الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي

حديث أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يعطى عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة" قال أبو هريرة: لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل يعطيه ألفي ألف حسنة" ثم تلا { يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } فمن يقدره قدره (1) (2) .
رواه الإمام أحمد فقال: حدثنا يَزِيدُ، حدثنا مباركُ بن فَضَالَة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان قال: أتيت أبا هريرة فقلت له: بلغنى (3) أنك تقول: إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة؟ قال: وما أعجبك من ذلك؟ فوالله لقد سمعت -يعنى النبي صلى الله عليه وسلم-كذا قال أبي -يقول: "إن الله ليضاعف الحسنة ألفى ألف حسنة" (4) .
علي بن زيد في أحاديثه نكارة، فالله أعلم.
وقوله: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } يقول تعالى -مخبرًا عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه: فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة وحين (5) يجيء من كل أمة بشهيد -يعني الأنبياء عليهم السلام؟ كما قال تعالى: { وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ] (6) } [الزمر: 69] وقال تعالى: { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] (7) } [النحل: 89].
قال البخاري: حدثنا محمد بن يُوسُفَ، حدثنا سفيانُ، عن الأعْمَشِ، عن إبراهيمَ، عن عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم "اقرأ علي" قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أُنزلَ؟ قال: "نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأت سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } قال: "حسبك الآن" فإذا عيناه تَذْرِفَان.
ورواه هو ومسلم أيضًا من حديث الأعمش، به (8) وقد رُوي من طرق متعددة عن ابن مسعود، فهو مقطوع به عنه. ورواه أحمد من طريق أبي حيان، وأبي رَزِين، عنه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو (9) بكر بن أبي الدنيا، حدثنا الصَّلْتُ بنُ مَسْعُود الجَحْدَري، حدثنا فُضَيْلُ بن سُلَيْمَانَ، حدثنا يونُس بنُ محمد بن فضَالَة الأنصاري، عن أبيه قال -وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظَفَر، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم، ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئا فقرأ، فأتى على هذه الآية: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
__________
(1) في د، ر، أ: "يقدر قدره".
(2) المسند (5/521).
(3) في ر: "إنه بلغني.
(4) المسند (2/296).
(5) في ر: "حين".
(6) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية"
(7) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(8) صحيح البخاري برقم (5050) وصحيح مسلم برقم (800).
(9) في ر: "أبي" وهو خطأ.

اضطرب (1) لحياه وجنباه، فقال: "يا رب هذا شهدتُ على من أنا بين ظهريه، فكيف بمن لم أره؟" (2) .
وقال ابن جرير: حدثني عبد الله بن محمد الزهري، حدثنا سفيان، عن المسعودي، عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه عن عبد الله -هو ابن مسعود-{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهيد عليهم ما دمت فيهم، فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم".
وأما ما ذكره أبو عبد الله القُرْطُبي في "التذكرة" (3) حيث قال: باب (4) ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته: قال: أخبرنا ابن المبارك، أخبرنارجل من الأنصار، عن المِنْهَال بنِ عمرٍو، حدثه أنه سمع سعيد بن المُسَيَّبِ يقول: ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غُدْوة وعَشيّة، فيعرفهم بأسمائهم (5) وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم، يقول الله تعالى: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } فإنه أثر، وفيه انقطاع، فإن فيه رجلا مبهما لم يسم، وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه. وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده: [قد تقدم] (6) أن الأعمال تعرض على الله كل يوم إثنين وخميس، وعلى الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجُمُعة. قال: ولا تعارض، فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم، ويوم الجمعة مع الأنبياء، عليهم السلام.
وقوله { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ } أي: لو انشقت وبلعتهم، مما يرون من أهوال الموقف، وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ، كقوله: { يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا] (7) } وقوله { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } أخبر (8) عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه، ولا يكتمون منه شيئا.
قال ابن جرير: حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا حكَّام، حدثنا عمرو، عن مُطرِّف، عن الْمِنْهِالِ بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر قال: أتى رجل ابن عباس فقال: سمعتُ الله، عز وجل، يقول -يعني إخبارا عن المشركين يوم القيامة أنهم قالوا-: { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام: 23] وقال في الآية الأخرى: { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } فقال ابنُ العباس: أما قوله: { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهلُ الإسلام قالوا: تعالوا فَلْنَجْحَدْ، فقالوا: { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا }
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن رجل عن المِنْهال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أشياء تختلف علي في القرآن. قال: ما هو؟ أشك في القرآن؟ قال: ليس
__________
(1) في ر: "ضرب".
(2) ورواه البغوي في معجمه ومن طريقه الطبراني في المعجم الكبير (19/243) من طريق الصلت بن مسعود الجحدري به. قال الهيثمي في المجمع (7/4): "رجاله ثقات".
(3) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص294).
(4) في أ: "يارب".
(5) في أ: "بسيماهم".
(6) زيادة من ر، أ، والتذكرة.
(7) زيادة من ر، وفي هـ: "الآية".
(8) في ر، أ: "إخبار".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)

هو بالشك. ولكن (1) اختلاف. قال: فهات ما اختلف عليك من ذلك. قال: أسمع الله يقول: { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام: 23] وقال { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } ؛ فقد كتموا! فقال ابن عباس: أما قوله: { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام (2) ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، جحد المشركون، فقالوا: { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ؛ رجاء أن يغفر لهم. فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك: { يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا }
وقال جُوَيْبِرٌ عن الضَّحَّاك: إن نافِعَ بن الأزْرَقِ أتى ابنَ عباس فقال: يا ابن عباس، قول الله: { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } وقوله { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ؟ فقال له ابن عباس: إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت ألْقي عَلَى ابن عباس متشابه القرآن. فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد. فيقول المشركون: إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده، فيقولون: تعالوا نَقُلْ فيسألهم فيقولون: { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } قال: فَيُخْتَم على أفواههم، وتُسْتَنطق (3) جوارحهم، فتشهد عليهم جوارحُهم أنهم كانوا مشركين. فعند ذلك تَمَنَّوْا لو أن الأرضَ سُوِّيَتْ بِهِم { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } رواه ابن جرير.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) }
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السُّكْرِ، الذي لا يدري معه المصلي ما يقول، وعن قربان محلها -وهي المساجد-للجُنُب، إلا أن يكون مجتازا من باب إلى باب من غير مُكْثٍ وقد كان هذا قبل تحريم الخمر، كما دل الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة، عند قوله [تعالى] (4) { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ] (5) } الآية [البقرة: 219] ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فلما نزلت هذه الآية، تلاها عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات (6) فلما نزل (7) قوله[تعالى] (8) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } إلى قوله: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [المائدة: 90، 91] فقال عمر: انتهينا، انتهينا.
__________
(1) في ر، أ: "ولكنه".
(2) في أ: "إن الله يغفر لأهل الإسلام".
(3) في د: "ويستنطق".
(4) زيادة من ر.
(5) زيادة من ر، أ.
(6) في د: "الصلاة".
(7) في د، ر: "نزلت".
(8) زيادة من ر.

وفي رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو -وهو ابن شُرَحبيل-عن عُمَرَ بْنِ الْخطَّاب في قصة تحريم الخمر، فذكر الحديث وفيه: فنزلت الآية التي في ]سورة[ (1) النساء: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت (2) الصلاة ينادي: ألا يَقْرَبَنَّ الصلاة سكران. لفظ أبي داود.
وذكروا في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم (3) .
حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا شُعْبَة، أخبرني سِمَاكُ بن حَرْبٍ قال: سمعت مُصْعَبَ بنَ سَعْدٍ يحدث عن سعد قال: نزلت في أربعُ آيات: صنع رجل من الأنصار طعاما، فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار، فأكلنا وشربنا حتى سَكرْنا، ثم افتخرنا فرفع رجل لَحْي بعير فَفَزَر (4) بها أنف سعد، فكان سعد مَفْزور (5) الأنف، وذلك قبل أن تحرم الخمر، فنزلت: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } الآية.
والحديث بطوله عند مسلم من رواية شُعْبة. ورواه أهلُ السُّنَن إلا ابنَ ماجه، من طُرُق عن سِماكٍ به (6) .
سبب آخر: قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمَّار، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدَّشْتَكي، حدثنا أبو جعفر عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السّلَمي، عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرتِ الصلاةُ فقدَّموا فلانا -قال: فقرأ: قل يا أيها الكافرون، ما أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون. [قال] (7) فأنزل الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ }
هكذا رواه ابن أبي حاتم، وكذا رواه الترمذي عن عبد (8) بن حُمَيْدٍ، عن عبد الرحمن الدَّشْتَكي، به، وقال: حسن صحيح (9) .
وقد رواه ابن جرير، عن محمد بن بشار، عن عبد الرحمن بن مَهْدي، عن سفيانَ الثوري، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن علي؛ أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر، فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: { قُلْ [يَا] (10) أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فخلط فيها، فنزلت: { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } .
وهكذا رواه أبو داود والنسائي، من حديث الثوري، به. (11)
__________
(1) زيادة من د.
(2) في د، ر: "أقيمت".
(3) في أ: "ابن جرير".
(4) في د: "فضرب".
(5) في د: "معرور".
(6) صحيح مسلم برقم (1748) وسنن أبي داود برقم (2740) وسنن الترمذي برقم (3079) وسنن النسائي الكبرى برقم (11196) مختصرا ليس فيه ذكر الشاهد هاهنا.
(7) زيادة من ر، أ.
(8) في أ: "عبد الله".
(9) سنن الترمذي برقم (3026).
(10) زيادة من ر، أ.
(11) تفسير الطبري (8/376) وسنن أبي داود برقم (3671) وسنن النسائي الكبرى كما في تحفة الأشراف للمزي برقم (10175).

ورواه ابن جَرِير أيضا، عن ابن حُمَيْدٍ، عن جَرِيرٍ، عن عطاء، عن أبي عبد الله السَّلَمِيّ قال: كان عَلِيٌّ في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عبد الرحمن بن عوف، فطعموا فآتاهم بخمر فشربوا منها، وذلك قبل أن يحرم (1) الخمر، فحضرت الصلاة فَقَدَّموا عليًا فقرأ بهم: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فلم يقرأها كما ينبغي، فأنزل الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى }
ثم قال: حدثني المُثَنَّى، حدثنا الحجَّاج بن المِنْهال، حدثنا حَمَّاد، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن حبيب -وهو أبو عبد الرحمن السَّلَمي؛ أن عبد الرحمن بن عَوْفٍ صنع طعامًا وشرابا، فدعا نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم المغرب، فقرأ: قل يا أيها الكافرون. أعبد ما تعبدون. وأنتم عابدون ما أعبد. وأنا عابد ما عبدتم. لكم دينكم ولي دين. فأنزل الله، عز وجل، هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } (2) .
وقال الْعَوْفِي عن ابن عباس في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ] (3) } وذلك أن رجالا كانوا يأتون الصلاة وهم سُكَارَى، قبل أن تحرم الخمر، فقال الله: { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } الآية. رواه ابن جرير. وكذا قال أبو رَزِين ومُجَاهدٌ. وقال عبد الرزاق، عن معمر عن قتادة: كانوا يجتنبون السُّكْرَ عند حضور الصلوات ثم نسخ بتحريم الخمر.
وقال الضَّحَّاكُ في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } لم يعن بها سُكْرَ الخمر، وإنما عنى بها سُكْرَ النوم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ثم قال ابن جرير: والصواب أن المراد سُكْر الشراب. قال: ولم يتوجه النهي إلى السكْران الذي لا يفهم الخطاب؛ لأن ذاك في حكم المجنون، وإنما خُوطِب بالنهي الثَّمِل الذي يفهم التكليف (4) .
وهذا حاصل ما قاله. وقد ذكره غير واحد من الأصوليين، وهو أن الخطاب يتوجه إلى من يفهم الكلام، دون السكران الذي لا يدري ما يقال له؛ فإن الفهم شرط التكليف. وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنهي عن السُّكْر بالكلية؛ لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما، والله أعلم. وعلى هذا فيكون كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران: 102] وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك.
وقوله: { حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } هذا أحسن ما يقال في حد السكران: إنه الذي لا يدري ما
__________
(1) في ر: "تحرم".
(2) تفسير الطبري (8/376).
(3) زيادة من ر ، أ.
(4) بعدها في أ: "وقد يحتمل أن يكون المراد".

يقول (1) فإن المخمور (2) فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره (3) وخشوعه فيها، وقد قال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا أيوب، عن أبي قِلابةَ، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نعس أحدكم وهو يصلي، فلينصرف فليتم حتى يعلم ما يقول. انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم، ورواه هو والنسائي من حديث أيوب، به (4) وفي بعض ألفاظ الحديث (5) فلعله يذهب يستغفر فيسُبّ نفسه.
وقوله: { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عبد الرحمن الدَّشْتَكي، أخبرنا أبو جعفر الرازي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس في قوله: { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } قال: لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، قال: تمر (6) به مرًّا ولا تجلس. ثم قال: ورُوي عن عبد الله بن مسعود، وأنس، وأبي عُبَيْدَةَ، وسعيد بن المُسَيَّبِ، وأبي الضُّحَى، وعطاء، ومُجَاهد، ومسروق، وإبراهيم النَّخَعي، وزيد بن أسلم، وأبي مالك، وعَمْرو بن دينار، والحكم بن عُتَيْبَة (7) وعِكْرِمَة، والحسن البصري، ويَحْيَى بن سعيد الأنصاري، وابن شهاب، وقتادَة، نحوُ ذلك.
وقال ابن جرير: حدثني المُثَنَّى، حدثنا أبو صالح، حدثني اللَّيْثُ، حدثني يَزِيدُ بن أبي حَبِيبٍ عن قول الله عز وجل (8) { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ } أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، فيردون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد، فأنزل الله: { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ }
ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حَبِيبٍ، رحمه اللهُ، ما ثبت في صحيح البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سُدُّوا كل خَوخة في المسجد إلا خَوخةَ أبي بكر" (9) .
وهذا قاله في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، علما منه أن أبا بكر، رضي الله عنه، سيلي الأمر بعده، ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين، فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه، رضي الله عنه. ومن روى: "إلا باب علي" كما وقع في بعض السنن، فهو خطأ، والصحيح. ما ثبت في الصحيح. ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب اللبث في المسجد، ويجوز له المرور، وكذا الحائض والنفساء أيضًا في معناه؛ إلا أن بعضهم قال: يمنع مرورهما لاحتمال التلويث. ومنهم من قال: إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور جاز لهما المرور وإلا فلا.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة، رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناوليني
__________
(1) في أ: "يقولون".
(2) في د، ر: "المحذور".
(3) في ر، أ: "تدبره له".
(4) المسند (3/150) وصحيح البخاري برقم (213) وسنن النسائي (1/215).
(5) في د: "ألفاظه".
(6) في د: "مر".
(7) في أ: "عيينة".
(8) في أ: "في قوله تعالى".
(9) صحيح البخاري برقم (298).

الخُمْرة من المسجد" فقلت: إني حائض. فقال: "إن حيضتك ليست في يدك". وله عن أبي هريرة مثله (1) ففيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد، والنفساء في معناها والله أعلم.
وروى أبو داود من حديث أفْلَتَ بن خليفة (2) العامري، عن جَسْرة بنت دجاجة، عن عائشة ]رضي الله عنها[ (3) قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنبٍ" (4) قال أبو مسلم الخَطَّابي: ضَعَّف هذا الحديث جماعة وقالوا: أفلت مجهول. لكن رواه ابن ماجه من حديث أبي الخطاب الهَجَري، عن مَحْدوج (5) الذهلي، عن جَسْرة، عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، به. قال أبو زرعة الرازي: يقولون: جسْرة عن أم سلمة. والصحيح جسرة عن عائشة.
فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي، من حديث سالم بن أبي حفصة، عن عطية، عن أبي سعيد الخُدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي، لا يحل لأحد أن يُجْنب في هذا المسجد غيري وغيرك. إنه حديث ضعيف لا يثبت؛ فإن سالما هذا متروك، وشيخه عطية ضعيف (6) والله أعلم.
قول آخر في معنى الآية: قال ابن أبي حاتم: حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرني ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن زِرّ بن حُبَيش، عن علي: { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ } قال: لا يقرب الصلاة، إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة، فلا يجد الماء فيصلي حتى يجد الماء.
ثم رواه من وجه آخر، عن المنهال بن عمرو، عن زِرّ، عن علي بن أبي طالب، فذكره. قال: ورُوي عن ابن عباس في إحدى الروايات وسعيد بن جبير، والضحاك، نحو ذلك.
وقد روى ابن جَرير من حديث وَكِيع، عن ابن أبي ليلى، عن المِنْهال، عن عَبّادِ بن عبدِ اللهِ أو عن زر بن حُبَيش -عن علي فذكره. ورواه من طريق الْعَوْفي وأبي مِجْلَزِ، عن ابن عباس، فذكره. ورواه عن سعيد بن جُبَيْرٍ، وعن مجاهد، والحسن بن مُسْلِمٍ، والحكم بن عُتَيْبَةَ وزيدِ بن أَسْلَمَ، وابنِهِ عبد الرَّحمنِ، مثل ذلك، وروي من طريق ابن جُرَيْج، عن عبد الله بن كَثِير قال: كنَّا نسمع أنه في السفر.
ويُسْتَشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث أبي قِلابة، عن عَمْرو بن بُجْدَان عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصعيدُ الطَّيِّب طَهُورُ المسلم، وإن لم تجد (7) الماء عشر حججٍ، فإذا وجدت الماء فأمْسسْه بشرتَك فإن ذلك خير" (8) .
__________
(1) صحيح مسلم برقم (298) ومن حديث أبي هريرة برقم (299).
(2) في ر: "خليقة".
(3) زيادة من أ.
(4) سنن أبي داود برقم (232) وسنن ابن ماجه برقم (645) من حديث أم سلمة. قال البوصيري في الزوائد (1/230): "هذا إسناد ضعيف، محدوج لم يوثق، وأبو الخطاب مجهول".
(5) في أ: "مجدوح".
(6) سنن الترمذي برقم (3727).
(7) في د، ر: "يجد".
(8) المسند (5/180) وسنن أبي داود برقم (332) وسنن الترمذي برقم (124) وسنن النسائي (1/171).

ثم قال (1) ابن جرير -بعد حكايته القولين-: والأوْلَى قول من قال: { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ } إلا مجتازي طريق فيه. وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله:أو { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا (2) } [المائدة: 6] إلى آخره. فكان معلوما بذلك أن قوله: { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } لو كان معنيا به المسافر، لم يكن لإعادة ذكره في قوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } معنى مفهوم، وقد مضى حكم ذكره قبل ذلك، فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا، إلا عابري سبيل. قال: والعابر (3) السبيل: المجتاز مَرّا وقطعا. يقال منه: "عبرت هذا الطريق فأنا أعبُره عبرا وعبورا" ومنه قيل: "عبر فلان النهر" إذا قطعه وجاوزه. ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار: هي عُبْرُ أسفار وعَبْر أسفار؛ لقوتها على قطع الأسفار.
وهذا الذي نصره هو قولُ الجمهور، وهو الظاهر من الآية، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة، وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضا، والله أعلم .
وقوله: { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي: أنه يحرم على الجنب المكث في المسجدِ حتى يغتسل أو يتيمم، إن عدم الماء، أو لم يقدر على استعماله بطريقة. وذهب الإمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجدِ، لما روى (4) هو وسعيد بن منصور في سننه بإسناد صحيح: أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك؛ قال سعيد بن منصور:
حدثنا عبد العزيز بن محمد -هو (5) الدرَاوَرْدِي-عن هِشَام بنِ سَعْدٍ، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار قال: رأيت رجالا (6) من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون (7) إذا توضؤوا وضوء الصلاة، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، فالله (8) أعلم.
وقوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } أما المرض المبيح للتيمم، فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء فواتُ عضو أو شَيْنه أو تطويل البُرء. ومن العلماء من جَوّز التيمم بمجرد المرض لعموم الآية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو غسَّان مالكُ بن إسماعيل، حدثنا قيس عن خَصِيف (9) عن مجاهد في قوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } قال: نزلت في رجل من الأنصار، كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم فيناوله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنزل الله هذه الآية.
هذا مرسل. والسفر معروف، ولا فرق فيه بين الطويل والقصير.
__________
(1) في أ: "وقال".
(2) زيادة من ر ، أ.
(3) في ر: "فالعابر".
(4) في أ: "رواه".
(5) في أ: "وهو".
(6) في أ: "رجلا" وهو خطأ.
(7) في أ: "مجتنبون".
(8) في أ: "والله".
(9) في أ: "حصيف".

وقوله: { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } الغائط: هو المكان المطمئن من الأرض، كنى بذلك عن التغوط، وهو الحدث الأصغر.
وأما قوله: { أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } فقرئ: "لَمَسْتم" و"لامستم" واختلف المفسرون والأئمة في معنى ذلك، على قولين:
أحدهما: "أن ذلك كناية عن الجماع؛ لقوله { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [البقرة: 237] وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [الأحزاب: 49].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: { أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ } قال: الجماع. ورُوي عن علي، وأبيّ بن كعب، ومجاهد، وطاوس، والحسن، وعُبَيد بن عمير، وسعيد بن جبير، والشَّعْبي، وقتادة، ومقاتل بن حيَّان -نحوُ ذلك.
وقال ابن جرير: حدثني حُمَيد بن مَسْعَدةَ، حدثنا يزيد بن زُرَيع، حدثنا شُعبة، عن أبي بِشْر، عن سعيد بن جبير قال: ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي: ليس بالجماع. وقال ناس من العرب: اللمس الجماع: قال: فأتيت ابن عباس فقلت له: إن ناسا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس، فقالت الموالي. ليس بالجماع. وقالت العرب: الجماع. قال: من أيّ الفريقين كنت؟ قلت: كنت من الموالي. قال: غُلب فريقُ الموالي. إن اللمس والمس والمباشرة: الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء.
ثم رواه عن ابن بشَّار، عن غُنْدَر، عن شعبة -به نحوه. ثم رواه من غير وجه عن سعيد بن جبير، نحوه.
ومثله قال: حدثني يعقوب، حدثنا هشيم قال: حدثنا أبو بشر، أخبرنا (1) سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: اللمس والمس والمباشرة: الجماع، ولكن الله يكني بما يشاء.
حدثنا عبد الحميد بن بيان، أنبأنا إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس قال: الملامسة: الجماع، ولكن الله كريم يكني بما يشاء.
وقد صح (2) من غير وجه، عن عبد الله بن عباس أنه قال ذلك. ثم رواه ابن جرير عن بعض من حكاه ابن أبي حاتم عنهم.
ثم قال ابن جرير: وقال آخرون: عنى الله بذلك كل لمس بيد كان أو بغيرها من أعضاء الإنسان، وأوجب الوضوء على كل من مس بشيء من جسده شيئا من جسدها مفضيًا إليه.
ثم قال: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن مُخَارقٍ، عن طارق (3) عن
__________
(1) في ر: "أخبرني عن".
(2) في أ: "صح هذا".
(3) في أ: "طاوس".

