الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي

يذنب صغيرة ولا كبيرة، فإنها مُحْصَاة عليه " (1)
وقوله: { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } أي: من خير أوشر كما قال تعالى: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } [آل عمران:30] ، وقال تعالى: { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [القيامة:13] وقال تعالى: { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [الطارق:9] أي: تظهر المخبآت والضمائر.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل غادر لواء يومَ القيامة [يعرف به" (2) .
أخرجاه في الصحيحين، وفي لفظ: "يُرْفَع لكل غادر لواء يومَ القيامة] (3) عند استه بقدر غَدْرته، يقال: هذه غَدْرَة فلان بن فلان" (4)
وقوله: { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } أي: فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعًا، ولا يظلم أحدا من خلقه، بل يعفر (5) ويصفح ويرحم ويعذب من يشاء، بقدرته وحكمته وعدله، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي، [ثم ينجي أصحاب المعاصي] (6) ويُخلَّد فيها الكافرون (7) وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء:40] وقال: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء:47] والآيات في هذا (8) كثيرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا همام بن يحيى، عن القاسم بن عبد الواحد المكي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيرًا ثم شددت عليه رَحْلى، فسرت عليه شهرًا، حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس (9) فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب. فقال: ابن عبد الله؟ فقلت: نعم. فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسَمَعه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشُر الله، عز وجل الناس يوم القيامة -أو قال: العبادَ-عُرَاةَ غُرْلا بُهْمًا" قلت: وما بهمًا؟ قال: "ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قَربَ: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وله عند أحد من أهل الجنة حق، حتى أقصه (10) منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وله عند رجل من أهل النار حق، حتى أقصه (11) منه حتى اللطمة". قال: قلنا: كيف، وإنما نأتي الله، عز وجل، حفاة عُراة غُرْلا بُهْمًا؟ قال:
__________
(1) المعجم الكبير (6/52).
(2) المسند (3/142).
(3) زيادة من ف.
(4) صحيح البخاري برقم (3186) وصحيح مسلم برقم (1737).
(5) في ت، ف: "يعفو".
(6) زيادة من ف.
(7) في ف: "الكافرين".
(8) في ت: "في هذه"، وفي ف: "فيهما".
(9) في ت: "أنس".
(10) في ت، ف، أ: "أقضيه".
(11) في ت، ف، أ: "أقضيه".

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)

بالحسنات والسيئات" (1) .
وعن شعبة، عن العوام بن مُزَاحم، عن أبي عثمان، عن عثمان بن عفان، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجَمَّاء لتقتص من القرناء يوم القيامة" (2) رواه عبد الله بن الإمام أحمد وله شواهد من وجوه أخر، وقد ذكرناها عند قوله: { وَنَضَعُ (3) الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا } [الأنبياء:47] وعند قوله تعالى: { إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [الأنعام:38]
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا (50) }
يقول تعالى منبهًا بني آدم على عداوة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم، ومقرعًا لمن اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه، الذي أنشأه وابتداه، وبألطاف رزقه وغذاه، ثم بعد هذا كله والى إبليس وعادى الله، فقال تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ } أي: لجميع الملائكة، كما تقدم تقريره في أول سورة "البقرة" (4) .
{ اسْجُدُوا لآدَمَ } أي: سجود تشريف وتكريم وتعظيم، كما قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } [الحجر:29، 28]
وقوله { فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ } أي: خانه أصله؛ فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور، كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "خُلِقت الملائكة من نور، وخُلق إبليس من مارج من نار، خُلق (5) آدم مما وصف لكم" (6) . فعند الحاجة نضح (7) كل وعاء بما فيه، وخانه الطبع عند الحاجة، وذلك أنه كان قد تَوَسَّم بأفعال الملائكة وتشبه بهم، وتعبد وتنسك، فلهذا دخل في خطابهم، وعصى بالمخالفة .
ونبه تعالى هاهنا على أنه { مِنَ الْجِنِّ } أي: إنه خُلِق من نار، كما قال: { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } [الأعراف:12، ص:76]
قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قَط، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم، عليه السلام، أصل البشر. رواه ابن جرير بإسناد صحيح [عنه] (8) (9) .
__________
(1) المسند (3/495).
(2) روائد المسند (1/12).
(3) في ت : "ويضع".
(4) عند تفسير الآية: 34.
(5) في ت ، ف ، ومسلم : "وخلق".
(6) صحيح مسلم برقم (2996).
(7) في أ: "نضح لكم".
(8) زيادة من ف، أ.
(9) تفسير الطبري (15/170).

وقال الضحاك، عن ابن عباس: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة، يقال لهم: الجن، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة -قال: وكان اسمه الحارث، وكان خازنًا من خزان الجنة، وخُلقت الملائكة من نور غير هذا الحي-قال: وخلقت الجن الذين ذُكروا في القرآن من مارج من نار. وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت.
وقال الضحاك أيضًا، عن ابن عباس: كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنًا على الجنان، وكان له سلطان [السماء] (1) الدنيا وسلطان الأرض، وكان مما سولت له نفسه، من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفًا على أهل السماء، فوقع من ذلك في قلبه كبر (2) لا يعلمه إلا الله. فاستخرج الله ذلك الكبر منه حين (3) أمره بالسجود لآدم "فاستكبر، وكان من الكافرين. قال ابن عباس: وقوله: { كَانَ مِنَ الْجِنِّ } أي: من خزان [الجنان، كما يقال للرجل: مكي، ومدني، وبصري، وكوفي. وقال ابن جريج، عن ابن عباس، نحو ذلك.
وقال سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: هو من خزان] (4) الجنة، وكان يدبر أمر السماء الدنيا، رواه ابن جرير من حديث الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد، به.
وقال سعيد بن المسيب: كان رئيس ملائكة سماء (5) الدنيا.
وقال ابن إسحاق، عن خَلاد بن (6) عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس قال: كان إبليس -قبل أن يركب المعصية-من الملائكة، اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض. وكان من أشد الملائكة اجتهادًا وأكثرهم علمًا. فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جنا.
وقال ابن جُرَيْج، عن صالح مولى التَّوْأمة وشريك بن أبي نَمِر، أحدهما أو كلاهما عن ابن عباس قال: إن من الملائكة قبيلة من الجن، وكان إبليس منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض. فعصى، فسخط الله عليه، فمسخه شيطانًا رجيمًا -لعنه الله-ممسوخًا، قال: وإذا كانت خطيئة الرجل في كِبْر فلا تَرْجُه، وإذا كانت في معصية فارجه.
وعن سعيد بن جُبَيْر أنه قال: كان من الجنانين، الذين يعملون في الجنة.
وقد رُوي في هذا آثار كثيرة عن السلف، وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها، والله أعلم بحال كثير منها. ومنها ما قد يقطع بكذبه لمخالفته للحق الذي بأيدينا، وفي القرآن غُنْيَةٌ عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وضع فيها أشياء كثيرة، وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين يَنْفُون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين، كما لهذه [الأمة من] (7) الأئمة والعلماء، والسادة الأتقياء والأبرار والنجباء (8) من الجهابذة النقاد، والحفاظ
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) في ف: "كبر في قلبه".
(3) في ت: "حتى".
(4) زيادة من ف.
(5) في ت، ف: "السماء".
(6) في ف: "عن".
(7) زيادة من ف.
(8) في أ: "البررة والنجباء".

مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)

الجياد، الذين دونوا الحديث وحرروه، وبينوا صحيحه من حسنه، من ضعيفه، من منكره وموضوعه، ومتروكه ومكذوبه، وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين، وغير ذلك من أصناف الرجال، كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي، خاتم الرسل، وسيد البشر [عليه أفضل التحيات والصلوات والتسليمات] (1) ، أن ينسب إليه كذب، أو يحدث عنه بما ليس [منه] (2) ، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل.
وقوله: { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } أي: فخرج عن طاعة الله؛ فإن الفسق هو الخروج، يقال (3) فَسَقت الرُّطَبة: إذا خرجت من أكمامها (4) وفسقت الفأرة من جُحْرها: إذا خرجت منه للعيث (5) والفساد.
ثم قال تعالى مقرعًا وموبخًا لمن اتبعه وأطاعه: { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي } أي: بدلا عني؛ ولهذا قال: { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا }
وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس: { وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } [يس: 59 -62] .
{ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) }
يقول تعالى: هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم، لا يملكون شيئًا، ولا أشهدتهم خلقي للسموات (6) والأرض، ولا كانوا إذ ذاك موجودين، يقول تعالى: أنا المستقل بخلق الأشياء كلها، ومدبرها ومقدرها وَحْدي، ليس معي في ذلك شريك ولا وزير، ولا مشير ولا نظير، كما قال: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } الآية [سبا: 23، 22] ؛ ولهذا قال: { وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا } قال مالك: أعوانًا.
{ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) }
يقول تعالى مخبرًا عما يُخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعًا لهم وتوبيخًا:
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من ف.
(3) في أ: "تقول".
(4) في أ: "كمامها".
(5) في أ: "للعنت".
(6) في ف، أ: "خلق السموات".

{ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ } أي: في دار الدنيا، ادعوهم اليوم، ينقذونكم مما (1) أنتم فيه، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [الأنعام:94].
وقوله: { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } ]كما قال: { وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ (2) [ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ } [القصص:64] ، وقال { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [الأحقاف:5، 6]، قال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [مريم:82، 81]
وقوله: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا } قال ابن عباس، وقتادة وغير واحد: مَهْلكًا (3) .
وقال قتادة: ذكر لنا أن عمرا البكالي (4) حدث عن عبد الله بن عمرو قال: هو واد عميق، فُرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة.
وقال قتادة: { مَوْبِقًا } واديًا في جهنم.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سِنان القزاز، حدثنا عبد الصمد، حدثنا يزيد بن درهم سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله تعالى: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا } قال: واد في جهنم، من قيح ودم.
وقال الحسن البصري: { مَوْبِقًا } : عداوة.
والظاهر من السياق هاهنا: أنه المهلك، ويجوز أن يكون واديًا في جهنم أو غيره، إلا أن الله تعالى أخبر (5) أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين، ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة، فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير.
وأما إن جعل الضمير في قوله: { بَيْنَهُمْ } (6) عائدًا إلى المؤمنين والكافرين، كما قال عبد الله بن عمرو: إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به، فهو كقوله تعالى: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [الروم:14] ، وقال { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [الروم:43] ، وقال تعالى: { وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } [يس:59] ، وقال تعالى: { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [يونس:28 -30] .
__________
(1) في ت: "بما".
(2) زيادة من ف.
(3) في ت: "هلكا".
(4) في أ: "البكائي".
(5) في أ: "خير".
(6) في ت: "بينهما".

وقوله: { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } أي: إنهم لما عاينوا جهنم حين (1) جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فإذا رأى المجرمون النار، تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها، ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحزن لهم، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه، عذاب ناجز.
{ وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } أي: ليس (2) لهم طريق يعدل بهم عنها ولا بد لهم منها.
قال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن دَرّاج عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله (3) صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الكافر يرى (4) جهنم، فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين (5) سنة" (6)
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن (7) لهيعة، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة، كما لم يعمل في الدنيا، وإن الكافر ليرى جهنم، ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة" (8) .
__________
(1) في ت: "حتى".
(2) في ت، ف، أ: "وليس".
(3) في ف، أ: "عن النبي".
(4) في ف، أ: "ليرى".
(5) في ف: "أربعمائة".
(6) تفسير الطبري (15/173) ودراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(7) في ت: "أبي" و هو خطأ.
(8) المسند (3/75).

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)

{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا (54) }.
يقول تعالى: ولقد بينا للناس في هذا القرآن، ووضحنا لهم الأمور، وفصلناها، كيلا (1) يضلوا عن الحق، ويخرجوا عن طريق الهدى. ومع هذا البيان وهذا الفرقان، الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني علي بن الحسين، أن حسين بن علي أخبره، أن علي بن أبي طالب أخبره، أن رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فقال: "ألا تصليان؟" فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بَعَثنا. فانصرف حين قلت ذلك، ولم يَرْجع إلي شيئًا، ثم سمعته وهو مولّ (3) يضرب فخذه [ويقول] (4) { وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا } أخرجاه في الصحيحين (5) .
__________
(1) في ف، : "لئلا".
(2) في ف، أ: "النبي".
(3) في ت، ف، أ: "يقول".
(4) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(5) المسند (1/112) وصحيح البخاري برقم (1227) وصحيح مسلم برقم (755).

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)

{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) }.
يخبر تعالى عن تمرد (1) الكفرة في قديم الزمان وحديثه، وتكذيبهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون من الآيات [والآثار] (2) والدلالات الواضحات، وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عيانًا، كما قال أولئك لنبيهم: { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [الشعراء:187] ، وآخرون قالوا: { ائْتِنَا (3) بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [العنكبوت:29] ، وقالت قريش: { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال:32] ، { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [الحجر:7، 6] إلى غير ذلك [من الآيات الدالة على ذلك] (4) .
ثم قال: { إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ } من غشيانهم بالعذاب وأخذهم عن آخرهم، { أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا } أي: يرونه عيانًا مواجهة [ومقابلة] (5) ، ثم قال: { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا } أي: قبل العذاب مبشرين (6) من صدقهم وآمن بهم، ومنذرين (7) مَنْ كذبهم وخالفهم.
ثم أخبر عن الكفار بأنهم يجادلون بالباطل { لِيُدْحِضُوا بِهِ } أي: ليضعفوا به { الْحَقَّ } الذي جاءتهم به الرسل، وليس ذلك بحاصل لهم. { وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا } أي: اتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث (8) بها الرسل وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب { هُزُوًا } أي: سخروا منهم في ذلك، وهو أشد التكذيب.
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) }.
يقول تعالى: وأي عباد الله أظلم (9) ممن ذكر بآيات الله (10) فأعرض عنها، أي: تناساها وأعرض
__________
(1) في ت: "ثمود".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) زيادة من ف.
(4) زيادة من ف، أ.
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في ت، ف، أ: "مبشرون".
(7) في ت، ف، أ: "ومنذرون".
(8) في ت، أ: "أبعث".
(9) في أ: "وأي عبادى أظلم".
(10) في ف: "ربه".

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)

عنها، ولم يصغ (1) لها، ولا ألقى إليها بالا { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أي: من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة. { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي: قلوب هؤلاء { أَكِنَّةً } أي: أغطية وغشاوة، { أَنْ يَفْقَهُوهُ } أي: لئلا يفهموا (2) هذا القرآن والبيان، { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } أي: صمم معنوي عن الرشاد، { وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا } .
وقوله: { وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ } أي: ربك (3) -يا محمد-غفور ذو رحمة واسعة، { لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ }، كَمَا قَالَ: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } [فاطر:45] ، وقال: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [الرعد:6]. والآيات في هذا كثيرة.
ثم أخبر أنه يحلم ويستر ويغفر، وربما هدى بعضهم من الغي إلى الرشاد، ومن استمر منهم فله يوم يشيب فيه الوليد، وتضع كل ذات حمل حملها؛ ولهذا قال: { بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا } أي: ليس لهم عنه محيد ولا محيص ولا معدل.
وقوله: { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا } أي: الأمم السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا } أي: جعلناه إلى مدة معلومة ووقت [معلوم] (4) معين، لا يزيد ولا ينقص، أي: وكذلك أنتم أيها المشركون، احذروا أن يصيبكم ما أصابهم، فقد كذبتم أشرف رسول (5) وأعظم نبي، ولستم بأعز علينا منهم، فخافوا عذابي ونذر.
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) }
__________
(1) في ت: "يضع".
(2) في ت: "يفهم"، وفي ف، أ: "يفهموه".
(3) في ف، أ: "وربك".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ت: "رسول الله صلى الله عليه وسلم".

فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)

{ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) }.
سبب قول موسى [عليه السلام] (1) لفتاه -وهو يُشوع بن نُون-هذا الكلام: أنه ذكر له أن عبدًا من عباد الله بمجمع البحرين، عنده من العلم ما لم يحط به موسى، فأحب الذهاب إليه، وقال لفتاه ذلك: { لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ } أي لا أزال سائرًا حتى أبلغ هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين، قال الفرزدق:
__________
(1) زيادة من ف، أ.

فَمَا بَرحُوا حَتَّى تَهَادَتْ نسَاؤهُم ... بِبَطْحَاء ذي قار عيابَ اللطَائم (1)
قال قتادة وغير واحد: وهما بحر فارس مما يلي المشرق، وبحر الروم مما يلي المغرب.
وقال محمد بن كعب القُرظي: مجمع البحرين عند طنجة، يعني في أقصى بلاد المغرب، فالله أعلم.
وقوله: { أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا } أي: ولو أني أسير حقبًا من الزمان.
قال ابن جرير، رحمه الله: ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن الحُقُب في لغة قيس (2) : سنة. ثم قد روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: الحُقُب ثمانون سنة. وقال مجاهد: سبعون خريفًا. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا } قال: دهرًا. وقال قتادة، وابن زيد، مثل ذلك.
وقوله: { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا } ، وذلك أنه كان قد أمر بحمل حوت مملوح معه، وقيل له: متى فقدتَ الحوت فهو ثَمّة. فسارا حتى بلغا مجمع البحرين؛ وهناك عين يقال لها: "عين الحياة"، فناما هنالك، وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء فاضطرب (3) ، وكان في مكتل مع يوشع [عليه السلام] (4) ، وطَفَر من المَكْتل إلى البحر، فاستيقظ يُوشع، عليه السلام، وسقط الحوت في البحر وجعل يسير فيه، والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده؛ ولهذا قال: { فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا } أي: مثل السَرَب في الأرض.
قال ابن جريح (5) : قال ابن عباس: صار أثره كأنه حَجَر.
وقال العوفي، عن ابن عباس: جعل الحوت لا يمس شيئًا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة (6) .
وقال محمد -[هو] (7) بن إسحاق-عن الزهري، عن عُبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك: "ما انجاب ماء منذ كان الناس غيره ثبت (8) مكان الحوت الذي فيه، فانجاب كالكُوّة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه"، فقال: { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } .
وقال قتادة: سَرب من البر (9) ، حتى أفضى إلى البحر، ثم سلك فيه فجعل لا يسلك فيه طريقًا إلا جعل (10) ماء جامدًا.
وقوله: { فَلَمَّا جَاوَزَا } أي: المكان الذي نسيا الحوت فيه، ونُسب النسيان إليهما وإن كان يُوشَع
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (15/176).
(2) في ف، أ: "العرب".
(3) في ف، أ: "فاضطربت".
(4) زيادة من ت، ف، أ.
(5) في ت: "جرير".
(6) في ت، ف، أ: "كصخرة".
(7) زيادة من أ.
(8) في أ: "غير مثبت".
(9) في ت، أ: "الحر".
(10) في ت، أ: "صار".

هو الذي نسيه، كقوله تعالى: { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [الرحمن:22] ، وإنما يخرج من (1) المالح في أحد القولين.
فلما ذهبا عن المكان الذي نسياه فيه مَرْحَلَةً { قَالَ } موسى { لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [ نَصَبًا ] (2) } أي: الذي جاوزا فيه المكان { نَصَبًا } يعني: تعبًا. قال: { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } قال قتادة: وقرأ ابن مسعود: ["وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان] (3) ، ولهذا قال: { وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ } أي: طريقه { فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } أي: هذا الذي نطلب { فَارْتَدَّا } أي: رجعا { عَلَى آثَارِهِمَا } أي: طريقهما { قَصَصًا } أي: يقصان أثر مشيهما، ويقفوان أثرهما.
{ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } وهذا هو الخضر، عليه السلام، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. بذلك قال البخاري:
حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار، أخبرني سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفًا البِكَالِيّ يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل. قال ابن عباس: كذب عَدُوّ الله، حدثنا أبي بن كعب، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل فَسُئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يَرُدّ العلم إليه، فأوحى الله إليه: إنّ لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك. فقال موسى: يا رب، وكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتًا، تجعله (4) بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو (5) ثم. فأخذ حوتا، فجعله بمكتل (6) ثم انطلق وانطلق معه بفتاه (7) يُوشع بن نون عليهما (8) السلام، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه، فسقط في البحر واتخذ (9) سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جِريةَ الماء، فصار عليه مثل الطاق. فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: { آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا } ولم يجد موسى النَّصَب حتى جاوَزَا المكان الذي أمره الله به. قال له فتاه (10) : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا } قال: "فكان للحوت سربًا ولموسى وفتاه عجبًا، فقال: { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا } . قال: "فرجعا (11) يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مُسجّى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخَضِر: وَأنّى بأرضك السلام!. قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما عُلِّمت رشدا. { قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } ، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه، لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله عَلَّمَكَه الله لا
__________
(1) في ف، أ: "على".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) زيادة من ف، أ، وفي هـ: "أن أذكره".
(4) في أ: "فتجعله".
(5) في أ: "منهم".
(6) في ف: "في مكتل".
(7) في ف: "فتاه".
(8) في ت، ف: "عليه".
(9) في ف: "فاتخذ".
(10) في ت: "قتادة" وهو خطأ.
(11) في ف: "فرجعان".

أعلمه. فقال موسى: { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } قال له الخضر: { فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } .
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوه (1) ، فعرفوا الخضر، فحملوهم (2) بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحًا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قد حملونا بغير نول، فعمدت (3) إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئًا إمرًا. { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا } (4) قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كانت الأولى من موسى نسيانًا". قال: وجاء عصفور فنزل (5) على حرف السفينة فنقر في البحر نَقْرة، [أو نقرتين] (6) فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلامًا يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه [بيده] (7) فاقتلعه بيده فقتله، فقال له موسى: { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } ؟! (8) قال: "وهذه أشد من الأولى"، { قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * (9) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ (10) } قال: مائل. فقال الخضر بيده: { فَأَقَامَهُ } ، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، { لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما".
قال سعيد بن جبير: كان ابن عباس يقرأ: "وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا" وكان يقرأ: "وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين" (11) .
ثم رواه (12) البخاري عن قتيبة، عن سفيان بن عُيينة... فذكر نحوه (13) ، وفيه: "فخرج موسى ومعه فتاه يُوشع بن نون، ومعهما الحوت حتى انتهيا إلى الصخرة، فنزلا عندها -قال: فوضع موسى رأسه فنام-قال سفيان: وفي حديث غير (14) عمرو قال: وفي أصل الصخرة عين يقال لها: الحياة، لا يصيب من مائها شيء إلا حيي: فأصاب (15) الحوت من ماء تلك العين، قال، فتحرك وانسل من المكتل، فدخل البحر، فلما استيقظ قال موسى لفتاه: { آتِنَا غَدَاءَنَا } كذا قال: وساق (16) الحديث. ووقع عصفور على حرف السفينة، فغمس منقاره في البحر، فقال الخضر لموسى: ما علمي
__________
(1) في ف، أ: "يحملوهم".
(2) في ت: "فحملوه"، وفي ف، أ: "فحملوا".
(3) في ف، أ: "عمدت".
(4) في ف، أ: "أقل لك" وهو خطأ.
(5) في ف، أ: "فوقع".
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من ف، أ.
(8) في ف، أ: "زاكية".
(9) في ف : "قد بلغت مني" وهو خطأ.
(10) في ت: "ينقض فأقامه".
(11) صحيح البخاري برقم (4725).
(12) في أ: "ورواه".
(13) في ت، ف، أ: "فذكره بنحوه".
(14) في ت، ف، أ: "عن".
(15) في ت: "قال: فأصاب".
(16) في أ: "وسباق".

وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدارُ ما غمس هذا العصفور منقاره وذكر تمامه بنحوه (1) .
وقال البخاري أيضًا: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف، أن ابن جُرَيج أخبرهم قال: أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير -يزيد أحدهما على صاحبه-وغيرهما قد سمعته يحدث عن سعيد بن جبير قال: إنا لعند ابن عباس في بيته، إذ قال: سلوني. فقلت: أي أبا عباس، جعلني الله فداك، بالكوفة رجل قاص، يقال له: "نوف" يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل -أما عمرو فقال لي: قال (2) : كذب عدو الله! وأما يعلى فقال لي: قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "موسى رسول الله، ذكَّر الناس يومًا، حتى إذا فاضت العيون، ورقت القلوب، ولى فأدركه رجل فقال: أي رسول الله، هل في الأرض (3) أحد أعلم منك؟ قال: لا. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، قيل: بلى قال: أي رب، وأين؟ قال: بمجمع البحرين. قال: أي رب، اجعل لي علمًا أعلم ذلك به". قال لي عمرو: قال: حيث يفارقك الحوت، وقال لي يعلى: خذ حوتًا ميتًا حيث ينفخ فيه الروح. فأخذ حوتًا فجعله في مكتل، فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني حيث يفارقك الحوت، قال ما كلفت كبيرًا. فذلك قوله: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ } يوشع بن نون، ليست عند سعيد بن جبير، قال: "فبينا (4) هو في ظل صخرة في مكان ثريان (5) إذ تَضَرَّب (6) الحوت وموسى نائم فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جَرْيَة الماء حتى كأن أثره في حجر". [قال: فقال لي عمرو: هكذا كأن أثره في حجر] (7) ، وحلق بين إبهاميه والتي تليهما: { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا } قال: "وقد قطع الله عنك النصب" ليست هذه عند سعيد -أخبره، فرجعا فوجدا خَضرًا. قال: قال (8) عثمان بن أبي سليمان: على طِنْفِسَة خضراء على كبِد (9) البحر. قال سعيد بن جبير: مُسَجى بثوب، قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه، وقال: هل بأرض من سلام؟ من أنت؟ قال أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: فما شأنك؟ قال: جئتك لتعلمني مما علمت رشدًا. قال: يكفيك (10) التوراة (11) بيدك، وأن الوحي يأتيك!. يا موسى، إن لي علمًا لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علمًا لا ينبغي لي أن أعلمه. فأخذ طائر بمنقاره من البحر [فقال: والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر] (12) ، حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر صغارًا تحمل (13) أهل هذا الساحل إلى (14) هذا الساحل الآخر عرفوه، فقالوا: عبد الله الصالح؟. قال فقلنا لسعيد: خضر؟ قال: نعم. لا نحمله بأجر. فخرقها، وَوَتَدَ فيها وتدًا. قال موسى: { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا } .
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4727).
(2) في أ: "فقال وقال".
(3) في ت: "هل على الأرض"، وفي ف: "هل في الناس".
(4) في ت: "فبينما".
(5) في ف، أ: "يريان".
(6) ف أ: "يضرب".
(7) زيادة من ف، أ، والبخاري.
(8) في ف، أ: "قال لى".
(9) في ت: "كبده".
(10) في أ: "أما يكفيك"، وفي ت: "ألا تكفيك.
(11) في ف: "أما يكفيك أن التوراة".
(12) زيادة من ف، أ، والبخاري.
(13) في ت: "فحمد".
(14) في ت، أ: "إلى أهل".

