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: "لا إله إلا الله" وكان في قلبه من الخير ما يزن بُرَّة ثم يخرج من النار من قال: "لا إله إلا الله" وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة".
أخرجاه [في الصحيح] (10) من حديث سعيد، به (11) وهكذا رواه الإمام أحمد، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بطوله (12) .
__________
(1) في ف، أ: "يجمع".
(2) في ت: "أول".
(3) في ت: "ربنا".
(4) في ت، ف، أ: "خطيئته".
(5) في ف: "بغير حق".
(6) في ت: "الخوف".
(7) في ف، أ: "قال: ثم".
(8) في ت: "أدعو".
(9) في أ: "وقعت له".
(10) زيادة من أ.
(11) المسند (3/116) وصحيح البخاري برقم (4476) وصحيح مسلم برقم (193).
(12) المسند (3/244).

وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حرب بن ميمون أبو الخطاب الأنصاري، عن النضر بن أنس، عن أنس قال: حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط، إذ جاءني عيسى، عليه السلام، فقال: هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألون -أو قال: يجتمعون إليك -ويَدْعُون الله أن يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء الله، لغمّ (1) ما هم فيه، فالخلق مُلجَمون بالعرق، فأما المؤمن فهو عليه كالزكْمَة، وأما الكافر فيغشاه الموت، فقال: انتظر حتى أرجع إليك. فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فقام تحت العرش، فلقي ما لم يلق مَلَك مصطفى ولا نبي مرسل. فأوحى الله، عز وجل، إلى جبريل: أن اذهب إلى محمد، وقل له: ارفع رأسك، وسل تُعطَه، واشفع تشفع. فشفَعتُ (2) في أمتي: أن أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانًا واحدًا. فما زلت أتردد إلى ربي، عز وجل، فلا أقوم منه مقامًا إلا شفعت، حتى أعطاني الله من ذلك، أن قال: يا محمد، أَدْخِلْ [من أمتك] (3) من خلق الله، عز وجل، من شهد أن لا إله إلا الله يومًا واحدًا مخلصًا ومات على ذلك " (4) .
حديث بريدة، رضي الله عنه:
قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا الأسود بن عامر، أخبرنا أبو إسرائيل، عن الحارث بن حَصِيرة، عن ابن بُرَيْدة، عن أبيه: أنه دخل على معاوية، فإذا رجل يتكلم، فقال بريدة: يا معاوية، تأذن لي في الكلام؟ فقال: نعم -وهو يرى أنه يتكلم بمثل (5) ما قال الآخر -فقال بريدة: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة ومدرة". قال: فترجوها أنت يا معاوية، ولا يرجوها عليّ، رضي الله عنه؟! (6) .
حديث ابن مسعود:
قال الإمام أحمد: حدثنا عارم بن الفضل، حدثنا سعيد بن زيد، حدثنا علي بن الحكم البُنَاني، عن عثمان، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن ابن مسعود قال: جاء ابنا مُلَيْكَة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا إن أمَّنا [كانت] (7) تكرم الزوج، وتعطف على الولد -قال: وذكر الضيف -غير أنها كانت وأدت في الجاهلية؟ فقال: "أمكما في النار". قال: فأدبرا والسوء يرى في وجوههما، فأمر بهما فَرُدَّا، فَرَجَعَا والسرور (8) يرى في وجوههما؛ رجاء أن يكون قد حدث شيء، فقال: "أمي مع أمكما". فقال رجل من المنافقين: وما يغني هذا عن أمه شيئًا! ونحن نطأ عقبيه . فقال رجل من الأنصار -ولم أر رجلا قط أكثر سؤالا منه-: يا رسول الله، هل وعدك ربك فيها أو فيهما؟. قال: فظن أنه من شيء قد سمعه، فقال: "ما شاء الله ربي وما أطمعني (9) فيه، وإني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة". فقالَ الأنصاري: يا رسول الله، وما ذاك المقام المحمود؟ قال:" ذاك إذا
__________
(1) في ت، "نعم".
(2) في ت: "فتشفعت".
(3) زيادة من ت، أ، والمسند.
(4) المسند (3/178) وقال الهيثمي في المجمع (10/374): "رجاله رجال الصحيح".
(5) في ت: "يميل".
(6) المسند (5/347) ، وأبو إسرائيل الملائي ضعيف.
(7) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(8) في ت: "والسوء".
(9) في ت: "وما طمعني".

جيء بكم حفاة عراة غرلا فيكون أول من يكسى إبراهيم، عليه السلام، فيقول: اكسوا خليلي. فيؤتى بريطتين بيضاوين، فيلبسهما ثم يقعده مستقبل العرش، ثم أوتي بكسوتي فألبسها، فأقوم عن يمينه مقامًا لا يقومه أحد، فيغبطني فيه الأولون والآخرون. ويفتح نهر (1) من الكوثر إلى الحوض". فقال المنافقون: إنه ما جرى ماء قط إلا على حال أو رضراض. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حاله المسك، ورضراضه التُّوم". [قال المنافق: لم أسمع كاليوم. قلَّما جرى ماء قط على حال أو رضراض، إلا كان له نبتة. فقال الأنصاري: يا رسول الله، هل له نبت؟ قال "نعم، قضبان الذهب"] (2) . قال المنافق: لم أسمع كاليوم، فإنه قلما ينبت قضيب إلا أورق، وإلا كان له ثمر! قال الأنصاري: يا رسول الله، هل له ثمرة؟ قال: "نعم، ألوان الجوهر، وماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، من شرب منه شربةً (3) لا يظمأ بعده، ومن حرمه لم يَرْوَ بعده" (4) .
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا يحيى بن سَلَمَة بن كُهَيْل، عن أبيه، عن أبي الزّعْرَاء، عن عبد الله قال: ثم يأذن الله، عز وجل، في الشفاعة، فيقوم روح القدس جبريل، ثم يقوم إبراهيم خليل الله، ثم يقوم عيسى أو موسى -قال أبو الزعراء: لا أدري أيهما -قال: ثم يقوم نبيكم صلى الله عليه وسلم رابعًا، فيشفع لا يشفع أحد بعده أكثر مما شفع، وهو المقام المحمود الذي قال الله عز وجل: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } (5) .
حديث كعب بن مالك، رضي الله عنه:
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا محمد بن حرب، حدثنا الزبيدي، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله [بن كعب] (6) بن مالك، عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يبعث الناس يوم القيامة، فأكون أنا وأمتي على تل، ويكسوني ربي، عز وجل، حلة خضراء (7) ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود" (8) .
حديث أبي الدرداء، رضي الله عنه:
قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن ابن جُبَير، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه، فأنظر إلى ما بين يدي، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك". فقال رجل: يا رسول الله، كيف تعرف أمتك من بين الأمم، فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال: "هم غرّ مُحَجَّلُون، من أثر الوضوء، ليس أحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يُؤتَونَ كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعى (9) بين أيديهم ذريتهم" (10) .
__________
(1) في ت: "لهم".
(2) زيادة من ف، أ، والمسند.
(3) في ت، أ: "شرابا".
(4) المسند (1/398).
(5) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11296) من طريق بندار، عن غندر، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل بنحوه.
(6) زيادة من ف، أ، والمسند.
(7) في ت: "حمراء".
(8) المسند (3/456).
(9) في ت، أ: "يسعى".
(10) المسند (5/199).

حديث أبي هريرة، رضي الله عنه:
قال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا أبو حَيَّان، حدثنا أبو زُرْعَة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم، فَرُفع إليه الذراع -وكانت تعجبه -فَنَهَسَ منها نَهْسة (1) ، ثم قال: "أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون ممّ ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، يُسْمعهم الداعي ويَنفذُهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغمّ (2) والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون. فيقول بعض الناس لبعض: [ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ ألا ترون إلى ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم عز وجل؟ فيقول بعض الناس لبعض] (3) : أبوكم آدم!.
فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك؛ فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي، نفسي، نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة (4) على قومي، نفسي، نفسي، نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، [اشفع لنا إلى ربك] (5) ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، فذكر كذباته نفسي، نفسي، نفسي [اذهبوا إلى غيري] (6) اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسًا لم أومر بقتلها، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه -قال: هكذا هو -وكلمت الناس في المهد، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبا، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد.
__________
(1) في أ: "فنهش منها نهشة".
(2) في ت: "الهم".
(3) زيادة من المسند
(4) في ت، أ: "دعوة دعوتها"
(5) زيادة من ف، أ، والمسند.
(6) زيادة من ف، أ، والمسند.

فيأتوني فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم فآتي تحت العرش، فأقع ساجدًا لربي، عز وجل، ثم يفتح الله عليّ، ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي. فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأقول: يا رب، أمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، يا رب، أمتي أمتي! فيقال: يا محمد: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب". ثم قال: "والذي نفس محمد بيده لما بين مِصْراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وَهَجَر، أو كما بين مكة وبُصْرَى". أخرجاه في الصحيحين (1) .
وقال مسلم، رحمه الله: حدثنا الحكم بن موسى، حدثنا هِقْلُ بن زياد، عن الأوزاعي، حدثني أبو عمار، حدثني عبد الله بن فرُّوخ، حدثني أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مُشَفَّع" (2) .
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن داود بن يزيد الزّعافري، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } ، سئل عنها فقال: "هي الشفاعة " (3) .
رواه الإمام أحمد عن وكيع وعن محمد (4) بن عبيد، عن داود، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } قال: "هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه" (5) .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن علي بن الحسين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة، مدّ الله الأرض مدّ الأديم، حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدمه (6) . قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأكون أول من يدعى، وجبريل عن يمين الرحمن (7) والله ما رآه قبلها، فأقول (8) رب، إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي. فيقول الله تبارك وتعالى: صدق، ثم أشفع. فأقول: يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض"، قال: "فهو المقام المحمود" (9) ، وهذا حديث مرسل.
__________
(1) المسند (2/435) وصحيح البخاري برقم (4712) وصحيح مسلم برقم (894).
(2) صحيح مسلم برقم (2278).
(3) تفسير الطبري (15/98).
(4) في هـ : "عن وكيع عن محمد بن عبيد"، والمثبت من ت.
(5) المسند (2/441 ، 444).
(6) في ت، ف: "قدميه".
(7) في ت: "الرحمن عز وجل"، وفي ف، أ: "الرحمن تبارك وتعالى".
(8) في ت، ف، أ: "فأقول: أي".
(9) تفسير عبد الرزاق (1/328).

وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)

{ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) } .
قال الإمام أحمد: حدثنا جرير، عن قابوس بن (1) أبي ظَبْيَان، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة، فأنزل الله: { وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا } (2) .
وقال الحسن البصري في تفسير هذه الآية: إن كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يطردوه أو يوثقوه، وأراد الله قتال أهل مكة، فأمره أن يخرج إلى (3) المدينة، فهو الذي قال الله عز وجل: : { وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ }
وقال قتادة: { وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } يعني: المدينة { وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } يعني: مكة.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهذا القول هو أشهر الأقوال.
وقال: العوفي عن ابن عباس: { أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } يعني: الموت { وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } يعني: الحياة بعد الموت. وقيل غير ذلك من الأقوال. والأول أصح، وهو اختيار ابن جرير.
وقوله: { وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا } قال الحسن البصري في تفسيرها: وعده ربه لينزعن ملك فارس، وعز (4) فارس، وليجعلنه له، وملك الروم، وعز الروم، وليجعلنه له.
وقال قتادة فيها إن نبي الله صلى الله عليه وسلم، علم ألا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطانًا نصيرًا لكتاب الله، ولحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله؛ فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، فأكل شديدهم ضعيفهم.
قال مجاهد: { سُلْطَانًا نَصِيرًا } حجة بينة.
واختار ابن جرير قول الحسن وقتادة، وهو الأرجح؛ لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه؛ ولهذا قال [سبحانه و] (5) تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } [ الحديد: 25 ] وفي الحديث: "إن الله لَيَزَع بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن" أي: ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام، ما لا يمتنع كثيرٌ من الناس بالقرآن، وما فيه من الوعيد الأكيد، والتهديد الشديد، وهذا هو الواقع.
وقوله: { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } تهديد ووعيد لكفار قريش؛ فإنه قد
__________
(1) في ف: "عن".
(2) المسند (1/223).
(3) في ت: "على".
(4) في ت: "وغير".
(5) زيادة من ف، أ.

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)

جاءهم من الله الحق الذي لا مرية فيه ولا قبل لهم به، وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان والعلم النافع. وزَهَقَ باطلهم، أي اضمحل وهلك، فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } [ الأنبياء: 18 ].
وقال البخاري: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن أبي (1) مَعْمر، عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نُصُبٍ، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول: { جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } ، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد" (2) .
وكذا رواه البخاري أيضًا في غير هذا الموضع، ومسلم، والترمذي، والنسائي، كلهم من طرق عن سفيان بن عيينة به. (3) [وكذا رواه عبد الرزاق عن الثوري عن ابن أبي نجيح] (4) .
وكذا رواه الحافظ أبو يعلى: حدثنا زهير، حدثنا شَبَابة، حدثنا المغيرة، حدثنا أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا (5) يعبدون من دون الله. فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت لوجهها، وقال: "جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا" (6) .
{ وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا (82) } .
يقول تعالى مخبرًا عن كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم -وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد -إنه: { شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي: يذهب ما في القلوب من أمراض، من شك ونفاق، وشرك وزيغ وميل، فالقرآن يشفي من ذلك كله. وهو أيضًا رحمة يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه، وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه، فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة. وأما الكافر الظالم نفسه بذلك، فلا يزيده سماعه القرآن إلا بعدًا وتكذيبًا وكفرًا. والآفة من الكافر لا من القرآن، كما قال تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت: 44 ] وقال تعالى: { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة: 124 ، 125 ]. والآيات في ذلك (7) كثيرة.
__________
(1) في ت: "ابن".
(2) صحيح البخاري برقم (4720).
(3) صحيح البخاري برقم (2478 ، 4287 )، وصحيح مسلم برقم (1781) وسنن الترمذي برقم (3138) وسنن النسائي الكبرى برقم (11297).
(4) زيادة من أ.
(5) في ت: "نصبا".
(6) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (14/487): حدثنا شبابة بن سوار به.
(7) في ت، ف: "هذا".

وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)

قال قتادة في قوله: { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه { وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } إنه لا ينتفع به ولا يحفظه (1) ولا يعيه، فإن الله جعل هذا القرآن شفاء، ورحمة للمؤمنين.
{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا (84) } .
يخبر تعالى عن نقص الإنسان من حيث هو، إلا من عصم الله تعالى في حالتي سرائه وضرائه، بإنه إذا أنعم الله عليه بمال وعافية، وفتح ورزق ونصر، ونال ما يريد، أعرض عن طاعة الله وعبادته ونأى بجانبه.
قال مجاهد: بَعُد عنا.
قلت: وهذا كقوله تعالى: { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } [ يونس: 12 ]، وقوله { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ } [ الإسراء: 67 ].
وبأنه إذا مسه الشر -وهو المصائب والحوادث والنوائب -{ كَانَ يَئُوسًا } أي: قنط أن يعود يحصل له بعد ذلك خير، كما قال تعالى: { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ هود: 10 ، 11 ].
وقوله تعالى: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } قال ابن عباس: على ناحيته. وقال مجاهد: على حدته وطبيعته. وقال قتادة: على نِيَّته. وقال ابن زيد: دينه.
وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى. وهذه الآية -والله أعلم -تهديد للمشركين ووعيد لهم، كقوله تعالى: { وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ } [ هود: 121 ، 122 ] ولهذا قال: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا } أي: منا ومنكم، وسيجزي كل عامل بعمله، فإنه لا تخفى عليه خافية.
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا (85) }
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن عَلْقَمة، عن عبد الله -هو ابن مسعود رضي الله عنه -قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث في المدينة، وهو متوكئ على عَسِيب، فمر بقوم من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. فقال بعضهم: لا تسألوه. قال: فسألوه عن الروح فقالوا (2) يا محمد، ما الروح؟ فما زال متوكئًا على العسيب، قال: فظننت أنه يوحى إليه، فقال: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا }
__________
(1) في ف: "لا يحفظه ولا ينتفع به".
(2) في ت: "فقال بعضهم".

فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه.
وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث الأعمش، به (1) . ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية، عن عبد الله بن مسعود قال: بينا أنا مع النبي (2) صلى الله عليه وسلم في حَرْث، وهو متوكئ (3) على عسيب، إذ مر اليهود (4) فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال: ما رابكم (5) إليه. وقال بعضهم: لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه. فقالوا سلوه فسألوه عن الروح، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه شيئًا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال: { وَيَسْأَلُونَكَ (6) عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } الآية (7) .
وهذا السياق يقتضي (8) فيما يظهر بادي الرأي: أن هذه الآية مدنية، وأنها إنما نزلت حين سأله اليهود، عن ذلك بالمدينة، مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا: بأنه قد يكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوا بالآية المتقدم إنزالها عليه، وهي هذه الآية: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } ومما يدل على نزول هذه الآية بمكة ما قال الإمام أحمد:
حدثنا قتيبة، حدثنا يحيى بن زكريا، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قالت قريش ليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل. فقالوا: سلوه عن الروح. فسألوه، فنزلت: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } قالوا: أوتينا علمًا كثيرًا، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا. قال: وأنزل الله: { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } [ الكهف: 109 ] (9) .
وقد روى ابن جرير، عن محمد بن المثنى، عن عبد الأعلى، عن داود، عن عكرمة قال: سأل أهلُ الكتاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فأنزل الله: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } فقالوا يزعم (10) أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة، وهي الحكمة { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } ؟ [ البقرة: 269 ] قال: فنزلت: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } [ لقمان: 27 ]. قال: ما أوتيتم من علم، فنجاكم الله به من النار، فهو كثير طيب وهو في علم الله قليل (11) .
وقال محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة: { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أتاه أحبار يهود. وقالوا يا محمد، ألم
__________
(1) المسند (1/389) وصحيح البخاري برقم (125 ، 7462) وصحيح مسلم برقم (2794).
(2) في ف: "مع رسول الله".
(3) في ت، ف: "متكئ".
(4) في ت، ف: "باليهود".
(5) في ت، ف: "ما رأيكم".
(6) في ت، ف: "يسألونك".
(7) صحيح البخاري برقم (4721).
(8) في ت: "تقضي".
(9) المسند (1/255).
(10) في ت، ف: "تزعم".
(11) تفسير الطبري (15/104).

يبلغنا عنك أنك تقول: { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } أفَعَنَيْتَنَا أم عنيت قومك؟ فقال: "كلا قد عنيت". قالوا: إنك تتلو أنا أوتينا التوراة، وفيها تبيان كل شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي في علم الله قليل، وقد آتاكم ما إن عملتم به استقمتم"، وأنزل الله: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ لقمان: 27 ] .
وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا على أقوال:
أحدها: أن المراد [بالروح] (1) : أرواح بني آدم.
قال العوفي، عن ابن عباس في قوله: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } الآية، وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن (2) الروح؟ وكيف تعذب الروح التي في الجسد، وإنما الروح من الله؟ ولم يكن نزل عليه فيه شيء، فلم يُحِرْ إليهم شيئًا. فأتاه جبريل فقال له: { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقالوا: من جاءك بهذا؟ فقال: "جاءني به جبريل من عند الله؟" فقالوا له: والله ما قاله لك إلا عدو لنا. فأنزل الله: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ] (3) } الآية [ البقرة: 97 ] .
وقيل: المراد بالروح هاهنا: جبريل. قاله قتادة، قال: وكان ابن عباس يكتمه.
وقيل: المراد به هاهنا: ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها. قال (4) علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } يقول: الروح: ملك.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله بن عُرْس (5) المصري، حدثنا وهب بن رزق أبو هريرة (6) حدثنا بشر بن بكر، حدثنا الأوزاعي، حدثنا عطاء، عن عبد الله بن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لله ملكًا، لو قيل له: التقم السماوات السبع والأرضين (7) بلقمة واحدة، لفعل، تسبيحه: سبحانك حيث كنت" (8) .
وهذا حديث غريب، بل منكر.
وقال أبو جعفر بن جرير، رحمه الله: حدثني علي، حدثني عبد الله، حدثني أبو نِمْران يزيد بن سَمُرَة صاحب قيسارية، عمن حدثه عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال في قوله: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } قال: هو مَلَك من الملائكة، له سبعون ألف وجه، لكل وجه منها سبعون ألف لسان، لكل لسان منها [سبعون] (9) ألف لغة، يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها، يخلق الله من كل تسبيحة مَلَكًا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة (10) .
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) في ت، ف، أ: "ما" .
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ت، ف: "قاله".
(5) في ت: "ابن عباس".
(6) في هـ، ف، أ: "روق أبو هبيرة"، والمثبت من الطبراني.
(7) في ف: "والأرض".
(8) المعجم الكبير (11/195) وقال الهيثمي في المجمع (1/80): "وهب بن رزق لم أر من ذكر له ترجمة".
(9) زيادة من ت، ف، أ، والطبري.
(10) تفسير الطبري (15/105).

وهذا أثر غريب عجيب، والله أعلم.
وقال السهيلي: روي عن عليّ أنه قال: هو ملك، له مائة ألف رأس، لكل رأس مائة ألف وجه، في كل وجه مائة ألف فم، في كل فم مائة ألف لسان، يسبح الله تعالى بلغات مختلفة.
قال السهيلي: وقيل المراد بذلك: طائفة من الملائكة على صور بني آدم.
وقيل: طائفة يرون الملائكة ولا تراهم (1) فهم للملائكة كالملائكة لبني آدم.
وقوله: { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي: من شأنه، ومما استأثر بعلمه دونكم؛ ولهذا قال: { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } أي: وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى.
والمعنى: أن علمكم في علم الله قليل، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى، ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى. وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر: أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة، فنقر في البحر نقرة، أي: شرب منه بمنقاره، فقال: يا موسى، ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر. أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا قال تبارك وتعالى: { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا }
وقال السهيلي: قال بعض الناس: لم يجبهم عما سألوا؛ لأنهم سألوا على وجه التعنت. وقيل: أجابهم، وعول السهيلي على أن المراد بقوله: { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي: من شرعه، أي: فادخلوا فيه، وقد علمتم ذلك لأنه لا سبيل إلى معرفة هذا من طبع ولا فلسفة، وإنما ينال من جهة الشرع. وفي هذا المسلك الذي طرقه وسلكه نظر، والله أعلم.
ثم ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس، أو غيرها، وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء، سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر. وقررّ أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن، واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم، فهي إما نفس مطمئنة أو أمارة بالسوء. قال: كما أن الماء هو حياة الشجر، ثم يكسب (2) بسبب اختلاطه معها اسمًا خاصًا، فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها صار إما مُصْطَارًا أو خمرًا، ولا يقال له: "ماء" حينئذ إلا على سبيل المجاز، وهكذا لا يقال للنفس: "روح" إلا على هذا النحو، وكذلك لا يقال للروح: نفس (3) إلا باعتبار ما تئول إليه. فحاصل ما يقول أن الروح أصل النفس ومادتها، والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن، فهي هي من وجه لا من كل وجه (4) وهذا معنى حسن، والله أعلم.
قلت: وقد تكلم الناس في ماهية الروح وأحكامها وصنفوا في ذلك كتبًا. ومن أحسن من تكلم على ذلك الحافظ ابن منده، في كتاب سمعناه في: الروح (5) .
__________
(1) في أ: "ولا تراهم الملائكة".
(2) في ت، ف: "يكتسب".
(3) في ت، ف: "نفسا" وهو خطأ.
(4) الروض الأنف (1/ 198، 199).
(5) وللإمام ابن القيم، رحمه الله، كتاب الروح مطبوع بتحقيق بسام العموش، أكثر النقل فيه عن كتاب ابن مندة هذا وذكر خلاصته فيه.

وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)

{ وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا (86) }

إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)

{ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا (89) } .
يذكر تعالى نعمته وفضله العظيم على عبده ورسوله الكريم، فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
قال ابن مسعود، رضي الله عنه: يطرق الناس ريح حمراء -يعني في آخر الزمان -من قبل الشام، فلا يبقى في مصحف رجل ولا في قلبه آية، ثم قرأ ابن مسعود: { وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } الآية.
ثم نبه تعالى على شرف هذا القرآن العظيم، فأخبر أنه لو اجتمعت الإنس والجن كلهم، واتفقوا (1) على أن يأتوا بمثل ما أنزله على رسوله، لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه، ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا، فإن هذا أمر لا يستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين (2) كلام الخالق، الذي لا نظير له، ولا مثال له، ولا عديل له؟!
وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد [بن جبير] (3) أو عكرمة، عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في نفر من اليهود، جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إنا نأتيك بمثل ما جئتنا به، فأنزل الله هذه الآية.
وفي هذا نظر؛ لأن هذه السورة مكية، وسياقها كله مع قريش، واليهود إنما اجتمعوا به في المدينة. فالله أعلم.
وقوله: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ } أي: بينا لهم الحجج والبراهين القاطعة، ووضحنا لهم الحق وشرحناه وبسطناه، ومع هذا { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا } أي: جحودًا وردًا للصواب.
{ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا (93) }
__________
(1) في ت: "والقول".
(2) في أ: "المخلوقين إلى".
(3) زيادة من ف، أ، والطبري (15/106).

.
قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا يونس بن بُكَيْر، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني شيخ من أهل مصر، قدم منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، ورجلا من بني عبد الدار، وأبا البَخْتَري أخا بني أسد، والأسود بن المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام (1) وعبد الله بن أبي أمية، وأمية ابن خلف، والعاص بن وائل، ونُبَيها ومُنَبِّها ابني الحجاج السَّهْمَيَّين، اجتمعوا، أو: من اجتمع منهم، بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلّموه وخاصموه حتى تعذروا فيه (2) فبعثوا إليه: أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك. فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعًا وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء، وكان عليهم حريصًا، يحب رُشْدَهم، ويعز عليه عَنَتُهم، حتى جلس إليهم، فقالوا: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنُعْذرَ فيك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه (3) ما أدخلت على قومك! لقد شتمت الآباء، وعِبتَ الدين، وسَفَّهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، فما بقي من أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك! فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا، سوّدناك علينا، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيًا تراه قد (4) غلب عليك -وكانوا (5) يسمون التابع من الجن: الرئي -فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا في طلب الطب، حتى نبرئك منه، أو نُعذَر فيك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن بعثني (6) إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر (7) لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم". أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا.
فقالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلادًا، ولا أقل مالا ولا أشد عيشًا منا، فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضَيَّقت علينا، وَلْيبسُط لنا بلادنا، وَلْيُفَجر (8) فيها أنهارًا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يُبْعث لنا قُصيّ بن كلاب، فإنه كان شيخًا صدوقًا، فنسألهم عما تقول (9) حق هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك، صدقناك، وعرفنا منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول!
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بهذا بعثت، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به، فقد بلغتكم ما أرسلت به، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم
__________
(1) في ت: "هاشم" وهو خطأ.
(2) في ت: "إليه".
(3) في ت: "قومك".
(4) في ف: "وقد".
(5) في ت: "فكانوا".
(6) في ت: "بعثني الله".
(7) في ت: "أصير".
(8) في ت: "وليخرج"، وفي ف: "وليجر".
(9) في ت: "ليسألهم عما يقول".

الله بيني وبينكم".
قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك، فاسأل ربك أن يبعث ملكًا يصدقك بما تقول (1) ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لك جنانًا، وكنوزًا وقصورًا من ذهب وفضة، ويغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف (2) فضل منزلتك من ربك، إن كنت رسولا كما تزعم.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرًا ونذيرًا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم".
قالوا: فأسقط السماء، كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك".
فقالوا: يا محمد، أما (3) علم ربك أنا سنجلس معك، ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب فيقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا، إذا لم نقبل منك ما جئتنا به، فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة، يقال له: الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدًا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي (4) بالله والملائكة قبيلا.
فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمته، ابن عاتكة ابنة عبد المطلب، فقال: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا، فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورًا ليعرفوا بها منزلتك من الله، فلم (5) تفعل ذلك، ثم سألوك أن تعجل لهم ما تخوفهم به من العذاب، فوالله لا أؤمن بك أبدًا حتى تتخذ إلى السماء سلمًا، ثم ترقى فيه، وأنا أنظر حتى تأتيها، وتأتي معك بنسخة منشورة، معك أربعة من الملائكة، يشهدون أنك كما تقول. وايم الله، لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك. ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينًا أسفًا لما فاته، مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه (6) .
وهكذا رواه زياد بن عبد الله البَكَّائي، عن ابن إسحاق، حدثني بعض أهل العلم، عن سعيد ابن جبير وعكرمة، عن ابن عباس، فذكر مثله سواء.
وهذا المجلس الذي اجتمع هؤلاء له، لو (7) علم الله منهم أنهم يسألون ذلك استرشادًا لأجيبوا
__________
(1) في ت: "يقول".
(2) في ت: "تعرف".
(3) في ت، "لما".
(4) في ف: "تأتينا".
(5) في ت: "ثم لم".
(6) السيرة النبوية لابن هشام (1/296).
(7) في ف: "فلو".

إليه، ولكن علم أنهم إنما يطلبون ذلك كفرًا وعنادًا، فقيل للرسول: إن شئت أعطيناهم ما سألوا فإن كفروا عذبتهم عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة، فقال: "بل تفتح عليهم باب التوبة والرحمة" كما تقدم ذلك في حديثي (1) ابن عباس والزبير بن العوام أيضًا، عند قوله تعالى: { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا } [ الإسراء: 59 ] وقال تعالى: { وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا } [ الفرقان: 7 -11 ].
وقوله تعالى: { حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا } الينبوع: العين الجارية، سألوه أن يجري لهم عينًا معينًا في أرض الحجاز هاهنا وهاهنا، وذلك (2) سهل يسير على الله تعالى، لو شاء لفعله ولأجابهم إلى جميع ما سألوا وطلبوا، ولكن علم أنهم لا يهتدون، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس: 96 ، 97 ] وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ الأنعام: 111].
وقوله تعالى { أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ } أي: أنك وعدتنا أن يوم القيامة تنشق فيه السماء وتهي، وتدلي أطرافها، فعجل ذلك في الدنيا، وأسقطها كسفًا [أي: قطعًا، كقولهم: { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } الآية [ الأنفال: 32 ]، وكذلك سأل قوم شعيب منه فقالوا: { أَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا ] (3) مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ الشعراء: 187 ]. فعاقبهم الرب بعذاب يوم الظلة، إنه كان عذاب يوم عظيم. وأما نبيّ الرحمة، ونبيّ التوبة المبعوث رحمة للعالمين، فسأل إنظارهم وتأجيلهم، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئًا. وكذلك وقع، فإن من هؤلاء الذين ذكروا من أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه (4) حتى "عبد الله بن أبي أمية" الذي تبع النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ما قال، أسلم إسلامًا تامًا، وأناب إلى الله عز وجل.
{ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ } قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: هو الذهب. وكذلك هو في قراءة ابن مسعود: "أو يكون لك بيت من ذهب"، { أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ } أي: تصعد (5) في سلم ونحن ننظر إليك { وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ } قال مجاهد: أي مكتوب فيه إلى كل واحد واحد صحيفة: هذا كتاب من الله لفلان بن فلان، تصبح موضوعة عند رأسه (6) .
__________
(1) في ف: "حديث".
(2) في ت، ف: "وهذا".
(3) زيادة من أ.
(4) في ف: "وحسن إسلامه بعد ذلك".
(5) في ت: "يصعد".
(6) في ف: "يصبح عند رأسه موضوع".

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)

وقوله: { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا } أي: سبحانه وتعالى وتقدس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته، بل هو الفعال لما يشاء، إن شاء أجابكم إلى ما سألتم، وإن شاء لم يجبكم، وما أنا إلا رسول إليكم أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم، وقد فعلت ذلك، وأمركم فيما سألتم إلى الله عز وجل.
قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا علي بن إسحاق، حدثنا ابن المبارك، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زَحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم (1) عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرض ربي عز وجل ليجعل لي بطحاء مكة ذهبًا، فقلت: لا يا رب، ولكن أشبع يومًا، وأجوع يومًا -أو نحو ذلك -فإذا جُعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك".
ورواه الترمذي في "الزهد" عن سُوَيْد بن نصر (2) عن ابن المبارك، به (3) وقال: هذا حديث حسن. وعلي بن يزيد يُضَّعَّفُ في الحديث.
{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا (95) }
يقول تعالى: { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ } أي: أكثرهم { أَنْ يُؤْمِنُوا } ويتابعوا الرسل، إلا استعجابهم من بعثته (4) البشر رسلا كما قال تعالى: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا } [ يونس: 2 ].
وقال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ التغابن: 6 ]، وقال فرعون وملؤه: { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } [ المؤمنون: 47 ]، وكذلك قالت (5) الأمم لرسلهم: { إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } [ إبراهيم: 10 ]، والآيات في هذا كثيرة.
ثم قال تعالى منبهًا على لطفه ورحمته بعباده: أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم، ليفقهوا عنه ويفهموا منه، لتمكنهم من مخاطبته ومكالمته، ولو بعث إلى البشر رسولا من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ولا الأخذ عنه، كما قال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [ آل عمران: 164 ]، وقال تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } [ التوبة: 128 ]، وقال تعالى: { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } [ البقرة: 151 ، 152 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ } أي: كما أنتم فيها { لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا } أي: من جنسهم، ولما كنتم أنتم بشرًا، بعثنا فيكم رسلنا (6) منكم لطفًا ورحمة.
__________
(1) في ت: "ألتم".
(2) في أ: "زهير".
(3) المسند (5/245) وسنن الترمذي برقم (2347) وعبد الله بن زحر وعلى بن يزيد والقاسم ضعفاء.
(4) في ت: "بعثة".
(5) في ت: "قالوا".
(6) في ت: "رسلا".

قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)

{ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) }
يقول تعالى مرشدًا نبيه إلى الحجة على قومه، في صدق ما جاءهم به: أنه شاهد عليّ وعليكم، عالم بما جئتكم به، فلو كنت كاذبًا [عليه] (1) انتقم مني أشد الانتقام، كما قال تعالى: { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } [ الحاقة: 44 -46 ].
وقوله: { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } أي: عليم بهم بمن يستحق الإنعام والإحسان والهداية، ممن يستحق الشقاء والإضلال (2) والإزاغة؛ ولهذا قال:
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت: "الضلال".

وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)

{ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} .
يقول تعالى مخبرًا عن تصرفه في خلقه، ونفوذ حكمه، وأنه لا معقب له، بأنه من يهده فلا مضلّ له ( وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ ) أي: يهدونهم، كما قال: { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } [ الكهف: 17 ].
وقوله: ( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ) قال الإمام أحمد:
حدثنا ابن نمير، حدثنا إسماعيل عن نُفَيْع قال (1) : سمعت أنس بن مالك يقول: قيل: يا رسول الله، كيف يحشر (2) الناس على وجوههم؟ قال: "الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم". وأخرجاه في الصحيحين (3) .
وقال الإمام أحمد أيضًا: [حدثنا يزيد] (4) ، حدثنا الوليد بن جُمَيْع القرشي، عن أبيه، حدثنا أبو الطفيل عامر بن واثلة، عن حذيفة بن أسيد قال: قام أبو ذر فقال: يا بني غفار، قولوا ولا تحلفوا، فإن الصادق المصدوق حدثني: أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج: فوج راكبين طاعمين كاسين، وفوج (5) يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار. فقال قائل منهم: هذان قد عرفناهما، فما بال الذين يمشون ويسعون (6) ؟ قال: يلقي الله، عز وجل، الآفة على (7) الظهر حتى لا يبقى ظهر، حتى إن الرجل لتكون له الحديقة المعجبة، فيعطيها بالشارف ذات القتب، فلا يقدر عليها (8) .
__________
(1) في ت: "نفيع كذا قال".
(2) في ف: "تحشر".
(3) المسند (3/167) وصحيح البخاري برقم (4760) وصحيح مسلم برقم (2806).
(4) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(5) في ف: "وقوم".
(6) في ت: "ويسقون".
(7) في ت: "الأئمة هل"، وفي ف: "الأئمة على".
(8) المسند (5/164).

وقوله: ( عُمْيًا ) أي: لا يبصرون ( وَبُكْمًا ) يعني: لا ينطقون ( وَصُمًّا ) : لا يسمعون. وهذا يكون في حال دون حال جزاء لهم كما كانوا في الدنيا بكمًا وعميًا وصمًا عن الحق فجوزوا في محشرهم بذلك أحوج ما يحتاجون إليه ( مَأْوَاهُمْ ) أي: منقلبهم (1) ومصيرهم ( جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ ) قال ابن عباس: سكنت (2) . وقال مجاهد: طفئت ( زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) أي: لهبًا ووهجًا وجمرًا، كما قال: { فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا } [ النبأ: 30 ].
{ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا (99)} .
يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم به، من البعث على العمى والبكم والصمم، جزاؤهم الذي يستحقونه؛ لأنهم كذبوا ( بِآيَاتِنَا ) أي بأدلتنا (3) وحججنا، واستبعدوا وقوع البعث ( وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا ) بالية نخرة ( أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) أي: بعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه من البلى والهلاك، والتفرق والذهاب في الأرض نعاد مرة ثانية؟ فاحتج (4) تعالى عليهم، ونبههم على قدرته على ذلك، بأنه خلق السماوات والأرض، فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك كما قال: { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر: 57 ] وقال { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأحقاف: 33 ] وقال{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ يس: 81 ، 83 ].
وقال هاهنا: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) أي: يوم القيامة يعيد أبدانهم وينشئهم نشأة أخرى، ويعيدهم كما بدأهم.
وقوله: ( وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ ) أي: جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلا مضروبًا ومدة مقدرة لا بد من انقضائها، كما قال تعالى: { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ } [ هود: 104 ].
وقوله: ( فَأَبَى الظَّالِمُونَ ) أي: بعد قيام الحجة عليهم ( إِلا كُفُورًا ) إلا تماديًا في باطلهم وضلالهم.
__________
(1) في أ: "مقبلهم".
(2) في ت: "ستكتب".
(3) في ت: "بآياتنا".
(4) في ف: "واحتج".

قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)

{ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا (100)}
يقول تعالى لرسوله صلوات الله عليه وسلامه (1) قل لهم يا محمد: لو أنكم -أيها الناس -تملكون التصرف في خزائن الله، لأمسكتم خشية الإنفاق.
قال ابن عباس، وقتادة: أي الفقر أي: خشية أن تذهبوها (2) ، مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدًا؛ لأن هذا من طباعكم وسجاياكم؛ ولهذا قال: ( وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا ) قال ابن عباس، وقتادة (3) : أي بخيلا منوعًا. وقال الله تعالى: { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا } [ النساء: 53 ] أي: لو أن لهم نصيبًا في ملك الله لما أعطوا أحدًا شيئًا، ولا مقدار نقير، والله تعالى يصف الإنسان من حيث هو، إلا من وفقه الله وهداه؛ فإن البخل والجزع والهلع صفة له، كما قال تعالى: { إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلا الْمُصَلِّينَ } [ المعارج: 19 -22 ]. ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز، ويدل هذا على كرمه (4) وجوده وإحسانه، وقد جاء في الصحيحين: "يد الله ملأى لا يَغيضُها نفقة، سَحَّاءُ الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يَغض ما في يمينه" (5) .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)} .
يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات، وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون، وهي: العصا، واليد، والسنين (6) ، والبحر، والطوفان (7) ، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات. قاله ابن عباس.
وقال محمد بن كعب: هي اليد، والعصا، والخمس في الأعراف، والطَّمْسَة والحجر.
وقال: ابن عباس أيضًا، ومجاهد، وعكرمة والشعبي، وقتادة: هي يده، وعصاه، والسنين، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي. وجعل الحسن البصري "السنين ونقص الثمرات" واحدة، وعنده أن التاسعة هي: تلقف العصا ما يأفكون. { فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } [ الأعراف: 133 ]
__________
(1) في ف: "صلى الله عليه وسلم" .
(2) في أ: "تنبوها".
(3) في ف، أ: "ومجاهد".
(4) في ف: "كرم الله".
(5) صحيح البخاري برقم (7419) وصحيح مسلم برقم (993)
(6) في ت، ف، أ: ولسانه".
(7) في ف، أ: "والطوفان والبحر".

قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)

أي: ومع هذه الآيات ومشاهدتهم لها، كفروا بها وجحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا، وما نجعت (1) فيهم، فكذلك لو أجبنا هؤلاء الذين سألوا منك (2) سألوا، وقالوا: { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا } [ الإسراء: 90 ] إلى آخرها، لما استجابوا ولا آمنوا إلا أن يشاء الله، كما قال فرعون لموسى -وقد شاهد منه ما شاهد من هذه الآيات-: ( إِنِّي لأظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ) قيل: بمعنى ساحر. والله تعالى أعلم.
فهذه الآيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المرادة هاهنا، وهي المعنية في قوله تعالى:{ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } [ النمل: 10 -12 ]. فذكر هاتين الآيتين: العصا واليد، وبين الآيات الباقيات في "سورة الأعراف" وفصلها.
وقد أوتي موسى، عليه السلام، آيات أخرَ كثيرة، منها ضربُه الحجر بالعصا، وخروج الأنهار منه، ومنها تظليلهم بالغمام، وإنزال المنّ والسلوى، وغير ذلك مما أوتوه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر، ولكن ذكر هاهنا التسع الآيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر، وكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرًا وجحودًا. فأما الحديث الذي رواه الإمام [أحمد] (3) :
حدثنا يزيد، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مُرَّة قال: سمعت عبد الله بن سلمة (4) يحدث، عن صفوان بن عَسّال المرادي، رضي الله عنه، قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي [صلى الله عليه وسلم] (5) حتى نسأله عن هذه الآية: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) فقال: لا تقل له: نبي فإنه لو سمعك لصارت له أربع أعين. فسألاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة -أو قال: لا تفروا من الزحف -شعبة الشاك -وأنتم يا يهود، عليكم (6) خاصة أن لا تعدوا في السبت". فقبلا يديه ورجليه، وقالا نشهد أنك نبي. [قال: "فما يمنعكما أن تتبعاني؟" قالا لأن داود، عليه السلام، دعا ألا يزال من ذريته نبي] (7) ، وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود.
فهذا الحديث رواه هكذا الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير في تفسيره من طرق عن شعبة بن الحجاج، به (8) وقال الترمذي: حسن صحيح.
وهو حديث مشكل، وعبد الله بن سلمة في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات، فإنها، وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون، والله أعلم.
__________
(1) في ت: "وما نجوت".
(2) في ت: "مثل".
(3) زيادة من أ.
(4) في ف: "مسلم".
(5) زيادة من ت.
(6) في ت: "أيكم".
(7) زيادة من ف، أ، والمسند.
(8) المسند (4/239) وسنن الترمذي برقم (3144) وسنن النسائي (7/111) وسنن ابن ماجة برقم (3705) وتفسير الطبري (15/115).

ولهذا قال موسى لفرعون: ( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ ) أي: حججًا وأدلة على صدق ما جئتك به ( وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) أي: هالكًا. قاله مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس ملعونًا. وقال: أيضًا هو والضحاك: ( مَثْبُورًا ) أي: مغلوبًا. والهالك -كما قال مجاهد -يشمل (1) هذا كله، قال عبد الله بن الزبعري:
إذْ أجَارِي الشَّيطانَ في سَنن الغـ ... يِّ وَمَنْ مَالَ مَيْلهُ مَثْبُور (2)
[بمعنى هالك] (3) .
وقرأ بعضهم برفع التاء من قوله: "علمت" وروي ذلك عن علي بن أبي طالب. ولكن قراءة الجمهور بفتح التاء على الخطاب (4) لفرعون، كما قال تعالى:{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل: 13 ، 14 ].
فهذا كله مما يدل على (5) أن المراد بالتسع الآيات إنما هي ما تقدّم ذكره (6) من العصا، واليد، والسنين، ونقص من الثمرات، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم. التي فيها حجج وبراهين على فرعون وقومه، وخوارق ودلائل على صدق موسى ووجود الفاعل المختار الذي أرسله. وليس المراد منها كما ورد في هذا الحديث، فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه، وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون؟ وما جاء هذا الوهم إلا من قبل "عبد الله بن سلمة (7) فإن له بعض ما يُنْكر. والله أعلم . ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات، فاشتبه على الراوي بالتسع الآيات، فحصل وَهْم في ذلك. والله أعلم.
وقوله: ( فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأرْضِ ) أي: يخليهم منها ويزيلهم (8) عنها ( فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا * وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ ) وفي هذا بشارة لمحمد صلى الله عليه وسلم بفتح مكة مع أن السورة نزلت قبل الهجرة، وكذلك وقع؛ فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها، كما قال تعالى: { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا } [ الإسراء: 76 ، 77 ] ؛ ولهذا أورث الله رسوله (9) مكة، فدخلها عُنْوَة على أشهر القولين، وقهر أهلها، ثم أطلقهم حلمًا وكرمًا، كما أورث الله القوم الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها، وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم
__________
(1) في ت: "يشتمل".
(2) البيت في تفسير الطبري (15/117).
(3) زيادة من ت.
(4) في ف: "على الخطاب فتح التاء".
(5) في أ: "عليه".
(6) في ت، ف: "ذكرها".
(7) في ف: "مسلم".
(8) في ت: "ويرسلهم".
(9) في ت: "ورسوله".

وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)

وثمارهم وكنوزهم، كما قال: { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء: 59 ] وقال هاهنا ( وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) أي: جميعكم أنتم وعدوكم.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: ( لَفِيفًا ) أي: جميعًا.

وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)

{ وَبِالْحَقِّ أَنزلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نزلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا (106) }.
يقول تعالى مخبرًا عن كتابه العزيز، وهو القرآن المجيد، أنه بالحق نزل، أي: متضمنًا للحق، كما قال تعالى: { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ } [ النساء: 166 ] أي: متضمنا علم الله الذي أراد أن يُطْلِعكم عليه، من أحكامه وأمره ونهيه.
وقوله: { وَبِالْحَقِّ نزلَ } أي: ووصل إليك -يا محمد -محفوظًا محروسًا، لم يُشَب بغيره، ولا زِيدَ فيه ولا نُقص منه، بل وصل إليك بالحق، فإنه نزل به شديد القُوى، [القَوِيّ] (1) الأمين المكين المطاع في الملأ الأعلى.
وقوله: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ } أي: يا محمد { إِلا مُبَشِّرًا } لمن أطاعك من المؤمنين { وَنَذِيرًا } لمن عصاك من الكافرين.
وقوله: { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ } أما قراءة من قرأ بالتخفيف، فمعناه: فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مُفرقًا منجما على الوقائع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة. قاله عكرمة عن ابن عباس.
وعن ابن عباس أيضًا أنه قال { فَرَقْنَاهُ } بالتشديد، أي: أنزلناه آية آية، مبينًا مفسرًا؛ ولهذا قال: { لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ } أي: لتبلغه الناس وتتلوه عليهم { عَلَى مُكْثٍ } أي: مَهَل { وَنزلْنَاهُ تَنزيلا } أي: شيئًا بعد شيء.
{ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا (108) وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) }.
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { قُلْ } يا محمد لهؤلاء الكافرين بما جئتهم به من هذا القرآن العظيم: { آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا } أي: سواء آمنتم به أم لا فهو حق في نفسه، أنزله الله ونوه بذكره في سالف الأزمان (2) في كتبه المنزلة على رسله؛ ولهذا قال: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ } أي: من صالح أهل الكتاب الذين يُمَسَّكون بكتابهم ويقيمونه، ولم يبدلوه ولا حرفوه { إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } هذا
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) في أ: "الزمان".

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)

القرآن، { يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ } جمع ذَقْن، وهو أسفل الوجه { سُجَّدًا } أي: لله عز وجل، شكرًا على ما أنعم به عليهم، من جعله إياهم أهلا إن أدركوا هذا الرسول الذي أنزل عليه [هذا] (1) الكتاب؛ ولهذا يقولون: { سُبْحَانَ رَبِّنَا } أي: تعظيمًا وتوقيرًا على قدرته التامة، وأنه لا يخلف الميعاد الذي وعدهم على ألسنة الأنبياء [المتقدمين عن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قالوا: { سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا } ] (2) .
وقوله: { وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ } أي: خضوعًا لله عز وجل وإيمانًا وتصديقًا بكتابه ورسوله، ويزيدهم الله خشوعًا، أي: إيمانًا وتسليمًا كما قال: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [ محمد: 17 ].
وقوله: { وَيَخِرُّونَ } عطف صفة على صفة لا عطف سجود على سجود، كما قال الشاعر:
إلَى المَلك القَرْم وابن الهُمام ... وَلَيْث الكَتِيبَة في المُزْدَحَمْ ...
{ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) }.
يقول تعالى: قل يا محمد، لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله، عز وجل، المانعين من تسميته بالرحمن: { ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } أي: لا فرق بين دعائكم له باسم "الله" أو باسم (3) " الرحمن "، فإنه ذو الأسماء الحسنى، كما قال تعالى: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } إلى أن قال: { لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الحشر: 22 -24 ].
وقد روى مكحول (4) أن رجلا من المشركين سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول في سجوده: "يا رحمن يا رحيم"، فقال: إنه يزعم أنه يدعو واحدًا، وهو يدعو اثنين. فأنزل الله هذه الآية. وكذا روي عن ابن عباس، رواهما ابن جرير.
وقوله: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } الآية، قال الإمام أحمد:
حدثنا هُشَيْم، حدثنا أبو بشر، عن (5) سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نزلت (6) هذه الآية وهو متوار بمكة { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا [وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا] } (7) قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن، وسبوا من أنزله، ومن جاء به. قال: فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } أي: بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من ت، ف.
(3) في ت: "واسم".
(4) تفسير الطبري (15/121) وكأن الحافظ اختصره هنا.
(5) في ف: "حدثنا".
(6) في ت: "قرأت".
(7) زيادة من أ.