عبد الله بن مسعود قال: اللمس ما دون الجماع.
وقد رواه من طرق متعددة عن ابن مسعود بمثله. وروي من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: القبلة من المس، وفيها الوضوء.
وقال: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عُبَيد الله (1) بن عمر، عن نافع: أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة، ويرى (2) فيها الوضوء، ويقول: هي من اللماس.
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا من طريق شعبة، عن مخارق، عن طارق، عن عبد الله قال: اللمس ما دون الجماع.
ثم قال ابن أبي حاتم: ورُوي عن ابن عمر، وعبيدة، وأبي عثمان النَّهْدي وأبي عبيدة -يعني ابن عبد الله بن مسعود-وعامر الشَّعْبي، وثابت بن الحجَّاج، وإبراهيم النَّخَعي، وزيد بن أسلم نحو ذلك.
قلت: وروى مالك، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أنه كان يقول: قبلة الرجل امرأته وجَسَّه بيده من الملامسة، فمن قَبّل امرأته أو جسها بيده، فعليه الوضوء.
وروى الحافظ أبو الحسن الدارقُطْني [في سننه] (3) عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نحو ذلك. ولكن رَوَيْنا عنه من وجه آخر: أنه كان يقبل امرأته، ثم يصلي ولا يتوضأ. فالرواية عنه مختلفة، فيحمل (4) ما قاله في الوضوء إن صح عنه على الاستحباب، والله أعلم.
والقول بوجوب الوضوء من المس هو قول الشافعي وأصحابه ومالك والمشهور عن أحمد بن حنبل، رحمهم الله، قال ناصر هذه المقالة: قد قرئ في هذه الآية { لامَسْتُمُ } { ولمستم } واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد قال ]الله[ (5) تعالى: { وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } [الأنعام: 7]، أي جسوه (6) وقال [رسول الله] (7) صلى الله عليه وسلم لماعز -حين أقر بالزنا يُعرض له بالرجوع عن الإقرار-: "لعلك قبلت أو لمست" (8) وفي الحديث الصحيح: "واليد زناها اللمس" وقالت عائشة، رضي الله عنها: قَلّ يوم إلا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا، فيقبّل ويلمس. ومنه ما ثبت في الصحيحين: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة (9) وهو يَرْجع إلى الجس باليد على كلا التفسيرين قالوا: ويطلق في اللغة على الجس باليد، كما يطلق على الجماع، قال الشاعر:
وألمستُ كَفي كفَّه أطلب الغِنَى ...
__________
(1) في د، ر: "عبد الله" والصحيح ما أثبتناه.
(2) في أ: "وهو يرى".
(3) زيادة من ر، أ.
(4) في أ: "فيحتمل".
(5) زيادة من ر، أ.
(6) في ر، أ: "مسوه".
(7) زيادة من أ.
(8) رواه البخاري في صحيحه برقم (6824) وأبو داود في سننه برقم (4427) وأحمد في مسنده (1/238) من حديث عبد الله بن عباس.
(9) صحيح البخاري برقم (2146) وصحيح مسلم برقم (1511).

واستأنسوا أيضا بالحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الله (1) بن مهدي وأبو سعيد قالا حدثنا زائدة، عن عبد الملك بن عمير -وقال أبو سعيد: حدثنا عبد الملك بن عُمَير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها، فليس (2) يأتي الرجل من امرأته شيء إلا أتاه منها، غير أنه لم يجامعها؟ قال: فأنزل الله عز وجل هذه الآية: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [هود: 114] قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضأ ثم صَلِّ". قال معاذ: فقلت: يا رسول الله، أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال: "بل للمؤمنين عامة".
ورواه الترمذي من حديث زائدة (3) به، وقال: ليس بمتصل. وأخرجه النسائي من حديث شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا (4) .
قالوا: فأمره بالوضوء؛ لأنه لمس المرأة ولم يجامعها. وأجيب بأنه منقطع بين أبي ليلى ومعاذ، فإنه لم يلقه، ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة للتوبة، كما تقدم في حديث الصدِّيق [رضي الله عنه] (5) ما من عبد يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر الله له" الحديث، وهو مذكور في سورة آل عمران عند قوله: { ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ[وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ] (6) } الآية [آل عمران:135] .
ثم قال ابن جرير: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: { أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } الجماع دون غيره من معاني اللمس، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قَبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ، ثم قال: حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي قال: أخبرنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل، ثم يصلي ولا يتوضأ (7) .
ثم قال: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن الأعمش، عن حبيب، عن عروة، عن عائشة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قلت: من هي إلا أنت؟ فضحكت.
وهكذا رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه عن جماعة من مشايخهم، عن وكيع، به (8) .
ثم قال أبو داود: روي عن الثوري أنه قال: ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزَنيّ، وقال يحيى القطَّان لرجل: احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء.
__________
(1) في ر، أ: "عبد الرحمن".
(2) في أ: "وليس".
(3) المسند (5/244) وسنن الترمذي برقم (3113).
(4) رواه النسائي في الكبرى برقم (7328) لكنه موصول، وذكره المزي في تحفة الأشراف برقم (11343) وعزاه للنسائي مرسلا، والله أعلم.
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من د، أ.
(7) تفسير الطبري (8/396).
(8) تفسير الطبري (8/396) وسنن أبي داود برقم (180) وسنن الترمذي برقم (86) وسنن ابن ماجه برقم (502).

وقال الترمذي: سمعت البخاري يضعف هذا الحديث وقال: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عُرْوَة.
وقد وقع في رواية ابن ماجه: عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد الطنافسي، عن وكيع عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن الزبير، عن عائشة.
وأبلغ من ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة (1) وهذا نص في كونه عروة بن الزبير، ويشهد له قوله: من هي إلا أنت، فضحكت (2) .
لكن روى أبو داود، عن إبراهيم بن مَخْلد الطَّالْقاني، عن عبد الرحمن بن مَغْراء، عن الأعمش قال: حدثنا أصحاب لنا عن عروة المزني عن عائشة (3) فذكره، والله أعلم.
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا أبو زيد عمر بن شَبَّةَ، عن (4) شهاب بن عبَّاد، حدثنا مَنْدَل بن علي، عن ليث، عن عطاء، عن عائشة -وعن أبي رَوْق، عن إبراهيم التَّيمي، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينال مني القبلةَ بعد الوضوء، ثم لا يعيد الوضوء (5) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبي روق الهمْدَاني، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ثم صلى ولم يتوضأ.
[و] (6) رواه أبو داود والنسائي من حديث يحيى القطان -زاد أبو داود: وابن مهدي-كلاهما عن سفيان الثوري به. (7) ثم قال أبو داود، والنسائي: لم يسمع إبراهيم التيمي من عائشة.
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا سعيد (8) بن يحيى الأموي، حدثنا أبي، حدثنا يزيد بن سِنَان، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم، ثم لا يفطر، ولا يحدث وضوءًا (9) .
وقال أيضا: حدثنا أبو كريب، حدثنا حفص بن غِياث، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السَّهْمِية عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يُقَبّل ثم يصلي ولا يتوضأ.
وقد رواه الإمام أحمد، عن محمد بن فُضَيل، عن حجاج بن أَرْطَاة، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السهمية، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، به (10) .
__________
(1) في أ: "عائشة به".
(2) المسند (6/210) لكنه من طريق حبيب بن أبي ثابت عن عروة به.
(3) في ر: "عروة".
(4) في أ: "حدثنا".
(5) تفسير الطبري (8/397).
(6) زيادة من أ.
(7) المسند (6/210) وسنن أبي داود برقم (178) وسنن النسائي (1/39).
(8) في أ: "سعد".
(9) تفسير الطبري (8/399) ورواه الطبراني في الأوسط برقم (436) "مجمع البحرين" من طريق سعيد بن يحيى الأموي به. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/247): "فيه يزيد بن سنان الرهاوى ضعفه أحمد ويحيى وابن المدينى، ووثقه البخاري وأبو حاتم، وثبته مروان بن معاوية وبقية رجاله موثقون".
(10) تفسير الطبري (8/397) والمسند (6/62).

وقوله: { فَإِنْ لَمْ (1) تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } استنبط كثير من الفقهاء من هذه الآية: أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد تطلبه، فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم. وقد ذكروا كيفية الطلب في كتب الفروع، كما هو مقرر في موضعه، كما هو (2) في الصحيحين، من حديث عِمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في (3) القوم، فقال: "يا فلان، ما منعك أن تصلي مع القوم؟ ألست برجل مسلم؟" قال: بلى يا رسول الله، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء. قال: "عليك بالصعيد، فإنه يكفيك". (4)
ولهذا قال تعالى: { فَإِنْ لَمْ (5) تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } فالتيمم في اللغة هو: القصد. تقول العرب: تيممك (6) الله بحفظه، أي: قصدك. ومنه قول امرئ القيس (7) وَلَمَّا رَأتْ (8) أنَّ المَنِية ورِدُها ... وأن الحصَى من تحت أقدامها دَامِ ...
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الفيء عَرْمَضها طام ...
والصعيد قيل: هو كل ما صعد على وجه الأرض، فيدخل فيه التراب، والرمل، والشجر، والحجر، والنبات، وهو قول مالك. وقيل: ما كان من جنس التراب فيختص التراب والرمل والزرنيخ، والنورة، وهذا مذهب أبي حنيفة. وقيل: هو التراب فقط، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهما، واحتجوا بقوله تعالى: { فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } [الكهف: 40] أي: ترابا أملس طيبا، وبما ثبت في صحيح مسلم، عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء" (9) وفي لفظ: "وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء". قالوا: فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه.
والطيب هاهنا قيل: الحلال. وقيل: الذي ليس بنجس. كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجه، من حديث أبي قلابة عن عمرو بن بُجْدان (10) عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر حجج، فإذا وجده، (11) فليمسه بَشرته، فإن ذلك خير له".
وقال الترمذي: حسن صحيح: وصححه ابن حبان أيضا (12) ورواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن أبي هريرة (13) وصححه الحافظ أبو الحسن القطان. وقال ابن عباس: أطيب الصعيد تراب
__________
(1) في ر، أ: "فلم".
(2) في أ: "ورد".
(3) في أ: "مع".
(4) صحيح البخاري برقم (348) وصحيح مسلم برقم (682).
(5) في أ: "فلم".
(6) في ر، أ: "نواك".
(7) البيت في لسان العرب لابن منظور، مادة (ضرج ).
(8) في ر: "رأيت".
(9) صحيح مسلم برقم (522).
(10) في أ: "نجدان".
(11) في ر، أ: "فإذا وجد الماء".
(12) سبق تخريجه، ورواه ابن حبان في صحيحه (2/303) "الإحسان".
(13) مسند البزار برقم (310)، "كشف الأستار"، وقال الهيثمي في المجمع (1/261): "رواه البزار وقال: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه قلت: ورجاله رجال الصحيح".

الحرث. رواه ابن أبي حاتم، ورفعه ابن مَرْدويه في تفسيره (1) .
وقوله: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } التيمم بدل عن الوضوء في التطهر (2) به، لا أنه بدل منه في جميع أعضائه، بل يكفي مسح الوجه واليدين فقط بالإجماع، ولكن (3) اختلف الأئمة في كيفية التيمم على أقوال.
أحدها -وهو مذهب الشافعي في الجديد-: أنه يجب أن يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين؛ لأن لفظ اليدين يصدق إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين، وعلى ما يبلغ المرفقين، كما في آية الوضوء، ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين، كما في آية السرقة: { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38] قالوا: وحمل ما أطلق هاهنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع (4) الطهورية. وذكر بعضهم ما رواه الدارقطني، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين". ولكن لا يصح؛ لأن في أسانيده ضعفاء لا يثبت الحديث بهم (5) وروى أبو داود عن ابن عمر -في حديث-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه.
ولكن في إسناده محمد بن ثابت العَبْدي، وقد ضعفه بعض الحفاظ، ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ابن عمر، قال البخاري وأبو زرعة وابن عَدِي: هو الصواب. وقال البيهقي: رفع هذا الحديث منكر (6) (7) .
واحتج الشافعي بما رواه عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن عبد الرحمن بن معاوية، عن الأعرج، عن ابن الصَّمَّة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمم فمسح وجهه وذراعيه. (8)
وقال ابن جرير: حدثني موسى بن سهل الرملي، حدثنا نعيم بن حَمَّاد، حدثنا خارجةُ بن مُصْعب، عن عبد الله بن عطاء، عن موسى بن عُقْبة، عن الأعرج، عن أبي جُهيم (9) قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول، فسلمت عليه، فلم يرد علي حتى فرغ، ثم قام إلى الحائط (10) فضرب بيديه عليه، فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه على الحائط فمسح بهما يديه إلى المرفقين، ثم رد علي السلام (11) .
__________
(1) ورواه الشيرازي في الألقاب كما في الدر المنثور للسيوطي (2/551).
(2) في ر: "الطهر".
(3) في أ: "واختلف".
(4) في أ: "بجماع".
(5) سنن الدارقطني (1/180) من طريق عبد الله بن الحسين عن عبد الرحيم بن مطرف عن علي بن ظبيان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، به. ثم قال: "كذا رواه علي بن ظبيان مرفوعًا، ووقفه يحيى بن القطان وهشيم وغيرهما، وهو الصواب".
(6) في ر، أ: "غير منكر".
(7) سنن أبي داود برقم (331).
(8) الأم للشافعي (1/42).
(9) في أ: "جهيمة".
(10) في أ: "حائط".
(11) تفسير الطبري (8/416).

والقول الثاني: إنه يجب مسح الوجه واليدين إلى الكفين بضربتين، وهو القول القديم للشافعي.
والثالث: أنه يكفي مسح الوجه والكفين بضربة واحدة؛ قال الإمام أحمد:
حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن الحكم، عن ذَرّ، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه؛ أن رجلا أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء؟ فقال عمر: لا تصل. فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت، فلما أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: "إنما كان يكفيك". وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده الأرض، ثم نفخ فيها ومسح بها (1) وجهه وكفيه (2) .
وقال أحمد أيضا: حدثنا عفَّان، حدثنا أبان، حدثنا قتادة، عن عَزْرَة (3) عن سعيد بن عبد الرحمن بن أَبْزى، عن أبيه، عن عمار؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في التيمم: "ضربة للوجه والكفين" (4) .
طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد، حدثنا سليمان الأعمش، حدثنا شقيق قال: كنت قاعدا مع عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى لعبد الله: لو أن رجلا لم يجد الماء لم يصل؟ فقال عبد الله: لا. فقال أبو موسى: أما تذكر إذ قال عمَّار لعمر: ألا تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياك في إبل، فأصابتني جنابة، فتمرغت في التراب؟ فلما رجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته، فضحك وقال: "إنما كان يكفيك أن تقول هكذا"، وضرب بكفيه إلى الأرض، ثم مسح كفيه جميعا، ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة؟ فقال عبد الله: لا جرم، ما رأيت عمر قنع بذاك قال: فقال له أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة النساء: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيًدا طَيِّبًا } ؟ قال: فما درى عبد الله ما يقول، وقال: لو رخصنا لهم في التيمم لأوشك أحدهم إذا برد الماء على جلده أن يتيمم (5) .
وقال تعالى في آية المائدة: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } [المائدة:6]،استدل بذلك الشافعي، رحمه الله تعالى، على أنه لا بد في التيمم أن يكون بتراب طاهر له غبار يعلق بالوجه واليدين منه شيء، كما رواه الشافعي بإسناده المتقدم عن ابن الصمة: أنه مَرّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلم عليه فلم يرد عليه، حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه، فضرب بيده عليه ثم مسح بها وجهه وذراعيه.
وقوله: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } أي: في الدين الذي شَرَعه لكم { وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } فلهذا أباح إذا لم تجدوا الماء أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَةُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
ولهذا كانت هذه الأمة مختصة بشرعية التيمم دون سائر الأمم، كما ثبت في الصحيحين، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطِيتُ خمسا لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ قَبْلي:
__________
(1) في أ: "بهما".
(2) المسند (4/265).
(3) في أ: "عروة".
(4) المسند (4/263).
(5) المسند (4/265).

نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسِيرةَ شهر وجعلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل -وفي لفظ: فعنده طَهُورُه مسجده-وأحِلَّتْ لي الغنائم ولم تَحِلَّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة" (1) .
وتقدم في حديث حذيفة عند مسلم: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدا، وتربتها (2) طهورا إذا لم نجد الماء".
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا } أي: ومن عفوه عنكم وغَفره لكم أن شرع (3) التيمم، وأباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم (4) الماء توسعة عليكم ورخصة لكم، وذلك أن هذه الآية الكريمة فيها تنزيه الصلاة أن تفعل على هيئة ناقصة من سكر حتى يصحو المكلف ويعقل ما يقول، أو جنابة حتى يغتسل، أو حدث حتى يتوضأ، إلا أن يكون مريضا أو عادما للماء، فإن الله، عز وجل، قد أرخص في التيمم والحالة هذه، رحمة بعباده ورأفة بهم، وتوسعة عليهم، ولله الحمد والمنة.
ذكر سبب نزول مشروعية التيمم:
وإنما ذكرنا ذلك هاهنا؛ لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة، وبيانه أن هذه نزلت قبل تحتم تحريم الخمر، والخمر إنما حرم بعد أحد، يقال: في محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير بعد أحد بيسير، وأما المائدة فإنها من أواخر ما نزل، ولا سيما صدرها، فناسب أن يذكر السبب هاهنا، وبالله الثقة.
قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة: أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا في طلبها فوجدوها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوها بغير وضوء، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية التيمم، فقال أسيد بن الحضير لعائشة: جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا (5) .
طريق أخرى: قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا في البيداء (6) -أو بذات الجيش-انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء! فجاء أبو بكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء! قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير
__________
(1) صحيح البخاري برقم (335) وصحيح مسلم برقم (521).
(2) في أ: "وترابها".
(3) في أ: "يشرع".
(4) في أ: "فقد".
(5) المسند (6/57).
(6) في أ: "بالبيداء".

ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بَركتكم يا آل أبي بكر. قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحته.
وقد رواه البخاري أيضًا عن قُتيبة وإسماعيل. ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك (1) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح قال: قال ابن شهاب: حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عمار بن ياسر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس بأولات الجيش ومعه عائشة زوجته، فانقطع عقد لها من جَزْع ظَفَار، فحبس الناس ابتغاء عقدها، وذلك حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء، فأنزل الله، عز وجل، على رسوله صلى الله عليه وسلم رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم الأرض، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط (2) .
وقد رواه ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا صيفى، عن ابن أبي ذئب، ]عن الزُّهْرى[ (3) عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي اليقظان قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلك عقد لعائشة، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الفجر (4) فتغيّظ أبو بكر على عائشة ]رضي الله عنها[ (5) فنزلت عليه الرخصة: المسح بالصعيد الطيب. فدخل أبو بكر فقال لها: إنك لمباركة! نزلت فيك رخصة! فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا، وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط. (6)
حديث آخر: قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا الليث حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا العلاء (7) بن أبي سوية، حدثني الهيثم عن زُرَيق (8) المالكي -من بني مالك بن كعب بن سعد، وعاش مائة وسبع عشرة سنة-عن أبيه، عن الأسلع بن شريك قال: كنت أُرَحِّل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة، فكرهت أن أرحل ناقتة وأنا جنب، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض، فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها، ثم رضَفت أحجارًا فأسخنت بها ماء، فاغتسلت. ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: "يا أسلع، مالي أرى رحلتك تغيرت؟" قلت: يا رسول الله، لم أرحلها، رحلها رجل من الأنصار، قال: "ولم ؟" قلت: إني أصابتني جنابة، فخشيت القُرَّ على نفسي، فأمرته أن يرحلها، ورضفت أحجارًا فأسخنت بها ماء فاغتسلت به، فأنزل الله تعالى: { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بوجوهكم وأيديكم]
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4607).
(2) المسند (4/264).
(3) زيادة من أ، والطبري.
(4) في أ: "الصبح".
(5) زيادة من أ.
(6) تفسير الطبري (8/418).
(7) في النسخ: "العباس" وهو تحريف، والتصويب من كتب الرجال.
(8) في أ: "زريق".

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)

إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا } وقد روي من وجه آخر عنه .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا (46) } .
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، أنهم يشترون الضلالة بالهدى ويعرضون عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين في صفة محمد صلى الله عليه وسلم ليشتروا به ثمنا قليلا من حطام الدنيا { وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُوا السَّبِيلَ } أي يودون لو تكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع.

{ وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ } أي: هو يعلم بهم ويحذركم منهم { وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا } أي: كفى به وليا لمن لجأ (1) إليه ونصيرا لمن استنصره.
ثم قال تعالى: { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا } "من" هذه لبيان الجنس كقوله: { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ }
وقوله: { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } أي: يتأولون على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله، عز وجل، قصدا منهم وافتراء { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي يقولون (2) سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه. هكذا فسره مجاهد وابن زيد، وهو المراد، وهذا أبلغ في عنادهم وكفرهم، أنهم يتولون (3) عن كتاب الله بعد ما عقلوه، وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة.
وقوله (4) { وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } أي: اسمع ما نقول، لا سمعت. رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال مجاهد والحسن: واسمع غير مقبول منك.
قال ابن جرير: والأول أصح. وهو كما قال. وهذا استهزاء منهم واستهتار، عليهم لعنة الله[والملائكةالناس أجمعين]
__________
(1) في د: "التجأ".
(2) في ر: "تقولون".
(3) في أ: "يقولون".
(4) في أ: "وقولهم".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)

(1) .
{ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ } أي: يوهمون أنهم يقولون: راعنا سمعك بقولهم: "راعنا" وإنما يريدون الرعونة. وقد تقدم الكلام في هذا عند قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا } [البقرة:104].
ولهذا قال تعالى عن هؤلاء اليهود الذين يريدون بكلامهم خلاف ما يظهرونه: { لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ } يعني: بسبهم النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } أي: قلوبهم مطرودة عن الخير مبعدة منه، فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: { فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ } [البقرة:88] والمقصود: أنهم لا يؤمنون إيمانا نافعا.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) }
يقول تعالى -آمرا أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم (2) الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات، ومتهددا لهم أن (3) يفعلوا، بقوله: { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } قال بعضهم: معناه: من قبل أن نطمس وجوها. طمسها (4) هو ردها إلى الأدبار، وجعل أبصارهم من ورائهم. ويحتمل أن يكون المراد: من قبل أن نطمس وجوها فلا يبقي لها سمع ولا بصر ولا أثر، ونردها مع ذلك إلى ناحية الأدبار.
قال العوفي عن ابن عباس: { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا } وطمسها أن تعمى { فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } يقول: نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم، فيمشون القهقرى، ونجعل لأحدهم عينين (5) من قفاه.
وكذا قال قتادة، وعطية العوفي. وهذا أبلغ في العقوبة والنكال، وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبل الضلالة يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم، وهذا كما قال بعضهم في قوله: { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا [وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ] (6) } [يس 8 ، 9] إن هذا مثل [سوء] (7) ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ: "العزيز".
(3) في أ: "إن لم يفعلوا".
(4) في ر: "وطمسها".
(5) في د، ر، أ: "عينان".
(6) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(7) زيادة من أ.

قال مجاهد: { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا } يقول: عن صراط الحق، فنردها (1) على أدبارهم، أي: في الضلالة.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس، والحسن نحو هذا.
قال السدي: { فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } فنمنعها عن الحق، قال: نرجعها كفارا ونردهم قردة.
وقال ابن (2) زيد (3) نردهم إلى بلاد الشام من أرض الحجاز.
وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية، قال ابن جرير:
حدثنا أبو كريب، حدثنا جابر بن نوح، عن عيسى بن المغيرة قال: تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب، فقال: أسلم كعب زمان عمر، أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمر على المدينة، فخرج إليه عمر فقال: يا كعب، أسلم، قال: ألستم تقرؤون في كتابكم (4) { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ [ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ] (5) أَسْفَارًا } وأنا قد حملت التوراة. قال: فتركه عمر. ثم خرج حتى انتهى إلى حمص، فسمع رجلا من أهلها حزينا، وهو يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } الآية. قال (6) كعب: يا رب آمنت، يا رب، أسلمت، مخافة أن تصيبه هذه الآية، ثم رجع فأتى أهله في اليمن، ثم جاء بهم مسلمين (7) .
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر بلفظ آخر، فقال: حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل، حدثنا عمرو بن واقد، عن يونس بن حلبس (8) عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني قال: كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبعثه إليه ينظر أهو هو؟ قال كعب: فركبت حتى أتيت المدينة، فإذا تال يقرأ القرآن، يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } فبادرت الماء فاغتسلت وإني لأمسح وجهي مخافة أن أطمس، ثم أسلمت (9) .
وقوله: { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ } يعني: الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد، وقد مسخوا قردة وخنازير، وسيأتي بسط قصتهم في سورة الأعراف.
وقوله: { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا } أي: إذا أمر بأمر، فإنه لا يخالف ولا يمانع.
ثم أخبر تعالى: أنه { لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } أي: لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } أي: من الذنوب { لِمَنْ يَشَاءُ } أي: من عباده.
وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة، فلنذكر منها ما تيسر:
__________
(1) في أ: "ورد".
(2) في ر، أ: "أبو".
(3) في أ: "زيد بن دهم".
(4) في أ: "كتاب".
(5) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "إلى".
(6) في أ: "فقال".
(7) تفسير الطبري (8/ 446).
(8) في ر: "حليس"، وفي أ: "حلس".
(9) وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/ 555) وعزاه لابن أبي حاتم.

الحديث الأول: قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا صدقة بن موسى، حدثنا أبو عمران الجوني، عن يزيد بن بابنوس (1) عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدواوين عند الله ثلاثة؛ ديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله. فأما الديوان الذي لا يغفره الله، فالشرك بالله، قال الله عز وجل: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ } [المائدة:72] وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها؛ فإن الله يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء. وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا، فظلم العباد بعضهم بعضا؛ القصاص لا محالة".
تفرد به أحمد (2) .
الحديث الثاني: قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا أحمد بن مالك، حدثنا زائدة بن أبي الرقاد، عن زياد النمري، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الظلم ثلاثة، فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يتركه الله: فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، وقال (3) { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان:13]وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه (4) فظلم العباد بعضهم بعضا، حتى يدين لبعضهم من بعض" (5) .
الحديث الثالث: قال الإمام أحمد: حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا ثور بن يزيد، عن أبي (6) عون، عن أبي إدريس قال: سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الرجل يموت كافرًا، أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا".
رواه النسائي، عن محمد بن مثنى، عن صفوان بن عيسى، به (7) .
الحديث الرابع: قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عبد الحميد، حدثنا شهر، حدثنا ابن غنم (8) أن أبا ذر حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقول: يا عبدي، ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك، يا (9) عبدي، إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي، لقيتك بقرابها مغفرة".
تفرد به أحمد من هذا الوجه (10)
__________
(1) في ر: "أبنوس"، وفي أ: "لينوس".
(2) المسند (6/ 240).
(3) في د، أ: "وقال الله".
(4) في ر: "لا يتركه الله".
(5) مسند البزار برقم (3439) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (10/ 348): "رواه البزار عن شيخه أحمد بن مالك القشيري ولم أعرفه، وبقية رجاله قد وثقوا".
ورواه الطيالسي في مسنده (2/ 60) "منحة المعبود" ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (6/ 309) حدثنا الربيع عن يزيد عن أنس به. ويزيد هو الرقاشي ضعيف عند الأئمة.
(6) في د: "ابن".
(7) المسند (6/99) وسنن النسائي (7/ 81).
(8) في ر: "تميم".
(9) في أ: "ويا".
(10) المسند (5/ 154).

.
الحديث الخامس: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا حسين، عن ابن بريدة أن يحيى بن يعمر حدثه، أن أبا الأسود الديلي حدثه، أن أبا ذر حدثه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله. ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق" قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق". ثلاثا، ثم قال في الرابعة: "على رغم أنف أبي ذر"! قال: فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر". وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول: وإن رغم أنف أبي ذر.
أخرجاه من حديث حسين، به (1) .
طريق أخرى عنه: قال [الإمام] (2) أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال: "كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء، ونحن ننظر إلى أحد، فقال: "يا أبا ذر". فقلت: لبيك يا رسول الله، [قال] (3) ما أحب أن لي أحدا ذاك عندي ذهبا أمسي ثالثة وعندي منه دينار، إلا دينارا أرصده -يعني لدين-إلا أن أقول به في عباد الله هكذا". وحثا عن يمينه وبين يديه وعن يساره. قال: ثم مشينا فقال: "يا أبا ذر، إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا". فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره. قال: ثم مشينا فقال: "يا أبا ذر، كما أنت حتى آتيك". قال: فانطلق حتى توارى عني. قال: فسمعت لغطا (4) فقلت: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض له. قال فهممت أن أتبعه، ثم ذكرت قوله: "لا تبرح حتى آتيك" فانتظرته حتى جاء، فذكرت له الذي سمعت، فقال: "ذاك جبريل أتاني فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة". قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق".
أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش، (5) به.
وقد رواه البخاري ومسلم أيضا كلاهما، عن قتيبة، عن جرير بن عبد الحميد، عن عبد العزيز بن رفيع، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال: خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده، ليس معه إنسان، قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد. قال: فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني، فقال: "من هذا؟" فقلت: أبو (6) ذر، جعلني الله فداك. قال: "يا أبا ذر، تعال". قال: فمشيت معه ساعة فقال: "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه عن يمينه وشماله، وبين يديه وورائه، وعمل فيه خيرا". قال: فمشيت معه ساعة فقال لي: "اجلس هاهنا"، قال: فأجلسني في قاع حوله حجارة، فقال لي: "اجلس هاهنا حتى أرجع إليك". قال: فانطلق في الحرة حتى لا أراه، فلبث عني فأطال اللبث، ثم إني سمعته وهو مقبل، وهو يقول: "وإن سرق وإن زنى". قال: فلما جاء لم أصبر حتى قلت: يا نبي الله، جعلني الله فداءك، من تكلم
__________
(1) المسند (5/166) وصحيح البخاري برقم (5827) وصحيح مسلم برقم (94).
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ، والمسند.
(4) في ر، أ: "لغطا وصوتا".
(5) المسند (5/ 152) وصحيح البخاري برقم (2388) وصحيح مسلم برقم (94).
(6) في أ: "أبي".

في جانب الحرة؟ ما سمعت أحدا يرجع إليك شيئا. قال: "ذاك جبريل، عرض لي من (1) جانب الحرة فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت: يا جبريل، وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم. قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم، وإن شرب الخمر" (2) .
الحديث السادس: قال عبد بن حميد في مسنده: أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر قال: جاء رجل إلى رسول الله (3) صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان (4) ؟ قال: "من مات لا يشرك بالله شيئا وجبت له الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا وجبت له النار". وذكر تمام الحديث. تفرد به من هذا الوجه (5) .
طريق أخرى: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن عمرو بن خلاد الحراني، حدثنا منصور بن إسماعيل القرشي، حدثنا موسى بن عبيدة، الربذي، أخبر (6) عبد الله بن عبيدة، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نفس تموت، لا تشرك بالله شيئا، إلا حلت لها المغفرة، إن شاء الله عذبها، وإن شاء غفر لها: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (7) .
ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده، من حديث موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة، عن جابر؛ أن النبي (8) صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب". قيل: يا نبي الله، وما الحجاب؟ قال: "الإشراك بالله". قال: "ما من نفس تلقى الله لا تشرك به شيئا إلا حلت لها المغفرة من الله تعالى، إن يشأ أن يعذبها، وإن يشأ أن يغفر لها غفر لها". ثم قرأ نبي الله: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (9) .
الحديث السابع: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زكريا، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة" .
تفرد به من هذا الوجه (10) .
الحديث الثامن: قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو قبيل، عن عبد الله بن ناشر (11) من بني سريع قال: سمعت أبا رهم قاصن أهل الشام يقول: سمعت أبا أيوب الأنصاري يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم إليهم، فقال لهم: "إن ربكم، عز وجل، خيرني
__________
(1) في أ: "في".
(2) صحيح البخاري برقم (6443) وصحيح مسلم برقم (94).
(3) في ر، أ: "النبي".
(4) في د، ر: "ما الموجبات".
(5) المنتخب لعبد بن حميد برقم (1058) وفي إسناده ابن أبي ليلي سيئ الحفظ.
لكن روي من وجه آخر صحيح عن جابر: فرواه مسلم برقم (93) من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر به.
(6) في أ: "أخبرني".
(7) وفي إسناده موسى بن عبيدة ضعفه الأئمة، وروايته عن أخيه عبد الله بن عبيدة عن جابر مرسلة أيضا.
(8) في أ: "نبي الله".
(9) ورواه ابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله برقم (56) وابن عدي في الكامل (6/ 334) من طريق معتمر بن سليمان عن علي بن صالح عن موسى بن عبيدة به.
(10) المسند (3/ 79).
(11) في أ: "ياسر".

بين سبعين ألفا يدخلون الجنة عفوا (1) بغير حساب، وبين الخبيئة عنده لأمتي". فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله، أيخبأ ذلك ربك؟ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج وهو يكبر، فقال: "إن ربي زادني مع كل ألف سبعين ألفا والخبيئة عنده" قال أبو رهم: يا أبا أيوب، وما تظن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأكله الناس بأفواههم فقالوا: وما أنت وخبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال أبو أيوب: دعوا الرجل عنكم، أخبركم عن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أظن، بل كالمستيقن. إن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله مصدقا لسانه قلبه أدخله (2) الجنة" (3) .
الحديث التاسع: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا المؤمل بن الفضل الحراني، حدثنا عيسى بن يونس وأخبرنا هاشم بن القاسم الحراني -فيما كتب إلي-قال: حدثنا عيسى بن يونس نفسه، عن واصل بن السائب الرقاشي، عن أبي سورة ابن أخي أبي أيوب، عن أبي أيوب الأنصاري قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام. قال: "وما دينه؟" قال: يصلي ويوحد الله تعالى. قال "استوهب منه دينه، فإن أبى فابتعه منه". فطلب الرجل ذاك منه فأبى عليه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: وجدته شحيحا في (4) دينه. قال: فنزلت: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (5) .
الحديث العاشر: قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا عمرو بن الضحاك، حدثنا أبي، حدثنا مستور أبو همام الهنائي، حدثنا ثابت عن أنس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما تركت حاجة ولا ذا حاجة إلا قد أتيت. قال: "أليس تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟" ثلاث مرات. قال: نعم. قال: "فإن ذلك يأتي على ذلك كله" (6) .
الحديث الحادي عشر: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا عكرمة بن عمار، عن ضمضم بن جوس اليمامي (7) قال: قال لي أبو هريرة: يا يمامي (8) لا تقولن لرجل: والله لا يغفر الله لك. أو لا (9) يدخلك الجنة أبدا. قلت: يا أبا هريرة (10) إن هذه كلمة يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضب قال: لا تقلها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كان في بني إسرائيل رجلان كان أحدهما مجتهدا في العبادة، وكان الآخر مسرفا على نفسه، وكانا متآخيين (11) وكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب، فيقول: يا هذا أقصر. فيقول: خلني وربي! أبعثت علي رقيبا؟ قال: إلى أن رآه يوما على ذنب استعظمه، فقال له: ويحك! أقصر! قال: خلني وربي! أبعثت علي رقيبا؟ فقال: والله
__________
(1) في ر، أ: "غفرا".
(2) في د، أ: "فأدخله"، وفي ر: "فأدخل".
(3) المسند (5/ 413).
(4) في ر: "على".
(5) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/ 177) من طريق عيسى بن يونس عن واصل به.
قال الهيثمي في المجمع (7/ 5): "فيه واصل بن السائب وهو ضعيف".
(6) مسند أبي يعلى (6/ 155) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 83): "رجاله ثقات".
(7) في د، ر: "الهفائي"، وفي أ: "الهنائي".
(8) في د، ر، أ: "يا يماني".
(9) في د، ر، أ: "ولا".
(10) في ر: "يا رسول الله".
(11) في أ: "متحابين".

لا يغفر الله لك -أو لا يدخلك الجنة أبدا-قال: فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما واجتمعا عنده، فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر: أكنت بي عالما؟ أكنت على ما في يدي قادرا؟ اذهبوا به إلى النار. قال: فوالذي نفس أبي القاسم بيده لتكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته".
ورواه أبو داود، من حديث عكرمة بن عمار، حدثني ضمضم بن جوش، به (1) .
الحديث الثاني عشر: قال الطبراني: حدثنا أبو شيخ عن محمد بن الحسن بن عجلان الأصبهاني، حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي، ما لم يشرك بي شيئا" (2) .
الحديث الثالث عشر: قال الحافظ أبو بكر البزار والحافظ أبو يعلى [الموصلي] (3) حدثنا هدبة -هو ابن خالد-حدثنا سهل بن أبي حزم، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له، ومن توعده (4) على عمل عقابا فهو فيه بالخيار". تفردا به (5) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا بحر بن نصر الخولاني، حدثنا خالد -يعني ابن عبد الرحمن الخراساني-حدثنا الهيثم بن جمار (6) عن سلام بن أبي مطيع، عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عمر قال: كنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وقاذف (7) المحصنات، وشاهد الزور، حتى نزلت هذه الآية: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فأمسك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة.
ورواه ابن جرير من حديث الهيثم بن حماد (8) به (9) .
وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا عبد الملك بن أبي عبد الرحمن المقري (10) حدثنا عبد الله بن عاصم، حدثنا صالح -يعني المري أبو بشر-عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: كنا لا نشك فيمن أوجب الله له النار في الكتاب، حتى نزلت علينا هذه الآية: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } قال: فلما سمعناها كففنا عن الشهادة، وأرجينا الأمور إلى الله، عز وجل (11)
__________
(1) المسند (2/ 323) وسنن أبي داود برقم (4901).
(2) في إسناده إبراهيم بن الحكم بن أبان، ضعفه الأئمة وقال ابن عدي: "كان يوصل المراسيل عن أبيه وعامة ما يرويه لا يتابع عليه".
(3) زيادة من أ.
(4) في ر: "ومن توعد"، وفي أ: "وعده".
(5) مسند أبي يعلى (6/ 66) ورواه الطبراني في الأوسط برقم (4739) وقال: "لم يروه عن ثابت إلا سهيل تفرد به هدبة".
وقال الهيثمي في المجمع (10/ 211): "فيه سهيل بن أبي حزم، وقد وثق على ضعفه، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(6) في أ: "حمار".
(7) في د، ر، أ: "وقذف".
(8) في ر: "جماز"، وفي أ: "حمار".
(9) تفسير الطبري (8/ 450) وفي إسناده الهيثم بن جماز ضعفه أحمد وابن معين، والنسائي وغيرهم.
(10) في أ: "المقبري"
(11) في د: "تعالى".

.
وقال البزار: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا شيبان بن أبي شيبة، حدثنا حرب بن سُرَيج، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر [رضي الله عنهما] (1) قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر، حتى سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وقال: "أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة".
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، أخبرني مجبر، عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما نزلت: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ [إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] (2) } [الزمر:53] ، قام رجل فقال: والشرك بالله يا نبي الله؟ فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا }
رواه ابن جرير. وقد رواه ابن مردويه من طرق عن ابن عمر (3) .
وهذه الآية التي في سورة "تنزيل" مشروطة بالتوبة، فمن تاب من أي ذنب وإن تكرر منه تاب الله عليه؛ ولهذا قال: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر:53]أي: بشرط التوبة، ولو لم يكن كذلك لدخل الشرك فيه، ولا يصح ذلك، لأنه، تعالى، قد حكم هاهنا بأنه لا يغفر الشرك، وحكم بأنه يغفر ما عداه لمن يشاء، أي: وإن لم يتب صاحبه، فهذه أرجى من تلك من هذا الوجه، والله أعلم.
وقوله: { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } كقوله { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان:13]، وثبت في الصحيحين، عن ابن مسعود أنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك..." وذكر تمام الحديث.
وقال ابن مردويه: حدثنا إسحق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا أحمد بن عمرو، حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا معن، حدثنا سعيد (4) بن بشير حدثنا قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين؛ أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم قال: "أخبركم بأكبر الكبائر: الشرك بالله" (5) ثم قرأ: { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } وعقوق الوالدين". ثم قرأ: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } (6)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ، وفي هـ: "إلى آخر الآية".
(3) تفسير الطبري (8/450).
(4) في أ: "حدثنا معن بن سعيد".
(5) في د، ر، أ: "الإشراك بالله".
(6) في إسناده سعيد بن بشير تكلم فيه بعض الأئمة فضعفه أحمد وابن معين ووثقه دحيم وغيره.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)

.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) }.
قال الحسن وقتادة: نزلت هذه الآية، وهي قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } في اليهود والنصارى، حين قالوا: { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }
وقال ابن زيد: نزلت في قولهم: { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة:18]، وفي قولهم: { وقالوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إَلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } [البقرة:111].
وقال مجاهد: كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم، ويزعمون أنهم لا ذنب لهم (1) .
وكذا قال عكرمة، وأبو مالك. روى ذلك ابن جرير.
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُم } وذلك أن اليهود قالوا: إن أبناءنا توفوا وهم لنا قربة، وسيشفعون لنا ويزكوننا، فأنزل الله على محمد [صلى الله عليه وسلم] (2) { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا } (3) رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا ابن حمير، عن ابن لهيعة، عن بشر بن أبي عمرو (4) عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم، ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب. وكذبوا. قال (5) الله [تعالى] (6) إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له" وأنزل الله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ }
ثم قال: وروى عن مجاهد، وأبي مالك، والسدي، وعكرمة، والضحاك -نحو ذلك.
وقال الضحاك: قالوا: ليس لنا ذنوب، كما ليس لأبنائنا ذنوب. فأنزل الله ذلك فيهم.
وقيل: نزلت في ذم التمادح والتزكية.
وقد جاء في الحديث الصحيح عند (7) مسلم، عن المقداد بن الأسود قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجوه المداحين التراب (8) .
وفي الحديث الآخر المخرج في الصحيحين من طريق خالد الحذاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يثني على رجل، فقال: "ويحك. قطعت عنق صاحبك". ثم قال: "إن كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل: أحسبه كذا ولا يزكي على الله أحدا" (9) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا معتمر، عن أبيه، عن نعيم بن أبي هند قال: قال عمر بن الخطاب: من قال: أنا مؤمن، فهو كافر. ومن قال: هو عالم، فهو جاهل. ومن قال: هو في الجنة، فهو في النار (10)
__________
(1) في أ: "لا ذنوب لهم".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(4) في أ: "عمرة".
(5) في أ: "فقال".
(6) زياد من أ.
(7) في أ: "عن".
(8) صحيح مسلم برقم (3002)
(9) صحيح البخاري برقم (2662) وصحيح مسلم برقم (3000).
(10) رواه حنبل بن إسحاق عن أحمد به كما في مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه للحافظ ابن كثير (2/ 574).