قال مجاهد: منكرًا. قال: { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } كانت الأولى نسيانًا، والوسطى شرطًا، والثالثة عمدًا { قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا. فَانْطَلَقَا }. حتى لقيا غلامًا فقتله. قال يعلى: قال سعيد، وجد غلمانًا يلعبون، فأخذ غلامًا كافرًا ظريفًا فأضجعه، ثم ذبحه بالسكين، فقال: { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً } لم تعمل بالحنث (1) . وابن عباس قرأها { زَكِيَّةً } -" زَاكِيَة " مُسْلمَة، كقولك (2) : غلامًا زكيا فانطلقا، فوجدا جدارًا يريد أن ينقض فأقامه، قال [سعيد] (3) بيده هكذا، ورفع يده فاستقام -قال يعلى: حسبت أن سعيدًا قال: فمسحه بيده فاستقام -قال: { لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا } قال سعيد: أجرًا نأكله { وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ } وكان أمامهم، قرأها ابن عباس: "أمامهم ملك" يزعمون عن غير سعيد أنه هُدَدُ بن بُدَدَ، والغلام المقتول (4) اسمه -يزعمون-جَيسُور (5) { مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا } فأردت إذا هي مرت به أن يدعها بعيبها، فإذا جاوزه (6) أصلحوها فانتفعوا بها. ومنهم من يقول: سدوها بقارورة. ومنهم من يقول: بالقار. { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ } وكان كافرًا، { فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا }. أن يحملهما حُبّه على أن يتابعاه (7) على دينه { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً } كقوله: { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً } ، { وَأَقْرَبَ رُحْمًا } : هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل (8) خضر. وزعم غير سعيد بن جبير أنهما أبدلا جارية. وأما داود بن أبي عاصم فقال عن غير واحد: إنها جارية (9) .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: خطب موسى، عليه السلام، بني إسرائيل فقال: ما أحد أعلم بالله وبأمره مني. فَأمرَ أن يلقى هذا الرجل. فذكر نحو ما تقدم بزيادة ونقصان (10) ، والله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة (11) ، عن سعيد بن جبير قال: جلست عند ابن عباس وعنده نفر من أهل الكتاب فقال بعضهم: يا أبا العباس، إن نوفًا ابن امرأة كعب، يزعم عن كعب أن موسى النبي الذي طلب العالم إنما هو موسى بن ميشا؟ قال سعيد: فقال ابن عباس: أنوفٌ يقول هذا؟ قال سعيد: فقلت له: نعم، أنا سمعت نوفًا يقول (12) ذلك. قال: أنت سمعته يا سعيد؟ قال: قلت: نعم. قال: كذب نوف. ثم قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن موسى بني إسرائيل سأل ربه فقال: أي رب، إن كان في عبادك أحد (13) هو أعلم مني، فدلني عليه. فقال له: نعم، في عبادي من هو أعلم منك. ثم نعت له مكانه (14) وأذن له في لقيه. فخرج موسى ومعه فتاه، ومعه حوت مليح، قد قيل له: إذا (15) حيي هذا الحوت في مكان، فصاحبك هنالك، وقد أدركت حاجتك. فخرج موسى ومعه فتاه، ومعه ذلك الحوت يحملانه، فسار حتى جهده السير، وانتهى إلى الصخرة وإلى ذلك الماء، وذلك الماء ماء الحياة، من
__________
(1) في ت: "لم تعلم بالحنث"، وفي ف، أ: "لم تعمل الحنث".
(2) في ت: "كقوله".
(3) زيادة من ف، أ، والبخاري.
(4) في ت: "المقصود".
(5) في أ: "حيسون".
(6) في أ: "جاوزوا".
(7) في ت: "تبايعاه".
(8) في أ: "قتله".
(9) صحيح البخاري برقم (4726).
(10) تفسير عبد الرزاق (1/341، 342).
(11) في ف، أ: "عيينة".
(12) في ت: "فيقول".
(13) في ت: "واحد".
(14) في ف، أ: "بمكان".
(15) في أ: "إنه إذا".

شرب منه خلد، ولا يقاربه شيء ميت إلا حيي. فلما نزلا ومس الحوت الماء حيي { فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا } فانطلقا فلما جاوز مُنْقَلَبَه قال: موسى لفتاه: { آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا } قال الفتى -وذكر-: { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا } . قال ابن عباس: فظهر موسى على الصخرة حتى إذا انتهيا إليها، فإذا رجل متلفف في كساء له، فسلم موسى،فردّ عليه العالم ثم قال له: ما جاء بك إن كان لك في قومك لَشُغل؟. قال له موسى: جئتك لتعلمني مما علمت رشدًا { قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } وكان رجلا يعلم علم الغيب قد عُلِّم ذلك -فقال موسى: بلى. قال: { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا } ؟ أي: إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل، ولم تحط من علم الغيب بما أعلم. { قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } وإن رأيتُ ما يخالفني، قال: { فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ } [وإن أنكرته] (1) { حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } : فانطلقا يمشيان على ساحل البحر يتعرّضان الناس، يلتمسان (2) من يحملهما، حتى مرت بهما سفينة جديدة وثيقة، لم يمرّ بهما من السفن أحسن ولا أكمل ولا أوثق منها. فسألا أهلها أن يحملوهما، فحملوهما (3) ، فلما اطمأنا فيها وَلجّجَت بهما مع أهلها، أخرج منقارًا له ومطرقة، ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها. ثم أخذ لوحًا فطبقه عليها، ثم جلس عليها يرقعها، فقال: له موسى -ورأى أمرًا أفظع به-: { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ } أي: بما تركت من عهدك، { وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا } . ثم خرجا (4) من السفينة فانطلقا، حتى أتيا (5) أهل قرية، فإذا غلمان يلعبون خلفها، فيهم غلام ليس في الغلمان غلام أظرف منه ولا أثرى (6) ولا أوضأ (7) منه، فأخذه بيده، وأخذ (8) حجرًا فضرب به رأسه حتى دمغه فقتله، قال: فرأى موسى أمرًا فظيعًا لا صبر عليه، صبي صغير قتله لا ذنب له (9) قال: { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً } (10) أي: صغيرة { بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي (11) عُذْرًا } أي: قد أعْذرتَ (12) في شأني. { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } ، فهدمه ثم قعد يبنيه، فضجر موسى مما يراه (13) يصنع من التكليف، وما ليس عليه صبر، قال: { لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا } أي: قد استطعمناهم فلم يطعمونا، وضفناهم فلم يُضَيّفونا، ثم قعدت تعمل من غير صنيعة، ولو شئت لأعطيت عليه أجرًا في عمله؟. قال: { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا } -وفي قراءة أبيّ بن كعب: "كل سفينة صالحة" -وإنما عبتها (14) لأرده عنها، فسلمت (15) حين رأى العيب الذي صنعت بها. { وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } أي: ما فعلته عن نفسي، { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } وكان ابن عباس يقول: ما كان الكنز إلا علمًا (16) .
وقال العوفي، عن ابن عباس قال: لما ظهر موسى وقومه على مصر، أنزل قومه (17) ، فلما استقرت بهم الدار، أنزل الله: أن ذكرهم بأيام الله فخطب قومه، فذكر ما آتاهم الله من الخير والنعمة، وذكرهم إذ نجاهم الله من آل فرعون، وذكرهم هلاك عدوهم، وما استخلفهم الله في الأرض، وقال: كلم الله نبيكم تكليمًا، واصطفاني لنفسه، وأنزل عليّ محبة منه، وآتاكم الله من كل ما سألتموه؛ فنبيكم أفضل أهل الأرض، وأنتم تقرؤون التوراة، فلم يترك نعمة أنعمها عليهم إلا وعرفهم إياها. فقال له رجل من بني إسرائيل: هم (18) كذلك يا نبي الله، قد عرفنا الذي تقول، فهل على الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله؟ قال: لا. فبعث الله جبرائيل إلى موسى، عليهما السلام (19) ، فقال: إن الله [عز وجل] (20) يقول: وما يدريك أين أضع علمي؟ بلى (21) . إن على شط البحر رجلا هو أعلم منك -قال ابن عباس: هو الخضر-فسأل موسى ربه أن يريه إياه، فأوحى إليه: أن ائت البحر، فإنك تجد على شط البحر حوتًا، فخذه فادفعه إلى فتاك، ثم الزم شط البحر، فإذا نسيت الحوت وهلك منك، فثم تجد العبد الصالح الذي تطلب. فلما طال سفر موسى نبي الله ونصب فيه، سأل فتاه عن الحوت، فقال له فتاه وهو غلامه: { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } لك، قال الفتى: لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سربًا فأعجب ذلك موسى، فرجع حتى أتى الصخرة، فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى، وجعل موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء يتبع (22) الحوت، وجعل الحوت لا يمس شيئًا من البحر إلا يبس، حتى يكون صخرة (23) ، فجعل نبي الله يعجب من ذلك، حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر، فلقي الخضر بها فسلم عليه، فقال الخضر: وعليك السلام، وأنى يكون السلام بهذه (24) الأرض؟ ومن أنت؟ قال: أنا موسى. فقال (25) الخضر: أصاحب بني إسرائيل؟ [قال: نعم] (26) فرحب به وقال: ما جاء (27) بك؟ قال جئتك { عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } يقول: لا تطيق ذلك. قال موسى { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } قال: فانطلق به، وقال له: لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبين لك شأنه، فذلك قوله: { حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا }
وقال الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود عن ابن عباس: أنه تمارى هو
__________
(1) زيادة من ف، أ، والطبري.
(2) في ف، أ: "يلتمسان".
(3) في ت: "فحملوها".
(4) في ت: "خرجاه".
(5) في ف، أ: "حتى إذا أتيا".
(6) في ف، أ: "ولا أبرأ".
(7) في أ :"ولا أضوأ".
(8) في ف: "فأخذ".
(9) في ف: "عليه".
(10) في أ: "زاكية".
(11) في ف: "قد بلغت منى". وهو خطأ.
(12) في ت: "عددت"، وفي أ: "عذرت".
(13) في أ: "رآه".
(14) في أ: "عيبتها".
(15) في ف: "فسلمت منه".
(16) رواه الطبري في تفسيره (15/180).
(17) في ت، ف، أ: "قومه مصر".
(18) في أ: "هن".
(19) في ف: "جبريل عليه السلام إلى موسى عليه السلام"، وفي أ: "جبريل إلى موسى عليه السلام".
(20) زيادة من أ.
(21) في أ: "بل".
(22) في أ: "حتى يتتبع".
(23) في ت: "حتى يكون مثل الحجر".
(24) في أ: "وأني يكون هذا السلام بهذا".
(25) في ف، أ: "فقال له".
(26) زيادة من ف، أ، والطبري.
(27) في أ: "ما حاجتك".

قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)

والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، فقال ابن عباس: هو خضر. فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لُقيه، فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: تعلم مكان رجل أعلم منك؟ قال: لا؛ فأوحى الله إلى موسى بلى عبدنا خضر. فسأل موسى السبيل إلى لُقيّه فجعل الله له الحوت آية وقيل له: إذا فَقَدت (1) الحوت [فهو ثمة] (2) فارجع، فإنك ستلقاه. فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر. فقال فتى موسى لموسى: { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ } قَالَ مُوسَى { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا } فوجدا عبدنا (3) خضرًا فكان من شأنهما ما قص في الله كتابه (4) (5)
{ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) }.
يخبر تعالى عن قيل موسى، عليه السلام لذلك [الرجل] (6) العالم، وهو الخضر، الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى، كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر، { قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ } سؤال بتلطف (7) ، لا على وجه الإلزام والإجبار. وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم. وقوله: { أَتَّبِعُكَ } أي: أصحبك وأرافقك، { عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا } أي: مما علمك الله شيئًا، أسترشد به في أمري، من علم نافع وعمل صالح.
فعندها { قَالَ } الخضر لموسى: { إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } أي: أنت لا تقدرأن تصاحبني لما ترى [منِّي] (8) من الأفعال التي تخالف شريعتك؛ لأني على علم من علم الله، ما علمكه الله، وأنت على علم من علم الله، ما علمنيه الله، فكل منا مكلف بأمور (9) . من الله دون صاحبه، وأنت لا تقدر على صحبتي.
{ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا } فأنا أعرف أنك ستنكر علي ما أنت معذور فيه، ولكنْ ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطلعت أنا عليها دونك.
{ قَالَ } له (10) موسى: { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا } أي: على ما أرى من أمورك، { وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } أي: ولا أخالفك في شيء. فعند ذلك شارطه الخضر { قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ } أي: ابتداءً { حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } أي: حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني.
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب، عن هارون بن عنترة (11) ، عن أبيه، عن ابن
__________
(1) في ت: "بعدت".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "عبدا".
(4) في ت: "كتابه العزيز".
(5) رواه الطبري في تفسيره (15/183).
(6) زيادة من أ.
(7) في ت، ف، أ: "تلطف".
(8) زيادة من أ.
(9) في أ: "مأمور".
(10) في أ: "أي".
(11) في ف: "عرة".

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)

عباس قال: سأل موسى ربه، عز وجل، فقال (1) : رب، أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني. قال فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال أي رب، أي عبادك أعلم؟ قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى. قال: أي رب هل في أرضك (2) أحد أعلم مني؟ قال: نعم. قال: فمن هو؟ قال الخضر. قال: فأين (3) أطلبه؟ قال على الساحل عند الصخرة، التي ينفلت (4) عندها الحوت. قال: فخرج موسى يطلبه، حتى كان ما ذكر الله، وانتهى موسى إليه عند الصخرة، فسلم (5) كل واحد منهما على صاحبه. فقال له موسى: إني أريد أن تصحبني (6) قال إنك لن تطيق (7) صحبتي. قال: بلى. قال: فإن صحبتني { فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } قال: فسار به في البحر (8) حتى انتهى إلى مجمع البحور (9) ، وليس في الأرض (10) مكان أكثر ماء منه. قال: وبعث الله الخطاف، فجعل يستقي منه بمنقاره، فقال لموسى: كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء؟ قال: ما أقل ما رزأ! قال: يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقَدْر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء. وكان موسى قد حدث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه، أو تكلم به، فمن ثم أمر أن يأتي الخضر. وذكر تمام الحديث في خرق السفينة، وقتل الغلام، وإصلاح الجدار، وتفسيره له ذلك.
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) }
يقول تعالى مخبرًا عن موسى وصاحبه، وهو الخضر، أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا، واشترط عليه ألا يسأله عن شيء أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه (11) من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه، فركبا في السفينة. وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة، وأنهم عرفوا الخضر، فحملوهما بغير نول -يعني بغير أجرة-تكرمة للخضر. فلما استقلت بهم السفينة في البحر، ولججت أي: دخلت اللجة، قام الخضر فخرقها، واستخرج لوحًا من ألواحها (12) ثم رقعها. فلم يملك موسى، عليه السلام، نفسه أن قال منكرًا عليه: { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } . وهذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل، كما قال الشاعر (13) لدُوا للْمَوت وابْنُوا للخَرَاب
{ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا } قال مجاهد: منكرًا. وقال قتادة عجبًا. فعندها قال له الخضر مذكرا (14) بما تقدم من الشرط: { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } يعني وهذا الصنيع فعلته (15) قصدًا،
__________
(1) في ت، ف، أ: "فقال أي".
(2) في ت ف، أ: "في الأرض".
(3) في ف، أ: "وأين".
(4) في ت، ف: "يتفلت".
(5) في ت: "وسلم".
(6) في ت: "تستصحبنى".
(7) في ت: "تستطيع".
(8) في ت: "فصار في البحر"، وفي ف، أ: "فسار به إلى البحر".
(9) في ف، أ: "البحرين".
(10) في ت: "في البحر".
(11) في ف، أ: "يبتدئ به".
(12) في ت: "ألواح".
(13) هو أبو العتاهية، والبيت في ديوانه (ص46) أ. هـ. مستفادا من ط-الشعب.
(14) في ت: "مذكورا".
(15) في ت: "عملته".

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)

وهو (1) من الأمور التي اشترطت معك ألا تنكر عليّ فيها، لأنك لم تحط بها خبرًا، ولها داخل هو مصلحة ولم تعلمه (2) أنت.
{ قَالَ } أي موسى: { لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا } أي: لا تضيق عليّ وتُشدد (3) علىّ؛ ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كانت الأولى من موسى نسيانًا".
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) }
__________
(1) في ف: "وهي".
(2) في ت: "تعلم".
(3) في ت، ف: "ولا تشدد".

قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)

{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) }
يقول تعالى: { فَانْطَلَقَا } أي: بعد ذلك، { حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ } وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية من القرى، وأنه عمد إليه من بينهم، وكان أحسنهم وأجملهم وأوضأهم (1) فقتله، فروي أنه احتز رأسه، وقيل: رضخه بحجر. وفي رواية: اقتطفه بيده. والله أعلم.
فلما شاهد موسى، عليه السلام، هذا أنكره أشد من الأول، وبادر فقال: { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً } (2) أي صغيرة لم تعمل الحنث (3) ، ولا حملت إثمًا بعد، فقتلته؟! { بِغَيْرِ نَفْسٍ } أي: بغير مستند لقتله { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا } أي: ظاهر النكارة.
{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } فأكد أيضًا في التذكار بالشرط الأول؛ فلهذا قال له موسى: { إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا } أي: إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة { فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا } أي: قد أعذرت إليّ مرة بعد مرة.
قال ابن جرير: حدثنا عبد الله بن زياد، حدثنا حجاج بن محمد، عن حمزة الزيات، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدًا فدعا له، بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: "رحمة الله علينا وعلى موسى، لو لبث (4) مع صاحبه لأبصر العجب ولكنه قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرًا" [مثقلة] (5) (6) .
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) } .
يقول تعالى مخبرا عنهما: إنهما انطلقا بعد المرتين الأوليين (7) { حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ } روى
__________
(1) في ف: "وأضوأهم".
(2) في ت: "زاكية بغير نفس".
(3) في أ: "الخبث".
(4) في ف، أ: "ثبت".
(5) زيادة من ف، أ، والطبري.
(6) تفسير الطبري (15/186) ورواه أبو داود في السنن برقم (3984) من طريق حمزة الزيات به.
(7) في أ: "الأولتين".

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)

ابن جرير (1) عن ابن سيرين أنها الأيلة (2) وفي الحديث: "حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما" (3) أي: بخلاء { فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } إسناد الإرادة هاهنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة، فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل. والانقضاض هو: السقوط.
وقوله: { فَأَقَامَهُ } أي: فردّه إلى حالة الاستقامة وقد تقدم في الحديث أنه ردّه بيديه، ودعمه حتى رد ميله . وهذا خارق فعند ذلك قال موسى له { لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا } (4) أي: لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي ألا تعمل لهم مجانًا (5)
{ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [أي: لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فهو فراق بيني وبينك] (6) ، { ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ } أي: بتفسير { مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } .
{ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) } .
هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى، عليه السلام، وما كان أنكر ظاهره وقد أظهر الله الخضر، عليه السلام، على (7) باطنة فقال إن: السفينة (8) إنما خرقتها لأعيبها؛ [لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة { يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ } صالحة، أي: جيدة { غَصْبًا } فأردت أن أعيبها] (9) لأرده عنها لعيبها (10) ، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها. وقد قيل: إنهم أيتام.
و [قد] (11) روى ابن جريج (12) عن وهب بن سليمان، عن شعيب الجبائي؛ أن اسم ذلك الملك هُدَدَ (13) بن بُدَدَ، وقد تقدم أيضًا في رواية البخاري، وهو مذكور في التوراة في ذرية "العيص بن إسحاق" وهو من الملوك المنصوص عليهم في التوراة، والله أعلم (14)
{ وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) }
قد تقدم أن هذا الغلام كان اسمه جَيْسُور. وفي الحديث عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرًا". رواه ابن جرير من حديث ابن إسحاق، عن سعيد، عن ابن عباس، به؛ ولهذا قال: { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا }
__________
(1) في أ: "جريج".
(2) في ت: "الأيكة".
(3) رواه أحمد في مسنده (5/119) من طريق أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، رضي الله عنهما.
(4) في ت: "اتخذت" وهو خطأ.
(5) في ت: "يعمل مجانا".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في ت، ف، أ: "على حكمة".
(8) في ت: "فقال له السفينة"، وفي ف: "أما السفينة".
(9) زيادة من ف، أ.
(10) في ت: "لعينها".
(11) زيادة من ف، أ.
(12) في ت: "جرير".
(13) في أ: "هود".
(14) في ف: "فالله أعلم".

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)

أي: يحملهما حبه على متابعته على الكفر.
قال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد،وحزنا عليه حين قتل،ولو بقي كان فيه هلاكهما، فليرض (1) امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه (2) فيما يحب.
وصح في الحديث: "لا يقضي الله للمؤمن قضاء (3) إلا كان خيرًا له". وقال تعالى: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } [البقرة:216] .
وقوله [تعالى] (4) { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا } أي: ولدًا أزكى من هذا، وهما أرحم به منه، قاله ابن جريج.
وقال قتادة: أبر بوالديه.
وقد تقدم أنهما بدلا جارية. وقيل لما قتله الخضر كانت أمه حاملا بغلام مسلم. قاله ابن جريح (5)
{ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) } .
في هذه الآية دليل على إطلاق القرية على المدينة؛ لأنه قال أولا { حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ } [الكهف:77] وقال هاهنا: { فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ } كما قال تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } [محمد:13]، { وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف:31] يعني: مكة والطائف.
ومعنى الآية: أن هذا الجدار (6) إنما أصلحه (7) لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما.
قال عكرمة، وقتادة، وغير واحد: كان تحته مال مدفون لهما. وهذا ظاهر السياق من الآية، وهو اختيار ابن جرير، رحمه الله.
وقال العوفي عن ابن عباس: كان تحته كنز علم. وكذا قال سعيد بن جبير، وقال مجاهد: صحف فيها علم، وقد ورد في حديث مرفوع ما يقوي ذلك، قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا بشر بن المنذر، حدثنا الحارث بن عبد الله الْيَحْصَبيّ عن عياش (8) بن عباس القتباني (9) عن ابن حُجَيرة (10) ، عن
__________
(1) في ت، ف، أ: "فرضى".
(2) في ف: "من قضائه له".
(3) في أ: "للمؤمنين قضاء".
(4) زيادة من ت.
(5) في ت: "ابن جرير".
(6) في ت: "الجار".
(7) في ف: "أصلحته".
(8) في ت، ف، أ: "عباس".
(9) في أ: "الغسانى".
(10) في هـ: "أبي حجيرة" والصواب ما أثبتناه من مسند البزار.

أبي ذر رضي الله عنه، [رفعه] (1) قال: "إن الكنز الذي ذكر (2) الله في كتابه: لوح من ذهب مصمت مكتوب فيه: عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب (3) ؟ وعجبت لمن ذكر النار لم ضَحِك (4) ؟ وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل؟ لا إله إلا الله، محمد رسول الله" (5) .
بشر بن المنذر هذا يقال له: قاضي المصيصة. قال الحافظ أبو جعفر العقيلي: في حديثه وهم (6) .
وقد روي في هذا آثار عن السلف، فقال ابن جرير في تفسيره: حدثني يعقوب، حدثنا الحسن بن حبيب بن ندبة (7) حدثنا سلمة (8) ، عن نعيم العنبري -وكان من جلساء الحسن-قال: سمعت الحسن -يعني البصري-يقول في قوله: { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا } قال: لوح من ذهب مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟ وعجبت لمن يوقن (9) بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
وحدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عبد الله بن عياش (10) عن عُمَر (11) مولى غُفْرَة (12) قال: إن الكنز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف: { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا } قال: كان لوحًا من ذهب مُصْمَت مكتوبا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبٌ لمن عرف النار (13) ثم ضحك! عجبٌ (14) لمن أيقن بالقدر ثم نصب! عجب لمن أيقن بالموت ثم أمن! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وحدثني أحمد بن حازم الغفاري، حدثنا هَنَّادَة بنت مالك الشيبانية قالت: سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله تعالى (15) { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا } قال: سطران ونصف لم يتم الثالث: عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب وعجبت للموقن (16) بالحساب كيف يغفل؟ وعجبت للموقن (17) بالموت كيف يفرح؟ وقد قال تعالى: { وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء:47] قالت: وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، وكان نساجًا.
وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة، وورد به الحديث المتقدم وإن صح، لا ينافي قول عكرمة: أنه كان مالا لأنهم ذكروا أنه كان لوحًا من ذهب، وفيه مال جزيل، أكثر ما زادوا أنه كان مودعًا فيه علم (18) ، وهو حكم ومواعظ، والله أعلم.
وقوله: { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا } فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) في ف، أ: "ذكره".
(3) في ف، أ: "ينصب".
(4) في ت، ف: "يضحك"، وفي أ: "ضحك".
(5) مسند البزار برقم (2229) "كشف الأستار" وقد روى موقوفا من طرق عن ابن عباس وعلى، رضي الله عنهما، لكن أسانيدها ضعيفة.
(6) ميزان الاعتدال (2/325).
(7) في ف، أ: :بدنة".
(8) في ت: "مسلم".
(9) في ت، ف: "يؤمن".
(10) في أ، ف: "بن عباس".
(11) في ف: "عن عمرو".
(12) في ف: "عفرة".
(13) في ت: "عجبت لمن عرف الموت".
(14) في ت: "عجبت".
(15) في ف: "عز وجل".
(16) في ت: "للموقف".
(17) في ت: "للموتى".
(18) في ف: "علما".

عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت السنة به (1) . قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاح، وتقدم أنه كان الأب السابع. [فالله أعلم] (2)
وقوله: { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا } : هاهنا أسند الإرادة إلى الله تعالى؛ لأن بلوغهما الحلم (3) لا يقدر عليه إلا الله؛ وقال في الغلام: { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ } وقال في السفينة: { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا } ، فالله أعلم.
وقوله: { رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } أي: هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة، إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة، ووالدي الغلام، وولدي الرجل الصالح، { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } لكني أمرت به ووقفت عليه، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر، عليه السلام، مع ما تقدم من (4) قوله: { فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } .
وقال آخرون: كان رسولا. وقيل بل كان ملكًا. نقله الماوردي في تفسيره.
وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبيًا. بل كان وليًا. فالله أعلم.
وذكر ابن قتيبة في المعارف أن اسم الخضر بَلْيَا بن مَلْكان بن فالغ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، عليه السلام (5)
قالوا: وكان يكنى أبا العباس، ويلقب بالخضر، وكان من أبناء الملوك، ذكره النووي في تهذيب الأسماء، وحكى هو وغيره في كونه باقيًا إلى الآن ثم إلى يوم القيامة قولين، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه، وذكروا في ذلك حكايات وآثارًا عن السلف وغيرهم وجاء ذكره في بعض الأحاديث. ولا يصح شيء من ذلك، وأشهرها أحاديث (6) التعزية وإسناده ضعيف.
ورجح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك، واحتجوا بقوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } [الأنبياء:34] وبقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" (7) ، وبأنه لم ينقل أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ولا حضر عنده، ولا قاتل معه. ولو كان حيا لكان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم] (8) وأصحابه؛ لأنه عليه السلام (9) كان مبعوثًا إلى جميع الثقلين: الجنّ والإنس، وقد قال: "لو كان موسى وعيسى حَيَّيْن ما (10) وسعهما إلا اتباعي" (11) وأخبر قبل موته بقليل: أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تَطْرفُ، إلى غير ذلك من الدلائل.
__________
(1) في ف: "به السنة".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في ت: "الحكم".
(4) في ف: "في".
(5) المعارف (ص42).
(6) في ت: "حديث".
(7) رواه مسلم في صحيحه برقم (1763) من حديث عمر، رضي الله عنه.
(8) زيادة من ف، أ.
(9) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(10) في ت، ف: "لما".
(11) ذكره ابن أبي العز في شرح الطحاوية في سياقه وعلق عليه الشيخ ناصر الألباني في تخريج الطحاوية بقوله: "كذا الأصل، وكأنه يشير إلى الحديث الذي ذكره شيخه ابن كثير في تفسير سورة الكهف بلفظ: "لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعى". وهو حديث محفوظ، دون ذكر "عيسى" فيه، فإنه منكر عندى لم أره في شيء من طرقه، وهي مخرجة في إراواء الغليل برقم (1589)".

قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك، عن مَعْمَر، عن همام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم [في الخَضر قال] (1) إنما سمي "خضرًا"؛ لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تحته [تهتز] (2) خضراء" (3) .
ورواه أيضًا عن عبد الرزاق. وقد ثبت أيضًا في صحيح البخاري، عن همام، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما سمي الخضِر؛ لأنه جلس على فَرْوَة، فإذا هي تهتز [من خلفه] (4) خضراء" (5)
والمراد بالفروة هاهنا (6) الحشيش اليابس، وهو الهشيم من النبات، قاله عبد الرزاق. وقيل: المراد بذلك وجه الأرض.
وقوله: { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } أي: هذا تفسير ما ضقت به ذرعًا، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء، ولما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل قال: { [ مَا لَمْ] تَسْطِعْ } (7) وقبل ذلك كان الإشكال قويًا ثقيلا فقال: { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } فقابل الأثقل بالأثقل، والأخف بالأخف، كما قال تعالى: { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ } وهو الصعود إلى أعلاه، { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا } [الكهف:97]، وهو أشق من ذلك، فقابل كلا بما يناسبه لفظًا ومعنى والله أعلم.
فإن قيل: فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك؟
فالجواب: أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر وذكر ما كان بينهما، وفتى موسى معه تبع، وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها أنه يوشع بن نون، وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى، عليهما السلام. وهذا يدل على ضعف ما أورده ابن جرير في تفسيره حيث قال: حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة (8) ، حدثني ابن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن أبيه، عن عكرمة قال: قيل لابن عباس: لم نسمع لفتى موسى بذكر من حديث وقد كان معه؟ فقال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى قال: شرب الفتى من الماء [فخلد، فأخذه] (9) العالم، فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر، فإنها تموج به إلى يوم القيامة؛ وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب (10)
إسناد ضعيف، والحسن متروك، وأبوه غير معروف.
__________
(1) زيادة من ف، أ، والمسند.
(2) زيادة من ف، أ، والمسند.
(3) المسند (2/312).
(4) زيادة من ف، أ، والبخاري.
(5) صحيح البخاري برقم (3402).
(6) في ت: "ههنا بالفروة".
(7) زيادة من ف.
(8) في ف: "مسلم".
(9) زيادة من ف، أ، والطبري، وفي هـ: "فحار".
(10) تفسير الطبري (15/182).

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) }

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)

{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) } .
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وَيَسْأَلُونَكَ } يا محمد { عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ } أي: عن خبره. وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألون (1) منهم ما يمتحنون به النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سلوه عن رجل طواف في الأرض، وعن فتية لا يدرى ما صنعوا، وعن الروح، فنزلت سورة الكهف.
وقد أورد ابن جرير هاهنا، والأموي في مغازيه، حديثا أسنده وهو ضعيف، عن عقبة بن عامر، أن نفرًا من اليهود جاؤوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، فأخبرهم بما جاؤوا له ابتداء، فكان فيما أخبرهم به: "أنه كان شابا (2) من الروم، وأنه بنى الإسكندرية، وأنه علا به ملك في السماء، وذهب به إلى السد، ورأى أقوامًا وجوههم مثل وجوه الكلاب". وفيه طول ونكارة، ورفعه لا يصح، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل. والعجب أن أبا زُرْعَة الرازي، مع جلالة قدره، ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة، وذلك غريب منه، وفيه من النكارة أنه من الروم، وإنما الذي كان من الروم الإسكندر الثاني ابن فيليبس المقدوني، الذي تؤرخ به الروم، فأما الأول فقد ذكره الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل، عليه السلام، أول ما بناه وآمن به واتبعه، وكان معه (3) الخضر، عليه السلام، وأما الثاني فهو، إسكندر بن فيليبس المقدوني اليوناني، وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف المشهور، والله أعلم. وهو الذي تؤرخ به من مملكته ملة الروم. وقد كان قبل المسيح، عليه السلام، بنحو من ثلثمائة سنة، فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل، كما ذكره الأزرقي وغيره، وأنه طاف مع الخليل بالبيت العتيق لما بناه إبراهيم، عليه السلام، وقرب إلى الله قربانًا، وقد ذكرنا طرفًا (4) من أخباره في كتاب "البداية والنهاية" (5) ، بما فيه كفاية ولله الحمد.
وقال وهب بن منبه: كان ملكًا، وإنما سمي ذا القرنين لأن؛ صفحتي رأسه كانتا من نحاس، قال: وقال بعض أهل الكتاب: لأنه ملك الروم وفارس. وقال بعضهم: كان في رأسه شبه القرنين، وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل قال: سئل علي، رضي الله عنه، عن ذي القرنين، فقال: كان عبدًا ناصحَ الله فناصَحَه، دعا قومه إلى الله فضربوه (6) على قرنه فمات، فأحياه الله، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فسمي ذا القرنين.
وكذا رواه شعبة، عن القاسم بن أبي بَزَّة عن أبي الطفيل، سمع عليًا يقول ذلك.
ويقال: إنه إنما سمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ المشارق والمغارب، من حيث يطلع (7) قرن الشمس ويغرب.
وقوله { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ } أي: أعطيناه ملكًا عظيمًا متمكنًا، فيه له من جميع ما يؤتى (8) الملوك، من التمكين والجنود (9) ، وآلات الحرب والحصارات؛ ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العباد، وخدمته الأمم، من العرب والعجم؛ ولهذا ذكر
__________
(1) في ت: "يسألونك".
(2) في ت: "ماشيا".
(3) في أ: "وكان وزيره".
(4) في ف، أ: "طرفا صالحا".
(5) البداية والنهاية (2/95).
(6) في ت، ف، أ: "فضرب".
(7) في ت، ف: "تطلع".
(8) في ف: "تؤتى".
(9) في ف: "من الجنود والتمكن".

بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها.
وقوله: { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } : قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والسدي، وقتادة، والضحاك، وغيرهم: يعني علمًا.
وقال قتادة أيضًا في قوله: { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } قال: منازل الأرض وأعلامها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } قال: تعليم الألسنة، كان لا يغزو قومًا إلا كلمهم بلسانهم.
وقال ابن لَهيعة: حدثني سالم بن غَيْلان، عن سعيد بن أبي هلال؛ أن معاوية بن أبي سفيان قال (1) لكعب الأحبار: أنت تقول: إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا؟ فقال له كعب: إن كنت قلت ذلك، فإن الله تعالى قال: { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } .
وهذا الذي أنكره معاوية، رضي الله عنه، على كعب الأحبار هو الصواب (2) ، والحق مع معاوية في الإنكار؛ فإن معاوية كان يقول عن كعب: "إن كنا لنبلو (3) عليه الكذب" يعني: فيما ينقله، لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحيفته (4) ، ولكن الشأن في صحيفته (5) ، أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق (6) ولا حاجة لنا مع خبر الله ورسول الله [صلى الله عليه وسلم] (7) إلى شيء منها بالكلية، فإنه دخل منها على الناس شر كثير (8) وفساد عريض. وتأويل كعب قول الله: { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحيفته من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق؛ فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك، ولا إلى الترقي (9) في أسباب السموات. وقد قال الله في حق بلقيس: { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } [النمل: 23] أي: مما يؤتى مثلها من الملوك، وهكذا ذو القرنين يسر الله له الأسباب، أي: الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرَّسَاتيق والبلاد والأراضي وكسر الأعداء، وكبت ملوك الأرض، وإذلال أهل الشرك. قد أوتي من كل شيء مما (10) يحتاج إليه مثله سببًا، والله أعلم.
وفي "المختارة" للحافظ الضياء المقدسي، من طريق قتيبة، عن أبي عوانة عن سماك بن حرب، عن حبيب بن حماز (11) قال: كنت عند علي، رضي الله عنه، وسأله رجل عن ذي القرنين: كيف بلغ المشارق والمغارب؟ فقال سبحان الله سخر له السحاب، وقَدَّر له الأسباب، وبسط له اليد (12) .
__________
(1) في ت: "يقول".
(2) في أ: "الطنوب".
(3) في أ: "لنتلو".
(4) في ف، أ: "صحفه".
(5) في ف، أ: "صحفه".
(6) في أ: "مخلق".
(7) زيادة من ف، أ.
(8) في ت: "كبير".
(9) في ف: "الرقى".
(10) في أ: "ما".
(11) في ت، ف، أ: "حماد".
(12) المختارة برقم (409).

فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)

{ فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) } .
قال ابن عباس: { فَأَتْبَعَ سَبَبًا } يعني: بالسبب المنزل] (1) . وقال مجاهد: { فَأَتْبَعَ سَبَبًا } : منزلا وطريقًا ما بين المشرق والمغرب.
وفي رواية عن مجاهد: { سَبَبًا } قال: طريقا في (2) الأرض.
وقال قتادة: أي أتبع منازل الأرض ومعالمها (3) .
وقال الضحاك: { فَأَتْبَعَ سَبَبًا } أي: المنازل (4) .
وقال سعيد بن جبير في قوله: { فَأَتْبَعَ سَبَبًا } قال: علمًا. وهكذا قال عكرمة وعبيد بن يعلى، والسدي.
وقال مطر: معالم وآثار كانت قبل ذلك.
وقوله: { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } أي: فسلك طريقًا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض. وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدّة والشمس تغرب من ورائه فشيء لا حقيقة له. وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب، واختلاق (5) زنادقتهم وكذبهم (6)
وقوله: { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } أي: رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه، وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه (7) .
والحمئة مشتقة على إحدى القراءتين (8) من "الحمأة" وهو الطين، كما قال تعالى: { إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ } [الحجر: 28] أي: طين أملس (9) . وقد تقدم بيانه.
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب (10) حدثنى نافع بن أبي نعيم، سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول: كان ابن عباس يقول (11) { فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } ثم فسرها: ذات حمأة. قال نافع: وسئل عنها كعب الأحبار فقال: أنتم أعلم بالقرآن مني، ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء (12) .
وكذا روى غير واحد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وغير واحد.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا محمد بن دينار، عن سعد (13) بن أوس، عن مِصْدَع، عن ابن
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في هـ، ت، ف: "طرفي"، والمثبت من الطبري،أ.
(3) في ت: "ومغاربها".
(4) في ت: "المنزل".
(5) في ت: "واختلاف".
(6) في ف: "وكذبتهم".
(7) في ت: "يفارقه".
(8) في ت: "على أحد الروايتين".
(9) في ت: "إبليس".
(10) في ت: "حدثنا وهب".
(11) في ف، أ: "يقرأ".
(12) تفسير الطبري (16/10).
(13) في ت: "سعيد".

عباس، عن أبيّ بن كعب؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه { حَمِئَةٍ } (1)
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "وجدها تغرب في عين حامية" يعني: حارة. وكذا قال الحسن البصري.
وقال ابن جرير: والصواب أنهما قراءتان مشهورتان وأيهما قرأ القارئ فهو مصيب (2) .
قلت: ولا منافاة بين معنييهما، إذ قد تكون حارة لمجاورتها وَهْج الشمس عند غروبها، وملاقاتها الشعاع بلا حائل و { حَمِئَةٍ } في ماء وطين أسود، كما قال كعب الأحبار وغيره.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا (3) العوام، حدثني مولى لعبد الله بن عمرو، عن عبد الله قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت، فقال: "في نار الله الحامية [في نار الله الحامية] (4) ، لولا ما يزعها من أمر الله، لأحرقت ما على الأرض".
قلت: ورواه الإمام أحمد، عن يزيد بن هارون (5) . وفي صحة رفع هذا الحديث نظر، ولعله من كلام عبد الله بن عمرو، من زاملتيه اللتين وجدهما يوم اليرموك، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا حجاج بن حمزة، حدثنا محمد -يعني ابن بشر-حدثنا عمرو بن ميمون، أنبأنا ابن حاضر، أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف "تغرب في عين حامية" قال ابن عباس لمعاوية ما نقرؤها (6) إلا { حَمِئَةٍ } فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرؤها: فقال عبد الله: كما قرأتها. قال ابن عباس: فقلت لمعاوية: في بيتي نزل القرآن؟ فأرسل إلى كعب فقال له: أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ [فقال له كعب: سل أهل العربية، فإنهم أعلم بها، وأما أنا فإني أجد الشمس تغرب في التوراة] (7) في ماء وطين. وأشار بيده إلى المغرب. قال ابن حاضر: لو أني عندكما أفدتك (8) بكلام تزداد فيه بصيرة في حمئة. قال ابن عباس: وإذًا ما هو؟ قلت: فيما يؤثر من قول تُبَّع، فيما ذكر به ذا القرنين في تخلقه بالعلم واتباعه إياه:
بَلَغَ المشَارقَ والمغَارِبَ يَبْتَغِي أسْبَابَ أمْرٍ مِنْ (9) حَكِيمٍ مُرْشِد
فَرَأى مَغِيبَ (10) الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبها ... فِي عَيْنِ ذِي خُلب وَثأط (11) حَرْمَدِ (12) (13)
قال (14) ابن عباس: ما الخُلَب؟ قلت: الطين بكلامهم. [يعنى بكلام حمير] (15) . قال: ما الثاط؟
__________
(1) مسند الطيالسى برقم (536).
(2) في ت: "المصيب".
(3) في ت: "حدثنا".
(4) زيادة من ف، أ، والطبري.
(5) المسند (2/207).
(6) في ت: "تقرأها".
(7) زيادة من ف، أ، والطبري.
(8) في أ: "لأفدتك".
(9) في ت: "من أمر".
(10) في ت أ: "فوجد مغاب". وفي ف: "فرأى مغاب".
(11) في أ: "وأناط".
(12) في ت: "وقاص"، وفي ف: "وناط".
(13) البيتان في لسان العرب، مادة (ثأط) وهما لأمية بن أبي الصلت.
(14) في ف: "فقال".
(15) زيادة من ت، ف.

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)

قلت: الحمأة. قال: فما الحرْمَد؟ قلت: الأسود. قال: فدعا ابن عباس رجلا أو غلامًا فقال: اكتب ما يقول هذا الرجل.
وقال سعيد بن جبير: بينا ابن عباس يقرأ سورة الكهف فقرأ: { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } فقال كعب: والذي نفس كعب بيده ما سمعت أحدًا يقرؤها كما أنزلت في التوراة غير ابن عباس، فإنا نجدها في التوراة: تغرب في مدرة سوداء.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا هشام بن يوسف قال: في تفسير ابن جريج { وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا } قال: مدينة لها اثنا عشر ألف باب، لولا أصوات أهلها لسمع الناس وُجُوب الشمس حين تجب.
وقوله: { وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا } أي: أمة من الأمم، ذكروا أنها كانت أمة عظيمة من بني آدم.
وقوله: { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا } معنى هذا: أن الله تعالى مكنه منهم (1) وحكمه فيهم، وأظفره بهم (2) وخيره: إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منّ أو فدى (3) . فعرف عدله وإيمانه فيما أبداه عدله وبيانه (4)
في قوله: { أَمَّا مَنْ ظَلَمَ } أي: من استمر على كفره وشركه بربه { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } قال قتادة: بالقتل: وقال السدي: كان يحمي لهم بقر النحاس ويضعهم فيها (5) حتى يذوبوا. وقال وهب بن منبه: كان يسلط الظلمة، فتدخل أفوافهم وبيوتهم، وتغشاهم من جميع جهاتهم والله أعلم.
وقوله: (6) { ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا } أي: شديدًا بليغًا وجيعًا أليمًا. وفيه (7) إثبات المعاد والجزاء.
وقوله: { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ } أي: تابعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له { فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى } أي: في الدار الآخرة عند الله، عز وجل، { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا } قال مجاهد: معروفًا.
{ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) } .
يقول: ثم سلك طريقًا فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها (8) ، وكان كلما مرّ بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عز وجل، فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم، واستباح أموالهم، وأمتعتهم واستخدم من كل أمة ما يستعين به مع جيوشه على أهل (9) الإقليم المتاخم لهم. وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفا وستمائة سنة يجوب (10) الأرض طولها والعرض (11) حتى بلغ المشارق والمغارب. ولما انتهى إلى مطلع الشمس من الأرض كما قال الله تعالى: { وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ }
__________
(1) في ت: "فيهم".
(2) في ت: "وأظفره عليهم"، وفي ف، أ: "وأظهره عليهم".
(3) في ف، أ: "وافتدى".
(4) في ت: "وثباته".
(5) في ف: "فيه".
(6) في ت: "فقوله".
(7) في أ: "زفي هذا".
(8) في ت: "من مطلع الشمس إلى مغربها".
(9) في أ: "قتال".
(10) في ف، أ: "يخرب".
(11) في ف، أ: "طولها وعرضها".

أي: أمة { لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا } أي: ليس لهم بناء يكنهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس.
قال سعيد بن جبير: كانوا حُمرًا قصارًا، مساكنهم الغيران، أكثر معيشتهم من السمك.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا سهل (1) بن أبي الصلت، سمعت الحسن وسئل عن قوله تعالى: { لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا } قال: إن أرضهم (2) لا تحمل البناء فإذا طلعت الشمس تغوروا (3) في المياه، فإذا غربت خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم. قال (4) الحسن: هذا حديث سمرة (5) .
وقال قتادة: ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئًا، فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب، حتى إذا زالت (6) الشمس خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم.
وعن سلمة بن كُهَيْل أنه قال: ليس لهم أكنان، إذا طلعت الشمس طلعت عليهم، فلأحدهم أذنان يفترش إحداهما (7) ويلبس الأخرى.
قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: { وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا } قال: هم الزنج (8) .
وقال ابن جريج في قوله: { وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا } قال: لم يبنوا فيها بناء قط، ولم يبن عليهم فيها بناء قط، كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسرابًا لهم (9) حتى تزول الشمس، أو دخلوا البحر، وذلك أن أرضهم ليس فيها (10) جبل، جاءهم جيش مرة فقال لهم أهلها: لا تطلعن عليكم الشمس وأنتم بها. قالوا: لا نبرح حتى تطلع الشمس، ما هذه العظام؟ قالوا: هذه جيفُ جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فماتوا. قال: فذهبوا هاربين في الأرض.
وقوله: { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا } قال مجاهد، والسدي: علمًا، أي: نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه، لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض، فإنه تعالى: { لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ } [آل عمران: 5]
__________
(1) في أ: "سهيل".
(2) في ت: "أرضيكم".
(3) في ت: "فقعدوا"، وفي أ: "يغوروا".
(4) في ت، ف: "فقال".
(5) ورواه الطبري في تفسيره (16/12) من طريق إبراهيم بن المستمر، عن أبي داود به.
(6) في ت: "غربت".
(7) في ف، أ: "واحدة".
(8) تفسير عبد الرزاق (1/346).
(9) في ت: "أسرابا بهم".
(10) في أ: "بها".

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)

{ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) }
يقول تعالى مخبرًا عن ذي القرنين: { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا } أي: ثم سلك طريقًا من مشارق الأرض. { حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } وهما جبلان متناوحان بينهما ثُغْرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك، فيعيثون فيهم فسادًا، ويهلكون الحرث والنسل، ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم، عليه السلام، كما ثبت في الصحيحين: "إن الله تعالى يقول: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك. فيقول: ابعث بَعْثَ النار. فيقول: وما بَعْثُ النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة؟ فحينئذ يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، فيقال: إن فيكم أمّتين، ما كانتا في شيء إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج" (1) .
وقد حكى النووي (2) ، رحمه الله، في شرح "مسلم" عن بعض الناس: أن يأجوج ومأجوج خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب، فخلقوا من ذلك (3) فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم، وليسوا من حواء. وهذا قول غريب جدًا، [ثم] (4) لا دليل عليه لا من عقل ولا [من] (5) نقل، ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب، لما عندهم من الأحاديث (6) المفتعلة، والله أعلم.
وفي مسند (7) الإمام أحمد، عن سَمُرَة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وَلَدُ نوح ثلاثة: سام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك" (8) . قال بعض العلماء: هؤلاء من نسل يافث أبي الترك، قال: [إنما (9) سموا هؤلاء تركًا؛ لأنهم تركوا من وراء السد من (10) هذه الجهة، وإلا فهم أقرباء أولئك، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة (11) . وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبه أثرًا طويلا عجيبًا في سير ذي القرنين، وبنائه السد، وكيفية ما جرى له، وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم، [وطولهم] (12) وقصر بعضهم، وآذانهم (13) . وروى ابن أبي حاتم أحاديث غريبة في ذلك لا تصح (14) أسانيدها، والله أعلم.
وقوله: { وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا } [أي] (15) : لاستعجام كلامهم وبعدهم
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6530) وصحيح مسلم برقم (222) من حديث أبي سعيد، رضي الله عنه.
(2) في أ: "النواوي".
(3) شرح النووي (3/97).
(4) زيادة من ف، أ.
(5) زيادة من ت، ف.
(6) في ت: "من الأكاذيب".
(7) في ف، أ: "المسند".
(8) المسند (5/9).
(9) في أ: "وإنما".
(10) في أ: "فمن".
(11) في أ: "وجرأة".
(12) زيادة من ف، أ.
(13) تفسير الطبري (16/14).
(14) في ف، أ: "لا يصح".
(15) زيادة من ف، أ.

عن الناس.
{ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا } قال ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس: أجرًا عظيمًا، يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالا يعطونه إياه، حتى يجعل بينهم وبينهم سدًا. فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير: { مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } أي: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين (1) خير لي من الذي تجمعونه، كما قال سليمان عليه السلام: { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } [النمل: 36] وهكذا قال ذو القرنين: الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه، ولكن ساعدوني { بِقُوَّةٍ } أي: بعملكم وآلات البناء، { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ } والزبر: جمع زُبْرَة، وهي القطعة منه، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. وهي كاللبنة (2) ، يقال: كل لبنة [زنة] (3) قنطار بالدمشقي، أو تزيد عليه.
{ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ } أي: وضع بعضه على بعض من الأساس حتى إذا حاذى به رءوس الجبلين طولا وعرضًا. واختلفوا في مساحة عرضه وطوله على أقوال. { قَالَ انْفُخُوا } أي: أجج (4) عليه النار حتى صار كله نارًا، { قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا } قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، والسُّدي: هو النحاس. وزاد بعضهم: المذاب. ويستشهد بقوله تعالى: { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ } [سبأ: 12] ولهذا يشبه (5) بالبرد المحبر.
قال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا قال: يا رسول الله، قد رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال: "انعته لي" قال: كالبرد المحبر، طريقة سوداء. وطريقة حمراء. قال: "قد رأيته". هذا حديث مرسل. (6)
وقد بعث الخليفة الواثق في دولته بعض أمرائه، ووجه (7) معه جيشًا سرية، لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا. فتوصلوا من بلاد إلى بلاد، ومن مُلْك إلى مُلْك، حتى وصلوا إليه، ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس، وذكروا أنهم رأوا فيه بابًا عظيمًا، وعليه (8) أقفال عظيمة، ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك. وأن عنده حرسًا (9) من الملوك المتاخمة له، وأنه منيف عال (10) ، شاهق، لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال. ثم رجعوا إلى بلادهم، وكانت غيبتهم أكثر من سنتين،
__________
(1) في أ: "والتمكن".
(2) في أ: "اللبنة".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ف: "أججوا".
(5) في أ: "شبه".
(6) وقد روي موصولا من طرق: فرواه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف (2/312) من طريق أبي الجماهر -سعيد بن بشير- عن قتادة، عن رجل، عن أبي بكرة الثقفى: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنى قد رأيته، فذكر نحوه. ورواه البزار في مسنده كما في تخريج الكشاف (2/313) من طريق عبد الملك بن أبي نعامة عن يوسف بن أبي مريم، عن أبي بكرة بنحوه مطولا. ورواه ابن مردويه أيضا من طريق سفيان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن رجل من أهل المدينة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
(7) في ف، أ: "وجهز".
(8) في ت: "وعلى".
(9) في ف، أ: "سرحا".
(10) في ت، ف، أ: "عال منيف".

فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)

وشاهدوا أهوالا وعجائب.
ثم قال الله تعالى:
{ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) }

قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)

{ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) } .
يقول تعالى مخبرًا عن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا على أن يصعدوا (1) فوق هذا السد ولا قدروا على نقبه من أسفله. ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلا بما يناسبه فقال: { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا } وهذا دليل على أنهم لم (2) يقدروا على نقبه، ولا على شيء منه.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا روح، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، حدثنا أبو رافع، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدًا فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس (3) [حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس] (4) قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدًا إن شاء الله. ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئته (5) حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون (6) على الناس، فينشفون المياه، ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء، [فترجع وعليها هيئة الدم، فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء] (7) . فيبعث الله عليهم نغفا (8) في أقفائهم، فيقتلهم بها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، إن دواب الأرض لتسمن، وتشكر شكرًا من لحومهم ودمائهم" (9) .
ورواه أحمد أيضًا عن حسن -هو ابن موسى الأشيب-عن سفيان، عن قتادة، به (10) . وكذا رواه (11) ابن ماجه، عن أزهر بن مروان، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة قال: حدث رافع. وأخرجه الترمذي، من حديث أبي عوانة، عن قتادة (12) . ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
__________
(1) في ف، أ: "يصعدوا من".
(2) في ت: "لا".
(3) في أ: "على النار".
(4) زيادة من ف، أ، والمسند.
(5) في أ: "كهيئة".
(6) في ت: "ويخرجونهم".
(7) زيادة من ف، أ، والمسند.
(8) في أ: "نغيفا".
(9) المسند (2/510).
(10) المسند (2/511).
(11) في أ: "رواه الإمام".
(12) سنن ابن ماجة برقم (4080) وسنن الترمذي برقم (3153).

وهذا إسناده قوي، ولكن في (1) رفعه نكارة؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه، لإحكام بنائه وصلابته وشدته. ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار: أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه (2) إلا القليل، فيقولون: غدًا نفتحه. فيأتون من الغد وقد عاد كما كان، فيلحسونه حتى لا يبقى منه (3) إلا القليل، فيقولون كذلك، ويصبحون وهو كما كان، فيلحسونه ويقولون: غدًا نفتحه. ويلهمون أن يقولوا: "إن شاء الله"، فيصبحون وهو كما فارقوه، فيفتحونه. وهذا مُتَّجه، ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب. فإنه كثيرًا ما كان يجالسه (4) ويحدثه، فحدث به أبو هريرة، فتوهم (5) بعض الرواة عنه أنه مرفوع، فرفعه، والله أعلم.
ويؤكد ما قلناه (6) -من أنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا نقب شيء منه، ومن نكارة هذا المرفوع-قول الإمام أحمد:
حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن [زينب بنت أبي سلمة، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان، عن أمها أم حبيبة، عن] (7) زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم -قال سفيان: أربع نسوة-قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه. وهو محمر وجهه، وهو يقول: "لا إله إلا الله! ويل للعرب (8) من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا". وحَلَّق. قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث".
هذا حديث صحيح، اتفق البخاري ومسلم على إخراجه، من حديث الزهري (9) ، ولكن سقط في رواية البخاري ذكر حبيبة، وأثبتها مسلم. وفيه أشياء (10) عزيزة نادرة قليلة الوقوع في صناعة (11) الإسناد، منها رواية الزهري عن عروة، وهما تابعيان ومنها (12) اجتماع أربع نسوة في سنده، كلهن يروي بعضهن عن بعض. ثم كل منهن صحابية (13) ، ثم ثنتان ربيبتان وثنتان زوجتان، رضي الله عنهن.
وقد روي نحو هذا عن أبي هريرة أيضًا، فقال البزار: حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا مُؤمَّل بن إسماعيل، حدثنا وهيب (14) ، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فُتِح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا" وعقد التسعين. وأخرجه البخاري ومسلم من حديث وهيب (15) ، به (16) .
__________
(1) في ف ، أ : "ولكن متنه في" .
(2) في ف: "فيه".
(3) في ف، أ: "فيه".
(4) في ت: "كان كثيرا ما يجالسه".
(5) في ت: "فيقرهم".
(6) في أ: "قلنا".
(7) زيادة من ف، أ، والمسند.
(8) في ت: "للغريب".
(9) المسند (6/428) وصحيح البخاري برقم (7135) وصحيح مسلم برقم (2880).
(10) في أ: "منهم صاحبيه".
(11) في ت: "صياغة".
(12) في أ: "وفيما".
(13) في أ: "منهم صاحبية".
(14) في ت: "وهب".
(15) في ت: "وهب".
(16) صحيح البخاري برقم (7136) وصحيح مسلم برقم (2881).

