الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) }

وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)

{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) }
يقول تعالى مخبرًّا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام أنه قال لقومه: { لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ } أي: لم توصلون الأذى إليّ وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة؟. وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصاب (1) من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر؛ ولهذا قال: "رحمة الله على موسى: لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" (2) وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم أو يُوَصّلوا إليه أذى، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا } [الأحزاب : 69]
وقوله: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } أي: فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان، كما قال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام : 110] وقال { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [النساء : 115] ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية: { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }
وقوله: { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } يعني: التوراة قد بَشَّرَت بي، وأنا مصداقُ ما أخبرت عنه، وأنا مُبَشّر بمن بعدي، وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد. فعيسى، عليه السلام، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام (3) في ملأ بني إسرائيل مبشرًا بمحمد، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي لا رسالة بعده ولا نبوة. وما أحسن ما أورد البخاري الحديثَ الذي قال فيه:
حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني محمد بن جُبَير بن مُطعم، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يَمحُو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب".
ورواه مسلم، من حديث الزهري، به نحوه (4)
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي، عن عمرو بن مُرّة، عن أبي عُبَيدة، عن أبي موسى قال: سَمَّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفسه أسماءً، منها ما حفظنا فقال: "أنا محمد، وأنا أحمد، والحاشر، والمقفي، ونبي الرحمة، والتوبة، والملحمة".
ورواه مسلم من حديث الأعمش، عن عمرو بن مرة، به (5)
__________
(1) في م: "فيما أصابه".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (3405) ومسلم في صحيحه برقم (10622) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(3) في م: "وقد قام".
(4) صحيح البخاري برقم (4896) وصحيح مسلم برقم (2354).
(5) مسند الطيالسي برقم (492) وصحيح مسلم برقم (2355).

وقد قال الله تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } [الأعراف : 157] وقال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران : 81]
قال ابن عباس: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد: لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني ثور بن يَزيد، عن خالد بن مَعْدَانَ، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك. قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبُشْرَى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي (1) كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام" (2) .
وهذا إسناد جيد. ورُوي له شواهد من وجوه أخر، فقال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن سعيد بن سُوَيد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال (3) السلمي، عن العِرْباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجَدلٌ في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك دَعْوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يَرَين" (4) .
وقال أحمد أيضا: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج بن فضالة، حدثنا لقمان بن عامر قال: سمعت أبا أمامة قال: قلت يا نبي الله، ما كان بدء أمرك؟ قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبُشْرَى عيسى، ورأت أمي أنه يخرجُ منها نور أضاءت له قصورُ الشام" (5)
وقال أحمد أيضا: حدثنا حسن بن موسى: سمعت خُدَيجًا أخا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحوٌ من ثمانين رجلا منهم: عبد الله بن مسعود، وجعفر، وعبد الله بن [عُرْفُطَة] (6) وعثمان بن مظعون، وأبو موسى. فأتوا النجاشي، وبعثَت قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سَجَدا له، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له: إن نفرًا من بني عمنا نزلوا أرضك، ورغبوا عنا وعن ملتنا. قال: فأين هم؟ قالا هم في أرضك، فابعث إليهم. فبعث إليهم. فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم. فاتبعوه فسلَّم ولم يسجد،
__________
(1) في م: "حملتني".
(2) رواه الحاكم في المستدرك (2/600) من طريق يوني بن بكير عن ابن إسحاق به، وقال: "خالد بن معدان من خيار التابعين، صحب معاذ بن جبل فمن بعده من الصحابة، فإذا أسند حديث إلى الصحابة فإنه صحيح الإسناد وإن لم يخرجاه". قلت: وقد ورد موصولاً كما سيأتي في رواية أحمد.
(3) في أ: "بلال".
(4) المسند (4/127) وسعيد بن سويد لم يوثقه غير ابن حبان.
(5) المسند (5/262).
(6) زيادة من المسند، ومكانه بياض في هـ، م، أ.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)

فقالوا له: ما لك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل. قال وما ذاك؟ قال: إن الله بعث إلينا رسوله، فأمرنا ألا نسجد لأحد إلا لله عز وجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة.
قال عمرو بن العاص: فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم. قال: ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه؟ قالوا: نقول كما قال الله عز وجل: هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البَتُول، التي لم يمسها بَشَر ولم يَفْرضْها (1) ولد. قال: فرفع عودًا من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه، ما يساوي هذا. مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم. انزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه. وأمَرَ بهدية الآخرَين فردت إليهما، ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرًا، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلَغه موته (2)
وقد رُويت هذه القصةُ عن جعفر وأم سلمة رضي الله عنهما، وموضع ذلك كتاب السيرة. والمقصد أن الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أممها، وتأمرهم باتباعه ونصره وموازرته إذا بعث. وكان ما اشتهر الأمر في أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم، وكذا على لسان عيسى ابن مريم؛ ولهذا قالوا: "أخبرنا عن بَدْء أمرك" يعني: في الأرض، قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى ابن مريم، ورؤيا أمي التي رأت" أي: ظهر في أهل مكة أثر ذلك والإرهاص بذكره صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } قال ابن جريج وابن جرير: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ } أحمد، أي: المبشر به في الأعصار المتقادمة، المنَّوه بذكره في القرون السالفة، لما ظهر أمره وجاء بالبينات قال الكفرة والمخالفون: { هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ }
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) }
يقول تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإسْلامِ } أي: لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله (3) ويجعل له أندادا وشركاء، وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص؛ ولهذا قال: { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
__________
(1) في أ: "ولم يعترضها".
(2) المسند (1/461).
(3) في م: "يفتري على الله الكذب".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)

ثم قال: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } أي: يحاولون (1) أن يَرُدّوا الحق بالباطل، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه، وكما أن هذا مستحيل كذلك ذاك مستحيل (2) ؛ ولهذا قال: { وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } وقد تقدم الكلام على هاتين الآيتين في سورة "براءة"، بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة (3)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) }
تقدم في حديث عبد الله بن سلام أن الصحابة، رضي الله عنهم، أرادوا أن يسألوا عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل ليفعلوه، فأنزل الله هذه السورة، ومن جملتها هذا الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ثم فسر هذه التجارة العظيمة التي لا تبور، والتي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال: { تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي: من تجارة الدنيا، والكد لها والتصدي لها وحدها.
ثم قال: { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي: إن فعلتم ما أمرتكم (4) به ودللتكم عليه، غفرت لكم الزلات، وأدخلتكم الجنات، والمساكن الطيبات، والدرجات العاليات؛ ولهذا قال: { وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
ثم قال: { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا } أي: وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها، وهي: { نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي: إذا قاتلتم في سبيله ونصرتم دينه، تكفل الله بنصركم. قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد : 7] وقال تعالى: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج : 40] وقوله { وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي: عاجل فهذه الزيادة هي خير الدنيا موصول بنعيم الآخرة، لمن أطاع الله ورسوله، ونصر الله ودينه؛ ولهذا قال: { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
__________
(1) في أ: "أي يجادلون".
(2) في م، أ: "كذاك ذلك".
(3) في أ: "والله أعلم".
(4) في أ: "ما آمركم".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) }
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يكونوا أنصار الله في جميع أحوالهم، بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم، وأن يستجيبوا لله ولرسوله، كما استجاب الحواريون لعيسى حين قال: { مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ } ؟ أي: معيني في الدعوة إلى الله عز وجل؟ { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ } -وهم أتباع عيسى عليه السلام-: { نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ } أي: نحن أنصارك على ما أرسلت به ومُوَازروك على ذلك؛ ولهذا بعثهم دعاةً إلى الناس في بلاد الشام في الإسرائيليين واليونانيين. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في أيام الحج: "من رجل يُؤويني حتى أبلغ رسالة ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي" (1) حتى قيَّض الله عز وجل له الأوس والخزرج من أهل المدينة، فبايعوه ووازروه، وشارطوه أن يمنعوه من الأسود والأحمر إن هو هاجر إليهم، فلما هاجر إليهم بمن معه من أصحابه وَفَوا له بما عاهدوا الله عليه؛ ولهذا سماهم الله ورسوله: الأنصار، وصار ذلك علما عليهم، رضي الله عنهم، وأرضاهم. وقوله: { فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ } أي: لما بلغ عيسى ابن مريم عليه السلام رسالة ربه إلى قومه، ووازره من وازره من الحواريين، اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به، وضلت طائفة فخرجت عما جاءهم به، وجحدوا نبوته، ورموه وأمه بالعظائم، وهم اليهود -عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة-وغلت فيه طائفة ممن اتبعه، حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة، وافترقوا فِرَقا وشِيَعا، فمن قائل منهم: إنه ابن الله. وقائل: إنه ثالث ثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس. ومن قائل: إنه الله. وكل هذه الأقوال مفصلة في سورة النساء.
وقوله: { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ } أي: نصرناهم على من عاداهم من فِرَق النصارى، { فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } أي: عليهم، وذلك ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله.
حدثني أبو السائب، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المِنْهال -يعني ابن عمرو-عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أراد الله عز وجل أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج إلى أصحابه وهم في بيت اثنا عشر رجلا من عين في البيت، ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشر (2) مرة بعد أن آمن بي. قال: ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني، ويكون معي في درجتي؟ قال: فقام شاب من أحدثهم سنا فقال: أنا. قال: فقال له: اجلس. ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا. فقال له: اجلس. ثم عاد عليهم
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند (3/322) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2) في م، أ: "اثنتى عشرة".

فقام الشاب، فقال: أنا. فقال: نعم، أنت ذاك. قال: فألقي عليه شبه عيسى، ورُفع عيسى عليه السلام من روزَنة في البيت إلى السماء، قال: وجاء الطلَبُ من اليهود، فأخذوا شِبهَه فقتلوه وصلبوه، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، فتفرقوا فيه ثلاث فرق. فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء، ثم صعد إلى السماء. وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء، ثم رفعه إليه وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه اليه، وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة، فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، { فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ } يعني: الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى، والطائفة التي آمنت في زمن عيسى، { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } بإظهار محمد صلى الله عليه وسلم دينهم على دين الكفار { فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ }
هذا لفظه في كتابه عند تفسير هذه الآية الكريمة. وهكذا رواه النسائي عند تفسير هذه الآية من سننه، عن أبي كُرَيْب عن محمد بن العلاء، عن أبي معاوية، بمثله سواء (1) .
فأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يزالون ظاهرين على الحق، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، وحتى يقاتل آخرهم الدجال مع المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، كما وردت [بذلك] (2) الأحاديث الصحاح، والله أعلم.
__________
(1) تفسير الطبري (28/60) وسنن النسائي الكبري برقم (11591).
(2) زيادة من م، أ.

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)

تفسير سورة الجمعة
وهي مدنية.
عن ابن عباس، وأبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين. رواه مسلم في صحيحه (1) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) }
يخبر تعالى أنه يُسبّح له ما في السموات وما في الأرض، أي: من جميع المخلوقات ناطقها وجامدها، كما قال: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [الإسراء : 44]
ثم قال: { الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ } أي: هو مالك السموات والأرض المتصرف فيهما بحكمه، وهو { الْقُدُّوسِ } أي: المنزه عن النقائص، الموصوف بصفات الكمال { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } تقدم تفسيره غير مرة.
وقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ } الأميون هم: العرب كما قال تعالى: { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [آل عمران : 314] وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم، ولكن المنة عليهم أبلغ وآكد، كما في قوله: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ } [الزخرف : 44] وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به. وكذا قوله: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] وهذا وأمثاله لا ينافي قوله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [الأعراف : 158] وقوله: { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام : 19] وقوله إخبارا عن القرآن: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [هود : 17] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق (2) أحمرهم وأسودهم، وقد قدمنا تفسير ذلك في سورة الأنعام، بالآيات والأحاديث الصحيحة، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (877) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وبرقم (879) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) في أ: "الثقلين".

وهذه الآية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. فبعثه الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة، على حين فترة من الرسل، وطُمُوس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، وقد مقت الله أهلَ الأرض عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب -أي: نزرا يسيرا-ممن تمسك بما بعث الله به عيسى ابن مريم عليه السلام؛ ولهذا قال تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } وذلك أن العرب كانوا [قديما] (1) متمسكين بدين إبراهيم [الخليل] (2) عليه السلام فبدلوه وغيروه، وقلبوه وخالفوه، واستبدلوا بالتوحيد شركا (3) وباليقين شكا، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله (4) وكذلك أهل الكتابين قد بدلوا كتبهم وحرفوها وغيروها وأولوها، فبعث الله محمدًا صلوات الله وسلامه عليه بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق، فيه هدايتهم، والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة، ورضا الله عنهم، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله. حاكم، فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب في الأصول والفروع. وجمَعَ له تعالى، وله الحمد والمنة، جميع المحاسن ممن كان قبله، وأعطاه ما لم يُعطِ أحدًا من الأولين، ولا يعطيه أحدًا من الآخرين، فصلوات الله وسلامه عليه [دائمًا] (5) إلى يوم الدين.
وقوله: { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله.
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا سليمان بن بلال، عن ثور، عن أبي الغَيث، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة: { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ } قالوا: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثا، وفينا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: "لو كان الإيمان عند الثُّرَيَّا لناله رجال -أو: رجل-من هؤلاء".
ورواه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن جرير، من طرق عن ثور بن زيد الدِّيلي (6) عن سالم أبي الغيث، عن أبي هريرة، به (7)
ففي هذا الحديث دليل على أن هذه السورة مدنية، وعلى عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس؛ لأنه فسر قوله: { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ } بفارس؛ ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم وغيرهم من الأمم، يدعوهم إلى الله عز وجل، وإلى اتباع ما جاء به؛ ولهذا قال مجاهد وغير واحد في قوله: { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ } قال: هم الأعاجم، وكل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم من غير العرب.
__________
(1) زيادة من م، أ.
(2) زيادة من م.
(3) في أ: "شركا فيه".
(4) في م: "لم يأذن الله بها".
(5) زيادة من م، أ.
(6) في أ: "الديلمي".
(7) صحيح البخاري برقم (4897) وصحيح مسلم برقم (2546) وسنن الترمذي برقم (3310) وسنن النسائي الكبرى برقم (11592) وتفسير الطبري (28/62).

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي (1) حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا أبو محمد عيسى بن موسى، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال [من أصحابي رجالا] (2) ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب" ثم قرأ: { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ } (3) يعني: بقية من بقي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي: ذو العزة والحكمة في شرعه وقدره.
وقوله: { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } يعني: ما أعطاه الله محمدا صلى الله عليه وسلم من النبوة العظيمة، وما خص به أمته من بعثته صلى الله عليه وسلم إليهم.
{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) }
يقول تعالى ذامًّا لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها، فلم يعملوا بها، مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارا، أي: كمثل الحمار إذا حمل كتبا لا يدري ما فيها، فهو يحملها حملا حسيا (4) ولا يدري ما عليه. وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أوتوه، حفظوه لفظا ولم يفهموه (5) ولا عملوا بمقتضاه، بل أولوه وحرفوه وبدلوه، فهم أسوأ حالا من الحمير؛ لأن الحمار لا فهمَ له، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها؛ ولهذا قال في الآية الأخرى: { أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف: 179] وقال هاهنا: { بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا ابن نُمَير، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له "أنصت"، ليس له جمعة" (6)
__________
(1) في أ: "الترمذي".
(2) زيادة من الدر المنثور. مستفادًا من هامش ط. الشعب.
(3) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (6/201) وابن أبي عاصم في السنة برقم (309) من طريق الوليد بن مسلم، عن أبي محمد -عيسى بن موسى- به، وقال الهيثمي في المجمع (10/408) : "إسناده جيد".
(4) في أ: "حسنًا".
(5) في م: "ولم يتفهموه".
(6) المسند (1/230) وقال الهيثمي في المجمع (2/184): "فيه مجالد بن سعيد وقد ضعفه الناس ووثقه النسائي في رواية".

ثم قال تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي: إن كنتم تزعمون أنكم على هدى، وأن محمدا وأصحابه على ضلالة، فادعوا بالموت على الضال من الفئتين { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فيما تزعمونه.
قال الله تعالى: { وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي: بما يعلمون لهم (1) من الكفر والظلم والفجور، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } وقد قدمنا في سورة "البقرة" الكلام على هذه المباهلة لليهود، حيث قال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [البقرة : 94 -96] وقد أسلفنا الكلام هناك وبينا أن المراد أن يدعوا على الضال (2) من أنفسهم أو خصومهم، كما تقدمت مباهلة النصارى في آل عمران: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [آل عمران : 61] ومباهلة المشركين في سورة مريم: { قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا } [مريم : 75]
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي أبو يزيد، حدثنا فرات، عن (3) عبد الكريم بن مالك الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو جهل لعنه الله: إن رأيتُ محمدا عند الكعبة لآتينَّه حتى أطأ على عُنُقه. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو فعل لأخذَته الملائكة عيانًا، ولو أن اليهود تَمَنَّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من (4) النار. ولو خرج الذين يُباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا.
رواه البخاري والترمذي، والنسائي، من حديث عبد الرزاق عن معمر، عن عبد الكريم، [به] (5) (6) قال البخاري: "وتبعه (7) عمرو بن خالد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم". ورواه النسائي، أيضا عن عبد الرحمن بن عبد الله الحلَبِي، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، به أتم (8)
وقوله تعالى: { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } كقوله تعالى في سورة النساء: { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [النساء : 78]
وفي معجم الطبراني من حديث معاذ محمد بن محمد الهذلي، عن يونس، عن الحسن، عن سَمُرَة مرفوعا: "مثل الذي يفر من الموت كمثل الثعلب تطلبه الأرض بدين، فجاء يسعى حتى إذا أعيا وانبهر دخل جحره، فقالت له الأرض: يا ثعلب ديني. فخرج له حُصَاص، فلم يزل كذلك حتى
__________
(1) في أ: "هم".
(2) في م: "الضلال".
(3) في م: "بن".
(4) في أ: "في".
(5) زيادة من أ.
(6) المسند (1/248) وصحيح البخاري برقم (4958) وسنن الترمذي برقم (3348) وسنن النسائي الكبرى برقم (11685).
(7) في م، أ: "وتابعه".
(8) سنن النسائي الكبرى برقم (11061).

تقطعت عنقه، فمات". (1)
__________
(1) المعجم الكبير (7/222) ورواه العقيلي في الضعفاء (4/200) ومن طريقه ابن الجوزى في العلل المتناهية (2/405) وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعاذ في حديثه وهم، ولا يتابع على رفعه، وإنما هو موقوف على سمرة".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) }
إنما سميت الجمعة جمعة؛ لأنها مشتقة من الجمع، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مَرَّةً بالمعابد الكبار وفيه كَمُل جميع الخلائق، فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض. وفيه خلق (1) آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها. وفيه تقوم الساعة. وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه (2) إياه كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحاح (3)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عَبِيدة بن حُمَيد، عن منصور، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن قَرْثَع الضبي، حدثنا سلمان قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "يا سلمان، ما يوم الجمعة؟". قلت: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوم جُمع فيه أبواك -أو أبوكم" (4)
وقد رُوي عن أبي هُريرة، من كلامه، نحو هذا، فالله أعلم.
وقد كان يقال له في اللغة القديمة يوم العروبة. وثبت أن الأمم قبلنا أمروا به فَضَلّوا عنه، واختار اليهود يوم السبت الذي لم يقع فيه خلق (5) واختار النصارى يومَ الأحد الذي ابتدئ فيه الخلق، واختار الله لهذه الأمة [يوم] (6) الجمعة الذي أكمل الله فيه الخَليقَةَ، كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن همام بن مُنَبِّه قال: هذا ما حدثنا أبو هُرَيرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا. ثم هذا يَومُهم الذي فَرض الله عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تَبَعٌ، اليهود غدًا، والنصارى بعد غد" (7) لفظ البخاري.
__________
(1) في أ: "خلق الله".
(2) في أ: "أعطاه الله".
(3) منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه مسلم في صحيحه برقم (854) وبرقم (852) وحديث أوس بن أوس رضي الله عنه رواه أحمد في المسند (4/8).
(4) رواه الطبراني في المعجم الكبير (6/237) والحاكم في المستدرك (1/277) من طريق جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن أبي معشر به، وقال الحاكم: "صحيح الإسنلد واحتج الشيخان بجميع رواية غير قرثع سمعت أبا علي القاري يقول: أردت أن أجمع مسانيد قرثع الضبي فإنه من زهاد التابعين فلم يسند تمام العشرة".
(5) في م: "خلق آدم".
(6) زيادة من م، أ.
(7) هذا اللفظ لم أقع عليه من هذا الطريق في صحيح البخاري وهو في صحيح مسلم برقم (855) وهذا لفظه.

وفي لفظ لمسلم: "أضل الله من كان قبلنا (1) فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد. فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي بينهم (2) قبل الخلائق".
وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي: اقصدوا واعمدوا (3) واهتموا في مَسيركم إليها، وليس المراد بالسعي هاهنا المشي السريع، وإنما هو الاهتمام بها، كقوله تعالى: { وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [الإسراء : 19] وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما يقرآنها: "فامضوا إلى ذكر الله". فأما المشي السريع إلى الصلاة فقد نهي عنه، لما أخرجاه في الصحيحين، عن أبي هُرَيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم السكينة والوقار، ولا تُسرِعوا، فما أدركتم فصَلُّوا، وما فاتكم فأتموا". لفظ البخاري (4)
وعن أبي قتادة قال: بينما نحن نُصَلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جَلَبة رجال، فلما صلى قال: "ما شأنكم؟". قالوا: استعجلنا إلى الصلاة. قال: "فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم بالسكينة (5) فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا". أخرجاه (6)
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، ولكن ائتوها تمشون، وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا".
رواه الترمذي، من حديث عبد الرزاق كذلك (7) وأخرجه من طريق يزيد بن زُرَيع، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، بمثله (8)
قال الحسن أما والله ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نُهُوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنية والخشوع.
وقال قتادة في قوله: { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } يعني: أن تسعى بقلبك وعملك، وهو المشي إليها، وكان يتأولُ قوله تعالى: { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } [الصافات : 102] أي: المشي معه. روي عن محمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وغيرهما نحو ذلك.
ويستحَب لمن جاء الجمعة أن يغتسل قبل مجيئه إليها، لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عُمَر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء أحدُكم الجمعةَ فَلْيغتسل" (9)
__________
(1) بعدها في أ: "ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم".
(2) في م، أ: "لهم".
(3) في أ: "واعبدوا".
(4) صحيح مسلم برقم (856).
(5) في م: "فعليكم السكينة والوقار".
(6) صحيح البخاري برقم (636) وصحيح مسلم برقم (602).
(7) سنن الترمذي برقم (328).
(8) سنن الترمذي برقم (327).
(9) صحيح البخاري برقم (877) وصحيح مسلم برقم (844).

ولهما عن أبي سعيد، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "غُسلُ يوم الجمعة واجب على كل مُحتَلِم" (1)
وعن أبي هُرَيرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده". رواه مسلم (2)
وعن جابر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم، وهو يوم الجمعة". رواه أحمد، والنسائي، وابن حبان (3)
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من غَسَّل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يَلْغُ كان له بكل خطوة أجر سنة، صيامها وقيامها".
وهذا الحديث له طرق وألفاظ، وقد أخرجه أهل السنن الأربعة وحَسَّنَهُ الترمذي (4)
وعن أبي هُرَيرة، رضي الله عنه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غُسلَ الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنه، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" أخرجاه (5)
ويستحب له أن يلبس أحسن ثيابه، ويتطيب ويتسوك، ويتنظف ويتطهر. وفي حديث أبي سعيد المتقدم: "غسلُ يوم الجمعة واجب على كل محتلم، والسواكُ، وأن يَمَس من طيب أهله".
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، عن عمران بن أبي يحيى، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبي أيوب الأنصاري: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اغتسل يوم الجمعة ومَس من طيب أهله -إن كان عنده-ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع (6) -إن بدا له-ولم يُؤذ أحدا، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى" (7)
وفي سنن أبي داود وابن ماجة، عن عبد الله بن سلام، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مِهْنَته" (8)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (879) وصحيح مسلم برقم (846).
(2) صحيح البخاري برقم (897) وصحيح مسلم برقم (849).
(3) المسند (3/304) وسنن النسائي (3/92) وصحيح ابن حبان برقم (558) "موارد".
(4) المسند (4/104) وسنن أبي داود برقم (345) وسنن الترمذي برقم (496) وسنن النسائي (3/95) وسنن ابن ماجة برقم (1087).
(5) صحيح البخاري برقم (881) وصحيح مسلم برقم (850).
(6) في م، أ: "فركع".
(7) المسند (5/420).
(8) سنن أبي داود برقم (1078) وسنن ابن ماجة برقم (1095).

وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة، فرأى عليهم ثياب النّمار، فقال: "ما على أحدكم إن وجد سَعَة أن يتخذ ثوبين لجمعته، سوى ثوبي مهنته". رواه ابن ماجة (1)
وقوله تعالى: { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ } المراد بهذا النداء هو النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج فجلس على المنبر، فإنه كان حينئذ يؤذن بين يديه، فهذا هو المراد، فأما النداء الأول الذي زاده أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فإنما كان هذا لكثرة الناس، كما رواه البخاري رحمه الله حيث قال: حدثنا آدم -هو ابن أبي إياس-حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أولهُ إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان [بعد زمن] (2) وكثر الناس، زاد النداء الثاني (3) على الزوراء (4) يعني: يؤذن به على الدار التي تسمى بالزوراء، وكانت أرفع دار بالمدينة، بقرب المسجد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا محمد بن راشد المكحولى، عن مكحول: أن النداء كان في يوم الجمعة مؤذن واحد حين يخرج الإمام، ثم تقام الصلاة، وذلك النداء الذي يحرم عنده البيع الشراء (5) إذا نودي به، فأمر عثمان، رضي الله عنه، أن ينادى قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس.
وإنما يؤمر بحضور الجمعة [الرجال] (6) الأحرار دون النساء والعبيد والصبيان، ويعذر المسافر والمريض، وقَيّم المريض، وما أشبه ذلك من الأعذار، كما هو مقرر في كتب الفروع.
وقوله: { وَذَرُوا الْبَيْعَ } أي: اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع إذا نودي للصلاة: ولهذا اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني. واختلفوا: هل يصح إذا تعاطاه متعاط أم لا؟ على قولين، وظاهر الآية عدم الصحة كما هو مقرر في موضعه، والله أعلم.
وقوله: { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي: ترككم البيع وإقبالكم إلى ذكر الله وإلى الصلاة خيرٌ لكم، أي: في الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون.
وقوله: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ } أي: فُرغ منها، { فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } لَمَّا حَجَر عليهم في التصرف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع، أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله. كما كان عرَاك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد، فقال: اللهم إني أجبتُ دعوتَك، وصليتُ فريضتك، وانتشرت كما أمرتني،
__________
(1) سنن ابن ماجة برقم (1096) وقال البوصيري في الزوائد (1/365): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
(2) ما بين المعقوفين غير ثابت في الصحيح. مستفادًا من هامش ط. الشعب.
(3) في الصحيح: "النداء الثالث" ومثله في سنن ابن ماجة، كتاب الإقامة، باب ما جاء في الأذان يوم الجمعة، حديث رقم (1135) 1/359 مستفادًا من هامش ط. الشعب.
(4) صحيح البخاري برقم (912).
(5) في م: "الشراء والبيع".
(6) زيادة من أ.

فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين. رواه ابن أبي حاتم.
وروي (1) عن بعض السلف أنه قال: من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة، بارك الله له سبعين مرة، لقول الله تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ }
وقوله: { وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي: حال بيعكم وشرائكم، وأخذكم وعَطَائكم، اذكروا الله ذكرا كثيرا، ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة؛ ولهذا جاء في الحديث: "من دخل سوقا من الأسواق فقال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير كُتبت (2) له ألفُ ألف حَسنة، ومُحي عنه ألفُ ألف سَيئة" (3)
وقال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا، حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا.
{ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ واللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(11) }
يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ، فقال تعالى: { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } أي: على المنبر تخطب. هكذا ذكره غير واحد من التابعين، منهم: أبو العالية، والحسن، وزيد بن أسلم، وقتادة.
وزعم مقاتل بن حيان: أن التجارة كانت لدحية بن خليفة قبل أن يسلم، وكان معها طبل، فانصرفوا إليها وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا على المنبر إلا القليل منهم. وقد صَحّ بذلك الخبر، فقال الإمام أحمد:
حدثنا ابن إدريس، عن حُصَين، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر قال: قَدمَت عيرٌ المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلا فنزلت: { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا }
أخرجاه في الصحيحين، من حديث سالم، به (4)
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا هُشَيم، عن حُصَين، عن سالم بن أبي الجعد وأبي سفيان، عن جابر بن عبد الله قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقدمت عيرٌ إلى المدينة، فابتدرها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد، لسال بكم الوادي
__________
(1) في م: "وروى أيضا".
(2) في أ: "كتب الله".
(3) جاء من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رواه الإمام أحمد في المسند (1/47) والترمذي في السنن برقم (8243) وابن ماجة في السنن برقم (2235) وقال الترمذي: "هذا حديث غريب".
(4) المسند (3/313) وصحيح البخاري برقم (4899) وصحيح مسلم برقم (863).

نارًا" ونزلت هذه الآية: { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } وقال: كان في الاثني عشر الذين ثَبَتُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، وعمر، رضي الله عنهما (1) .
وفي قوله: { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } دليل على أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائما. وقد رَوَى مسلم في صحيحه عن جابر بن سَمُرَة قال: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما، يقرأ القرآن ويذكر الناس.
ولكن هاهنا شيء ينبغي أن يُعلَم وهو: أن هذه القصة قد قيل: إنها كانت لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدّم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة، كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل: حدثنا محمود بن خالد، عن الوليد، أخبرني أبو معاذ بُكَير بن مَعروف، أنه سمع مُقَاتل بن حَيَّان يقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين، حتى إذا كان يوم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وقد صلى الجمعة، فدخل رجل فقال: إن دحيةَ بن خليفة قد قدمَ بتجارة (2) يعني: فانفضوا، ولم يبق معه إلا نفر يسير.
وقوله: { قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ } أي: الذي عند الله من الثواب في الدار الآخرة { خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } أي: لمن توكل عليه، وطلب الرزق في وقته.
__________
(1) مسند أبي يعلى (3/468).
(2) المراسيل برقم (62).

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)

تفسير سورة المنافقون
وهي مدنية (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) }
يقول تعالى مخبرًا عن المنافقين: إنهم إنما يتفوهون بالإسلام إذا جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فأما في باطن الأمر فليسوا كذلك، بل على الضدّ من ذلك؛ ولهذا قال تعالى: { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } أي: إذا حَضَروا عندك (2) واجهوك بذلك، وأظهروا لك ذلك، وليسوا كما يقولون: ولهذا اعترض بجملة مخبرة أنه رسول الله، فقال: { اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ }
ثم قال: { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } أي: فيما أخبروا به، وإن كان مطابقًا للخارج؛ لأنهم لم يكونوا يعتقدون صحة ما يقولون ولا صدقه؛ ولهذا كذبهم بالنسبة إلى اعتقادهم.
وقوله: { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي: اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة والحَلْفات الآثمة، ليصدقوا فيما يقولون، فاغتر بهم من لا يعرف جلية أمرهم، فاعتقدوا أنهم مسلمون (3) فربما اقتدى بهم فيما يفعلون وصدقهم فيما يقولون، وهم من (4) شأنهم أنهم كانوا (5) في الباطن لا يألون الإسلام وأهله خَبَلا فحصل بهذا القدر ضرر كبير (6) على كثير من الناس ولهذا قال تعالى: { فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ولهذا كان الضحاك بن مُزَاحم يقرؤها: "اتَّخَذُوا إيمَانَهُمْ جُنَّةً" أي: تصديقهم الظاهر جُنَّة، أي: تقية يتقون به القتل. والجمهور يقرؤها: (7) { أيمانهم } جمع يمين.
[وقوله] (8) { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } أي: إنما قُدّر عليهم
__________
(1) فضائل هذه السورة ذكرت في أول سورة الجمعة.
(2) في أ: "إليك".
(3) في أ: "فاعتقدهم مسلمين".
(4) في م: "في".
(5) في أ: "كانوا يقولون".
(6) في أ: "كثير".
(7) في م، أ: "قرؤوها".
(8) زيادة من م، أ.

النفاق لرجوعهم عن الإيمان إلى الكفران، واستبدالهم الضلالة بالهدى { فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } أي: فلا يصل إلى قلوبهم هدى، ولا يخلص إليها خير، فلا تعي ولا تهتدي.
{ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } أي: كانوا أشكالا حسنة وذوي فصاحة وألسنة، إذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم (1) لبلاغتهم، وهم مع ذلك في غاية الضعف والخَور والهلع والجزع والجبن؛ ولهذا قال: { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } أي: كلما وقع أمر أو كائنة أو خوف، يعتقدون، لجبنهم، أنه نازل بهم، كما قال تعالى: { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } [الأحزاب : 19] فهم جَهَامات وصور بلا معاني. ولهذا قال: { هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي: كيف يُصرَفون عن الهدى إلى الضلال.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا عبد الملك بن قُدَامة الجُمَحي، عن إسحاق بن بكر (2) بن أبي الفرات، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري. عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن للمنافقين علامات يعرفون بها: تحيتهم لعنة، وطعامهم نُهبَة، وغنيمتهم غلول، ولا يقربون المساجد إلا هُجْرا ولا يأتون الصلاة إلا دُبْرا، مستكبرين لا يألَفون ولا يُؤلَفون، خُشُبٌ بالليل، صُخُب بالنهار". وقال يزيد مَرةً: سُخُبٌ بالنهار (3)
__________
(1) في م: "إلى قلوبهم".
(2) في أ: "بكير".
(3) المسند (2/293).

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) }
يقول تعالى مخبرا عن المنافقين -عليهم لعائن الله-أنهم { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ } أي: صَدوا وأعرضوا عما قيل لهم، استكبارًا عن ذلك، واحتقارا لما قيل لهم ولهذا قال: { وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } ثم جازاهم على ذلك فقال: { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } كما قال في سورة "براءة" وقد تقدم الكلام على ذلك، وإيراد الأحاديث المروية هنالك.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابنُ أبي عُمَر العَدَني (1) قال: قال سفيان { لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ } قال ابن أبي عمر: حوَّلَ سفيان وجهه على يمينه، ونظر بعينه شَزْرا، ثم قال: هم (2) هذا.
وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في عبد الله بن أبي بن سلول كما سنورده قريبًا إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان.
وقد قال محمد بن إسحاق في السيرة: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة -يعني مَرْجعَه من أحد-وكان عبد الله بن أبي بن سلول -كما حدثني ابن شهاب الزهري-له مقام يَقُومه كل جُمُعة لا ينُكر، شرفًا له من نفسه ومن قومه، وكان فيهم شريفا، إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام، فقال: أيها الناس، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم الله به، وأعزكم به، فانصروه وعَزّروه، واسمعوا له وأطيعوا. ثم جلس، حتى إذا صنع يوم أُحد ما صَنَع -يعني مرجعه بثلث الجيش-ورجع الناس قام يفعل ذلك كما كان يفعله، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا: اجلس، أي عدو الله، لست لذلك بأهل، وقد صنعتَ ما صنعتَ. فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بَجْرًا؛ أن قُمت أشدد أمره. فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا: ويلك. ما لك؟ قال: قمتُ أشدد أمره، فوثب علي رجال من أصحابه يجذبونني ويعنفونني، لكأنما قلت بَجْرًا، أن قمت أشدد أمره. قالوا: ويلك. ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي (3)
وقال قتادة والسدي: أنزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي، وذلك أن غلاما من قرابته انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه بحديث عنه وأمر شديد، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يحلف بالله ويتبرأ من ذلك، وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام فلاموه وعَذَموه (4) وأنزل الله فيه ما تسمعون، وقيل لعدو (5) الله: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فجعل يلوي رأسه، أي: لست فاعلا (6)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلا لم يرتحل حتى يصلي فيه، فلما كانت غزوة تبوك بلغه أنَّ عبدَ الله ابن أبي بن سلول قال: { لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ } فارتحل قبل أن ينزل آخر النهار، وقيل لعبد الله بن أبي: ائت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك. فأنزل الله: { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ } إلى قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ }
وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن جبير. وقوله: إن ذلك كان في غزوة تبوك، فيه نظر، بل ليس بجيد؛ فإن عبد الله بن أبي بن سلول لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك، بل رجع بطائفة من الجيش. وإنما المشهور عند أصحاب المغازي والسير أن ذلك كان في غزوة المُرَيسيع، وهي غزوة بني المصطلق.
__________
(1) في أ: "العدوى".
(2) في م، أ: "هو".
(3) السيرة النبوية لابن هشام (2/105).
(4) في م: "وعزلوه"، وفي أ: "عرموه".
(5) في م، أ: "وقيل لعبد".
(6) رواه الطبري في تفسيره (28/71).

قال يونس بن بُكَيْر، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن يحيى بن حبان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عُمَر بن قتادة، في قصة بني المصطلق: فبينا رسول الله مقيم هناك، اقتتل على الماء جَهجاه بن سعيد الغفاري -وكان أجيرا-لعمر بن الخطاب، وسنان بن وَبْر (1) قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن يحيى بن حبان قال: ازدحما على الماء فاقتتلا فقال سنان: يا معشر الأنصار. وقال الجهجاه: يا معشر المهاجرين -وزيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله بن أبي-فلما سمعها قال: قد ثاورُونا في بلادنا. والله ما مثلُنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: "سَمن كلبك يأكلك". والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من عنده من قومه وقال: هذا ما صنعتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم في بلادكم إلى غيرها. فسمعها زيد ابن أرقم، فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غُلَيّمٌ -وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه-فأخبره الخبر، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله مر عَبّاد بن بشرْ (2) فليضرب عنقه. فقال صلى الله عليه وسلم: "فكيف إذا تحدث الناس -يا عمر-أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا ولكن ناد يا عمر في الرحيل".
فلما بلغ عبد الله بن أبي أن ذلك قد بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، أتاه فاعتذر إليه، وحلف بالله ما قال ما قال عليه زيد بن أرقم -وكان عند قومه بمكان-فقالوا: يا رسول الله، عسى أن يكون هذا الغلام أوهم ولم يثبت ما قال الرجل.
وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مُهجرًا في ساعة كان لا يروح فيها، فلقيه أسيد بن الحضير فسلم عليه بتحية النبوة، ثم قال: والله لقد رُحتَ في ساعة مُنكَرَة ما كنت تروح فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما بلغك (3) ما قال صاحبك ابن أبي؟. زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعز منها الأذل". قال: فأنت -يا رسول الله-العزيزُ وهو الذليل. ثم قال: يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخَرزَ لِنُتَوّجه، فإنه ليرى (4) أن قد استلبتَه ملكا.
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس حتى أمسوا، ليلته حتى أصبحوا، وصَدرَ يومه حتى اشتد الضحى. ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث، فلم يأمن الناس أن وجدوا مَس الأرض فناموا، ونزلت سورة المنافقين (5)
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا بشر بن موسى، حدثنا الحُميدي، حدثنا سفيان، حدثنا (6) عمرو بن دينار، سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزَاة فكَسَعَ رجلٌ من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: ياللأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوها فإنها منتنة" . وقال عبد الله بن أبي بن سلول -وقد فعلوها-: والله لئن رجعنا
__________
(1) في م: "سنان بن يزيد".
(2) في أ: "بشير".
(3) في م: "ما بلغك".
(4) في م: "يرى".
(5) السيرة النبوية لابن هشام (2/290 - 292).
(6) في م: "عن".

إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال جابر: وكان الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كثر المهاجرون بعد ذلك، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" (1)
ورواه الإمام أحمد عن حسين بن محمد المروزي، عن سفيان بن عيينة (2) ورواه البخاري عن الحميدي، ومسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره، عن سفيان، به نحوه (3)
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن محمد بن كعب القرظي، عن زيد بن أرقم قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال: فأتيت النبي (4) صلى الله عليه وسلم فأخبرته، قال: فحلف عبد الله بن أبي أنه لم يكن شيء من ذلك. قال: فلامني قومي وقالوا: ما أردتَ إلى هذا؟ قال: فانطلقت فنمتُ كئيبا حَزينا، قال: فأرسل إلي نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله قد أنزل عُذركَ وصَدَّقك". قال: فنزلت هذه الآية { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا } حتى بلغ: { لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ }
ورواه البخاري عند هذه الآية، عن آدم بن أبي إياس، عن شعبة (5) ثم قال: "وقال ابن أبي زائدة، عن الأعمش، عن عمرو، عن ابن أبي ليلى، عن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الترمذي والنسائي عندها أيضا من حديث شعبة، به (6)
طريق أخرى عن زيد: قال الإمام أحمد، رحمه الله، حدثنا يحيى بن آدم، ويحيى بن أبي بُكَير (7) قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق قال: سمعت زيد بن أرقم -وقال ابن أبي بُكَير (8) عن زيد بن أرقم-قال: خرجت مع عمي في غزاة، فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فذكرت ذلك لعمي فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته فأرسل إلى عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه فحلفوا ما قالوا: فكَذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَدَّقه، فأصابني هَمٌ لم يصبني مثله قط، وجلست في البيت، فقال عمي: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك. قال: حتى أنزل الله: { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ } قال: فبعث إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها رسول الله على، ثم قال: "إن الله قد صدقك" (9)
ثم قال أحمد أيضا: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق: أنه سمع زيد
__________
(1) دلائل النبوة للبيهقي (4/53).
(2) المسند (3/392).
(3) صحيح البخاري برقم (4907) وصحيح مسلم برقم (2584).
(4) في م: "رسول الله".
(5) المسند (4/368) وصحيح البخاري برقم (4902).
(6) سنن الترمذي برقم (3314) وسنن النسائي الكبرى برقم (11594).
(7) في أ: "بكر".
(8) في م: "وقال أبو بكر".
(9) المسند (4/373).

ابن أرقم يقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصاب الناس شدةٌ، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله. وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله، فاجتهد يمينَه ما فعل. فقالوا: كذب زيد يا رسول الله. فوقع في نفسي ما قالوا، حتى أنزل الله تصديقي : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ } قال: ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم، فلووا رؤوسهم. وقوله تعالى: { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ } قال: كانوا رجالا أجمل شيء.
وقد رواه البخاري ومسلم والنسائي، من حديث زهير (1) ورواه البخاري أيضا والترمذي من حديث إسرائيل، كلاهما عن أبي إسحاق عمرو (2) بن عبد الله السَّبيعيّ الهمداني الكوفي، عن زيد، به (3) .
طريق أخرى عن زيد: قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا عبد بن حُمَيد، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي سعد (4) الأزدي قال: حدثنا زيد بن أرقم قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناس من الأعراب، فكنا نَبتَدرُ الماء، وكان الأعراب يسبقوننا يسبق الأعرابي أصحابه يملأ الحوض، ويجعل حوله حجارة، ويجعل النّطع عليه حتى يجيء أصحابه. قال: فأتى رجل من الأنصار الأعرابي، فأرخى زمام ناقته لتشرب، فأبى أن يدعه، فانتزع حجرًا ففاض الماء، فرفع الأعرابي خشبة، فضرب بها رأس الأنصاري فشجّه، فأتى عبدَ الله بن أبيّ رأسَ المنافقين فأخبره -وكان من أصحابه-فغضب عبد الله بن أبي، ثم قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله -يعني الأعراب-وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام. فقال عبد الله لأصحابه: إذا انفضوا من عند محمد فائتوا محمدًا بالطعام، فليأكل هو ومن عنده، ثم قال لأصحابه: إذا رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل. قال زيد: وأنا ردف عمي، فسمعت عبد الله فأخبرت عمي، فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه رسول الله، فحلف وجحد، قال: فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني، فجاء إلي عمي فقال: ما أردت إلا أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبكَ المسلمون. فوقع علي من الغم ما لم يقع على أحد قط، فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وقد خَفَقْتُ برأسي من الهم، إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فَعَرَك أذني، وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا، ثم إن أبا بكر لحقني وقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: ما قال لى رسول الله شيئًا، غير أن عرك أذني وضحك في وجهي. فقال: أبشر. ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر. فلما أن أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين.
انفرد بإخراجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وهكذا رواه الحافظ البيهقي عن
__________
(1) المسند (4/373) وصحيح البخاري برقم (4903) وصحيح مسلم برقم (2772) وسنن النسائي الكبرى برقم (11598).
(2) في أ: "عن أبي إسحاق عن عمرو".
(3) صحيح البخاري برقم (4900) وسنن الترمذي برقم (3312).
(4) في م: "عن أبي سعيد".

الحاكم عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي، عن سعيد بن مسعود، عن عبيد الله بن موسى، به (1) وزاد بعد قوله "سورة المنافقين" { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ } حتى بلغ: { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا } حتى بلغ: { لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ }
وقد روى عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود، عُروَةَ بن الزبير في المغازي -وكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه أيضا هذه القصة بهذا السياق، ولكن جعلا الذي بَلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام عبد الله بن أبي بن سلول إنما هو أوس بن أرقم، من بني الحارث بن الخزرج. فلعله مبلغ آخر، أو تصحيف من جهة السمع، والله أعلم.
وقد قال ابن أبي حاتم، رحمه الله: حدثنا محمد بن عزيز الأيلي، حدثنا سلامة، حدثني عقيل، أخبرنى محمد بن مسلم، أن عروة بن الزبير وعمرو بن ثابت الأنصاري أخبراه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة المريسيع، وهي التي هدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها مناة الطاغية التي كانت بين قفا المُشَلّل وبين البحر، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فكسر مناة، فاقتتل رجلان في غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك، أحدهما من المهاجرين، والآخر من بَهْز، وهم حلفاء الأنصار، فاستعلى الرجل الذي من المهاجرين على البهزي، فقال البهزي: يا معشر الأنصار، فنصره رجال من الأنصار، وقال المهاجري: يا معشر المهاجرين. فنصره رجال من المهاجرين، حتى كان بين أولئك الرجال من المهاجرين والرجال من الأنصار شيء من القتال، ثم حُجز بينهم فانكفأ كل منافق -أو: رجل في قلبه مرض-إلى عبد الله بن أبيّ بن سلول، فقال: قد كنت تُرْجَى وتَدفع فأصبحت لا تضر ولا تنفع، قد تناصرت علينا الجلابيب -وكانوا يَدْعُون كُلّ حديث هجرة (2) الجلابيب-فقال عبد الله بن أبي عدو الله: [والله] (3) لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال مالك بن الدخْشُم -وكان من المنافقين-: أولم أقل لكم لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا. فسمع بذلك عمرُ بن الخطاب، فأقبل يمشي حتى جاء (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس، أضربُ عنقه -يريد عمرُ عبدَ الله بن أبي-فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: "أو قاتله أنتَ إن أمرتُك بقتله؟". قال: عمر [نعم] (5) والله لئن أمرتني بقتله لأضربَنّ عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجلس". فأقبل أسيدُ بن الحضير (6) -وهو أحد الأنصار، ثم أحد بني عبد الأشهل-حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس [حتى] (7) أضرب عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوقاتله أنتَ إن أمرتُك بقتله؟". قال: نعم، والله لئن أمرتني بقتله لأضربن بالسيف تحت قُرط أذنيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجلس". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آذنوا بالرحيل". فَهَجَّرَ بالناس، فسار
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3313) ودلائل النبوة للبيهقي (4/54).
(2) في م: "أهجرة".
(3) زيادة من م.
(4) في أ: "حتى أتى".
(5) زيادة من م، أ.
(6) في م: "حضير".
(7) زيادة من م.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)

يومه وليلته والغد حتى مَتَعَ النهار، ثم نزل. ثم هَجَّر بالناس مثلها، فَصبح (1) بالمدينة في ثلاث سارها من قفا المُشلَّل فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أرسل إلى عمر فدعاه، فقال له رسول الله: "أي ْعمر، أكنت قاتله لو أمرتك بقتله؟" قال (2) عمر: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لو قتلته يومئذ لأرغمتَ أنوف رجال لو أمرتهم اليوم بقتله امتثلوه (3) فيتحدث الناسُ أني قد وقعت على أصحابي فأقتلهم صبرًا". وأنزل الله عز وجل: { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا } إلى قوله: { لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ [لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَل] } (4) الآية.
وهذا سياق غريب، وفيه أشياء نفيسة لا توجد إلا فيه.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عَبدَ الله بن أبي -يعنى لما بلغه ما كان من أمر أبيه-أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبَيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر، فأدخل النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل نترفق به ونحسن صحبته، ما بقي معنا" (5)
وذكر عكرمةُ وابن زيد وغيرهما: أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة، وقف عبدُ الله بن عبد الله هذا على باب المدينة، واستل سيفه، فجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبوه عبد الله بن أبي قال له ابنه: وراءك. فقال: ما لك؟ ويلك. فقال: والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذنَ لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان إنما يسير ساقة فشكا إليه عبد الله بن أبيّ ابنه، فقال ابنه عبد الله: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما إذ أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فَجُز الآن.
وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير في مسنده: حدثنا سفيان بن عُيَينة، حدثنا أبو هارون المدني قال: قال عبد الله بن عبد الله ابن أبي بن سلول لأبيه: والله لا تدخل المدينة أبدًا حتى تقول: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل. قال وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي، فوالذي بعثك بالحق ما تأملت وجهه قط هيبة له، لئن شئت أن آتيك برأسه لأتينك، فإني أكره أن أرى قاتل أبي (6) \
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) }
__________
(1) في م: "حتى صبح".
(2) في م: "فقال".
(3) في م: "لقتلوه".
(4) زيادة من م، أ.
(5) السيرة النبوية لابن هشام (2/292).
(6) مسند الحميدي (2/520).

يقول تعالى آمرًا لعباده المؤمنين بكثرة ذكره وناهيا لهم عن أن تشغلهم الأموال والأولاد عن ذلك ومخبرًا لهم بأنه من التَهَى بمتاع الحياة الدنيا وزينتها عما خُلِقَ له من طاعة ربه وذكره، فإنه من الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ثم حثهم على الإنفاق في طاعته فقال: { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } فكل مُفَرِّط يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ولو شيئا يسيرًا، يستعتب ويستدرك ما فاته، وهيهات! كان ما كان، وأتى ما هو آت، وكل بحسب تفريطه، أما الكفار فكما قال [الله] (1) تعالى: { وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } [إبراهيم : 44] وقال تعالى: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [المؤمنون : 99 ، 100]
ثم قال تعالى: { وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي: لا ينظر أحدًا بعد حلول أجله، وهو أعلم وأخبر بمن يكون صادقًا في قوله وسؤاله ممن لو رُدّ لعاد إلى شر مما كان عليه؛ ولهذا قال: { وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا جعفر بن عون، حدثنا أبو جَنَاب الكلبي، عن الضحاك بن مُزاحم، عن ابن عباس قال: من كان له مال يبلغه حج بيت ربه، أو تجب عليه فيه زكاةٌ، فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت. فقال رجل: يا ابن عباس، اتق الله، فإنما يسأل الرجعة الكفار. فقال سأتلوا عليك بذلك قرآنا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا] وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (2) قال: فما يوجب الزكاة؟ قال: إذا بلغ المال مائتين فصاعدا. قال: فما يوجب الحج؟ قال: الزاد والبعير.
ثم قال: حدثنا عبد بن حُميَد، حدثنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن يحيى بن أبي حَيَّة -وهو أبو جناب الكلبي-عن الضحاك، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه (3)
ثم قال: وقد رواه سفيان بن عيينة وغيره، عن أبي جَنَاب، عن ابن الضحاك، عن ابن عباس، من قوله. وهو أصح، وضعَّف أبا جناب الكلبي.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من م، وفي هـ:
(3) سنن الترمذي برقم (3316).

قلت: رواية الضحاك عن ابن عباس فيها انقطاع، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن نُفَيل، حدثنا سليمان بن عطاء، عن مسلمة الجهني، عن عمه -يعني أبا مشجعة بن رِبْعِي-عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الزيادة في العمر فقال: " إن الله لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها، وإنما الزيادة في العمر أن يرزق الله العبدَ ذُرية صالحة يدعون له، فيلحقه دعاؤهم في قبره" (1)
آخر تفسير سورة "المنافقون" (2) ولله الحمد والمنة
__________
(1) ورواه ابن عدى في الكامل (3/285) من طريق الوليد بن عبد الملك عن سليمان بن عطاء به - مجمع على ضعفه.
(2) في أ: "المنافقين".

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)

تفسير سورة التغابن
وهي مدنية، وقيل: مكية.
قال الطبراني: حدثنا محمد بن هارون بن محمد بن بكار الدمشقي، حدثنا العباس بن الوليد الخلال، حدثنا الوليد بن الوليد، حدثنا ابن ثوبان، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عَمرو، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من سورة التغابن" (1)
أورده ابن عساكر في ترجمة "الوليد بن صالح" (2) وهو غريب جدًّا، بل منكر.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) }
هذه السورة هي آخر المُسَبِّحات، وقد تقدم الكلام على تسبيح المخلوقات لبارئها ومالكها؛ ولهذا قال: { لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ } أي: هو المتصرف في جميع الكائنات، المحمود على جميع ما يخلقه ويقدره.
وقوله: { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي: مهما أراد كان بلا ممانع ولا مدافع، وما لم يشأ لم يكن.
وقوله: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } أي: هو الخالق لكم على هذه الصفة، وأراد منكم ذلك، فلا بد من وجود مؤمن وكافر، وهو البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال، وهو شهيد على أعمال عباده، وسيجزيهم بها أتم الجزاء؛ ولهذا قال: { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
ثم قال: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ } أي: بالعدل والحكمة، { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي: أحسن أشكالكم، كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } [الانفطار : 6-8]
__________
(1) ورواه الطبرني في المعجم الأوسط برقم (3290) عن أحمد، عن أيوب بن محمد الوزان، عن الوليد بن الوليد به، وقال: "لم يروه عن ابن ثوبان إلا الوليد القلانسي" والوليد ضعيف.
(2) تاريخ دمشق (17/831" المخطوط").