.
ورواه ابن مردويه، من طريق موسى بن عبيدة، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز، عن عمر أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه، فمن قال: إنه مؤمن، فهو كافر، ومن قال: إنه عالم فهو جاهل، ومن قال: إنه في الجنة، فهو في النار (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة وحجاج، أنبأنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن معبد الجهني قال: كان معاوية قلما يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وكان قلما يكاد أن يدع يوم الجمعة هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإن هذا المال حلو خضر، فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه، وإياكم والتمادح فإنه الذبح" (2) .
وروى ابن ماجه منه: "إياكم والتمادح فإنه الذبح" عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن غندر، عن شعبة به (3) .
ومعبد هذا هو ابن عبد الله بن عويم البصري القدري.
وقال ابن جرير: حدثنا يحيى بن إبراهيم المسعودي، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: قال عبد الله بن مسعود: إن الرجل ليغدو بدينه، ثم يرجع وما معه منه شيء، يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرا فيقول له: والله إنك كيت وكيت (4) فلعله أن يرجع ولم (5) يحل من حاجته بشيء وقد أسخط الله. ثم قرأ { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } الآية.
وسيأتي الكلام على ذلك مطولا عند قوله تعالى: { فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [النجم:32]. ولهذا قال تعالى: { بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } أي: المرجع في ذلك إلى الله، عز وجل (6) لأنه عالم بحقائق الأمور وغوامضها.
ثم قال تعالى: { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا } أي: ولا يترك لأحد من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل.
قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، والحسن، وقتادة، وغير واحد من السلف: هو ما يكون في شق النواة.
وعن ابن عباس أيضا: هو ما فتلت بين أصابعك. وكلا القولين متقارب.
__________
(1) ذكره ابن كثير في مسند عمر بن الخطاب (2/574) وطلحة لم يدرك عمر فهو منقطع
(2) المسند (4/93).
(3) سنن ابن ماجة برقم (3743) وقال البوصيري في الزوائد (3/181): "هذا إسناد حسن، معبد مختلف فيه، وباقي رجال الإسناد ثقات".
(4) في ر، أ: "إنك لذيت وذيت".
(5) في أ: "وما".
(6) في أ: "تعالى".

وقوله: { انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } أي: في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وقولهم: { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } [البقرة:111] وقولهم: { لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } [البقرة:80]واتكالهم (1) على أعمال آبائهم الصالحة، وقد حكم الله أن أعمال
__________
(1) في أ: "تميزهم باتكالهم".

الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئا، في قوله: { تِلْكَ أُمَةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (1) } [البقرة:141].
ثم قال: { وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا } أي: وكفى بصنعهم (2) هذا كذبا وافتراء ظاهرا.
وقوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } أما "الجبت" فقال محمد بن إسحاق، عن حسان بن فائد، عن عمر بن الخطاب أنه قال: "الجبت": السحر، و "الطاغوت": الشيطان.
وهكذا روي عن ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والشعبي، والحسن، والضحاك، والسدي.
وعن ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، [وأبي مالك] (3) وسعيد بن جبير، والشعبي، والحسن، وعطية: "الجبت" الشيطان -زاد ابن عباس: بالحبشية. وعن ابن عباس أيضا: "الجبت": الشرك. وعنه: "الجبت": الأصنام.
وعن الشعبي: "الجبت": الكاهن. وعن ابن عباس: "الجبت": حيي بن أخطب. وعن مجاهد: "الجبت": كعب بن الأشرف.
وقال العلامة أبو نصر بن إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه "الصحاح": "الجبت" كلمة تقع على الصنم والكاهن (4) والساحر ونحو ذلك، وفي الحديث: "الطيرة والعيافة والطرق من الجبت" قال: وهذا ليس من محض العربية، لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة (5) من غير حرف ذولقي. (6)
وهذا الحديث الذي ذكره، رواه الإمام أحمد في مسنده فقال: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا، عوف عن حيان أبي العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة، عن أبيه -وهو قبيصة بن مخارق-أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت" وقال عوف: "العيافة": زجر الطير، و"الطرق": الخط، يخط في الأرض، و"الجبت" قال الحسن: إنه الشيطان.
وهكذا رواه أبو داود في سننه والنسائي وابن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث عوف الأعرابي، به (7)
وقد تقدم الكلام على "الطاغوت" في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إسحاق بن الضيف، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله أنه سئل عن "الطواغيت" فقال: هم كهان تنزل عليهم الشياطين.
وقال مجاهد: "الطاغوت": الشيطان في صورة إنسان، يتحاكمون إليه، وهو صاحب أمرهم.
وقال الإمام مالك: "الطاغوت": هو كل ما يعبد من دون الله، عز وجل.
وقوله: { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا } أي: يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم، وقلة دينهم، وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم.
وقد روى ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمد، فقالوا: ما أنتم وما محمد. فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العناة، ونسقي الحجيج -ومحمد صنبور، قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج بنو (8) غفار، فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلا.فأنزل الله { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ [الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا] (9) } .
وقد روي هذا من غير وجه، عن ابن عباس وجماعة من السلف.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه؟ يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة، وأهل السقاية! قال: أنتم خير. قال فنزلت (10) { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ } [الكوثر:3] ونزل: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ } إلى { نَصِيرًا } .
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وأبو عمار، ووحوح (11) بن عامر، وهوذة بن قيس. فأما وحوح (12) وأبو عمار وهوذة فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير، فلما قدموا على قريش قالوا هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأول (13) فسلوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم، فقالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنزل الله عز وجل: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ [الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا. أُولَئِك الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا] (14) } إلى قوله عز وجل: { وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا } .
وهذا لعن لهم، وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة، لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين، وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم، وقد أجابوهم، وجاؤوا معهم يوم الأحزاب، حتى حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حول المدينة الخندق، فكفى الله شرهم { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا }
__________
(1) زيادة من ر، أ.
(2) في د: "بصنيعهم".
(3) زياد من ر، أ.
(4) في ر: "الكافر".
(5) في أ: "في حرف واحد".
(6) الصحاح (1/245)
(7) المسند (5/60) وسنن أبي داود برقم (3907) وسنن النسائي الكبرى برقم (11108).
(8) في د: "من".
(9) زيادة من ر، أ.
(10) في أ: "فنزلت فيهم".
(11) في أ: "دحرج".
(12) في أ: "دحرج".
(13) في ر، أ: "الأولى".
(14) زيادة من أ.

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)

[الأحزاب:25].
{ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) } .
يقول تعالى: { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ } ؟! وهذا استفهام إنكار، أي: ليس لهم نصيب من الملك (1) ثم وصفهم بالبخل فقال: { فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا } أي: لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحدا من الناس -ولا سيما محمدا صلى الله عليه وسلم-شيئًا، ولا ما يملأ "النقير"، وهو النقطة التي في النواة، في قول ابن عباس والأكثرين.
وهذه الآية كقوله تعالى { قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ } [الإسراء:100]أي: خوف أن يذهب ما بأيديكم، مع أنه لا يتصور نفاده، وإنما هو من بخلكم وشحكم؛ ولهذا قال: { وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا } [الإسراء:100]أي: بخيلا.
ثم قال: { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } يعني بذلك: حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة، ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له؛ لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل.
قال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا يحيى الحماني، حدثنا قيس بن الربيع، عن السدي، عن عطاء، عن ابن عباس قوله: { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه] (2) } الآية، قال ابن عباس: نحن الناس دون الناس، قال الله تعالى: { فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا } أي: فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل -الذين هم من ذرية إبراهيم-النبوة، وأنزلنا عليهم الكتب، وحكموا فيهم بالسنن (3) -وهي الحكمة-وجعلنا فيهم الملوك، ومع هذا { فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ } أي: بهذا الإيتاء وهذا الإنعام { وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ } أي: كفر به وأعرض عنه، وسعى في صد الناس عنه، وهو منهم ومن جنسهم، أي من بني إسرائيل، فقد اختلفوا عليهم، فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل؟.
وقال مجاهد: { فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ } أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم { وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ } فالكفرة منهم أشد تكذيبا لك، وأبعد عما جئتهم به من الهدى، والحق المبين.
ولهذا قال متوعدا لهم: { وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا } أي: وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا (57) } .
__________
(1) في د: "ليس لهم من نصيب"، وفي ر، أ: "ليس لهم نصيب في الملك".
(2) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(3) في ر: "بالسنين".

يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصد عن رسله، فقال: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا [سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا] } (1) الآية، أي ندخلهم نارا دخولا يحيط بجميع أجرامهم، وأجزائهم. ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم، فقال: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } قال [الأعمش، عن ابن عمر] (2) إذا احرقت جلودهم بدلوا جلودًا بيضا أمثال القراطيس. رواه ابن أبي حاتم.
وقال يحيى بن يزيد الحضرمي إنه بلغه في قول الله: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } قال: يجعل (3) للكافر مائة جلد، بين كل جلدين لون من العذاب. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن هشام، عن الحسن قوله: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ [بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا] (4) } الآية. قال: تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة. قال حسين: وزاد فيه فضيل عن هشام عن الحسن: كلما أنضجتهم فأكلت لحومهم قيل لهم: عودوا فعادوا.
وقال أيضا: ذكر عن هشام بن عمار: حدثنا سعيد بن يحيى -يعني سعدان-حدثنا نافع، مولى يوسف السلمي البصري، عن نافع، عن ابن عمر قال: قرأ رجل عند عمر هذه الآية: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا } فقال عمر: أعدها علي فأعادها، فقال معاذ بن جبل: عندي تفسيرها: تبدل في ساعة مائة مرة. فقال عمر: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه ابن مردويه، عن محمد بن أحمد بن إبراهيم، عن عبدان بن محمد المروزي، عن هشام بن عمار، به. ورواه من وجه آخر بلفظ آخر فقال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن عمران، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا نافع أبو هرمز، حدثنا نافع، عن ابن عمر قال: تلا رجل عند عمر هذه الآية: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ [بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ] (5) } الآية، قال: فقال عمر: أعدها على -وثم كعب-فقال: يا أمير المؤمنين، أنا عندي تفسير هذه الآية، قرأتها قبل الإسلام، قال: فقال: هاتها يا كعب، فإن جئت بها كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقناك، وإلا لم ننظر إليها. فقال: إني قرأتها قبل الإسلام: "كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة". فقال عمر: هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) زيادة من ر، أ.
(2) زيادة من ر، أ.
(3) في د: "إنه يجعل".
(4) زيادة من ر.
(5) زيادة من ر، أ.

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)

وقال الربيع بن أنس: مكتوب في الكتاب الأول أن جلد أحدهم أربعون ذراعا، وسنه تسعون ذراعًا، وبطنه لو وضع فيه جبل لوسعه، فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلودا غيرها.
وقد ورد في الحديث ما هو أبلغ من هذا، قال (1) الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا أبو يحيى الطويل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يعظم أهل النار في النار، حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام، وإن غلظ جلده سبعون ذراعا، وإن ضرسه مثل أحد".
تفرد به أحمد من هذا الوجه (2) .
وقيل: المراد بقوله: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } أي: سرابيلهم. حكاه ابن جرير، وهو ضعيف؛ لأنه خلاف الظاهر.
وقوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن، التي تجري فيها (3) الأنهار في جميع فجاجها ومحالها وأرجائها حيث شاؤوا وأين أرادوا، وهم خالدون فيها أبدا، لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولا.
وقوله: { لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } أي: من الحيض والنفاس والأذى. والأخلاق الرذيلة، والصفات الناقصة، كما قال ابن عباس: مطهرة من الأقذار والأذى. وكذا قال عطاء، والحسن، والضحاك، والنخعي، وأبو صالح، وعطية، والسدي.
وقال مجاهد: مطهرة من البول والحيض والنخام والبزاق والمني والولد.
وقال قتادة : مطهرة من الأذى والمآثم ولا حيض ولا كلف.
وقوله: { وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا } أي: ظلا عميقا كثيرا غزيرا طيبا أنيقا.
قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن -وحدثنا ابن المثنى، حدثنا (4) ابن (5) جعفر -قالا حدثنا شعبة قال: سمعت أبا الضحاك يحدث، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، شجرة الخلد" (6) .
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) }
يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وفي حديث الحسن، عن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". رواه الإمام أحمد وأهل السنن (7) وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان، من حقوق الله، عز وجل، على عباده، من الصلوات والزكوات، والكفارات والنذور والصيام، وغير ذلك، مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به (8) بعضهم على بعض من غير اطلاع بينة (9) على ذلك. فأمر الله، عز وجل، بأدائها، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة، كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها، حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء" (10) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود قال: إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة، يؤتى بالرجل يوم القيامة -وإن كان قد قتل في سبيل الله-فيقال: أد أمانتك. فيقول وأنى أؤديها وقد ذهبت الدنيا؟ فتمثل له الأمانة في قعر جهنم، فيهوي إليها فيحملها على عاتقه. قال: فتنزل عن عاتقه، فيهوي على أثرها أبد الآبدين. قال زاذان: فأتيت البراء فحدثته فقال: صدق أخي: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } .
وقال: سفيان الثوري، عن ابن أبي ليلى عن رجل، عن ابن عباس قوله: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } قال: هي (11) مبهمة للبر والفاجر. وقال محمد بن الحنفية: هي مسجلة للبر والفاجر. وقال أبو العالية: الأمانة ما أمروا به ونهوا عنه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد، حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: قال أبي بن كعب: من الأمانة أن المرأة ائتمنت على فرجها.
وقال الربيع بن أنس: هي من الأمانات فيما بينك وبين الناس.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } قال:
__________
(1) في د، ر: "فقال".
(2) المسند (2/26).
(3) في د، ر: "تخترقها".
(4) في د: "حدثنا محمد".
(5) في ر: "أبو".
(6) تفسير الطبري (8/489).
(7) لم أجد من رواه من حديث سمرة رضى الله عنه: أ-
وإنما رواه الإمام أحمد في مسنده (3/414) عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ب- ورواه الترمذي في سننه برقم (1264) وأبو داود في سننه برقم (3535) من طريق طلق بن غنام عن شريك وقيس عن أبي حصين عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وقال أبو حاتم: "حديث منكر لم يرو هذا الحديث غير طلق" العلل (1/375).
جـ- ورواه الحاكم في المستدرك (2/64) والطبراني في المعجم الصغير (1/171) من طريق أيوب بن سويد عن ابن شوذب عن أبي التياح، عن أنس رضي الله عنه، وأيوب بن سويد ضعيف.،
د- ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/150) من طريق يحيى بن عثمان، عم عمرو بن الربيع، عن يحيى بن أيوب عن إسحاق ابن أسيد عن أبي حفص عن مكحول عن أبي أمامة رضي الله عنه.
قال الهيثمي في المجمع (8/128): "فيه يحي بن عثمان بن صالح المصري. قال ابن أبي حاتم: تكلموا فيه".
هـ - ورواه الطبري في تفسيره (8/493) من طريق قتادة عن الحسن مرسلا.
(8) في أ: "فيه"
(9) في ر: "نبيه".
(10) مسلم في صحيحه برقم "2582".
(11) في أ: "فهي".

قال: يدخل فيه وعظ السلطان النساء. يعني يوم العيد. وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، واسم أبي طلحة، عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب القرشي العبدري، حاجب الكعبة المعظمة، وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم، أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية وفتح مكة، هو وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وأما عمه عثمان بن أبي طلحة، فكان معه لواء المشركين يوم أحد، وقتل يومئذ كافرا. وإنما نبهنا على هذا النسب؛ لأن كثيرا من المفسرين قد يشتبه عليهم هذا بهذا، وسبب نزولها فيه لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح، ثم رده عليه.
وقال محمد بن إسحاق في غزوة الفتح: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعا على راحلته، يستلم الركن بمحجن في يده، فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له، فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف (1) له الناس في المسجد.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة فقال "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى، فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانه البيت وسقاية الحاج". وذكر بقية الحديث في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ، إلى أن قال: ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين عثمان بن طلحة؟" فدعي له، فقال له: "هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم وفاء وبر" (2) .
قال ابن جرير: حدثني القاسم حدثنا الحسين، عن حجاج، عن ابن جريج [قوله: { إِنّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } ] (3) قال: نزلت في عثمان بن طلحة قبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة، فدخل به البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه (4) فدعا عثمان إليه، فدفع إليه (5) المفتاح، قال: وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة، وهو يتلو هذه الآية: فداه أبي وأمي، ما سمعته يتلوها قبل ذلك.
حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا الزنجي بن خالد، عن الزهري قال: دفعه إليه وقال: أعينوه (6) .
وروى ابن مردويه، من طريق الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة
__________
(1) في د: "استكن"، وفي ر، أ: "استلف".
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/413).
(3) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "في الآية".
(4) في أ: "هذه الآية".
(5) في ر: "فناوله".
(6) في ر: "غيبوه".

ابن أبي طلحة، فلما أتاه قال: "أرني المفتاح". فأتاه به، فلما بسط يده إليه قام العباس فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، اجمعه لي مع السقاية. فكف عثمان يده (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرني المفتاح يا عثمان". فبسط يده يعطيه، فقال العباس مثل كلمته الأولى، فكف عثمان يده. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عثمان، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح". فقال: هاك بأمانة الله. قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح باب الكعبة، فوجد في الكعبة تمثال إبراهيم معه قداح يستقسم بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما للمشركين قاتلهم الله. وما شأن إبراهيم وشأن القداح". ثم دعا بحفنة فيها ماء فأخذ ماء فغمسه فيه، ثم غمس به تلك التماثيل، وأخرج مقام إبراهيم، وكان في الكعبة فألزقه في (2) حائط الكعبة ثم قال: "يا أيها الناس، هذه القبلة". قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت شوطا أو شوطين ثم نزل عليه جبريل، فيما ذكر لنا برد المفتاح، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } حتى فرغ من الآية (3) .
وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك، وسواء كانت نزلت في ذلك أو لا (4) فحكمها عام؛ ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية: هي للبر والفاجر، أي: هي أمر لكل أحد.
وقوله: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس؛ ولهذا قال محمد بن كعب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب: إنما نزلت في الأمراء، يعني الحكام بين الناس.
وفي الحديث: "إن الله مع الحاكم ما لم يَجُرْ، فإذا جار وكله إلى نفسه" (5) وفي الأثر: عدل يوم كعبادة أربعين سنة.
وقوله: { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } أي: يأمركم به من أداء الأمانات، والحكم بالعدل بين الناس، وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة.
وقوله: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } أي: سميعا لأقوالكم، بصيرا بأفعالكم، كما قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثني عبد الله بن لهيعة، عن يزيد (6) بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرئ (7) هذه الآية { سَمِيعًا بَصِيرًا } يقول: بكل شيء بصير (8) .
وقد قال ابن أبي حاتم: أخبرنا يحيى بن عبدك القزويني، أنبأنا المقرئ -يعني أبا عبد الرحمن-
__________
(1) في أ: "اجمعه لي بين السقاية فكف عثمان بيده".
(2) في أ: "إلى".
(3) ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/570) وإسناده تالف.
(4) في ر: "أم لا".
(5) رواه الترمذي في سننه برقم (1330) من حديث عبد الله بن أبي أوفي، وقال: "حديث حسن غريب".
(6) في أ: "زيد".
(7) في أ: "يقترئ".
(8) ذكره السيوطي في الدر (2/573).

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)

عبد الله بن يزيد، حدثنا حرملة -يعني ابن عمران التجيبي المصري-حدثنا أبو (1) يونس، سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } إلى قوله: { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } ويضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه ويقول: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها (2) ويضع أصبعيه. قال أبو زكريا: وصفه لنا المقري، ووضع أبو زكريا إبهامه اليمنى على عينه اليمنى، والتي تليها على الأذن اليمنى، وأرانا فقال: هكذا وهكذا (3) .
رواه أبو داود، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وابن مردويه في تفسيره، من حديث أبي عبد الرحمن المقري بإسناده -نحوه (4) وأبو يونس هذا مولى أبي هريرة، واسمه سُلَيْم بن جُبَير.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (59) }
قال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، حدثنا حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي؛ إذ بعثه رسول النبي صلى الله عليه وسلم في سرية.
وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من حديث حجاج بن محمد الأعور، به. وقال الترمذي: حديث حسن غريب، ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج (5) .
وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن سعيد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، فلما خرجوا وَجَد عليهم في شيء. قال: فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: اجمعوا (6) لي حطبا. ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها. [قال: فهم القوم أن يدخلوها] (7) قال: فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها. قال: فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال لهم: "لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا؛ إنما الطاعة في المعروف". أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش، به (8) .
وقال أبو داود: حدثنا مُسَدَّد، حدثنا يحيى، عن عبيد الله، حدثنا نافع، عن عبد الله بن عمر،
__________
(1) في أ: "ابن".
(2) في أ: "يقرأ بها".
(3) في أ: "هكذا وهذا".
(4) سنن أبي داود برقم (4728)، وصحيح ابن حبان برقم (1732)، "موارد" والمستدرك (1/24)، ورواه من طريق الحاكم البيهقي في الأسماء والصفات (ص179).
(5) صحيح البخاري برقم (8584)، وصحيح مسلم برقم (1834)، وسنن أبي داود برقم (2624)، وسنن الترمذي برقم (1672)، وسنن النسائي (7/ 154).
(6) في أ: "قال: فقال اجمعوا".
(7) زيادة من أ، والمسند.
(8) المسند (1/82) وصحيح البخاري برقم (4340)، وصحيح مسلم برقم (1840).

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
وأخرجاه من حديث يحيى القطان (1) .
وعن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في مَنْشَطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثَرَةٍ علينا، وألا ننازع الأمر أهله. قال: "إلا أن تروا كفرا بَوَاحا، عندكم فيه من الله برهان" أخرجاه (2) .
وفي الحديث الآخر، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة". رواه البخاري (3) .
وعن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدا حبشيًا مُجَدَّع الأطراف. رواه مسلم (4) .
وعن أم الحصين أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول: "ولو استعمل عليكم عبد (5) يقودكم بكتاب الله، اسمعوا له وأطيعوا" رواه مسلم (6) وفي لفظ له: "عبدا حبشيًا مجدوعا".
وقال ابن جرير: حدثني علي بن مسلم الطوسي، حدثنا ابن أبي فديك، حدثني عبد الله بن محمد بن عروة (7) عن هشام بن عروة، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره، ويليكم الفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم" (8) .
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون". قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: "أوفوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم" أخرجاه (9) .
وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى من أميره شيئًا فكرهه فليصبر؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية". أخرجاه (10) .
__________
(1) سنن أبي داود برقم (2626)، وصحيح البخاري برقم (7144)، وصحيح مسلم برقم (1839).
(2) صحيح البخاري برقم (7199)، وصحيح مسلم برقم (1709).
(3) صحيح البخاري برقم (693).
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (1837) من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، وليس من حديث أبي هريرة.
(5) في أ: "عبد حبشي".
(6) صحيح مسلم برقم (1838).
(7) في أ: "عرفة".
(8) تفسير الطبري (8/498).
(9) صحيح البخاري برقم (3455)، وصحيح مسلم برقم (1842).
(10) صحيح البخاري برقم (7143)، وصحيح مسلم برقم (1849).

وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية". رواه مسلم (1) .
وروى مسلم أيضا، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، والناس حوله مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يَنْتَضل، ومنا من هو في جَشَره (2) إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة. فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن يَدُل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها (3) في أولها، وسيصيب (4) آخرها بلاء وأمور تُنْكرونها، وتجيء فتن يَرفُق بعضُها بعضا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماما فأعطاه صَفْقَة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عُنُق الآخر". قال: فدنوت منه فقلت: أنشدك بالله آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي، فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، ونقتل أنفسنا، والله تعالى يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [النساء:29]قال: فسكت ساعة ثم قال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله (5) .
والأحاديث في هذا كثيرة.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن المفضل (6) حدثنا أسباط، عن السدي: { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها خالد بن الوليد، وفيها عمار بن ياسر، فساروا قبل القوم الذين يريدون، فلما بلغوا قريبا (7) منهم عَرَّسوا، وأتاهم ذو العُيَيْنَتَين فأخبرهم، فأصبحوا قد هربوا غير رجل. فأمر (8) أهله فجمعوا (9) متاعهم، ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل، حتى أتى عسكر خالد، فسأل عن عمار بن ياسر، فأتاه فقال: يا أبا اليقظان، إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا، وإني بقيت، فهل إسلامي نافعي غدا، وإلا هربت؟ قال عمار: بل هو ينفعك، فأقم. فأقام، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدًا غير الرجل، فأخذه وأخذ ماله. فبلغ عمارا الخبر، فأتى خالدا فقال: خل عن الرجل، فإنه قد أسلم، وإنه في أمان مني. فقال خالد: وفيم أنت
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1851).
(2) في أ: "شجرة".
(3) في ر: "عاقبتها".
(4) في أ: "وبقيت".
(5) صحيح مسلم برقم (1844).
(6) في ر، أ: "ابن الفضل".
(7) في أ: "قبلا".
(8) في أ: "أمر".
(9) في ر: "فخرقوا"، وفي أ: "فحزموا".

تجير؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير. فاستبا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال خالد: يا رسول الله، أتترك هذا العبد الأجدع يَسُبُّني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا خالد، لا تسب عمارًا، فإنه من يسب عمارا يسبه الله، ومن يبغضه يبغضه الله ومن يلعن عمارا يلعنه الله" (1) فغضب عمار فقام، فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه، فرضي عنه، فأنزل الله عز وجل قوله: { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ }
وهكذا رواه ابن أبي حاتم، من طريق عن السدي، مرسلا. ورواه ابن مردويه من رواية الحكم (2) بن ظهير، عن السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، فذكره بنحوه (3) والله أعلم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } يعني: أهل الفقه والدين. وكذا قال مجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وأبو العالية: { وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } يعني: العلماء. والظاهر -والله أعلم-أن الآية في جميع (4) أولي الأمر من الأمراء والعلماء، كما تقدم. وقد قال تعالى: { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ } [المائدة:63] وقال تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [النحل:43] وفي الحديث الصحيح المتفق عليه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصا الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصا أميري فقد عصاني" (5) .
فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء، ولهذا قال تعالى: { أَطِيعُوا اللَّهَ } أي: اتبعوا كتابه { وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } أي: خذوا بسنته { وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } أي: فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله، كما تقدم في الحديث الصحيح: "إنما الطاعة في المعروف". وقال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرحمن، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أبي مرابة، عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طاعة في معصية الله" (6) .
وقوله: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله.
وهذا أمر من الله، عز وجل، بأن كل شيء تنازع الناس (7) فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [الشورى:10] فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي: ردوا الخصومات والجهالات
__________
(1) في أ: "من أبغض عمارا أبغضه الله، ومن لعن عمارا لعنه الله".
(2) في ر: "الحاكم".
(3) تفسير الطبري (8/498)
(4) في ر، أ: "كل".
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (7137)، ومسلم في صحيحه برقم (1835).
(6) المسند (4/426).
(7) في د: "المسلمون".

إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }
فدل على أن من لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر.
وقوله: { ذَلِكَ خَيْرٌ } أي: التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله. والرجوع في فصل النزاع إليهما خير { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } أي: وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي وغير واحد. وقال مجاهد: وأحسن جزاء. وهو قريب.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا (63) } .
هذا إنكار من الله، عز وجل، على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد التحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية: أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد. وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف. وقيل: في جماعة من المنافقين، ممن أظهروا الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. وقيل غير ذلك، والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هاهنا؛ ولهذا قال: { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا] (1) } .
وقوله: { يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } أي: يعرضون عنك إعراضا كالمستكبرين عن ذلك، كما قال تعالى عن المشركين: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } [لقمان:21]هؤلاء وهؤلاء بخلاف المؤمنين، الذين قال الله فيهم: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا [وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] (2) } [النور: 51].
{ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) }
ثم قال تعالى في ذم المنافقين: { فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي: فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم واحتاجوا إليك في ذلك،
__________
(1) زيادة من أ، وفي هـ: "إلى آخرها".
(2) زيادة من أ، وفي هـ: "الآية".

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)

{ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } أي: يعتذرون إليك ويحلفون: ما أردنا بذهابنا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى عداك إلا الإحسان والتوفيق، أي: المداراة والمصانعة، لا اعتقادا منا صحة تلك الحكومة، كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله: { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى [أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ] (1) فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } [المائدة:52].
وقد قال الطبراني: حدثنا أبو زيد أحمد بن يزيد الحَوْطِيّ، حدثنا أبو اليمان، حدثنا صفوان بن عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس. قال: كان أبو بَرْزَة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله عز وجل: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ [يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ] (2) } إلى قوله: { إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا }
ثم قال تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } [أي] (3) هذا الضرب من الناس هم المنافقون، والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك، فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتف به يا محمد فيهم، فإن الله عالم بظواهرهم وبواطنهم؛ ولهذا قال له: { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي: لا تعنفهم على ما في قلوبهم { وَعِظْهُمْ } أي: وانههم (4) على ما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر { وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا } أي: وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع (5) لهم.
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَا (65) }
يقول تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ } أي: فرضت طاعته على من أرسله (6) إليهم وقوله: { بِإِذْنِ اللَّهِ } قال مجاهد: أي لا يطيع أحد إلا بإذني. يعني: لا يطيعهم إلا من وفقته لذلك، كقوله: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } [آل عمران:52] أي: عن أمره وقدره ومشيئته، وتسليطه إياكم عليهم.
وقوله: { وَلَوْ أَنْهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم، ولهذا قال: { لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا }
وقد ذكر جماعة منهم: الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتابه "الشامل" الحكاية المشهورة عن
__________
(1) زيادة من أ، وفي هـ: "إلى قوله".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من د، أ.
(4) في ر: "انههم".
(5) في ر: "وادع".
(6) في ر: "أرسلته".

العُتْبي، قال: كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول:
يا خيرَ من دُفنَت بالقاع (1) أعظُمُه ... فطاب منْ طيبهنّ القاعُ والأكَمُ ...
نَفْسي الفداءُ لقبرٍ أنت ساكنُه ... فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرمُ ...
ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: يا عُتْبى، الحقْ الأعرابيّ فبشره أن الله قد غفر له (2) .
__________
(1) في أ: "في القاع".
(2) ذكر هذه الحكاية النووي في المجموع (8/217) وفي الإيضاح (ص498)، وزاد البيتين التاليين: أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته ... على الصراط إذا ما زلت القدم
وصاحباك فلا أنساهما أبدا ... مني السلام عليكم ما جرى القلم
وساقها بقوله: "ومن أحسن ما يقول: ما حكاه أصحابنا عن العتبي مستحسنين له ثم ذكرها بتمامها"، وابن كثير هنا لم يروها ولم يستحسنها بل نقلها كما نقل بعض الإسرائيليات في تفسيره، وهي حكاية باطلة، وقصة واهية، استدل بها بعض الناس بجواز التوسل بالرسول صلى الله عليه سلم بعد وفاته، والرد عليها بأربعة أمور ذكرها الشيخ الفاضل صالح آل الشيخ في كتابه: "هذه مفاهيمنا" (ص76).
أولا: ما دام أنها ليست من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا فعل خلفائه الراشدين، وصحابته المكرمين، ولا من فعل التابعين، والقرون المفضلة، وإنما هي مجرد حكاية عن مجهول نقلت بسند ضعيف، فكيف يحتج بها في عقيدة التوحيد، الذي هو أصل الأصول، وكيف يحتج بها وهي تعارض الأحاديث الصحيحة التي نهي فيها عن الغلو في القبور، والغلو في الصالحين عموما، وعن الغلو في قبره، والغلو فيه صلى الله عليه وسلم خصوصا، وأما من نقلها من العلماء أو استحسنها فليس ذلك بحجة تعارض بها النصوص الصحيحة وتخالف من أجلها عقيدة السلف، فقد يخفى على بعض العلماء ما هو واضح لغيرهم، وقد يخطئون في نقلهم ورأيهم، وتكون الحجة مع من خالفهم.
وما دمنا قد علمنا طريق الصواب، فلا شأن لنا بما قاله فلان أو حكاه فلان، فليس ديننا مبنيا على الحكايات والمنامات، وإنما هو مبني على البراهين الصحيحة.
ثانيا: قد تخفى بعض المسائل والمعاني على من خلع الأنداد، وتبرأ من الشرك وأهله، كما قال بعض الصحابة: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده ما قاله أصحاب موسى: (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة)" حديث صحيح.
والحجة في هذا: أن هؤلاء الصحابة، وإن كانوا حديثي عهد بكفر، فهم دخلوا في الدين بلا إله إلا الله، وهي تخلع الأنداد، وأصناف الشرك، وتوحد المعبود، فمع ذلك ومع معرفة قائليها الحقة بمعنى لا إله إلا الله، خفي عليهم بعض المسائل من أفرادها، وإنما الشأن أنه إذا وضح الدليل، وأبينت الحجة، فيجب الرجوع إليها والتزامها، والجاهل قد يعذر، كما عذر أولئك الصحابة في قولهم: "اجعل لنا ذات أنواط"، وغيرهم من العلماء أولى باحتمال أن يخفى عليهم بعض المسائل ولو في التوحيد والشرك.
ثالثا: كيف يتجاسر أحد أن يعارض نصوص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بقول حكاه حاك مستحسنا له، والله سبحانه يقول: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) [النور: 63].
قال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة) أتدري ما الفتنة؟.
الفتنة: الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. رواه عن أحمد الفضل بن زياد وأبو طالب، ولعله في كتاب "طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم" لأحمد رحمه الله.
فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة على طاعة كل أحد، وإن كان خير هذه الأمة أبا بكر وعمر، كما قال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
فكيف لو رأى ابن عباس هؤلاء الناس الذين يعارضون السنة الثابتة، والحجة الواضحة بقول أعرابي في قصة العتبى الضعيفة المنكرة.
إن السنة في قلوب محبيها أعظم وأغلى من تلك الحجج المتهافتة، التي يدلي بها صاحب المفاهيم البدعية، تلك المفاهيم المبنية على المنامات والمنكرات، فاعجب لهذا، وجرد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذار ثم حذار من أن ترد الأحاديث الصحيحة وتؤمن بالأخبار الباطلة الواهية، فيوشك بمن فعل ذلك أن يقع في قلبه فتنة فيهلك.
رابعا: ما من عالم إلا ويرد عليه في مسائل اختارها إما عن رأي، أو عن ضعف حجة، وهم معذورون قبل إيضاح المحجة بدلائلها، ولو تتبع الناس شذوذات المجتهدين ورخصهم، لخرجوا عن دين الإسلام إلى دين آخر، كما قيل: من تتبع الرخص تزندق، ولو أراد مبتغ الفساد والعدول عن الصراط أن يتخذ له من رخصهم سلما يرتقي به إلى شهواته لكان الواجب على الحاكم قمعه وصده، وتعزيره، كما هو مشهور في فقه الأئمة الأربعة، وغيرهم.
وما ذكر ففيه أن من أحال لتبرير جرمه على قول عالم، عُلم خطؤه فيه أنه يقبل منه ولا يؤخذ بالعتاب.
اللهم احفظ علينا ديننا، وتوحيدنا.

وقوله: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة: أنه لا يؤمن أحد حتى يُحَكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا؛ ولهذا قال: { ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، كما ورد في الحديث: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به".
وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا محمد بن جعفر، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوَة قال: خاصم الزبير رجلا (1) في شُرَيج (2) من الحَرَّة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زُبير ثم أرْسل الماء إلى جارك" فقال الأنصاري: يا رسول الله، أنْ كان ابن عمتك ؟ (3) فَتَلَوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدْر، ثم أرسل الماء إلى جارك" واستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حَقّه في صريح الحكم، حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة. قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } الآية.
وهكذا رواه البخاري هاهنا أعني في كتاب: "التفسير" من صحيحه من حديث معمر: وفي كتاب: "الشرب" من حديث ابن جُرَيْج ومعمر أيضا، وفي كتاب: "الصلح" من حديث شعيب بن أبي حمزة، ثلاثتهم عن الزهري عن عروة، فذكره (4) وصورته صورة الإرسال، وهو متصل في المعنى.
وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال فقال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير: أن الزبير كان يحدث: أنه كان يخاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة، كانا يسقيان بها كلاهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق ثم أرسل إلى جارك" فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله، أن كان ابن عمتك ؟ (5) فتلوّن وجه رسول
__________
(1) في أ: "رجلا من الأنصار".
(2) في ر: "شريح".
(3) في أ: "عمك".
(4) صحيح البخاري برقم (4585)، (2361)، (2362)، (2708).
(5) في أ: "عمك".

الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر" فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ (1) الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم، قال عروة: فقال الزبير : والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
هكذا رواه الإمام أحمد (2) وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير؛ فإنه لم يسمع منه، والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله، فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رواه كذلك في تفسيره فقال:
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، حدثنا الليث ويونس، عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام: أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج في الحَرة، كانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري: سَرِّح الماء يَمُر. فأبى عليه الزبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك" فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عَمَّتك؟ فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر" واستوعى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للزبير حَقّه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصاري، فلما أحفظ (3) الأنصاري رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية إلا في ذلك: { فَلا وَرَبِّكَ لا يَؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب، به (4) ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث، به (5) وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير، وكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير، والله أعلم. والعجب كل العجب من الحاكم أبي عبد الله النيسابوري، فإنه روى هذا الحديث من طريق ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، عن عروة، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير فذكره، ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. فإني لا أعلم أحدا قام بهذا الإسناد عن الزهري يذكر عبد الله بن الزبير، غير ابن أخيه، وهو عنه ضعيف. (6)
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه: حدثنا محمد بن علي أبو دُحَيم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا الفضل بن دُكَين، حدثنا ابن عُيَيْنة، عن عمرو بن دينار، عن سلمة -رجل من آل أبي سلمة-قال:
__________
(1) في ر: "أخفظ".
(2) المسند (1/165).
(3) في ر: "أخفظ".
(4) سنن النسائي (8/238).
(5) المسند (4/4)، وصحيح البخاري برقم (2359)، وصحيح مسلم برقم (2357)، وسنن أبي داود برقم (3637)، وسنن الترمذي برقم (1363)، وسنن النسائي (8/245)، وسنن ابن ماجة برقم (15).
(6) المستدرك (3/364).

خاصم الزبير رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للزبير، فقال الرجل: إنما قضى له لأنه ابن عمته. فنزلت: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ } الآية (1) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو حيوة، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن الزُّهري، عن سعيد بن المسيب في قوله: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [حَتَّى يُحَكِّمُوكَ] (2) } [الآية] (3) قال: نزلت في الزبير بن العوام، وحاطب بن أبي بلتعة. اختصما في ماء، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل. هذا مرسل ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري (4) .
ذكر سبب آخر غريب جدا:
قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عبد الله بن لَهِيعة، عن أبي الأسود قال : اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انطلقا (5) إليه" فلما أتيا إليه قال الرجل: يا ابن الخطاب، قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا، فقال: ردنا إلى عمر. فردنا إليك. فقال: أكذاك؟ فقال: نعم فقال عمر: مَكَانَكُمَا حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما. فخرج إليهما مشتملا على سيفه، فضرب الذي قال رُدَّنا إلى عمر فقتله، وأدبر الآخر فارا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قتل عُمَر والله صاحبي، ولولا أني أعجزتُه لقتلني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كنت أظن أن يجترئ عُمَر على قتل مؤمن" فأنزل الله: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ } (6) الآية، فهدر دم ذلك الرجل، وبرئ عمر من قتله، فكره الله أن يسن ذلك بعد، فقال: { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } [النساء: 66].
وكذا رواه ابن مَرْدُويه من طريق ابن لَهِيعة، عن أبي الأسود به.
وهو أثر غريب، وهو مرسل، وابن لهيعة ضعيف (7) والله أعلم .
طريق أخرى: قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دُحَيْم في تفسيره: حدثنا شُعَيب بن شعيب حدثنا أبو المغيرة، حدثنا عتبة بن ضَمْرَة، حدثني أبي: أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل، فقال المقضيّ عليه: لا أرضى. فقال صاحبه: فما تريد؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق، فذهبا إليه، فقال الذي قُضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي (8) فقال أبو بكر: فأنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى صاحبه أن يرضى، قال: نأتي
__________
(1) ورواه الحميدي في مسنده برقم (300)، وسعيد بن منصور في سننه برقم (660) من طريق سفيان بن عيينة به مرسلا.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ر، أ.
(4) ذكره السيوطي في الدر (2/584).
(5) في ر، أ: "نعم انطلقا".
(6) في ر، أ جاءت الآية تامة.
(7) ذكره السيوطي في الدر (2/585).
(8) في أ: "عليه".

عمر بن الخطاب، فأتياه، فقال المقضى له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى لي عليه، فأبى أن يرضى، [ثم أتينا أبا بكر، فقال: أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يرضى] (1) فسأله عمر، فقال: كذلك، فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قدْ سَلَّه، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى، فقتله، فأنزل الله: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [إلى آخر] (2) الآية (3) .
__________
(1) زيادة من أ، ر.
(2) زيادة من أ، ر.
(3) وذكره المؤلف ابن كثير في مسند عمر بن الخطاب.

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)

{ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) }
يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه ؛ لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر، وهذا من علمه -تبارك وتعالى-بما لم يكن أو كان فكيف كان يكون؛ ولهذا قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ }
قال ابن جرير : حدثني المثنى، حدثني إسحاق، حدثنا أبو زهير (1) عن إسماعيل، عن أبي إسحاق السبيعي، قال: لما نزلت: { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهْ إلا قَلِيلٌ [مِنْهُمْ] (2) } الآية، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي" (3) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن منير، حدثنا روح، حدثنا هشام، عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية: { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } الآية. قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لو فعل ربنا لفعلنا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لَلإيمان (4) أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي".
وقال السدي: افتخر ثابت بن قيس بن شَمَّاس ورجل من اليهود، فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا. فقال ثابت: والله لو كتب علينا: { أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } لقتلنا. فأنزل الله هذه الآية. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمود بن غَيْلان، حدثنا بشر بن السَّرِي، حدثنا مصعب
__________
(1) في ر: "أبو الأزهر".
(2) زيادة من أ.
(3) تفسير الطبري (8/526).
(4) في أ: "الإيمان".

بن ثابت، عن عمه عامر بن عبد الله بن الزبير، قال: لما نزلت [ { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } قال أبو بكر: يا رسول الله، والله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت، قال: "صدقت يا أبا بكر".
حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أبي عمر العَدَنيّ قال: سئل سفيان عن قوله] (1) { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ } قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم".
وحدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن شُرَيْح بن عُبَيْد قال: لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ] (2) } الآية، أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى عبد الله بن رَواحة، فقال: "لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل" يعني: ابن رواحة.
ولهذا قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ } أي: ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به، وتركوا ما ينهون عنه { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } أي: من مخالفة الأمر وارتكاب النهي { وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } قال السدي: أي: وأشد تصديقا.
{ وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا } أي: من عندنا، { أَجْرًا عَظِيمًا } يعني: الجنة. { وَلَهَدَيناهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } أي في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } أي: من عمل بما أمره الله ورسوله، وترك ما نهاه الله عنه ورسوله، فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقًا للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة، وهم الصديقون، ثم الشهداء، ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم.
ثم أثنى عليهم تعالى فقال: { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا }
وقال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله بن حَوْشَب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من نبي يَمْرَضُ إلا خُيِّر بين الدنيا والآخرة" وكان في شكواه التي قبض فيه، فأخذته بُحَّة شديدة فسمعته يقول: { مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } فعلمت أنه خُيِّر.
وكذا رواه مسلم من حديث شعبة، عن سعد (3) بن إبراهيم به (4) .
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "اللهم في الرفيق الأعلى" ثلاثا ثم قضى، عليه أفضل الصلاة والتسليم (5) .
ذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة:
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القُمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبير قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محزون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا فلان، ما لي
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "سعيد".
(4) صحيح البخاري برقم (4435) وصحيح مسلم برقم (2444).
(5) رواه البخاري برقم (4436) من حديث عائشة رضي الله عنها.