{ وَلا تُخَافِتْ بِهَا } عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } .
أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس، به (1) وكذا روى (2) الضحاك عن ابن عباس، وزاد: "فلما هاجر إلى المدينة، سقط ذلك، يفعل أيّ ذلك شاء" (3) .
وقال محمد بن إسحاق: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي، تفرقوا عنه وأبوا أن يسمعوا منه، فكان الرجل إذا أراد أن يستمع (4) من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو وهو يصلي، استرق السمع دونهم فرقًا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع (5) ، ذهب خشية أذاهم فلم يستمع (6) ، فإن خفض صوته صلى الله عليه وسلم (7) لم يستمع الذين (8) يستمعون من قراءته شيئًا، فأنزل الله { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } فيتفرقوا عنك { وَلا تُخَافِتْ بِهَا } فلا تُسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك دونهم، لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع، فينتفع به { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا }
وهكذا قال عكرمة، والحسن البصري، وقتادة: نزلت هذه الآية في القراءة في الصلاة.
وقال شعبة عن أشعث بن أبي سليم (9) عن الأسود بن هلال، عن ابن مسعود: لم يُخافتْ بها مَنْ أسمع أذنيه.
قال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته، وأن عمر كان يرفع صوته، فقيل لأبي بكر: لم تصنع هذا؟ قال: أناجي ربي، عز وجل، وقد علم حاجتي. فقيل: أحسنت. وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: أطرد الشيطان، وأوقظ الوَسْنَان. قيل أحسنت. فلما نزلت: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } قيل لأبي بكر: ارفع شيئًا، وقيل لعمر: اخفض شيئًا (10) .
وقال أشعث بن سَوَّار، عن عكرمة، عن ابن عباس: نزلت في الدعاء. وهكذا روى الثوري، ومالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: نزلت في الدعاء. وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو عِياض، ومكحول، وعروة بن الزبير.
وقال الثوري عن [ابن] (11) عياش العامري، عن عبد الله بن شداد قال: كان أعراب من بني تميم إذا سلم النبي (12) صلى الله عليه وسلم قالوا: اللهم ارزقنا إبلا وولدًا. قال: فنزلت هذه الآية: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا }
__________
(1) المسند (1/23) وصحيح البخاري برقم (2722) وصحيح مسلم برقم (446).
(2) في ف: "رواه".
(3) رواه الطبري في تفسيره (15/123).
(4) في ت، ف: "يسمع".
(5) في ت، ف: "يسمع".
(6) في ت: "يسمع".
(7) في ف: "وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته" .
(8) في ت: "ولم يسمع الذي".
(9) في هـ، ت: "عن أبي سليم". والمثبت من الطبري
(10) تفسير الطبري (15/124).
(11) زيادة من ف.
(12) في ف، أ: "رسول الله".

قول آخر: قال ابن جرير: حدثنا أبو السائب، حدثنا حفص بن غياث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها، نزلت (1) هذه الآية في التشهد: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا }
وبه قال حفص، عن أشعث بن سوار، عن محمد بن سيرين، مثله.
قول آخر: قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا } قال: لا تصل مراءاة الناس، ولا تدعها مخافة الناس. وقال الثوري، عن منصور، عن الحسن البصري: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا } قال: لا تحسن علانيتها وتسيء سريرتها. وكذا رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الحسن، به. وهُشَيْم، عن عوف، عنه به. وسعيد، عن قتادة، عنه كذلك.
قول آخر: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } قال: أهل الكتاب يخافتون، ثم يجهر أحدهم بالحرف فيصيح به، ويصيحون هم به وراءه، فنهاه أن يصيح كما يصيح هؤلاء، وأن يخافت كما يخافت القوم، ثم كان السبيل الذي بين ذلك، الذي سن له جبريل من الصلاة.
وقوله: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } لما أثبت تعالى لنفسه الكريمة الأسماء الحسنى، نزه نفسه عن النقائص فقال: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } بل هو الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ } أي: ليس بذليل فيحتاج (2) أن يكون له ولي أو وزير أو مشير، بل هو تعالى [شأنه] (3) خالق الأشياء وحده لا شريك له، ومقدرها ومدبرها (4) بمشيئته وحده لا شريك له.
قال مجاهد في قوله: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ } لم يحالف أحدًا ولا يبتغي (5) نصر أحد.
{ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } أي: عظِّمه وأَجِلَّه عما يقول الظالمون المعتدون علوًا كبيرًا.
قال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني أبو صخر، عن القرظي أنه كان يقول في هذه الآية: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } الآية، قال: إن اليهود والنصارى قالوا: اتخذ الله ولدًا، وقال (6) العرب: [لبيك] (7) لبيك، لا شريك لك؛ إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. وقال الصابئون والمجوس: لولا أولياء الله لذل. فأنزل الله هذه الآية: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا }
وقال أيضا: حدثنا بشر، [حدثنا يزيد] (8) حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
__________
(1) في ت: "أنزلت".
(2) في أ: "فلا يحتاج".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت، ف: "ومدبرها ومقدرها".
(5) في ف: "ولم يبتغ".
(6) في ت، ف، أ: "وقالت".
(7) زيادة من ف.
(8) زيادة من ت، ف، أ.

يعلم أهله هذه الآية { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } الصغير من أهله (1) والكبير.
قلت: وقد جاء في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها آية العز (2) وفي بعض الآثار: أنها ما قرئت في بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة. والله أعلم.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا بشر بن سيحان البصري، حدثنا حرب بن ميمون، حدثنا موسى ابن عبيدة الرَّبَذي، عن محمد بن كعب القُرَظي، عن أبي هريرة قال: خرجت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ويدي في يده، فأتى على رجل رث الهيئة، فقال: "أي فلان، (3) ما بلغ بك ما أرى؟". قال: السقم والضرّ يا رسول الله. قال: "ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر؟". قال: لا قال: ما يسرني بها (4) أن شهدت معك بدرًا أو أحدًا. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "وهل يدرك أهل بدر وأهل أحد ما يدرك الفقير القانع؟". قال: فقال (5) أبو هريرة: يا رسول الله، إياي فعلمني قال: فقل يا أبا هريرة: "توكلت على (6) الحي الذي لا يموت، الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرًا". قال: فأتى عليّ رسول الله وقد حَسُنَت حالي، قال: فقال لي: "مَهْيم". قال: قلت: يا رسول الله، لم أزل (7) أقول الكلمات التي علمتني (8) .
إسناده ضعيف وفي متنه نكارة. [والله أعلم] (9) .
__________
(1) في ف "منهم".
(2) رواه أحمد في مسنده (3/440) من حديث معاذ بن أنس مرفوعا: "آية العز: (الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) . الآية كلها".
(3) في ت: "أني تلك".
(4) في ت: "لا يرى بها".
(5) في ت: "فقال قال".
(6) في ت: "صلى".
(7) في ت: "لم أنزل".
(8) مسند أبى يعلى (12/23) وقال الهيثمي في المجمع (7/52): "وفيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف".
(9) زيادة من ف، أ.
ووقع في ت: "آخر تفسير سورة الإسراء، ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة، غفر الله لكاتبه ولمن قرأ فيه ولوالديه ولمشايخه ولجميع المسلمين أجمعين آمين".

[بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين] (1)
تفسير سورة الكهف
وهي مكية.
ذكر ما ورد في فضلها، والعشر الآيات من أولها وآخرها، وأنها عصمة من الدجال:
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: قرأ رجل الكهف، وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، فنظر فإذا ضبابة -أو: سحابة-قد غشيته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " اقرأ فلان، فإنها السكينة تنزلت عند القرآن، أو تنزلت للقرآن " .
أخرجاه في الصحيحين، من حديث شعبة، به (2) . وهذا الرجل الذي كان يتلوها هو: أسَيْدُ بن الحُضَيْر، كما تقدم في تفسير البقرة (3) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا هَمّام بن يحيى، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن مَعْدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حَفظ عَشْرَ آيات من أول سورة الكهف، عُصِم من الدجال " .
رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي (4) من حديث قتادة به (5) . ولفظ الترمذي: " من حفظ الثلاث الآيات من أول الكهف " وقال: حسن صحيح.
طريق أخرى: قال ]الإمام[ (6) أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا شعبة، عن قتادة سمعت سالم بن أبي الجعد يحدّث عن معدان، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عُصِم من فتنة الدجال " .
ورواه مسلم أيضا والنسائي، من حديث قتادة، به (7) . وفي لفظ النسائي: " من قرأ عشر آيات من الكهف " ، فذكره.
حديث آخر: وقد رواه النسائي في " اليوم والليلة " عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن شعبة، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثَوْبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف، فإنه عصمة له من الدجال " (8) .
فيحتمل أن سالما سمعه من ثوبان ومن
__________
(1) زيادة من ت
(2) المسند (4/281) وصحيح البخاري برقم (3614) وصحيح مسلم برقم (795).
(3) في أول تفسير سورة البقرة، في فضلها.
(4) في ف: "الترمذي والنسائي".
(5) المسند (5/196) وصحيح مسلم برقم (809) وسنن أبي داود برقم (4323) وسنن النسائي الكبري برقم (8025) وسنن الترمذي برقم (2886).
(6) زيادة من ف.
(7) المسند (6/446) وصحيح مسلم برقم (809) وسنن النسائي الكبري برقم (10786).
(8) سنن النسائي الكبرى برقم (10784).

أبي الدرداء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا زبَّان بن فايد (1) عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قرأ أول سورة الكهف وآخرها، كانت له نورًا من قدمه إلى رأسه، ومن قرأها كلها كانت له نورًا ما بين الأرض إلى السماء " (2) انفرد به أحمد ولم يخرجوه (3) (4)
وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويْه [في تفسيره] (5) بإسناد له غريب، عن خالد بن سعيد بن أبي مريم، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء، يضيء له يوم القيامة، وغُفر له ما بين الجمعتين " (6) .
وهذا الحديث في رفعه نظر، وأحسن أحواله الوقف.
وهكذا روى (7) الإمام: " سعيد بن منصور " في سننه، عن هُشَيْم بن بشيرٍ (8) ، عن أبي هاشم (9) ، عن أبي مِجْلَز، عن قيس بن عباد (10) عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أنه قال: من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له مِنَ النور ما بينه وبين البيت العتيق.
هكذا وقع موقوفا، وكذا (11) رواه الثوري، عن أبي هاشم (12) ، به (13) . من حديث أبي سعيد الخدري.
وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي بكر محمد بن المؤمل، حدثنا الفضيل (14) بن محمد الشَّعراني، حدثنا نُعَيم بن حمَّاد، حدثنا هُشَيْم، حدثنا أبو هاشم، عن أبي (15) مِجْلَز، عن قيس بن عُبَاد، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين " ، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه، عن الحاكم (16) ، ثم قال البيهقي: ورواه يحيى بن كثير، عن شعبة، عن أبي هاشم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ سورة الكهف كما أنزلت كانت
__________
(1) في ت: "زياد بن واقد"، وفي ف: "ثوبان بن فايد".
(2) في ف: "السماء والأرض".
(3) في ت: "يخرجه".
(4) المسند (4/439).
(5) زيادة من ف.
(6) ذكره المنذرى في الترغيب (1/513) وقال: "رواه ابن مرديه بإسناد لا بأس به".
(7) في ت: "رواه".
(8) في ت: "بشر".
(9) في ت، أ: "هشام".
(10) في ف: "عبادة".
(11) في ت: "وهكذا".
(12) في ت: "هشام".
(13) وروراه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص131) قال: حدثنا هشيم به موقوفا. وسيأتي الاختلاف على هشيم. أما رواية الثوري: فرواها النسائي في السنن الكبرى برقم (10790) من طريق عبد الرحمن عن سفيان الثوري به موقوفا.. وقد حقق الفاضل محمد طرهوني في كتابه "موسوعة فضائل القرآن" (1/337) روايتي الرفع والوقف فأجاد وأفاد، جزاه الله خيرا، ثم رجح أنه موقوف في حكم المرفوع.
(14) في ت: "الفضل".
(15) في ت: "أبو".
(16) المستدرك (2/368) والسنن الكبرى للبيهقي (3/249).

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)

له نورًا يوم القيامة ". (1) [والله أعلم] (2) .
وفي " المختارة " للحافظ الضياء المقدسي من حديث عبد الله بن (3) مصعب بن منظور بن زيد بن خالد الجهني، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي مرفوعًا: " من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة، وإن خرج الدجال عصم منه " (4) بسم الله الرحمن الرحيم
[رب وفقني] (5)
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) }
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (428) "مجمع البحرين" واختلف فيه على شعبة، فرواه غندر عن شعبة موقوفا.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "عن".
(4) المختارة برقم (430) وقال: "عبد الله بن مصعب لم يذكره البخاري، ولا ابن أبي حاتم في كتابيهما".
(5) زيادة من ت.

مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)

{ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا (5) } .
قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند (1) فواتح الأمور وخواتيمها، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة؛ ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد، صلوات الله وسلامه عليه؛ فإنه أعظم نعمة (2) أنعمها الله على أهل الأرض؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتابًا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، بينا واضحا جليًا (3) نذيرًا للكافرين وبشيرًا للمؤمنين؛ ولهذا قال: { وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا } أي: لم يجعل فيه اعوجاجًا ولا زيغًا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيمًا؛ ولهذا قال: { قَيِّمًا } أي: مستقيمًا.
{ لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ } أي: لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به، ينذره بأسًا شديدًا، عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الآخرة { مِنْ لَدُنْهُ } أي: من عند الله الذي لا يُعَذّب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد.
{ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ } أي: بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } أي: مثوبة عند الله جميلة
{ مَاكِثِينَ فِيهِ } في ثوابهم عند الله، وهو الجنة، خالدين فيه { أَبَدًا } دائمًا لا زوال له ولا انقضاء.
{ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ (4) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } قال ابن إسحاق: وهم مشركو العرب في قولهم: نحن
__________
(1) في ت: "عن".
(2) في ف" "نعم".
(3) في ت: "جليل".
(4) في ت: "الذي" وهو خطأ.

نعبد الملائكة، وهم بنات الله.
{ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } أي: بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه من علم { وَلا لآبَائِهِمْ } أي: أسلافهم.
{ كَبُرَتْ كَلِمَةً } : نصب على التمييز، تقديره: كبرت كلمتهم هذه كلمة.
وقيل: على التعجب، تقديره: أعظم بكلمتهم كلمة، كما تقول: أكرم بزيد رجلا قاله بعض البصريين. وقرأ ذلك بعض قراء مكة: { كَبُرَتْ كَلِمَةً } كما يقال: عَظُم قولُك، وكبر (1) شأنُك.
والمعنى على قراءة الجمهور أظهر؛ فإن هذا تبشيع لمقالتهم (2) واستعظام لإفكهم؛ ولهذا قال: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أي: ليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم؛ ولهذا قال: { إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا } .
وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة، فقال: حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي مُعَيط، إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء. فخرجا حتى قدما المدينة، فسألوا أحبار يهود (3) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفوا لهم (4) أمره وبعض قوله، وقالا (5) إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. قال: فقالت لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بِهِن، فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل مُتَقَول فَرَوا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم؟ فإنهم (6) قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبَؤه (7) ؟ [وسلوه عن الروح، ما هو؟] (8) فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش، فقالا يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا: فسألوه عما أمروهم به، فقال (9) لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبركم غدا بما سألتم عنه". ولم يستثن، فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، لا يُحدث الله إليه في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل، عليه السلام، حتى أرجف (10) أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدًا، واليوم خمسَ عشرةَ قد أصبحنا فيها، لا يُخبرنا بشيء عما سألناه عنه. وحتى أحزنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكثُ الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل، عليه السلام، من عند الله، عز وجل، بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخَبَر ما سألوه عنه من أمر الفتية (11) والرجل الطواف، وقول الله عز وجل: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } [الإسراء:85] (12)
__________
(1) في ت: "وعظم".
(2) في ت: "لمقالهم".
(3) في ت: "يهودي".
(4) في أ: "له".
(5) في ت: "وقال".
(6) في أ: "فإنه".
(7) في ت، أ: "بناؤه".
(8) زيادة من الطبري.
(9) في ت: فقالوا".
(10) في ت: "أوجب".
(11) في ت: "الفقيه".
(12) رواه الطبري في تفسيره (15/127).