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

وكقوله: { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } الآية [غافر : 64] وقوله: { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي: المرجع والمآب.
ثم أخبر تعالى عن علمه بجميع الكائنات السمائية والأرضية والنفسية، فقال: { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) }
يقول تعالى مخبرًا عن الأمم الماضين، وما حل بهم من العذاب والنكال؛ في مخالفة الرسل والتكذيب بالحق، فقال: { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ } أي: خبرهم وما كان من أمرهم، { فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ } أي: وخيم تكذيبهم ورديء أفعالهم، وهو ما حل بهم في الدنيا من العقوبة والخزي { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: في الدار الآخرة مضاف إلى هذا الدنيوي. ثم علل ذلك فقال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي: بالحجج والدلائل والبراهين { فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } ؟ أي: استبعدوا أن تكون الرسالة في البشر، وأن يكون هداهم على يدي بشر مثلهم، { فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا } أي: كذبوا بالحق ونكلوا عن العمل، { وَاسْتَغْنَى اللَّهُ } أي: عنهم { وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }
{ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) }

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)

{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) }
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين والكفار والملحدين أنهم يزعمون أنهم لا يبعثون: { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } أي: لتُخْبَرُنَّ بجميع أعمالكم، جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، { وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أي: بعثكم ومجازاتكم.
وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه، عز وجل، على وقوع المعاد ووجوده فالأولى في سورة يونس: { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } [يونس : 53] والثانية في سورة سبأ: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } الآية [سبأ : 3]

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)

والثالثة هي هذه [ { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ] (1)
ثم قال تعالى: { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزلْنَا } يعني: القرآن ، { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي: فلا تخفى عليه من أعمالكم خافية.
وقوله: { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ } وهو يوم القيامة، سمي بذلك لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينَفُذَهم البصر، كما قال تعالى: { ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } [هود : 103] وقال تعالى: { قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [الواقعة : 49 ، 50]
وقوله: { ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ } قال ابن عباس: هو اسم من أسماء يوم القيامة. وذلك أن أهل الجنة يغبنون أهل النار. وكذا قال قتادة ومجاهد.
وقال مقاتل بن حيان: لا غبن أعظمُ من أن يدخل هؤلاء إلى الجنة، ويُذْهَب بأولئك إلى النار.
قلت: وقد فسر ذلك بقوله تعالى: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } وقد تقدم تفسير مثلُ هذه (2) غير مرة.
{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) }
يقول تعالى مخبرًا بما أخبر به في سورة الحديد: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } [الحديد : 22] وهكذا قال هاهنا: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } قال ابن عباس: بأمر الله، يعني: عن قدره (3) ومشيئته.
{ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعَوَّضه عما فاته من الدنيا هُدى في قلبه، ويقينا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرًا منه.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } يعني: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
__________
(1) زيادة من م فصل 1.
(2) في م: "هذا"، وفي أ: "ذلك".
(3) في أ: "عن قدرته".

وقال الأعمش، عن أبي ظِبْيان قال: كنا عند علقمة فقرئ عنده هذه الآية: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } فسئل عن ذلك فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم. رواه ابن جرير (1) وابن أبي حاتم (2)
وقال سعيد بن جبير، ومقاتل بن حيان: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } يعني: يسترجع، يقول: { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة : 156]
وفي الحديث المتفق عليه: "عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته ضَرَّاء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سَرَّاء شكر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن" (3)
وقال أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا الحارث بن يزيد، عن علي بن رَبَاح؛ أنه سمع جنادة بن أبي أمية يقول: سمعت عبادة بن الصامت يقول: إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله، وتصديق به، وجهاد في سبيله". قال: أريد أهونَ من هذا يا رسول الله. قال: "لا تتهم الله في شيء، قضى لك به". لم يخرجوه (4)
وقوله: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } أمرٌ بطاعة الله ورسوله فيما شرع، وفعل ما به أمر وترك ما عنه نهى (5) وزجر، ثم قال: { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } أي: إن نكلتم عن العمل فإنما عليه ما حُمِّل من البلاغ، وعليكم ما حُمِّلْتم من السمع والطاعة.
قال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم (6)
ثم قال تعالى مخبرًا أنه الأحد الصمد، الذي لا إله غيره، فقال: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } فالأول خَبَرٌ عن التوحيد، ومعناه معنى الطلب، أي: وحدوا الإلهية له، وأخلصوها لديه، وتوكلوا عليه، كما قال تعالى: { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } [المزمل : 9].
__________
(1) تفسير الطبري (28/79).
(2) في م: "وابن أبي حاتم في تفسيرهما".
(3) الحديث رواه مسلم في صحيحه برقم (2999) من حديث صهيب الرومي، رضي الله عنه.
(4) المسند (5/318).
(5) في م: "ما ينهي عنه".
(6) رواه البخاري في صحيحه معلقًا (13/503) "فتح".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) }
يقول تعالى مخبرًا عن الأزواج والأولاد: إن منهم من هو عدو الزوج والوالد، بمعنى: أنه يلتهى به عن العمل الصالح، كقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المنافقون : 9] ؛ ولهذا قال هاهنا: { فاحذروهم } قال ابن زيد: يعني على دينكم.
وقال مجاهد: { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ } قال: يحملُ الرجل على قطيعة الرحم أو معصية ربه، فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه. وقال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني (1) حدثنا الفريابي، حدثنا إسرائيل، حدثنا سمَاك بن حرب، عن عِكْرمة، عن ابن عباس -وسأله رجل عن هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } -قال: فهؤلاء رجال أسلموا من مكة، فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يَدَعوهم، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناسَ قد فقهوا في الدين، فَهَمُّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله هذه الآية: { وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وكذا رواه الترمذي عن محمد بن يحيى، عن الفريابي -وهو محمد بن يوسف-به (2) وقال حسن صحيح. ورواه ابن جرير والطبراني، من حديث إسرائيل، به (3) ورُوي من طريق العوفي، عن ابن عباس، نحوه، وهكذا قال عكرمة مولاه سواء.
وقوله: { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } يقول تعالى: إنما الأموال والأولاد فتنة، أي: اختبار وابتلاء من الله لخلقه. ليعلم من يطيعه ممن يعصيه.
وقوله: { وَاللَّهُ عِنْدَهُ } أي: يوم القيامة { أَجْرٌ عَظِيمٌ } كما قال: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ+ [ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } والتي بعدها] [آل عمران : 14 ، 15] (4)
وقال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب، حدثني حُسَين بن واقد، حدثني عبد الله بن بُرَيدة، سمعت أبي (5) بريدة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء الحسن والحسين، رضي الله عنهما، عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال: "صدق الله ورسوله، إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما".
__________
(1) في م: "الصيدلاني".
(2) سنن الترمذي برقم (7133).
(3) تفسير الطبري (28/80) والمعجم الكبير للطبراني (11/275).
(4) زيادة من م، وفي هـ: "الآية".
(5) في هـ، م، أ: "أبا"، والمثبت من المسند.

ورواه أهل السنن من حديث حُسَين بن واقد، به (1) وقال الترمذي: حسن غريب، إنما نعرفه من حديثه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سُرَيج بن النعمان، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا مجالد، عن الشعبي، حدثنا الأشعث بن قيس قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة، فقال لي: "هل لك من ولد؟" قلت: غلام ولد لي في مَخرجَي إليك من ابنة جمد، وَلَوَددْتُ أن بمكانه: شبَعَ القوم. قال: "لا تقولن ذلك، فإن فيهم قرة عين، وأجرًا إذا قبضوا"، ثم قال: "ولئن قلت ذاك: إنهم لمجبنة مَحْزنة" تفرد به أحمد (2) رحمه الله تعالى.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمود بن بكر، حدثنا أبي، عن عيسى [بن أبي وائل] (3) عن ابن أبي ليلى، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولد ثمرة القلوب، وإنهم مَجبنة مَبخلة محزنة" ثم قال: لا يعرف إلا بهذا الإسناد (4)
وقال الطبراني: حدثنا هاشم بن مرثد (5) حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، حدثني أبي، حدثني ضَمْضَمُ بنُ زُرْعَةَ، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس عدوك الذي إن قتلته كان فوزًا لك، وإن قتلك دخلت الجنة، ولكن الذي لعله عدو لك ولدك الذي خرج من صلبك، ثم أعدى عدو لك مالُك الذي ملكت يمينك" (6)
وقوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (7) } أي: جهدكم وطاقتكم. كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه" (8)
وقد قال بعض المفسرين -كما رواه مالك، عن زيد بن أسلم-إن هذه الآية العظيمة ناسخة للتي في "آل عمران" وهي قوله: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران : 102]
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثني يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر، حدثني ابن لَهِيعة، حدثني عطاء -هو ابن دينار-عن سعيد بن جبير في قوله: { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } قال: لما نزلت الآية اشتد على القوم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم، فأنزل الله تخفيفًا على المسلمين: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فنسخت الآية الأولى.
__________
(1) المسند (5/354) وسنن أبي داود برقم (1109) وسنن الترمذي برقم (3774) وسنن النسائي (3/108) وسنن ابن ماجة برقم (3600).
(2) المسند (5/211).
(3) زيادة من أ.
(4) مسند البزار برقم (1892) "كشف الأستار" قال الهيثمي في المجمع (8/155): "وفيه عطية الوفي وهو ضعيف" المجبنة: مظنة للجبن، والمبخلة: سبب للبخل، والمخزنة: سبب للحزن.
(5) في هـ، م، أ: "مزيد"، والمثبت من المعجم الكبير.
(6) المعجم الكبير (3/294) وفيه ضعف وانقطاع وقد تقدم بيانه مرارًا.
(7) فاتقوا الله ما استطعتم
(8) صحيح البخاري برقم (7288) وصحيح مسلم برقم (1337).

وروي عن أبي العالية، وزيد بن أسلم، وقتادة، والربيع بن أنس، والسُّدِّيّ، ومُقاتل بن حَيَّان، نحو ذلك.
وقوله: { وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا } أي: كونوا منقادين لما يأمركم الله به ورسوله، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة، ولا تقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا تتخلفوا عما به أمرتم، ولا تركبوا ما عنه زُجرتم.
وقوله تعالى: { وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأنْفُسِكُمْ } أي: وابذلوا مما رزقكم الله على الأقارب والفقراء والمساكين وذوي الحَاجات، وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن إليكم، يكن خيرًا لكم في الدنيا والآخرة، وإن لا تفعلوا يكن شرًّا لكم في الدنيا والآخرة.
وقوله: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } تقدم تفسيره في سورة "الحشر" وذكر الأحاديث الواردة في معنى هذه الآية، بما أغنى عن إعادته ها هنا، ولله الحمد والمنة،
وقوله: { إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } أي: مهما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، ومهما تصدقتم من شيء فعليه جزاؤه، ونزل ذلك منزلة القرض له، كما ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول: "من يقرض غير ظلوم ولا عديم " (1) ولهذا قال: { يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } كما تقدم في سورة البقرة: { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [البقرة : 245]
{ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } أي: ويكفر عنكم السيئات. ولهذا قال: { وَاللَّهُ شَكُورٌ } أي: يجزي على القليل بالكثير { حليم } أي: [يعفو و] (2) يصفح ويغفر ويستر، ويتجاوز عن الذنوب والزلات والخطايا والسيئات.
{ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } تقدم تفسيره غير مرة.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (758) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(2) زيادة من م.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)

تفسير سورة الطلاق
وهي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) }
خُوطب النبي صلى الله عليه وسلم أولا تشريفًا وتكريما، ثم خاطب الأمة تبعًا فقال: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ }
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن ثواب بن سعيد الهباري، حدثنا أسباط بن محمد، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة، فأتت أهلها، فأنزل الله، عز وجل: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } فقيل له: راجعها فإنها صوامة قوامة، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة.
ورواه ابن جرير، عن ابن بشار، عن عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة... فذكره مرسلا (1) وقد ورد من غير وجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بُكَيْر، حدثنا الليث وعقيل، عن ابن شهاب، أخبرني سالم: أن عبد الله بن عمر أخبره: أنه طلق امرأة له وهي حائض، فذكر عمرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله، عز وجل" (2)
هكذا رواه البخاري هاهنا وقد رواه في مواضع من كتابه، ومسلم، ولفظه: "فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" (3)
ورواه أصحاب الكتب والمسانيد من طرق متعددة وألفاظ كثيرة (4) ومواضع استقصائها كتب الأحكام.
__________
(1) تفسير الطبري (28/85)
(2) صحيح البخاري برقم (4908).
(3) صحيح البخاري برقم (5251) وصحيح مسلم برقم (1471).
(4) المسند (2/26، 43، 51، 54، 58) وسنن أبي داود برقم (2179) وسنن النسائي (6/138) وسنن ابن ماجة برقم (2023).

وأمَسُّ لفظ يورَد ها هنا ما رواه مسلم في صحيحه، من طريق ابن جُرَيْج: أخبرني أبو الزبير: أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن -مولى عَزة يسأل ابن عمر-وأبو الزبير يسمع ذلك: كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضًا؟ فقال: طَلَّق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليراجعها" فَردَّها، وقال: "إذا طهرت فليطلق أو يمسك". قال ابن عمر: وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (1) .
وقال الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله في قوله: { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } قال: الطهر من غير جماع (2) وروي عن ابن عمر وعطاء، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، وقتادة، وميمون بن مِهْران، ومقاتل بن حيان مثل ذلك، وهو رواية عن عكرمة، والضحاك.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } قال: لا يطلقها وهي حائض ولا في طهر قد جامعها فيه، ولكن: تتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة.
وقال عكرمة: { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } العدة: الطهر، والقرء الحيضة، أن يطلقها حبلى مستبينا حملها، ولا يطلقها وقد طاف عليها، ولا يدري حبلى هي أم لا.
ومن ها هنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق وقسموه إلى طلاق سنة وطلاق بدعة، فطلاق السنة: أن يطلقها طاهرًا من غير جماع، أو حاملا قد استبان حملها. والبدعى: هو أن يطلقها في حال الحيض، أو في طهر قد جامعها فيه، ولا يدري أحملت أم لا؟ وطلاق ثالث لا سنة فيه ولا بدعة، وهو طلاق الصغيرة والآيسة، وغير المدخول بها، وتحرير الكلام في ذلك وما يتعلق به مستقصى في كتب الفروع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله { وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } أي: احفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها؛ لئلا تطول العدة على المرأة فتمتنع من الأزواج. { وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ } أي: في ذلك.
وقوله: { لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ } أي: في مدة العدة لها حق السكنى على الزوج ما دامت معتدة منه، فليس للرجل أن يخرجها، ولا يجوز لها أيضا الخروج لأنها معتقلة (3) لحق الزوج أيضًا.
وقوله: { إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } أي: لا يخرجن من بيوتهن إلا أن ترتكب المرأة فاحشة مبينة، فتخرج من المنزل، والفاحشة المبينة تشمل الزنا، كما قاله ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المُسَيَّب، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، ومجاهد، وعِكْرمة، وسعيد بن جبير، وأبو قِلابة، وأبو صالح، والضحاك، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني، والسُّدِّي، وسعيد بن
__________
(1) صحيح مسلم برقم (14719).
(2) رواه الطبري في تفسيره (28/83).
(3) في أ: "لأنها متعلقة".

أبي هلال، وغيرهم وتشمل ما ذا (1) نشزَت المرأة أو بَذَت على أهل الرجل وآذتهم في الكلام والفعال، كما قاله أبي بن كعب، وابن عباس، وعكرمة، وغيرهم.
وقوله: { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي: شرائعه ومحارمه { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ } أي: يخرج عنها ويتجاوزها إلى غيرها ولا يأتمر بها { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أي: بفعل ذلك.
وقوله: { لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } أي: إنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في مدة العدة، لعل الزوج يندم على طلاقها ويخلق الله في قلبه رَجْعَتَها، فيكون ذلك أيسر وأسهل.
قال الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن فاطمة بنت قيس في قوله: { لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } قال: هي الرجعة. وكذا قال الشعبي، وعطاء، وقتادة، والضحاك، ومقاتل ابن حيان، والثوري. ومن هاهنا ذهب من ذهب من السلف ومن تابعهم، كالإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى إلى أنه لا تجب السكنى للمبتوتة، وكذا المتوفى عنها زوجها، واعتمدوا أيضًا على حديث فاطمة بنت قيس الفهرية، حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخر ثلاث تطليقات، وكان غائبًا عنها باليمن، فأرسل إليها بذلك، فأرسل إليها وكيله بشعير -[يعني] (2) نفقة-فَتَسَخَّطته فقال: والله ليس لك علينا نفقة. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ليس لك عليه نفقة". ولمسلم: ولا سكنى، وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: "تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك" الحديث (3)
وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى بلفظ آخر، فقال:
حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا مجالد، حدثنا عامر قال: قدمت المدينة فأتيت فاطمة بنت قيس، فحدثتني أن زوجها طلقها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَرية. قالت: فقال لي أخوه: اخرجي من الدار. فقلت: إن لي نفقة وسكنى حتى يحل الأجل. قال: لا. قالت: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن فلانا طلقني، وأن أخاه أخرجني ومنعني السكنى والنفقة، [فأرسل إليه] (4) فقال: "ما لك ولابنة آل قيس"، قال: يا رسول الله، إن أخي طلقها ثلاثا جميعًا. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظري يا بنت آل قيس، إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كان له عليها رجعة، فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى. اخرجي فانزلي على فلانة". ثم قال: "إنه يُتحَدّث إليها، انزلي على ابن أم مكتوم، فإنه أعمى لا يراك" وذكر تمام الحديث (5)
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عبد الله البزار التُّسْتَريّ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف، حدثنا بكر بن بكار، حدثنا سعيد بن يزيد البجلي، حدثنا عامر الشعبي: أنه دخل على فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس القرشي، وزوجها أبو عمرو بن حفص بن المغيرة
__________
(1) في م، أ: "وتشمل ما إذا".
(2) زيادة من م.
(3) صحيح مسلم برقم (1480).
(4) زيادة من المسند.
(5) المسند (6/373).

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)

المخزومي فقالت: إن أبا عمرو بن حفص أرسل إلي وهو منطلق في جيش إلى اليمن بطلاقي، فسألت أولياءه النفقة علي والسكنى، فقالوا: ما أرسل إلينا في ذلك شيئًا، ولا أوصانا به. فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أبا عمرو بن حفص أرسل إلي بطلاقي، فطلبت السكنى والنفقة علي، فقال: أولياؤه: لم يرسل إلينا في ذلك بشيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة، فإذا كانت لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره فلا نفقة لها ولا سكنى".
وكذا رواه النسائي (1) عن أحمد بن يحيى الصوفي، عن أبي نعيم الفضل بن دُكَيْن، عن سعيد بن يزيد وهو الأحمسي البَجَلي الكوفي. قال أبو حاتم الرازي: وهو شيخ، يروى عنه (2)
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) }
يقول تعالى: فإذا بلغت المعتدات أجلهن، أي: شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك، ولكن لم تفرغ العدة بالكلية، فحينئذ إما أن يعزم الزوج على إمساكها، وهو رجعتها إلى عصمة نكاحه والاستمرار بها على ما كانت عليه عنده. { بِمَعْرُوفٍ } أي: محسنًا إليها في صحبتها، وإما أن يعزم على مفارقتها { بِمَعْرُوفٍ } أي: من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف، بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن.
وقوله: { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي: على الرجعة إذا عَزَمتم عليها، كما رواه أبو داود وابن ماجة، عن عمران (3) بن حُصَين: أنه سُئِل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: طَلَّقتَ لغير سنة، ورجعت لغير سنة، وأشهِدْ على طلاقها وعلى رجعتها، ولا تَعُدْ (4) (5)
وقال ابن جريج: كان عطاء يقول: { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال: لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل، كما قال الله، عز وجل، إلا أن يكون من عذر.
وقوله: { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي: هذا الذي أمرناكم به من الإشهاد وإقامة الشهادة، إنما يأتمر به من يؤمن بالله وأنه شرع هذا، ومن يخاف عقاب (6) الله في الدار الآخرة.
__________
(1) المعجم الكبير (24/382) وسنن النسائي (6/144).
(2) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/74).
(3) في م: "عن عمرو"
(4) في أ: "ولا تعتد".
(5) سنن أبي داود برقم (2186) وسنن ابن ماجة برقم (2025).
(6) في م: "ويخاف عذاب".

ومن ها هنا ذهب الشافعي -في أحد قوليه-إلى وجوب الإشهاد في الرجعة، كما يجب عنده في ابتداء النكاح. وقد قال بهذا طائفة من العلماء، ومن قال بهذا يقول: إن الرجعة لا تصح إلا بالقول ليقع الإشهاد عليها.
وقوله: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } أي: ومن يتق الله فيما أمره به، وتَرَك ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، أي: من جهة لا تخطر بباله.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا كَهمس بن الحسن، حدثنا أبو السليل، عن أبي ذر قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عَلَيَّ هذه الآية: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } حتى فرغ من الآية، ثم قال: "يا أبا ذر، لو أن الناس كلهم أخذوا بها كفتهم". وقال: فجعل يتلوها ويُرددها علي حتى نَعَست، ثم قال: "يا أبا ذر، كيف تصنع إن (1) أخرجت من المدينة؟. "قلت: إلى السعة والدّعة (2) أنطلق، فأكون حمامة من حمام مكة. قال: "كيف تصنع إن أخرجت من مكة؟". قال: قلت: إلى السعة والدّعة، وإلى الشام والأرض المقدسة. قال: "وكيف تصنع إن أخرجتَ من الشام؟". قلت: إذا -والذي بعثك بالحق (3) -أضع سيفي على عاتقي. قال: "أوخير من ذلك؟". قلت: أوخير من ذلك؟ قال: "تسمع وتطيع، وإن كان عبدًا حبشيًّا" (4)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا زكريا، عن عامر، عن شُتَير (5) بن شكَل قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: إن أجمع آية في القرآن: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } [النحل : 90] وإن أكثر آية في القرآن فرجًا: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }
وفي المسند: حدثني مهدي بن جعفر، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الحكم بن مصعب، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هَمٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب" (6)
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } يقول: ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة، { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ }
وقال الربيع بن خثيم: { يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } أي: من كل شيء ضاق على الناس.
وقال عكرمة: من طلق كما أمره الله يجعل له مخرجًا. وكذا روي عن ابن عباس، والضحاك.
__________
(1) في م: "إذا".
(2) في م: "إلى الدعة والسعة".
(3) في أ: "بالحق نبيا".
(4) المسند (5/178).
(5) في أ: "عن بسر".
(6) المسند (1/248).

وقال ابن مسعود، ومسروق: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } يعلم أن الله إن شاء منع، وإن شاء أعطى { مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } أي (1) من حيث لا يدري.
وقال قتادة: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } أي: من شبهات الأمور والكرب (2) عند الموت، { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } ومن حيث لا يرجو أو لا يأمل.
وقال السدي: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ } يطلق للسنة، ويراجع للسنة، وزعم أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: "عوف بن مالك الأشجعي" كان له ابن، وأن المشركين أسروه، فكان فيهم، وكان أبوه يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشكو إليه مكان ابنه وحاله التي هو بها وحاجته، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالصبر، ويقول له: "إن الله سيجعل لك فرجًا" (3) فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرًا أن انفلت ابنه من أيدي العدو فمر بغنم من أغنام العدو، فاستاقها فجاء بها إلى أبيه، وجاء معه بغنى (4) قد أصابه من الغنم، فنزلت فيه هذه الآية: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ }
رواه ابن جرير، (5) وروي أيضًا من طريق سالم بن أبي الجعد مرسلا نحوه (6)
وقال الإمام أحمد، حدثنا وكَيع، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن أبي الجعد، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد لَيُحْرَمُ الرزق بالذنب يُصيبُه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر".
ورواه النسائي وابن ماجة، من حديث سفيان -وهو الثوري-به (7)
وقال محمد بن إسحاق: جاء مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: له أسر ابني عوف. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله". وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القِد عنه، فخرج، فإذا هو بناقة لهم فركبها، وأقبل فإذا بسَرْح القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم، فاتبع أولها آخرها، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب، فقال أبوه: عوف ورب الكعبة. فقالت أمه: واسوأتاه. وعوف كيف يقدم لما هو فيه من القد -فاستبقا الباب والخادم، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلا فقص على أبيه أمره وأمر الإبل، فقال أبوه: قفا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله عنها. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنع بها ما أحببت، وما كنت صانعًا بمالك". ونزل: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ }
__________
(1) في م: "أو".
(2) في أ: "والكروب".
(3) في م، أ: "مخرجًا".
(4) في م: "يغنم".
(5) تفسير الطبري (28/89).
(6) تفسير الطبري (28/90) وقد جاء موصلاً، أخرجه الحاكم في المستدرك (2/492) من طريق عبيد بن كثير العامري، عن عباد بن يعقوب، عن يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن عمار بن أبي معاوية، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر، رضي الله عنه، قال: نزلت هذه الآية... فذكر نحو رواية السدي، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي بقوله: "بل منكر، فيه عباد بن يعقوب رافضي جبل، وعبيد بن كثير العامري متروك، قاله الأزدي".
(7) المسند (5/277) وسنن ابن ماجة برقم (4022).

رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا إبراهيم بن الأشعث، حدثنا الفضيل بن عياض، عن هشام بن حسان (1) عن عمران بن حُصَين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من انقطع إلى الله كفاه الله كل مَئُونة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكَلَه إليها" (2)
وقوله: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } قال الإمام أحمد:
حدثنا يونس، حدثنا ليث، حدثنا قيس بن الحجاج، عن حَنَش الصنعاني، عن عبد الله بن عباس: أنه حدثه أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام، إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك، لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف".
وقد رواه الترمذي من حديث الليث بن سعد، وابن لَهِيعة، به (3) وقال: حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا بشير بن سلمان، عن سيار أبي الحكم، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله -هو ابن مسعود-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمنًا أن لا تُسَهَّل حاجته، ومن أنزلها بالله أتاه الله برزق عاجل، أو بموت آجل".
ثم رواه عن عبد الرزاق، عن سفيان، عن بشير، عن سيار أبي حمزة، ثم قال: وهو الصواب، وسيار أبو الحكم لم يحدث عن طارق (4)
وقوله: { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } أي: منفذ قضاياه وأحكامه في خلقه بما يريده ويشاؤه { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } كقوله: { وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } [الرعد : 8]
__________
(1) في م، أ، هـ: "الحسن" مستفادًا من هامش ط. الشعب.
(2) ورواه الطبراني في المعجم الصغير (1/116) ومن طريقه الخطيب في تاريخه (7/197) من طريق جعفر بن محمد البغدادي، عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق به، وقال الطبراني: "لم يروه عن هشام إلا الفضيل، تفرد به إبراهيم بن الأشعث" وقال الهيثمي في المجمع (10/304) : "وفيهإبراهيم بن الأشعث صاحب الفضيل وهو ضعيف، وقد ذكره ابن حبان في الثقات وقال: يغرب ويخطئ ويخالف، وبقية رجاله ثقات".
(3) المسند (1/293) وسنن الترمذي برقم (2326).
(4) المسند (1/442).

وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)

{ وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) }
يقول تعالى مبينًا لعدة الآيسة -وهي التي قد انقطع عنها الحيض لكبرها-: أنها ثلاثة أشهر، عوضًا عن الثلاثة قروء في حق من تحيض، كما دلت على ذلك آية "البقرة" (1) وكذا الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض أن عدتهن كعدة الآيسة ثلاثة أشهر؛ ولهذا قال: { وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ }
وقوله: { إِنِ ارْتَبْتُمْ } فيه قولان:
أحدهما -وهو قول طائفة من السلف، كمجاهد، والزهري، وابن زيد-: أي إن رأين دما وشككتم في كونه حيضًا أو استحاضة، وارتبتم فيه.
والقول الثاني: إن ارتبتم في حكم عدتهن، ولم تعرفوه فهو ثلاث أشهر. وهذا مروي، عن سعيد بن جبير. وهو اختيار ابن جرير، وهو أظهر في المعنى، وَاحتَجَّ عليه بما رواه عن أبي كُرَيْب وأبي السائب قالا حدثنا ابن إدريس، أخبرنا مطرف، عن عمرو بن سالم قال: قال أبي بن كعب: يا رسول الله، إن عِددًا من عِدد النساء لم تذكر في الكتاب: الصغار والكبار وأولات الأحمال (2) قال: فأنزل الله عز وجل: { وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }
ورواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا السياق فقال: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، أخبرنا جرير، عن مُطرِّف، عن عمر (3) بن سالم، عن أبي بن كعب قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ناسا من أهل المدينة لما أنزلت هذه الآية التي في "البقرة" في عدة النساء قالوا: لقد بقي من عدة النساء عِدَدٌ لم يُذكَرْن في القرآن: الصغار والكبار اللائي قد انقطع عنهن الحيض، وذوات الحمل. قال: فأنزلت التي في النساء القصرى: { وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ }
وقوله: { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } يقول تعالى: ومن كانت حاملا فعدتها بوضعه، ولو كان بعد الطلاق أو الموت بفُوَاق ناقة (4) في قول جمهور العلماء من السلف والخلف، كما هو نص هذه الآية الكريمة، وكما وردت به السنة النبوية. وقد رُوي عن علي، وابن عباس، رضي الله عنهم (5) أنهما ذهبا في المتوفى عنها زوجها أنها تعتد بأبعد الأجلين من الوضع أو الأشهر، عملا بهذه الآية الكريمة، والتي في سورة "البقرة". وقد قال البخاري:
حدثنا سعد (6) بن حفص، حدثنا شيبان، عن يحيى قال: أخبرني أبو سلمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس -وأبو هريرة جالس-فقال: أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة. فقال: ابن عباس آخر الأجلين. قلت أنا: { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } قال أبو هريرة:
__________
(1) هي الآية 228.
(2) في أ: "الأحمال أجلهن".
(3) في أ: "عن عمرو".
(4) في أ: :بفراق تامة".
(5) في أ: "عنهما".
(6) فيأ: "سعيد".

أنا مع ابن أخي -يعني أبا سلمة-فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها، فقالت: قُتِل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت، فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو السنابل فيمن خطبها (1)
هكذا أورد البخاري هذا الحديث هاهنا مختصرًا. وقد رواه هو ومسلم وأصحاب الكتب مطولا من وجوه أخر (2) وقال الإمام أحمد:
حدثنا حماد بن أسامة، أخبرنا هشام، عن أبيه، عن المسور بن مَخْرَمَة؛ أن سُبَيعَة الأسلمية تُوفي عنها زوجُها وهي حامل، فلم تمكث إلا ليالي حتى وضعت، فلما تَعَلَّت من نفاسها خُطِبت، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النكاح، فأذن لها أن تُنكَح فنُكحت.
ورواه البخاري في صحيحه، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة من طرق عنها (3) كما قال مسلم ابن الحجاج:
حدثني أبو الطاهر، أخبرنا ابن وهب، حدثني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة: أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري يأمره أن يدخل على سُبَيعة بنت الحارث الأسلمية فيسألها عن حديثها وعما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استفتته. فكتب عُمر بن عبد الله يخبره أن سبيعة أخبرته أنها كانت تحت سَعد (4) بن خَولة -وكان ممن شهد بدرًا-فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تَنشَب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تَعَلَّت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بَعكك فقال لها: مالي أراك متجملة؟ لعلك تَرجين النكاح، إنك والله ما أنت بناكح حتى تَمرَ عليك أربعة أشهر وعشرٌ. قالت سُبيَعة: فلما قال لي ذلك جَمعتُ عليّ ثيابي حين أمسيتُ فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حَلَلت حين وضعتُ حملي، وأمرني بالتزويج (5) إن بدا لي.
هذا لفظ مسلم. ورواه البخاري مختصرًا (6) ثم قال البخاري بعد [ذلك، أي: بعد] (7) رواية الحديث الأول عند هذه الآية:
وقال (8) سليمان بن حرب وأبو النعمان: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد -هو ابن سيرين-قال: كنت في حلقة فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى، رحمه الله، وكان أصحابه يعظمونه، فذكر آخر الأجلين، فحدّثتُ بحديث سُبَيعة بنت الحارث عن عبد الله بن عتبة، قال:
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4909).
(2) صحيح البخاري برقم (5318) وصحيح مسلم برقم (1485) وسنن النسائي (6/191).
(3) المسند (4/327) وصحيح البخاري برقم (5320) وسنن النسائي (6/190) وسنن ابن ماجة برقم (2092) كلهم من هذا الطريق الذي ساقه الإمام أحمد، وأما مسلم وأبو داود فهو هذا الطريق الآتي بعده، صحيح مسلم برقم (1484) وسنن أبي داود برقم (2306).
(4) في أ: "سعيد".
(5) في م، أ: "بالتزويج"
(6) صحيح مسلم برقم (1484) وصحيح البخاري برقم (5319، 3991).
(7) زيادة من أ.
(8) في م: "وقال أبو سليمان".

فَضَمَّزَلي (1) بعض أصحابه، وقال محمد: ففطنت له فقلت: له إني لجريءٌ أن أكذبَ على عبد الله وهو في ناحية الكوفة. قال: فاستحيا وقال: لكن عَمّه لم يقل ذلك. فلقيت أبا عطية مالك بن عامر فسألته، فذهب يحدثني بحديث سُبَيعة، فقلت: هل سمعت عن عبد الله شيئا؟ فقال: كنا عند عبد الله فقال: أتجعلون عليها التغليظ، ولا تجعلون عليها الرخصة؟ نزلت (2) سورة النساء القصرى بعد الطولى: { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }
ورواه ابن جرير، من طريق سفيان بن عيينة وإسماعيل بن عُلَيَّة، عن أيوب به مختصرا (3) ورواه النسائي في التفسير عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، فذكره (4)
وقال ابن جرير: حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر، حدثني ابن شَبْرَمة الكوفي، عن إبراهيم، عن علقمة بن قيس؛ أن عبد الله بن مسعود قال: من شاء لاعنته، ما نزلت: { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها. قال: وإذا وضعت المتوفى عنها زوجها فقد حلت. يريد بآية المتوفى عنها زوجها { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [البقرة : 234]
وقد رواه النسائي من حديث سعيد بن أبي مريم، به (5) ثم قال ابن جرير:
حدثنا أحمد بن مَنِيع، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: ذُكِرَ عند ابن مسعود آخر الأجلين، فقال: من شاء قاسمته بالله إن هذه الآية التي في النساء القصرى نزلت بعد الأربعة الأشهر والعشر ثم قال أجل الحامل أن تضع ما في بطنها (6) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضُّحى، عن مسروق قال: بلغ ابن مسعود أن عليا، رضي الله عنه، يقول: آخر الأجلين. فقال: من شاء لاعنته، إن التي في النساء القُصرَى نزلت بعد البقرة: { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }
ورواه أبو داود وابن ماجة، من حديث أبي معاوية، عن الأعمش (7)
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني محمد بن أبي بكر المقدّمي، أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا المثنى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، عن أبي بن كعب قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } المطلقة ثلاثا أو المتوفى
__________
(1) في أ: "فضم لي".
(2) في م: "أنزلت".
(3) تفسير الطبري (28/92).
(4) هو في سنن النسائي (6/196) ولم أقع عليه في الكبرى.
(5) تفسير الطبري (28/92) وسنن النسائي (6/197).
(6) تفسير الطبري (28/92).
(7) سنن أبي داود برقم (2307) وسنن ابن ماجة برقم (2030).

عنها (1) ؟ فقال: "هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها" (2)
هذا حديث غريب جدا، بل منكر؛ لأن في إسناده المثنى بن الصباح، وهو متروك الحديث بمِرّة ولكن رواه ابن أبي حاتم بسند آخر، فقال:
حدثنا محمد بن داود السِّمْناني، حدثنا عمرو بن خالد -يعني: الحراني-حدثنا ابن لَهِيعة، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي بن كعب، أنه لما نزلت هذه الآية قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أدري أمشتركة أم مبهمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أية آية؟". قال: { أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } المتوفى عنها والمطلقة؟ قال: "نعم".
وكذا رواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن موسى بن داود، عن ابن لهيعة، به. ثم رواه عن أبي كريب أيضا، عن مالك بن إسماعيل، عن ابن عيينة، عن عبد الكريم بن أبي المخارق أنه حدث عن أبيّ بن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن: { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } قال: "أجل، كل حامل أن تضع ما في بطنها" (3)
عبد الكريم هذا ضعيف، ولم يدرك أُبَيّا.
وقوله: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } أي: يسهل له أمره، وييسره عليه، ويجعل له فرجا قريبًا ومخرجًا عاجلا.
ثم قال: { ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزلَهُ إِلَيْكُمْ } أي: حكمه وشرعه أنزله إليكم بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم، { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا } أي: يذهب عنه المحذور، ويجزل له الثواب على العمل اليسير.
__________
(1) في م: "عنها زوجها".
(2) زوائد المسند (5/116).
(3) تفسير الطبري (28/93) وقال الحافظ بن حجر في الفتح (8/654) بعد ما ساق هذه الرواية: "وهذا المرفوع وإن كان لا يخلو شيء من أسانيده عن مقال، لكن كثرة طرقه تشعر بأن له أصلا، ويعضده قصة سبيعة المذكورة".

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)

{ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) }
يقول تعالى آمرًا عباده إذا طلّق أحدُهم المرأة أن يُسكنَها في منزل حتى تنقضي عدتها، فقال: { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ } أي: عندكم، { مِنْ وُجْدِكُمْ } قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد: يعني سَعَتكم. حتى قال قتادة: إن لم تجد إلا جنب بيتك فأسكنها فيه.

وقوله: { وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } قال مقاتل بن حيان: يعني يضاجرها لتفتدي منه بمالها أو تخرج من مسكنه.
وقال الثوري، عن منصور، عن أبي الضُّحَى: { وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } قال: يطلقها، فإذا بقي يومان راجعها.
وقوله: { وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } قال كثير من العلماء منهم ابن عباس، وطائفة من السلف، وجماعات من الخلف: هذه في البائن، إن كانت حاملا أنفق عليها حتى تضع حملها، قالوا: بدليل أن الرجعية تجب نفقتها، سواء كانت حاملا أو حائلا.
وقال آخرون: بل السياق كله في الرجعيات، وإنما نص على الإنفاق على الحامل وإن كانت رجعية؛ لأن الحمل تطول مدته غالبا، فاحتيج إلى النص على وجوب الإنفاق إلى الوضع؛ لئلا يتوهم أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة.
واختلف العلماء: هل النفقة لها بواسطة الحمل، أم للحمل وحده؟ على قولين منصوصين عن الشافعي وغيره، ويتفرع عليها مسائل مذكورة في علم الفروع.
وقوله: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } أي: إذا وضعن حملهن وهن طوالق، فقد بنَّ بانقضاء عدتهن، ولها حينئذ أن ترضع الولد، ولها أن تمتنع منه، ولكن بعد أن تغذيه باللبَّأ -وهو باكورة اللبن الذي لا قوام للولد غالبًا إلا به-فإن أرضعت استحقت أجر مثلها، ولها أن تعاقد أباه أو وليه على ما يتفقان عليه من أجرة؛ ولهذا قال تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وقوله: { وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } أي: ولتكن أموركم فيما بينكم بالمعروف، من غير إضرار ولا مضارة، كما قال تعالى في سورة "البقرة" : { لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } [البقرة : 233]
وقوله: { وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } أي: وإن اختلف الرجل والمرأة، فطلبت المرأة أجرة الرضاع كثيرًا ولم يجبها الرجل إلى ذلك، أو بذل الرجل قليلا ولم توافقه عليه، فليسترضع له غيرها. فلو رضيت الأم بما استؤجرت عليه الأجنبية فهي أحق بولدها.
وقوله: { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } أي: لينفق على المولود والده، أو وليه، بحسب قدرته، { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا } كقوله: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } [البقرة : 286].
روى ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا حَكَّام، عن أبي سنان قال: سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة، فقيل: إنه يلبس الغليظ من الثياب، ويأكل أخشن الطعام، فبعث إليه بألف دينار، وقال للرسول: انظر ما يصنع بها إذا هو أخذها: فما لبث أن لبس اللين من الثياب، وأكل أطيب الطعام، فجاءه الرسول فأخبره، فقال: رحمه الله، تأول هذه الآية: { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } (1)
__________
(1) تفسير الطبري (28/96).

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا هاشم بن مرثد الطبراني، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، أخبرني أبي، أخبرني ضَمْضَم بن زُرْعَة، عن شُرَيح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري -واسمه الحارث-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة نفر، كان لأحدهم عشرة دنانير، فتصدق منها بدينار. وكان لآخر عشر أواق، فتصدق منها بأوقية. وكان لآخر مائة أوقية، فتصدق منها بعشر أواق". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم في الأجر سواء، كل قد تصدق بعشر ماله، قال الله تعالى: { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } (1)
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقوله: { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } وعد منه تعالى، ووعده حق، لا يخلفه، وهذه كقوله تعالى: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [الشرح : 5 ، 6]
وقد روى الإمام أحمد حديثا يحسن أن نذكره ها هنا، فقال: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرَام، حدثنا شَهْر بن حَوْشَب قال: قال أبو هريرة: بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي لا يقدران على شيء، فجاء الرجل من سفره، فدخل على امرأته جائعا قد أصاب (2) مَسْغَبَةً شديدة، فقال لامرأته: عندك شيء؟ قالت: نعم، أبشر، أتاك رزق الله، فاستحثها، فقال: ويحك! ابتغي إن كان عندك شيء. قالت نعم، هُنَيهة -ترجو رحمة الله-حتى إذا طال عليه الطوى (3) قال: ويحك! قومي فابتغي إن كان عندك شيء فائتيني به، فإني قد بُلغتُ وجَهِدتُ. فقال: نعم، الآن يُنضح التنور فلا تعجل. فلما أن سكت عنها ساعة وتحيّنت أن يقول لها، قالت من عند نفسها: لو قمتُ فنظرتُ إلى تنوري؟ فقامَتْ فنظرَت إلى تَنورها ملآن من جنُوبَ الغنم، ورَحييها تطحنَان. فقامت إلى الرحى فنَفضتها، واستخرجت ما في تنورها من جنوب الغنم.
قال أبو هريرة: فوالذي نفس أبي القاسم بيده، هو (4) قول محمد صلى الله عليه وسلم: "لو أخذت ما في رَحييها ولم تنفضها لطحنتا إلى يوم القيامة" (5)
وقال في موضع آخر: حدثنا أبو عامر، حدثنا أبو بكر، عن هشام، عن محمد -وهو ابن سيرين-عن أبي هريرة قال: دخل رجل على أهله، فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البَرِيَّة، فلما رأت امرأته قامت إلى الرحى فوضعتها، وإلى التنور فسَجَرته، ثم قالت: اللهم ارزقنا. فنظرت، فإذا الجفنة قد امتلأت، قال: وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئًا، قال: فرجع الزوج قال: أصبتم بعدي شيئا؟ قالت امرأته: نعم، من ربنا. قام إلى الرحى، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إنه لو لم ترفعها، لم تزل تدور إلى يوم القيامة" (6)
__________
(1) المعجم الكبير (3/292) وفس إسناده ضعف وانقطاع كما تقدم مرارًا.
(2) في م، أ: "أصابته".
(3) في م: "الطول".
(4) في م: "عن".
(5) المسند (2/421).
(6) المسند (2/513).

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)

{ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) }
يقول تعالى متوعدًا لمن خالف أمره، وكذب رسله، وسلك غير ما شرعه، ومخبرًا عما حل بالأمم السالفة بسبب ذلك، فقال: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ } أي: تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله، { فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا } أي: منكرا فظيعًا.
{ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } أي: غبّ مخالفتها، وندموا حيث لا ينفعهم الندم، { وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا } أي: في الدار الآخرة، مع ما عَجَّل لهم في الدنيا.
ثم قال بعد ما قص من خبر هؤلاء: { فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ } أي: الأفهام المستقيمة، لا تكونوا مثلهم فيصيبكم ما أصابهم يا أولي الألباب، { الَّذِينَ آمَنُوا } أي: صدقوا بالله ورسله، { قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا } يعني: القرآن. كقوله { إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر : 9]
وقوله: { رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ } قال بعضهم: { رَسُولا } منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة؛ لأن الرسول هو الذي بلغ الذكر.
وقال ابن جرير: الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر، يعني تفسيرًا له ولهذا قال تعالى: { رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ } أي في حال كونها بينة واضحة جلية { لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } كقوله تعالى { كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [إبراهيم : 1] وقال تعالى { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [البقرة : 257] أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم وقد سمى الله تعالى الوحي الذي أنزله نورا لما يحصل به من الهدى كما سماه روحا لما يحصل به من حياة القلوب فقال: تعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى : 52] وقوله : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا }

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)

قد تقدم تفسير مثل هذا غير مَرّة بما أغنى عن إعادته .
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) }
يقول تعالى مخبرا عن قدرته التامة وسلطانه العظيم ليكون ذلك باعثًا على تعظيم ما شرع من الدين القويم { اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } كقوله تعالى إخبارًا عن نوح أنه قال لقومه { أَلَمْ تَرَوا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } [نوح : 15] وقال تعالى { تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ والأرْضُ وَمَن فِيهنَّ } [الإسراء : 44] . وقوله تعالى { وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ } أي سبعا أيضا ، كما ثبت في الصحيحين "من ظلم قيدَ شِبر من الأرض طُوِّقه من سبع أرضين " (1) وفي صحيح البخاري "خُسِف به إلى سبع أرضين " (2) وقد ذُكِرت طُرقه وألفاظه وعزوه في أول" البداية والنهاية" (3) عند ذكر خلق الأرض ولله الحمد والمنة.
ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم فقد أبعد النَّجْعَة ، وأغرق في النزع وخالف القرآن والحديث بلا مستند . وقد تقدم في سورة الحديد عند قوله : { هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ والظَّاهِرُ والْبَاطِنُ } [الآية : 3] ذكر الأرضين السبع ، وبعد ما بينهن وكثافة كل واحدة منهن خمسمائة عام وهكذا قال ابن مسعود وغيره ، وكذا في الحديث الآخر "ما السماوات السبع وما فيهن وما بينهن والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة" (4) . وقال ابن جرير حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا وَكِيع حدثنا الأعمش عن إبراهيم بن مُهَاجِر عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله : { سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ } قال لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم وكفركم تكذيبكم بها.
وحدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب بن عبد الله بن سعد القُميّ الأشعري عن جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي عن سعيد بن جبير، قال: قال رجل لابن عباس { اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ } الآية. فقال: ابن عباس ما يؤمنك إن أخبرتك بها فتكفر. وقال ابن جرير حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو بن مُرَّة عن أبي الضُّحى عن ابن عباس في هذه الآية { اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ } قال عمرو قال في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض من
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2453) وصحيح مسلم برقم (1612) من حديث عائشة ، رضي الله عنها
(2) صحيح البخاري برقم (5454) من حديث ابن عمر ، رضي الله عنه
(3) البداية والنهاية (1/16) ما جاء من سبع أرضين
(4) سبق تخريج الحديث عند تفسير الآية : 255 من سورة البقرة

الخلق.
وقال ابن المثنى في حديثه في كل سماء إبراهيم (1) وقد وروى البيهقي في كتاب الأسماء والصفات هذا الأثر عن ابن عباس بأبسط من هذا [السياق] (2) فقال: أنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أحمد بن يعقوب حدثنا عبيد بن غنام النخعي أنا علي بن حكيم حدثنا شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس قال { اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ } قال سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى.
ثم رواه البيهقي من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في قول الله عز وجل { اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ } قال في كل أرض نحو إبراهيم عليه السلام.
ثم قال البيهقي إسناد هذا عن ابن عباس صحيح وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعا والله أعلم
قال الإمام أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتابه التفكر والاعتبار حدثني إسحاق بن حاتم المدائني حدثنا يحيى بن سليمان عن عثمان بن أبي دهرس قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى أصحابه وهم سكوت لا يتكلمون فقال: "ما لكم لا تتكلمون؟ "فقال:وا نتفكر في خلق الله عز وجل قال "فكذلك فافعلوا تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا فيه فإن بهذا المغرب أرضا بيضاء نورها ساحتها (3) -أو قال ساحتها (4) نورها -مسيرة الشمس أربعين يومًا بها خلقُ (5) الله تعالى لم يعصُوا الله طَرفة عين قطّ "قالوا فأين الشيطان عنهم؟ قال "ما يدرون خلق الشيطان أم لم يخلق؟ "قالوا أمن ولد آدم؟ قال "لا يدرون خلق آدم أم لم يخلق؟ " (6)
وهذا حديث مرسل وهو منكر جدًّا وعثمان بن أبي دهرش ذكره ابن أبي حاتم في كتابه فقال: روى عن رجل من آل الحكم بن أبي العاص وعنه سفيان بن عيينة ويحيى بن سليم الطائفي وابن المبارك سمعت أبي يقول ذلك. (7)
__________
(1) تفسير الطبري (28/99)
(2) زيادة من م
(3) في م "نورها بيضاء"
(4) في م "بياضها"
(5) في م "خلق من خلق"
(6) الحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/408) وعزاه لابن أبي الدنيا
(7) الجرح والتعديل (6/149)

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)

تفسير سورة التحريم
وهي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) }
اختلُف في سبب نزول صدر هذه السورة، فقيل: نزلت في شأن مارية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرمها، فنزل قوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } الآية.
قال أبو عبد الرحمن النسائي: أخبرنا إبراهيم بن يونس بن محمد، حدثنا أبي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حَرَّمها، فأنزل الله، عز وجل: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ إلى آخر الآية (1) .
وقال ابن جرير: حدثني ابن عبد الرحيم البرقي (2) حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا أبو غسان، حدثني زيد بن أسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه، فقالت: أي رسول الله، في بيتي وعلى فراشي؟! فجعلها عليه حرامًا فقالت: أيْ رسول الله، كيف يَحْرُم عليك الحلال؟ فحلف لها بالله لا يصيبها. فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ قال زيد: بن أسلم فقوله: أنت عليَّ حرام لغو (3) .
وهكذا روى عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه.
وقال ابن جرير أيضًا حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، عن مالك، عن زيد بن أسلم، قال: قل لها: "أنت عليَّ حرام، ووالله لا أطؤك".
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (11607).
(2) في أ: "الرقي".
(3) تفسير الطبري (28/100).

وقال سفيان الثوري وابن عُلَيَّة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق قال: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرم، فعُوتِبَ في التحريم، وأمر بالكفارة في اليمين. رواه ابن جرير. وكذا روي عن قتادة، وغيره، عن الشعبي، نفسه. وكذا قال غير واحد من السلف، منهم الضحاك، والحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان، وروى العوفي، عن ابن عباس القصة مطولة.
وقال ابن جرير: حدثنا سعيد بن يحيى، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عُبَيْد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: قلت لعمر بن الخطاب من المرأتان؟ قال: عائشة وحفصة. وكان بدء الحديث في شأن أم إبراهيم القبطية، أصابها النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في نوبتها (1) فَوَجَدت حفصة، فقالت: يا نبي الله، لقد جئت إليَّ شيئا ما جئت إلى أحد من أزواجك، في يومي، وفي دوري، وعلى فراشي. قال: "ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها؟". قالت: بلى. فحَرَّمها وقال: "لا تذكري ذلك لأحد". فذكرته لعائشة، فأظهره الله عليه، فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } الآيات (2) فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفَّر [عن] (3) يمينه، وأصاب جاريته (4) .
وقال الهيثم بن كُلَيب في مسنده: حدثنا أبو قِلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة: "لا تخبري أحدًا، وإن أم إبراهيم عليَّ حرام". فقالت: أتحرم ما أحل الله لك؟ قال: "فوالله لا أقربها". قال: فلم يقربها حتى أخبرت عائشة. قال فأنزل الله: { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ }
وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج (5) .
وقال ابن جرير: أيضا حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا هشام الدَّسْتُوَائي قال: كتب إلي يحيى يحدث عن يعلى بن حكيم، عن سعيد بن جبير: أن ابن عباس كان يقول في الحرام: يمين تكفرها، وقال ابن عباس: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب: 21] يعني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم جاريته فقال الله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ إلى قوله: { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فكفر يمينه، فصير الحرام يمينًا (6) .
ورواه البخاري عن معاذ بن فضالة، عن هشام -هو الدستوائي-عن يحيى -هو ابن كثير-عن ابن حكيم -وهو يعلى-عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في الحرام: يمين تُكَفر. وقال
__________
(1) في أ: "في يومها".
(2) في م، أ: "الآيات كلها".
(3) زيادة من أ.
(4) تفسير الطبري (28/102) وأصله في الصحيح وسيأتي.
(5) المختارة للضياء المقدسي برقم (189).
(6) تفسير الطبري (28/101).

ابن عباس: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب: 21] (1) .
ورواه مسلم من حديث هشام الدَّسْتُوَائي به (2) .
وقال النسائي: أنا عبد الله بن عبد الصمد بن علي، حدثنا مَخْلد -هو ابن يزيد-حدثنا سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي عَلَيَّ حَرَاما؟ قال: كذبتَ ليس عليك بحرام. ثم تلا هذه الآية: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ عليك أغلظ الكفارات، عتق رقبة.
تفرد به النسائي من هذا الوجه، بهذا اللفظ (3) .
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن زكَريا، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم سُرَيَّته (4) .
ومن هاهنا ذهب من ذهب من الفقهاء ممن قال بوجوب الكفارة على من حرم جاريته أو زوجته أو طعامًا أو شرابًا أو ملبسًا أو شيئًا من المباحات، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة. وذهب الشافعي إلى أنه لا تجب الكفارة فيما عدا الزوجة والجارية، إذا حَرَّم عينيهما أو أطلق التحريم فيهما في قوله، فأما إن نوى بالتحريم طلاق الزوجة أو عتق الأمة، نفذ فيهما.
وقال ابن أبي حاتم: حدثني أبو عبد الله الظهراني (5) أخبرنا حفص بن عمر العَدَني، أخبرنا الحكم بن أبان، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ في المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا قول غريب، والصحيح أن ذلك كان في تحريمه العَسَل، كما قال البخاري عند هذه الآية:
حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن عبيد (6) بن عمير، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جَحش، ويمكث عندها، فتواطأتُ أنا وحفصةُ على: أيتُنا دخلَ عليها، فلتقل له: أكلتَ مَغَافير؟ إني أجد منك ريح مغافير. قال: "لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جَحش، فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا"، { تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } (7) .
هكذا أورد هذا الحديث هاهنا بهذا اللفظ، وقال في كتاب "الأيمان والنذور": حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا الحجاج، عن ابن جريج قال: زعم عطاء أنه سمع عُبَيد بن عمير يقول: سمعتُ عائشة تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جَحش ويشرب
__________
(1) صحيح البخاري برقم(4911).
(2) صحيح مسلم برقم (1473).
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (11609).
(4) المعجم الكبير (11/86).
(5) في م: "الطبراني".
(6) في أ: "عن عبد".
(7) صحيح البخاري برقم (4912).