أراك محزونًا؟" قال: يا نبي الله (1) شيء فكرت فيه؟ قال: "ما هو؟" قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك. فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه شيئا، فأتاه جبريل بهذه الآية: { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَم اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا] (2) } فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره.
قد روي هذا الأثر مرسلا عن مسروق، وعكرمة، وعامر الشَّعْبي، وقتادة، وعن الربيع بن أنس، وهو من أحسنها (3) سندًا. (4)
قال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ [فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَم اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ] (5) } الآية، قال: إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم له فضل على من آمن به في درجات الجنة ممن اتبعه وصدقه، وكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا؟ فأنزل الله في ذلك -يعني هذه الآية-فقال: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الأعْلَيْنَ ينحدرون إلى من هو أسفل منهم، فيجتمعون في رياضها، فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه، وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهُون وما يدعون به، فهم في روضة يحبرون ويتنعمون (6) فيه" (7) .
وقد روي مرفوعا من وجه آخر، فقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد، حدثنا عبد الله بن عمران، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إنك لأحب إلي من نفسي وأحب إلي من أهلي، وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت ألا أراك. فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت عليه: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا }
وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه: "صفة الجنة"، من طريق الطبراني، عن أحمد بن عمرو بن مسلم الخلال، عن عبد الله بن عمران العابدي، به. ثم قال: لا أرى بإسناده بأسا (8) والله أعلم.
__________
(1) في ر: "يا رسول الله".
(2) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(3) في ر: "شيئا"، وفي أ: "سياق".
(4) تفسير الطبري (8/534، 535).
(5) زيادة من أ.
(6) في د: "يتمتعون".
(7) تفسير الطبري (8/535) وهذا مرسل، وانظر المقدمة في النسخ التفسيرية، ففيها الكلام على نسخة أبي جعفر الرازي.
(8) ورواه الطبراني في الأوسط برقم (3308) "مجمع البحرين" ومن طريق أبو نعيم في الحلية (8/125) من طريق أحمد بن عمرو الخلال عن عبد الله بن عمران عن فضيل عن منصور به.
وقال الطبراني: "غريب من حديث فضيل ومنصور تفرد به العابدي".
قال الهيثمي في المجمع (7/7): "رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران وهو ثقة".

وقال ابن مردويه أيضًا: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، حدثنا أبو بكر بن ثابت بن عباس المصري (1) حدثنا خالد بن عبد الله، عن عطاء بن السائب، عن عامر الشعبي، عن ابن عباس، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني لأحبك حتى إني لأذكرك في المنزل فيشق ذلك علي (2) وأحب أن أكون معك في الدرجة. فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فأنزل الله عز وجل [ { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَم اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وِالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } (3) ] (4) .
وقد رواه ابن جرير، عن ابن حُمَيْد، عن جرير، عن عطاء، عن الشعبي، مرسلا . وثبت في صحيح مسلم من حديث هقل بن زياد، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال: كنت أبيت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: "سَلْ". فقلت: يا رسول الله، أسألك مرافقتك في الجنة. فقال: "أو غَيْرَ ذلك؟" قلت: هو ذاك. قال: "فَأَعِنِّي على نفسك بكثرة السجود" (5) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، أخبرنا ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن عيسى بن طلحة، عن عمرو بن مُرَّةَ الجُهَنِيّ قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الخمس وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا -ونصب أصبعيه-ما لم يعق والديه" تفرد به أحمد (6) .
قال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو سعيد مولى أبي هاشم، حدثنا ابن لهيعة، عن زَبَّان (7) بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، إن شاء الله" (8) .
وروى الترمذي من طريق سفيان الثوري، عن أبي حمزة، عن الحسن البصري، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء".
ثم قال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وأبو حمزة اسمه عبد الله بن جابر شيخ بصري (9) .
وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحاح والمسانيد وغيرهما، من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال: "المرء مع من
__________
(1) في د، ر: "ابن عياش البصري".
(2) في د: "علي ذلك".
(3) زيادة من ر، وفي هـ: "هذه الآية"
(4) سليمان بن أحمد هو الطبراني، ورواه في المعجم الكبير (12/86)، قال الهيثمي في المجمع (7/7): "فيه عطاء بن السائب وقد اختلط".
(5) صحيح مسلم برقم (489).
(6) ليس في المسند.
(7) في و: "زياد".
(8) المسند (4/437) وفيه: "حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة فذكره". وقال الهيثمي (2/269): "فيه ابن لهيعة عن زبان وفيه كلام".
(9) سنن الترمذي برقم (1209).

أحب" قال أنس: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث (1) .
وفي رواية (2) عن أنس أنه قال: إني أحب (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أبا بكر وعمر، رضي الله عنهما (4) وأرجو أن الله يبعثني الله معهم وإن لم أعمل كعملهم (5) .
وقال الإمام مالك بن أنس، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون (6) الكوكب الدري الغابر من (7) الأفق من المشرق أو المغرب لِتَفَاضُلِ ما بينهم". قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك (8) ولفظه لمسلم.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا فزارة، أخبرني فُلَيْح، عن هلال -يعني ابن علي-عن عطاء، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة كما تراءون -أو تَرون-الكوكب الدري الغارب في الأفق والطالع في تفاضل الدرجات". قالوا: يا رسول الله، أولئك النبيون؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده، وأقوام آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".
قال الحافظ الضياء المقدسي: هذا الحديث على شرط البخاري (9) والله أعلم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن عمار الموصلي، حدثنا عُفَيْف بن سالم، عن أيوب بن عُتْبة (10) عن عطاء، عن ابن عمر قال: أتى رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَلْ واسْتَفْهِمْ". فقال: يا رسول الله، فُضِّلتُم علينا بالصور والألوان والنبوة، أفرأيت إن آمنتُ بما آمنتَ به، وعملتُ مثلَ ما عملتَ به، إني لكائن معك في الجنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، والذي نفسي بيده إنه ليضيء بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام" قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله، كان له بها عهد عند الله، ومن قال: سبحان الله وبحمده، كتب له بها مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة" فقال رجل: كيف نهلك بعدها يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله، فتقوم النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يتطاول الله برحمته" ونزلت هذه الآيات (11) { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا } إلى قوله: { نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا } [الإنسان: 1-20] فقال الحبشي: وإن عيني لتريان ما ترى عيناك في الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم". فاستبكى حتى فاضت نفسه، قال ابن عمر: لقد
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (6167) ورواه مسلم في صحيحه برقم (2639).
(2) في د: "وفي لفظ".
(3) في أ: "لأحب".
(4) في ر: "عنهم".
(5) صحيح مسلم برقم (2639).
(6) في أ: "يتراءون".
(7) في أ: "في".
(8) صحيح البخاري برقم (3256) وصحيح مسلم برقم (2831).
(9) المسند (2/339).
(10) في النسخ: "أيوب عن عتبة" وهو تحريف.
(11) في ر، أ: "السورة".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته بيديه.
فيه غرابة ونكارة، وسنده ضعيف (1) .
ولهذا قال تعالى: { ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ } أي: من عند الله برحمته، هو الذي أهلهم لذلك، لا بأعمالهم. { وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا } أي: هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) }
يأمر الله عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم، وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعدد وتكثير العدد بالنفير في سبيله.
{ ثُبَاتٍ } أي: جماعة بعد جماعة، وفرقة بعد فرقة، وسرية بعد سرية، والثبات: جمع ثُبَة، وقد تجمع الثبة على ثُبين.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ } أي: عُصبا يعني: سرايا متفرقين { أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا } يعني: كلكم.
وكذا رُوي عن مجاهد، وعكرمة، والسدي، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني، ومُقاتل بن حَيَّان، وخُصَيف الجَزَري.
وقوله: { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ } قال مجاهد وغير واحد: نزلت في المنافقين، وقال مقاتل بن حيان: { ليبطئن } أي: ليتخلفن عن الجهاد.
ويحتمل أن يكون المراد أنه يتباطأ هو في نفسه، ويبطئ غيره عن الجهاد، كما كان عبد الله بن أبي بن سلول -قبحه الله-يفعل، يتأخر عن الجهاد، ويُثَبّط الناس عن الخروج فيه. وهذا قول ابن جُرَيْج وابن جَرِيرٍ؛ ولهذا قال تعالى إخبارا عن المنافق أنه يقول إذا تأخر عن الجهاد: { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ } أي: قتل وشهادة وغلب العدو لكم، لما لله في ذلك من الحكمة { قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا } أي: إذ لم أحضر معهم وقعة القتال، يعد ذلك من نعم الله عليه، ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر أو الشهادة إن قتل.
{ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ } أي: نصر وظفر وغنيمة { لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَه مَوَدَّةٌ } (2) أي:
__________
(1) المعجم الكبير (12/436)، ووجه ضعفه أن فيه أيوب بن عتبة وهو ضعيف.
(2) في ر: قال".

كأنه ليس من أهل دينكم { يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا } أي: بأن يضرب لي بسهم معهم فأحصل عليه. وهو أكبر قصده وغاية مراده.
ثم قال تعالى: { فَلْيُقَاتِلْ } أي: المؤمن النافر { فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ } أي: يبيعون دينهم بعَرَض قليل من الدنيا، وما ذلك (1) إلا لكفرهم وعدم إيمانهم.
ثم قال تعالى: { وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } أي: كل من قاتل في سبيل الله -سواء قتل أو غَلَب وسَلَب-فله عند الله مثوبة عظيمة وأجر جزيل، كما ثبت في الصحيحين (2) وتكفل الله للمجاهد في سبيله، إن (3) توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة.
__________
(1) في د، ر: "وذاك".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (7463، 7457) ومسلم في صحيحه برقم (1876) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) في د، ر، أ: "بأن".

وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)

{ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) }
يحرض تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة (1) من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين بالمقام بها؛ ولهذا قال تعالى: { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ } يعني: مكة، كقوله تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } [محمد: 13].
ثم وصفها بقوله: { الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا } أي: سخر لنا من عندك وليا وناصرا.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن عبيد الله (2) قال: سمعت ابن عباس قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين.
حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن [أبي] (3) مُلَيْكَة أن ابن عباس تلا { إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ } قال: كنت أنا وأمي ممن عَذَرَ الله عز وجل (4) .
ثم قال تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ } أي: المؤمنون يقاتلون في طاعة الله ورضوانه، والكافرون يقاتلون في طاعة الشيطان.
__________
(1) في أ: "في مكة".
(2) في د: "عبد الله".
(3) زيادة من د، ر، أ.
(4) صحيح البخاري برقم (4587، 4588)،

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)

ثم هَيَّجَ تعالى المؤمنين على قتال أعدائه بقوله: { فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا }
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) }
كان المؤمنون في ابتداء الإسلام -وهم بمكة -مأمورين بالصلاة والزكاة وإن لم تكن ذات النُّصُب، لكن كانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبا لأسباب كثيرة، منها: قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء لائقا. فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة، لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار، ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه جَزع بعضهم منه وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا { وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي: لو ما أخرت فرضه إلى مدة أخرى، فإن فيه سفك الدماء، ويُتْم الأبناء، وتأيّم النساء، وهذه الآية في معنى قوله تعالى { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةُ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ [رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونُ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فِإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] } [محمد: 20، 21]. (1)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رِزْمة (2) وعلي بن زنجة قالا حدثنا علي بن الحسن، عن الحسين بن واقد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالوا: يا نبي الله، كنا في عزّ ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة: قال: "إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم". فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال، فكفوا. فأنزل الله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ] (3) } الآية.
__________
(1) زيادة من ر. وفي هـ: "الآية".
(2) في أ: "زرعه".
(3) زيادة من ر، أ.

ورواه النسائي، والحاكم، وابن مَرْدُويه، من حديث علي بن الحسن بن شَقِيق، به (1) .
وقال أسباط، عن السدي: لم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال، فلما كتب عليهم القتال: { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } وهو الموت، قال الله تعالى: { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى }
وعن مجاهد: إن هذه الآيات (2) نزلت في اليهود. رواه ابن جرير.
وقوله: { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى } أي: آخرة المتقي خير من دنياه.
{ وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا } أي: من أعمالكم بل توفونها أتم الجزاء. وهذه تسلية لهم عن الدنيا. وترغيب لهم في الآخرة، وتحريض لهم على الجهاد.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن زيد، عن هشام قال: قرأ الحسن: { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ } قال: رحم الله عبدا صحبها على حسب ذلك، ما (3) الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة، فرأى في منامه بعض ما يحب، ثم انتبه.
وقال ابن مَعين: كان أبو مُسْهِر ينشد:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له ... مِنَ الله في دار المقام نَصيبُ ...
فإن تُعْجب الدنيا رجَالا فإنها ... مَتَاع قليل والزّوَال قريبُ ...
وقوله: { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } أي: أنتم صائرون إلى الموت لا محالة، ولا ينجو منه أحد منكم، كما قال تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وِالإكْرَامِ] (4) } [الرحمن: 26، 27] وقال تعالى { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } [آل عمران: 185] وقال تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } [الأنبياء: 34] والمقصود: أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة، ولا ينجيه من ذلك شيء، وسواء عليه جاهد أو لم يجاهد، فإن له أجلا محتوما، وأمدا مقسوما، كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه: لقد شهدت كذا وكذا موقفا، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء (5) .
وقوله: { وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } أي: حصينة منيعة عالية رفيعة. وقيل: هي بروج في السماء. قاله السدي، وهو ضعيف. والصحيح: أنها المنيعة. أي: لا يغني حذر وتحصن من الموت، كما قال زهير بن أبي سلمى: (6)
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (11112) والمستدرك (2/307).
(2) في أ: "الآية".
(3) في ر، أ: "وما".
(4) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(5) رواه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في المختصر لابن المنظور (8/26) من طريق أبي الزناد أن خالد لما حضرته الوفاة بكى وقال ... فذكره.
(6) في ر ، أ : "طرفة بن العبد".

وَمَن خَاف أسبابَ المَنيّة يَلْقَهَا ... ولو رَامَ أسبابَ السماء بسُلَّم (1)
ثم قيل: "المشَيَّدَة" هي المَشِيدَة كما قال: "وَقَصْرٍ مَشِيدٍ" [الحج: 45] وقيل: بل بينهما فرق، وهو أن المُشَيَّدة بالتشديد، هي: المطولة، وبالتخفيف هي: المزينة بالشيد وهو الجص.
وقد ذكر ابن جرير، وابن أبي حاتم هاهنا حكاية مطولة عن مجاهد: أنه ذكر أن امرأة فيمن كان قبلنا أخذها الطَّلْقُ، فأمرت أجيرها أن يأتيها بنار، فخرج، فإذا هو برجل واقف على الباب، فقال: ما ولدت المرأة؟ فقال: جارية، فقال: أما إنها ستزني بمائة رجل، ثم يتزوجها أجيرها، ويكون موتها بالعنكبوت. قال: فَكَرَّ راجعا، فبعج الجارية بسكين في بطنها، فشقه، ثم ذهب هاربا، وظن أنها قد ماتت، فخاطت أمها بطنها، فبرئت وشبت وترعرعت، ونشأت أحسن امرأة ببلدتها (2) فذهب ذاك [الأجير] (3) ما ذهب، ودخل البحور فاقتنى أموالا جزيلة، ثم رجع إلى بلده وأراد التزويج، فقال لعجوز: أريد أن أتزوج بأحسن امرأة بهذه البلدة. فقالت له: ليس هنا أحسن من فلانة. فقال: اخطبيها علي. فذهبت إليها فأجابت، فدخل بها فأعجبته إعجابا شديدًا، فسألته عن أمره ومن أين مقدمه (4) ؟ فأخبرها خبره، وما كان من أمره في هربه. فقالت: أنا هي. وأرته مكان السكين، فتحقق ذلك فقال: لئن كنت إياها فلقد أخبرتني باثنتين لا بد منهما، إحداهما: أنك قد زنيت بمائة رجل. فقالت: لقد كان شيء من ذلك، ولكن لا أدري ما عددهم؟ فقال: هم مائة. والثانية: أنك تموتين بالعنكبوت. فاتخذ لها قصرا منيعا شاهقا، ليحرزها من ذلك، فبينا هم يوما إذا بالعنكبوت في السقف، فأراها إياها، فقالت: أهذه التي تحذرها علي، والله لا يقتلها إلا أنا، فأنزلوها من السقف فعمدت إليها فوطئتا بإبهام رجلها فقتلتها، فطار من سمها شيء (5) فوقع بين ظفرها ولحمها، فاسودت رجلها وكان في ذلك أجلها (6) .
ونذكر هاهنا قصة صاحب الحَضْر، وهو "الساطرون" لما احتال عليه "سابور" حتى حصره فيه، وقتل من فيه بعد محاصرة سنتين، وقالت العرب في ذلك أشعارا منها: وأخو الحَضْر إذ بناه وإذ دجـ ... لة تُجْبَى إليه والخابورُ ...
شاده مَرْمَرا وجلله كلْ ... سا فللطير في ذُرَاه وُكُور ...
لم تَهَبْهُ أيدي المنون فباد الـ ... مُلْكُ عنه فبابُه مَهْجور ...
ولما دخل على عثمان جعل يقول: اللهم اجمع أمة محمد، ثم تمثل بقول الشاعر:
أرى الموتَ لا يُبقي عَزيزا ولم يَدَعْ ... لعاد ملاذَّا في البلاد ومَرْبَعا ...
يُبَيَّتُ أهلُ الحِصْن والحصنُ مغلقٌ ... ويأتي الجبالَ في شَماريخها معا (7)
وقوله: { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } أي: خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو (8) ذلك هذا معنى
__________
(1) البيت من معلقة زهير بن أبي سلمى، وهو في ديوانه (ص 30).
(2) في ر، أ: "ببلدها".
(3) زيادة من أ، والطبري.
(4) في أ: "وعن مقدمه".
(5) في ر: "وطار شيء من سمها".
(6) تفسير الطبري (8/552).
(7) في ر: "العلا".
(8) في ر: "وغير".

قول ابن عباس وأبي العالية والسدي { يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي: قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو نتاج أو غير ذلك. كما يقوله أبو العالية والسدي. { يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } أي: من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك. كما قال تعالى عن قوم فرعون: { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } [الأعراف: 131] وكما قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وِإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ] (1) } الآية [الحج: 11]. وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا وهم كارهون له في نفس الأمر؛ ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقال (2) السدي: { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } قال: والحسنة الخصب، تُنْتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم، ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان قالوا: { هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } والسيئة: الجدْب والضرر في أموالهم، تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: { هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } يقولون: بتركنا ديننا واتباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء، فأنزل الله عز وجل: { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } فقوله { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي الجميع بقضاء الله وقدره، وهو نافذ في البَرّ والفاجر، والمؤمن والكافر.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي: الحسنة والسيئة. وكذا قال الحسن البصري.
ثم قال تعالى منكرًا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب. وقلة فهم وعلم، وكثرة جهل وظلم: { فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا }
ذكر حديث غريب يتعلق بقوله تعالى: { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ }
قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا السَّكن بن سعيد، حدثنا عمر بن يونس، حدثنا إسماعيل بن حماد، عن مقاتل بن حَيَّان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأقبل أبو بكر وعمر في قبيلتين من الناس، وقد ارتفعت أصواتهما، فجلس أبو بكر قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وجلس عمر قريبا من أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم ارتفعت أصواتكما؟" فقال رجل: يا رسول الله، قال أبو بكر: الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فما قلت يا عمر؟" قال: قلت: الحسنات والسيئات من الله. تعالى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول من تكلم فيه جبريل وميكائيل، فقال ميكائيل مقالتك يا أبا بكر، وقال جبريل مقالتك يا عمر فقال: نختلف فيختلف أهل السماء (3) وإن يختلف أهل السماء يختلف أهل الأرض. فتحاكما إلى إسرافيل، فقضى بينهم أن الحسنات والسيئات من الله". ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال "احفظا قضائي بينكما، لو أراد الله ألا يُعْصَى لم يخلق إبليس".
قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيميّة: هذا حديث موضوع مختلق باتفاق أهل المعرفة (4) .
__________
(1) زيادة من: ر، أ.
(2) في ر: "فقال" وفي أ: "قال".
(3) في ر: "السماوات".
(4) مسند البزار برقم (2496) وقال الهيثمي في المجمع (7/191) "شيخ البزار السكن بن سعيد لم أعرفه، وبقية رجال البزار ثقات وفي بعضهم كلام لا يضر، وقال ابن حجر رحمه الله: "هذا خبر منكر وفي الإسناد ضعف".

ثم قال تعالى -مخاطبًا -للرسول [صلى الله عليه وسلم] (1) والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب: { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } أي: من فضل الله ومنه ولطفه ورحمته { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } أي: فمن قبلك، ومن عملك أنت كما قال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى: 30].
قال السدي، والحسن البصري، وابن جُريج، وابن زيد: { فَمِنْ نَفْسِكَ } أي: بذنبك.
وقال قتادة: { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } عقوبة يا ابن آدم بذنبك. قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا يصيب رجلا خَدْش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عِرْق، إلا بذنب، وما يعفو الله أكثر".
وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلا في الصحيح: "والذي نفسي بيده، لا يصيب المؤمن هَمٌّ ولا حَزَنٌ، ولا نَصَبٌ، حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله عنه بها من خطاياه". (2)
وقال أبو صالح: { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } أي: بذنبك، وأنا الذي قدرتها عليك. رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا سهل -يعني ابن بَكَّار -حدثنا الأسود بن شيبان، حدثني عقبة بن واصل بن أخي مُطَرِّف، عن مُطَرِّف بن عبد الله قال: ما تريدون من القدر، أما تكفيكم الآية التي في سورة النساء: { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وِإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } أي: من نفسك، والله ما وُكِلُوا إلى القدر وقد أُمِروا وإليه يصيرون.
وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضا، ولبسطه موضع آخر.
وقوله تعالى: { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا } أي: تبلغهم شرائع الله، وما يحبه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه.
{ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } أي: على أنه أرسلك، وهو شهيد أيضا بينك وبينهم، وعالم بما تبلغهم إياه، وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادًا.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) رواه مسلم بنحوه برقم (2572) من حديث عائشة، وبرقم (2573) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهم.