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)

{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) }.
يقول تعالى مسليًا رسوله صلى الله عليه وسلم (1) في حزنه على المشركين، لتركهم الإيمان وبعدهم عنه، كما قال تعالى: { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر:8]، وقال { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [النحل:127]، وقال { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [الشعراء:3] (2) (3)
باخع: أي مهلك نفسك بحزنك عليهم؛ ولهذا قال { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ } يعني: القرآن { أَسَفًا } يقول: لا تهلك نفسك أسفًا.
قال قتادة: قَاتِل نَفْسَكَ غضبًا وحزنًا عليهم. وقال مجاهد: جزعًا. والمعنى متقارب، أي: لا تأسف عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.
ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا دارًا فانية مُزيَّنة بزينة زائلة. وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار، فقال: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } .
قال قتادة، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الدنيا خضرة حلوة (4) وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون، فاتقوا الدنيا (5) ، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" (6)
ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها، وفراغها وانقضائها، وذهابها وخرابها، فقال: { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } أي: وإنا لمصيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار، فنجعل كل شيء عليها هالكًا { صَعِيدًا جُرُزًا } : لا يُنْبِت ولا ينتفع به، كما قال العوفي، عن ابن عباس في قوله تعالى { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } يقول: يهلك كل شيء عليها ويبيد. وقال مجاهد: { صَعِيدًا جُرُزًا } بلقعًا.
وقال قتادة: الصعيد: الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات.
وقال ابن زيد: الصعيد: الأرض التي ليس فيها شيء، ألا ترى إلى قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ } [السجدة:27] (7) .
وقال محمد بن إسحاق: { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } يعني الأرض، إن ما عليها لفان وبائد، وإن المرجع لإلى الله (8) فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى.
__________
(1) في أ: "صلوات الله وسلامه عليه".
(2) في ت: "ولعلك"، وفي أ: "لعلكم" وهو خطأ.
(3) في ت، أ: "على ألا" وهو خطأ.
(4) في ف، أ: "حلوة خضرة".
(5) في أ: "يعلمون، واتقوا الدنيا".
(6) ورواه مسلم في صحيحه برقم (2742) من طريق أبي مسلمة عن أبي نضرة به.
(7) في أ: "أفلا تبصرون".
(8) في ت: "المرجع إلى الله"، وفي ف، أ: "إلى الله المرجع".

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)

{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) }
هذا إخبار عن قصة أصحاب (1) الكهف [والرقيم] (2) على سبيل الإجمال والاختصار، ثم بسطها بعد ذلك فقال: { أَمْ حَسِبْتَ } يعني: يا محمد { أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } أي: ليس أمرهم عجيبا (3) في قدرتنا وسلطاننا، فإن خلْق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والكواكب، وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى، وأنه على ما يشاء قادر (4) ولا يعجزه شيء أعجب من أخبار أصحاب الكهف [والرقيم] (5) كما قال ابن جريج (6) عن مجاهد: { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك!
وقال العوفي، عن ابن عباس: { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب، أفضل من شأن أصحاب (7) الكهف والرقيم.
وقال محمد بن إسحاق: ما أظهرت (8) من حججي على العباد، أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم.
[وأما "الكهف" فهو: الغار في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون. وأما "الرقيم"] (9) فقال العوفي، عن ابن عباس: هو واد قريب من أيلَة. وكذا قال عطية العوفي، وقتادة.
وقال الضحاك: أما "الكهف" فهو: غار الوادي، و "الرقيم" : اسم الوادي.
وقال مجاهد: "الرقيم" : كان (10) بنيانهم (11) ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فيه كهفهم.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: "الرقيم"، قال: يزعم كعب أنها القرية.
وقال ابن جريج عن ابن عباس: "الرقيم" الجبل الذي فيه الكهف.
وقال ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن [مجاهد عن] (12) ابن عباس قال: اسم ذلك الجبل بنجلوس.
وقال ابن جريج: أخبرني وهب بن سليمان، عن شعيب الجبائي: أن اسم جبل الكهف بنجلوس، واسم الكهف حيزم، والكلب حمران.
__________
(1) في أ: "أهل".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت، ف، أ: "عجيب".
(4) في ت: "قدير".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في ت: "جرير".
(7) في ت: "أصحاب أهل".
(8) في ت: "ما أظهر".
(9) زيادة من ف.
(10) في أ: "كتاب".
(11) في ت: "كتابتهم بهم".
(12) زيادة من ف.

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)

وقال عبد الرزاق: أنبأنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: القرآن أعلمه إلا حَنَانًا، والأواه، والرقيم.
وقال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عباس: ما أدري ما الرقيم؟ أكتاب أم بنيان؟
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الرقيم: الكتاب. وقال سعيد بن جبير: [الرقيم] (1) لوح من حجارة، كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف (2) ثم وضعوه على باب الكهف.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرقيم: الكتاب. ثم قرأ: { كِتَابٌ مَرْقُومٌ } [المطففين:9]
وهذا هو الظاهر من الآية، وهو اختيار ابن جرير قال: "الرقيم" فعيل بمعنى (3) مرقوم، كما يقول للمقتول: قتيل، وللمجروح: جريح. والله أعلم.
وقوله: { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } يخبر تعالى عن أولئك الفتية، الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه، فَهَرَبوا منه فَلَجَؤُوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم: { رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً } أي: هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا { وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } أي: وقدر لنا من أمرنا هذا رشدا، أي: اجعل عاقبتنا رشدًا (4) كما جاء في الحديث: "وما قضيت لنا من قضاء، فاجعل عاقبته رشدًا"، وفي المسند من حديث بُسْر بن أبي أرطاة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: "اللهم، أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة".
وقوله: { فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا } أي: ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف، فناموا سنين كثيرة { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ } أي: من رقدتهم تلك، وخرج أحدهم بدراهم معه (5) ليشتري لهم بها طعامًا يأكلونه، كما سيأتي بيانه وتفصيله؛ ولهذا قال: { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ } أي: المختلفين فيهم { أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا } قيل: عددًا وقيل: غاية فإن الأمد الغاية كقوله (6)
سَبَقَ الجَوَاد إذَا اسْتَولى على الأمَد.
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) }
__________
(1) زيادة من ف.
(2) في أ: "أهل الكتاب".
(3) في ت: "من".
(4) في ت: "عاقبته رشد"، وفي ف، أ: "عاقبته رشدا".
(5) في ف، أ: "معينة".
(6) هو النابغة الذبيانى، والبيت في تفسير الطبرى (15/137).

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)

{ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16) }

من هاهنا شرع في بسط القصة وشرحها، فذكر تعالى أنهم فتية -وهم الشباب-وهم أقبل للحق، وأهدى للسبيل من الشيوخ، الذين قد عتوا وعَسَوا (1) في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابًا. وأما المشايخ من قريش، فعامتهم بَقُوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا (2) أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابًا.
قال مجاهد: بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني: الحَلَق فألهمهم الله رشدهم وآتاهم تقواهم. فآمنوا بربهم، أي: اعترفوا له بالوحدانية، وشهدوا أنه لا إله إلا هو.
{ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى }: استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كالبخاري وغيره (3) ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله، وأنه يزيد وينقص؛ ولهذا قال تعالى: { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } كَمَا قَالَ { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد:17]، (4) وقال: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا } [التوبة:124]، وقال { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } [الفتح:4] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك.
وقد ذكر (5) أنهم كانوا على دين عيسى ابن مريم، عليه السلام، والله أعلم -والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية، فإنه (6) لو كانوا على دين النصرانية، لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم، لمباينتهم لهم. وقد تقدم عن ابن عباس: أن قريشًا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء، وعن خبر ذي القرنين، وعن الروح، فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب، وأنه متقدم على دين النصرانية، والله أعلم.
وقوله: { وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } يقول تعالى: وصَبَّرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة، فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يومًا في بعض أعياد قومهم، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت، ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له: "دقيانوس"، وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه. فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم، عرفوا (7) أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها، لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض. فجعل كل واحد
__________
(1) في أ: "وغشوا".
(2) في ف: "وكذا".
(3) في ت: "ونحوه".
(4) في أ: "زدناهم" وهو خطأ.
(5) في ت: "ذكروا".
(6) في ف: "فإنهم".
(7) في ت، ف: "فعرفوا".

منهم يتخلص من قومه، وينحاز منهم (1) ويتبرز عنهم ناحية. فكان (2) أول من جلس منهم [وحده] (3) أحدهم، جلس تحت ظل شجرة، فجاء الآخر فجلس عنده، وجاء الآخر فجلس إليهما، وجاء الآخر فجلس إليهم، وجاء الآخر، وجاء الآخر، وجاء الآخر، ولا يعرف واحد منهم الآخر، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري تعليقًا، من حديث يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأرواح جنود مُجَنَّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" (4) . وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث سهيل (5) عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي (6) صلى الله عليه وسلم (7) .
والناس يقولون: الجنسية علة الضم.
والغرض أنه جعل كل (8) أحد منهم يكتم ما هو فيه عن أصحابه، خوفًا منهم، ولا يدري أنهم مثله، حتى قال أحدهم: تعلمون -والله يا قوم-إنه ما (9) أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم، إلا (10) شيء فليظهر كل واحد منكم بأمره. فقال آخر: أما أنا فإني [والله] (11) رأيت ما قومي عليه، فعرفت أنه باطل، وإنما الذي يستحق أن يعبد [وحده] (12) ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق كل شيء: السموات والأرض وما بينهما. وقال الآخر: وأنا والله وقع لي كذلك. وقال الآخر كذلك، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة، فصاروا يدًا واحدة وإخوان صدق، فاتخذوا لهم معبدًا يعبدون الله فيه، فعرف بهم قومهم، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه (13) فأجابوه بالحق، ودعوه إلى الله عز وجل؛ ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله: { وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا } ولن: لنفي التأبيد، أي: لا يقع منا هذا أبدًا؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا؛ ولهذا قال عنهم: { لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } أي: باطِلا وكذبًا وبهتانًا.
{ هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } أي: هَلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحًا صحيحًا؟! { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } يقولون: بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك، فيقال: إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله، أبى عليهم، وتَهَدّدهم وتوعدهم، وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم، وأجَّلهم لينظروا في أمرهم، لعلهم يراجعون دينهم الذي كانوا عليه. وكان هذا من لطف الله بهم، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه. والفرار بدينهم من الفتنة.
وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس، أن يفر العبد منهم خوفًا على دينه، كما جاء في
__________
(1) في ف، أ: "عنهم".
(2) في ت، ف: "وكان".
(3) زيادة من ت، ف، أ.
(4) صحيح البخاري برقم (3336).
(5) في أ: "سهل".
(6) في ف، أ: "عن رسول الله".
(7) صحيح مسلم برقم (2638)..
(8) في ت: "وأنه جعل كل"، وفي ف: "أنه كل".
(9) في ت: "إنما".
(10) في ت: "لا".
(11) زيادة من ف.
(12) زيادة من ف.
(13) في ت: "عليهم".

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)

الحديث: "يوشك أن يكون خيرُ مال أحدكم غنمًا يتبع بها شغف الجبال ومواقع القَطْر، يفر بدينه من الفتن" (1) ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع.
فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم، واختار الله تعالى لهم ذلك، وأخبر عنهم بذلك في قوله: { وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ } أي: وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضًا بأبدانكم { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ } أي: يبسط عليكم رحمة (2) يستركم بها من قومكم { وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ } [أي] (3) الذي أنتم فيه، { مِرفَقًا } أي: أمرًا ترتفقون به. فعند ذلك خرجوا هُرابًا إلى الكهف، فأووا إليه، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم، وتَطَلَّبهم الملك فيقال: إنه لم يظفر بهم، وعَمَّى الله عليه خبرهم. كما فعل بنبيه [محمد] (4) صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق، حين لجأ إلى غار ثور، وجاء المشركون من قريش في الطلب، فلم يهتدوا إليه مع (5) أنهم يمرون عليه، وعندها قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جزع الصديق في قوله: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه (6) لأبصرنا، فقال: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟"، وقد قال تعالى: { إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة:40] فقصة هذا الغار أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب (7) الكهف، وقد قيل: إن قومهم ظفروا بهم، وقفوا (8) على باب الغار الذي دخلوه، فقالوا: ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم. فأمر الملك بردم بابه عليهم ليهلكوا مكانهم ففعل [لهم] (9) ذلك. وفي هذا نظر، والله أعلم؛ فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرة وعشية، كما قال تعالى:
{ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) }.
هذا دليل على أن باب هذا الكهف من نحو الشمال؛ لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه { ذَاتَ الْيَمِينِ } أي: يتقلص الفيء يمنة (10) كما قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة: { تَزَاوَرُ } أي: تميل؛ وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان؛ ولهذا قال: { وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ } أي: تدخل إلى غارهم من شمال بابه، وهو من ناحية المشرق، فدل على صحة ما قلناه،
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (19) من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه.
(2) في ت، ف: "رحمته".
(3) زيادة من ت، ف، أ.
(4) زيادة من ف.
(5) في ت: "ثم".
(6) في أ: "قدمه".
(7) في ف، أ: "أهل".
(8) في ت، ف: "ووقفوا".
(9) زيادة من ف.
(10) في ت: "عنه"، وفي أ: "يمينه".

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)

وهذا بيّن لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة، وسير الشمس والقمر والكواكب، وبيانه (1) أنه (2) لو كان باب الغار من ناحية الشرق (3) لما دخل إليه منها شيء عند الغروب، ولو كان من ناحية القبلة لما دخل منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب، ولا تزاور الفيء يمينًا ولا شمالا ولو كان من جهة الغرب (4) لما دخلته وقت الطلوع، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب. فتعين (5) ما ذكرناه ولله الحمد.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: { تَقْرِضُهُمْ } تتركهم.
وقد أخبر الله تعالى بذلك وأراد منا فهمه وتدبره، ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض؛ إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد (6) شرعي. وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالا فتقدم عن ابن عباس أنه قال: [هو] (7) قريب من أيلة. وقال ابن إسحاق: هو عند نِينَوَى. وقيل: ببلاد الروم. وقيل: ببلاد البلقاء. والله أعلم بأي بلاد الله هو. ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله ورسوله إليه (8) فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تركت شيئًا يقربكم إلى [الجنة] (9) ويباعدكم من النار، إلا وقد أعلمتكم به". فأعلمنا تعالى بصفته، ولم يعلمنا بمكانه، فقال { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ } قال مالك، عن زيد بن أسلم: تميل { ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ } أي: في متسع منه داخلا بحيث لا تمسهم؛ إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم (10) قاله ابن عباس.
{ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } حيث أرشدهم تعالى إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء، والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم؛ ولهذا قال: { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ }
ثم قال: { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } أي: هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم، فإنه من هداه الله اهتدى، ومن أضله فلا هادي له.
{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) }
ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم، لم تنطبق (11) أعينهم؛ لئلا (12) يسرع إليها البلى، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها؛ ولهذا قال تعالى: { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينًا ويفتح عينًا، ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد، كما قال الشاعر (13)
__________
(1) في ت: "فبانه".
(2) في ف: "أن".
(3) في ف، أ: "المشرق".
(4) في أ: "المغرب".
(5) في ت: "فتعى".
(6) في ت: "ولا تضر".
(7) زيادة من ف.
(8) في ت: "الله".
(9) زيادة من ف، وفي ت: "الله".
(10) في ت: "ثيابهم وأبدانهم"، وفي ف، أ: "ثيابهم وأجسادهم".
(11) في ت: "تطبق".
(12) في ت: "كيلا".
(13) هو حميد بن ثور، والبيت في ديوانه (ص104) أ. هـ مستفادا من حاشية ط الشعب.