عندها عَسَلا فتواصيتُ أنا وحفصة أن أيتُنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فَلْتَقُلْ: إني أجد منك ريح مغافير؛ أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ذلك له، فقال: "لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جَحش، ولن أعود له". فنزلت: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ إلى: { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } لعائشة وحفصة ، { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا } لقوله: "بل شربت عسلا". وقال إبراهيم بن موسى، عن هشام: "ولن أعود له، وقد حلفت، فلا تخبري بذلك أحدًا" (1) .
وهكذا رواه في كتاب "الطلاق" بهذا الإسناد، ولفظه قريب منه (2) . ثم قال: المغافير: شبيه بالصمغ، يكون في الرّمث فيه حلاوة، أغفر الرّمث: إذا ظهر فيه. واحدها مغفور، ويقال: مغافير. وهكذا قال الجوهري، قال: وقد يكون المغفور أيضًا للعُشر والثُّمام والسَّلَم والطلح. قال: والّرمث، بالكسر: مرعى من مراعي الإبل، وهو من الحَمْض. قال: والعرفط: شجر من العضاه ينضَح المغفُور [منه] (3) .
وقد روى مسلم هذا الحديث في كتاب "الطلاق" من صحيحه، عن محمد بن حاتم، عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج، أخبرني عطاء، عن عُبيد بن عمير، عن عائشة، (4) به، ولفظه كما أورده البخاري في "الأيمان والنذور".
ثم قال البخاري في كتاب "الطلاق" : حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مُسْهَر، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحَلوى والعَسل، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه، فيدنو من إحداهن. فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس، فَغِرْتُ فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عُكَّة عَسَل، فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالَن له. فقلت لسودة بنت زَمْعَةَ: إنه سيدنو منك، فإذا دنا منك فقولي: أكلت مغَافير؟ فإنه سيقول ذلك (5) لا. فقولي له: ما هذه الريح التي أجد؟ فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل. فقولي: جَرَسَتْ نحلُه العُرفُطَ. وسأقول ذلك، وقولي أنت له يا صفية ذلك، قالت -تقول سودة-: والله (6) ما هو إلا أن قام على الباب، فأردت أن أناديه بما أمرتني فرقًا منك، فلما دنا منها قالت له سودة: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: "لا ". قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: "سقتني حفصة شَربة عسل". قالت: جَرَسَت نَحلُه العرفطَ. فلما دار إليَّ قلت نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت له: يا رسول الله، ألا أسقيك منه؟ قال: "لا حاجةَ لي فيه". قالت -تقول سودة-: والله لقد حَرَمْنَاه. قلت لها: اسكتي (7) .
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6691).
(2) صحيح البخاري برقم (5267).
(3) زيادة من الصحاح، مادة "عرفط" 3/1142.
(4) صحيح مسلم برقم (1474).
(5) في م: "سيقول لك".
(6) في م: "فوالله".
(7) صحيح البخاري برقم (5268).

هذا لفظ البخاري. وقد رواه مسلم عن سُوَيد بن سَعيد، عن علي بن مُسْهِر، به. وعن أبي كُرَيْب وهارون بن عبد الله والحسن بن بشر، ثلاثتهم عن أبي أسامة، حماد بن أسامة، عن هشام بن عروة، به (1) وعنده قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح يعني: الريح الخبيثة؛ ولهذا قلن له: أكلت مغافير لأن ريحها فيه شيء. فلما قال: "بل شربت عسلا ". قلن: جَرَسَت نحلُه العرفطَ، أي: رَعَت نحلُه شَجَر العرفط الذي صَمغُه المغافير؛ فلهذا ظهر ريحُه في العسل الذي شربته.
قال الجوهري: جَرَسَت نحلُه العرفط تَجْرِس: إذا أكلته، ومنه قيل للنحل: جوارس، قال الشاعر:
تَظَلّ عَلَى الثَّمْرَاء مِنها جَوَارسُ ...
وقال: الجَرْس والجِرْس: الصوت الخفي. ويقال: سمعت جرس الطير: إذا سمعتَ صوت مناقيرها على شيء تأكله، وفي الحديث: "فيسمعون جَرْس طير الجنة". قال الأصمعي: كنت في مجلس شُعبة قال: "فيسمعون جَرْشَ طير الجنة" بالشين [المعجمة] (2) فقلت: "جرس"؟! فنظر إلي فقال: خذوها عنه، فإنه أعلم بهذا منا (3) .
والغرض أن هذا السياق فيه أن حفصة هي الساقية للعسل، وهو من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن خالته عن عائشة. وفي طريق ابن جريج عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة أن زينب بنت جَحش هي التي سقت العسل، وأن عائشة وحفصة تواطأتا وتظاهرتا عليه، فالله أعلم. وقد يقال: إنهما واقعتان، ولا بُعْدَ في ذلك، إلا أن كونَهما سببًا لنزول هذه الآية فيه نظر، والله أعلم.
ومما يدل على أن عائشة وحفصة، رضي الله عنهما، هما المتظاهرتان الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عُبَيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن ابن عباس قال: لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى: { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدَل عمر وعدلت معه بالإداوة. فتبرز ثم أتاني، فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، اللتان قال الله تعالى: { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } ؟ فقال عمر: واعجبا لك يا ابن عباس -قال الزهري: كره-والله ما سألته عنه ولم يكتمه قال: هي حفصة وعائشة. قال: ثم أخذ يسوق الحديث. قال: كنا مَعشَر قريش قومًا نَغلبُ النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تَغلِبُهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في دار بنى أمية بن زيد بالعَوَالي. قال: فغضَبت يومًا على امرأتي فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تُرَاجِعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي (4)
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1474).
(2) زيادة من م.
(3) انظر: الصحاح للجوهري 2/908 ولسان العرب لابن منظور، مادة "جرس".
(4) في م: "إن إزواج رسول الله".

صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. قال: فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم. قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخَسر، أفتأمنُ إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئًا، وسليني من مالي ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسمُ وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك -يريد عائشة-قال: وكان لي جار من الأنصار، وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يومًا وأنزل يومًا، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك. قال: وكنا نتحدث أن غَسَّان تُنعِل الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي يومًا ثم أتى عشاء، فضرب بابي ثم ناداني، فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم! فقلت: وما ذاك؟ أجاءت غسان؟ قال: لا بل أعظم من ذلك وأطول! طلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فقلت: قد خابت حفصةُ وخَسِرت، قد كنت أظن (1) هذا كائنا. حتى إذا صليتُ الصبح شددتُ عليَّ ثيابي ثم نزلت، فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا أدري، هو هذا معتزل في هذه المشرَبة (2) فأتيت غلامًا له أسودَ فقلت: استأذن لعمر. فدخل الغلام ثم خرج إليَ فقال: ذكرتك له فصمت. فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمرَ. فدخل ثم خرج فقال: قد ذكرتك له فصمت. فخرجت فجلست إلى المنبر، ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر. فدخل ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فصمتَ. فوليت مدبرًا فإذا الغلام يدعوني فقال: ادخل، قد أذن لك. فدخلتُ فسلمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رُمَال (3) حَصِير.
قال الإمام أحمد: وحدثناه يعقوب في حديث صالح: رُمَال حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلَّقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلي وقال: "لا". فقلت: الله أكبر، ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قومًا نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يوما، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمنُ إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، فَدخَلت على حفصة فقلت: لا يغُرنَّك أن كانت جارتُكِ هي أوسمُ -أو: أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك. فتبسم أخرى، فقلت: أستأنس يا رسول الله. قال: "نعم". فجلست فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت في البيت شيئًا يرد البصر إلا أهَبَةٌ ثلاثة (4) فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك، فقد وسَّع على فارس والروم، وهم لا يعبدون الله. فاستوى جالسًا وقال: "أفي شك أنت يا بن الخطاب؟ أولئك قوم عُجِّلَتْ لهم طيباتهم في الحياة الدنيا". فقلت: استغفر لي يا رسول الله. وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرًا؛ من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله، عز وجل (5) .
__________
(1) في م: "أظن".
(2) المشربة: هي الغرفة.
(3) في م: "على رمل".
(4) في م: "معان".
(5) المسند (1/33، 34).

وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، من طرق، عن الزهري، به (1) وأخرجه الشيخان من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عُبَيد بن حُنَين، عن ابن عباس، قال: مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية، فما أستطيع أن أسأله هيبةً له، حتى خرج حاجًا فخرجت معه، فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق، عدل إلى الأرَاك لحاجة له، قال: فوقفت حتى فرغ، ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين، من اللتان (2) تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم؟ (3) .
هذا لفظ البخاري، ولمسلم: من المرأتان اللتان قال الله تعالى: { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } ؟ قال: عائشة وحفصة. ثم ساق الحديث بطوله، ومنهم من اختصره.
وقال مسلم أيضًا: حدثني زهير بن حرب، حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، عن سِماك بن الوليد -أبي زميل-حدثني عبد الله بن عباس، حدثني عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه، دخلت المسجد، فإذا الناس يَنكُتُون بالحصى، ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه! وذلك قبل أن يُؤمَر بالحجاب. فقلت: لأعلمن ذلك اليوم... فذكر الحديث في دخوله على عائشة وحفصة، ووعظه إياهما، إلى أن قال: فدخلت، فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسكُفَّة المشرَبة، فناديت فقلت: يا رباح، استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم... فذكر نحو ما تقدم، إلى أن قال: فقلت يا رسول الله ما يَشُقّ عليك من أمر النساء، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريلَ وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلما تكلمتُ -وأحمد الله-بكلام إلا رجوتُ أن يكون الله يصدق قولي، ونزلت هذه الآية، آية التخيير: { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } فقلت: أطلقتهن؟ قال: "لا". فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه، ونزلت هذه الآية: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر (4) .
وكذا قال سعيد بن جبير، وعكرمة، ومقاتل بن حيان، والضحاك، وغيرهم: { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } أبو بكر وعمر -زاد الحسن البصري: وعثمان. وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } قال: علي بن أبي طالب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن أبي عمر، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال: أخبرني رجل ثقة يرفعه إلى علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [في] (5) قوله: { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } قال: هو علي بن أبي طالب. إسناده ضعيف. وهو منكر جدًا.
وقال البخاري: حدثنا عمرو بن عون، حدثنا هُشَيم، عن حُميد، عن أنس، قال: قال
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5191، 2468) وصحيح مسلم برقم (1479) وسنن الترمذي برقم (3318) وسنن النسائي (4/137).
(2) في م: "المرأتان اللتان".
(3) صحيح البخاري برقم (4913) وصحيح مسلم برقم (1479).
(4) صحيح مسلم برقم (1479).
(5) زيادة من م، أ.

عمر: اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن: { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } فنزلت هذه الآية (1) .
وقد تقدّم أنه وافق القرآن في أماكنَ، منها في نزول الحجاب، ومنها في أسارى بدر، ومنها قوله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل الله: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [البقرة: 125] .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا [أبي، حدثنا] (2) الأنصاري، حدثنا حُمَيد، عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: بلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فاستقريتهن (3) أقول: لتكفن عن رسول الله أو ليبدلَنّه الله أزواجًا خيرا منكن. حتى أتيت على آخر أمهات المؤمنين، فقالت: يا عمر، أما لي برسول الله ما يعظ نساءه، حتى تعظهن؟! فأمسكت، فأنزل الله، عز وجل: { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }
وهذه المرأة التي رَدّته عما كان فيه من وَعظ النساء هي أم سلمة، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري (4) .
وقال الطبراني، حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، حدثنا إسماعيل البجلي، حدثنا أبو عَوَانة، عن أبي سنان، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا } قال: دخلَت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها وهو يَطَأ مارية، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة، فإن أباك يَلي الأمرَ من بعد أبي بكر إذا أنا مت". فذهبت حفصة فأخبَرتْ عائشة، فقالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنبأك هذا؟ قال: { نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } فقالت عائشة: لا أنظر إليك حتى تحرم مارية فحرمها، فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ } (5) .
إسناده فيه نظر، وقد تبين مما أوردناه تفسير هذه الآيات الكريمات. ومعنى قوله: { مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ } ظاهر.
وقوله { سَائِحَاتٍ } أي: صائمات، قاله أبو هريرة، وعائشة، وابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، ومحمد بن كعب القرظي، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو مالك، وإبراهيم النخعي، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس، والسُدّيّ، وغيرهم. وتقدم فيه حديث مرفوع عند قوله: { السَّائِحُونَ } من سورة "براءة"، ولفظه: "سياحةُ هذه الأمة الصيامُ".
وقال زيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن: { سَائِحَاتٍ } أي: مهاجرات، وتلا عبد الرحمن:
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4916).
(2) زيادة من م، أ.
(3) في م: "فاستقريته".
(4) صحيح البخاري برقم (4483) ولم أر فيه التصريح بأنها أم سلمة والله أعلم.
(5) المعجم الكبير (12/117) ووجه ضعفه: أن فيه إسماعيل البجلي وهو ضعيف، والضحاك لم يلق ابن عباس فهو منقطع.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)

{ السَّائِحُونَ } [التوبة: 112] أي: المهاجرون. والقول الأول أولى، والله أعلم.
وقوله: { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } أي: منهن ثيبات، ومنهن أبكارا، ليكون ذلك أشهى إلى النفوس، فإن التنوع يبسُط النفسَ؛ ولهذا قال: { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }
وقال أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا أبو بكر بن صدقة، حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق، حدثنا عبد الله بن أمية، حدثنا عبد القدوس، عن صالح بن حَيَّان، عن ابن بُرَيدة، عن أبيه: { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } قال: وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يزوجه، فالثيب: آسية امرأة فرعون، وبالأبكار: مريم بنت عمران (1) .
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة "مريم عليها السلام" من طريق سُوَيْد بن سعيد (2) حدثنا محمد بن صالح بن عمر، عن الضحاك ومجاهد، عن ابن عمر قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت خديجة فقال: إن الله يقرئها السلام، ويبشرها ببيت في الجنة من قَصَب، بعيد من اللهب (3) لا نَصَب فيه ولا صَخَب، من لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم (4) .
ومن حديث أبي بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة، وهي في الموت فقال: "يا خديجة، إذا لقيت ضرائرك فأقرئيهن مني السلام". فقالت: يا رسول الله، وهل تزوجت قبلي؟ قال: "لا"، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وكلثم أخت موسى". ضعيف أيضًا (5) .
وقال أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن عرعرة، حدثنا عبد النور بن عبد الله، حدثنا يونس (6) بن شعيب، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعْلِمتُ أن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون". فقلت: هنيئًا لك يا رسول الله (7) .
وهذا أيضًا ضعيف وروي مرسلا عن ابن أبي داود.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) }
__________
(1) لم أقع عليه في المطبوع من المعجم الكبير للطبراني.
(2) في أ: "بن سعد".
(3) في أ: "من اللهو".
(4) تاريخ دمشق (ص383) "تراجم النساء" ط. المجمع العلمي بدمشق.
(5) تاريخ دمشق (ص 384) "تراجم النساء" ط. المجمع العلمي بدمشق.
(6) في م، أ، هـ: "يوسف" والمثبت من المعجم الكبير للطبراني.
(7) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/309) والعقيلي في الضعفاء (4/459) من طريق عبد النور بن عبد الله به، وعبد النور كذاب، قال العقيلي: "وليس بمحفوظ".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) }

قال سفيان الثوري، عن منصور، عن رجل، عن علي، رضي الله عنه، في قوله تعالى: { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } يقول: أدبوهم، عَلموهم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } يقول: اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، ومُروا أهليكم بالذكر، ينجيكم الله من النار.
وقال مجاهد: { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } قال: اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله. .
وقال قتادة: يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصية الله، وأن يقومَ عليهم بأمر الله، ويأمرهم به ويساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية، قَدعتهم عنها وزجرتهم عنها.
وهكذا قال الضحاك ومقاتل: حق على المسلم أن يعلم أهله، من قرابته وإمائه وعبيده، ما فرض الله عليهم، وما نهاهم الله عنه.
وفي معنى هذه الآية الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، من حديث عبد الملك بن الربيع بن سَبْرَة، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها" (1) .
هذا لفظ أبي داود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وروى أبو داود، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك (2) .
قال الفقهاء: وهكذا في الصوم؛ ليكون ذلك تمرينًا له على العبادة، لكي يبلغ وهو مستمر على العبادة والطاعة ومجانبة المعصية وترك المنكر، والله الموفق.
وقوله: { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } { وَقُودُهَا } أي: حطبها الذي يلقى فيها جُثث بني آدم. { وَالْحِجَارَةُ } قيل: المراد بذلك الأصنام التي كانت تعبد لقوله: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء: 98] .
وقال ابن مسعود ومجاهد وأبو جعفر الباقر، والسدي: هي حجارة من كبريت -زاد مجاهد: أنتن من الجيفة.
وروى ذلك ابن أبي حاتم، رحمه الله، ثم قال: حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحمن بن سنان المنقري، حدثنا عبد العزيز -يعني ابن أبي رَاَّود-قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } وعنده بعض أصحابه، وفيهم
__________
(1) المسند (3/404) وسنن أبي داود برقم (494) وسنن الترمذي برقم (407).
(2) سنن أبي داود برقم (495).

شيخ، فقال الشيخ: يا رسول الله، حجارة جهنم كحجارة الدنيا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لَصَخرة من صخر جهنم أعظمُ من جبَال الدنيا كلها". قال: فوقع الشيخُ مغشيًا عليه، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده فإذا هُوَ حَيّ فناداه قال: "يا شيخ"، قل: "لا إله إلا الله". فقالها، فبشره بالجنة، قال: فقال أصحابه: يا رسول الله، أمن بيننا؟ قال: "نعم، يقول الله تعالى: { ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } [إبراهيم: 14] هذا حديث مرسل غريب.
وقوله: { عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ } أي: طباعهم غليظة، قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله، { شِدَادٌ } أي: تركيبهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر المزعج.
قال (1) ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان، حدثنا أبي، عن عكرمة أنه قال: إذا وصل أول أهل النار إلى النار، وَجَدوا على الباب أربعمائة ألف من خَزَنة جهنم، سود وجوههم، كالحة أنيابهم، قد نزع الله من قلوبهم الرحمة، ليس في قلب واحد منهم مثقال ذَرَة من الرحمة، لو طير الطير من منكب أحدهم لطار شهرين قبل أن يبلغ منكبه الآخر، ثم يجدون على الباب التسعة عشر، عرض صدر أحدهم سبعون خريفًا، ثم يهوون من باب إلى باب خمسمائة سنة، ثم يجدون على كل باب منها مثلَ ما وجدوا على الباب الأول، حتى ينتهوا إلى آخرها.
وقوله: { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } أي: مهما أمرهم به تعالى يبادروا إليه، لا يتأخرون عنه طرفة عين، وهم قادرون على فعله ليس بهم عجز عنه. وهؤلاء هم الزبانية عياذًا بالله منهم. وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: يقال للكفرة يوم القيامة: لا تعتذروا فإنه لا يقبل منكم، وإنما تجزون اليوم بأعمالكم.
ثم قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } أي: توبة صادقة جازمة، تمحو ما قبلها من السيئات وتلم شعث التائب وتجمعه، وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات.
قال ابن جرير: حدثنا ابن مثنى، حدثنا محمد، حدثنا شعبة، عن سِمَاك بن حَرب: سمعت النعمان بن بشير يخطب: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } قال: يذنب الذنب ثم لا يرجع فيه.
وقال الثوري، عن سِماك، عن النعمان، عن عمر قال: التوبة النصوح: أن يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه، أو لا يعود فيه.
وقال أبو الأحوص وغيره، عن سماك، عن النعمان، سُئِل عمر عن التوبة النصوح، فقال: أن يتوب الرجل من العمل السيئ، ثم لا يعود إليه أبدًا.
وقال الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله: { تَوْبَةً نَصُوحًا } قال: يتوب ثم لا يعود.
__________
(1) في م: "كما قال".

وقد روي هذا مرفوعًا فقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، عن إبراهيم الهَجَري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التوبة من الذنب أن يتوب منه، ثم لا يعود فيه". تفرد به أحمد من طريق إبراهيم بن مسلم الهَجَري، وهو ضعيف، والموقوف أصح (1) والله أعلم.
ولهذا قال العلماء: التوبة النصوح هو أن يُقلعَ عن الذنب في الحاضر، ويندمَ على ما سلف منه في الماضي، ويعزِم على ألا يفعل في المستقبل. ثم إن كان الحق لآدمي ردّه إليه بطريقه.
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن عبد الكريم، أخبرني زياد بن أبي مريم، عن عبد الله بن مَعقِل قال: دخلت مع أبي عَلى عبد الله بن مسعود فقال: أنت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الندم توبة؟". قال: نعم. وقال مَرَة: نعم سمعته يقول: "الندم توبة".
ورواه ابن ماجة، عن هشام بن عَمَّار، عن سفيان بن عُيينة، عن عبد الكريم -وهو ابن مالك الجَزَريّ-به (2) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثني الوليد بن بُكَيْر أبو خباب، عن عبد الله بن محمد العَدَوي، عن أبي سِنان البصري، عن أبي قِلابة، عن زِرّ بن حُبَيش، عن أبي بن كعب قال: قيل لنا أشياء تكون في آخر هذه الأمة عند اقتراب الساعة، منها نكاح الرجل امرأته أو أمته في دبرها، وذلك مما حرم الله ورسوله، ويمقت الله عليه ورسوله، ومنها: نكاح الرجل الرجل، وذلك مما حرم الله ورسوله، ويمقت الله عليه ورسوله. ومنها نكاح المرأة المرأة، وذلك مما حرم الله ورسوله، ويمقت الله عليه ورسوله. وليس لهؤلاء صلاة ما أقاموا على هذا، حتى يتوبوا إلى الله توبة نصوحًا. قال زر: فقلت لأبي بن كعب: فما التوبة النصوح؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هو الندم على الذنب حينَ يَفرطُ منك، فتستغفرُ الله بندامتك منه عند الحاضر، ثم لا تعود إليه أبدًا" (3) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا عباد بن عمرو، حدثنا أبو عمرو بن العلاء، سمعت الحسن يقول: التوبة النصوح: أن تُبغِض الذنبَ كما أحببته، وتستغفر منه إذا ذكرته.
فأما إذا حَزَم بالتوبة وصَمم عليها فإنها تَجُب ما قبلها من الخطيئات، كما ثبت في الصحيح: "الإسلام يَجُب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها" (4) .
وهل من شرط التوبة النصوح الاستمرارُ على ذلك إلى الممات، كما تقدم في الحديث وفي الأثر: "لا يعود فيه أبدًا"، أو يكفي العزم على ألا يعود في تكفير الماضي، بحيث لو وقع منه
__________
(1) المسند (1/446).
(2) المسند (1/376) وسنن ابن ماجة برقم (4252) وقال البوصيري في الزوائد (3/308): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
(3) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (5457) من طريق إسماعيل الصفار، عن الحسن بن عرفة به، وقال: "إسناده ضعيف".
(4) صحيح مسلم برقم (121) من حديث عمرو بن العاص، رضي الله عنه.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)

ذلك الذنب بعد ذلك لا يكون ذلك ضارًا في تكفير ما تقدم، لعموم قوله، عليه السلام: "التوبة تجب ما قبلها؟". وللأول أن يحتج بما ثبت في الصحيح أيضًا: "مَن أحسنَ في الإسلام لم يُؤاخَذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر" (1) فإذا كان هذا في الإسلام الذي هو أقوى من التوبة، فالتوبة بطريق الأولى، والله أعلم . وقوله: { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } و { عَسَى } من الله موجبة، { يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ } أي: ولا يخزيهم معه يعني: يوم القيامة، { نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } كما تقدم في سورة الحديد.
{ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال مجاهد، والضحاك، والحسن البصري وغيرهم: هذا يقوله المؤمنون حين يَرَون يوم القيامة نورَ المنافقين قد طفِئ.
وقال محمد بن نصر المروزي: حدثنا محمد بن مقاتل المروزي، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا ابن لَهِيعة، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة، وأول من يؤذن له برفع رأسه، فأنظرُ بين يَدَيّ فأعرف أمتي من بين الأمم، وأنظر عن يميني فأعرف أمتي من بين الأمم، وأنظر عن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم". فقال رجل: يا رسول الله، وكيف تعرف أمتك من بين الأمم. قال: "غُرٌّ مُحجلون من آثار الطُّهور (2) ولا يكون أحد من الأمم كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتَون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم" (3) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، حدثنا ابن المبارك، عن يحيى بن حسان، عن رجل من بني كنانة قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فسمعته يقول: "اللهم، لا تخزني يوم القيامة" (4) .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) }
يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين، هؤلاء بالسلاح والقتال، وهؤلاء بإقامة
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6921) وصحيح مسلم برقم (120) من حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه.
(2) في م: "الوضوء".
(3) تعظيم قدر الصلاة برقم (261) ورواه أحمد في المسند (5/199) من هذا الطريق -طريق ابن المبارك- وعن حسن، عن ابن لهيعة به نحوه، قال المنذري في الترغيب والترهيب (1/151): "رواه أحمد، وفي إسناده ابن لهيعو، وهو حديث في المتابعات". وهو هنا من رواية ابن المبارك وهي رواية صحيحه.
(4) المسند (4/234)

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

الحدود عليهم، { وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } أي: في الدنيا، { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي: في الآخرة (1) .
ثم قال: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي: في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم، أن ذلك لا يجدي عنهم شيئًا ولا ينفعهم عند الله، إن لم يكن الإيمان حاصلا في قلوبهم، ثم ذكر المثل فقال: { اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ } أي: نبيين رسولين عندهما في صحبتها (2) ليلا ونهارًا يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشرانهما أشد العشرة والاختلاط { فَخَانَتَاهُمَا } أي: في الإيمان، لم يوافقاهما على الإيمان، ولا صدقاهما في الرسالة، فلم يُجْد ذلك كلَه شيئًا، ولا دفع عنهما محذورا؛ ولهذا قال: { فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } أي: لكفرهما، { وَقِيلَ } أي: للمرأتين: { ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } وليس المراد: { فَخَانَتَاهُمَا } في فاحشة، بل في الدين، فإن نساء الأنبياء معصوماتٌ عن الوقوع في الفاحشة؛ لحرمة الأنبياء، كما قدمنا في سورة النور.
قال سفيان الثوري، عن موسى بن أبي عائشة، عن سليمان بن قتة: سمعت ابن عباس يقول في هذه الآية { فَخَانَتَاهُمَا } قال: ما زنتا، أما أمرأة نوح فكانت تخبر أنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه.
وقال العَوفي، عن ابن عباس قال: كانت خيانتهما أنهما كانتا على عَورتيهما فكانت امرأة نُوح تَطَلع على سر نُوح، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحدًا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء.
وهكذا قال عكرمة، وسعيد بن جبير، والضحاك، وغيرهم.
[وقال الضحاك عن ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدين] (3) .
وقد استدل بهذه الآية الكريمة بعضُ العلماء على ضعف الحديث الذي يأثرُه كثير من الناس: من أكل مع مغفور له غفر له. وهذا الحديث لا أصل له، وإنما يروى هذا عن بعض الصالحين أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: يا رسول الله، أنت قلت: من أكل مع مغفور له غفر؟ قال: "لا ولكني الآن أقوله" (4) .
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) }
__________
(1) في م: " في الأخرى".
(2) في م: "في صحبتاهما".
(3) زيادة من م.
(4) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا ليس له إسناد عند أهل العلم ولا هو في شيء من كتب المسلمين، وإنما يروونه عن سنان، وليس معناه صحيحًا على الإطلاق، فقد يأكل مع المسلمين الكفار والمنافقون" أ. هـ نقله الألباني في الضعيفة (1/326) وذكره الإمام ابن القيم في المنار المنيف (ص 140) وقال: "موضوع، وغاية ما روي فيه أنه منام رآه بعض الناس".