وقوله: { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } أي: لما بناه ذو القرنين { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } أي: بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم من العيث (1) في الأرض والفساد. { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي } أي: إذا اقترب الوعد الحق { جَعَلَهُ دَكَّاءَ } أي: ساواه (2) بالأرض. تقول العرب: ناقة دكاء: إذا كان ظهرها مستويًا لا سنام لها. وقال تعالى: { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } [الأعراف: 143] أي: مساويًا للأرض (3) .
وقال عكرمة في قوله: { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ } قال: طريقًا كما كان.
{ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا } أي: كائنًا لا محالة.
وقوله: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ [ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ] } (4) أي: الناس يومئذ أي: يوم يدك (5) هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم، وهكذا قال السدي في قوله: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } قال: ذاك حين يخرجون على الناس. وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال، كما سيأتي بيانه [إن شاء الله تعالى] (6) عند قوله: { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } [الأنبياْ: 96 ، 97] وهكذا قال هاهنا: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا } قال ابن زيد في قوله: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } قال: هذا أول يوم القيامة، { وَنُفِخَ (7) فِي الصُّورِ } على أثر ذلك { فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا } .
وقال آخرون: بل المراد بقوله: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } أي: يوم القيامة يختلط الإنس والجن.
وروى ابن جرير، عن محمد بن حميد، عن يعقوب القمي (8) عن هارون بن عنترة، عن شيخ من بني فزارة (9) في قوله: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } قال: إذا ماج الإنس والجن قال إبليس: أنا أعلم لكم علم هذا الأمر. فيظعن إلى المشرق فيجد الملائكة قد بطنوا (10) الأرض، ثم يظعن إلى المغرب فيجد الملائكة بطنوا (11) الأرض فيقول: "ما من محيص". ثم يظعن يمينًا وشمالا إلى أقصى الأرض فيجد الملائكة بطنوا (12) الأرض فيقول: "ما من محيص" فبينما هو كذلك، إذ عرض له طريق كالشراك، فأخذ عليه هو وذريته، فبينما هم عليه إذ هجموا على النار، فأخرج الله خازنًا من خزان النار، فقال: يا إبليس، ألم تكن لك المنزلة عند ربك؟! ألم تكن في الجنان؟! فيقول: ليس هذا يوم عتاب، لو أن الله فرض عليّ فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من
__________
(1) في أ: "العبث".
(2) في ت، أ: "واساه".
(3) في ت: "الأرض".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ت: "بذكر".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في ت: "ينفخ".
(8) في أ: "العمى".
(9) في أ: "قرارة".
(10) في أ: "قد تطبقوا".
(11) في أ: "قد تطبقوا".
(12) في أ: "قد تطبقوا".

خلقه. فيقول: فإن الله قد فرض عليك فريضة. فيقول: ما هي؟ فيقول: يأمرك أن تدخل النار. فيتلكأ عليه، فيقول به وبذريته بجناحيه فيقذفهم في النار. فتزفر النار (1) زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مُرسل إلا جثا لركبتيه (2)
وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به. رواه من وجه آخر عن يعقوب، عن هارون عن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } قال: الجن الإنس، يموج بعضهم في بعض.
وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصفهاني (3) ، حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا المغيرة بن مسلم، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا، وإن من ورائهم ثلاث أمم: تاويل، وتايس (4) ومنسك". (5) هذا حديث غريب بل منكر ضعيف.
وروى النسائي من حديث شعبة عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن أبيه، عن جده أوس بن أبي أوس مرفوعًا: "إن يأجوج ومأجوج لهم نساء، يجامعون ما شاؤوا، وشجر يلقحون ما شاؤوا، ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا" (6)
وقوله: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ } : والصور كما جاء في الحديث: "قرن ينفخ" فيه والذي ينفخ فيه إسرافيل، عليه السلام، كما قد تقدم في الحديث بطوله، والأحاديث فيه كثيرة.
وفي الحديث عن عطية، عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعًا: "كيف أنعم، وصاحب القَرْن قد التقم القَرْن، وحنى جبهته واستمع متى يؤمر". قالوا: كيف نقول؟ قال: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا" (7)
وقوله { فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا } أي: أحضرنا الجميع للحساب { قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [الواقعة: 49 ، 50]، { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } [الكهف: 47]
__________
(1) في أ: "جهنم".
(2) تفسير الطبري (16/23).
(3) في ف، أ: "الأصبهاني".
(4) في ت، ف: "تاريس".
(5) الحديث في مسند الطيالسى برقم (2282) وقال الهيثمي في المجمع (8 / 6): "رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات".
تنبيه: وقع في مجمع الزوائد "تاول وتاريس ومنسك" وعند الطسالسى "تاويل وتاريس وتارليس ومنسك" وفي المطالب العالية "تاويل وتاريس وناسك".
(6) سنن النسائي الكبرى برقم (11334).
(7) رواه الترمذي في السنن برقم (2431) وقال: "هذا حديث حسن".

وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)

{ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نزلا (102) }
يقول تعالى مخبرًا عما يفعله بالكفار يوم القيامة: أنه يعرض عليهم جهنم، أي: يبرزها لهم ويظهرها، ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها، ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم.
وفي صحيح مسلم، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زِمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك [يجرونها] (1) (2)
ثم قال مخبرًا عنهم: { الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي } أي: تعاموا وتغافلوا وتصاموا (3) عن قبول الهدى واتباع الحق، كما قال تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [الزخرف: 36] وقال هاهنا: { وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } أي: لا يعقلون عن الله أمره ونهيه.
ثم قال { أَفَحَسِبَ (4) الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ } أي: اعتقدوا أنهم يصح لهم ذلك، وينتفعون بذلك؟ { كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [مريم: 82] ؛ ولهذا أخبر أنه قد أعدّ لهم جهنم يوم القيامة منزلا.
{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) } .
قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عَمْرو، عن مُصْعَب قال: سألت أبي -يعني سعد بن أبي وقاص-: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا } أهم الحَرُورية؟ قال: لا هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى كفروا بالجنة، وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب. والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه. وكان سعد رضي الله عنه، يسميهم الفاسقين (5) .
__________
(1) زيادة من ف، أ، ومسلم.
(2) صحيح مسلم برقم (2842).
(3) في أ: "تصامموا".
(4) في ت: "أفحسبتم" وهو خطأ.
(5) صحيح البخاري برقم (4728).

وقال علي بن أبي طالب (1) والضحاك، وغير واحد: هم الحرورية.
ومعنى هذا عن علي، رضي الله عنه: أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء (2) بل هي أعم من هذا؛ فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل (3) وجود الخوارج بالكلية، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول، وهو مخطئ، وعمله مردود، كما قال تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً } [الغاشية: 2-4] وقوله (4) تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان: 23] وقال تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } [النور: 39] .
وقال في هذه الآية الكريمة: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ } أي: نخبركم { بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا } ؟ ثم فسرهم فقال: { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي: عملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة، { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } أي" يعتقدون أنهم على شيء، وأنهم مقبولون محبوبون.
وقوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } أي: جحدوا آيات الله في الدنيا، وبراهينه التي أقام على وحدانيته، وصدق رسله، وكذبوا بالدار الآخرة، { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } أي: لا نثقل موازينهم؛ لأنها خالية عن الخير (5) .
قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا المغيرة، حدثني أبو الزَّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين (6) يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة" وقال: "اقرؤوا إن شئتم: { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } .
وعن يحيى بن بُكَيْر، عن مغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، مثله (7) .
هكذا ذكره عن يحيى بن بكير معلقا (8) . وقد رواه مسلم عن أبي بكر محمد بن إسحاق، عن يحيى بن بكير، به (9) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن صالح مولى التَّوْأمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم، فيوزن بحبة فلا يزنها". قال: وقرأ: { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا }
وكذا رواه ابن جرير، عن أبي كريب، عن أبي الصلت، عن أبي الزناد، عن صالح مولى
__________
(1) في ت: "طلحة".
(2) في أ: "هو".
(3) في ت: "وقيل".
(4) في ت، ف، أ: "وقال".
(5) في ت: "من الخير".
(6) في ت: "السمين العظيم".
(7) صحيح البخاري برقم (4729).
(8) في ت: "مغلقا".
(9) صحيح مسلم برقم (2785).

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)

التوأمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعًا (1) فذكره بلفظ البخاري سواء.
وقال أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار: حدثنا العباس بن محمد، حدثنا عون بن عُمَارة (2) حدثنا هشام بن حسان، عن واصل، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له. فلما قام على النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بريدة، هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنًا" (3) .
ثم قال: تفرّد به واصل مولى أبي عنبسة (4) وعون (5) بن عُمَارة (6) وليس بالحافظ، ولم يتابع عليه. وقد قال ابن جرير أيضًا: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن شمر (7) عن أبي يحيى، عن كعب قال: يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرؤوا: { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } (8) .
وقوله: { ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا } أي: إنما جازيناهم بهذا الجزاء جهنم، بسبب كفرهم واتخاذهم آيات الله ورسله هزوًا، استهزءوا بهم، وكذبوهم أشد التكذيب.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نزلا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا (108) }
يخبر تعالى عن عباده السعداء، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوهم فيما جاؤوا به بأن لهم جنات الفردوس.
قال مجاهد: الفردوس هو: البستان بالرومية.
وقال كعب، والسدي، والضحاك: هو البستان الذي فيه شجر الأعناب.
وقال أبو أمامة (9) الفردوس: سرة (10) الجنة.
وقال قتادة: الفردوس: ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها.
وقد روي هذا مرفوعًا من حديث سعيد بن بشير (11) ، عن قتادة، عن الحسن، عن سَمُرَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الفردوس (12) ربوة الجنة، أوسطها وأحسنها" (13)
__________
(1) تفسير الطبري (16/29).
(2) في ت: "عامر".
(3) مسند البزار برقم (2956) "كشف الأستار".
(4) في ت: "مولى عن عبيد"، وفي ف، أ: "مولى أبي عيينة".
(5) في ف، أ: "وعنه عون".
(6) في ت: "عامر".
(7) في ت: "سمرة".
(8) تفسير الطبري (16/29)" .
(9) في ت: "أسامة".
(10) في ت: "شجرة".
(11) في ف، أ: "بشر".
(12) في ت: "والفردوس".
(13) رواه الطبراني في المعجم الكبير (7/213) من طريق أبى الجماهر، عن سعيد بن بشير به.

قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)

وهكذا رواه إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن سمرة مرفوعًا. وروي عن قتادة، عن أنس بن مالك مرفوعًا بنحوه. وقد نقله (1) ابن جرير، رحمه الله (2)
وفي الصحيحين: "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط (3) الجنة، ومنه تُفَجَّرُ أنهار الجنة" (4)
وقوله: { نزلا } أي ضيافة، فإن النزل هو الضيافة.
وقوله: { خَالِدِينَ فِيهَا } أي: مقيمين ساكنين (5) فيها، لا يظعنون عنها أبدًا، { لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا } أي: لا يختارون (6) غيرها، ولا يحبون سواها، كما قال الشاعر (7)
فَحَّلْت سُوَيدا القَلْب لا أنَا بَاغيًا ... سواها ولا عَنْ حُبّها أتَحوّلُ ...
وفي قوله: { لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا } تنبيه على رغبتهم فيها، وحبهم لها، مع أنه قد يتوهم (8) فيمن هو مقيم في المكان دائمًا أنه يسأمه أو يمله، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي، لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا ولا انتقالا ولا ظعنًا (9) ولا رحلة (10) ولا بدلا (11)
{ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) } .
يقول تعالى: قل يا محمد: لو كان ماء البحر مدادًا للقلم الذي تكتب (12) به كلمات ربى وحكمه وآياته الدالة (13) عليه، { لَنَفِدَ الْبَحْرُ } أي: [لفرغ البحر] (14) قبل أن يفرغ من كتابة ذلك { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ } أي: بمثل البحر آخر، ثم آخر، وهلم جرا، بحور تمده ويكتب بها، لما نفدت كلمات الله، كما قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [لقمان: 27].
قال الربيع بن أنس: إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور (15) كلها، وقد أنزل الله ذلك: { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } .
__________
(1) في أ: "ذكر ذلك كله".
(2) تفسير الطبري (16/30) ورواه الترمذي في السنن برقم (3174) من طريق روح بن عبادة، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
(3) في ت: "وأوسطه".
(4) صحيح البخاري برقم (7423).
(5) في ف، أ: "ماكثين".
(6) في ت: "لا تختارون".
(7) هو النابغة الجعدي، والبيت في مغني اللبيب (ص265) أ. هـ مستفادا من حاشية ط - الشعب.
(8) في أ: "أنه قد توهم".
(9) في ت: "ضعفا".
(10) في أ: "رحيله".
(11) في ت، ف، أ: "بديلا".
(12) في ف: "يكتب".
(13) في ت، ف، أ: "والدلالات".
(14) زيادة من ت، ف، أ.
(15) في ت: "البحر".

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)

يقول: لو كان البحر مدادا [لكلمات الله] (1) ، والشجر كله أقلام (2) ، لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء؛ لأن أحدًا لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه، إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول (3) ، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة (4) ، كحبة من خردل في خلال الأرض [كلها] (5) .
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) } .
روى الطبراني من طريق هشام بن عمار، عن إسماعيل بن عياش، عن عمرو بن قيس الكوفي، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان أنه قال: هذه آخر آية أنزلت (6) .
يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم (7) : { قُلْ } لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم: { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } فمن زعم (8) أني كاذب، فليأت بمثل ما جئت به، فإني لا أعلم الغيب فيما (9) أخبرتكم به من الماضي، عما سألتم من قصة أصحاب الكهف، وخبر ذي القرنين، مما هو مطابق (10) في نفس الأمر، لولا ما أطلعني الله عليه، وأنا أخبركم { أَنَّمَا إِلَهُكُمْ } الذي أدعوكم إلى عبادته، { إِلَهٌ وَاحِدٌ } لا شريك له، { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ } أي: ثوابه وجزاءه الصالح، { فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا } ، ما كان موافقًا لشرع الله { وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل. لا بد أن يكون خالصًا لله، صوابُا (11) على شريعة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (12) . وقد روى ابن أبي حاتم من حديث معمر، عن عبد الكريم الجَزَري، عن طاوس قال: قال رجل: يا رسول الله، إني أقف المواقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني. فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا. حتى نزلت هذه الآية: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } .
وهكذا أرسل هذا مجاهد، وغير واحد.
وقال الأعمش: حدثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم، عن شَهْر بن حَوْشَب قال: جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال: أنبئني عما أسألك عنه: أرأيت رجلا يصلي، يبتغي وجه الله، ويحب أن يُحْمَد، ويصوم ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويتصدق ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويحج ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، فقال عبادة: ليس له شيء، إن الله تعالى يقول: "أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك (13) فهو له كله، لا حاجة لي فيه". (14)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ: "والشجر أقلام كلها".
(3) في ت، أ: "يقول".
(4) في أ: "الجنة".
(5) زيادة من ت، ف، أ.
(6) المعجم الكبير (19/392) وقال الهيثمي في المجمع (7/14): "رجاله ثقات".
(7) في ت، ف، أ: "صلوات الله وسلامة عليه".
(8) في ف، أ: "يزعم".
(9) في أ: "مما".
(10) في ت، أ: "المطابق".
(11) في ت :"صوابا حالصا له".
(12) زيادة من ف، أ.
(13) في أ: "شرك".
(14) تفسير الطبري (16/32).

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، ثنا كثير بن زيد، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده قال: كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبيت عنده، تكون (1) له الحاجة، أو يطرقه أمر من الليل، فيبعثنا. فكثر المحتسبون (2) وأهل النُّوب، فكنا نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذه النجوى؟ [ألم أنهكم عن النجوى] (3) . قال: فقلنا: تبنا إلى الله، أي نبيّ الله، إنما كنا في ذكر المسيح، وفرقنا منه، فقال: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي؟" قال: قلنا: بلى. قال: "الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يصلي لمكان الرجل" . (4)
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الحميد -يعني ابن بَهْرَام-قال: قال شَهْر بن حَوْشَب: قال ابن غنم: لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء، لقينا عبادة بن الصامت، فأخذ يميني بشماله، وشمال أبي الدرداء بيمينه، فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى، والله أعلم بما نتناجى به، فقال عبادة بن الصامت: إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما، لتوشكان (5) أن تريا الرجل من ثبج المسلمين -يعني من وسط-قرأ القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأعاده وأبدأه، وأحل حلاله وحرم (6) حرامه، ونزل عند منازله، لا يَحُورُ فيكم إلا كما يَحُور (7) رأس الحمار الميت. قال: فبينما نحن كذلك، إذ طلع شداد بن أوس، رضي الله عنه، وعوف بن مالك، فجلسا إلينا، فقال شداد: إن أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من الشهوة الخفية والشرك". فقال عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء: اللهم غفرًا. أو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب. وأما الشهوة الخفية (8) فقد عرفناها، هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها، فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد؟ فقال شداد: أرأيتكم لو رأيتم رجلا يصلي لرجل، أو يصوم لرجل، [أو تصدق له، أترون أنه قد أشرك؟ قالوا: نعم، والله إنه من صلى لرجل أو صام له] (9) أو تصدق له، لقد أشرك. فقال شداد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول] (10) : من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك؟" فقال (11) عوف بن مالك عند ذلك: أفلا يعمد الله إلى ما ابتغي به وجهه من ذلك العمل كله، فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به؟ فقال شداد عن ذلك: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئًا فإن [حَشْده] (12) عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، وأنا عنه غني" (13) .
طريق [أخرى] (14) لبعضه: قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثني عبد الواحد بن زياد، أخبرنا عبادة بن نُسيّ، عن شداد بن أوس، رضي الله عنه، أنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: شيء سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله [فذكرته] (15) فأبكاني، سمعت رسول الله يقول: "أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية". قلت: يا رسول الله، أتشرك أمتك [من بعدك؟] (16) قال: "نعم،
__________
(1) في ت، ف: "تأذن"، وفي أ: "نأذن".
(2) في أ: "المجسسون".
(3) زيادة من ف، أ، والمسند.
(4) المسند (3/30) وفي إسناده ربيح بن عبد الرحمن قال أحمد: ليس بمعروف، وقال البخاري: منكر الحديث.
(5) في أ: "ليوشكان".
(6) في ت: "فحرم".
(7) في ت، ف، أ: "لايجوز منكم إلا كما يجوز".
(8) في أ: "حفية".
(9) زيادة من ف، أ، والمسند.
(10) زيادة من ف، أ، والمسند.
(11) في ف، أ: "قال".
(12) زيادة من ف، أ.
(13) المسند (4/125).
(14) زيادة من ف، أ.
(15) زيادة من ف، أ.
(16) زيادة من ف، أ.

أما إنهم لا يعبدون شمسًا ولا قمرًا، ولا حجرًا ولا وثنًا، ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائمًا فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه (1) .
ورواه ابن ماجه من حديث الحسن بن ذَكْوَان، عن عبادة بن نُسيّ، به (2) . وعبادة فيه ضعف وفي سماعه من شداد نظر.
حديث آخر: قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الحسين (3) بن عليّ بن جعفر الأحمر، حدثنا عليّ بن ثابت، حدثنا قيس بن (4) أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله يوم القيامة: أنا خير شريك، من (5) أشرك بي أحدًا فهو له كله".
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت العلاء يحدث عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، يرويه عن ربه، عز وجل، أنه قال: "أنا خير الشركاء، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري، فأنا منه برئ، وهو للذي أشرك". تفرّد به من هذا الوجه (6) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا لَيْث، عن يزيد -يعني ابن الهاد-عن عمرو، عن محمود بن لبيد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر". قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: "الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء" (7)
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر (8) أخبرنا عبد الحميد -يعني ابن جعفر-أخبرني أبي، عن زياد بن ميناء، عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري -وكان من الصحابة-أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحدًا، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك".
وأخرجه الترمذي وابن ماجه، [من حديث محمد بن] (9) بكر (10) وهو البُرساني، به (11)
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا بكار، حدثني أبي -يعني عبد العزيز بن أبي بكرة (12) -عن أبي بكرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به" (13) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية، حدثنا شيبان، عن فراس، عن عطية، عن أبي سعيد
__________
(1) في أ: "صيامه".
(2) المسند (4/123) وسنن ابن ماجة برقم (4305).
(3) في ف، أ: "الحسن".
(4) في أ: "عن".
(5) في أ: "فمن".
(6) المسند (2/301) ورواه ابن خزيمة في صحيحة برقم (938) من طريق محمد بن جعفر به.
(7) المسند (5/428) وقال الهيثمي في المجمع (1/102): "رجاله رجال الصحيح".
(8) في ف، أ: "بكير".
(9) زيادة من ف، أ.
(10) في ف، أ: بكير".
(11) المسند (4/215) وسنن الترمذي برقم (3154) وسنن ابن ماجة برقم (4203).
(12) في ف، أ: "بكر".
(13) المسند (5/45).

الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يرائي يرائي الله به، ومن يسمع يسمع الله به" (1) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، حدثني عمرو بن مرة، قال: سمعت رجلا في بيت أبي عبيدة؛ أنه سمع (2) عبد الله بن عمرو يحدث ابن عمر (3) ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سَمَّع الناس بعمله سَمَّع الله به، سامع خلقه وصغره وحقره" [قال] (4) : فذرفت عينا عبد الله (5) .
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن يحيى الأيلي، حدثنا الحارث بن غسان، حدثنا أبو عمران الجوني، عن أنس، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله، عز وجل، يوم القيامة في صحف مختومة (6) ، فيقول الله: ألقوا هذا، واقبلوا هذا، فتقول الملائكة: يا رب، والله ما رأينا منه إلا خيرًا. فيقول: إن عمله كان لغير وجهي، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي".
ثم قال الحارث بن غسان: روى عنه جماعة وهو بصري ليس به بأس (7)
وقال ابن وهب: حدثني يزيد بن عياض، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبد الله (8) بن قيس الخزاعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام رياء وسمعة، لم يزل (9) في مقت الله حتى يجلس". (10)
وقال أبو يعلى: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا محمد بن دينار، عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص، عن عوف (11) بن مالك، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو، فتلك (12) استهانة استهان بها ربه، عز وجل". (13)
وقال ابن جرير: حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السَّكوني، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا ابن عياش (14) ، حدثنا عمرو بن قيس الكندي؛ أنه سمع معاوية بن أبي سفيان تلا هذه الآية { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن. (15)
وهذا
__________
(1) المسند (3/40).
(2) في أ: "ليسمع".
(3) في أ: "عمرو".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) المسند (2/162).
(6) في أ: "مختمة".
(7) مسند البزار برقم (3435) "كشف الأستار".
(8) في أ: "غبد الرحمن".
(9) في ت، أ: "يزد".
(10) قال الهيثمي في المجمع (10/223): "رواه الطبراني وفيه يزيد بن عياض وهو متروك". وله شاهد من حديث أبي هند الدارى رواه أحمد في مسنده (5/270).
(11) في ت، ف، أ: "عروة".
(12) في أ: "فذلك".
(13) مسند أبي يعلى (9/54) وحسنه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (3/183) وقال الهيثمي في المجمع (10/221): "فيه إبراهيم ابن مسلم الهجرى وهو ضعيف".
(14) في ت، أ: "ابن عباس".
(15) تفسير الطبري (16/32).

أثر مشكل، فإن هذه الآية [هي] (1) آخر سورة الكهف. والكهف كلها مكية، ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها ما تنسخها (2) ولا يغير حكمها (3) بل هي مثبتة محكمة، فاشتبه ذلك على بعض الرواة، فروى بالمعنى على ما فهمه، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا أبو قُرَّرة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ في ليلة: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } ، كان له من نور، من عدن أبين إلى [مكة] (4) حشوه الملائكة (5) غريب جدا.
آخر [تفسير] (6) سورة الكهف ولله الحمد
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ: "آية تنسخها".
(3) في ت، ف: "بعدها آية تنسخها ولا تغير حكمها".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) مسند البزار برقم (3108) "كشف الأستار"، وأبو قرة الأسدى جهله الذهبي وابن حجر، وقال الذهبي: "نفرد عنه النضر بن شميل". وقال ابن حجر: "أخرج ابن خزيمة حديثه في صحيحه وقال: لا أعرفه بعدالة ولا جرح".
(6) زيادة من ت.

كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)

تفسير سورة مريم [عليها السلام] (1)
وهي مكية.
وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة: أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه (2) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{ كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) } .
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة.
وقوله: { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ } أي: هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا.
وقرأ يحيى بن يعمر "ذَكَّرَ رحمة ربك عَبْدَهُ زَكَريَّا".
[و] (3) { زَكَرِيَّا } : يمد ويقصر قراءتان مشهورتان. وكان نبيًّا عظيمًا من أنبياء بني إسرائيل. وفي صحيح البخاري: أنه كان نجارًا، أي: كان يأكل من عمل يديه في النجارة.
وقوله: { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا } : قال بعض المفسرين: إنما أخفى دعاءه، لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره. حكاه الماوردي.
وقال آخرون: إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله. كما قال قتادة في هذه الآية { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا } : إن الله يعلم القلب التقي (4) ، ويسمع الصوت الخفي.
وقال بعض السلف: قام من الليل، عليه السلام، وقد نام أصحابه، فجعل يهتف بربه يقول خفية: يا رب، يا رب، يا رب فقال الله: لبيك، لبيك، لبيك.
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي } أي: ضعفت (5) وخارت القوى، { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } أي
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) رواه الإمام أحمد من حديث أم سلمة (5/290) ومن حديث ابن مسعود (1/461).
(3) زيادة من ت، ف.
(4) في ت: "النقي".
(5) في ت ، ف : "ضعف" .

اضطرم المشيب في السواد، كما قال ابن دُرَيد في مقصورته (1) :
إمَّا (2) تَرَى رأسِي حَاكى لونُهُ ... طُرَّةَ صُْبحٍ تَحتَ أذْيَال الدُّجى ...
واشْتَعَل المُبْيَض في مُسْوَدّه ... مِثْلَ اشتِعَال النَّارِ في جمر (3) الغَضَا ...
والمراد من هذا: الإخبار عن الضعف والكبر، ودلائله الظاهرة والباطنة.
وقوله: { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا } أي: ولم أعهد منك إلا الإجابة (4) في الدعاء، ولم تردني قط فيما سألتك.
وقوله: { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي } : قرأ الأكثرون بنصب "الياء" من { الْمَوَالِيَ } على أنه مفعول، وعن الكسائي أنه سكن الياء، كما قال الشاعر:
كَأنَّ أيْديهنّ في القَاع الفَرقْ ... أيدي جَوَارٍ يَتَعَاطَينَ الوَرقْ (5)
وقال الآخر:
فَتَى لو يُبَاري الشَّمسَ ألْقَتْ قِنَاعَها ... أو القَمَرَ السَّاري لألْقَى المقَالدَا ...
ومنه قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي:
تَغَاير الشَّعرُ فيه (6) إذ سَهرت لَهُ ... حَتَّى ظَنَنْتُ قوافيه ستَقتتلُ (7)
وقال مجاهد، وقتادة، والسدي: أراد بالموالي العصبة. وقال أبو صالح: الكلالة.
وروي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، أنه كان يقرؤها: "وإني خَفَّت الموالي من ورائي" بتشديد الفاء بمعنى: قلت عصباتي (8) من بعدي.
وعلى القراءة الأولى، وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا [من] (9) بعده في الناس تصرفًا سيئًا، فسأل الله ولدا، يكون نبيًّا من بعده، ليسوسهم بنبوته وما يوحى إليه. فأجيب في ذلك، لا أنه خشي من وراثتهم له ماله، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدرًا من أن يشفق على ماله إلي ما هذا حده (10) أن يأنف (11) من وراثة عصباته (12) له، ويسأل أن يكون له ولد، فيحوز (13) ميراثه دونه دونهم. هذا وجه.
الثاني: أنه لم يذكر أنه كان ذا مال، بل كان نجارا يأكل من كسب (14) يديه، ومثل هذا لا يجمع مالا ولا سيما الأنبياء، عليهم السلام، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.
الثالث: أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نُورَث، ما
__________
(1) انظر: شرح مقصورة ابن دريد (ص2) أ.هـ. مستفادا من حاشية ط-الشعب.
(2) في أ: "ما".
(3) في ت، ف، أ: "جزل".
(4) في أ: "إجابة".
(5) الرجز في اللسان مادة (قرق) غير منسوب.
(6) في ت: "منه".
(7) البيت في ديوان أبي تمام (227) أ.هـ. مستفادا من حاشية ط- الشعب.
(8) في أ: "عصابتي".
(9) زيادة من ت، ف.
(10) في أ: "حسده".
(11) في أ: "يأتنف".
(12) في أ: "عصابته".
(13) في ف، أ: "ليجوز".
(14) في أ: "من عمل".