يَنَامُ بإحْدَى مُقْلتَيه وَيَتَّقِي ... بأخْرَى الرزايا فَهْوَ يَقْظَانُ نَائِمُ ...
وقوله تعالى: { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } قال بعض السلف: يقلبون في العام مرتين. قال ابن عباس: لو لم يقلبوا (1) لأكلتهم الأرض.
وقوله: { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } قال ابن عباس، وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير (2) الوصيد: الفناء.
وقال ابن عباس: بالباب. وقيل: بالصعيد، وهو التراب. والصحيح أنه بالفناء، وهو الباب، ومنه قوله تعالى: { إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ } [الهمزة: 8] أي: مطبقة مغلقة. ويقال: "وَصِيد" و "أصيد".
ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب.
قال ابن جريج (3) يحرس عليهم الباب. وهذا من سجيته وطبيعته، حيث يربض (4) ببابهم كأنه يحرسهم، وكان جلوسه خارج الباب؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب -كما ورد في الصحيح (5) -ولا صورة ولا جُنُب ولا كافر، كما ورد به الحديث الحسن (6) وشملت كلبهم بركتهم، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال. وهذا فائدة صحبة الأخيار؛ فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن.
وقد قيل: إنه كان كلب صيد لأحدهم، وهو الأشبه. وقيل: كان كلب طباخ الملك، وقد كان وافقهم على الدين فصحبه كلبه فالله أعلم.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة "همام بن الوليد الدمشقي": حدثنا صَدَقَة بن عمر الغَسَّاني، حدثنا عباد المِنْقَري، سمعت الحسن البصري، رحمه الله، يقول: كان اسم كبش إبراهيم: جرير واسم هدهد سليمان: عَنْقَز، واسم كلب أصحاب الكهف: قطمير، واسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه: بهموت. وهبط آدم، عليه السلام، بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدست بيسان، والحية بأصبهان (7)
وقد تقدم (8) عن شعيب الجبائي أنه سماه: حمران.
واختلفوا في لونه (9) على أقوال لا حاصل لها، ولا طائل تحتها ولا دليل عليها، ولا حاجة إليها، بل هي مما ينهى عنه، فإن مستندها رجم بالغيب.
__________
(1) في ت: "تتقلبون"، وفي أ: "يتقلبوا".
(2) في ف: "ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة".
(3) في أ: "جرير".
(4) في ف: "ربض".
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (3227) من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما.
(6) رواه أحمد في مسنده (1/80) وأبو داود في السنن برقم (227) والنسائي في السنن (1/141) من حديث علي بن أبي طالب مرفوعا: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب".
(7) انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (27/143).
(8) في ت: "وقيل".
(9) في ت: "كونه".

وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)

وقوله تعالى: { لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } أي: أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر، لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم (1) يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم، لما له في ذلك من الحجة والحكمة (2) البالغة، والرحمة الواسعة.
{ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) }
يقول تعالى: وكما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم، لم يفقدوا من أحوالهم وهيئاتهم شيئًا، وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين؛ ولهذا تساءلوا بينهم: { كَمْ لَبِثْتُمْ }؟ أي: كم رقدتم؟ { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار، واستيقاظهم (3) كان في آخر نهار؛ ولهذا استدركوا فقالوا: { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } أي: الله أعلم بأمركم، وكأنه حصل لهم نوع تَرَدّد في كثرة نومهم، فالله أعلم، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك (4) وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب، فقالوا: { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ } أي: فضتكم هذه. وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها، فتصدقوا منها وبقي منها؛ فلهذا قالوا: { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ } أي: مدينتكم التي خرجتم منها والألف واللام للعهد.
{ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا } أي: أطيب طعامًا، كقوله: { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } [النور:21] وقوله { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [الأعلى:14] ومنه الزكاة التي تُطَيب (5) المال وتطهره. وقيل: أكثر طعامًا، ومنه زكاة الزرع إذا كثر، قال الشاعر: (6)
قَبَاِئُلنا سَبْعٌ وَأَنْتُمْ ثَلاثَةٌ ... وَللسَّبْعُ أزْكَى مِنْ ثَلاثٍ وَأطْيَبُ ...
والصحيح الأول؛ لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال، سواء كان قليلا أو كثيرا.
وقوله { وَلْيَتَلَطَّفْ } أي: في خروجه وذهابه، وشرائه وإيابه، يقولون: وَلْيَتَخَفَّ (7) كل ما يقدر عليه { وَلا يُشْعِرَنَّ } أي: ولا يعلمن { بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ } أي: إن علموا بمكانكم، { يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ } يعنون أصحاب دقيانوس، يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم، فلا يزالون يعذبونهم (8) بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم (9) في ملتهم التي هم عليها أو
__________
(1) في أ: "أو يمسهم".
(2) في ف : " الحكمة والحجة ".
(3) في ف: "وإيقاظهم".
(4) في ت: "إن ذلك".
(5) في ت: "يطيب".
(6) البيت في تفسير الطبري (15/148) غير منسوب.
(7) في ف، أ: "وليتخفف".
(8) في ف: "يزالون يعذبونكم".
(9) في ف: "يعيدوكم".

يموتوا، وإن واتَوهم على العود (1) في الدين فلا فلاح لكم (2) في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال (3) { وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا } .
__________
(1) في ف: "وافوهم على العودة".
(2) في ت، ف: "لهم".
(3) في ف: "قالوا".

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)

{ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) }
يقول تعالى: { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } أي: أطلعنا عليهم الناس { لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا }
ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة. وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا: تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد. فبعث الله أهل الكهف حجة (1) ودلالة وآية على ذلك.
وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة، في شراء شيء لهم ليأكلوه، تنكر وخرج يمشي في غير الجادة، حتى انتهى إلى المدينة، وذكروا أن اسمها دقسوس (2) وهو يظن أنه قريب العهد بها، وكان الناس قد تبدلوا قرنًا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، وأمة بعد أمة، وتغيرت البلاد ومن عليها، كما قال الشاعر:
أما الدّيارُ فَإنَّها كَديارهِم ... وَأرَى رجالَ الحَي غَيْرَ رجَاله ...
فجعل لا يرى شيئًا من معالم البلد التي يعرفها، ولا يعرف أحدًا من أهلها، لا (3) خواصها ولا عوامها، فجعل يتحير في نفسه ويقول: لعل بي جنونًا أو مسًا، أو أنا حالم، ويقول: والله ما بي شيء (4) من ذلك، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة. ثم قال: إن تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي. ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام، فدفع إليه ما معه من النفقة، وسأله أن يبيعه بها طعامًا. فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضَرْبها، فدفعها إلى جاره، وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون: لعل هذا قد وجد كنزا. فسألوه عن أمره، ومن أين له هذه النفقة؟ لعله وجدها من كنز. ومن أنت؟ فجعل يقول: أنا من أهل هذه المدينة (5) وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس. فنسبوه إلى الجنون، فحملوه إلى وليّ أمرهم، فسأله عن شأنه وعن أمره حتى أخبرهم بأمره، وهو متحير في حاله، وما هو فيه. فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف: مُتَوَلّى البلد وأهلها، حتى انتهى بهم إلى الكهف، فقال: دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي،
__________
(1) في ت: "وحجة".
(2) في ت: "دقوس".
(3) في ت، ف: "ولا".
(4) في ت: "شتى".
(5) في ت: "النفقة".

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)

فيقال: إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه، وأخفى الله عليهم خبره (1) ويقال: بل دخلوا عليهم، ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم، وكان مسلمًا فيما قيل، واسمه تيدوسيس (2) ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم ودعوه (3) وسلموا عليه، وعادوا إلى مضاجعهم، وتوفاهم الله، عز وجل، فالله أعلم.
قال قتادة: غزا (4) ابن عباس مع حبيب بن مسلمة، فمروا بكهف في بلاد الروم، فرأوا فيه عظامًا، فقال قائل: هذه عظام أهل الكهف؟ فقال ابن عباس: لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلاثمائة سنة. رواه ابن جرير.
وقوله: { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } (5) أي: كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان { لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } أي: في أمر القيامة، فمن مثبت لها ومن منكر، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم { فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } أي: سدوا عليهم باب كهفهم، وذروهم على حالهم { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا }
حكى ابن جرير في القائلين (6) ذلك قولين: أحدهما: إنهم المسلمون منهم. والثاني: أهل الشرك منهم، فالله أعلم (7)
والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ. ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد" (8) يحذر ما فعلوا. وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق، أمر أن يخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده، فيها شيء من الملاحم وغيرها.
{ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) }
يقول تعالى مخبرًا عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف، فحكى ثلاثة أقوال، فدل على أنه لا قائل برابع، ولما ضَعَّف القولين الأولين بقوله: { رَجْمًا بِالْغَيْبِ } أي: قولا بلا علم، كمن (9) يرمي إلى مكان لا يعرفه، فإنه لا يكاد يصيب، وإن أصاب فبلا قصد، ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } فدل على صحته، وأنه هو الواقع في نفس الأمر.
__________
(1) في ت، ف: "خبرهم".
(2) في ت: "تيدرسين"، وفي ف: "بيدوسيس".
(3) في ت، ف: "دعوه".
(4) في ت: "وعن".
(5) في ت: "أعثرناهم" وهو خطأ.
(6) في ت: "القائل".
(7) في ت: "والله أعلم".
(8) رواه البخاري في صحيحه برقم (1330) من حديث عائشة، رضي الله عنها.
(9) في أ: "لمن".

وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)

وقوله: { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ } إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى، إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم، لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا به، وإلا وَقَفْنَا حيث وقفنا.
وقوله: { مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ } أي: من الناس. قال قتادة: قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله، عز وجل، كانوا سبعة. وكذا روى ابن جريج، عن (1) عطاء الخراساني عنه أنه كان يقول: أنا ممن استثنى الله، ويقول: عدتهم سبعة.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار (2) حدثنا عبد الرحمن، حدثنا إسرائيل، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس: { مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ } قال: أنا من القليل، كانوا سبعة.
فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس: أنهم كانوا سبعة، وهو موافق لما قدمناه.
وقال محمد بن إسحاق بن يَسَار عن عبد الله بن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال: لقد حُدّثتُ أنه كان على بعضهم من حداثة سنه وَضَح الوَرِق. قال ابن عباس: فكانوا كذلك ليلهم ونهارهم في عبادة الله، يبكون (3) ويستغيثون بالله، وكانوا ثمانية نفر: مكسلمينا (4) وكان أكبرهم وهو الذي كلم الملك عنهم، و مجسيميلنينا وتمليخا (5) ومرطونس، وكشطونس، وبيرونس، وديموس، ويطونس وقالوش.
هكذا وقع في هذه الرواية، ويحتمل (6) هذا من كلام ابن إسحاق، ومن بينه وبينه، فإن الصحيح عن ابن عباس أنهم كانوا سبعة، وهو ظاهر الآية. وقد تقدم عن شعيب الجبائي أن اسم كلبهم حمران (7) ، وفي تسميتهم بهذه (8) الأسماء واسم كلبهم نظر في صحته، والله أعلم؛ فإن غالب ذلك مُتَلَقَّى من أهل الكتاب، وقد قال تعالى: { فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا } أي: سهلا هينًا؛ فإن الأمر في معرفة (9) ذلك لا يترتب عليه كبير (10) فائدة { وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا } أي: فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجما بالغيب، أي من غير استناد إلى كلام معصوم، وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية، فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه (11) من الكتب والأقوال.
{ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) }
هذا إرشاد من الله لرسوله الله صلوات الله وسلامه عليه، إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل، أن يرد ذلك إلى مشيئة الله، عز وجل، علام الغيوب، الذي يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه [قال] (12) قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على
__________
(1) في ت: "ابن".
(2) في ت: "يسار".
(3) في ت، ، ف ، أ: "يتلون".
(4) في هـ: "مكيليممنينا"، والمثبت من ت، ف، أ.
(5) في ف: "شمليخا".
(6) في ف، أ: "ويحتمل أن يكون".
(7) في ت: "خمران".
(8) في ت: "بهذا".
(9) في ت: "معرفته".
(10) في ف: "كثير".
(11) في ف: "على من تقدمه".
(12) زيادة من ت، ف، أ.

سبعين امرأة -وفي رواية تسعين امرأة. وفي رواية: مائة امرأة-تلد كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله، فقيل له -وفي رواية: فقال له الملك-قل: إن شاء الله. فلم يقل فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لو قال: "إن شاء الله" لم يحنث، وكان دركا لحاجته"، وفي رواية: "ولقاتلوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون (1) (2)
وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول النبي صلى الله عليه وسلم، لما سئل عن قصة أصحاب الكهف: "غدًا أجيبكم". فتأخر الوحي خمسة عشر يومًا، وقد ذكرناه بطوله في أول السورة، فأغنى عن إعادته.
وقوله: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } قيل: معناه إذا نسيت الاستثناء، فاستثن عند ذكرك له. قاله أبو العالية، والحسن البصري.
وقال هشيم، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس في الرجل يحلف؟ قال: له أن يستثني ولو إلى سنة، وكان يقول: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } في ذلك. قيل للأعمش: سمعته عن مجاهد؟ قال (3) حدثني به ليث بن أبي سليم، يرى (4) ذهب كسائي هذا.
ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، به (5) .
ومعنى قول ابن عباس: "أنه يستثني ولو بعد سنة" أي: إذا نسي أن يقول في حلفه أو كلامه "إن شاء الله" وذكر ولو بعد سنة، فالسُّنة له أن يقول ذلك، ليكون آتيا بسُنَّة الاستثناء، حتى ولو كان بعد الحنث، قال ابن جرير، رحمه الله، ونص على ذلك، لا أن يكون [ذلك] (6) رافعًا لحنث اليمين ومسقطًا للكفارة. وهذا الذي قاله ابن جرير، رحمه الله، هو الصحيح، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه، والله أعلم.
وقال عكرمة: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } أي: إذا غضبت. وهذا تفسير باللازم.
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن يحيى الحُلْواني، حدثنا سعيد بن سليمان، عن عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس: { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } أن تقول: إن شاء الله (7) [وهذا تفسير باللازم] (8) .
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن الحارث الجُبيلي (9) حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا الوليد بن
__________
(1) في ت، ف: "أجمعين".
(2) صحيح البخاري برقم (5242) رواية المائة، وبرقم (6720) رواية التسعين، وصحيح مسلم برقم (1654).
(3) في ف: "فقال".
(4) في ت: "ترى".
(5) تفسير الطبري (15/151) والمعجم الكبير للطبراني (11/68).
(6) زيادة من ف.
(7) المعجم الكبير (12/179).
(8) زيادة من ف.
(9) في ت، ف: "الحبلى".

وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)

مسلم، عن عبد العزيز بن حُصَيْن، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } أن تقول: إن شاء الله.
وروى الطبراني، أيضًا عن ابن عباس في قوله: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } الاستثناء، فاستثن إذا ذكرت. وقال: هي خاصة برسول (1) الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد منا أن يستثني إلا في صلة من يمينه ثم قال: تَفَرَّد به الوليد، عن عبد العزيز بن الحصين (2) (3) .
ويحتمل في الآية وجه آخر، وهو أن يكون الله، عز وجل، قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى؛ لأن النسيان منشؤه من الشيطان، كما قال فتى موسى: { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } [الكهف: 63] وذكر الله تعالى يطرد الشيطان، فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان، فذكر الله سبب للذكر (4) ؛ ولهذا قال: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } .
وقوله: { وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا } أي: إذا سئُلت عن شيء لا تعلمه، فاسأل الله فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد [في ذلك] (5) وقيل في تفسيره غير ذلك في تفسيره، والله أعلم.
{ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) }
هذا خبَر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم، منذ أرقدهم الله إلى أن بعثهم وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان، وأنه كان مقداره ثلاثمائة [سنة] (6) وتسع سنين بالهلالية، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية، فإن تفاوت ما بين كل مائة [سنة] (7) بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين؛ فلهذا قال بعد الثلاثمائة: { وَازْدَادُوا تِسْعًا }
وقوله: { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } أي: إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك [علم] (8) في ذلك وتوقيف (9) من الله، عز وجل (10) فلا تتقدم فيه بشيء، بل قل في مثل هذا: { اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي: لا يعلم ذلك إلا هو أو من أطلعه الله عليه من خَلْقه، وهذا الذي قلناه، عليه غير واحد من علماء التفسير كمجاهد، وغير واحد من السلف والخلف.
وقال قتادة في قوله: { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } هذا قول أهل الكتاب،
__________
(1) في ت: "يا رسول"؟، وفي ف: "لرسول".
(2) في ف: "حصين".
(3) المعجم الأوسط برقم (3357) "مجمع البحرين".
(4) في ت: "سبب الذكر".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من ف.
(8) زيادة من ف.
(9) في ت: "توفيق".
(10) في ت، ف: "تعالى".

وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)

وقد رده الله تعالى بقوله: { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } قال: وفي (1) قراءة عبد الله: "وقالوا: ولبثوا"، يعني أنه قاله الناس (2)
وهكذا قال -كما قال قتادة-مُطرَف بن عبد الله.
وفي هذا الذي زعمه قتادة نظر، فإن الذي بأيدي أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة من غير تسع، يعنون بالشمسية، ولو كان الله قد حكى قولهم لما قال: { وَازْدَادُوا تِسْعًا } وظاهر من الآية إنما هو إخبار من الله، لا حكاية عنهم. وهذا اختيار ابن جرير، رحمه الله. ورواية قتادة قراءة ابن مسعود منقطعة، ثم هي شاذة بالنسبة إلى قراءة الجمهور فلا يحتج بها، والله أعلم.
وقوله: { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } أي: إنه لبصير بهم سميع لهم.
قال ابن جرير: وذلك في معنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه، وتأويل الكلام: ما أبصر الله لكل موجود، وأسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
ثم روي عن قتادة في قوله: { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } فلا أحد أبصر (3) من الله ولا أسمع.
وقال ابن زيد: { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } يرى أعمالهم، ويسمع ذلك منهم سميعًا بصيرًا.
وقوله: { مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } أي: أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر، الذي لا معقب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير، تعالى وتقدس.
{ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) }
__________
(1) في ت: "ومن".
(2) في أ: "ابن عباس".
(3) في ت: "أنصر".

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)

{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) }
يقول تعالى آمرًا رسوله [عليه الصلاة والسلام] (1) بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه (2) إلى الناس: { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } أي: لا مغير (3) لها ولا محرف ولا مؤوّل.
وقوله: { وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا } [عن مجاهد: { مُلْتَحَدًا } قال: ملجأ. وعن قتادة: وليًا ولا مولى] (4) قال ابن جرير: يقول (5) إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك، فإنه لا ملجأ لك من الله". كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة:67] ، وقال تعالى { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } [القصص:85] أي: سائلك عما فرض عليك من إبلاغ الرسالة.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت "وابتلاغه".
(3) في ت، ف: "أي غير مغير".
(4) زيادة من أ.
(5) في ت: "ويقول".

وقوله: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي: اجلس (1) مع الذين يذكرون الله ويهللونه، ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه، ويسألونه بكرة وعشيًا من عباد الله، سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء. يقال: إنها نزلت في أشراف قريش، حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده (2) ولا يجالسهم (3) بضعفاء أصحابه كبلال وعمار وصهيب [وخباب] (4) وابن مسعود، وليفرد أولئك بمجلس على حدة. فنهاه الله عن ذلك، فقال: { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } الآية [الأنعام:52] (5) الآية، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس (6) مع هؤلاء، فقال: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ }
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي، عن إسرائيل، عن المقدام بن شُرَيْح، عن أبيه، عن سعد -هو ابن أبي وقاص-قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا!. قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال ورجلان نسيت اسميهما (7) فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدّث نفسه، فأنزل الله عز وجل: { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري (8)
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي التَّيَّاح قال: سمعت أبا الجعد يحدّث عن أبي أمامة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قاص يقص، فأمسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُص، فلأن أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس، أحب إليَّ من أن أعتق أربع رقاب" (9)
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا هاشم (10) حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن مَيْسَرة قال: سمعت كُرْدُوس بن قيس -وكان قاص العامة بالكوفة-يقول: أخبرني رجل من أصحاب بدر: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب". قال شعبة: فقلت: أي مجلس؟ قال: كان قاصا (11) (12)
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا محمد، حدثنا يزيد بن أبان، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن أجالس قومًا يذكرون الله من صلاة الغداة (13) إلى طلوع الشمس، أحَبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس، ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى غروب الشمس أحبّ إلي من أن أعتق
__________
(1) في ت: "يجلس".
(2) في ت، ف: "وحدهم".
(3) في ت: "تجالسهم".
(4) زيادة من ف.
(5) في ت: "يطرد".
(6) في ت: "في المجلس".
(7) في ت: ، ف: "اسمهما".
(8) صحيح مسلم برقم (2413).
(9) المسند (5/261).
(10) في ت: "هشام".
(11) في ت: "وقاص".
(12) المسند (3/474) وكردوس بن قيس لم يوثقه إلا ابن حبان.
(13) في ت: "الغد".

ثمانية من ولد إسماعيل دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفًا". فحسبنا دياتهم ونحن في مجلس أنس، فبلغت ستة وتسعين (1) ألفًا، وهاهنا من يقول: "أربعة من ولد إسماعيل" والله ما قال إلا ثمانية، دية كل واحد منهم اثنا (2) عشر ألفًا (3)
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا عمرو بن ثابت، عن علي بن الأقمر، عن الأغر أبي (4) مسلم -وهو الكوفي-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ برجل يقرأ سورة الكهف، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم".
هكذا رواه أبو أحمد، عن عمرو بن ثابت، عن علي بن الأقمر، عن الأغر مرسلا. وحدثناه يحيى بن المعلى، عن (5) منصور، حدثنا محمد (6) بن الصلت، حدثنا عمرو بن ثابت، عن علي بن الأقمر، عن الأغر أبي مسلم (7) عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجل يقرأ سورة الحِجْر أو سورة الكهف، فسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم" (8) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر (9) حدثنا ميمون المَرئي، حدثنا ميمون بن سِيَاه، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله، لا يريدون بذلك إلا وجهه، إلا ناداهم مناد من السماء: أن قوموا مغفورًا لكم، قد بُدِّلت سيئاتُكُم حسنات" (10) تفرد به أحمد، رحمه الله.
وقال الطبراني: حدثنا إسماعيل بن الحسن، حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، عن أسامة بن زيد (11) عن أبي حازم، عن عبد الرحمن بن سهل بن حُنيف قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في بعض أبياته: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } فخرج يلتمسهم، فوجد قومًا يذكرون الله تعالى، منهم ثائر الرأس، وجافي الجلد (12) وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم وقال: "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني الله أن أصبر نفسي معهم" (13)
عبد الرحمن هذا، ذكره أبو بكر بن أبي داود في الصحابة (14) وأما أبوه فمن سادات الصحابة،
__________
(1) في ت: "وسبعين".
(2) في ت: "اثنتا".
(3) مسند الطيالسى برقم (2104) ويزيد بن أبان ضعيف.
(4) في ت: "أي".
(5) في ت، ف: "بن".
(6) في ت: "أحمد".
(7) في ت: "الأغر بن أبي مسلم".
(8) مسند البززار برقم (5232، 2326) "كشف الأستار"، وقال الهيثمي في المجمع (7/164): "وفيه عمرو بن ثابت أبو المقدام وهو متروك".
(9) في ف، أ: "بكير".
(10) المسند (3/142) وميمون المرئي ضعيف.
(11) في ت: "زيدى".
(12) في ف: "الجلود".
(13) ورواه ابن منده وأبو نعيم في الصحابة كما في أسد الغابة (3/353) من طريق أبي حازم به.
(14) وتعقبه ابن الأثير بقوله: "ولا يصح، وإنما الصحبة لأبيه ولأخيه أبي أمامة، وله رؤية".

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)

رضي الله عنهم.
وقوله: { وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قال ابن عباس: ولا تجاوزهم إلى غيرهم: يعني: تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة.
{ وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا } أي: شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا { [وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ] وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } (1) أي: أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعًا له ولا محبًا لطريقته، ولا تغبطه بما هو فيه، كما قال تعالى: { وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [طه:131]
{ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) }
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للناس: هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } هذا من باب التهديد والوعيد الشديد؛ ولهذا قال: { إِنَّا أَعْتَدْنَا } أي: أرصدنا { لِلظَّالِمِينَ } وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه { نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } أي: سورها.
قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لَهيعة، حدثنا دَرَّاج، عن أبي الهيثم (2) عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لسُرَادِق النار أربعة جُدُر، كثافة كل جدار مسافة أربعين سنة".
وأخرجه الترمذي في "صفة النار" وابن جرير في تفسيره، من حديث دراج أبي السَّمح به (3)
[وقال ابن جريج: قال ابن عباس: { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } قال: حائط من نار] (4)
وقال ابن جرير: حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا حدثنا أبو عاصم، عن عبد الله بن أمية، حدثني محمد بن حيي بن يعلى، عن صفوان بن يعلى، عن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البحر هو جهنم" قال: فقيل له: [كيف ذلك؟] (5) فتلا هذه الآية -أو: قرأ هذه الآية-: { نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } ثم قال: "والله لا أدخلها أبدًا أو: ما دمت حيًا -ولا تصيبني منها قطرة" (6) .
وقوله: { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } قال ابن عباس: "المهل" : ماء غليظ مثل (7) دردي الزيت.
__________
(1) زيادة من ف.
(2) في ت: "هشيم".
(3) المسند (3/29) وسنن الترمذي برقم (2584) وتفسير الطبري (15/157). ودراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(4) زيادة من ف.
(5) زيادة من ف.
(6) تفسير الطبري (15/157).
(7) في ت: "قيل".

وقال مجاهد: هو كالدم والقيح. وقال عكرمة: هو الشيء الذي انتهى حَرّه: وقال آخرون: هو كل شيء أذيب.
وقال قتادة: أذاب ابنُ مسعود شيئًا من الذهب في أخدود، فلما انماع وأزبد قال: هذا أشبه شيء بالمهل.
وقال الضحاك: ماء جهنم أسود، وهي سوداء وأهلها (1) سود.
وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر، فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها، فهو أسود منتن غليظ حار؛ ولهذا قال: { يَشْوِي الْوُجُوهَ } أي: من حره، إذا أراد الكافر أن يشربه وقَرّبه من وجهه، شواه حتى يسقط جلد وجهه فيه، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في سُرادِق النار عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ماء كالمهل". قال (2) كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه" (3) وهكذا رواه الترمذي في "صفة النار" من جامعه، من حديث رِشْدِين بن سعد (4) عن عمرو بن الحارث، عن دراج، به (5) ثم قال: لا نعرفه إلا من حديث "رشدين"، وقد تكلم فيه من قبل حفظه،، هكذا قال، وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم عن حسن الأشيب، عن ابن لَهِيعة، عن دَرّاج، والله أعلم (6) .
وقال عبد الله بن المبارك، وبَقِيَّة بن الوليد، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الله بن بُسْر، عن أبي أمامة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ } [إبراهيم:16، 17] قال: "يقرب إليه فيَتَكرّهه، فإذا قرب منه شَوَى وجهَه ووقعت فروةُ رأسه، فإذا شربه (7) قطع أمعاءه، يقول الله تعالى: { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ } .
وقال سعيد بن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا (8) منها فاختلست جلود وجوههم، فلو أن مارًّا مرً بهم يعرفهم، لعرف جلود وجوههم فيها. ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون. فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم (9) وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود.
ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه (10) الصفات [الذميمة] (11) القبيحة: { بِئْسَ الشَّرَابُ } أي: بئس هذا الشراب (12) كما قال في الآية الأخرى: { وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } [محمد:15] وقال تعالى: { تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } [الغاشية:5] (13) أي: حارة، كما قال: { وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [الرحمن:44]
__________
(1) في ف، أ: "شجرها".
(2) في ت: "قال كالمهل".
(3) المسند (3/70).
(4) في ت: "بن الأسعد".
(5) سنن الترمذي برقم (2581).
(6) في ت: "فالله أعلم".
(7) في ت، ف: "شرب".
(8) في ت، ف: "فيأكلون".
(9) في ت: "جلود".
(10) في ت: "بهذا".
(11) زيادة من ف، أ.
(12) في ف، أ: "شرابا".
(13) في ف: "يسقى".

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)

{ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } [أي: وساءت النار] (1) منزلا ومَقِيلا ومجتمعًا وموضعًا للارتفاق (2) كما قال في الآية الأخرى: { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [الفرقان:66]
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) }
لما ذكر تعالى حال الأشقياء، ثنى بذكر السعداء، الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به، وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة، فلهم { جَنَّاتُ عَدْنٍ } والعدن: الإقامة.
{ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ } أي: من تحت غرفهم ومنازلهم، قال [لهم] (3) فرعون: { وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي } [الزخرف:51] .
{ يُحَلَّوْنَ } أي: من الحلية { فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ } وقال في المكان الآخر: { وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج:23] وفصله هاهنا فقال: { وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } فالسندس: لباس (4) رقاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها، وأما الإستبرق فغليظ الديباج وفيه بريق.
وقوله: { مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ } الاتكاء قيل: الاضطجاع وقيل التربع في الجلوس. وهو أشبه بالمراد هاهنا ومنه الحديث [في] (5) الصحيح: "أما أنا فلا آكل متكئًا " (6) فيه القولان.
والأرائك: جمع أريكة، وهي السرير تحت الحَجَلة، والحجلة كما يعرفه (7) الناس في زماننا هذا بالباشخاناه، والله أعلم.
قال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَرُ، عن قتادة: { عَلَى الأرَائِكِ } قال: هي الحجال. قال معمر: وقال غيره: السّرُر في الحجال (8)
وقوله: { نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } [أي: نعمت الجنة ثوابًا على أعمالهم { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } أي: حسنت منزلا ومقيلا ومقامًا، كما قال في النار: { بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } [الكهف:29] (9) ، وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله: { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [الفرقان:66] ثم ذكر صفات المؤمنين فقال: { أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [الفرقان:76، 75].
__________
(1) زيادة من ف.
(2) في ت: "للارتفاع".
(3) زيادة من ت.
(4) في ت، ف، أ: "ثياب".
(5) زيادة من ت، ف.
(6) صحيح البخاري برقم (5398).
(7) في ت، ف: "تعرفه".
(8) تفسير عبد الرزاق (1/339).
(9) زيادة من ف.

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)

{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) }

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)

{ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) }
يقول الله تعالى بعد ذكر (1) المشركين المستكبرين عن مجالسة (2) الضعفاء والمساكين من المسلمين، وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم، فضرب لهم (3) مثلا برجلين، جعل الله { لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ } أي: بستانين من أعناب، محفوفتين بالنخل (4) المحدقة في جنباتهما، وفي خلالهما الزروع، وكل من الأشجار والزروع مثمر مُقبلٌ في غاية الجود؛ ولهذا قال: { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا } أي: خرجت ثمرها { وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } أي: ولم تنقص منه شيئًا { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا } أي: والأنهار تتخرق فيهما هاهنا وهاهنا.
{ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } قيل: المراد به: المال. رُوي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. وقيل: الثمار وهو أظهر هاهنا، ويؤيده القراءة الأخرى: "وكان له ثُمْر" بضم الثاء وتسكين الميم، فيكون (5) جمع ثَمَرَة، كَخَشَبَة وخُشب، وقرأ آخرون: { ثَمَرٌ } بفتح الثاء والميم.
فقال -أي صاحب هاتين [الجنتين] (6) -{ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } أي: يجادله ويخاصمه، يفتخر عليه ويترأس: { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا } أي: أكثر خدمًا وحشمًا وولدًا.
قال قتادة: تلك -والله-أمنية الفاجر: كثرة المال وعزة النفر.
وقوله: { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } أي: بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكاره المعاد { قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا } وذلك اغترار منه، لما رأى فيها (7) من الزروع والثمار والأشجار والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها، ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف (8) وذلك لقلة عقله، وضعف يقينه بالله، وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها، وكفره بالآخرة (9) ؛ ولهذا قال: { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً } أي: كائنة { وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } أي: ولئن كان معاد ورجعة وَمَرَدٌّ إلى الله، ليكونَنّ لي هناك أحسن من هذا لأني مُحظى (10) عند ربي، ولولا كرامتي (11) عليه ما أعطاني هذا، كما قال في الآية الأخرى: { وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى } [فصلت:50]، وقال { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا } [مريم:77] أي: في الدار الآخرة، تألى على الله، عز
__________
(1) في ت، ف: "ذكره".
(2) في ت: "مجالسهم".
(3) في ت، ف، أ: "لهم ولهم".
(4) في ف، أ: "بالنخيل".
(5) في ت: "فيك".
(6) زيادة من ف.
(7) في ف: "فيهما".
(8) في ت: "و لايسلم".
(9) في ت: "بالأخرى".
(10) في ت، ف: "محض".
(11) في ت: "إكرامى".

قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)

وجل، وكان سبب نزولها في العاص بن وائل، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى، وبه الثقة.
{ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) }
يقول تعالى مخبرًا عما أجابه صاحبه المؤمن، واعظًا له وزاجرًا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار: { أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا } ؟ وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه، الذي خلقه وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، كما قال تعالى: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [البقرة:280] أي: كيف تجحَدُون ربكم، ودلالته عليكم ظاهرة جلية، كل أحد يعلمها من نفسه، فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدومًا ثم وجد، وليس وجوده من نفسه ولا مستندًا إلى شيء من المخلوقات؛ لأنه بمثابته فعلم إسناد (1) إيجاده إلى خالقه، وهو الله، لا إله إلا هو، خالق كل شيء؛ ولذا (2) قال: { لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي } أي: أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالربوبية والوحدانية { وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا } أي: بل هو الله المعبود وحده لا شريك له.
ثم قال: { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا } هذا تحضيض وحث على ذلك، أي: هلا إذا أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها حمدت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال و الولد ما لم يعطه غيرك، وقلت: { مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } ؛ ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده أو ماله، فليقل: { مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة. وقد روي فيه حديث مرفوع أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده:
حدثنا جَرَّاح بن مَخْلَد، حدثنا عمر بن يونس، حدثنا عيسى بن عَوْن، حدثنا عبد الملك بن زُرَارَة، عن أنس، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد، فيقول: { مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } فيرى فيه آفة دون الموت". وكان يتأول هذه الآية: { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } (3) .
__________
(1) في ف: "استناد".
(2) في ف: "ولهذا".
(3) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (4525) من طريق الحسن بن صباح، عن عمر بن يونس به.

قال الحافظ أبو الفتح الأزدي: عيسى بن عون، عن عبد الملك بن زرارة، عن أنس: لا يصح حديثه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة وحجاج، حدثني شعبة، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبيد مولى أبي رُهْم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا قوة إلا بالله". تفرد به أحمد (1)
وقد ثبت في الصحيح (2) عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله" (3)
وقال الإمام أحمد: حدثنا بكر (4) بن عيسى، حدثنا أبو عَوَانة، عن أبي بَلَج، عن عَمْرو بن ميمون قال: قال أبو هريرة: قال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة، أدلك (5) على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟". قال: قلت: نعم، فداك أبي وأمي. قال: "أن تقول لا قوة إلا بالله" قال أبو بَلْج: وأحسب أنه قال: "فإن الله يقول: أسلم عبدي واستسلم". قال: فقلت لعمرو -قال أبو بَلْج: قال عَمْرو: قلت لأبي هريرة: لا حول ولا قوة إلا بالله؟ فقال: لا إنها في سورة الكهف: { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } (6)
وقوله: { فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ } أي: في الدار الآخرة { وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا } أي: على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى { حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ } قال ابن عباس، والضحاك، وقتادة، ومالك عن الزهري: أي عذابًا من السماء.
والظاهر أنه مطر عظيم مزعج، يقلع زرعها وأشجارها؛ ولهذا قال: { فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } أي: بلقعًا ترابًا أملس، لا يثبت فيه قَدم.
وقال ابن عباس: كالجُرز الذي لا ينبت شيئًا.
وقوله: { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا } أي: غائرًا في الأرض، وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض، فالغائر يطلب أسفلها (7) كما قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } [الملك:30] أي: جار وسائج. وقال هاهنا: { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا } والغور: مصدر بمعنى غائر، وهو أبلغ منه، كما قال الشاعر (8)
تَظَلّ جيّادُهُ نَوْحًا عَلَيه ... تُقَلّدُهُ أعنَّتَها صُفُوفا ...
بمعنى نائحات عليه.
__________
(1) المسند (2/469).
(2) في ف: "الصحيحين".
(3) صحيح البخاري برقم (6610) وصحيح مسلم برقم (2704).
(4) في ف، أ: "بكير".
(5) في ت، ف: "ألا أدلك".
(6) المسند (2/335).
(7) في ت، ف: "أسفل".
(8) البيت في تفسير الطبري (15/163) غير منسوب.

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)

{ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) }
يقول تعالى: { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } بأمواله، أو بثماره على القول الآخر. والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر، مما خَوَّفه به المؤمن من إرسال الحسبان (1) على جنته، التي اغتر بها (2) وألهته عن الله، عز وجل { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } وقال قتادة: يُصفّق كفيه متأسفًا متلهفًا على الأموال التي أذهبها عليه { وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ } أي: عشيرة أو ولد، كما افتخر بهم واستعز { يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } اختلف القراء هاهنا، فمنهم من يقف على قوله: { وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ } أي: في ذلك الموطن الذي حل به عذاب الله، فلا منقذ منه. ويبتدئ [بقوله] (3) { الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } ومنهم من يقف على: { وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا } ويبتدئ بقوله: { هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } .
ثم اختلفوا في قراءة { الْوَلايَةُ } فمنهم من فتح الواو، فيكون المعنى: هنالك الموالاة (4) لله، أي: هنالك (5) كل أحد (6) من مؤمن أو كافر (7) يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب، كقوله: { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } [غافر:84] وكقوله إخبارًا عن فرعون: { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [يونس:91، 90]
ومنهم من كسر الواو من { الْوَلايَةُ } أي: هنالك الحكم لله الحق.
ثم منهم من رفع { الْحَقِّ } على أنه نعت للولاية، كقوله تعالى: { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } [الفرقان:26]
ومنهم من خفض القاف، على أنه نعت لله عز وجل، كقوله: { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } [الأنعام:62] ؛ ولهذا قال تعالى: { هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا } أي: جزاء { وَخَيْرٌ عُقْبًا } أي: الأعمال التي تكون لله، عز وجل، ثوابها خير، وعاقبتها حميدة رشيدة، كلها خير.
{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) }
__________
(1) في ت: "الحسنات".
(2) في ت: "اعتز".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت: "الولاية".
(5) في ت: "هناك".
(6) في ف: "واحد".
(7) في ف: "وكافر".

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)

{ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا (46) }.

يقول تعالى: { وَاضْرِبْ } يا محمد للناس { مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } في زوالها وفنائها وانقضائها { كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ } أي: ما فيها من الحَبّ، فشب وحسن، وعلاه (1) الزهر والنور والنضرة ثم بعد هذا كله { فَأَصْبَحَ هَشِيمًا } يابسا { تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ } أي: تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال (2) { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا } أي: هو قادر على هذه الحال، وهذه الحال (3) وكثيرًا ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل كما في سورة يونس: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ } الآية [يونس:24] ، وقال في سورة الزمر: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ } [الزمر:21] ، وقال في سورة الحديد: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [الحديد:20].
وفي الحديث الصحيح: "الدنيا حلوة خضرة" (4)
وقوله: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } كقوله { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [آل عمران:14] ، وقال تعالى: { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [التغابن:15] أي: الإقبال عليه والتفرغ لعبادته، خير لكم من اشتغالكم بهم والجمع لهم، والشفقة المفرطة عليهم؛ ولهذا قال: { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا } قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" الصلوات الخمس.
وقال عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جُبَير، عن ابن عباس: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وهكذا سُئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، عن: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" ما هي؟ فقال: هي (5) لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
رواه الإمام أحمد:
حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، حدثنا حَيْوَة، أنبأنا أبو عقيل، أنه سمع الحارث مولى عثمان، رضي الله عنه، يقول: جلس عثمان يومًا وجلسنا معه، فجاءه المؤذن، فدعا بماء في إناء، أظنه أنه سيكون فيه مُد، فتوضأ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا، ثم قال: "من توضأ وضوئي هذا، ثم قام فصلى (6) صلاة الظهر، غُفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين الظهر، ثم صلى المغرب غُفر له ما بينها وبين العصر، ثم صلى العشاء غُفر له ما
__________
(1) في ت: "وعلا".
(2) في ت: "ذات يمين وذات شمال".
(3) في ت: "هذه الحالة وهذه الحالة".
(4) سبق تخريجه عند تفسير الآية الثامنة من هذه السورة.
(5) في ت: "هن".
(6) في ت، ف: "يصلى".

بينها وبين المغرب، ثم لعله يبيت يتمرغ (1) ليلته، ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح، غُفر له ما بينها (2) وبين صلاة العشاء وهي الحسنات يذهبن السيئات" قالوا: هذه الحسنات فما الباقيات الصالحات يا عثمان؟ قال: هي لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله (3) تفرد به (4) .
وروى مالك، عن عمارة بن عبد الله بن صياد (5) عن سعيد بن المسيب قال: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال محمد بن عَجْلان، عن عمارة قال: سألني سعيد بن المسيب عن "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" فقلت: الصلاة والصيام. قال (6) لم تصب. فقلت: الزكاة والحج. فقال: لم تصب، ولكنهن الكلمات الخمس: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن نافع عن سَرْجس، أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن: { الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ } قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، [وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال ابن جريج: وقال عطاء بن أبي رباح مثل ذلك.
وقال مجاهد: { الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ } سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر] (7) .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمر، عن الحسن وقتادة في قوله: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله، هُنّ الباقيات الصالحات.
قال ابن جرير: وجدت في كتابي عن الحسن بن الصباح البزار، عن أبي نصر التمار، عن عبد العزيز بن مسلم، عن محمد بن عجلان، عن سعيد المَقْبُرِي، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، منَ الباقيات الصالحات" (8) .
قال: وحدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث أن درّاجًا أبا السمح حَدّثه، عن ابن الهيثم، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استكثروا من الباقيات الصالحات". قيل: وما هي (9) يا رسول الله؟ قال: "الملة". قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: "التكبير، والتهليل، والتسبيح، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله".
وهكذا رواه أحمد، من حديث دراج، به (10) .
وبه قال ابن وهب: أخبرني أبو صَخْر أن عبد الله بن عبد الرحمن، مولى سالم بن عبد الله
__________
(1) في ف، أ: "لعله يتمرغ".
(2) في ت: "بينهما".
(3) في أ: "بالله العلى العظيم".
(4) المسند (1/71).
(5) في ف: "جياد".
(6) في ف: "فقال".
(7) زيادة من ف.
(8) تفسير الطبري (15/167).
(9) في أ: "وما هن".
(10) تفسير الطبري (15/167) والمسند (3/75).

حَدّثه قال: أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي، فقال: قل له: القني عند زاوية القبر فإن لي إليك حاجة. قال: فالتقيا، فسلم أحدهما على الآخر، ثم قال سالم: ما تعد الباقيات الصالحات؟ فقال: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له سالم: متى جعلت فيها "لا حول ولا قوة إلا بالله؟" فقال: ما زلت أجعلها. قال: فراجعه (1) مرتين أو ثلاثًا، فلم ينزع، قال فأثبت (2) قال سالم: أجل فأثبت (3) فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يقول: "عرج بي إلى السماء فأريت إبراهيم عليه السلام، فقال: يا جبريل من هذا معك؟ فقال: محمد فرحب بي وسَهَّل، ثم قال: مر أمتك فلتكثر من غراس الجنة، فإن تربتها طيّبة وأرضها واسعة. فقلت: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله" (4)
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن يزيد، عن العوام، حدثني رجل من الأنصار، من آل النعمان بن بشير، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء، فرفع بصره إلى السماء ثم خفض، حتى ظننا أنه قد حدث في السماء شيء، ثم قال: "أما إنه سيكون بعدي أمراء، يكذبون ويظلمون، فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم، فليس مني ولا أنا منه، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم (5) فهو مني وأنا منه. ألا وإن "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر هُنّ الباقيات الصالحات" (6)
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبان، حدثنا يحيى بن كثير، عن زيد، عن أبي سلام [عن] (7) مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم] (8) قال: "بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه (9) والده". وقال: "بخ بخ لخمس من لقي الله مستيقنًا بهن، دخل الجنة: يؤمن بالله، واليوم الآخر، وبالجنة وبالنار، وبالبعث بعد الموت، وبالحساب (10) (11)
وقال الإمام أحمد: حدثنا رَوْح، حدثنا الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال: كان شداد بن أوس رضي الله عنه، [في سفر] (12) فنزل منزلا فقال لغلامه: "ائتنا بالشَّفرة نعبث بها". فأنكرت عليه، فقال: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه. فلا تحفظوها علي (13) واحفظوا ما أقول لكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا (14) هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك (15) شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، وأسألك لسانًا صادقًا، وأسألك من خير
__________
(1) في ف، أ: "فراجعته".
(2) في ف، أ: "فأبيت".
(3) في أ: "فأبيت".
(4) تفسير الطبري (15/166).
(5) في أ: "ولم يمالئهم على ظلمهم".
(6) المسند (4/267).
(7) زيادة من ف، والمسند.
(8) زيادة من ف، والمسند.
(9) في ت: "فيحتسبنه".
(10) في ت، ف: "والحساب".
(11) المسند (4/237)، وقال الهيثمي في المجمع (10/88): "رجاله رجال الصحيح".
(12) زيادة من ف ، والمسند
(13) في ت: "على ذلك".
(14) في أ: "فأكثروا".
(15) في ت: "وأشكرك".

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)

ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب" (1)
ثم رواه أيضا النسائي (2) من وجه آخر عن شداد، بنحوه (3)
وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا محمد بن سعد العوفي، حدثني أبي، حدثنا عمر بن الحسين، عن يونس بن نفيع الجدلي، عن سعد بن جنادة، رضي الله عنه، قال: كنت في أول من أتى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف، فخرجت من أهلى (4) من السراة غدوة، فأتيت منى عند العصر، فتصاعدت في الجبل ثم هبطت، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت، وعلمني: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } و { إِذَا زُلْزِلَتِ } وعلمني هؤلاء الكلمات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وقال: "هن الباقيات الصالحات". وبهذا الإسناد: "من قام من الليل فتوضأ ومضمض فاه، ثم قال: سبحان الله مائة مرة، والحمد لله مائة مرة، والله أكبر مائة مرة، ولا إله إلا الله مائة مرة، غفرت ذنوبه إلا الدماء فإنها لا تبطل" (5)
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ } قال: هي ذكر الله، قول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، وتبارك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله، وصلى الله على رسول الله، والصيام، والصلاة، والحج، والصدقة، والعتق، والجهاد، والصلة، وجميع أعمال الحسنات. وهن الباقيات الصالحات، التي تبقى لأهلها في الجنة، ما دامت السموات والأرض.
وقال العوفي، عن ابن عباس: هُنّ الكلام الطيب.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي الأعمال الصالحة كلها. واختاره ابن جرير، رحمه الله.
{ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) }.
يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظام، كما قال تعالى: { يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا } [الطور:9، 10] أي: تذهب من أماكنها وتزول، كما قال
__________
(1) المسند (4/123).
(2) في ت: "فالنسائي".
(3) سنن النسائي الكبري برقم (1227).
(4) في ت، ف، أ: "من أهلي الطائفة".
(5) المعجم الكبير (6/51) وفيه الحسين العوفي ضعيف.

تعالى: { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } [النمل:88] ، وقال تعالى: { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ } [القارعة:5] وقال: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا } [طه:105-107] يقول تعالى: إنه تذهب الجبال، وتتساوى المهاد، وتبقى الأرض { قَاعًا صَفْصَفًا } أي: سطحًا مستويًا لا عوج فيه { وَلا أَمْتًا } أي: لا وادي ولا جَبَل؛ ولهذا قال تعالى: { وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً } [أي: بادية ظاهرة، ليس فيها مَعْلَم لأحد ولا مكان يواري أحدًا، بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية.
قال مجاهد، وقتادة: { وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً } ] (1) لا خَمَرَ فيها ولا غَيَابة. قال قتادة: لا بناءَ ولا شَجَر.
وقوله: { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } أي: وجمعناهم، الأولين منهم والآخرين، فلم نترك منهم أحدًا، لا صغيرًا ولا كبيرًا، كما قال: { قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [الواقعة:50، 49] ، وقال: { ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } [هود:103] ،
وقوله: { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا } يحتمل أن يكون المراد: أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفًا واحدًا، كما قال تعالى: { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [النبأ:38] ويحتمل أنهم يقومون (2) صفوفًا صفوفا، كما قال: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [الفجر:22]
وقوله: { لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } هذا تقريع للمنكرين للمعاد، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد؛ ولهذا قال مخاطبا لهم: { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا } أي: ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم، ولا أن هذا كائن.
وقوله: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ } أي: كتاب الأعمال، الذي فيه الجليل والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير { فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } أي: من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة، { وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا } أي: يا حسرتنا وويلنا (3) على ما فرطنا في أعمارنا { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا } أي: لا يترك ذنبًا صغيرًا ولا كبيرًا ولا عملا وإن صغر { إِلا أَحْصَاهَا } أي: ضبطها، وحفظها.
وروى الطبراني، بإسناده المتقدم في الآية قبلها، إلى سعد ابن جنادة قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حُنَيْن، نزلنا قفرًا من الأرض، ليس فيه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجمعوا، من وجد عُودًا فليأت به، ومن وجد حطبًا أو شيئًا فليأت به. قال: فما كان إلا ساعة حتى جعلناه رُكامًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أترون هذا؟ فكذلك تُجْمَع الذنوب على الرجل منكم كما جَمَعْتُم هذا. فليتق الله رجل ولا
__________
(1) زيادة من ف.
(2) في ف، أ: "أن يقوموا".
(3) في ت، ف، أ: "وويلتنا".

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49