وهذا مَثَلٌ ضربه الله للمؤمنين أنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم، كما قال تعالى: { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } [آل عمران: 28] .
قال: قتادة كان فرعون أعتى أهل الأرض وأبعده فوالله ما ضر امرأته كُفر زوجها حين أطاعت ربها لتعلموا أن الله حَكَمٌ عدل، لا يؤاخذ أحدًا إلا بذنبه.
وقال ابن جرير: حدثنا إسماعيل بن حفص الأبُليّ، حدثنا محمد بن جعفر، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي (1) عن سلمان قال: كانت امرأة فرعون تُعَذَّب في الشمس، فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة.
ثم رواه عن محمد بن عبيد المحاربي عن أسباط بن محمد، عن سليمان التيمي، به (2) .
ثم قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن هشام الدَّسْتُوَائي، حدثنا القاسم بن أبي بَزَّة قال: كانت امرأة فرعون تسأل: من غلب؟ فيقال: غلب موسى وهارون. فتقول: آمنت برب موسى وهارون، فأرسل إليها فرعون فقالت: انظروا أعظم صخرة تجدونها، فإن مضت على قولها فألقوها عليها، وإن رجعت عن قولها فهي امرأته، فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصرت بيتها في الجنة، فمضت على قولها، وانتزع روحها، وألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح (3) .
فقولها: { رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } قال العلماء: اختارت الجار قبل الدار. وقد ورد شيء من ذلك في حديث مرفوع، { وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ } أي: خلصني منه، فإني أبرأ [إليك] (4) من عمله، { وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } وهذه المرأة هي آسية بنت مزاحم، رضي الله عنها.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: كان إيمانُ امرأة فرعونَ من قبل إيمان امرأة خازن فرعون، وذلك أنها جلست تمشط ابنة فرعون، فوقع المشط من يدها، فقالت تعس من كفر بالله؟ فقالت لها ابنة فرعون: ولك رب غير أبي؟ قالت: ربي ورب أبيك ورب كل شيء اللهُ. فلطمتها بنتُ فرعونَ وضربتها، وأخبرت أباها، فأرسل إليها فرعون فقال: تعبدين ربا غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك ورب كل شيء الله. وإياه أعبد فعذبها فرعون وأوتد لها أوتادًا فشد رجليها ويديها وأرسل عليها الحيات، وكانت كذلك، فأتى عليها يومًا فقال لها: ما أنت منتهية؟ فقالت له: ربي وربك وربُ كل شيء الله. فقال لها: إني ذابح ابنك في فيك إن لم تفعلي. فقالت له: اقض ما أنت قاض. فذبح ابنها في فيها، وإن روح ابنها بشرها، فقال لها: أبشري يا أمه، فإن لك عند الله من الثواب كذا وكذا. فصبرت ثم أتى [عليها] (5) فرعون يومًا آخر فقال لها
__________
(1) في أ: "الترمذي".
(2) تفسير الطبري (28/110).
(3) تفسير الطبري (28/110).
(4) زيادة من م، أ.
(5) زيادة من م.

مثل ذلك، فقالت له، مثل ذلك، فذبح ابنها الآخر في فيها، فبشرها روحه أيضًا، وقال لها. اصبري يا أمه فإن لك عند الله من الثواب كذا وكذا. قال: وسمعت امرأة فرعون كلامَ روح ابنها الأكبر ثم الأصغر، فآمنت امرأةُ فرعونَ، وقبض الله روح امرأة خازن فرعون، وكشف الغطاء عن ثوبها ومنزلتها وكرامتها في الجنة لامرأة فرعون حتى رأت فازدادت إيمانًا ويقينًا وتصديقًا، فاطَّلع فرعون على إيمانها، فقال للملأ ما تعلمون من آسية بنت مزاحم؟ فأثنوا عليها، فقال لهم: إنها تعبد غيري. فقالوا له: اقتلها. فأوتد لها أوتادًا فشد يديها ورجليها، فدعت آسية ربها فقالت: { رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } فوافق ذلك أن حضرها، فرعون فضحكت حين رأت بيتها في الجنة، فقال فرعون: ألا تعجبون من جنونها، إنا نعذبها وهي تضحك، فقبض الله روحها، رضي الله عنها (1) .
وقوله: { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي حفظته وصانته. والإحصان: هو العفاف والحرية، { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } أي: بواسطة المَلَك، وهو جبريل، فإن الله بعثه إليها فتمثل لها في صورة بشر سَوي، وأمره الله تعالى أن ينفخ بفيه في جيب درعها، فنزلت النفخة فولجت في فرجها، فكان منه الحمل بعيسى، عليه السلام. ولهذا قال: { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } أي: بقدره وشرعه { وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }
قال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا داود بن أبي الفرات، عن عِلْباء، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال: خَطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط، وقال: "أتدرون ما هذا؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون" (2) .
وثبت في الصحيحين من حديث شعبة، عن عمرو بن مُرَة، عن مرة الهمداني، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كَمُلَ من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خُوَيلد، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثَّرِيد على سائر الطعام" (3) .
وقد ذكرنا طرق هذه الأحاديث وألفاظها والكلام عليها في قصة عيسى ابن مريم، عليهما السلام، في كتابنا "البداية والنهاية" ولله الحمد والمنة (4) وذكرنا ما ورد من الحديث من أنها تكون هي وآسية بنت مزاحم من أزواجه، عليه السلام، في الجنة عند قوله: { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }
__________
(1) رواه الطبرى في تفسيره (28/10).
(2) المسند (1/293) وقال الهيثمي في المجمع (9/223) : "رجاله رجال الصحيح".
(3) صحيح البخاري برقم (5418) وصحيح مسلم برقم (2431).
(4) البداية والنهاية (2/55 - 85).

تفسير سورة الملك
وهي مكية.
قال أحمد: حدثنا حجاج بن محمد وابن جعفر قالا حدثنا شعبة، عن قتادة، عن عباس الجُشَمي، عن أبي هُرَيرة، عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن سورة في القرآن ثلاثين آية شَفَعت لصاحبها حتى غُفر له: " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ " .
ورواه أهل السنن الأربعة، من حديث شعبة، به (1) وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وقد روى الطبراني والحافظ الضياء المقدسي، من طريق سَلام بن مسكين (2) عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سورة في القرآن خَاصَمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة: " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ " (3) .
وقال الترمذي: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا يحيى بن مالك النُكري، عن أبيه، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر، وهو لا يحسب أنه قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا إنسان يقرأ سورة الملك " تَبَارَكَ " حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي المانعة، هي المنجية، تنجيه من عذاب القبر" (4) ثم قال: "هذا حديث غريب من هذا الوجه. وفي الباب عن أبي هريرة. ثم روى الترمذي أيضا من طريق ليث بن أبي سليم، عن أبي الزبير، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ " الم تَنزيلُ " [سورة السجدة] ، و " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ " . وقال ليث عن طاوس: يفضلان كل سورة في القرآن بسبعين حسنة (5) .
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن الحسين بن عجلان (6) الأصبهاني، حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي" يعني: " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ " (7) .
__________
(1) المسند (2/321) وسنن أبي داود برقم (1400) وسنن الترمذي برقم (2891) وسنن النسائي الكبرى برقم (11612) وسنن ابن ماجة برقم (3786).
(2) في أ: "سليمان".
(3) المعجم الصغير للطبراني (1/176) والمختارة للضياء المقدس برقم (1738، 1739).
(4) سنن الترمذي برقم (2890) وفي إسناده يحيى النكري ضعيف وذكر الذهبي هذا الحديث من مناكيره في الميزان.
(5) سنن الترمذي برقم (2892).
(6) في م، أ، هـ: "محمد بن الحسن بن علاف" وهو خطأ والمثبت من المعجم الكبير للطبراني ومن تاريخ أصبهان.
(7) المعجم الكبير(11/242) ورواه الحاكم في المستدرك (1/565) من طريق حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان به، وقال الحاكم: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي بقوله: "فيه حفص العدني وهو واه".

هذا حديث غريب، وإبراهيم ضعيف، وقد تقدم مثله في سورة "يس" وقد روى هذا الحديث عبد بن حُمَيد في مسنده بأبسط من هذا، فقال:
حدثنا إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال لرجل: ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال: بلى. قال اقرأ: " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ " وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك، فإنها المنجية والمجادلة، تجادل -أو تخاصم-يوم القيامة عند ربها لقارئها، وتطلب له أن [ينجيه] (1) من عذاب النار، وينجي بها صاحبها من عذاب القبر؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لوددتُ أنها في قلب كل إنسان من أمتي" (2) .
وقد روى الحافظ ابن عساكر في تاريخه، في ترجمة أحمد بن نصر بن زياد، أبي عبد الله القرشي النيسابوري المقرئ الزاهد الفقيه، أحد الثقات الذين روي عنهم البخاري ومسلم، ولكن في غير الصحيحين، وروى عنه الترمذي وابن ماجة وابن خزيمة. وعليه تفقه في مذهب أبي عُبَيد بن حَرْبَويه، وخلق سواهم، ساق بسنده من حديثه عن فرات بن السائب، عن الزهري، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رجلا ممن كان قبلكم مات، وليس معه شيء من كتاب الله إلا " تَبَارَكَ " ، فلما وضع في حفرته أتاه المَلَك فثارت السورة في وجهه، فقال لها: إنك من كتاب الله، وأنا أكره مساءتك، وإني لا أملك لك ولا له ولا لنفسي ضرا ولا نفعا، فإن أردت هذا به فانطلقي إلى الرب تبارك وتعالى فاشفعي له. فتنطلق إلى الرب فتقول: يا رب، إن فلانًا عَمَد إليَّ من بين كتابك فتَعَلَّمني وتلاني أفتحرقه (3) أنت بالنار وتعذبه وأنا في جوفه؟ فإن كنت فاعلا ذاك به فامحني من كتابك. فيقول: ألا أراك غضبت؟ فتقول: وحُقّ لي أن أغضب. فيقول: اذهبي فقد وهبته لك، وشَفّعتك فيه. قال: فتجيء فيخرج الملك، فيخرج كاسف البال لم يَحْلَ منه بشيء. قال: فتجيء فتضع فاها على فيه، فتقول مرحبا بهذا الفم، فربما تلاني، ومرحبا بهذا الصدر، فربما وعاني، ومرحبا بهاتين القدمين، فربما قامتا بي. وتؤنسه في قبره مخافة الوحشة عليه". قال: فلما حَدّث بهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لم يبق صغير ولا كبير ولا حُرّ ولا عبد، إلا تعلمها، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم المنجية (4) .
قلت: وهذا حديث منكر جدا، وفرات بن السائب هذا ضعفه الإمام أحمد، ويحيى بن معين، والبخاري، وأبو حاتم، والدارقطني وغير واحد. وقد ذكره ابن عساكر من وجه آخر، عن الزهري، من قوله مختصرا. وروى البيهقي في كتاب "إثبات عذاب القبر" عن ابن مسعود موقوفًا ومرفوعًا ما يشهد لهذا (5) وقد كتبناه في كتاب الجنائز من الأحكام الكبرى، ولله الحمد (6) .
__________
(1) زيادة من م، أ.
(2) ذكره البوصيري في إتحاف المهرة (ق 214 سليمانية) من مسند عبد بن حميد.
(3) في أ: "أفتجزيه".
(4) تاريخ دمشق (2/256 "المخطوط").
(5) إثبات عذاب القبر للبيهقي برقم (99) وقد فصل الكلام عليه الفاضل محمد طرهوني في موسوعة فضائل القرآن (2/193).
(6) في أ: "ولله الحمد والمنة والثناء الحسن الجميل".

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)

بسم الله الرحمن الرحيم
{ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) }
يمجد تعالى نفسه الكريمة، ويخبر أنه بيده الملك، أي: هو المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل لقهره وحكمته وعدله. ولهذا قال: { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
ثم قال: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } واستدل بهذه الآية من قال: إن الموت أمر وجودي لأنه مخلوق. ومعنى الآية: أنه أوجد الخلائق من العدم، ليبلوهم ويختبرهم أيهم أحسن عملا؟ كما قال: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ } [البقرة: 28] فسمى الحال الأول -وهو العدم-موتًا، وسمى هذه النشأة حياة. ولهذا قال: { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [البقرة: 28] .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا خُلَيْد، عن قتادة في قوله: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله أذل بني آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء".
ورواه مَعْمَر، عن قتادة (1) .
وقوله: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } أي: خير عملا كما قال محمد بن عَجْلان: ولم يقل أكثر عملا.
ثم قال: { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } أي: هو العزيز العظيم المنيع الجناب، وهو مع ذلك غفور لمن تاب إليه وأناب، بعدما عصاه وخالف أمره، وإن كان تعالى عزيزا، هو مع ذلك يغفر ويرحم ويصفح ويتجاوز.
ثم قال: { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } أي: طبقة بعد طبقة، وهل هن متواصلات بمعنى أنهن علويات بعضهم على بعض، أو متفاصلات بينهن خلاء؟ فيه قولان، أصحهما الثاني، كما دل على ذلك حديث الإسراء وغيره.
__________
(1) ورواه الطبري في تفسيره (29/2) من طريق معمر، عن قتادة، ومن طريق سعيد، عن قتادة به مرسلاً.

وقوله: { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } أي: بل هو مصطحب مستو، ليس فيه اختلاف ولا تنافر ولا مخالفة، ولا نقص ولا عيب ولا خلل؛ ولهذا قال: { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي: انظر إلى السماء فتأملها، هل ترى فيها عيبًا أو نقصًا أو خللا؛ أو فطورًا؟.
قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والثوري، وغيرهم في قوله: { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي: شقوق.
وقال السدي: { هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي: من خُروق. وقال ابن عباس في رواية: { مِنْ فُطُورٍ } أي: من وُهِيّ (1) وقال قتادة: { هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي: هل ترى خَلَلا يا ابن آدم؟.
وقوله: { ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } قال: مرتين. { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا } قال ابن عباس: ذليلا؟ وقال مجاهد، وقتادة: صاغرًا.
{ وَهُوَ حَسِيرٌ } قال ابن عباس: يعني: وهو كليل. وقال مجاهد، وقتادة، والسدي: الحسير: المنقطع من الإعياء.
ومعنى الآية: إنك لو كررت البصر، مهما كررت، لانقلب إليك، أي: لرجع إليك البصر، { خَاسِئًا } عن أن يرى عيبًا أو خللا { وَهُوَ حَسِيرٌ } أي: كليل قد انقطع من الإعياء من كثرة التكرر، ولا يرى نقصًا.
ولما نفى عنها في خلقها النقص بين كمالها وزينتها فقال: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } وهي الكواكب التي وضعت فيها من السيارات والثوابت.
وقوله: { وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } عاد الضمير في قوله: { وَجَعَلْنَاهَا } على جنس المصابيح لا على عينها؛ لأنه لا يرمي بالكواكب التي في السماء، بل بشهب من دونها، وقد تكون مستمدة منها، والله أعلم.
وقوله: { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ } أي: جعلنا (2) للشياطين هذا الخزي في الدنيا، وأعتدنا لهم عذاب السعير في الأخرى، كما قال: في أول الصافات: { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [الصافات: 6 -10] .
قال قتادة: إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال: خلقها الله زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
__________
(1) في هـ، أ: "من وهاء" والمثبت من تفسير الطبري. مستفادا من هوامش ط. الشعب.
(2) في م: "أي: جعلناها".

وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)

{ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ (11) }
يقول تعالى: { وَ } أعتدنا { لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي: بئس المآل والمنقلب. { إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا } قال ابن جرير: يعني الصياح.
{ وَهِيَ تَفُورُ } قال الثوري: تغلي بهم كما يغلي الحَبّ القليل في الماء الكثير.
وقوله: { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ } أي: يكاد ينفصل بعضها من بعض، من شدة غيظها عليهم وحنقها بهم، { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ } يذكر تعالى عدله في خلقه، وأنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه، كما قال: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [الإسراء: 15] وقال تعالى: { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [الزمر: 71] . وهكذا عادوا على أنفسهم بالملامة، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة، فقالوا: { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } أي: لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو نسمع ما أنزله الله من الحق، لما كنا على ما كنا عليه من الكفر بالله والاغترار به، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم، قال الله تعالى: { فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ }
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي البَخْتَريّ الطائي قال: أخبرني من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يهلك الناس حتى يُعذِروا من أنفسهم" (1) وفي حديث آخر: "لا يدخل أحد النار، إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة" (2) .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) }
__________
(1) المسند (4/260).
(2) في المسند (2/541) من حديث أبي هريرة مرفوعا: "لا يدخل أحد النار إلا أرى مقعده من الجنة" وهو في الصحيح.

وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)

{ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) }

يقول تعالى مخبرًا عمن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه إذا كان غائبًا عن الناس، فينكف عن المعاصي ويقوم بالطاعات، حيث لا يراه أحد إلا الله، بأنه له مغفرة وأجر كبير، أي: يكفر عنه ذنوبه، ويجازى بالثواب الجزيل، كما ثبت في الصحيحين: "سبعة يظلهم الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله"، فذكر منهم: "رجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجلا تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" (1) .
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا طالوت بن عباد، حدثنا الحارث بن عبيد، عن ثابت، عن أنس قال: قالوا: يا رسول الله، إنا نكون عندك على حال، فإذا فارقناك كنا على غيره؟ قال: "كيف أنتم وربكم؟" قالوا: الله ربنا في السر والعلانية. قال: "ليس ذلكم النفاق" (2) .
لم يروه عن ثابت إلا الحارث بن عُبَيد فيما نعلمه.
ثم قال تعالى منبهًا على أنه مطلع على الضمائر والسرائر: { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي: بما خطر في القلوب.
{ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } ؟ أي: ألا يعلم الخالق. وقيل: معناه ألا يعلم الله مخلوقه؟ والأول أولى، لقوله: { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }
ثم ذكر نعمته على خلقه في تسخيره لهم الأرض وتذليله إياها لهم، بأن جعلها قارة ساكنة لا تمتد (3) ولا تضطرب (4) بما جعل فيها من الجبال، وأنبع فيها من العيون، وسلك فيها من السبل، وهيأها فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار، فقال: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا } أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئًا، إلا أن ييسره الله لكم؛ ولهذا قال: { وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ } فالسعي في السبب لا ينافي التوكل، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حَيْوَة، أخبرني بكر بن عمرو، أنه سمع عبد الله بن هُبَيْرة يقول: إنه سمع أبا تميم الجَيشاني يقول: إنه سمع عمر بن الخطاب يقول: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تَغْدُو خِمَاصًا وتَرُوح بِطَانًا".
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث ابن هبيرة (5) وقال الترمذي: حسن صحيح. فأثبت لها رواحا وغدوا لطلب الرزق، مع توكلها على الله، عز وجل، وهو المسَخِّر المسير المسبب. { وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } أي: المرجع يوم القيامة.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (660) وصحيح مسلم برقم (1031) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(2) مسند البزار برقم (52) "كشف الأستار" وقال الحافظ ابن حجر في مختصر الزوائد (1/67): "الحارث له مناكير وإن أخرج له في الصحيح".
(3) في أ: "لا تميد".
(4) في م: "لا تضطرب ولا تميد".
(5) المسند (1/30) وسنن الترمذي برقم (2344) وسنن ابن ماجة برقم (4164).

أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: { مَنَاكِبِهَا } أطرافها وفجاجها ونواحيها. وقال ابن عباس وقتادة: { مَنَاكِبِهَا } الجبال.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن حكام الأزدي، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن بشير بن كعب: أنه قرأ هذه الآية: { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا } فقال لأم ولد له: إن علمت { مَنَاكِبِهَا } فأنت عتيقة. فقالت: هي الجبال. فسأل أبا الدرداء فقال: هي الجبال.
{ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) }
وهذا أيضًا من لطفه ورحمته بخلقه أنه قادر على تعذيبهم، بسبب كفر بعضهم به وعبادتهم معه غيره وهو مع هذا يحلم ويصفح، ويؤجل ولا يعجل، كما قال: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا } [فاطر: 45] .
وقال هاهنا: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } أي: تذهب وتجيء وتضطرب، { أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } أي: ريحا فيها حصباء تدمغكم، كما قال: { أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا } [الإسراء: 68]. وهكذا توعدهم هاهنا بقوله: { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } أي: كيف يكون إنذاري وعاقبة من تخلف عنه وكذب به.
ثم قال: { وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي: من الأمم السالفة والقرون الخالية، { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي: فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم؟ أي: عظيمًا شديدًا أليمًا.
ثم قال تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } أي: تارة يصففن أجنحتهن في الهواء، وتارة تجمع جناحًا وتنشر جناحًا { مَا يُمْسِكُهُنَّ } أي: في الجو { إِلا الرَّحْمَنُ } أي: بما سخر لهن من الهواء، من رحمته ولطفه، { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } أي: بما يصلح كل شيء من مخلوقاته. وهذه كقوله: { أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [النحل: 79] .
{ أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) }

فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)

{ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) }

يقول تعالى للمشركين الذين عبدوا غيره، يبتغون عندهم نصرًا ورزقًا، مُنكرًا عليهم فيما اعتقدوه، ومُخبرا لهم أنه لا يحصل لهم ما أملوه، فقال: { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ } أي: ليس لكم من دونه من ولي ولا واق، ولا ناصر لكم غيره؛ ولهذا قال: { إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ }
ثم قال: { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } ؟! أي: من هذا الذي إذا قطع الله رزقه عنكم يرزقكم بعده؟! أي: لا أحد يعطي ويمنع ويخلق ويرزق، وينصر إلا الله، عز وجل، وحده لا شريك له، أي: وهم يعلمون ذلك، ومع هذا يعبدون غيره؛ ولهذا قال: { بَلْ لَجُّوا } أي: استمروا في طغيانهم وإفكهم وضلالهم { فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } أي: في معاندة واستكبارًا ونفورًا على أدبارهم عن الحق، [أي] (1) لا يسمعون له ولا يتبعونه.
ثم قال: { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ؟ : وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي مُكبّا على وجهه، أي: يمشي منحنيا لا مستويا على وجهه، أي: لا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب؟ بل تائه حائر ضال، أهذا أهدى { أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا } أي: منتصب القامة { عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي: على طريق واضح بين، وهو في نفسه مستقيم، وطريقه مستقيمة. هذا مثلهم في الدنيا، وكذلك يكونون في الآخرة. فالمؤمن يحشر يمشي سويًا على صراط مستقيم، مُفض به إلى الجنة الفيحاء، وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم، { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ }
قال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا ابن نُمَير، حدثنا إسماعيل، عن نُفَيع قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قيل: يا رسول الله، كيف يحشر الناس على وجوههم؟ فقال: "أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادرًا على أن يمشيهم على وجوههم" (2) .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طريق [يونس بن محمد، عن شيبان، عن قتادة، عن
__________
(1) زيادة من م.
(2) المسند (3/167).

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)

أنس، به نحوه] (1) (2) .
وقوله: { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ } أي: ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ } أي: العقول والإدراك، { قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ } أي: ما أقل تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم، في طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره.
{ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ } أي: بثكم ونشركم في أقطار الأرض وأرجائها، مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم وألوانكم، وحلاكم وأشكالكم وصوركم، { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي: تجمعون بعد هذا التفرق والشتات، يجمعكم كما فرقكم ويعيدكم كما بدأكم.
ثم قال مخبرًا عن الكفار المنكرين للمعاد المستبعدين وقوعه: { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي: متى [يقع] (3) هذا الذي تخبرنا بكونه من الاجتماع بعد هذا التفرق؟ { قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ } أي: لا يعلم وقت ذلك على التعيين إلا الله، عز وجل، لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة فاحذروه، { وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } وإنما علي البلاغ، وقد أديته إليكم.
قال الله تعالى: { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: لما قامت القيامة وشاهدها الكفار، ورأوا أن الأمر كان قريبا؛ لأن كل ما هو آتٍ آتٍ وإن طال زمنه، فلما وقع ما كذبوا به ساءهم ذلك، لما يعلمون ما لهم هناك من الشر، أي: فأحاط بهم ذلك، وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ولا حساب، { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا (4) وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [الزمر: 47 ، 48] ؛ ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ: { هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ } أي: تستعجلون.
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30) }
يقول تعالى: { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه: { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي: خَلِّصوا أنفسكم، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا التوبة والإنابة، والرجوع إلى دينه، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنَّكَال، فسواء عذبنا الله أو رحمنا، فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم.
ثم قال: { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } أي: آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم، وعليه
__________
(1) زيادة من م، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (4760) وصحيح مسلم برقم (2806).
(3) زيادة من م.
(4) في م (ما عملوا) وهو خطأ.

توكلنا في جميع أمورنا، كما قال: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود: 123]. ولهذا قال: { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } ؟ أي: منا ومنكم، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة؟.
ثم قال: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا } أي: ذاهبا في الأرض إلى أسفل، فلا يُنَال بالفئوس الحداد، ولا السواعد الشداد، والغائر: عكس النابع؛ ولهذا قال: { فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } أي: نابع سائح جار على وجه الأرض، لا يقدر على ذلك إلا الله، عز وجل، فمن فضله وكرمه [أن] (1) أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض، بحسب ما يحتاج العباد إليه من القلة والكثرة، فلله الحمد والمنة.
[آخر تفسير سورة "تبارك" ولله الحمد] (2)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من م، وفي أ: "آخر تفسير سورة الملك ولله الحمد والثناء الحسن الجميل".

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)

تفسير سورة "ن"
وهي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) }
قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول "سورة البقرة"، وأن قوله: { ن } كقوله: { ص } { ق } ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور، وتحرير القول في ذلك بما أغنى عن إعادته.
وقيل: المراد بقوله: { ن } حوت عظيم على تيار الماء العظيم المحيط، وهو حامل (1) للأرضين السبع، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير:
حدثنا ابن بشار، حدثنا يحيى، حدثنا سفيان -هو الثوري-حدثنا سليمان -هو الأعمش-عن أبي ظَبْيان، عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله القلم قال: اكتب. قال: وما أكتب؟ قال: اكتب القَدَر. فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى يوم قيام الساعة. ثم خلق "النون" ورفع بخار الماء، ففُتِقت منه السماء، وبسطت الأرض على ظهر النون، فاضطرب النون فمادت الأرض، فأثبتت بالجبال، فإنها لتفخر على الأرض (2) .
وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سِنان، عن أبي معاوية، عن الأعمش، به. وهكذا رواه شعبة، ومحمد بن فُضَيل، وَوَكِيع، عن الأعمش، به. وزاد شعبة في روايته: ثم قرأ: { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } وقد رواه شريك، عن الأعمش، عن أبي ظبيان -أو مجاهد-عن ابن عباس، فذكر نحوه. ورواه مَعْمَر، عن الأعمش: أن ابن عباس قال... فذكره، ثم قرأ: { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن عطاء، عن أبي الضُّحَى، عن ابن عباس قال: إن أول شيء خلق ربي، عز وجل، القلم، ثم قال له: اكتب. فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة. ثم خلق "النون" فوق الماء، ثم كبس الأرض عليه (3) .
__________
(1) في أ: "وهو الحامل".
(2) تفسير الطبري (29/9).
(3) تفسير الطبري (29/10).