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)

{ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (81) }
يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله،وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش، عن أبي صالح،

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني".
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين، عن الأعمش به (1)
وقوله: { وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } (2) أي: لا عليك منه، إن عليك إلا البلاغ فمن تَبِعك سَعِد ونجا، وكان لك من الأجر نظير ما حصل له، ومن تولى عنك خاب وخسر، وليس عليك من أمره شيء، كما جاء في الحديث: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه" (3) .
وقوله: { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة { فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ } أي: خرجوا وتواروا عنك { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } أي: استسروا ليلا فيما بينهم بغير ما أظهروه. فقال تعالى: { وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } أي: يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين، الذين هم موكلون بالعباد. يعلمون ما يفعلون. والمعنى في هذا التهديد، أنه تعالى أخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم، وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول وعصيانه، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة، وسيجزيهم على ذلك. كما قال تعالى: { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا [ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ] (4) } [النور: 47].
وقوله: { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي: اصفح عنهم واحلم عليهم (5) ولا تؤاخذهم، ولا تكشف أمورهم للناس، ولا تَخَفْ منهم أيضا { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا } أي: كفى به (6) وليًّا وناصرًا ومعينا لمن توكل عليه وأناب إليه.
{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا (83) }
يقول تعالى آمرًا عباده بتدبر القرآن، وناهيا لهم عن الإعراض عنه، وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، ومخبرًا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب، ولا تضادّ ولا تعارض؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حق من حق؛ ولهذا قال تعالى: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] (7) } [محمد: 24] ثم قال: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ } أي: لو كان مفتعلا مختلقا، كما يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم { لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } أي: اضطرابا وتضادًّا كثيرًا. أي: وهذا سالم من الاختلاف، فهو من عند الله. كما قال تعالى مخبرا عن الراسخين في العلم
__________
(1) رواه البخاري برقم (7137) ومسلم برقم (1835) من طريق يونس بن يزيد عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة به.
(2) في ر: "فمن".
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (87) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
(4) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(5) في ر: "عنهم".
(6) في أ: "بالله".
(7) زيادة من ر، أ.

حيث قالوا: { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [آل عمران:7] أي: محكمه ومتشابهه حق؛ فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا، والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا؛ ولهذا مدح تعالى الراسخين وذم الزائغين.
قال (1) الإمام أحمد: حدثنا أنس بن عياض، حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حُمر النَّعم، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من صحابة (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حَجْرَة، إذ ذكروا آية من القرآن، فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُغْضَبًا حتى احمر وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: "مهلا يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا، بل يصدّق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمِه" (3) .
وهكذا رواه أيضا عن أبي معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، والناس يتكلمون في القدر، فكأنما يُفْقَأ في وجهه حب الرُّمان من الغضب، فقال لهم: "ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم". قال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس، أني لم أشهده.
ورواه ابن ماجه من حديث داود بن أبي هند، به نحوه (4) .
وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن زيد، عن أبي عمْران الجَوْني قال: كتب إلي عبد الله بن رَبَاح، يحدث عن عبد الله بن عمرو قال: هَجَّرتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فإنا لجلوس إذ اختلف اثنان في آية، فارتفعت أصواتهما فقال: "إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب" ورواه مسلم والنسائي، من حديث حماد بن زيد، به (5) .
وقوله: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ } إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة.
وقد قال مسلم في "مقدمة صحيحه" حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا علي بن حفص، حدثنا شعبة، عن خبيب (6) بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كفى بالمرء كذبا أن يُحدِّث بكل ما سمع" وكذا رواه أبو داود في كتاب "الأدب" من سننه، عن محمد بن الحسين بن إشكاب، عن علي بن حفص، عن شعبة مسندًا (7) ورواه مسلم أيضا من حديث
__________
(1) في ر، أ: "وقال".
(2) في أ: "أصحاب".
(3) المسند (2/181).
(4) المسند (2/178) وسنن ابن ماجه برقم (85).
(5) المسند (2/192) وصحيح مسلم برقم (2666) وسنن النسائي الكبرى برقم (8095).
(6) في ر، أ: "حبيب".
(7) صحيح مسلم برقم (5) وسنن أبي داود برقم (4992).

معاذ بن هشام العنبري، وعبد الرحمن بن مهدي. وأخرجه أبو داود أيضا من حديث حفص بن عمر النمري، ثلاثتهم عن شعبة، عن خُبَيب (1) عن حفص بن عاصم، به مرسلا (2) .
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال أي: الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تَثبُّت، ولا تَدبُّر، ولا تبَيُّن (3) .
وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بئس مَطِيَّة الرجل زَعَمُوا عليه" .
وفي الصحيح: "من حَدَّث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْن". (4) ويذكر (5) هاهنا حديث عمر بن الخطاب المتفق عليه، حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طَلَّق نساءه، فجاءه من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفهمه: أطلقت نساءك؟ قال: "لا". فقلت الله أكبر . وذكر الحديث (6) بطوله.
وعند مسلم: فقلت: أطلقتهن؟ فقال: "لا" فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه. ونزلت هذه الآية: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر.
ومعنى قوله:(يستنبطونه) أي: يستخرجونه ويستعلمونه من معادنه، يقال: استنبط الرجل العين، إذا حفرها واستخرجها من قعورها (7) .
ومعنى قوله: { لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني المؤمنين.
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: { لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا } يعني: كلكم. واستشهد من نصر هذا القول. بقول الطرماح بن حكيم، في مدح يزيد بن المُهَلَّب:
أشَمَّ (8) كثير يَدى النوال (9) قليل المَثَالب والقَادحة (10)
يعني: لا مثالب له، ولا قادحة فيه.
__________
(1) في أ: "حبيب".
(2) صحيح مسلم برقم (5) وسنن أبي داود برقم (4992).
(3) صحيح البخاري برقم (1477) وصحيح مسلم برقم (593).
(4) رواه مسلم في مقدمة صحيحه (ص9) والترمذي في السنن برقم (2662) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(5) في ر: "ونذكر".
(6) صحيح البخاري برقم (5191) وصحيح مسلم برقم (1479).
(7) في ر: "قرارها".
(8) في أ: "أنتم".
(9) في أ: "البوداي".
(10) البيت في تفسير الطبري (8/577).

فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)

{ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) }

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)

{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) }
يأمر تعالى عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يباشر القتال بنفسه، ومن نكل عليه فلا عليه منه؛ ولهذا قال: { لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ }
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عمرو بن نُبَيْح، حدثنا حَكَّام، حدثنا الجراح الكندي، عن أبي إسحاق قال: سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى مائة من العدو، فيقاتل، أيكون ممن يقول الله: { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [البقرة: 195] قال: قد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ }
ورواه الإمام أحمد، عن سليمان بن داود، عن أبي بكر بن عيَّاش، عن أبي إسحاق قال: قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا؛ لأن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم وقال: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ } إنما ذلك في النفقة.
وكذا رواه ابن مردُويه، من طريق أبي بكر بن عياش، وعلي بن صالح، عن أبي إسحاق، عن البراء به.
ثم قال ابن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن النضر العسكري، حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الْجَرْمِيّ، حدثنا محمد بن حِمْيَر، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا] (1) } الآية، قال لأصحابه: "قد أمرني ربي بالقتال فقاتلوا" حديث غريب (2) .
وقوله: { وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ } أي: على القتال ورغبهم فيه وشجعهم عنده كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وهو يسوي الصفوف: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض".
وقد وردت أحاديثُ كثيرة في الترغيب في ذلك، فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، كان حقا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها" قالوا: يا رسول الله، أفلا نبشر الناسَ بذلك؟ فقال: "إن في الجنة مائةَ درجة، أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة. وأعلى الجنة،وفوقه عرش الرحمن، ومنه تُفَجَّر أنهار الجنة" (3) .
ورُوي من حديث معاذ وأبي الدرداء وعُبادة نحو ذلك.
وعن أبي سعيد الخدْري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا سعيد، من رضي بالله ربا، وبالإسلام
__________
(1) زيادة من ر، أ.
(2) ذكره السيوطي في الدر (2/602) ووجه غرابته أنه روي موقوفا من عدة وجوه، ولم يرو مرفوعا إلا من هذا الوجه.
(3) صحيح البخاري برقم (2790).

دينا، وبمحمد نبيًا، وجبت له الجنة" قال: فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها عليَّ يا رسول الله. ففعل. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" رواه مسلم (1) .
وقوله: { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هممهم على مناجزة الأعداء، ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله، ومقاومتهم ومصابرتهم.
وقوله: { وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا } أي: هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة، كما قال [تعالى] (2) { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مَنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ] (3) } [محمد: 4].
وقوله: { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا } أي: من سعى في أمر، فترتب عليه خير، كان له نصيب من ذلك { وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا } أي: يكون عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء".
وقال مجاهد بن جَبْر: نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض.
وقال الحسن البصري: قال الله تعالى: { مَنْ يَشْفَعْ } ولم يقل: من يُشَفَّع.
وقوله: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } قال ابن عباس، وعطاء، وعطية، وقتادة، ومطر الوراق: { مُقِيتًا } أي: حفيظا. وقال مجاهد: شهيدا. وفي رواية عنه: حسيبا. وقال سعيد بن جبير، والسدي، وابن زيد: قديرا. وقال عبد الله بن كثير: المقيت: الواصب (4) وقال الضحاك: المقيت: الرزاق.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحيم بن مطرف، حدثنا عيسى بن يونس، عن إسماعيل، عن رجل، عن عبد الله بن رواحة، وسأله رجل عن قول الله: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } قال: يُقيت كلّ إنسان على قدر عمله (5) .
وقوله: { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } أي: إذا سلم عليكم المسلم، فردوا عليه أفضل مما سلم، أو ردوا عليه بمثل ما سلم [به] (6) فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة.
قال ابن جرير: حدثني موسى بن سهل الرملي، حدثنا عبد الله بن السَّري الأنطاكي، حدثنا هشام بن لاحق، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النَّهْدي، عن سلمان الفارسي قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله. فقال: "وعليك السلام ورحمة الله". ثم أتى آخر
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1884)
(2) زيادة من ر.
(3) زيادة من ر، ا، وفي هـ: "الآية".
(4) في ر: "المواضب".
(5) في ر: "بقدر عمله".
(6) زيادة من د، ر، أ.

فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعليك السلام ورحمة الله وبركاته". ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته فقال له: "وعليك" فقال له الرجل: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت علي. فقال: "إنك لم تدع لنا شيئا، قال الله تعالى: { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } فرددناها عليك".
وهكذا رواه ابن أبي حاتم معلقا فقال: ذكر عن أحمد بن الحسن الترمذي، حدثنا عبد الله بن السري -أبو محمد الأنطاكي -قال أبو الحسن: وكان رجلا صالحا -حدثنا هشام بن لاحق، فذكر بإسناده مثله.
ورواه أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن قانع، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبي، حدثنا هشام بن لاحق أبو عثمان، فذكره بمثله، ولم أره في المسند (1) والله (2) أعلم.
وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إذ لو شرع أكثر من ذلك، لزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كثير -أخو سليمان بن كثير -حدثنا جعفر بن سليمان، عن عوف، عن أبي رجاء العُطَاردي، عن عمران بن حُصَين؛ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم (3) فرد عليه ثم جلس، فقال: "عَشْرٌ". ثم جاء آخر فقال: "السلام عليكم (4) ورحمة الله. فرد عليه، ثم جلس، فقال: "عشرون". ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم (5) ورحمة الله وبركاته. فرد عليه، ثم جلس، فقال: "ثلاثون".
وكذا رواه أبو داود عن محمد بن كثير، وأخرجه الترمذي والنسائي والبزار من حديثه، ثم قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه، وفي الباب عن أبي سعيد وعلي وسهل بن حُنَيف [رضي الله عنهم] (6) .
وقال البزَّار: قد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه، هذا أحسنها إسنادا (7) وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي (8) عن الحسن بن صالح، عن سِمَاك، عن عكرمة عن ابن عباس قال: من يسلم (9) عليك من خلق الله، فاردد عليه وإن كان مجوسيا؛ ذلك بأن الله يقول: { فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا }
وقال قتادة: { فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا } يعني: للمسلمين { أَوْ رُدُّوهَا } يعني: لأهل الذمة.
وهذا التنزيل فيه نظر، بل كما تقدم في الحديث من أن المراد أن يرد بأحسن مما حياه به، فإن بلغ
__________
(1) في تفسير الطبري (8/589) وفي إسناده عبد الله بن السري. قال أبو نعيم: "يروى المناكير لا شيء". لكن تابعه الإمام أحمد في رواية ابن مردويه، فرواه عن هشام به، وهشام بن لاحق مختلف فيه، وروايته عن عاصم الأحول متكلم فيها. قال الإمام أحمد: "رفع عن عاصم أحاديث لم ترفع، أسندها هو إلى سلمان".
(2) في ر: "فالله".
(3) في أ: "عليك".
(4) في أ: "عليك".
(5) في أ: "عليك".
(6) زيادة من أ.
(7) سنن أبي داود برقم (1595) وسنن الترمذي برقم (2689) وسنن النسائي برقم (10169).
(8) في أ: "الرقاشي".
(9) في د، ر: "من سلم".

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)

المسلم غاية ما شرع في السلام؛ رد عليه مثل ما قال، فأما أهل الذمة فلا يُبْدؤون (1) بالسلام ولا يزادون، بل يرد عليهم بما ثبت في الصحيحين، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليك فقل: وعليك" (2) .
وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه" (3) .
وقال سفيان الثوري، عن رجل، عن الحسن البصري قال: السلام تطوع، والرد فريضة.
وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة: أن الرد واجب على من سلم عليه، فيأثم إن لم يفعل؛ لأنه خالف أمر الله في قوله: { فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } وقد جاء في الحديث الذي رواه (4) .
وقوله: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } إخبار بتوحيده وتفرده بالإلهية لجميع المخلوقات، وتضمَّن قسما، لقوله: { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ } وهذه اللام موطئة للقسم، فقوله: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } خبر وقَسَم أنه سيجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد فيجازي كل عامل بعمله.
وقوله تعالى: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } أي: لا أحد أصدق منه في حديثه وخبره، ووعده ووعيده، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه.
{ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (89) إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) }
يقول تعالى منكرا على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين، واختلف في سبب ذلك، فقال الإمام أحمد:
__________
(1) في ر: "يبتدئون".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (6257) ومسلم في صحيحه برقم (2164).
(3) صحيح مسلم برقم (2167).
(4) بياض بجميع النسخ، وفي نسخة مساعدة [أبو داود بسنده إلى أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم].

حدثنا بَهْز، حدثنا شعبة، قال عدي بن ثابت: أخبرني عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحُد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم. وفرقة تقول: لا (1) فأنزل الله: { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها طَيْبة، وإنها تنفي الخَبَث كما تنفي النار خبث الفضة".
أخرجاه في الصحيحين، من حديث شعبة (2) .
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يَسار في وقعة أحد أن عبد الله بن أبي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش، رجع بثلاثمائة وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة.
وقال العوفي، عن ابن عباس: نزلت في قوم كانوا بمكة، قد تكلموا بالإسلام، كانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون (3) حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس، وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم. وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله! أو كما قالوا: أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به؟ أمِنْ أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم. فكانوا كذلك فئتين، والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين (4) عن شيء فأنزل الله: { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ }
رواه ابن أبي حاتم، وقد رُوي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا.
وقال زيد بن أسلم، عن ابنٍ لسعد بن معاذ: أنها نزلت في تقاول الأوس والخزرج في شأن عبد الله بن أبيّ، حين استعذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر في قضية الإفك.
وهذا غريب، وقيل غير ذلك.
وقوله: { وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } أي: ردهم وأوقعهم في الخطأ.
قال ابن عباس: { أَرْكَسَهُمْ } أي: أوقعهم. وقال قتادة: أهلكهم. وقال السدي: أضلهم.
وقوله: { بِمَا كَسَبُوا } أي: بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل.
{ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا } أي: لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه.
ثم قال: { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } أي: هم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم؛ ولهذا قال: { فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي: تركوا الهجرة، قاله العوفي عن ابن عباس. وقال السدي: أظهروا كفرهم { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } أي: لا توالوهم
__________
(1) في د: "غير ذلك".
(2) المسند (5/184) وصحيح البخاري برقم (1884 ، 4050) وصحيح مسلم برقم (1384).
(3) في د: "يريدون".
(4) في ر: "منهم".

ولا تستنصروا بهم على الأعداء ما داموا كذلك.
ثم استثنى الله، سبحانه من هؤلاء فقال: { إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } أي: إلا الذين لجؤوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة أو عقد ذمة، فاجعلوا حكمهم (1) كحكمهم. وهذا قول السدي، وابن زيد، وابن جرير .
وقد روى ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جُدْعان، عن الحسن: أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال: لما ظهر -يعني النبي صلى الله عليه وسلم -على أهل بدر وأُحُد، وأسلم من حولهم قال سراقة: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي -بني مُدْلج -فأتيته (2) فقلت: أَنْشُدُك النعمة. فقالوا: صه (3) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوه، ما تريد؟". قال: بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم تَخْشُن (4) قلوب قومك عليهم. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال: "اذهب معه فافعل ما يريد". فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، [ومن وصل إليهم من الناس كانوا على مثل عهدهم] (5) فأنزل الله: { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ }
ورواه ابن مردويه من طريق حماد بن سلمة، وقال (6) فأنزل الله: { إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم (7) وهذا أنسب لسياق الكلام.
وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد وأصحابه وعهدهم.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخها قوله: { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] } [التوبة: 5].
وقوله: { أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ] (8) } الآية، هؤلاء قوم آخرون من المُسْتَثنَين عن الأمر بقتالهم، وهم الذين يجيئون إلى المصاف وهم حَصِرَةٌ صدورهم أي: ضيقة صدورهم مُبْغضين (9) أن يقاتلوكم، ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم، بل هم لا لكم ولا عليكم. { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } أي: من لطفه بكم أن كفهم عنكم { فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } أي: المسالمة { فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا } أي: فليس لكم أن تقتلوهم، ما دامت حالهم (10) كذلك، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين، فحضروا القتال وهم كارهون، كالعباس ونحوه، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وعبّر (11) بأسره.
__________
(1) في أ: "حكمكم".
(2) في د: فأتيت".
(3) في أ: "مه".
(4) في د: "لم تحزن" وفي ر: "لم يحسن".
(5) زيادة من أ.
(6) في د: "وفيه".
(7) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (14/232) حدثنا أسود بن عامر عن حماد بن سلمة به.
(8) زيادة من د.
(9) في د: "منقبضين"
(10) في أ: "حالتهم".
(11) في د، أ: "وأمر".

وقوله: { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ [كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا] (1) } الآية، هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الإسلام؛ ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم ويصانعون الكفار في الباطن، فيعبدون معهم ما يعبدون، ليأمنوا بذلك عندهم، وهم في الباطن مع أولئك، كما قال تعالى: { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] (2) } [البقرة: 14] وقال هاهنا: { كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا } أي: انهمكوا فيها.
وقال السدّي: الفتنة هاهنا: الشرك. وحكى ابن جرير، عن مجاهد: أنها نزلت في قوم من أهل مكة، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا؛ ولهذا قال تعالى: { فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ } أي: عن القتال { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } أي: أين لقيتموهم { وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } أي: بيِّنا واضحا.
__________
(1) زيادة من د، ر، أ.
(2) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)

{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) }
يقول تعالى: ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه، كما ثبت في الصحيحين، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة" (1) .
ثم إذا وقع شيء من هذه الثلاث، فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه.
وقوله: { إِلا خَطَأً } قالوا: هو استثناء منقطع، كقول الشاعر (2)
من البيض لم تَظْعن بعيدا ولم تَطَأ ... على الأرض إلا رَيْطَ بُرْد مُرَحَّل (3)
.
ولهذا شواهد كثيرة.
واختلف في سبب نزول هذه [الآية] (4) فقال مجاهد وغير واحد: نزلت في عياش (5) بن
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6878) وصحيح مسلم برقم (1676).
(2) هو جرير بن عطية الغطفي، والبيت في تفسير الطبري (9/31).
(3) في ر: "مرجل".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ: "عباس".

أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه -وهي أسماء بنت مُخَرِّبَة (1) - وذلك أنه قتل رجلا كان يعذبه مع أخيه على الإسلام، وهو الحارث بن يزيد العامري، فأضمر له عَيّاش السوء، فأسلم ذلك الرجل وهاجر، وعياش لا يشعر، فلما كان يوم الفتح رآه، فظن أنه على دينه، فحمل عليه فقتله. فأنزل الله هذه الآية (2) .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: نزلت في أبي الدرداء؛ لأنه قتل رجلا وقد قال كلمة الإسلام (3) حين رفع (4) السيف، فأهوى به إليه، فقال كلمته، فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما قالها متعوذا. فقال له: "هل شققت عن قلبه" (5) [وهذه القصة في الصحيح لغير أبي الدرداء] (6) .
وقوله: { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا] (7) } هذان واجبان في قتل الخطأ، أحدهما: الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم، وإن كان خطأ، ومن شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنة فلا تجزئ الكافرة.
وحكى ابن جرير، عن ابن عباس والشعبي وإبراهيم النَّخَعِي والحسن البصري أنهم قالوا:لا يجزئ الصغير حتى يكون قاصدًا للإيمان. وروي من طريق عبد الرزاق (8) عن معمر، عن قتادة قال: في حرف، أبي: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } لا يجزئ فيها صبي.
واختار ابن جرير إن كان مولودًا بين أبوين مسلمين أجزأ، وإلا فلا. والذي عليه الجمهور: أنه متى كان مسلمًا صح عتقه عن الكفارة، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا.
وقال الإمام أحمد: أنبأنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزُّهري، عن عبد الله بن عبد الله، عن رجل من الأنصار؛ أنه جاء بِأَمَةٍ سوداء، فقال: يا رسول الله، إن علي رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتشهدين أن لا إله إلا الله؟" قالت: نعم. قال: "أتشهدين أني رسول الله؟" قالت نعم. قال:"أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟" قالت: نعم، قال: "أعتقها".
وهذا إسناد صحيح، وجهالة الصحابي لا تضر (9) .
وفي موطأ [الإمام] (10) مالك ومسندي الشافعي وأحمد، وصحيح مسلم، وسنن (11) أبي داود والنسائي، من طريق هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين الله؟" قالت: في السماء. قال: "من أنا" قالت:أنت
__________
(1) في ر: "محزبة".
(2) رواه الطبري في تفسيره (9/33).
(3) في ر: "الإيمان".
(4) في أ: "رفع عليه".
(5) رواه الطبري في تفسيره (9/34).
(6) زيادة من ر، أ.
(7) زيادة من د.
(8) في أ "عبد العزيز".
(9) المسند (3/451).
(10) زيادة من أ.
(11) في ر، أ: "وسنني".