تركنا فهو صدقة" (1) وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح: "نحن معشر الأنبياء لا نورث" (2) وعلى (3) هذا فتعين حمل قوله: { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي } على ميراث النبوة؛ ولهذا قال: { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ، كما قال تعالى: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } [ النمل : 16 ] أي: في النبوة؛ إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث أباه، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها، وكل هذا يقرره ويثبته (4) ما صح في الحديث: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا فهو صدقة".
قال مجاهد في قوله: { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } [قال] (5) : كان وراثته علمًا وكان زكريا من ذرية يعقوب.
وقال هشيم: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله: { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } قال: [قد] (6) يكون نبيًّا كما كانت آباؤه أنبياء.
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن: يرث نبوته وعلمه.
وقال السُّدِّي: يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب.
وعن مالك، عن زيد بن أسلم: { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } قال: نبوتهم.
وقال جابر بن نوح ويزيد بن هارون، كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله: { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } قال: يرث مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة.
وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا (7) معمر، عن قتادة: أن رسول الله (8) صلى الله عليه وسلم قال: "يرحم الله زكريا، وما كان عليه من ورثة، ويرحم الله لوطًا، إن كان ليأوي إلى ركن شديد" (9)
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا جابر بن نوح، عن مبارك -هو (10) ابن فضالة -عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أخي زكريا، ما كان عليه من ورثة ماله حين يقول: { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } (11)
__________
(1) جاء من حديث عائشة، وأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وطلحة، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام أما حديث عائشة فرواه البخاري: (6730) ومسلم برقم (1758). وأما حديث أبو بكر فرواه البخاري برقم (1/37) ومسلم برقم (1759). وأما حديث عمر بن الخطاب وعثمان وطلحة والزبير، فرواه البخاري برقم (3094، 6728، 7305) ومسلم برقم (1757).
(2) لم أجده في سنن الترمذي المطبوع بهذا اللفظ، وانظر كلام الحافظ ابن حجر عن هذه الرواية والوجوه التي تحمل عليها في الفتح (12/8).
(3) في ف: "فعلى".
(4) في أ: "ونبينه".
(5) زيادة من ف.
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في ت: "حدثنا".
(8) في ف، أ: "أن النبي".
(9) تفسير عبد الرزاق (2/5) وقد وصل طرفه الثاني: "يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد".
الإمام أحمد في مسنده (2/350) من طريق الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(10) في ف: "وهو".
(11) تفسير الطبري (16/37).

يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)

وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح، والله أعلم.
وقوله: { وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا } أي مرضيا عندك وعند خلقك، تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه.
{ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) } .
هذا الكلام يتضمن محذوفًا، وهو أنه أجيب إلى ما سأل في دعائه فقيل [له] (1) : { يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى } ، كما قال تعالى: { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } [ آل عمران : 38 ، 39 ]
وقوله: { لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا } قال قتادة، وابن جريج، وابن زيد: أي لم يسم أحد قبله بهذا الاسم، واختاره ابن جرير، رحمه الله.
وقال مجاهد: { لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا } أي: شبيهًا.
أخذه من معنى قوله: { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [ مريم : 65 ] أي: شبيهًا.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أي لم تلد العواقر قبله مثله.
وهذا دليل على أن زكريا عليه السلام، كان لا يولد له، وكذلك امرأته كانت عاقرا من أول عمرها، بخلاف إبراهيم وسارة، عليهما السلام، فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق على كبرهما (2) لا لعقرهما (3) ؛ ولهذا قال: { أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ } [ الحجر : 54 ] مع أنه كان قد ولد له قبله (4) إسماعيل بثلاث عشرة سنة. وقالت امرأته: { يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } [ هود : 72 ، 73 ] .
{ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) } .
هذا تعجب من زكريا، عليه السلام، حين أجيب إلى ما سأل، وبُشِّر بالولد، ففرح فرحًا شديدًا، وسأل عن كيفية ما يولد له، والوجه الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأته [كانت] (5) عاقرًا لم تلد من أول عمرها مع كبرها، ومع أنه قد كبر وعتا، أي عسا عظمه ونحل (6) ولم يبق فيه لقاح ولا جماع.
تقول العرب للعود إذا يبس: "عَتا يَعْتو عِتيا وعُتُوا، وعَسا يَعْسو عُسوا وعِسيا".
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في أ: "لكبرهما".
(3) في أ: "لا لعقرها".
(4) في ت، أ: "أنه قد كان ولد له قبل"، وفي ف: "أنه كان ولد له قبل".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في أ: "وقحل".

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)

وقال مجاهد: { عِتِيًّا } بمعنى: نحول (1) العظم.
وقال ابن عباس وغيره: { عِتِيًّا } يعني: الكبر.
والظاهر أنه أخص من الكبر.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا حُصَيْن، عن عِكْرمة، عن ابن عباس قال: لقد علمت السنة كلها، غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا ؟ ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف: { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا } أو "عسيا".
ورواه الإمام أحمد عن سُرَيْج (2) بن النعمان، وأبو داود، عن زياد بن أيوب، كلاهما عن هشيم، به.
{ قَالَ } أي الملك مجيبًا لزكريا عما استعجب منه: { كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي: إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها { هَيِّنٌ } أي: يسير سهل على الله.
ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه، فقال: { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } كما قال تعالى: { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا } [ الإنسان : 1]
{ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) } .
يقول تعالى مخبرًا عن زكريا، عليه السلام، أنه { قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً } أي: علامة ودليلا على وجود ما وعدتني، لتستقر نفسي ويطمئن قلبي بما وعدتني كما قال إبراهيم، عليه السلام: { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } الآية [ البقرة : 260 ]. { قَالَ آيَتُكَ } أي: علامتك { أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } أي: أن تحبس (3) لسانك عن الكلام ثلاث ليال وأنت صحيح سوي من غير مرض ولا علة (4)
قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، ووهب [بن منبه] (5) ، والسدي وقتادة وغير واحد: اعتقل لسانه من غير مرض.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان يقرأ ويسبح ولا يستطيع أن يكلم قومه إلا إشارة.
وقال العوفي، عن ابن عباس: { ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } أي: متتابعات.
والقول الأول عنه وعن الجمهور أصح (6) كما قال تعالى في [أول] (7) آل عمران: { قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ } [ آل عمران : 41 ]
__________
(1) في أ: "يعني قحول".
(2) في ف، أ: "شريح" .
(3) في ف: "تحتبس".
(4) في أ: "وعلامة".
(5) زيادة من ت، ف، أ.
(6) في ف، أ: "واضح".
(7) زيادة من أ.

وقال مالك، عن زيد بن أسلم: { ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } من غير خرس.
وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها { إِلا رَمْزًا } أي: إشارة؛ ولهذا قال في هذه الآية الكريمة: { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ } أي: الذي بشر فيه بالولد، { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ } أي: أشار إشارة خفية سريعة: { أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } أي: موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله، وشكرًا لله على ما أولاه.
قال مجاهد: { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ } أي: أشار. وبه قال وهب، وقتادة.
وقال مجاهد في رواية عنه: { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ } أي: كتب لهم في الأرض، كذا قال السدي.

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

{ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) } .
وهذا أيضا تضمن (1) محذوفًا، تقديره: أنه وجد هذا الغلام المبشر به، وهو يحيى، عليه السلام، وأن الله علمه الكتاب، وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم، ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار. وقد كان سنه إذ ذاك صغيرًا، فلهذا نوه بذكره، وبما أنعم به عليه وعلى والديه، فقال: { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } أي: تعلم الكتاب { بِقُوَّةٍ } أي: بجد وحرص واجتهاد { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } أي : الفهم والعلم والجد والعزم، والإقبال على الخير، والإكباب عليه، والاجتهاد فيه وهو صغير حدث [السن] (2) .
قال عبد الله بن المبارك: قال معمر: قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب. قال: ما للعب خلقت (3) ، قال: فلهذا أنزل الله: { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } .
وقوله: { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } يقول: ورحمة من عندنا، وكذا قال عكرمة، وقتادة، والضحاك وزاد: لا يقدر عليها غيرنا. وزاد قتادة: رُحِم بها زكريا.
وقال مجاهد: { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } وتعطفًا من ربه عليه.
وقال عكرمة: { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } [قال: محبة عليه. وقال ابن زيد: أما الحنان فالمحبة. وقال عطاء بن أبي رباح: { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } ] (4) ، قال: تعظيمًا من لدنا (5) .
__________
(1) في أ: "يضمن".
(2) زيادة من أ.
(3) في ف، أ: "خلقنا".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في أ: "الدنيا".

وقال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة عن ابن عباس قال: لا والله ما أدري (1) ما حنانًا.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور: سألت سعيد بن جبير عن قوله: { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } ، فقال: سألت عنها عباس، فلم يحر (2) فيها شيئًا.
والظاهر من هذا السياق أن: { وَحَنَانًا [مِنْ لَدُنَّا] } (3) معطوف على قوله: { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } أي: وآتيناه الحكم وحنانا، { وَزَكَاةً } أي: وجعلناه ذا حنان وزكاة، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل كما تقول العرب: حنّت الناقة على ولدها، وحنت المرأة على زوجها. ومنه سميت المرأة "حَنَّة" من الحَنَّة، وحن الرجل إلى وطنه، ومنه التعطف والرحمة، كما قال الشاعر (4)
تَحنَّنْ (5) عَلَي هَدَاكَ المليكُ ... فإنَّ لكُل مَقامٍ مَقَالا ...
وفي المسند للإمام أحمد، عن أنس، رضي الله عنه، أن (6) رسول الله صلى الله عليه قال: "يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة: يا حنان يا منان" (7)
وقد يُثنَّي (8) ومنهم من يجعل ما ورد من (9) ذلك لغة بذاتها، كما قال طرفة:
أَنَا مُنْذر أفنيتَ فاسْتبق بَعْضَنَا ... حَنَانَيْك بَعْض الشَّر أهْونُ مِنْ بَعْض (10)
وقوله: { وَزَكَاةً } معطوف على { وَحَنَانًا } فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام والذنوب.
وقال قتادة: الزكاة (11) العمل الصالح.
وقال الضحاك وابن جريج: العمل الصالح الزكي.
وقال العوفي عن ابن عباس: { وَزَكَاةً } [قال: بركة] (12) { وَكَانَ تَقِيًّا } طهر، فلم يعمل بذنب.
وقوله: { وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا } لما ذكر تعالى طاعته لربه، وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى، عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما، ومجانبته (13) عقوقهما، قولا وفعلا [وأمرًا] (14) ونهيًا؛ ولهذا قال: { وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا } ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك: { وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا } أي: له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال.
وقال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد، فيرى نفسه خارجًا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قومًا لم يكن عاينهم، ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم. قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه، { وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا }
__________
(1) في ت، أ: "لا أدري".
(2) في ف، أ: "يخبر".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) هو الحطيئة، والبيت في اللسان، مادة "حنن".
(5) في ف: "تعطف"
(6) في ت، ف، أ: "عن".
(7) المسند (3/230).
(8) في أ: "يعني".
(9) في أ: "في".
(10) البيت في ديوانه (ص208) أ. هـ مستفادا من حاشية ط - الشعب.
(11) في ت: "والزكاة".
(12) زيادة من ف، أ.
(13) في ف: ""ومجانبة".
(14) زيادة من أ.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)

رواه ابن جرير عن أحمد بن منصور المروزي عن صدقة بن الفضل عنه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: { جَبَّارًا عَصِيًّا } ، قال: كان ابن المسيب يذكر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب، إلا يحيى بن زكريا". قال قتادة: ما أذنب ولا همّ بامرأة، مرسل (1)
وقال محمد بن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، حدثني ابن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (2) : "كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب، إلا ما كان من يحيى بن زكريا" (3) ابن إسحاق هذا مدلس، وقد عنعن هذا الحديث، فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ، أو همَّ بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى" (4)
وهذا أيضًا ضعيف؛ لأن علي بن زيد بن جدعان له منكرات كثيرة، والله أعلم.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة: أن حسن قال: إن يحيى وعيسى، عليهما السلام، التقيا، فقال له عيسى: استغفر لي، أنت خير مني، فقال له الآخر: استغفر لي فأنت (5) خير مني. فقال له عيسى: أنت خير مني، سَلَّمتُ على نفسي، وسلم الله عليك، فَعرُف والله فضلهما.
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) } .
لما ذكر تعالى قصة زكريا، عليه السلام، وأنه أوجد منه، في حال كبره وعقم زوجته، ولدًا زكيًّا طاهرًا مباركًا -عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى، عليهما (6) السلام، منها من غير أب، فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة (7) ؛ ولهذا ذكرهما في آل عمران وهاهنا وفي سورة الأنبياء، يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه، وأنه على ما يشاء
__________
(1) تفسير عبد الرزاق (2/7).
(2) في ت: "أنه قال".
(3) رواه الطبري في تفسيره (16/44) والحاكم في المستدرك (2/373) من طريق محمد بن إسحاق به، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" ووفقه الذهبي، ورجح أبو حاتم وقفه، وقال لابنه: "لا يرفعون هذا الحديث".
(4) المسند (1/254).
(5) في أ: "أنت".
(6) في ف، أ: "عليه".
(7) في أ: "ومتشابهة".

قادر (1) ، فقال: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ } وهي مريم بنت عمران، من سلالة داود، عليه السلام، وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل. وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمّها لها في "آل عمران"، وأنها نذرتها محررة، أي: تخدم (2) مسجد بيت المقدس، وكانوا يتقربون بذلك، { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } [آل عمران: 37] ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة، فكانت (3) إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة (4) والتبتل والدءوب، وكانت في كفالة زوج أختها -وقيل: خالتها-زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك وعظيمهم، الذي يرجعون إليه في دينهم. ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] فذكر أنه كان يجد عندها ثمر (5) الشتاء في الصيف وثمر (6) الصيف في الشتاء، كما تقدم بيانه في "آل عمران". فلما أراد الله تعالى -وله الحكمة والحجة البالغة-أن يُوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام، أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام، { انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا } أي: اعتزلتهم وتنحت عنهم، وذهبت إلى شرق المسجد المقدس.
قال السدي: لحيض أصابها. وقيل لغير ذلك. قال أبو كُدَيْنَة، عن قابوس بن أبي ظِبْيان، عن أبيه عن ابن عباس قال: إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه، وما صرفهم عنه إلا قيل ربك: { انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا } قال: خرجت مريم مكانًا شرقيًّا، فصلوا قبل مطلع الشمس. رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا إسحاق بن شاهين، حدثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، عن ابن عباس قال: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة؛ لقول الله تعالى (7) { انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا } واتخذوا (8) ميلاد عيسى قبلة (9)
وقال قتادة: { مَكَانًا شَرْقِيًّا } شاسعًا متنحيًّا.
وقال محمد بن إسحاق: ذهبت بقلتها تستقي [من] (10) الماء.
وقال نَوْف البِكَالي: اتخذت لها منزلا تتعبد فيه. فالله (11) أعلم.
وقوله: { فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا } أي: استترت منهم وتوارت، فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } أي: على صورة إنسان تام كامل.
قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن جُرَيْج (12) ووهب بن مُنَبِّه، والسُّدِّي، في قوله: { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } يعني: جبريل، عليه السلام.
__________
(1) في ت، أ: "قدير".
(2) في أ: "لخدمة".
(3) في ت: "وكانت".
(4) في ت: "والعظمة".
(5) في أ: "ثمرة".
(6) في أ: "ثمرة".
(7) في ت: "لقول الله عز وجل"، وفي ف: "لقوله".
(8) في أ: "فاتخذوا".
(9) تفسير الطبري (16/45).
(10) زيادة من ت، ف، أ.
(11) في ت: "والله".
(12) في ت: "وابن جرير".

وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرى: { نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } [ الشعراء : 193 ، 194 ].
وقال أبو جعفر الرازي (1) ، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: إن روح عيسى، عليه السلام، من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم، وهو الذي تمثل لها بشرا سويًّا، أي: روح عيسى، فحملت الذي خاطبها وحل في فيها.
وهذا في غاية الغرابة والنكارة، وكأنه إسرائيلي.
{ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا } أي: لما تَبَدى لها الملك في صورة بشر، وهي (2) في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب، خافته وظنت أنه يريدها على نفسها، فقالت: { إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا } أي: إن كنت تخاف الله. تذكير (3) له بالله، وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل، فخوفته أولا بالله، عز وجل.
قال ابن جرير: حدثني أبو كُرَيْب، حدثنا أبو بكر، عن عاصم قال: قال أبو وائل -وذكر قصة مريم-فقال: قد علمت أن التقي ذو نُهْيَة حين قالت: { إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ } أي: فقال لها الملك مجيبًا لها ومزيلا ما (4) حصل عندها من الخوف على نفسها: لست مما تظنين، ولكني رسول ربك، أي: بعثني إليك، ويقال: إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقا (5) وعاد إلى هيئته وقال: "إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلامًا زكيا".
[هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء. وقرأ الآخرون: { لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا } ] (6) وكلا القراءتين له وجه حسن، ومعنى صحيح، وكل تستلزم (7) الأخرى.
{ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَم أَكُ بَغِيًّا } أي: فتعجبت مريم من هذا وقالت: كيف يكون لي غلام؟ أي: على أي صفة يوجد هذا الغلام مني، ولست بذات زوج، ولا يتصور مني الفجور؛ ولهذا قالت: { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا } والبغي: هي الزانية؛ ولهذا جاء في الحديث نهي عن مهر البغي.
{ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي: فقال لها الملك مجيبًا لها عما سألت: إن الله قد قال: إنه سيوجد منك غلامًا، وإن لم يكن لك بعل ولا توجد (8) منك فاحشة، فإنه على ما يشاء قادر (9) ؛ ولهذا قال: { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } أي: دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم، الذي نوع (10) في خلقهم، فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى، إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر، فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه.
وقوله: { وَرَحْمَةً مِنَّا } أي ونجعل (11) هذا الغلام رحمة من الله نبيًّا من الأنبياء يدعو إلى عبادة
__________
(1) في أ: "وقال أبو جعفر الرازي عن أبيه".
(2) في ت، ف، أ: "وهو".
(3) في أ: "تذكر".
(4) في أ: "لما".
(5) في ف، أ: "فزعا".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في أ: "يستلزم".
(8) في ت، ف، أ: "ولا يوجد".
(9) في أ: "قدير".
(10) في ت، ف، أ: "تنوع".
(11) في ت، ف، أ: "ويجعل".

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)

الله تعالى وتوحيده، كما قال تعالى في الآية الأخرى: { إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ } [ آل عمران : 45 ، 46 ] أي: يدعو إلى عبادة الله ربه في مهده (1) وكهولته.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحيم بن إبراهيم -دُحَيْم-حدثنا مروان، حدثنا العلاء بن الحارث الكوفي، عن مجاهد قال: قالت مريم، عليها السلام: كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني وإذا كنت مع الناس سبح في بطني وكبر.
وقوله: { وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا } يحتمل أن هذا من كلام جبريل لمريم، يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته. ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها، كما قال تعالى: { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } [ التحريم : 12 ] وقال { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا } [ الأنبياء : 91 ]
قال محمد بن إسحاق: { وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا } أي: أن الله قد عزم على هذا، فليس منه بد، واختار هذا أيضًا ابن جرير في تفسيره، ولم يحك غيره، والله أعلم.
{ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) }
يقول تعالى مخبرًا عن مريم أنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال، أنها استسلمت لقضاء الله تعالى (2) فذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك -وهو جبريل عليه السلام-عند ذلك نفخ في جيب درعها، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج، فحملت بالولد بإذن الله تعالى. فلما حملت به ضاقت ذرعًا به (3) ولم تدر ماذا تقول (4) للناس، فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به، غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا. وذلك أن زكريا عليه السلام، كان قد سأل الله الولد، فأجيب إلى ذلك، فحملت امرأته، فدخلت عليها مريم فقامت إليها فاعتنقتها، وقالت: أشعرت يا مريم أني حبلى؟ فقالت لها مريم: وهل علمت أيضًا أني حبلى؟ وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها وكانوا بيت إيمان وتصديق، ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت (5) مريم تجد الذي في جوفها (6) يسجد للذي في بطن مريم، أي: يعظمه ويخضع له، فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعًا، كما سجد ليوسف أبواه وإخوته، وكما أمر الله الملائكة أن تسجد (7) لآدم، عليه السلام، ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلا لتعظيم جلال الرب تعالى.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين قال: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم قال: قال مالك رحمه الله: بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن
__________
(1) في ت، أ: "المهد".
(2) في ت: "الله عز وجل".
(3) في أ: "بهما".
(4) في ت: "يقول".
(5) في أ: "وجهت".
(6) في ف: "بطنها".
(7) في ف، أ: "يسجدوا".

زكريا ابنا خالة، وكان حملهما جميعا معا، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم: إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك. قال مالك: أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام؛ لأن الله جعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص.
ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر. وقال عكرمة: ثمانية أشهر -قال: ولهذا لا يعيش ولد لثمانية أشهر.
وقال ابن جُرَيْج: أخبرني المغيرة بن عثمان (1) بن عبد الله الثقفي، سمع ابن عباس وسئل عن حَبَل مريم، قال: لم يكن إلا أن حملت فوضعت (2) .
وهذا غريب، وكأنه أخذه من ظاهر قوله تعالى: { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ } فالفاء وإن كانت للتعقيب، ولكن تعقيب (3) كل شيء بحسبه، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا } [ المؤمنون : 12 -14 ] فهذه الفاء للتعقيب بحسبها. وقد ثبت في الصحيحين: أن بين كل صفتين أربعين يومًا (4) وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً } [ الحج : 63 ] فالمشهور الظاهر -والله على كل شيء قدير-أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن؛ ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس، يقال له: يوسف النجار، فلما رأى ثقل بطنها وكبره، أنكر ذلك من أمرها، ثم صرفه ما (5) يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها، ثم تأمّل ما هي فيه، فجعل أمرها يجوس في فكره، لا يستطيع صرفه عن نفسه، فحمل نفسه على أن عرض لها في القول، فقال: يا مريم، إني سائلك عن أمر فلا تعجلي عليّ. قالت: وما هو؟ قال: هل يكون قط شجر (6) من غير حبّ؟ وهل يكون زرع من غير بذر؟ وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت: نعم -فهمت (7) ما أشار إليه-أما قولك: "هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر؟" فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب، ولا بذر "وهل خلق يكون من غير أب؟" (8) فإن الله قد خلق آدم من غير أب ولا أم. فصدقها، وسلَّم لها حالها.
ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة، انتبذت منهم مكانًا قصيًّا، أي: قاصيًا منهم بعيدًا عنهم؛ لئلا تراهم ولا يروها.
قال محمد بن إسحاق: فلما حملت به وملأت قلتها (9) ورجعت، استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والترحم وتغير اللون، حتى فَطَرَ لسانها، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا، وشاع الحديث في بني إسرائيل، فقالوا: "إنما صاحبها يوسف"، ولم يكن معها في الكنيسة غيره، وتوارت من الناس، واتخذت من دونهم حجابًا، فلا (10) يراها أحد ولا
__________
(1) في أ: "بن عتبة".
(2) في ت، أ: "وضعت".
(3) في أ: "تعقب".
(4) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وسيأتي عند تفسير الآية: 5 من سورة الحج.
(5) في ف: "لما".
(6) في ف: "شجر قط".
(7) في أ: "وفهمت".
(8) في أ: "وهل يكون ولد من غير أب".
(9) في أ: "قلبها".
(10) في ف، أ: "فلم".

فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)

تراه.
وقوله: { فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ } [أي: فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة] (1) وهي نخلة في المكان الذي تنحت إليه.
وقد اختلفوا فيه، فقال السدي: كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس.
وقال وهب بن مُنَبِّه: ذهبت هاربة، فلما كانت بين الشام وبلاد مصر، ضربها الطلق. وفي رواية عن وهب: كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس، في قرية هناك يقال لها: "بيت لحم".
قلت: وقد تقدم في حديث (2) الإسراء، من رواية النسائي عن أنس، رضي الله عنه، والبيهقي عن شدَّاد بن أوس، رضي الله عنه: أن ذلك ببيت لحم، فالله أعلم، وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض، ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم، وقد تلقاه الناس. وقد ورد به الحديث إن صح.
وقوله تعالى إخبارًا عنها: { قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية، فقالت: { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا } أي قبل هذا الحال، { وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } أي لم أخلق ولم أك شيئًا. قاله ابن عباس.
وقال السدي: قالت وهي تطلق من الحبل -استحياء من الناس: يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه، والحزن بولادتي المولود من غير بَعْل { وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } نُسِيَ فتُرِك طلبه، كخِرَق الحيض إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر. وكذلك كل شيء نُسِيَ وترك فهو نَسِيّ.
وقال قتادة: { وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } أي: شيئًا لا يعرف، ولا يذكر، ولا يدرى من أنا.
وقال الربيع بن أنس: { وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } وهو (3) السقط.
وقال ابن زيد: لم أكن شيئًا قط.
وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة، عند قوله: { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ يوسف : 101 ]
{ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) }
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ت، ف: "أحاديث"
(3) في ف، أ: "أي".

فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)

{ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) }

.
قرأ بعضهم { مَنْ تَحْتَهَا } بمعنى (1) الذي تحتها. وقرأ آخرون: { مِنْ تَحْتِهَا } على أنه حرف جر.
واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو؟ فقال العوفي وغيره، عن ابن عباس: { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا } جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها، وكذا قال سعيد بن جبير، والضحاك، وعمرو بن ميمون، والسدي، وقتادة: إنه الملك جبريل عليه الصلاة والسلام، أي: ناداها من أسفل الوادي.
وقال مجاهد: { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا } قال: عيسى ابن مريم، وكذا قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة قال: قال الحسن: هو ابنها. وهو إحدى (2) الروايتين عن سعيد بن جبير: أنه ابنها، قال: أولم (3) تسمع الله يقول: { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } [ مريم : 29 ] ؟ واختاره ابن زيد، وابن جرير في تفسيره (4)
وقوله: { أَلا تَحْزَنِي } أي: ناداها قائلا لا تحزني، { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } قال سفيان الثوري وشعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب: { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } قال: الجدول. وكذا قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: السريّ: النهر. وبه قال عمرو بن ميمون: نهر تشرب منه.
وقال مجاهد: هو النهر بالسريانية.
وقال سعيد بن جُبَيْر: السري: النهر الصغير بالنبطية.
وقال الضحاك: هو النهر الصغير بالسريانية.
وقال إبراهيم النَّخَعِي: هو النهر الصغير.
وقال قتادة: هو الجدول بلغة أهل الحجاز.
وقال وهب بن مُنَبِّه: السري: هو ربيع الماء.
وقال السدي: هو النهر، واختار هذا القول ابن جرير. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع، فقال الطبراني:
حدثنا أبو شعيب الحَرَّاني: حدثنا يحيى بن عبد الله البَابلُتِّي (5) حدثنا أيوب بن نَهِيك، سمعت عكرمة مولى ابن عباس يقول: سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن السري الذي قال الله لمريم: { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } نهر أخرجه الله لتشرب منه" (6) وهذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه. وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلي (7) قال فيه أبو حاتم الرازي: ضعيف. وقال أبو زُرْعَة: منكر الحديث. وقال أبو الفتح الأزدي: متروك الحديث.
__________
(1) في أ: "أي".
(2) في ت: "أحد".
(3) في ت، أ: "ولم".
(4) تفسير الطبري (16/52).
(5) في أ: "يحيى بن عبد النابلتي".
(6) المعجم الكبير (12/346).
(7) في أ: "الحلبي".