وقد روى الطبراني ذلك مرفوعًا فقال: حدثنا أبو حبيب (1) زيد بن المهتدي المروذي (2) حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني، حدثنا مُؤَمَّل بن إسماعيل، حدثنا حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى مسلم بن صَبِيح، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما خلق الله القلم والحوت، قال للقلم: اكتب، قال: ما أكتب، قال: كل شيء كائن إلى يوم القيامة". ثم قرأ: { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } فالنون: الحوت. والقلم: القلم (3) .
حديث آخر في ذلك: رواه ابن عساكر عن أبي عبد الله مولى بني أمية، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول شيء خلقه الله القلم، ثم خلق "النون" وهي: الدواة. ثم قال له: اكتب. قال وما أكتب؟ قال: اكتب ما يكون -أو: ما هو كائن-من عمل أو رزق أو أثر أو أجل. فكتب ذلك إلى يوم القيامة، فذلك قوله: { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة، ثم خلق العقل وقال: وعزتي لأكملنك فيمن أحببت، ولأنقصنك ممن أبغضت" (4) .
وقال ابن أبي نَجِيح: إن إبراهيم بن أبي بكر أخبره عن مجاهد قال: كان يقال: النون: الحوت [العظيم] (5) الذي تحت الأرض السابعة.
وذكر البغوي وجماعة من المفسرين: إن على ظهر هذا الحوت صخرة سمكها كغلظ السموات والأرض، وعلى ظهرها ثور له أربعون ألف قرن، وعلى متنه الأرضون السبع وما فيهن وما بينهن (6) فالله أعلم. ومن العجيب (7) أن بعضهم حمل على هذا المعنى الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا إسماعيل، حدثنا حُمَيد، عن أنس: أن عبد الله بن سلام بَلَغه مَقْدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأتاه فسأله عن أشياء، قال: إني سائلك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي، قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه؟ والولد ينزع إلى أمه؟ قال: "أخبرني بهن جبريل آنفًا". قال ابن سلام: فذاك عدو اليهود من الملائكة. قال: "أما أول أشراط الساعة فنار تَحشرهم (8) من المشرق إلى المغرب. وأول طعام يأكله أهل الجنة زيادةُ كبد حوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت".
__________
(1) في أ: "أبو صهيب".
(2) في أ: "المهدى".
(3) المعجم الكبير (11/433) وقال: "لم يرفعه عن حماد بن زيد إلا مؤمل بن إسماعيل". ومؤمل كثير الخطأ، فلعله أخطأ في رفعه.
(4) تاريخ دمشق (17/492 "المخطوط" ) ورواه الحكيم الترمذي كما في إتحاف السادة المتقين (1/454) من طريق يحيى الغساني، عن أبي عبد الله، عن أبي صالح، به. ورواه ابن عدي في الكامل (6/269) من طريق محمد بن وهب، عن مسلم، عن مالك، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعًا بنحوه، قال: "هذا بهذا الإسناد باطل منكر" وآفته محمد بن وهب. قال الذهبي في الميزان: "صدق ابن عدي في أن هذا الحديث باطل".
(5) زيادة من م.
(6) معالم التنزيل (8/186) وهذا من الإسرائيليات كما ذكر ذلك الشيخ محمد أبو شهبة في كتابه: "الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير" (ص305) وقال الإمام ابن القيم في المنار المنيف (ص76) في ذكر علامات الوضع: "أن يكون الحديث مما تشهد الشواهد الصحيحة على بطلانه، ومن هذا حديث: "إن الأرض على صخرة، والصخرة على قرن ثور، فإذا حرك الثور قرنه تحركت الصخرة، فتحركت الأرض، وهي الزلزلة" والعجب من مسود كتبه بهذه الهذيانات". أ. هـ.
(7) في أ: "ومن العجب".
(8) في أ: "تحشر الناس".

ورواه البخاري من طرق عن حُمَيد، ورواه مسلم أيضا (1) وله من حديث ثوبان -مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم-نحو هذا. وفي صحيح مسلم من حديث أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان: أن حبرًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسائل، فكان منها أن قال: فما تحفتهم؟ -يعني أهل الجنة حين يدخلون الجنة-قال: "زيادة كبد الحوت". قال: فما غذاؤهم على أثرها؟ قال: "ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها". قال: فما شرابهم عليه؟ قال: "من عين فيها تسمى سلسبيلا " (2) .
وقيل: المراد بقوله: { ن } لوح من نور.
قال ابن جرير: حدثنا الحسين بن شبيب المكتب، حدثنا محمد بن زياد الجزري، عن فرات بن أبي الفرات، عن معاوية بن قُرّة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } لوح من نور، وقلم من نور، يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة" (3) وهذا مرسل غريب.
وقال ابن جُرَيج (4) أخبرت أن ذلك القلم من نور طوله مائة عام.
وقيل: المراد بقوله: { ن } دواة، والقلم: القلم. قال ابن جرير:
حدثنا عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن مَعْمَر، عن الحسن وقتادة في قوله: { ن } قالا هي الدواة.
وقد روي في هذا حديث مرفوع غريب جدًا فقال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا هشام بن خالد، حدثنا الحسن بن يحيى، حدثنا أبو عبد الله مولى بني أمية، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خلق الله النون، وهي الدواة" (5) .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب، حدثنا أخي عيسى بن عبد الله، حدثنا ثابت الثمالي، عن ابن عباس قال: إن الله خلق النون -وهي الدواة-وخلق القلم، فقال: اكتب. قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول، به بر أو فجور، أو رزق مقسوم حلال أو حرام. ثم ألزم كل شيء من ذلك، شأنه: دخوله في الدنيا، ومقامه فيها كم؟ وخروجه منها كيف؟ ثم جعل على العباد حفظة، وللكتاب خزانًا، فالحفظة ينسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم، فإذا فني الرزق وانقطع الأثر وانقضى الأجل، أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم، فتقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئًا فترجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا. قال: فقال ابن عباس: ألستم قومًا عَرَبا تسمعون الحفظة يقولون: { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية: 29] ؟ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل (6) .
__________
(1) المسند (3/189) وصحيح البخاري برقم (3938) ولم أقع عليه في صحيح مسلم.
(2) صحيح مسلم برقم (315).
(3) تفسير الطبري (29/10).
(4) في أ: "ابن جرير".
(5) ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (17/492 "المخطوط") من طريق الفريابي، عن هشام عن الحسن بن يحيى به مطولاً، وقد تقدم قريبًا في هذه السورة.
(6) تفسير الطبري (29/10).

وقوله: { والقلم } الظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب به كقوله { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العاق: 3 -5] . فهو قسم منه تعالى، وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم؛ ولهذا قال: { وَمَا يَسْطُرُونَ } قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: يعني: وما يكتبون.
وقال أبو الضُّحى، عن ابن عباس: { وَمَا يَسْطُرُونَ } أي: وما يعملون.
وقال السدي: { وَمَا يَسْطُرُونَ } يعني الملائكة وما تكتب من أعمال العباد.
وقال آخرون: بل المراد هاهنا بالقلم الذي أجراه الله بالقدر حين كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرضين بخمسين ألف سنة. وأوردوا في ذلك الأحاديث الواردة في ذكر القلم، فقال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ويونس بن حبيب قالا حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا عبد الواحد بن سُليم السلمي، عن عطاء -هو ابن أبي رباح-حدثني الوليد بن عبادة بن الصامت قال: دعاني أبي حين حضره الموت فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. قال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب القدر [ما كان] (1) وما هو كائن إلى الأبد".
وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد من طرق، عن الوليد بن عبادة، عن أبيه، به (2) وأخرجه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي، به (3) وقال: حسن صحيح غريب. ورواه أبو داود في كتاب "السنة" من سننه، عن جعفر بن مسافر، عن يحيى بن حسان، عن ابن رباح، عن إبراهيم بن أبي عبلة (4) عن أبي حفصة -واسمه حُبَيش بن شُريح الحَبشي الشامي-عن عبادة، فذكره (5) .
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله الطوسي، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، أنبأنا عبد الله بن المبارك، حدثنا رباح بن زيد، عن عمر بن حبيب، عن القاسم بن أبي بَزة (6) عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كل شيء". غريب من هذا الوجه، ولم يخرجوه (7)
وقال ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: { وَالْقَلَمِ } يعني: الذي كتب به الذكر. .
وقوله: { وَمَا يَسْطُرُونَ } أي: يكتبون كما تقدم.
__________
(1) زيادة من منحة المعبود. مستفادًا من هامش ط - الشعب.
(2) المسند (5/317).
(3) سنن الترمذي برقم (3319).
(4) في أ: "عن ابن أبي عبلة".
(5) سنن أبي داود برقم (4700).
(6) في أ: "بن أبي مرة".
(7) تفسير الطبري (29/11).

وقوله: { مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } أي: لست، ولله الحمد، بمجنون، كما قد يقوله الجهلة من قومك، المكذبون بما جئتهم به من الهدى والحق المبين، فنسبوك فيه إلى الجنون، { وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ } أي: بل لك الأجر العظيم، والثواب الجزيل الذي لا ينقطع ولا يبيد، على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق، وصبرك على أذاهم. ومعنى { غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي: غير مقطوع كقوله: { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود: 108]{ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [التين: 6] أي: غير مقطوع عنهم. وقال مجاهد: { غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي: غير محسوب، وهو يرجع إلى ما قلناه.
وقوله: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } قال العوفي، عن ابن عباس: أي: وإنك لعلى دين (1) عظيم، وهو الإسلام. وكذلك قال مجاهد، وأبو مالك، والسدي، والربيع بن أنس، والضحاك، وابن زيد.
وقال عطية: لعلى أدب عظيم. وقال مَعْمَر، عن قتادة: سُئلت عائشةُ عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: كان خلقه القرآن، تقول كما هو في القرآن.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة قوله: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ذكر لنا أن سعد (2) بن هشام سأل عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قالت: فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى (3) عن سعد بن هشام قال: سألت عائشة فقلت: أخبريني يا أم المؤمنين -عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: أتقرأ القرآن؟ فقلتُ: نعم. فقالت: كان خلقه القرآن (4) .
هذا حديث طويل. وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه، من حديث قتادة بطوله (5) وسيأتي في سورة "المزمل" إن شاء الله تعالى.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا يونس، عن الحسن قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خلقه القرآن (6) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود، حدثنا شريك، عن قيس بن وهب، عن رجل من بني سواد قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: أما تقرأ القرآن: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ؟ قال: قلت: حدثيني عن ذاك. قالت: صنعت له طعامًا، وصنعت له حفصة طعامًا، فقلت لجاريتي: اذهبي فإن جاءت هي بالطعام فوضعته قبلُ فاطرحي الطعام! قالت: فجاءت بالطعام. قالت: فألقت (7) الجارية، فوقعت القصعة فانكسرت -وكان نِطْعًا (8) -قالت: فجمعه رسول الله
__________
(1) في أ: "لعلى خلق".
(2) في أ: "أ، سعيد".
(3) في أ: "زرارة بن أبي أوفي".
(4) تفسير عبد الرزاق (2/245).
(5) صحيح مسلم برقم (746).
(6) المسند (6/216).
(7) في أ: "فالتفتت".
(8) في هـ، م، أ: "نطع"، والمثبت من المسند.

وقال: "اقتضوا -أو: اقتضى-شك أسود -ظَرفًا مكان ظَرفِك". قالت: فما قال شيئًا (1) .
وقال ابن جرير: حدثنا عبيد بن آدم بن أبي أياس، حدثنا أبي، حدثنا المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن سعد (2) بن هشام: قال: أتيت عائشة أم المؤمنين فقلت لها: أخبريني بخلُق النبي (3) صلى لله عليه وسلم. فقالت: كان خلقه القرآن. أما تقرأ: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }
وقد روى أبو داود والنسائي، من حديث الحسن، نحوه (4)
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، وأخبرني معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جُبَير بن نفير قال: حججتُ فدخلتُ على عائشة، رضي الله عنها، فسألتها عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن.
وهكذا رواه أحمد، عن عبد الرحمن بن مهدي. ورواه النسائي في التفسير، عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، به (5)
ومعنى هذا أنه، عليه السلام، صار امتثالُ القرآن، أمرًا ونهيًا، سجية له، وخلقًا تَطَبَّعَه، وترك طبعه الجِبِلِّي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه. هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة، والصفح والحلم، وكل خلق جميل. كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: خدمتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: "أف" قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته؟ وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا ولا مَسسْتُ خزًا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شَمَمْتُ مسكًا ولا عطرًا كان أطيب من عَرَق رسول الله صلى الله عليه وسلم (6)
وقال البخاري: [حدثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله] (7) حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها، وأحسن الناس خلقًا، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير (8)
والأحاديث في هذا كثيرة، ولأبي عيسى الترمذي في هذا كتاب "الشمائل".
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادمًا له قط، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئًا قط، إلا أن
__________
(1) المسند (6/11).
(2) في هـ، أ: "سعيد"، والمثبت من م وتفسير الطبري.
(3) في م: "رسول الله".
(4) تفسير الطبري (29/13) وسنن أبي داود برقم (1352) وسنن النسائي (3/220).
(5) تفسير الطبري (29/13) والمسند (6/188) وسنن النسائي الكبرى برقم (11138).
(6) صحيح البخاري برقم (6038) وصحيح مسلم برقم (2309).
(7) زيادة من م، أ، وصحيح البخاري.
(8) صحيح البخاري برقم (3549).

فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)

يجاهد في سبيل الله. ولا خُيِّر بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثمًا، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون هو ينتقم لله، عز وجل (1)
وقال الإمام أحمد: حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عَجْلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعِثتُ لأتمم صالح الأخلاق". تفرد به (2)
وقوله: { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ } أي: فستعلم يا محمد، وسيعلم مخالفوك ومكذبوك: من المفتون الضال منك ومنهم. وهذا كقوله تعالى: { سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ } [القمر: 26]، وكقوله: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [سبأ: 24].
قال ابن جريج: قال ابن عباس في هذه الآية: ستعلم ويعلمون يوم القيامة.
وقال العوفي، عن ابن عباس: { بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ } أي: الجنون. وكذا قال مجاهد، وغيره. وقال قتادة وغيره: { بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ } أي: أولى بالشيطان.
ومعنى المفتون ظاهر، أي: الذي قد افتتن عن الحق وضل عنه، وإنما دخلت الباء في قوله: { بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ } لتدل على تضمين الفعل في قوله: { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } وتقديره: فستعلم ويعلمون، أو: فستُخْبَر ويُخْبَرون بأيكم المفتون. والله أعلم.
ثم قال تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } أي: هو يعلم تعالى أي الفريقين منكم ومنهم هو المهتدي، ويعلم الحزب الضال عن الحق.
{ فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (15) }
__________
(1) المسند (6/232).
(2) المسند (2/381).

سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

{ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) }
يقول تعالى: كما أنعمنا عليك وأعطيناك الشرع المستقيم والخلق العظيم { فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ } { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } قال ابن عباس: لو تُرَخِّص لهم فَيُرَخِّصون.
وقال مجاهد: ودوا لو تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحق.
ثم قال تعالى: { وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ } وذلك أن الكاذب لضعفه ومهانته إنما يتقي بأيمانه الكاذبة التي يجترئ بها على أسماء الله تعالى، واستعمالها في كل وقت في غير محلها.

قال ابن عباس: المهين الكاذب. وقال مجاهد: هو الضعيف القلب. قال الحسن: كل حلاف مكابر مهين ضعيف.
وقوله { هَمَّازٍ } قال ابن عباس وقتادة: يعني الاغتياب.
{ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } يعني: الذي يمشي بين الناس، ويحرش بينهم وينقل الحديث لفساد ذات البين وهي الحالقة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر (1) من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" الحديث. وأخرجه بقية الجماعة في كتبهم، من طرق عن مجاهد، به (2) .
وقال أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن هَمّام؛ أن حُذَيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة قَتَّات".
رواه الجماعة -إلا ابن ماجة-من طرق، عن إبراهيم، به (3) .
وحدثنا عبد الرزاق، حدثنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن همام، عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة قتات" يعني: نماما (4) .
وحدثنا يحيى بن سعيد القطان أبو سعيد الأحول، عن الأعمش، حدثني إبراهيم -منذ نحو ستين سنة-عن همام بن الحارث قال: مر رجل على حذيفة فقيل: إن هذا يرفع الحديث إلى الأمراء. فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -أو: قال-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قتات" (5) .
وقال أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا مهدي، عن واصل الأحدب، عن أبي وائل قال: بلغ حذيفة عن رجل أنه ينم الحديث، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة نمام" (6) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا مَعْمَر، عن ابن خُثَيم، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أسماء بنت يزيد بن السكن؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بخياركم؟". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "الذين إذا رُؤوا ذُكر الله، عز وجل". ثم قال: "ألا أخبركم بشراركم؟ المشاءون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، والباغون للبرآء العَنَت".
ورواه ابن ماجة، عن سويد بن سعيد، عن يحيى بن سليم، عن ابن خُثَيم، به (7) .
__________
(1) في أ: "لا يستبرئ".
(2) صحيح البخاري برقم (218) وصحيح مسلم برقم (292) وسنن أبي داود برقم (20) وسنن الترمذي برقم (70) وسنن النسائي (1/28) وسنن ابن ماجة برقم (347).
(3) المسند (5/382) وصحيح البخاري برقم (6506) وصحيح مسلم برقم (105) وسنن أبي داود برقم (4871) وسنن الترمذي برقم (2026) وسنن النسائي الكبري برقم (1164).
(4) المسند (5/389).
(5) المسند (5/389).
(6) المسند (5/391).
(7) المسند (6/459) وسنن ابن ماجة برقم (4119) وقال البوصيري في الزوائد (3/273) : "هذا إسناد حسن، شهر وسويد مختلف فيهما، وباقي رجال الإسناد ثقات".

وقال الإمام أحمد حدثنا سفيان، عن ابن أبي حُسَين، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غَنْم -يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: "خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت" (1)
وقوله { مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } أي: يمنع ما عليه وما لديه من الخير { ِ مُعْتَدٍ } في متناول ما أحل الله له، يتجاوز فيها الحد المشروع { أَثِيمٍ } أي: يتناول المحرمات.
وقوله: { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } أما العتل: فهو الفظ الغليظ الصحيح، الجموع المَنُوعُ.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع وعبد الرحمن، عن سفيان، عن مَعْبَد (2) بن خالد، عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ كل ضعيف مُتَضَعَّف لو أقسم على الله لأبره، ألا أنبئكم بأهل النار؟ كل عُتل جَوّاظ مستكبر". وقال وَكِيع: "كل جَوَّاظ جعظري مستكبر".
أخرجاه في الصحيحين بقية الجماعة، إلا أبا داود، من حديث سفيان الثوري وشعبة، كلاهما عن معبد بن خالد، به (3) .
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا موسى بن علي قال: سمعت أبي يحدِّث عن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند ذكر أهل النار: "كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع". تفرد به أحمد (4) .
قال أهل اللغة: الجعظري: الفَظُّ الغَليظ، والجَوّاظ: الجَمُوع المَنُوع.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا عبد الحميد، عن شَهْر بن حَوْشب، عن عبد الرحمن بن غَنْم، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العُتلِّ الزنيم، فقال: "هو الشديد الخَلْق المصحح، الأكول الشروب، الواجد للطعام والشراب، الظلوم للناس، رحيب الجوف" (5) .
وبهذا الإسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة الجَواظ الجعظري، العتل الزنيم" (6) وقد أرسله أيضًا غير واحد من التابعين.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن مَعْمر، عن زيد بن أسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تبكي السماء من عبد أصح الله جسمه، وأرحب جوفه، وأعطاه من الدنيا مِقضَمًا فكان للناس ظلومًا. قال: فذلك العُتُل (7) الزنيم" (8) .
__________
(1) المسند (4/227).
(2) في أ: "سعيد".
(3) المسند (4/306) وصحيح البخاري برقم (4918) وصحيح مسلم برقم (2853) وسنن الترمذي برقم (2605) وسنن النسائي الكبرى برقم (11615) وسنن ابن ماجة برقم (4116).
(4) المسند (2/169) وقال الهيثمي في المجمع (10/393) : "رجاله رجال الصحيح".
(5) المسند (4/227) وقال الهيثمي في المجمع (10/393) : "إسناده حسن، إلا أن ابن غنم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم" وقال في موضع آخر (7/128) : "فيه شهر بن حوشب وثقه جماعة وفيه ضعف، وعبد الرحمن بن غنم ليس له صحبة على الصحيح".
(6) المسند (4/227).
(7) في م، أ: "العبد".
(8) تفسير الطبري (19/16) وهو مرسل.

وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريقين مرسلين، ونص عليه غير واحد من السلف، منهم مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وغيرهم: أن العتل هو: المُصحَّح الخَلْق، الشديد القوي في المأكل والمشرب والمنكح، وغير ذلك، وأما الزنيم فقال البخاري:
حدثنا محمود، حدثنا عُبَيد الله، عن (1) إسرائيل، عن أبي حَصِين، عن مجاهد، عن ابن عباس: { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } قال: رجلٌ من قريش له زَنمة مثل زَنَمة الشاة.
ومعنى هذا: أنه كان مشهورًا بالشر (2) كشهرة الشاة ذات الزنمة من بين أخواتها. وإنما الزنيم في لغة العرب: هو الدّعِيُّ في القوم. قاله ابن جرير وغير واحد من الأئمة، قال: ومنه قول حسان بن ثابت، يعني يذم بعض كفار قريش:
وأنتَ زَنيم نِيطَ في آل هاشم ... كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرّاكِب القَدَحُ الفَرْدُ (3)
وقال آخر:
زَنيمٌ لَيْسَ يُعرَفُ مَن أبوهُ ... بَغيُّ الأم ذُو حَسَب لَئيم ...
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمار بن خالد الواسطي، حدثنا أسباط، عن هشام، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس في قوله: { زَنِيمٍ } قال: الدعيُّ الفاحش اللئيم. ثم قال ابن عباس:
زَنيمٌ تَداعاه الرجالُ زيادَةً ... كَما زيدَ في عَرضِ الأديم الأكَارعُ (4)
وقال العوفي عن ابن عباس: الزنيم: الدعي. ويقال: الزنيم: رجل كانت به زنمة، يعرف بها. ويقال: هو الأخنس بن شَريق الثقفي، حليف بني زهرة. وزعم أناس من بني زهرة أن الزنيم الأسودُ بن عبد يغوث الزهري، وليس به.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس: أنه زعم أن الزنيم المُلحَق النسب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثني يونس حدثنا ابن وهب، حدثني سليمان بن بلال، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المُسيَّب، أنه سمعه يقول في هذه الآية: { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } قال سعيد: هو الملصق بالقوم، ليس منهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عقبة بن خالد، عن عامر بن قدامة قال: سئل عكرمة عن الزنيم، قال: هو ولد الزنا.
وقال الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله تعالى: { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } قال: يعرف المؤمن من الكافر مثل الشاة الزنماء. والزنماء من الشياه: التي في عنقها هَنتان معلقتان في حلقها. وقال الثوري، عن جابر، عن الحسن، عن سعيد بن جبير قال: الزنيم: الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. والزنيم: الملصق. رواه ابن جرير.
__________
(1) في أ: "بن".
(2) في أ: "بالسوء".
(3) تفسير الطبري(19/17).
(4) البيت في اللسان، مادة "زنم" منسوبًا إلى الخطيم التميمي.

وروى أيضا من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال في الزنيم: قال: نُعِتَ فلم يعرف حتى قيل: زنيم. قال: وكانت له زَنَمَةٌ في عنقه يُعرَف بها. وقال آخرون: كان دَعيًا.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن أصحاب التفسير قالوا (1) هو الذي تكون له زَنَمَة مثل زنمة الشاة.
وقال الضحاك: كانت له زَنَمَة في أصل أذنه، ويقال: هو اللئيم الملصق في النسب.
وقال أبو إسحاق: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: هو المريب الذي يعرف بالشر.
وقال مجاهد: الزنيم الذي يعرف بهذا الوصف كما تعرف الشاة. وقال أبو رَزِين: الزنيم علامة الكفر. وقال عكرمة: الزنيم الذي يعرف باللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها.
والأقوال في هذا كثيرة، وترجع إلى ما قلناه، وهو أن الزنيم هو: المشهور بالشر، الذي يعرف به من بين الناس، وغالبًا يكون دعيًا وله زنا، فإنه في الغالب يتسلط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره، كما جاء في الحديث: "لا يدخل الجنة ولد زنا" (2) وفي الحديث الآخر: "ولد الزنا شَرُّ الثلاثة إذا عمل بعمل أبويه" (3) .
وقوله: { أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } يقول تعالى: هذا مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين، كفر بآيات الله وأعرض عنها، وزعم أنها كَذب مأخوذ من أساطير الأولين، كقوله: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ } قال الله تعالى: { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } [المدثر: 11 -26]. قال تعالى هاهنا: { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ }
قال ابن جرير: سنبين أمره بيانًا واضحًا، حتى يعرفوه ولا يخفى عليهم، كما لا تخفى السمة على الخراطيم (4) وهكذا قال قتادة: { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } شين لا يفارقه آخر ما عليه.
__________
(1) في أ: "قال".
(2) رواه الإمام أحمد في المسند (2/203) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (4925، 4926) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات (3/111) قال: "وفيه مخالفة للأصول وأعظمها قوله تعالى: "ولا تزر وازرة أخرى" . قال الإمام ابن القيم متعقبًا على ابن الجوزي في المنارالمنيف (ص133) : "ليست معرضة بها إن صحت، فإنه لم يحرم الجنة بفعل والديه، بل لأن النطفة الخبيثة لا يتخلق منها طيب في الغالب، ولا يدخل الجنة إلا نفس طيبة، فإن كانت في هذا الجنس طيبة دخلت الجنة، وكان الحديث من العام المخصوص، وقد ورد في ذمة: "أنه شر الثلاثة" وهو حديث حسن ومعناه صحيح بهذا الاعتبار، فإن شر الأبوين عارض، وهذه نطفة خبيثة فشره في أصله وشر الأبوين في فعلهما". قلت: ويوجه أيضًا بالتقييد الذي في حديث عائشة الآتي بأنه شر الثلاثة إذا عمل عمل أبويه، وكلام ابن الجوزي منطبق على حديث: "ولد الزنا في النار إلى سبعة أبناء". وهو موضوع.
(3) رواه الإمام أحمد (6/109) من حديث عائشة، رضي الله عنها، و (2/311) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(4) في م: "على الخرطوم".

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)

وفي رواية عنه: سيما (1) على أنفه. وكذا قال السدي.
وقال العوفي، عن ابن عباس: { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } يقاتل يوم بدر، فيُخطم بالسيف في القتال. وقال آخرون: { سَنَسِمُهُ } سمة أهل النار، يعني نسود وجهه يوم القيامة، وعبر عن الوجه بالخرطوم. حكى ذلك كله أبو جعفر ابن جرير، ومال إلى أنه لا مانع من اجتماع الجميع عليه في الدنيا والآخرة، وهو مُتّجه.
وقد (2) قال ابن أبي حاتم في سورة { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ } حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثني الليث حدثني خالد عن (3) سعيد، عن عبد الملك بن عبد الله، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن العبد يكتب مؤمنًا أحقابًا ثم أحقابا (4) ثم يموت والله عليه ساخط. وإن العبد يكتب كافرًا أحقابًا ثم أحقابًا، ثم يموت والله عليه (5) راض. ومن مات هَمَّازًا لمَّازًا مُلَقَّبا للناس، كان علامته يوم القيامة أن يسميه الله على الخرطوم، من كلا الشفتين" (6) .
{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) }
هذا مَثَل ضَرَبه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وأعطاهم من النعم الجسيمة، وهو بَعْثُهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم إليهم، فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة؛ ولهذا قال: { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ } أي: اختبرناهم، { كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ } وهي البستان المشتمل على أنواع الثمار
__________
(1) في م: "سنسمه سيما".
(2) في م: "ولهذا".
(3) في م، أ، هـ: " بن" والصواب ما أثبتناه من المعجم الكبير للطبراني.
(4) في أ: "أحيانا ثم أحيانا".
(5) في م: "عنه".
(6) ورواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (60) "القطعة المفقودة" والمعجم الأوسط برقم (3234) "مجمع البحرين" عن المطلب الأزدى، عن عبد الله بن صالح به. وقال في الأوسط: "لا يروى عن عبد الله بن عمرو إلا بهذا الإسناد، تفرد به الليث".