وقال آخرون: المراد بالسري: عيسى، عليه السلام، وبه قال الحسن، والربيع بن أنس، ومحمد بن عَبَّاد بن جعفر. وهو إحدى الروايتين عن قتادة، وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والقول الأول أظهر؛ ولهذا قال بعده: { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ } أي: وخذي إليك بجذع النخلة. قيل: كانت يابسة، قاله ابن عباس. وقيل: مثمرة. قال مجاهد: كانت عجوة. وقال الثوري، عن أبي داود (1) نُفَيْع الأعمى: كانت صَرَفَانة (2)
والظاهر أنها كانت شجرة، ولكن لم تكن في إبان ثمرها، قاله وهب بن منبه؛ ولهذا امتن عليها بذلك، أن جعل عندها طعامًا وشرابًا، فقال: { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا } أي: طيبي نفسًا؛ ولهذا قال عمرو بن ميمون: ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب، ثم تلا هذه الآية الكريمة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا شَيْبَان، حدثنا مسرور بن سعيد التميمي (3) حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن عُروة بن رُوَيْم، عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام، وليس من الشجر شيء (4) يُلَقَّح غيرها". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطعموا نساءكم الولدَ الرطَبَ، فإن لم يكن رطب فتمر، وليس من الشجرة شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران".
هذا حديث منكر جدًّا، ورواه أبو يعلى، عن شيبان، به (5)
وقرأ بعضهم قوله: "تساقط" بتشديد السين، وآخرون بتخفيفها، وقرأ أبو نَهِيك: { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا } وروى أبو إسحاق عن البراء: أنه قرأها: "تساقط" (6) أي: الجذع. والكل متقارب.
وقوله: { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا } أي: مهما رأيت من أحد، { فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } المراد بهذا القول: الإشارة إليه بذلك. لا أن (7) المراد به القول اللفظي؛ لئلا ينافي: { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا }
قال أنس بن مالك في قوله: { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا } أي: صمتًا (8) وكذا قال ابن عباس، والضحاك. وفي رواية عن أنس: "صومًا وصمتًا"، وكذا قال قتادة وغيرهما.
والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام، نص على ذلك السدي،
__________
(1) في ت: "عن أبي الأسود".
(2) في ف، أ: "صوفانة".
(3) في ت: "التيمي".
(4) في ف: "وليس شيء من الشجر".
(5) مسند أبي يعلى (1/353) ورواه أبو نعيم ف الحلية (6/123) وابن عدي في الكامل (6/431) من طريق مسرور بن سعد التميمي به، وقد ذكر له ابن عدي ثلاث علل:
1- تفرد به مسرور عن الأوزاعي فهو منكر.
2- أنه منقطع بين عروة بن رويم وعلي بن أبي طالب.
3- أن مسور بن سعيد غير معروف. قلت: وضعفه ابن حبان والعقيلي.
(6) في أ: "يساقط".
(7) في ت: "لأن".
(8) في أ: "صوتا".

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)

وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد.
وقال أبو إسحاق، عن حارثة قال: كنت عند ابن مسعود، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر، فقال: ما شأنك؟ قال أصحابه: حلف ألا يكلم الناس اليوم. فقال عبد الله بن مسعود: كلِّم الناس وسلم عليهم، فإنما تلك امرأة علمت أن أحدًا لا يصدقها أنها حملت من غير زوج. يعني بذلك مريم، عليها السلام؛ ليكون عذرًا لها إذا سئلت. ورواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، رحمهما الله.
وقال عبد الرحمن بن زيد: لما قال عيسى لمريم: { أَلا تَحْزَنِي } قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي؟! لا ذاتُ زوج ولا مملوكة، أي شيء عذري عند الناس؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا، قال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام: { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } قال: هذا كله من كلام عيسى لأمه. وكذا قال وهب.
{ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) } .
يقول تعالى مخبرًا عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك، وألا تكلم أحدًا من البشر فإنها (1) ستكفى أمرها ويقام بحجتها (2) فسلمت لأمر الله، عز وجل، واستسلمت لقضائه، وأخذت ولدها { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } فلما رأوها كذلك، أعظموا أمرها واستنكروه جدًّا، وقالوا: { يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا } أي: أمرًا عظيمًا. قاله مجاهد، وقتادة والسدي، وغير واحد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا سَيَّار (3) حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا أبو عمران الجَوْني، عن نوف البِكَاليّ قال: وخرج قومها في طلبها، وكانت من أهل بيت نبوة وشرف. فلم يحسوا (4) منها شيئًا، فرأوا (5) راعي بقر فقالوا: رأيت فتاة كذا وكذا نَعْتُها؟ قال: لا ولكني رأيت الليلة من بقري ما لم أره منها قط. قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيتها (6) سُجَّدا نحو هذا الوادي. قال عبد الله بن أبي زياد: وأحفظ عن سيار أنه قال: رأيت نورًا ساطعًا. فتوجهوا حيث قال لهم، فاستقبلتهم مريم، فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها، فجاءوا حتى قاموا عليها، { قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا } أمرًا عظيمًا. { يَا أُخْتَ هَارُونَ } أي: يا شبيهة هارون في العبادة { مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا } أي: أنت من بيت طيب طاهر، معروف بالصلاح
__________
(1) في ف، أ: "فإنه".
(2) في ف: "وتقام حجتها".
(3) في ت: "سفيان"، وفي أ: "شيبان".
(4) في ت: "يحسبوا".
(5) في أ: "فلقوا".
(6) في ف، أ: "رأيتها الليلة".

والعبادة والزهادة (1) ، فكيف صدر هذا منك؟
قال علي بن أبي طلحة (2) ، والسدي: قيل لها: { يَا أُخْتَ هَارُونَ } أي: أخي موسى، وكانت من نسله (3) كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وللمضري: يا أخا مضر.
وقيل: نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون، فكانت تقاس (4) به في العبادة، والزهادة.
وحكى ابن جرير عن بعضهم: أنهم شبهوها برجل فاجر كان فيهم. يقال له: هارون. ورواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.
وأغرب من هذا كله ما رواه ابن أبي حاتم.
حدثنا علي بن الحسين الهِسِنْجَاني (5) حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا المفضل بن فَضَالة، حدثنا أبو صخر، عن القُرَظي في قول الله عز وجل: { يَا أُخْتَ هَارُونَ } قال: هي أخت هارون لأبيه وأمه، وهي أخت موسى أخي هارون التي قَصَّت أثر موسى، { فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [ القصص : 11]
وهذا القول خطأ محض، فإن الله تعالى قد ذكر في كتابه أنه قفَّى بعيسى بعد الرسل، فدل على أنه آخر الأنبياء بعثًا وليس بعده إلا محمد صلوات الله وسلامه عليه (6) ؛ ولهذا ثبت في الصحيح عند البخاري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي (7) صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا أولى الناس بابن مريم؛ إلا أنه (8) ليس بيني وبينه نبي" ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القرظي، لم يكن متأخرًا عن الرسل سوى محمد. ولكان قبل سليمان و (9) داود؛ فإن الله قد ذكر أن داود بعد موسى، عليهما السلام في قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسِيتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَالَنَا أَلا نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [ البقرة : 246 ] فذكر القصة إلى أن قال: { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } الآية [ البقرة : 251 ]، والذي جرأ القرظي على هذه المقالة ما في التوراة بعد خروج موسى وبني إسرائيل من البحر، وإغراق فرعون وقومه، قال: وكانت مريم بنت عمران أخت موسى وهارون النبيين، تضرب بالدف هي والنساء معها يسبحن الله ويشكرنه على ما أنعم به على بني إسرائيل، فاعتقد القرظي أن هذه هي أم عيسى. وهي (10) هفوة وغلطة شديدة، بل هي باسم هذه، وقد كانوا يسمون بأسماء (11) أنبيائهم وصالحيهم، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الله بن إدريس، سمعت أبي يذكره (12) عن سِمَاك، عن علقمة بن وائل، عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران، فقالوا: أرأيت ما تقرءون: { يَا أُخْتَ هَارُونَ }
__________
(1) في ت: "والزهاد".
(2) في أ: "طالب".
(3) في ت: "قبيلته".
(4) في ت، ف: "+تقاسي".
(5) في +: "الححستاني".
(6) في ف: عليه وسلامه".
(7) في ف، أ: "عن رسول الله".
(8) في أ: "إن أولى الناس بابن مريم لأنا إن".
(9) في أ: "بن".
(10) في ف، أ: "وهذه".
(11) في ف، أ: "باسم".
(12) في أ: "يذكر".

، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا أخبرتهم أنهم كانوا يَتَسَمّون (1) بالأنبياء والصالحين قبلهم؟".
انفرد بإخراجه مسلم، والترمذي، والنسائي، من حديث عبد الله بن إدريس، عن أبيه، عن سماك، به (2) ، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن سعيد بن أبي صدقة، عن محمد بن سيرين قال نُبِّئت أن كعبًا قال: إن قوله: { يَا أُخْتَ هَارُونَ } : ليس بهارون أخي موسى. قال: فقالت له عائشة: كذبت، قال (3) يا أم المؤمنين، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله، فهو أعلم وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة. قال: فسكتت (4) وفي هذا التاريخ نظر.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: { يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا } قال: كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح، ولا يعرفون بالفساد، [ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به، وآخرون يعرفون بالفساد] (5) ويتوالدون به. وكان هارون مصلحًا محببًا، في عشيرته، وليس بهارون أخي (6) موسى، ولكنه هارون آخر، قال: وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفًا، كلهم يسمى هارون، من بني إسرائيل.
وقوله: { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا } أي: إنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها (7) ، وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرْية، وقد كانت يومها ذلك صائمة، صامتة فأحالت الكلام عليه، وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه، فقالوا متهكمين بها، ظانين أنها تزدري بهم وتلعب بهم: { كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا } ؟
قال ميمون بن مِهْران: { فَأَشَارَتْ [إِلَيْهِ] } (8) ، قالت: كلموه. فقالوا: على ما جاءت به من الداهية تأمرنا أن نكلم من كان في المهد صبيا!
وقال السدي: لما أشارت إليه غضبوا، وقالوا: لَسُخْريَتُها (9) بنا حين تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها.
{ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا } أي: من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره، كيف يتكلم؟ قال: { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ } أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى (10) وبرأ الله عن الولد، وأثبت لنفسه العبودية لربه.
وقوله: { آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } : تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة.
__________
(1) في ف ، أ: "يسمون".
(2) المسند (4/252) وصحيح مسلم برقم (2135) وسنن الترمذي برقم (3155) وسنن النسائي الكبرى برقم (11315).
(3) في ف، أ: "فقال".
(4) تفسير الطبري (16/58).
(5) زيادة من ف، أ، والطبري.
(6) في أ: "وليس أخي بهارون".
(7) في ف، أ: "قصتها".
(8) زيادة من ف، أ.
(9) في أ: "لسخرتها".
(10) في ف، أ: "عز وجل".

قال نوف البكالي: لما قالوا لأمه ما قالوا، كان يرتضع ثديه، فنزع الثدي من فمه، واتكأ على جنبه الأيسر، وقال: { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } إلى قوله: { مَا دُمْتُ حَيًّا }
وقال حماد بن سلمة، عن ثابت البُنَاني: رفع إصبعه السبابة فوق منكبه، وهو يقول: { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } الآية.
وقال عكرمة: { آتَانِيَ الْكِتَابَ } أي: قضى أنه (1) يؤتيني الكتاب فيما قضى.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا يحيى بن سعيد (2) عن عبد العزيز بن زياد، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: كان عيسى ابن مريم قد درس الإنجيل وأحكمه (3) في بطن أمه فذلك قوله: { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } .
يحيى بن سعيد العطار الحمصي: متروك.
وقوله: { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ } قال مجاهد، وعمرو بن قيس، والثوري: وجعلني معلمًا للخير. وفي رواية عن مجاهد: نَفَّاعًا.
وقال ابن جرير: حدثني سليمان بن عبد الجبار، حدثنا محمد بن يزيد (4) بن خُنَيْس المخزومي، سمعت وُهَيْب بن الورد مولى بني مخزوم قال: لقي عالم عالمًا هو فوقه في العلم، فقال له: يرحمك الله، ما الذي أعلن من عملي؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده، وقد أجمع الفقهاء على قول الله: { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ } ، وقيل: ما بركته؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أينما كان.
وقوله: { وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا } كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99].
وقال عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك بن أنس في قوله: { وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا } قال: أخبره بما هو كائن من أمره إلى أن يموت (5) ، ما أثبتها لأهل القدر.
وقوله: { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي } أي: وأمرني ببر والدتي، ذكره بعد طاعة الله ربه؛ لأن الله تعالى كثيرًا ما يقرن (6) بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين، كما قال تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 ] وقال { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ لقمان : 14 ].
وقوله: { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا } أي: ولم يجعلني جبارًا مستكبرًا عن عبادته وطاعته وبر والدتي، فأشقى بذلك.
قال سفيان الثوري: الجبار الشقي: الذي يقبل (7) على الغضب.
__________
(1) في ف، أ: "أن".
(2) في أ: "يحيى بن سعيد العطار".
(3) في أ: "وأحكمها".
(4) في أ: "زيد".
(5) في أ: "أمره حتى يموت".
(6) في أ: "قرن كثيرا".
(7) في ف: "يقتل".

ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)

وقال بعض السلف: لا تجد أحدًا عاقًّا لوالديه إلا وجدته جبارًا شقيًّا، ثم قرأ: { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا } ، قال: ولا تجد سيئ الملكة إلا وجدته مختالا فخورًا، ثم قرأ: { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا } [ النساء : 36 ]
وقال قتادة: ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، في آيات سلطه الله عليهن، وأذن له فيهن، فقالت: طوبى للبطن الذي حملك وللثدي الذي أرضعت به، فقال نبي الله عيسى، عليه السلام، يجيبها: طوبى لمن تلا كلام (1) الله، فاتبع ما فيه ولم يكن جبارًا شقيًّا.
وقوله: { وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا } : إثبات منه لعبوديته لله عز وجل، وأنه مخلوق من خلق الله يحيا (2) ويموت ويبعث كسائر الخلائق، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد، [صلوات الله وسلامه عليه] (3)
{ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) } .
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: عليه ذلك الذي قصصنا (4) عليك من خبر عيسى، { قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ } أي: يختلف المبطلون والمحقون ممن آمن به وكفر به؛ ولهذا قرأ الأكثرون: "قول الحق" برفع قول. وقرأ عاصم، وعبد الله بن عامر: { قَوْلَ الْحَقِّ } .
وعن ابن مسعود أنه قرأ: "ذلك عيسى ابن مريم قَالُ الحق"، والرفع أظهر إعرابًا، ويشهد له قوله تعالى: { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [ آل عمران : 59 ، 60 ].
ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبدًا نبيًّا، نزه نفسه المقدسة فقال: { مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ } أي: عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علوًّا كبيرًا، { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي: إذا أراد شيئًا فإنما يأمر به، فيصير (5) كما يشاء، كما قال تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [ آل عمران : 59 ، 60 ]
وقوله: { وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } أي: ومما (6) أمر عيسى به (7) قومه وهو في مهده، أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربهم وربه (8) ، وأمرهم بعبادته، فقال: { فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }
__________
(1) في أ: "كتاب".
(2) في أ: "يحيي ويميت".
(3) زيادة من أ.
(4) في ف: "قصصناه".
(5) في ت: "فتصير".
(6) في ت: "ربما".
(7) في ت، ف، أ: "به عيسى".
(8) في ت، ف: "ربه وربهم".

أي: هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم، أي: قويم، من اتبعه رشد وهدي، ومن خالفه ضل وغوى.
وقوله: { فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } أي: اختلفت (1) أقوال أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله، وأنه عبده (2) ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فصَمَّمَت طائفة -وهم جمهور اليهود، عليهم لعائن الله -على أنه ولد زنْيَة، وقالوا: كلامه هذا سحر. وقالت طائفة أخرى: إنما تكلم (3) الله. وقال آخرون: هو ابن الله، وقال آخرون: ثالث ثلاثة. وقال آخرون: بل هو عبد الله ورسوله. وهذا هو قول الحق، الذي أرشد الله إليه (4) المؤمنين. وقد روي [نحو هذا] (5) عن عمرو بن ميمون، وابن جريج، وقتادة، وغير واحد من السلف والخلف.
قال عبد الرزاق: أخبرنا (6) مَعْمَر، عن قتادة في قوله: { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ } ، قال: اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم، فامتروا (7) في عيسى حين رفع، فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء -وهم اليعقوبية. فقال الثلاثة: كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث: قل (8) أنت فيه، قال: هو ابن الله -وهم النسطورية. فقال الاثنان: كذبت. ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه. قال: هو ثالث ثلاثة: الله إله، وهو إله، وأمه إله -وهم الإسرائيلية ملوك (9) النصارى، عليهم لعائن الله. قال الرابع: كذبت، بل هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته، وهم المسلمون. فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا، فاقتتلوا فظُهِرَ على المسلمين، وذلك قول الله تعالى: { وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ } [ آل عمران : 21 ] وقال (10) قتادة: وهم الذين قال الله: { فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } قال: اختلفوا فيه فصاروا أحزابًا (11)
وقد روى ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، وعن عروة بن الزبير، وعن بعض أهل العلم، قريبًا من ذلك. وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم: أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم، فكان جماعة الأساقفة (12) منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفًا، فاختلفوا في عيسى ابن مريم، عليه السلام، اختلافًا متباينًا، فقالت كل شرذمة فيه قولا فمائة تقول فيه قولا (13) وسبعون تقول (14) فيه قولا آخر، وخمسون تقول (15) فيه شيئًا آخر، ومائة وستون تقول شيئًا، ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاثمائة وثمانية منهم، اتفقوا على قول وصَمَّموا عليه (16) ومال (17) إليهم الملك، وكان فيلسوفًا، فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم، فوضعوا له الأمانة الكبيرة، بل هي الخيانة العظيمة، ووضعوا له كتب القوانين، وشرَّعوا له أشياء (18)
__________
(1) في أ: "اختلف".
(2) في ت: "عبد الله".
(3) في ف، أ: "يكلم".
(4) في ت: "فيه".
(5) زيادة من أ.
(6) في ت: "حدثنا".
(7) في أ: "فامتتروا".
(8) في أ: "قلت".
(9) في ت: "ملك".
(10) في ت، ف، أ: "قال".
(11) تفسير عبد الرزاق (2/9).
(12) في ت: "الأساومة".
(13) في أ: "شيئا".
(14) في ف، أ: "يقولون".
(15) في ف، أ: "يقولون".
(16) في ت: "عليهم".
(17) في ف، أ: "فمال".
(18) في أ: "شيئا".

أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)

وابتدعوا بدعًا كثيرة، وحَرَّفوا دين المسيح، وغيروه، فابتنى حينئذ لهم (1) الكنائس الكبار في مملكته كلها: بلاد الشام، والجزيرة، والروم، فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثنتي عشرة (2) ألف كنيسة، وبنت أمه هيلانة قُمَامة على المكان الذي صلب فيه المصلوب (3) الذي تزعم اليهود والنصارى أنه المسيح، وقد كذبوا، بل رفعه الله إلى السماء.
وقوله: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله، وافترى، وزعم أن له ولدا. ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة وأجلهم حلمًا وثقة بقدرته عليهم؛ فإنه الذي لا يعجل على من عصاه، كما جاء في الصحيحين: "إن الله ليملي (4) للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] وفي الصحيحين أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أحد أصبر على أذى سمعه (5) من الله، إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم" (6) . وقد قال الله تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ الحج : 48 ] وقال تعالى: { وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ } [ إبراهيم : 42 ] ولهذا قال هاهنا: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي: يوم القيامة، وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته، عن عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله [ورسوله] (7) وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" (8)
{ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) }
__________
(1) في ت، ف، أ: "فابتنى لهم حينئذ".
(2) في أ: "اثنى عشر"، وهو خطأ والصواب ما بالأصل.
(3) في ت: "المصلون".
(4) في ت: "إنه ليملي".
(5) في ت: "يسمعه".
(6) صحيح البخاري برقم (6099) وصحيح مسلم برقم (2804).
(7) زيادة من ف، أ، والبخاري ومسلم.
(8) صحيح البخاري برقم (3435) وصحيح مسلم برقم (29).

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)

{ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) } .
يقول تعالى مخبرًا عن الكفار [يوم القيامة] (1) أنهم أسْمَعُ شيء وأبْصَرُه كما قال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [ السجدة :12 ] أي: يقولون ذلك حين لا ينفعهم ولا يجدي (2) عنهم شيئًا، ولو كان هذا قبل معاينة العذاب، لكان نافعًا لهم ومنقذًا من عذاب الله، ولهذا قال: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } (3) أي: ما أسمعهم وأبصرهم { يَوْمَ يَأْتُونَنَا } يعني: يوم القيامة { لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ } أي: في الدنيا { فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي: لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون، فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون، ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك.
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ت: "يجزي".
(3) في أ: "به".

ثم قال تعالى: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ } أي: أنذر الخلائق يوم الحسرة، { إِذْ قُضِيَ الأمْرُ } أي: فصل بين أهل الجنة وأهل النار، ودَخل كل إلى ما صار إليه مخلدًا فيه، { وَهُمْ } أي: اليوم { فِي غَفْلَةٍ } عما أنذروا به { وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي: لا يُصَدقون به.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد [الخدري] (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ قال: "فيشرئبون [فينظرون] (2) ويقولون: نعم هذا الموت". قال: "فيقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون فينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت" قال: "فيؤمر به (3) فيذبح" قال: "ويقال: يا أهل الجنة، خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت" قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ } وأشار بيده (4) قال: "أهل الدنيا في غفلة الدنيا".
هكذا رواه الإمام أحمد وقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، من حديث الأعمش، به (5) . ولفظهما قريب من ذلك. وقد روى هذا الحديث الحسن بن عرفة: حدثني أسباط بن محمد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعًا، مثله. وفي سنن ابن ماجه وغيره، من حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة بنحوه (6) وهو في الصحيحين عن ابن عمر (7) . ورواه ابن جُرَيْج قال: قال ابن عباس: فذكر من قبله نحوه (8) . ورواه أيضًا عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير يقول في قصصه: يؤتى بالموت كأنه دابة، فيذبح والناس ينظرون (9) وقال سفيان الثوري، عن سلمة بن كُهَيل، حدثنا أبو الزعراء، عن عبد الله -هو ابن مسعود-في قصة ذكرها، قال: فليس نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار، وهو يوم الحسرة. [فيرى أهل النار البيت الذي الذي كان قد أعده الله لهم لو آمنوا، فيقال لهم: لو آمنتم وعملتم صالحا، كان لكم هذا الذي ترونه في الجنة، فتأخذهم الحسرة] (10) قال: ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار، فيقال: لولا أن مَنَّ الله عليكم... (11)
وقال السدي، عن زياد، عن زِرِّ بن حُبَيْش، عن ابن مسعود في قوله: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ } قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، أتي بالموت في صورة كبش أملح، حتى يوقف بين الجنة والنار، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة، هذا الموت الذي كان يُميتُ الناس في الدنيا، فلا يبقى أحد في أهل عليين ولا في أسفل درجة في الجنة إلا نظر إليه، ثم ينادى: يا أهل
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ف، أ، والمسند.
(3) في ت: "فيؤتى بهم".
(4) المسند (3/9).
(5) صحيح البخاري برقم (4730) وصحيح مسلم برقم (2849).
(6) سنن ابن ماجه برقم (4327).
(7) صحيح البخاري برقم (6548) وصحيح مسلم برقم (2850).
(8) أخرجه الطبري في تفسيره (16/66).
(9) أخرجه الطبري في تفسيره (16/67).
(10) زيادة من ف، أ، والطبري.
(11) رواه الطبري في تفسيره (16/66).

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)

النار، هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا، فلا يبقى أحد في ضحضاح من نار ولا في أسفل درك من جهنم، إلا نظر إليه، ثم يذبح بين الجنة والنار، ثم ينادى: يا أهل الجنة، هو الخلود أبد الآبدين، ويا أهل النار، هو الخلود أبد الآبدين، فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتًا من فرح ماتوا، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتًا من شهقة ماتوا فذلك قوله: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ } يقول: إذا ذبح الموت. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ } من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذره عباده.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ } قال: يوم القيامة، وقرأ: { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } [ الزمر : 56 ]
وقوله: { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } يخبر تعالى أنه الخالق المالك المتصرف، وأن الخلق كلهم يهلكون ويبقى هو، تعالى وتقدس ولا أحد يَدّعي مُلْكا ولا تصرفًا، بل هو الوارث لجميع خلقه، الباقي بعدهم، الحاكم فيهم، فلا تظلم نفس شيئًا ولا جناح بعوضة ولا مثقال ذرة.
قال ابن أبي حاتم: ذكر هدبة بن خالد القيسي: حدثنا حزم بن أبي حزم القُطَعي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن صاحب الكوفة: أما بعد، فإن الله كتب على خلقه حين خلقهم الموت، فجعل مصيرهم إليه، وقال فيما أنزل من كتابه الصادق الذي حفظه بعلمه، وأشهد ملائكته على خلقه: أنه يرث الأرض ومن عليها، وإليه يرجعون.
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) } .
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (1) : واذكر في الكتاب إبراهيم واتلُه على قومك، هؤلاء الذين يعبدون الأصنام، واذكر لهم ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن الذين (2) هم من ذريته، ويدعون أنهم على ملته، وهو (3) كان صديقًا نبيًّا -مع أبيه-كيف نهاه عن عبادة الأصنام فقال، { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } أي: لا ينفعك ولا يدفع عنك ضررًا.
{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ } : يقول: فإن كنت من صلبك وترى أني أصغر منك، لأني ولدك، فاعلم أني قد اطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه ولا جاءك بعد، { فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا } أي: طريقًا مستقيمًا موصلا إلى نيل المطلوب، والنجاة من المرهوب.
__________
(1) في ف: "صلوات الله وسلامه عليه".
(2) في ف، ت: "الذي".
(3) في: "وقد".

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)

{ يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ } أي: لا تطعه (1) في عبادتك هذه الأصنام، فإنه هو الداعي إلى ذلك، والراضي به، كما قال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ } [ يس : 60 ] وقال: { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا } [ النساء : 117 ]
وقوله: { إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا } أي: مخالفًا مستكبرًا عن طاعة ربه، فطرده وأبعده، فلا تتبعه تصر مثله.
{ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ } أي: على شركك وعصيانك لما آمرك به، { فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا } (2) يعني: فلا يكون لك مولى ولا ناصرًا ولا مغيثًا إلا إبليس، وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء، بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك، كما قال تعالى: { تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النحل : 63 ] .
{ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) } .
يقول تعالى مخبرًا عن جواب أبي إبراهيم [لولده إبراهيم] (3) فيما دعاه إليه أنه قال: { أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ } يعني: [إن كنت لا] (4) تريد عبادتها ولا ترضاها، فانته عن سبها وشتمها وعيبها، فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصتُ منك وشتمتك وسببتك، وهو (5) قوله: { لأرْجُمَنَّكَ } ، قاله ابن عباس، والسدي، وابن جريج، والضحاك، وغيرهم.
وقوله: { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } : قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن إسحاق: يعني دهرًا.
وقال الحسن البصري: زمانًا طويلا. وقال السدي: { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } قال: أبدًا.
وقال علي بن أبي طلحة، والعوفي، عن ابن عباس: { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } قال: سويًّا سالمًا، قبل أن تصيبك مني عقوبة. وكذا قال الضحاك، وقتادة وعطية الجَدَلي و[أبو] (6) مالك، وغيرهم، واختاره ابن جرير.
فعندها قال إبراهيم لأبيه: { سَلامٌ عَلَيْكَ } كما قال تعالى في صفة المؤمنين: { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا } [ الفرقان : 63 ] وقال تعالى: { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ القصص : 55].
__________
(1) في أ: "لا تطيعه" وهو خطأ، والصواب ما بالأصل.
(2) في ت: "فيكون".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) زيادة من ف، أ، وفي هـ: "أما".
(5) في أ: "وهي".
(6) زيادة من ف، أ.

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

ومعنى قول إبراهيم لأبيه: { سَلامٌ عَلَيْكَ } يعني: أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى، وذلك لحرمة الأبوة، { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي } أي: ولكن سأسال الله تعالى فيك أن يهديك ويغفر ذنبك، { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } قال ابن عباس وغيره: لطيفًا، أي: في أن هداني لعبادته والإخلاص له. وقال مجاهد وقتادة، وغيرهما: { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } قال (1) : [و] (2) عَوّدَه الإجابة.
وقال السدي: "الحفي": الذي يَهْتَم بأمره.
وقد استغفر إبراهيم لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق، عليهما السلام، في قوله: { رَبَّنَا (3) اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } [ إبراهيم : 41 ].
وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام، وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك حتى أنزل الله تعالى: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } الآية [ الممتحنة : 4 ]، يعني إلا في هذا القول، فلا (4) تتأسوا به. ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك، ورجع عنه، فقال (5) تعالى: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [ التوبة : 113 ، 114 ].
وقوله: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي } أي: أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها [من دون الله] (6) ، { وَأَدْعُو رَبِّي } أي: وأعبد ربي وحده لا شريك له، { عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا } و "عسى" هذه موجبة لا محالة، فإنه عليه السلام، سيد الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه سلم.
{ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) } .
يقول: فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله، أبدله الله من هو خير منهم، ووهب له إسحاق ويعقوب، يعني ابنه وابن إسحاق، كما قال في الآية الأخرى: { وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ]، وقال: { وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] .
ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب، وهو نص القرآن في سورة البقرة: { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ]. ولهذا إنما ذكر هاهنا إسحاق ويعقوب، أي: جعلنا له نسلا وعقبا أنبياء، أقر الله بهم
__________
(1) في أ: "قالوا".
(2) زيادة من ت .
(3) في ت، ف، أ: "رب".
(4) في ت: "ولا".
(5) في ت: "وقال".
(6) زيادة من ف، أ.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)

عينه في حياته؛ ولهذا قال: { وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا } ، فلو لم يكن يعقوب قد نُبئ في حياة إبراهيم، لما اقتصر عليه، ولذكر ولده يوسف، فإنه نبي أيضًا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته، حين سئل عن خير الناس، فقال: "يوسف نبي الله، ابن يعقوب نبي الله، ابن إسحاق نبي الله، ابن إبراهيم خليل الله" (1) وفي اللفظ الآخر: "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسفُ بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" (2)
وقوله: { وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } : قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني الثناء الحسن. وكذا قال السدي، ومالك بن أنس.
وقال ابن جرير: إنما قال: { عَلِيًّا } ؛ لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا (51) }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3374) وصحيح مسلم برقم (2378).
(2) صحيح البخاري برقم (4688).

وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)

{ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) } .
لما ذكر تعالى إبراهيم الخليل وأثنى عليه، عطف بذكر الكليم، فقال: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا } قرأ بعضهم بكسر اللام، من الإخلاص في العبادة.
قال الثوري (1) ، عن عبد العزيز بن رُفَيع (2) ، عن أبي لبابة (3) قال: قال الحواريون: يا روح الله، أخبرنا عن المخلص لله. قال: الذي يعمل لله، لا يحب أن يحمده الناس.
وقرأ الآخرون (4) بفتحها، بمعنى أنه كان مصطفى، كما قال تعالى: { إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ } [ الأعراف : 144 ].
{ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا } ، جُمِع له بين الوصفين، فإنه كان من المرسلين الكبار أولي (5) العزم الخمسة، وهم: نوح وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر الأنبياء أجمعين.
وقوله: { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ } أي: الجبل { الأيْمَنِ } أي: من جانبه الأيمن من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة، رآها تلوح فقصدها، فوجدها في جانب الطور الأيمن منه (6) ، عند شاطئ الوادي. فكلمه الله تعالى، ناداه وقربه وناجاه (7) . قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار (8) ، حدثنا يحيى -هو القطان-حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب (9) ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } قال: أدني حتى سمع (10) صريف القلم.
__________
(1) في أ: "قال العوفي".
(2) في ت: "نفيع".
(3) في ت: "تمامة".
(4) في أ: "قرأ آخرون".
(5) في ت: "وأولي".
(6) في ت، ف، أ: "منه غربية".
(7) في ت: "ناداه أو قربه فناجاه".
(8) في ت: "ابن يسار".
(9) في ت: "ابن يساري"، وفي أ: "ابن يسار".
(10) في ت: "يسمع".

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)

وهكذا قال مجاهد، وأبو العالية، وغيرهم. يعنون صريف القلم بكتابة التوراة.
وقال السدي: { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } قال: أدخل في السماء فكلم، وعن مجاهد نحوه.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } قال: نجا بصدقه (1)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الجبار بن عاصم، حدثنا محمد بن سلمة الحراني، عن أبي الوصل، عن شهر بن حَوْشَب، عن عمرو بن معد يكرب قال: لما قرب الله موسى نجيًا بطور سيناء، قال: يا موسى، إذا خلقت لك قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وزوجة تعين على الخير، فلم أخزن عنك من الخير شيئًا، ومن أخزن عنه هذا فلم أفتح له من الخير شيئًا.
وقوله: { وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا } أي: وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه، فجعلناه نبيًّا، كما قال في الآية الأخرى: { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ } [ القصص : 34 ]، وقال (2) : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } [ طه : 36 ]، وقال: { فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ . وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ } [ الشعراء : 13 ، 14 ]؛ ولهذا قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبيًّا، قال الله تعالى: { وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا } .
قال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن داود، عن عكرمة قال: قال ابن عباس: قوله: { وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا } ، قال: كان هارون أكبر من موسى، ولكن أراد: وهب له نبوته.
وقد ذكره ابن أبي حاتم معلقًا، عن يعقوب وهو ابن إبراهيم الدورقي، به.
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) } .
هذا (3) ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهما السلام، وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه { كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ }
قال (4) ابن جريج: لم يَعدْ ربه عدة إلا أنجزها، يعني: ما التزم قط عبادة (5) بنذر إلا قام بها، ووفاها حقها.
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن سهل بن عقيل حدثه، أن إسماعيل النبي، عليه السلام، وعد رجلا مكانًا أن يأتيه، فجاء ونسي الرجل، فظل به إسماعيل وبات حتى جاء الرجل من الغد، فقال: ما برحت من هاهنا؟ قال: لا. قال: إني نسيت. قال: لم أكن لأبرح حتى تأتيني. فلذلك { كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ } .
__________
(1) في ت: "لصدقه".
(2) في ت، ف: "إلى أن قال".
(3) في أ: "وهذا".
(4) في ت: "قالت".
(5) في ف، أ: "عبادة قط".

وقال سفيان الثوري: بلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره حولا حتى جاءه.
وقال ابن (1) شَوْذَب: بلغني أنه اتخذ ذلك الموضع سكنًا.
وقد روى أبو داود في سننه، وأبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه "مكارم الأخلاق" من طريق إبراهيم بن طَهْمَان، عن عبد الله (2) بن مَيْسَرة، عن عبد الكريم -يعني: ابن عبد الله بن شَقيق-عن أبيه، عن عبد الله بن أبي الحمساء قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فبقيت له عليّ بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك، قال: فنسيت (3) يومي والغد، فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك، فقال لي: "يا فتى، لقد شققت (4) علي، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك" لفظ الخرائطي (5) ، وساق آثارًا حسنة في ذلك.
ورواه ابن مَنْده أبو عبد الله في كتاب "معرفة الصحابة" ، بإسناده (6) عن إبراهيم بن طَهْمَان، عن بُدَيْل بن ميسرة، عن عبد الكريم، به (7) .
وقال بعضهم: إنما قيل له: { صَادِقَ الْوَعْدِ } ؛ لأنه قال لأبيه: { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } [ الصافات : 102 ]، فصدق في ذلك.
فصدق الوعد من الصفات الحميدة، كما أن خُلْفَه من الصفات الذميمة، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ، 3 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" (8)
ولما كانت هذه صفات المنافقين، كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين، ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق الوعد أيضًا، لا يعد أحدًا شيئًا إلا وفّى له به، وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب، فقال: "حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي" (9) . ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال الخليفة أبو بكر الصديق: من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَةٌ أو دَيْن فليأتني أنجز له، فجاءه (10) جابر بن عبد الله، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قال: "لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا"، يعني: ملء كفيه، فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابرًا، فغرف بيديه من المال، ثم أمره بِعَدّه، فإذا هو خمسمائة درهم، فأعطاه مثليها معها (11)
وقوله: { وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا } في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق؛ لأنه إنما
__________
(1) في ت: "أبو".
(2) في سنن أبي داود: "بديل".
(3) في ت: "نسيت".
(4) في ت: "لو أشفقت".
(5) سنن أبي داود برقم (4996) ومكارم الأخلاق برقم (177).
(6) في ت، أ: "إنه بإسناده".
(7) ورواه ابن الأثير في أسد الغابة (3/113) بإسناده إلى إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة مثله.
(8) رواه البخاري في صحيحه برقم (33) ومسلم في صحيحه برقم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(9) رواه البخاري في صحيحه برقم (3729) ومسلم في صحيحه برقم (2449) من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه.
(10) في أ: "فجاء".
(11) رواه البخاري في صحيحه برقم (2683) ومسلم في صحيحه برقم (2314).

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)

وصف (1) بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف (2) بالنبوة والرسالة. وقد ثبت في صحيح مسلم (3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل..." وذكر تمام الحديث، فدل على صحة ما قلناه.
وقوله: { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا } : هذا أيضًا من الثناء الجميل، والصفة الحميدة، والخلة السديدة (4) ، حيث كان مثابرًا على طاعة ربه آمرًا بها لأهله (5) ، كما قال تعالى لرسوله: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [ طه : 132 ]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ } الآية [ التحريم : 6 ] أي: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملا فتأكلهم النار يوم القيامة، وقد جاء في الحديث، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته، فإن أبت نَضَح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت (6) في وجهه الماء" أخرجه أبو داود، وابن ماجه (7) .
وعن أبي سعيد، وأبي هريرة، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته، فصليا ركعتين، كتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات". رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، واللفظ له (8) .
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) } .
وهذا (9) ذكر إدريس، عليه السلام، بالثناء عليه، بأنه (10) كان صديقًا نبيًّا، وأن الله رفعه مكانًا عليًّا. وقد تقدم في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به في ليلة الإسراء وهو في السماء الرابعة.
وقد روى ابن جرير هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا، فقال: حدثني يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، عن سليمان الأعمش، عن شَمِر بن عطية، عن هلال بن يساف قال: سأل ابن عباس كعبًا، وأنا حاضر، فقال له: ما قول الله -عز وجل-لإدريس: { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } فقال كعب: أما إدريس فإن الله أوحى إليه أني أرفع لك كل يوم مثل عمل جميع بني آدم، فأحب أن يزداد عملا (11) فأتاه خليل له من الملائكة فقال: إن الله أوحى إليّ كذا وكذا، فكلم لي (12) ملك الموت، فَلْيؤخرني حتى أزداد عملا فحمله بين جناحيه، حتى صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم مَلَك الموت منحدرًا، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس، فقال: وأين إدريس؟ فقال: هو ذا على ظهري. قال ملك الموت: فالعجب! بعثت وقيل لي: اقبض روح إدريس
__________
(1) في ف: "وصفه".
(2) في ف: "وصفه".
(3) لفظه عند مسلم في صحيحه برقم (2276): "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشا"، والله أعلم.
(4) في ت: "الشديدة".
(5) في ف: "أهله".
(6) في ت: "فنضحت".
(7) سنن أبي داود برقم (1450) وسنن ابن ماجه برقم (1336).
(8) سنن أبي داود برقم (1451) وسنن النسائي الكبرى برقم (11406) وسنن ابن ماجه برقم (1335).
(9) في ت: "وهكذا".
(10) في أ: "فإنه".
(11) في ف، أ: "تزداد علما".
(12) في ت: "له".

أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)

في السماء الرابعة". فجعلت أقول: كيف (1) أقبض روحه في السماء الرابعة، وهو في الأرض؟ فقبض روحه هناك، فذلك (2) قول الله: { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } (3) .
هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات، وفي بعضه نكارة، والله أعلم.
وقد رواه (4) ابن أبي حاتم من وجه آخر، عن ابن عباس: أنه سأل كعبًا، فذكر نحو ما تقدم، غير أنه قال لذلك الملك: هل لك أن تسأله -يعني: ملك الموت-كم بقي من أجلي لكي أزداد من العمل وذكر باقيه (5) ، وفيه: أنه لما سأله عما بقي من أجله، قال (6) : لا أدري حتى أنظر، ثم نظر، قال: إنك تسألني (7) عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين، فنظر الملك (8) تحت جناحه إلى إدريس، فإذا (9) هو قد قبض، عليه السلام، وهو لا يشعر به.
ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس: أن إدريس كان خياطًا، فكان (10) لا يغرز إبرة إلا قال: "سبحان الله"، فكان يمسي حين يمسي (11) وليس في الأرض أحد أفضل عملا منه. وذكر بقيته كالذي قبله، أو نحوه.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله: { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } قال: إدريس رفع ولم يمت، كما رفع عيسى.
وقال سفيان، عن منصور، عن مجاهد: { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } قال: [رفع إلى] (12) السماء الرابعة.
وقال العوفي عن ابن عباس: { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } قال: رفع إلى السماء السادسة فمات بها. وهكذا قال الضحاك بن مُزَاحم.
وقال الحسن، وغيره، في قوله: { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } قال: الجنة.
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) }
يقول تعالى هؤلاء النبيون -وليس المراد [هؤلاء] (13) المذكورين في هذه السورة فقط، بل جنس الأنبياء عليهم السلام، استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس -{ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ } الآية.
__________
(1) في ف: "فكيف".
(2) في ف: "فهذا".
(3) تفسير الطبري (16/72).
(4) في أ: "وقد روى".
(5) في أ: "وذكر ما فيه".
(6) في ف، أ: "فقال".
(7) في ف، أ: "لتسألني".
(8) في أ: "ملك الموت".
(9) في ت: "قال".
(10) في ف: "وكان".
(11) في أ: "وكان يمشي حين يمشي".
(12) زيادة من ف، أ.
(13) زيادة من ف، أ.

قال السدي وابن جرير، رحمه الله: [فالذي عنى به من ذرية آدم: إدريس، والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح: إبراهيم] (1) والذي عنى به من ذرية إبراهيم: إسحاق ويعقوب وإسماعيل، والذي عنى به من ذرية إسرائيل: موسى، وهارون، وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم.
قال ابن جرير: ولذلك (2) فرّق أنسابهم، وإن كان يجمع جميعهم آدم؛ لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة، وهو إدريس، فإنه جد نوح.
قلت: هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح، عليهما السلام. وقد قيل: إنه من أنبياء بني إسرائيل، أخذًا من حديث الإسراء، حيث قال في سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم: "مرحبا بالنبي الصالح، والأخ الصالح"، ولم يقل: "والولد الصالح"، كما قال آدم وإبراهيم (3) ، عليهما السلام.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن محمد (4) أن إدريس أقدم من نوح بعثه الله إلى قومه، فأمرهم أن يقولوا: "لا إله إلا الله"، ويعملوا (5) ما شاءوا فأبوا، فأهلكهم الله عز وجل.
[ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنسُ الأنبياء، أنها كقوله تعالى في سورة الأنعام: { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ] (6) إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } إلى أن قال: { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } [ الأنعام 83-90 ] وقال تعالى: { مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (7) } [ غافر : 78 ] . وفي صحيح البخاري، عن مجاهد: أنه سأل ابن عباس: أفي "ص" سجدة؟ قال (8) نعم، ثم تلا هذه الآية: { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } ، فنبيكم ممن أُمِر أن يقتدي بهم، قال: وهو منهم، يعني داود (9) .
وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة: { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } أي: إذا سمعوا كلام الله المتضمن حُجَجه ودلائله وبراهينه، سجدوا لربهم خضوعًا واستكانة، وحمدًا وشكرًا على ما هم فيه من النعم العظيمة.
"والبُكِيّ": جمع باك، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا، اقتداء بهم، واتباعًا لمنوالهم (10)
قال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي مَعْمَر قال: قرأ عمر بن الخطاب، رضي
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في أ: "وكذلك".
(3) في ت: "إبراهيم وآدم".
(4) في ف، أ: "بن عمر".
(5) في ف، أ: "ويعملون" وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.
(6) زيادة من ت ، ف ، أ .
(7) في ت، ف، أ: "عليك وكلم الله موسى تكليما".
(8) في ف، أ: "فقال".
(9) صحيح البخاري برقم (4807).
(10) في ف، أ: "لمواليهم".

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)

الله عنه، سورة مريم، فسجد وقال: هذا السجود، فأين البكى؟ يريد البكاء.
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وسَقَط من روايته ذكر "أبي معمر" فيما رأيت (1) ، والله (2) أعلم.
{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) } .
لما ذكر تعالى حزْبَ السعداء، وهم الأنبياء، عليهم السلام، ومن اتبعهم، من القائمين بحدود الله وأوامره، المؤدين فرائض الله، التاركين لزواجره -ذكر أنه { خَلَفَ مِنْ بَعْدِهم خَلْفٌ } أي: قرون أخر، { أَضَاعُوا الصَّلاةَ } -وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد-وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سيلقون غيا، أي: خَسَارًا يوم القيامة.
وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة هاهنا، فقال قائلون: المراد بإضاعتها تَرْكُها بالكلية، قاله محمد بن كعب القُرَظي، وابن زيد بن أسلم، والسدي، واختاره ابن جرير. ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة كما هو المشهور عن الإمام أحمد، وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة، للحديث (3) : " بين العبد وبين الشرك تَركُ الصلاة" (4) ، والحديث الآخر: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" (5) . وليس هذا محل بسط هذه المسألة.
وقال الأوزاعي، عن موسى بن سليمان، عن القاسم بن مُخَيمرة في قوله: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ } ، قال: إنما أضاعوا المواقيت، ولو كان تركًا كان كفرًا.
وقال وكيع، عن المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن، والحسن بن سعد، عن ابن مسعود أنه قيل له: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن: { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } و { عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ } و { عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } ؟ قال ابن مسعود: على مواقيتها. قالوا: ما كنا نرى ذلك إلا على الترك؟ قال: ذاك (6) الكفر.
[و] (7) قال مسروق: لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس، فيكتب من الغافلين، وفي إفراطهن الهلكة، وإفراطهن: إضاعتهن عن وقتهن.
وقال الأوزاعي، عن إبراهيم بن يزيد (8) : أن عمر بن عبد العزيز قرأ: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } ، ثم قال: لم تكن (9) إضاعتهم تركها، ولكن أضاعوا الوقت.
__________
(1) تفسير الطبري (16/73).
(2) في ف، أ: "فالله".
(3) في أ: "الحديث".
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (82) من حديث جابر رضي الله عنه.
(5) رواه الترمذي في السنن برقم (2621) والنسائي في السنن (1/231) من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب".
(6) في ت، ف، أ: "ذلك".
(7) زيادة من ت، ف.
(8) في أ: "زيد".
(9) في ت، ف، أ: "يكن".

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } قال: عند قيام الساعة، وذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ينزو بعضهم على بعض في الأزقة، وكذا روى ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله (1) .
وروى جابر الجُعْفي، عن مجاهد، وعكرمة، وعطاء بن أبي رباح: أنهم من هذه الأمة، يعنون في آخر الزمان.
وقال ابن جرير: حدثني الحارث، حدثنا الحسن الأشيب، حدثنا شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } ، قال: هم في هذه الأمة (2) ، يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق، لا يخافون الله في السماء، ولا يستحيون الناس في الأرض.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، حدثنا حيوة، حدثنا بشير بن أبي عمرو الخولاني: أن الوليد بن قيس حدثه، أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون خلف بعد ستين سنة، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا. ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم. ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر". قال بشير (3) : قلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة؟ قال: المؤمن مؤمن به، والمنافق كافر به، والفاجر يأكل به.
وهكذا رواه أحمد عن أبي عبد الرحمن، المقرئ (4) ، به (5)
وقال ابن أبي حاتم أيضًا: حدثني أبي، حدثنا إبراهيم بن موسى، أنبأنا عيسى بن يونس، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن مَوْهَب (6) ، عن مالك، عن (7) أبي الرجال، أن عائشة كانت ترسل بالشيء صدقة لأهل الصُّفَّة، وتقول: لا تعطوا منه بربريا ولا بربرية، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هم الخلف الذين قال الله تعالى: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ } . هذا حديث غريب (8) .
وقال أيضًا: حدثني أبي، حدثنا عبد الرحمن بن الضحاك، حدثنا الوليد، حدثنا حَريز (9) ، عن شيخ من أهل المدينة؛ أنه سمع محمد بن كعب القُرَظِي يقول في قوله (10) : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } الآية، قال: هم أهل الغرب (11) ، يملكون وهم شر من ملك.
__________
(1) في ت: "منكم".
(2) في ت، ف: "الآية".
(3) في ف، أ: "بشر".
(4) في ف، أ: "المقبري".
(5) المسند (3/38).
(6) في ف، أ: "ابن وهب".
(7) في ف: "ابن".
(8) ورواه الحاكم في المستدرك (2/244) من طريق الحسن بن علي عن إبراهيم بن موسى به.
وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي بقوله: "عبيد الله مختلف في توثيقه، ومالك لا أعرفه ثم هو منقطع".
(9) في ت، ف، أ: "ابن جرير".
(10) في ف: "قول الله عز وجل".
(11) في ت: "القرى"، وفي أ: "المغرب".

وقال كعب الأحبار: والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل: شرابين للقهوات تراكين (1) للصلوات، لعابين بالكعبات، رقادين عن العتمات، مفرطين في الغدوات، تراكين للجمعات (2) قال: ثم تلا هذه الآية: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } .
وقال الحسن البصري: عطلوا المساجد، ولزموا الضيعات.
وقال أبو الأشهب العُطَارِدي: أوحى الله -تعالى-إلى داود: يا داود، حَذّر وأنذر أصحابك أكل الشهوات؛ فإن القلوب المعَلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة، وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته على (3) أن أحرمه طاعتي.
وقال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب حدثنا أبو [السمح] (4) التميمي، عن أبي قبيل (5) ، أنه سمع عقبة (6) بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أخاف على أمتي اثنتين: القرآن [واللبن، أما اللبن] (7) فيتبعون الرّيف، ويتبعون الشهوات ويتركون الصلوات، وأما القرآن فيتعلمه المنافقون، فيجادلون به المؤمنين" (8) .
ورواه عن حسن بن موسى، عن ابن (9) لهيعة، حدثنا أبو قبيل، عن عقبة، به مرفوعًا بنحوه تفرد به (10) .
وقوله: { فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } أي: خسرانا. وقال قتادة: شرًّا.
وقال سفيان الثوري، وشعبة، ومحمد بن إسحاق، عن أبي إسحاق السَّبيعي، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود: { فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } قال: واد في جهنم، بعيد القعر، خبيث الطعم.
وقال الأعمش، عن زياد، عن أبي عياض في قوله: { فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } قال: واد في جهنم من قيح ودم.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثني عباس بن أبي طالب، حدثنا محمد بن زياد بن زيان، حدثنا شرقي بن قطامي، عن لقمان بن عامر الخزاعي قال: جئت أبا أمامة صُدَيّ بن (11) عَجْلان الباهلي فقلت: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فدعا بطعام، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن صخرة زنة عشر (12) أواق قذف بها من شفير جهنم، ما بلغت قعرها خمسين خريفًا،
__________
(1) في أ: "تاركين".
(2) في أ: "للجماعات".
(3) في أ: "عليه".
(4) زيادة من ف، أ، والمسند.
(5) في أ: "عن ابن قنبل".
(6) في ت: "عبد الله".
(7) في هـ، ، ت ف، أ: "الكنى، وأما الكنى" والمثبت في المسند.
(8) المسند (4/156) والمراد باللبن كما قال الحربي: "أظنه أراد يتباعدون عن الأمصار وعن صلاة الجماعة، ويطلبون مواضع اللبن في المراعي والبوادي".
(9) في ت: "أبي".
(10) المسند (4/146).
(11) في ت: "حدثني".
(12) في ف: "عشر عشر"، وفي أ: "عشر عشراوات".

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)

ثم تنتهي إلى غي وآثام". قال: قلت: وما غي وآثام؟ قال: "بئران في أسفل جهنم، يسيل فيهما صديد أهل النار، وهما اللتان (1) ذكر الله في كتابه: { أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } وقوله في الفرقان: { وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } (2) هذا حديث غريب ورفعه منكر.
وقوله: { إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا } ، أي: إلا من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات، فإن الله يقبل توبته، ويحسن عاقبته، ويجعله من ورثة جنة النعيم؛ ولهذا قال: { فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا } وذلك؛ لأن التوبة تُجُبُّ ما قبلها، وفي الحديث الآخر: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" (3) ؛ ولهذا لا يُنْقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التي عملوها شيئًا، ولا قوبلوا بما عملوه قبلها فينقص (4) لهم مما عملوه بعدها؛ لأن ذلك ذهب هَدَرًا وترك نسيا، وذهب مَجَّانا، من كرم الكريم، وحلم الحليم.
وهذا الاستثناء هاهنا كقوله في سورة الفرقان: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [ الفرقان : 68 -70 ]
{ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) } .
يقول تعالى: الجنات التي يدخلها (5) التائبون من ذنوبهم، هي { جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي: إقامة { الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ } بظهر الغيب، أي: هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه؛ وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم.
وقوله: { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا } تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره؛ فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله، كقوله: { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا } [ المزمل : 18 ] (6) أي: كائنا لا محالة.
وقوله هاهنا: { مَأْتِيًّا } أي: العباد صائرون إليه، وسيأتونه.
ومنهم من قال: { مَأْتِيًّا } بمعنى: آتيا؛ لأن كل ما أتاك فقد أتيته، كما تقول العرب: أتت عليّ خمسون سنة، وأتيت على خمسين سنة، كلاهما بمعنى [واحد] (7)
__________
(1) في ف: "اللذان".
(2) تفسير الطبري (16/75).
(3) جاء من حديث أنس بن مالك، وابن مسعود، وأبو سعيد الأنصاري، وابن عباس، رضي الله عنهم، وأجودها حديث ابن مسعود، أخرجه ابن ماجه في السنن برقم (4250) لكنه فيه انقطاع.
(4) في ف: "فنقص".
(5) في ت: "يدخل إليها".
(6) في ت: "إنه كان" وهو خطأ، وفي أ: "كان وعده مفعولا" وهو الصواب.
(7) زيادة من ف، أ.

وقوله: { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا } أي: هذه (1) الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له، كما قد يوجد في الدنيا.
وقوله: { إِلا سَلامًا } استثناء منقطع، كقوله: { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا } [ الواقعة : 25 ، 26 ] (2)
وقوله: { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } أي: في مثل وقت البُكُرات ووقت العَشيّات، لا أن (3) هناك ليلا أو نهارًا (4) ولكنهم في أوقات تتعاقب، يعرفون مضيها بأضواء وأنوار، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معْمَر، عن هَمَّام، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول زُمْرَة تلج الجنة صُورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصُقون فيها، ولا يتمخطون (5) فيها، ولا يَتَغَوّطون، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة، ومجامرهم (6) الألْوّة، ورَشْحُهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مُخّ ساقيهما (7) من وراء اللحم؛ من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشيًّا".
أخرجاه في الصحيحين من حديث معمر به (8)
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن (9) ابن إسحاق، حدثني الحارث بن (10) فضيل الأنصاري، عن محمود بن لبيد الأنصاري، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيًّا" (11) تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } قال: مقادير الليل والنهار.
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهم، حدثنا الوليد بن مسلم قال: سألت زهير بن محمد، عن قول الله تعالى: { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } قال: ليس في الجنة ليل، هم في نور أبدًا، ولهم مقدار الليل والنهار، يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب، وبفتح (12) الأبواب.
وبهذا الإسناد عن الوليد بن مسلم، عن خُلَيْد، عن الحسن البصري، وذكر أبواب الجنة، فقال: أبواب (13) يُرى ظاهرها من باطنها، فتكلم وتكلم، فَتُهَمْهِم (14) انفتحي انغلقي، فتفعل.
__________
(1) في ت، ف: "أي: في هذه".
(2) في ت: "تأثيم".
(3) في ت: "إلا أن".
(4) في ف: "ونهارا".
(5) في ف: "يمتخطون".
(6) في أ: "ومجامرهم من".
(7) في ف: "ساقها".
(8) المسند (2/316) وصحيح البخاري برقم (3225) وصحيح مسلم برقم (2834).
(9) في ت: "عن موسى بن إسحاق".
(10) في ت: "ثم".
(11) المسند (1/266) وقال الهيثمي في المجمع (5/294): "إسناد رجاله ثقات".
(12) في ت، ف: "فتح".
(13) في ت: "أبواب الجنة".
(14) في ت: "فيفهمهم"، وفي ف، أ: "فتفهم".