والفواكه { إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } أي: حلفوا فيما بينهم لَيجُذَّنَ ثَمرها ليلا لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل، ليتوفر ثمرها عليهم ولا يتصدقوا منه بشيء، { وَلا يَسْتَثْنُونَ } أي: فيما حلفوا به. ولهذا حنثهم الله في أيمانهم، فقال: { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ } أي: أصابتها آفة سماوية، { فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } قال ابن عباس: أي كالليل الأسود. وقال الثوري، والسدي: مثل الزرع إذا حُصِد، أي هشيمًا يبسًا.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن أحمد بن الصباح: أنبأنا بشر بن زاذان، عن عمر بن صبح (1) عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والمعاصي، إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقًا قد كان هُيِّئ له"، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } قد حرموا خَير جَنّتهم بذنبهم (2) .
{ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ } أي: لما كان وقت الصبح نادى بعضهم بعضًا ليذهبوا إلى الجَذَاذ،
{ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ } أي: تريدون الصرام. قال مجاهد: كان حرثهم عِنَبًا.
{ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } أي: يتناجون فيما بينهم بحيث لا يُسمعون أحدًا كلامهم. ثم فسر الله عالم السر والنجوى ما كانوا يتخافتون به، فقال: { فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ } أي: يقول بعضهم لبعض: لا تمكنوا اليوم فقيرًا يدخلها عليكم!
قال الله تعالى: { وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ } أي: قوة وشدة. وقال مجاهد: { وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ } أي: جد وقال عكرمة: غيظ. وقال الشعبي: { عَلَى حَرْدٍ } على المساكين. وقال السدي: { عَلَى حَرْدٍ } أي: كان اسم قريتهم حرد. فأبعد السدي في قوله هذا!
{ قَادِرِينَ } أي: عليها فيما يزعمون ويَرومون.
{ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ } أي: فلما وصلوا إليها وأشرفوا عليها، وهي على الحالة التي قال الله، عز وجل، قد استحالت عن تلك النضارة والزهرة وكثرة الثمار إلى أن صارت سوداء مُدْلَهِمَّة، لا ينتفع بشيء منها، فاعتقدوا أنهم قد أخطئوا الطريق؛ ولهذا قالوا: { إِنَّا لَضَالُّونَ } أي: قد سلكنا إليها غير الطريق فتُهنا عنها. قاله ابن عباس وغيره. ثم رجعوا عما كانوا فيه، وتيقنوا أنها هي فقالوا: { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي: بل هذه هي، ولكن نحن لا حَظّ لنا ولا نصيب.
{ قَالَ أَوْسَطُهُمْ } قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومحمد بن كعب، والربيع بن أنس، والضحاك، وقتادة: أي: أعدلهم وخيرهم: { أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ } ! قال مجاهد، والسدي، وابن جريج: { لَوْلا تُسَبِّحُونَ } أي: لولا تستثنون. قال السدي: وكان استثناؤهم في ذلك الزمان تسبيحًا.
__________
(1) في أ: "بن صبيح".
(2) وفي إسناد عمر بن صبح قال ابن حيان: كان ممن يضع الحديث. وقال الدارقطنى: متروك. وقال الأذي: كذاب. وله شاهد من حديث ثوبان، رضي الله عنه، رواه الإمام أحمد في المسند (5/277).

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)

وقال ابن جريج: هو قول القائل: إن شاء الله. وقيل: معناه: { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ } أي: هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم، { قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أتوا بالطاعة حيث لا تنفع، وندموا واعترفوا حيث لا ينجع؛ ولهذا قالوا: { إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ } أي: يلوم بعضهم بعضًا على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين من حق الجذاذ، فما كان جواب بعضهم لبعض إلا الاعتراف بالخطيئة والذنب، { قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } أي: اعتدينا وبَغَينا وطغينا وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما أصابنا، { عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } قيل: رغبوا في بذلها لهم في الدنيا. وقيل: احتسبوا ثوابها في الدار الآخرة، والله أعلم.
ثم قد ذكر بعض السلف أن هؤلاء قد كانوا من أهل اليمن -قال سعيد بن جبير: كانوا من قرية يقال لها ضروان (1) على ستة أميال من صنعاء. وقيل: كانوا من أهل الحبشة-وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة، وكانوا من أهل الكتاب، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة، فكان ما استغله منها يرد فيها ما يحتاج إليها ويدّخر لعياله قوت سنتهم، ويتصدق بالفاضل. فلما مات ورثه بنوه، قالوا: لقد كان أبونا أحمقَ إذ كان يصرف من هذه شيئًا للفقراء، ولو أنَّا منعناهم لتوفر ذلك علينا. فلما عزموا على ذلك عُوقِبوا بنقيض قصدهم، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية، رأس المال الربح والصدقة، فلم يبق لهم شيء.
قال الله تعالى: { كَذَلِكَ الْعَذَابُ } أي: هكذا عذاب من خالف أمر الله، وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه، ومنع حق المسكين والفقراء (2) وذوي الحاجات، وبدل نعمة الله كفرا { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي: هذه عقوبة الدنيا كما سمعتم، وعذاب الآخرة أشق. وقد ورد في حديث رواه الحافظ البيهقي من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الجداد (3) بالليل، والحصاد بالليل (4) .
{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) }
__________
(1) في أ: "جردان".
(2) في أ: "حق المسكين والفقير".
(3) في م، أ، هـ: "الجذاذ" بالذال وهو خطأ والمثبت من سنن البيهقي.
(4) سنن البيهقي الكبرى (4/133) والجداد -بالدال بالفتح والكسر- قال ابن الأثير في النهاية (1/244) : "هي صرام النخل، وهو قطع ثمرتها، يقال: جد الثمرة يجدها جدا، وإنما نهى عن ذلك لأجل المساكين حتى يحضروا في النهار فيتصدق عليهم منه".

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)

لما ذكر [الله] (1) تعالى حال أهل الجنة الدنيوية، وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوا الله، عز وجل، وخالفوا أمره، بين أن لمن اتقاه وأطاعه في الدار الآخرة جنات النعيم التي لا تَبيد ولا تفرغ ولا ينقضي نعيمها.
ثم قال: { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } ؟ أي: أفنساوي بين هؤلاء وهؤلاء في الجزاء؟ كلا ورب الأرض والسماء؛ ولهذا قال { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } ! أي: كيف تظنون ذلك؟.
ثم قال: { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ } يقول: أفبأيديكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه بنقل الخلف عن السلف، مُتضمن حكما مؤكدًا كما تدعونه؟ { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } أي: أمعكم عهود منا ومواثيق مؤكدة، { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } أي: أنه سيحصل لكم ما تريدون وتشتهون، { سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ } ؟ أي: قل لهم: من هو المتضمن المتكفل بهذا؟
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ } أي: من الأصنام والأنداد، { فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ }
{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) }
__________
(1) زياده من م.

خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)

{ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) }
لما ذكر تعالى أن للمتقين عنده (1) جنات النعيم، بين متى ذلك كائن وواقع، فقال: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ } يعني: يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال والزلازل والبلاء والامتحان والأمور العظام. وقد قال البخاري هاهنا:
حدثنا آدم، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يَكشِفُ رَبّنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طَبَقًا واحدًا" (2) .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وفي غيرهما من طرق (3) وله ألفاظ، وهو حديث طويل مشهور.
وقد قال عبد الله بن المبارك، عن أسامة بن زيد، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ }
__________
(1) في م: "عند ربهم".
(2) صحيح البخاري برقم (4919).
(3) وهو حديث الشفاعة وقد سبق سياقه بطريقه وألفاظه عند تفسير أول سورة الإسراء.

قال: هو يوم كَرْب وشدة. رواه ابن جرير ثم قال:
حدثنا ابن حميد، حدثنا مِهْران، عن سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، عن ابن مسعود -أو: ابن عباس، الشك من ابن جرير-: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } قال: عن أمر عظيم، كقول الشاعر:
وقامت الحرب بنا عن ساق (1)
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } قال: شدة الأمر (2)
وقال ابن عباس: هي أول (3) ساعة تكون في يوم القيامة.
وقال ابن جُرَيح، عن مجاهد: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } قال: شدة الأمر وجده.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } هو الأمر الشديد المُفظِع من الهول يوم القيامة.
وقال العوفي، عن ابن عباس قوله: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } يقول: حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال. وكشفه دخول الآخرة، وكشف الأمر عنه. وكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس. أورد ذلك كله أبو جعفر بن جرير ثم قال:
حدثني أبو زيد عمر بن شَبَّة، حدثنا هارون بن عمر المخزومي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا أبو سعيد روح بن جناح، عن مولى لعمر بن عبد العزيز، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } قال: "عن نور عظيم، يخرون له سجدًا".
ورواه أبو يعلى، عن القاسم بن يحيى، عن الوليد بن مسلم، به (4) وفيه رجل مبهم (5) والله أعلم.
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (29/24).
(2) في أ: "الأمر وجده".
(3) في م: "هي أشد".
(4) تفسير الطبري (29/27) ومسند أبي يعلى (13/269).
تنبيه: ظن بعض الناس أن الحافظ ابن كثير سلك هنا مسلك التأويل لصفة الساق، وهذا فهم خاطئ؛ وذلك لأن الحافظ ابن كثير فسر هذه الآية بحديث أبي سعيد، رضي الله عنه، ثم ذكر ما قيل في هذه الآية، وقد تكلم الإمام ابن القيم عن هذه الآية كلامًا بديعًا قال، رحمه الله، في الصواعق المرسلة (1/252، 253) : "والصحابة متنازعون في تفسير هذه الآية: هل المراد الكشف عن الشدة؟ أو المراد بها أن الرب تعالى يكشف عن ساقه؟ ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيها يذكر أنه من الصفات أم لا في غير هذا الموضوع، وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أن ذلك صفة لله؛ لأنه سبحانه لم يضف الساق إليه، وإنما ذكره مجردًا عن الإضافة منكرًا، والذين أثبتوا ذلك صفة كاليدين والأصبع لم يأخذ ذلك من ظاهر القرآن، وإنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته، وهو حديث الشفاعة الطويل وفيه: "فيكشف الرب عن ساقه فيخرون له سجدًا". ومن حمل الآية على ذلك قال: قوله تعالى: "يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود" القلم: 42 : مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم: "فيكشف عن ساقة فيخرون له سجدًا". وتنكيره للتعظيم والتفخيم كأنه قال: يكشف عن ساق عظيمة، جلت عظمتها وتعالى شأنها أن يكون لها نظير أو مثل أو شبيه، قالوا: وحمل الآية على الشدة لا يصح بوجه؛ فإن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال: كشف الشدة عن القوم لا كشف عنها كما قال تعالى: "فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون" الزخرف: 50 ، وقال "ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر" المؤمنون: 75 ، فالعذاب والشدة هو المكشوف لا المكشوف عنه، وأيضًا فهناك تحدث الشدة وتشتد، ولا تزال إلا بدخول الجنة، وهناك لا يدعون إلى السجود، وإنما يدعون إليه أشد ما كانت الشدة" انتهى نقلا عن التحذير من مختصرات الصابوني، وانظر: عقيدة الحافظ ابن كثير للشيخ عبد الآخر الغنيمي (ص48، 49) والتحذير للشيخ بكر أبو زيد (ص350 - 353).
(5) في أ: "رجل متهم".

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)

وقوله: { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي: في الدار الآخرة بإجرامهم وتكبرهم في الدنيا، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه. ولما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامتهم كذلك عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة، إذا تجلى الرب، عز وجل، فيسجد له المؤمنون، لا يستطيع أحد من الكافرين ولا المنافقين أن يسجُد، بل يعود ظهر أحدهم طبقًا واحدًا، كلما أراد أحدهم أن يسجد خَرّ لقفاه، عكس السجود، كما كانوا في الدنيا، بخلاف ما عليه المؤمنون.
ثم قال تعالى: { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ } يعني: القرآن. وهذا تهديد شديد، أي: دعني وإياه مني ومنه، أنا أعلم به كيف أستدرجه، وأمده في غيه وأنظر (1) ثم آخذه أخذ عزيز مقتدر؛ ولهذا قال: { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ } أي: وهم لا يشعرون، بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة، وهو في نفس الأمر إهانة، كما قال: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [المؤمنون: 55، 56] ، وقال: { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } [الأنعام: 44] . ولهذا قال هاهنا: { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أي: وأؤخرهم وأنظرهم وأمدهم (2) وذلك من كيدي ومكري بهم؛ ولهذا قال تعالى: { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أي: عظيم لمن خالف أمري، وكذب رسلي، واجترأ على معصيتي.
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى ليُمْلي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه". ثم قرأ: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود: 102] (3) .
وقوله: { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } تقدم تفسيرهما في سورة "الطور" (4) (5) والمعنى في ذلك: أنك يا محمد تدعوهم إلى الله، عز وجل، بلا أجر تأخذه منهم، بل ترجو ثواب ذلك عند الله، عز وجل، وهم يكذبون بما جئتهم به، بمجرد الجهل والكفر والعناد.
{ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52) }
__________
(1) في أ: "وأنظره".
(2) في أ: "وأمد لهم".
(3) صحيح البخاري برقم (4686) وصحيح مسلم برقم (2583) من حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه.
(4) في م: "في سورة النور".
(5) عند تفسير الآيتين: 40، 41.

يقول تعالى: { فَاصْبِرْ } يا محمد على أذى قومك لك وتكذيبهم؛ فإن الله سيحكم لك عليهم، ويجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة، { وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } يعني: ذا النون، وهو يونس بن متى، عليه السلام، حين ذهب مُغَاضِبًا على قومه، فكان من أمره ما كان من ركوبه في البحر والتقام الحوت له، وشرود الحوت به في البحار وظلمات غمرات اليم، وسماعه تسبيح البحر بما فيه للعلي القدير، الذي لا يُرَدّ ما أنفذه من التقدير، فحينئذ نادى في الظلمات. { أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 87] . قال الله { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [الأنبياء: 88] ، وقال تعالى: { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الصافات: 143، 144] وقال هاهنا: { إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } قال ابن عباس، ومجاهد، والسدي: وهو مغموم. وقال عطاء الخراساني، وأبو مالك: مكروب. وقد قدمنا في الحديث أنه لما قال: { لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } خرجت الكلمة تَحُفّ حول العرش، فقالت الملائكة: يا رب، هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة. فقال الله: أما تعرفون هذا؟ قالوا: لا. قال: هذا يونس. قالوا: يا رب، عبدك الذي لا يزال يرفع له عمل صالح ودعوة مجابة؟ قال: نعم. قالوا: أفلا ترحم ما كان يعمله في الرخاء فتنجيه من البلاء؟ فأمر الله الحوت فألقاه بالعراء؛ ولهذا قال تعالى: { فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ }
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى".
ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري (1) وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة (2) .
وقوله: { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } قال ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما: { لَيُزْلِقُونَكَ } لينفذونك بأبصارهم، أي: ليعينونك بأبصارهم، بمعنى: يحسدونك لبغضهم إياك لولا وقاية الله لك، وحمايته إياك منهم. وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق، بأمر الله، عز وجل، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة .
حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه: قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود العَتَكي، حدثنا شريك، وحدثنا العباس العَنْبَريّ، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا شريك، عن العباس بن ذَرِيح، عن الشعبي -قال العباس: عن أنس-قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا رقية إلا من عين أو حُمة أو دم لا يرقأ". لم يذكر العباس العين. وهذا لفظ سليمان (3) .
حديث بُرَيدة بن الحُصَيب، رضي الله عنه: قال أبو عبد الله ابن ماجة: حدثنا محمد بن عبد الله بن نُمَير، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي جعفر الرازي، عن حُصَين، عن الشعبي، عن
__________
(1) المسند (1/390) وصحيح البخاري برقم (4603).
(2) صحيح البخاري برقم (4631) وصحيح مسلم برقم (2376).
(3) سنن أبي داود برقم (3889).

بُرَيدة بن الحصيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا رقية إلا من عين أو حُمة" (1) .
هكذا رواه ابن ماجة وقد أخرجه مسلم في صحيحه، عن سعيد بن منصور، عن هشيم، عن حُصَين بن عبد الرحمن، عن عامر الشعبي، عن بريدة موقوفًا، وفيه قصة (2) وقد رواه شعبة، عن حصين، عن الشعبي، عن بريدة. قاله الترمذي (3) وروى هذا الحديث الإمام البخاري من حديث محمد بن فضيل، وأبو داود من حديث مالك بن مِغْول، والترمذي من حديث سفيان بن عيينة، ثلاثتهم عن حصين، عن عامر عن الشعبي، عن عمران بن حُصَين موقوفًا (4) .
حديث أبي جندب بن جنادة: قال الحافظ أبو يعلى الموصلي، رحمه الله: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة بن البِرِند السامي، حدثنا ديلم بن غَزوان، حدثنا وهْب بن أبي دبي، عن أبي حرب عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العين لتولع الرجلَ بإذن الله، فيتصاعد حالقا، ثم يتردى منه" إسناده غريب، ولم يخرجوه (5) .
حديث حابس التميمي: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حرب، حدثنا يحيى بن أبي كثير، حدثني حَيَّة بن حابس التميمي: أن أباه أخبره: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا شيء في الهام، والعين حق، وأصدق الطيَرَة (6) الفَألُ" (7) .
وقد رواه الترمذي عن عمرو بن علي، عن أبي غسان يحيى بن كثير، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، به (8) ثم قال غريب. قال وروى شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن حَيَّة بن حابس، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: كذلك رواه الإمام أحمد، عن حسن بن موسى وحُسَين بن محمد، عن شيبان، يحيى بن أبي كثير، عن حَيَّة، حدثه عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا بأس في الهام، والعين حق، وأصدق الطيرة الفأل " (9) .
حديث ابن عباس: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن الوليد، عن سفيان، عن دُوَيد، حدثني إسماعيل بن ثوبان، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العين
__________
(1) سنن ابن ماجة برقم (3513).
(2) صحيح مسلم برقم (220).
(3) سنن الترمذي (4/345).
(4) صحيح البخاري برقم (5705) وسنن أبي داود برقم (3884) وسنن التلامذي برقم (2075).
(5) ورواه ابن عدي في الكامل (3/104) من طريق أبي يعلى لكنه وقع فيه: إبراهيم، عن ديلم، عن وهب بن أبي دبي، عن محجن، عن أبي زر به، فأسقط أبو حرب، وسيأتي توجيه ذلك من كلام ابن عدى، ورواه الإمام أحمد في المسند (5/146) من طريق يونس بن محمد، وابن عدى في الكامل (3/104) من طريق الصلت بن مسعود كلاهما عن ديلم بن غزوان عن وهب عن أبي حرب عن محجن عن أبي ذر به ، قال ابن عدي: وهذا حديث يرويه ديلم عن وهب بن أبي دبي، وأظن أنه وهم من رواية الصلت حيث قال: عن وهب بن أبي دبي، عن أبي حرب، عن محجن، ولعل أبا حرب هو محجن".
(6) في م: "الطير"، وفي أ: "الظن".
(7) المسند (5/70).
(8) سنن الترمذي برقم (2061).
(9) المسند (5/70).

حق، العين حق، تستنزل الحالق" (1) غريب.
طريق أخرى: قال مسلم في صحيحه: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، أخبرنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا وُهَيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العين حق، ولو كان شيء سَابَقَ القَدَرَ سَبَقَت العين، وإذا اغْتُسلتم فاغسلوا". انفرد به دون البخاري (2) .
وقال عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن المِنْهال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذ الحسن والحسين، يقول: "أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهَامَّة، ومن كل عين لامَّة" ، ويقول هكذا كان إبراهيم يُعَوِّذ إسحاق وإسماعيل، عليهما السلام".
أخرجه البخاري وأهل السنن من حديث المنهال، به (3)
حديث أبي أمامة أسعد بن سهل بن حنيف، رضي الله عنه: "قال ابن ماجة: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي أمامة ابن سهل بن حُنَيف قال: مر عامر بن ربيعة بسهل بن حُنَيف، وهو يغتسل، فقال: لم أر كاليوم ولا جلدَ مخبأة. فما لبث أن لُبِطَ به، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: أدرك سهلا صريعًا. قال: "من تتهمون به؟". قالوا: عامر بن ربيعة. قال: "علام يقتل أحدكم أخاه؟ إذا رأى أحدكم من أخيه ما يُعجبه فَلْيَدعُ له بالبركة". ثُم دعا بماء فأمر عامرًا أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، وركبتيه، ودَاخِلة إزاره، وأمره أن يصب عليه.
قال سفيان: قال مَعْمَر، عن الزهري: وأمر أن يكفَأ الإناء من خلفه (4) .
وقد رواه النسائي، من حديث سفيان بن عيينة ومالك بن أنس، كلاهما عن الزهري، به. ومن حديث سفيان بن عيينة أيضًا عن معمر، عن الزهري، عن أبي أمامة: ويكفَأ الإناء من خلفه. ومن حديث ابن أبي ذئب عن الزهري، عن أبي أمامة أسعد بن سهل بن حُنَيف، عن أبيه، به. ومن حديث مالك أيضًا، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل، عن أبيه، به (5) .
حديث أبي سعيد الخدري: قال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من أعين (6) الجان وأعين الإنس. فلما نزل (7) المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك.
__________
(1) المسند (1/274).
(2) صحيح مسلم برقم (2188).
(3) صحيح البخاري برقم (3371) وسنن أبي داود برقم (4737) وسنن النرمذي برقم (2060) وسنن النسائي الكبرى برقم (10844) وسنن ابن ماجة برقم (3525).
(4) سنن ابن ماجة برقم (3509).
(5) سنن النسائي الكبرى برقم (7617 - 7619).
(6) في م: "من عين".
(7) في م: "فلما نزلت".

ورواه الترمذي والنسائي من حديث سعيد بن إياس (1) أبي مسعود الجُرَيري، به (2) وقال الترمذي: حسن.
حديث آخر عنه: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني أبي، حدثني عبد العزيز بن صُهيب، حدثني أبو نضرة، عن أبي سعيد: أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اشتكيت يا محمد؟ قال: "نعم". قال باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس و عين يشفيك، باسم الله أرقيك (3) .
ورواه عن عفان، عن عبد الوارث، مثله. ورواه مسلم وأهل السنن -إلا أبا داود-من حديث عبد الوارث، به (4) .
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا داود، عن أبي نَضرة، عن أبي سعيد -أو: جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكى، فأتاه جبريل فقال: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من كل حاسد وعين والله يُشفيك (5) .
ورواه أيضًا، عن محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، عن داود، عن أبي نَضرة، عن أبي سعيد به (6) .
قال أبو زُرْعَة الرازي: روى عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه، عن عبد العزيز، عن أبي نضرة، وعن عبد العزيز، عن أنس، في معناه، وكلاهما صحيح.
حديث أبى هُرَيرة: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا مَعْمَر، عن هَمَّام بن مُنَبِّه قال: هذا ما حدثنا أبو هُرَيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العين حق" (7) .
أخرجاه من حديث عبد الرزاق (8) .
وقال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة، عن الجُرَيري، عن مُضَارب بن حَزن، عن أبي هُرَيرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العين حق" .تفرد به.
ورواه أحمد، عن إسماعيل بن عُلَيَّة، عن سعيد الجريري، به (9) .
وقال الإمام أحمد حدثنا ابن نمير، حدثنا ثور -يعني ابن يزيد-عن مكحول، عن أبي
__________
(1) في م: "سعيد بن أبي إياس".
(2) سنن ابن ماجة برقم (3511) وسنن الترمذي برقم (2058) وسنن النسائي (8/271).
(3) المسند (3/28).
(4) المسند (3/56) وصحيح مسلم برقم (2186) وسنن الترمذي برقم (975) وسنن النسائي الكبري برقم (10843) وسنن ابن ماجة برقم (3523).
(5) المسند (3/75).
(6) المسند (3/58).
(7) المسند (2/318).
(8) صحيح البخاري برقم (5740) وصحيح مسلم برقم (2187).
(9) سنن ابن ماجة برقم (3507) والمسند (2/487).

هُرَيرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "العين حق، ويحضُرها الشيطانُ، وحسد ابن آدم" (1)
وقال أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن قيس: سُئل أبو هُرَيرة: هل سمعت رسول الله يقول: الطيرة في ثلاث: في المسكن والفرس والمرأة؟ قال: قلت: إذًا أقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل! ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أصدق الطيرة الفألُ، والعين حق" (2) .
حديث أسماء بنت عُمَيس: قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عُروةَ بن عامر، عن عُبَيد بن رفاعة الزُرقي قال: قالت أسماء: يا رسول الله، إن بني جعفر تصيبهم العين، أفأسترقي لهم؟ قال: "نعم، فلو كان شيء يسبق القدرَ لسبقته العين".
وكذا رواه الترمذي وابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة، به (3) ورواه الترمذي أيضًا والنسائي، من حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن أيوب، عن عمرو بن دينار، عن عُرْوَة بن عامر، عن عُبَيد بن رفاعة، عن أسماء بنت عميس، به (4) وقال الترمذي: حسن صحيح.
حديث عائشة، رضي الله عنها: قال ابن ماجة: حدثنا علي بن أبي الخَصِيب، حدثنا وَكِيع، عن سفيان، ومِسْعَر، عن معبد بن خالد، عن عبد الله بن شَدَّاد، عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تسترقي من العين (5) .
ورواه البخاري عن محمد بن كثير، عن سفيان، عن معبد بن خالد، به. وأخرجه مسلم من حديث سُفيانَ ومِسْعَر، كلاهما عن معبد، به (6) ثم قال ابن ماجة:
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو هشام المخزومي، حدثنا وُهَيب، عن أبي واقد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استعيذوا بالله فإن النفس حق". تفرد به (7)
وقال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: كان يؤمر العائن فيتوضأ ويغسل منه المَعين (8) .
حديث سهل بن حُنَيف: قال الإمام أحمد: حدثنا حُسَين بن محمد، حدثنا أبو أويس (9) حدثنا الزهري، عن أبي أمامة بن سَهل بن حُنَيف: أن أباه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه
__________
(1) المسند (2/439).
(2) المسند (2/289).
(3) المسند (6/438) وسنن الترمذي برقم (2059) وسنن ابن ماجة برقم (3510).
(4) سنن الترمذي برقم (2059) وسنن النسائي الكبرى برقم (7537).
(5) سنن ابن ماجة برقم (3510).
(6) صحيح البخاري برقم (5738) وصحيح مسلم برقم (2195).
(7) سنن ابن ماجة برقم (3508) وقال البوصيري في الزوائد (3/134) ك "هذا إسناد فيه مقال".
(8) سنن أبي داود برقم (3880).
(9) في م: "أبو إدريس".

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49