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)

وقال قتادة في قوله: { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } : فيها ساعتان: بكرة وعشي: ليس ثم (1) ليل ولا نهار، وإنما هو ضوء ونور.
وقال مجاهد ليس [فيها] (2) بكرة ولا عشي، ولكن يُؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا.
وقال الحسن، وقتادة، وغيرهما: كانت العرب، الأنْعَم فيهم، من يتغدّى ويتعشى، ونزل (3) القرآن على ما في أنفسهم (4) من النعيم، فقال تعالى: { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا }
وقال ابن مهدي، عن حماد بن زيد، عن هشام، عن الحسن: { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } قال: البكور يرد على العشي، والعشي يرد على البكور، ليس فيها ليل.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا سليم (5) بن منصور بن عمار، حدثني أبي، حدثنا محمد بن زياد قاضي أهل شَمْشَاط (6) عن عبد الله بن جرير (7) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من غداة من غدوات الجنة، وكل الجنة غدوات، إلا أنه يزف إلى ولي الله فيها زوجة من الحور العين، أدناهن التي خلقت من الزعفران" (8)
قال أبو محمد: هذا حديث منكر.
[وقوله تعالى] (9) { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا } أي: هذه الجنة التي وصفنا بهذه الصفات العظيمة هي التي نورثها عبادنا المتقين، وهم المطيعون لله -عز وجل-في السراء والضراء، والكاظمون (10) الغيظ والعافون (11) عن الناس، وكما قال تعالى في أول سورة المؤمنين: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } إلى أن قال: { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 1-11]
{ وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) }
__________
(1) في أ: "ثمت".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في أ: "فنزل".
(4) في ف: "نفوسهم".
(5) في جميع النسخ: "سليمان" والمثبت من الجرح والتعديل 4/1/176.
(6) في أ: "شمياط".
(7) في ت، ف، أ: "جدير".
(8) ورواه ابن عدي في الكامل (6/394) من طريق سليم بن منصور بن عمار به وقال: "ولا يعرف هذا إلا لمنصور بهذا الإسناد". ومنصور بن عمار ضعفه العقيلي وقال أبو حاتم: ليس بالقوي.
(9) زيادة من ت، وفي أ: "وقوله".
(10) في ت، ف: "والكاظمين".
(11) في ت، ف: "والعافين".

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)

{ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } .
قال الإمام أحمد: حدثنا يَعْلى ووكيع قالا حدثنا عمر بن ذَرّ، عن أبيه، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: "ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟" قال: فنزلت { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } إلى آخر الآية.
انفرد بإخراجه البخاري، فرواه عند تفسير هذه الآية عن أبي نعيم، عن عمر بن ذر به. ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير، من حديث عمر بن ذر به (1) وعندهما زيادة في آخر الحديث، فكان
__________
(1) المسند (1/231)، (1/233) وصحيح البخاري برقم (4731) وتفسير الطبري (16/78).

ذلك الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال العَوْفي عن ابن عباس: احتبس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحَزَن، فأتاه جبريل وقال: يا محمد، { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا }
وقال مجاهد: لبث جبريل عن محمد صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة ليلة، ويقولون [قُلِيَ] (1) فلما جاءه قال: يا جبريل لقد رِثْتَ عليّ حتى ظن المشركون كل ظن. فنزلت: { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ [لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ] (2) وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } قال: وهذه الآية كالتي في الضحى.
وكذلك قال الضحاك بن مُزَاحم، وقتادة، والسدي، وغير واحد: إنها نزلت في احتباس جبريل.
وقال الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: أبطأ جبريل النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يومًا، ثم نزل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما نزلت حتى اشتقت إليك" فقال له جبريل: بل أنا كنت إليك أشوق، ولكني مأمور، فأوحِيَ إلى جبريل أن قل له: { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } الآية. رواه ابن أبي حاتم، رحمه الله، وهو غريب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مجاهد قال: أبطأت الرسلُ على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه جبريل فقال له: ما حبسك يا جبريل؟ فقال له جبريل: وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم، ولا تُنْقُون براجمكم، ولا تأخذون شواربكم، ولا تستاكون؟ ثم قرأ: { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } إلى آخر الآية.
وقد قال الطبراني: حدثنا أبو عامر النحوي، حدثنا محمد بن إبراهيم الصوري، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن [الدمشقي] (3) حدثنا إسماعيل بن عياش، أخبرني ثعلبة بن مسلم، عن أبي كعب مولى ابن عباس، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن جبريل أبطأ عليه، فذكر ذلك له فقال: وكيف وأنتم لا تَسْتَنّون، ولا تُقَلّمُون أظفاركم، ولا تقصون شواربكم، ولا تُنْقُون رواجبكم.
وهكذا رواه الإمام أحمد، عن أبي اليمان، عن إسماعيل بن عياش، به نحوه (4) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا سَيَّار، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا المغيرة بن حبيب -[ختن] (5) مالك بن دينار-حدثني شيخ من أهل المدينة، عن أم سلمة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصلحي لنا المجلس، فإنه ينزل (6) ملك إلى الأرض، لم ينزل إليها قط" (7)
وقوله: { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } قيل: المراد ما بين أيدينا: أمر الدنيا، وما خلفنا: أمر الآخرة، { وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ } ما بين النفختين. هذا قول أبي العالية، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) في ت، ف، أ: "إلى قوله".
(3) زيادة من ت، ف، أ.
(4) المعجم الكبير (11/431) والمسند (1/243) وفي إسناده أبو كعب مولى ابن عباس، قال أبو زرعة: "لا يسمى ولا يعرف إلا في هذا الحديث".
(5) في هـ، ت، ف: "عن"، والمثبت من أ، والمسند.
(6) في ف، أ: "يتنزل".
(7) المسند (6/296).

وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)

جبير. وقتادة، في رواية عنهما، والسدي، والربيع بن أنس.
وقيل: { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } ما نستقبل من أمر الآخرة، { وَمَا خَلْفَنَا } أي: ما مضى من الدنيا، { وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ } أي: ما بين الدنيا والآخرة. يروى نحوه عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والضحاك، وقتادة، وابن جريج، والثوري. واختاره ابن جرير أيضًا، والله أعلم.
وقوله: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } قال مجاهد [والسُّدِّيّ] (1) معناه: ما نسيك ربك.
وقد تقدم عنه أن هذه الآية كقوله: { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } [ الضحى : 1-3 ]
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي، حدثنا محمد بن عثمان (2) -يعني أبا الجماهر (3) -حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة، عن أبيه، عن أبي الدرداء يرفعه قال: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت [عنه] (4) فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى (5) شيئا" ثم تلا هذه الآية: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } (6)
وقوله: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } [أي: خالق ذلك ومدبره، والحاكم فيه والمتصرف الذي لا معقب لحكمه، { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ] (7) هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } : قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هل تعلم للرب مثلا أو شبها.
وكذلك قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن جريج وغيرهم.
وقال عكرمة، عن ابن عباس: ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك وتعالى، وتقدس اسمه.
{ وَيَقُولُ الإنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) } .
يخبر تعالى عن الإنسان أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته، كما قال تعالى: { وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ الرعد : 5 ]،
__________
(1) زيادة من ت، ف.
(2) في ت: "ابن عباس".
(3) في أ: "أبا الجماهير".
(4) زيادة من ت، ف، أ.
(5) في أ: "لينسنا".
(6) ورواه البزار في مسنده برقم (123) من طريق سليمان بن عبد الرحمن عن إسماعيل بن عياش به وقال: "إسناده صالح".
ورواه الحاكم في المستدرك (2/375) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (10/12) عن طريق أبي نعيم الفضل بن دكين عن عاصم بن رجاء عن أبيه به وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
وله شاهد من حديث سلمان رضي الله عنه.
(7) زيادة من ت، ف، أ.

وقال: { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 77-79 ]، وقال هاهنا: { وَيَقُولُ الإنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } يستدل، تعالى، بالبداءة على الإعادة، يعني أنه، تعالى [قد] (1) خلق الإنسان ولم يك شيئًا، أفلا يعيده وقد صار شيئًا، كما قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ]، وفي الصحيح: "يقول الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني، أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من آخره، وأما أذاه إياي فقوله: إن لي ولدًا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد (2) ولم يكن له (3) كفوًا أحد" (4) .
وقوله: { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ } أقسم الرب، تبارك وتعالى، بنفسه الكريمة، أنه لا بد أن يحشرهم جميعًا وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله، { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا } .
قال العَوْفي، عن ابن عباس: يعني: قعودا كقوله: { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } [ الجاثية : 28 ].
وقال السدي في قوله: { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا } : يعني: قيامًا، وروي عن مرة، عن ابن مسعود [مثله] (5) .
وقوله: { ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ } يعني: من كل أمة قاله مجاهد، { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا } .
قال الثوري، عن [علي بن الأقمر] (6) ، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: يحبس الأول على الآخر، حتى إذا تكاملت العدة (7) ، أتاهم جميعًا، ثم بدأ بالأكابر، فالأكابر جرما، وهو قوله: { ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا } .
وقال قتادة: { ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا } قال: ثم لننزعن من أهل كل (8) دين قادتهم [ورؤساءهم] (9) في الشر. وكذا قال ابن جريج، وغير واحد من السلف. وهذا كقوله تعالى: { حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } [ الأعراف : 38 ، 39 ]
وقوله: { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا } ثم" هاهنا لعطف الخبر على الخبر، والمراد أنه تعالى أعلم بمن يستحق من العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلَّد فيها، وبمن (10) يستحق تضعيف
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ت، ف، أ: "ألد ولم أولد".
(3) في ف، أ: "لي".
(4) صحيح البخاري برقم (4975).
(5) زيادة من ف، أ.
(6) زيادة من ت، ف، أ، وفي هـ: "أبي" والمثبت من الطبري.
(7) في ت: "المغيرة".
(8) في ت، ف: "من كل أهل".
(9) زيادة من ت، ف، أ.
(10) في ت، ف، أ: "ومن".

وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)

العذاب، كما قال في الآية المتقدمة: { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ }
{ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) } .
قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا خالد بن سليمان، عن كثير بن زياد البُرْساني، عن أبي سُمَيَّة قال: اختلفنا في الورود، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن. وقال بعضهم: يدخلونها جميعا، ثم ينجي الله الذين اتقوا. فلقيت جابر بن عبد الله فقلت له: إنا اختلفنا في الورود، فقال: يردونها جميعًا -وقال سليمان مَرَّةً (1) يدخلونها جميعًا-وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه، وقال: صُمّتا، إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن (2) بردًا وسلامًا، كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجًا من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا، ويذر الظالمين فيها جثيًّا" (3) غريب ولم يخرجوه.
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا مروان بن معاوية، عن بكار بن (4) أبي مروان، عن خالد بن مَعْدَان قال: قال أهل الجنة بعدما دخلوا الجنة: ألم يعدنا ربنا الورود على النار؟ قال: قد مررتم عليها وهي خامدة.
وقال عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: كان عبد الله بن رَوَاحة واضعًا رأسه في حِجْر امرأته، فبكى، فبكت امرأته فقال (5) ما يبكيك؟ فقالت: (6) رأيتك تبكي فبكيت. قال: إني ذكرت قول الله عز وجل: { وَإِنْ مِنْكُمْ (7) إِلا وَارِدُهَا } ، فلا أدري أنجو منها أم لا؟ (8) وفي رواية: وكان مريضًا.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن يَمَان، عن مالك بن مِغْول، عن أبي إسحاق: كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم تلدني ثم يبكي، فقيل: ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ فقال: أخبرنا أنا واردوها، ولم نُخْبَرْ أنا صادرون عنها (9) .
وقال عبد الله بن المبارك، عن الحسن البصري قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم. قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا. قال: ففيم الضحك؟ [قال فما رُئي ضاحكًا حتى لحق بالله] (10) .
__________
(1) في أ: "سليمان بن مرة".
(2) في ف: "المؤمنين".
(3) المسند (3/328) وقال المنذري في الترغيب (2/306): "رجاله ثقات".
(4) في ف: "عن".
(5) في ف: "قال".
(6) في أ: قالت".
(7) في ت: "وما منكم".
(8) تفسير عبد الرزاق (2/11).
(9) تفسير الطبري (16/82).
(10) زيادة من ف، أ، والطبري.

وقال عبد الرزاق أيضًا: أخبرنا ابن عُيَيْنَة، عن عمرو، أخبرني من سمع ابن عباس يخاصم نافع بن الأزرق، فقال ابن عباس: الورود (1) الدخول؟ فقال نافع: لا فقرأ ابن عباس: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] وردوا أم لا؟ وقال: { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ } [ هود : 98 ] أورْدٌ هو (2) أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخلها، فانظر هل نخرج منها أم لا؟ وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك فضحك نافع (3) .
وروى ابن جريج، عن عطاء قال: قال أبو راشد الحَرُوري -وهو نافع بن الأزرق-: { لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } [ الأنبياء : 102] فقال ابن عباس: ويلك: أمجنون أنت؟ أين قوله: { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ } [ هود : 98 ]، { وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا } [ مريم : 86 ]، { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } ؟ والله إن كان دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالمًا، وأدخلني الجنة غانمًا (4) .
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبيد المحاربي، حدثنا أسباط، عن عبد الملك، عن عبيد الله، عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس، فأتاه رجل يقال له: أبو راشد، وهو نافع بن الأزرق، فقال له: يا ابن عباس، أرأيت قول الله: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا } ؟ قال: أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها، فانظر: هل نصدر عنها أم لا (5) .
وقال أبو داود الطيالسي: قال شعبة، أخبرني عبد الله بن السائب، عمن سمع ابن عباس يقرؤها [كذلك] (6) : "وإن منهم إلا واردها" يعني: الكفار (7)
وهكذا روى عمرو بن الوليد الشَّنِّي (8) ، أنه سمع عكرمة يقرؤها كذلك: "وإن منهم إلا واردها"، قال: وهم الظلمة. كذلك كنا نقرؤها. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
وقال العوفي، عن ابن عباس قوله: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا } يعني: البر والفاجر، ألا تسمع إلى قول الله لفرعون: { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ } { وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا } ، فسمى الورود في النار دخولا وليس بصادر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن إسرائيل، عن السدي، عن مُرَّة، عن عبد الله -هو ابن مسعود-{ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرد الناس [النار] (9) كلهم، ثم يصدرون عنها بأعمالهم".
__________
(1) في ت: "المورود".
(2) في ت: "أوردهم"، وفي أ: "أوردوها".
(3) تفسير عبد الرزاق (2/11).
(4) رواه الطبري في تفسيره (16/82).
(5) تفسير الطبري (16/84).
(6) زيادة من ت، ف، أ
(7) رواه الطبري في تفسيره (16/83).
(8) في أ: "السني".
(9) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.

ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي به (1) . ورواه من طريق شعبة، عن السدي، عن مرة، عن ابن مسعود موقوفا (2) (3) .
هكذا وقع هذا الحديث هاهنا مرفوعًا. وقد رواه أسباط، عن السدي، عن مُرّة عن عبد الله بن مسعود قال: يرد الناس جميعًا الصراط، وورودهم قيامهم حول النار، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق (4) ، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل، حتى إن آخرهم مرًّا رجل نوره على موضعي (5) إبهامي قدميه، يمر يتكفأ (6) به الصراط، والصراط دَحْضُ مَزَلّة، عليه حَسَك كَحَسك القَتَاد، حافتاه ملائكة، معهم كلاليب من نار، يختطفون بها الناس. وذكر تمام الحديث. رواه (7) ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا خلاد بن أسلم، حدثنا النضر، حدثنا إسرائيل، أخبرنا أبو إسحاق، عن أبي الأحوص (8) عن عبد الله: قوله: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } قال: الصراط على جهنم مثل حد السيف، فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون والملائكة يقولون: اللهم سَلّم سَلّم.
ولهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما، من رواية أنس، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وجابر، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم (9) .
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة عن الجُرَيري، عن [أبي السليل] (10) عن غُنَيْم بن قيس قال: ذكروا ورود النار، فقال كعب: تمسك النار للناس (11) كأنها مَتْن (12) إهالة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق، برهم وفاجرهم، ثم يناديها مناد: أن امسكي أصحابك، ودعي أصحابي، قال: فتخسف بكل ولي لها، ولهي أعلم بهم (13) من الرجل بولده، ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم. قال كعب: ما بين منكبي الخازن من خزنتها مسيرة سنة، مع كل واحد منهم عمود ذو شعبتين (14) ، يدفع به الدفع فيصرع به في النار سبعمائة ألف (15) .
__________
(1) المسند (1/434) وسنن الترمذي برقم (3159) وقال: "حديث حسن، ورواه شعبة عن السدي فلم يرفعه".
(2) في ت، ف: "مرفوعا".
(3) سنن الترمذي برقم (3160).
(4) في ف، أ: "البرق الخاطف".
(5) في أ: "موضع".
(6) في أ: "فيمر فيكفأ".
(7) في ت، ف: "ورواه".
(8) في ت: "مولى الأحوص".
(9) أما حديث أنس فرواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (367) وضعف إسناده.
وأما حديث أبي هريرة فهو في صحيح البخاري برقم (6573) وصحيح مسلم برقم (182).
وأما حديث أبي سعيد فهو في صحيح البخاري برقم (6574) وصحيح مسلم برقم (183).
(10) في هـ: "ابن أبي ليلى" والمثبت من ت، ف، أ، والطبري.
(11) في ف، أ: "الناس".
(12) في أ "بين".
(13) في أ: "فتخسف بكل وليها وهي أعلم بهم".
(14) في ت، ف، أ: "عمود وشعبتين".
(15) تفسير الطبري (16/82).

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان (1) ، عن جابر، عن أم مُبَشِّر، عن حفصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو ألا يدخل النار -إن شاء الله-أحد شهد بدرًا والحديبية" قالت (2) فقلت: أليس الله يقول { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } ؟ قالت (3) : فسمعته يقول: { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } (4) .
وقال [الإمام] (5) أحمد أيضًا: حدثنا ابن إدريس، حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان (6) ، عن جابر، عن أم مبشر -امرأة زيد بن حارثة-قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة، فقال: "لا يدخل النار أحد شهد بدرًا والحديبية" قالت حفصة: أليس الله يقول: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا } (7) .
وفي الصحيحين، من حديث الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار، إلا تَحِلَّة القسم". (8)
وقال عبد الرزاق: قال معمر: أخبرني الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات له ثلاثة لم تمسه النار إلا تحلة القسم" يعني الورود (9) .
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا زَمْعَة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد، تمسه النار إلا تحلة القسم". قال الزهري: كأنه يريد هذه الآية: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا } (10) .
وقال ابن جرير: حدثني عمران بن بكار الكلاعي (11) ، حدثنا أبو المغيرة (12) ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، حدثنا إسماعيل بن عبيد الله، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلا من أصحابه وعِكًا، وأنا معه، ثم قال: "إن الله تعالى يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن؛ لتكون حظه من النار في الآخرة" غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه (13) .
وحدثنا أبو كريب، حدثنا ابن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد قال: الحمى حظ كل مؤمن من النار، ثم قرأ: "وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا".
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثنا زَبَّان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } حتى يختمها عشر
__________
(1) في ت : "شقيق".
(2) في ت: "قال".
(3) في أ: "قال".
(4) المسند (6/285).
(5) زيادة من ت.
(6) في ت : "شقيق".
(7) المسند (6/362).
(8) صحيح البخاري برقم (6656) وصحيح مسلم برقم (2632).
(9) تفسير عبد الرزاق (2/11).
(10) مسند الطيالسي برقم (2304).
(11) في ت: "الخلاعي".
(12) في ت: "أبو شعبة".
(13) تفسير الطبري (6/831) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (3/382) من طريق محمد بن يحيى عن أبي المغيرة به.

مرات، بنى الله له قصرًا في الجنة". فقال عمر: إذا نستكثر يا رسول الله، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم: "لله] (1) أكثر وأطيب" (2) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ ألف آية في سبيل الله، كُتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، إن شاء الله. ومن حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعًا لا بأجرة (3) سلطان، لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم، قال الله تعالى: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } وإن الذكر في سبيل [الله] (4) يُضْعفُ فوق النفقة بسبعمائة ضعف". وفي رواية: "بسبعمائة ألف ضعف" (5)
وروى أبو داود، عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب [وسعيد بن أبي أيوب] (6) كلاهما عن زبان (7) ، عن سهل، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصلاة والصيام والذكر تضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف" (8) .
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة قوله: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } قال: هو الممر عليها (9)
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } ، قال: ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهريها، وورود المشركين: أن يدخلوها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الزالون والزالات يومئذ كثير، وقد أحاط بالجسر يومئذ سِمَاطان من الملائكة، دعاؤهم: يا ألله سلم سلم" (10) .
وقال السدي، عن مرة، عن ابن مسعود في قوله: { كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا } قال: قسمًا واجبًا. وقال مجاهد: [حتمًا] (11) ، قال: قضاء. وكذا قال ابن جريج (12)
وقوله: { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا } أي: إذا مرّ الخلائق كلهم على النار، وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة ذوي المعاصي، بحسبهم، نجى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم. فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا، ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين، فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون (13) ، فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أكلتهم النار، إلا دارات وجوههم -وهي مواضع السجود-وإخراجهم إياهم من النار بحسب ما في قلوبهم من الإيمان، فيخرجون أولا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، [ثم الذي يليه] (14) حتى يخرجوا من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ثم يخرج الله من النار
__________
(1) زيادة من ف، أ، والمسند.
(2) المسند (3/437).
(3) في ت، ف، : "بأجر".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) رواه أحمد في مسنده (3/437) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه.
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في أ: "ريان".
(8) سنن أبي داود برقم (2498).
(9) تفسير عبد الرزاق (2/11).
(10) تفسير الطبري (16/83)
(11) زيادة من ف، أ.
(12) في ت: "ابن جرير".
(13) في ت: "فيشفع الله الملائكة والنبيين والمؤمنين
(14) زيادة من ف، أ.

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)

من قال يومًا من الدهر: "لا إله إلا الله" (1) وإن لم يعمل خيرًا قط، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال تعالى: { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا }
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) } .
يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى (2) عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان: أنهم يصدون عن ذلك ، ويعرضون ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل بأنهم: { خَيْرٌ مَقَامًا وأَحْسَنُ نَدِيًّا } [أي: أحسن منازل وأرفع دورًا وأحسن نديا] (3) ، وهو مجمع الرجال للحديث، أي: ناديهم أعمر وأكثر واردًا وطارقًا، يعنون: فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل، وأولئك [الذين هم] (4) مختفون مستترون في دار الأرقم بن أبي الأرقم ونحوها من (5) الدور على الحق؟ كما قال تعالى مخبرًا عنهم: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [الأحقاف: 11]. وقال قوم نوح: { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ } [ الشعراء : 111 ]، وقال تعالى: { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } [ الأنعام : 53 ] ؛ ولهذا قال تعالى رادًّا عليهم شبهتهم: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ } أي: وكم من أمة وقرن من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم، { هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا } أي: كانوا أحسن من هؤلاء أموالا وأمتعة ومناظر وأشكالا.
[و] (6) قال الأعمش، عن أبي ظَبْيَان، عن ابن عباس: { خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا } قال: المقام: المنزل، والندي: المجلس، والأثاث: المتاع، والرئي: المنظر.
وقال العوفي، عن ابن عباس: المقام: المسكن، والندي: المجلس والنعمة والبهجة التي كانوا فيها، وهو كما قال الله لقوم فرعون حين (7) أهلكهم وقص شأنهم في القرآن: { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ (8) وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } [ الدخان : 25 ، 26 ]، فالمقام: المسكن والنعيم، والندي: المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه، وقال [الله] (9) فيما قص على رسوله من أمر قوم لوط (10) : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } [ العنكبوت : 29 ]، والعرب تسمي المجلس: النادي.
وقال قتادة: لما رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عيشهم خشونة، وفيهم قشافة، تَعَرّض (11) أهل الشرك بما تسمعون (12) : { أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا } وكذا قال مجاهد، والضحاك.
ومنهم من قال في الأثاث: هو المال. ومنهم من قال: المتاع. ومنهم من قال: الثياب، والرئي: المنظر كما قال ابن عباس، ومجاهد وغير واحد.
__________
(1) في ف: "من قال: لا إله إلا الله يوما من الدهر".
(2) في ف: "يتلى".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ت: "في".
(6) زيادة من ت.
(7) في ت: "حتى".
(8) في ت ، ف ، أ : "وكنوز".
(9) زيادة من ت، ف.
(10) في أ: "لوط إذ قال".
(11) في ت: "وفيهم".
(12) في ت، ف، أ: "يسمعون"

قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)

وقال الحسن البصري: يعني الصور، وكذا قال مالك: { أَثَاثًا وَرِئْيًا } : أكثر أموالا وأحسن صورًا. والكل متقارب صحيح.
{ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) } .
يقول تعالى: { قُلْ } يا محمد، لهؤلاء المشركين بربهم المدعين، أنهم على الحق وأنكم على الباطل: { مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ } أي: منا ومنكم، { فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا } أي: فأمهله الرحمن (1) فيما هو فيه، حتى يلقى ربه وينقضي (2) أجله، { إِمَّا الْعَذَابَ } يصيبه، { وَإِمَّا السَّاعَةَ } بغتة تأتيه، { فَسَيَعْلَمُونَ } حينئذ { مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا } [أي] (3) : في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندي.
قال مجاهد في قوله: { فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا } فليدعه الله في طغيانه. هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير، رحمه الله.
وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى فيما هم فيه (4) ، كما ذكر تعالى مباهلة اليهود في قوله: { قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ الجمعة : 6 ] أي: ادعوا على المبطل منا ومنكم بالموت (5) إن كنتم تدعون أنكم على الحق، فإنه لا يضركم الدعاء، فنكلوا عن ذلك، وقد تقدم تقرير ذلك في سورة "البقرة" مبسوطا، ولله الحمد. وكما ذكر تعالى المباهلة مع النصارى في سورة "آل عمران" حين (6) صمموا على الكفر، واستمروا على الطغيان والغلو في دعواهم أن عيسى ولد الله، وقد ذكر الله حُجَجه وبراهينه على عبودية عيسى، وأنه مخلوق كآدم، قال (7) بعد ذلك: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [ آل عمران : 61 ] فنكلوا أيضًا عن ذلك.
{ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) } .
لما ذكر [الله] (8) تعالى إمداد من هو في الضلالة فيما هو فيه وزيادته على ما هو عليه، أخبر بزيادة المهتدين هُدى كما قال تعالى: { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 124 ، 125 ].
__________
(1) في ت، ف، أ: "الله".
(2) في أ: "ويقضي".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون على هدى قيامهم".
(5) في ف: "أي ادعوا بالموت على المبطل منا ومنكم"، وفي أ: "أي ادعوا بالموت على المبطل منا أو منكم".
(6) في أ: "حتى".
(7) في ت: "وقال".
(8) زيادة من ت.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49