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعتقها فإنها مؤمنة" (1) .
وقوله: { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } هو الواجب الثاني فيما بين القاتل وأهل القتيل، عوضا لهم عما فاتهم من قريبهم. وهذه الدية إنما تجب أخماسا، كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث الحجاج بن أرطأة، عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك، عن ابن مسعود قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين بني مخاض ذكورا، وعشرين بنت لبون، وعشرين جَذَعة (2) وعشرين حِقَّة.
لفظ النسائي، وقال الترمذي: لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وقد روي عن عبد الله موقوفا (3) .
وكذا روي عن [علي و] (4) طائفة.
وقيل: تجب أرباعا. وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل، لا في ماله، قال الشافعي، رحمه الله: لم أعلم مخالفا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، وهو أكثر (5) من حديث الخاصة (6) وهذا الذي أشار إليه، رحمه الله، قد ثبت في غير ما حديث، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هُذَيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى أن دية جنينها غُرَّة عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها (7) .
وهذا يقتضي أن حكم عمد الخطأ حكم الخطأ المحض في وجوب الدية، لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثا كالعمد، لشبهه به.
وفي صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمر قال: بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا. فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا. فجعل خالد يقتلهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع يديه وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد". وبعث عليا فودى قتلاهم وما أتلف من أموالهم، حتى مِيلَغة الكلب (8) .
وهذا [الحديث] (9) يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال.
وقوله: { إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا } أي: فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا (10) بها فلا تجب.
__________
(1) الموطأ (2/777) ومسند الشافعي برقم (1196) "بدائع المنن" ومسند أحمد (5/447) صحيح مسلم برقم (537) وسنن أبي داود برقم (2384) وسنن النسائي (3/14).
(2) في ر، أ "جزعا".
(3) المسند (1/384) وسنن النسائي (8/43) وسنن أبي داود برقم (4545) وسنن الترمذي برقم (1386) وسنن ابن ماجة برقم (2631).
(4) زيادة من ر، أ.
(5) في أ: "أكبر".
(6) الأم (6/101)
(7) صحيح البخاري برقم (6910) وصحيح مسلم برقم (1681).
(8) صحيح البخاري برقم (7189).
(9) زيادة من أ.
(10) في ر: "يصدقوا"

وقوله: { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } أي: إذا كان القتيل مؤمنا، ولكن أولياؤه من الكفار أهل حرب، فلا دية لهم، وعلى القاتل (1) تحرير رقبة مؤمنة لا غير.
وقوله: { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] } (2) الآية، أي: فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة، فلهم دية قتيلهم، فإن كان مؤمنا فدية كاملة، وكذا إن كان كافرا أيضا عند طائفة من العلماء. وقيل: يجب في الكافر نصف دية المسلم، وقيل: ثلثها، كما هو مفصل في [كتاب الأحكام] (3) ويجب أيضا على القاتل تحرير رقبة مؤمنة.
{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } أي: لا إفطار بينهما، بل يسرد (4) صومهما إلى آخرهما، فإن أفطر من غير عذر، من مرض أو حيض أو نفاس، استأنف. واختلفوا في السفر: هل يقطع أم لا؟ على قولين.
وقوله: { تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي: هذه توبة القاتل خطأ إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين.
واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام: هل يجب عليه إطعام ستين مسكينا، كما في كفارة الظهار؟ على قولين؛ أحدهما: نعم. كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار، وإنما لم يذكر هاهنا؛ لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير، فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص. القول الثاني: لا يعدل إلى الإطعام؛ لأنه لو كان واجبا لما أخر بيانه عن وقت الحاجة.
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } قد تقدم تفسيره غير مرة.
ثم لما بين تعالى حكم القتل الخطأ، شرع في بيان حكم القتل العمد، فقال: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] } (5) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله، حيث يقول، سبحانه، في سورة الفرقان: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ [وَلا يَزْنُونَ] (6) } الآية [الفرقان: 68] وقال تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [إلى أن قال:
{ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (7) [الأنعام: 151].
والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا. من ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء" (8) وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود، من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصري، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يزال المؤمن مُعنقا (9) صالحا ما لم يصب دما حراما، فإذا أصاب دما حراما بَلَّح" (10) وفي
__________
(1) في ر، أ: "قاتله".
(2) زيادة من ر، أ.
(3) زيادة من ر، أ.
(4) في أ: "يرد".
(5) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(6) زيادة من ر، أ.
(7) زيادة من ر، أ، وفي هـ: الآية.
(8) صحيح البخاري برقم (6864) وصحيح مسلم برقم (1678) .
(9) في ر: "مستعفا".
(10) سنن أبي داود برقم (4270) .

حديث آخر: "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم" (1) وفي الحديث الآخر: "لو أجمع (2) أهل السموات والأرض على قتل رجل مسلم، لأكبهم الله في النار" (3) وفي الحديث الآخر: "من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله" (4) .
وقد كان ابن عباس، رضي الله عنهما، يرى أنه لا توبة للقاتل عمدا لمؤمن.
وقال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا مغيرة بن النعمان قال: سمعت ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة، فَرَحَلْتُ إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [خَالِدًا] (5) } هي آخر ما نزل (6) وما نسخها شيء.
وكذا رواه هو أيضا ومسلم والنسائي من طرق، عن شعبة، به (7) ورواه أبو داود، عن أحمد بن حنبل، عن ابن مهدي، عن سفيان الثوري، عن مغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في (8) قوله: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا } فقال: لم ينسخها شيء.
[وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قال عبد الرحمن بن أبزة: سئل ابن عباس عن قوله: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا } فقال: لم ينسخها شيء] (9) وقال في هذه الآية: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ [وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ] (10) } [الفرقان: 68] قال نزلت في أهل الشرك (11) .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور، حدثني سعيد بن جبير -أو حدثنى الحكم، عن سعيد بن جبير-قال: سألت ابن عباس عن قوله [تعالى] (12) { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنا متعمدا، فجزاؤه جهنم ولا توبة له. فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إلا من ندم.
حدثنا ابن حميد، وابن وَكِيع قالا حدثنا جرير، عن يحيى الجابر، عن سالم بن أبي الجَعْد قال: كنا عند ابن عباس بعد ما كُف بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس، ما ترى في رجل قتل
__________
(1) روي من حديث عبد الله بن عمرو، ومن حديث البراء بن عازب، أما حديث عبد الله بن عمرو، فرواه الترمذي في السنن برقم (1395)، والنسائي في السنن (7/82) وهذا هو لفظه.
(2) في أ: "لو اجتمعت".
(3) رواه الطبراني في المعجم الصغير برقم (565) من طريق جعفر بن جبير بن فرقد عن أبيه عن الحسن عن أبي بكرة رضي الله عنه. قال الهيثمي في المجمع (7/297): "فيه جسر بن فرقد، وهو ضعيف"
(4) رواه ابن ماجة في السنن برقم (2620) من طريق يزيد بن زياد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال الذهبي رحمه الله: "هذا حديث باطل موضوع".
(5) زيادة من أ.
(6) في ر، أ: "ما نزلت".
(7) صحيح البخاري برقم (4590) وصحيح مسلم برقم (3023) وسنن النسائي (8/62).
(8) في د، ر: "عن".
(9) زيادة من أ.
(10) زيادة من ر، أ.
(11) سنن أبي داود برقم (4275).
(12) زيادة من ر.

مؤمنا متعمدا؟ فقال: { جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } قال: أفرأيت إن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه، وأنى له التوبة والهدى؟ والذي نفسي بيده! لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "ثكلته أمه، قاتل مؤمن (1) متعمدا، جاء يوم القيامة آخذه بيمينه أو بشماله، تشخب أوداجه دمًا في قُبُل عرش الرحمن، يلزم قاتله بشماله بيده الأخرى، يقول: سل هذا فيم قتلني" (2) ؟ وأيم الذي نفس عبد الله بيده! لقد أنزلت هذه الآية، فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما نزل بعدها من برهان.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت يحيى بن المُجَبَّر يحدث عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس؛ أن رجلا أتاه فقال: أرأيت رجلا قتل رجلا متعمدا؟ فقال: { جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] (3) } قال: لقد نزلت في آخر ما نزل، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى؟ قال: وأنى له بالتوبة. وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: "ثكلته أمه، رجل قتل رجلا متعمدا، يجيء يوم القيامة آخذا قاتله بيمينه أو بيساره -وآخذا رأسه بيمينه أو بشماله-تَشْخَب أوداجه دما من قبل العرش يقول: يا رب، سل عبدك فيم قتلني؟".
وقد رواه النسائي عن قتيبة (4) وابن ماجه عن محمد بن الصباح، عن سفيان بن عيينة، عن عمار الدُّهني، ويحيى الجابر وثابت الثمالي (5) عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس، فذكره (6) وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة.
وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف: زيد بن ثابت، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد بن عمر، والحسن، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، نقله ابن أبي حاتم.
وفي الباب أحاديث كثيرة: من ذلك ما رواه أبو بكر بن مردويه الحافظ في تفسيره: حدثنا دَعْلَج بن أحمد، حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد البُوشَنْجي وحدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا إبراهيم بن فهد قالا حدثنا عبيد بن عبيدة، حدثنا مُعْتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي عمرو بن شُرَحْبِيل، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجيء المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة، آخذًا رأسه بيده الأخرى فيقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني؟" قال: "فيقول: قتلته لتكون العزة لك. فيقول: فإنها لي". قال: "ويجيء آخر متعلقا بقاتله فيقول: رب، سل هذا فيم قتلني؟" قال: "فيقول قتلته لتكون العزة لفلان". قال: "فإنها ليست له بؤْ بإثمه". قال: "فيهوى في النار سبعين خريفا".
وقد رواه عن النسائي، عن إبراهيم بن المُسْتَمِرِّ العَوْفي، عن عمرو بن عاصم، عن معتمر بن
__________
(1) في د: "مؤمنا".
(2) تفسير الطبري (9/62 ، 63).
(3) زيادة من ر.
(4) في أ: "قتادة"
(5) في أ: "البناني".
(6) المسند (1/240) وسنن النسائي (8/63) وسنن ابن ماجة برقم (2621).

سليمان، به (1)
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا ثور بن يزيد، عن أبي عون، عن أبي إدريس قال: سمعت معاوية، رضي الله عنه، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا".
وكذا رواه النسائي، عن محمد بن المثنى، عن صفوان بن عيسى، به (2) .
وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا سَمُّوَيْه، حدثنا عبد الأعلى بن مُسْهِر، حدثنا صَدَقَةُ بن خالد، حدثنا خالد بن دِهْقان، حدثنا ابن أبي زكريا قال: سمعت أم الدرداء تقول: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا، أو من قتل مؤمنا متعمدا".
وهذا غريب جدا من هذا الوجه. والمحفوظ حديث معاوية المتقدم (3) فالله أعلم.
ثم روى ابن مَردويه من طريق بَقَيَّةَ بن الوليد، عن نافع بن يزيد، حدثني ابن جبير الأنصاري، عن داود بن الحُصَين، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل مؤمنا متعمدا فقد كفر بالله عز وجل".
وهذا حديث منكر أيضا، وإسناده تُكُلم (4) فيه جدا (5) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا النضر، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد قال: أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي، فقال لنا: هلما فأنتما أشب شيئًا مني، وأوعى للحديث مني، فانطلق بنا إلى بِشْر بن عاصم -فقال له أبو العالية: حدث هؤلاء حديثك. فقال: حدثنا عقبة بن مالك الليثي قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، فأغارت على قوم، فشد من القوم رجل، فاتبعه رجل من السرية شاهرا سيفه فقال الشاد من القوم: إني مسلم. فلم ينظر فيما قال، فضربه فقتله، فَنَمَى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا، فبلغ القاتلَ. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، إذ قال القاتلُ: والله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل. قال: فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وعمن قبله من الناس، وأخذ في خطبته، ثم قال أيضا: يا رسول الله، ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل، فأعرض عنه وعمن قبله من الناس، وأخذ في خطبته، ثم لم يصبر، فقال الثالثة: والله يا رسول الله ما قال إلا تعوذا من القتل.
__________
(1) سنن النسائي (7/84) ورواه أبو نعيم في الحلية (4/147) والطبراني في المعجم الكبير (10/119) وقال أبو نعيم: "غريب من حديث سليمان التيمي عن الأعمش لم يروه عنه إلا ابنه معتمر، ورواه عمرو بن عاصم عن معتمر مثله".
(2) المسند (4/99) وسنن النسائي (7/81).
(3) ورواه أبو داود في سننه برقم (4270) وابن حبان في صحيحه برقم (51) والبيهقي في السنن الكبرى (8/21) من طريق خالد بن دهقان به.
وقول الحافظ ابن كثير، رحمه الله، هنا: "غريب جدا من هذا الوجه" لم يتبين لي سبب ذلك، على أن حديث أبي الدرداء أقوى من حديث معاوية، ففي إسناد حديث معاوية (أبو عون) لم يوثقه سوى ابن حبان، أما حديث أبي الدرداء فرجاله كلهم ثقات.
(4) في ر، أ: "مظلم".
(5) ورواه ابن عدي في الكامل (3/203) من طريق بقية به، ثم قال: "وهذه الأحاديث عن زيد عن داود عن نافع عن ابن عمر غير محفوظات، يرويه عن داود زيد بن جبيرة"، وزيد بن جبيرة منكر الحديث لا يتابع على حديثه.

فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تُعْرف المساءةُ في وجهه، فقال: "إن الله أبى على من قتل مؤمنا" ثلاثًا.
ورواه النسائي من حديث سليمان بن المغيرة (1)
والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها: أن القاتل له توبة فيما بينه وبين ربه عز وجل، فإن تاب وأناب وخشع وخضع، وعمل عملا صالحا، بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طلابته.
قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا] (2) . إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا [فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] (3) } [الفرقان: 68، 69] وهذا خبر لا يجوز نسخه. وحمله على المشركين، وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر، ويحتاج حمله إلى دليل، والله أعلم.
وقال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ [إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] (4) } [الزمر:53] وهذا عام في جميع الذنوب، من كفر وشرك، وشك ونفاق، وقتل وفسق، وغير ذلك: كل من تاب من أي ذلك تاب الله عليه.
وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء: 48]. فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها، لتقوية الرجاء، والله أعلم.
وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالما: هل لي من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟! ثم أرشده إلى بلد يَعْبد الله فيه، فهاجر إليه، فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة. كما ذكرناه غير مرة، إن (5) كان هذا في بني إسرائيل فَلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى؛ لأن الله وضع عنا الأغلال والآصار التي كانت عليهم، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة. فأما الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] (6) } فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف: هذا جزاؤه إن جازاه، وقد رواه ابن مردويه مرفوعا، من طريق محمد بن جامع العطار، عن العلاء بن ميمون العنبري، عن حجاج الأسود، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعا، ولكن لا يصح (7) ومعنى هذه الصيغة: أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه، وكذا كل وعيد على ذنب، لكن قد يكون كذلك مُعَارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه، على قولي أصحاب الموازنة أو الإحباط. وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، والله أعلم بالصواب. وبتقدير دخول
__________
(1) المسند (5/288) وسنن النسائي الكبرى برقم (8593).
(2) زيادة من ر، أ، وفي هـ "إلى قوله" .
(3) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(4) زيادة من ر،أ، وفي هـ: "الآية".
(5) في ر: "إذا".
(6) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(7) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3310) "مجمع البحرين" من طريق محمد بن جامع العطار عن العلاء بن ميمون به، وفي إسناده العلاء بن ميمون، ومحمد بن جامع العطار وهما ضعيفان.

القاتل إلى النار، أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا (1) ينجو به، فليس يخلد فيها أبدًا، بل الخلود هو المكث الطويل. وقد تواردت (2) الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى ذرة (3) من إيمان. وأما حديث معاوية: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا": "عسى" للترجي، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لا ينتفى وقوع ذلك في أحدهما، وهو القتل؛ لما ذكرنا من الأدلة. وأما من مات كافرا؛ فالنص أنه لا يغفر له البتة، وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه، والمغضوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة، ولا بد من أدائها إليهم في صحة التوبة، فإن تعذر ذلك فلا بد من الطلابة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع الطلابة وقوع المجازاة، وقد (4) يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها، ثم يفضل له أجر يدخل به (5) الجنة، أو يعوض الله المقتول من فضله بمايشاء، من قصور الجنة ونعيمها، ورفع درجته فيها ونحو ذلك، والله أعلم.
ثم للقتل العمد أحكام في الدنيا وأحكام في الآخرة (6) أما [في] (7) الدنيا فتسلط (8) أولياء المقتول عليه، قال الله تعالى: { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا] (9) } [الإسراء: 33] ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا، أو يعفوا، أو يأخذوا دية مغلظة أثلاثا: ثلاثون حِقَّة، وثلاثون جَذْعَة، وأربعون خَلِفَه (10) كما هو مقرر (11) في كتب الأحكام.
واختلف الأئمة: هل تجب عليه كفارة عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام؟ على أحد القولين، كما تقدم في كفارة الخطأ، على قولين: فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون: نعم، يجب (12) عليه؛ لأنه إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى. وطردوا هذا في كفارة اليمين الغَمُوس، واعتضدوا بقضاء الصلوات المتروكة عمدا، كما أجمعوا على ذلك في الخطأ.
قال أصحاب الإمام أحمد وآخرون: قتل العمد أعظم من أن يكفر، فلا كفارة فيه، وكذا اليمين الغموس، ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هاتين الصورتين وبين الصلاة المتروكة عمدا، فإنهم يقولون: بوجوب قضائها وإن تركت عمدًا.
وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا عارم بن الفضل، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن إبراهيم بن أبي عَبْلَة، عن الغَرِيف بن عياش، عن واثلة بن الأسقع قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا: إن صاحبا لنا قد أوجب. قال: "فليعتق رقبة، يفدي الله بكل عضو منها عضوا (13) منه من النار" (14) .
__________
(1) في ر: "صالح".
(2) في أ: "وفيه تواترات".
(3) في ر، أ: "مثقال".
(4) في ر: "إذ قد".
(5) في ر: "بها".
(6) في ر: "الأخرى".
(7) زيادة من ر، أ.
(8) في أ: "فيسلط".
(9) زيادة من ك، أ. وفي هـ: "الآية".
(10) في ر: "حقه"، وفي أ: "بياض".
(11) في ر: "مقدر".
(12) في ر، أ: "تجب".
(13) في ر: "عضو".
(14) المسند (4/107).

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)

وقال أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة، عن إبراهيم بن أبي عبلة عن الغَريف الديلمي قال: أتينا واثلة بن الأسقع الليثي فقلنا: حدثنا حديثا سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب، فقال: "أعتقوا عنه، يُعْتق الله بكل عضو منه عضوا (1) منه من النار".
وكذا رواه أبو داود والنسائي، من حديث إبراهيم بن أبي عبلة، به (2) ولفظ أبي داود عن الغريف الديلمي (3) قال: أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا: حدثنا حديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان. فغضب فقال: إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص، قلنا: إنا أردنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب -يعني النار-بالقتل، فقال: "أعتقوا عنه، يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار" (4) .
[قوله عز وجل] (5)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) }
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر، وحسين بن محمد، وخلف بن الوليد، قالوا: حدثنا إسرائيل، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال: مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنما له، فسلم عليهم فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا. فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا] (6) } إلى آخرها.
ورواه الترمذي في التفسير، عن عبد بن حميد، عن عبد العزيز بن أبي رِزْمَة، عن إسرائيل، به. وقال: هذا حديث حسن، وفي الباب عن أسامة بن زيد. ورواه الحاكم من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، به. ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ورواه ابن جرير من حديث عبيد الله بن موسى وعبد الرحيم بن سليمان، كلاهما عن إسرائيل، به (7) وقال في بعض كتبه غير التفسير -وقد رواه من طريق عبد الرحمن (8) فقط-: وهذا خبر عندنا
__________
(1) في ر: "عضو".
(2) المسند (3/491) وسنن أبي داود برقم (3964) وسنن النسائي الكبرى برقم (4892).
(3) في ر: "ابن الديلمي".
(4) سنن أبي داود برقم (3964).
(5) زيادة من ر.
(6) زيادة من ر، أ.
(7) المسند (1/229) من طريق يحيى بن بكير، و(1/272) من طريق حسين بن محمد وخلف بن الوليد، وسنن الترمذي برقم (3030) والمستدرك (2/235) وتفسير الطبري (9/76).
(8) في أ: "عبد الرحيم".

صحيح سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما، لعلل منها: أنه لا يعرف له مخرج عن سِمَاك إلا من هذا الوجه، ومنها: أن عكرمة في روايته عندهم نظر، ومنها: أن الذي أنزلت فيه الآية مختلف فيه، فقال بعضهم: أنزلت في مُحَلِّم (1) بن جَثَّامَةَ، وقال بعضهم: أسامة بن زيد. وقيل غير ذلك.
قلت: وهذا كلام غريب، وهو مردود من وجوه أحدها: أنه ثابت عن سِمَاك، حدث به عنه غير واحد من الكبار. الثاني: أن عكرمة محتج به في الصحيح. الثالث: أنه مروي من غير هذا الوجه عن ابن عباس، كما قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتُ مُؤْمِنًا } قال: قال ابن عباس: كان رجل في غُنَيْمَة له، فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم. فقتلوه وأخذوا غُنَيمته [فأنزل الله ذلك إلى قوله: { تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } تلك الغنيمة. قرأ ابن عباس(السلام) وقال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: لحق المسلمون رجلا في غُنَيْمَة فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غُنَيْمَته] (2) فنزلت: { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتُ مُؤْمِنًا }
ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من طريق سفيان بن عيينه، به (3)
وأما قصة محلم (4) بن جَثَّامة فقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثنى يزيد بن عبد الله بن قُسيط، عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد عن أبيه عبد الله ابن أبي حدرد، رضي الله عنه، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضَم، فخرجت في نفر من المسلمين، فيهم: أبو قتادة الحارث بن رِبْعي، ومحلم (5) بن جَثَّامة بن قيس، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضَم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي، على قَعُود له، معه مُتَيَّع ووَطْب من لبن، فلما مر بنا سلم علينا، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم (6) بن جثامة فقتله، بشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره مُتَيَّعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ] (7) خَبِيرًا. }
تفرد به أحمد (8)
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا جرير، عن ابن إسحاق، عن نافع؛ أن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحَلِّم (9) بن جَثَّامة مبعثا، فلقيهم عامر بن الأضبط، فحياهم بتحية الإسلام وكانت بينهم حسنة في الجاهلية، فرماه محلم (10) بسهم فقتله، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلم فيه عيينة والأقرع، فقال الأقرع: يا رسول الله، سن اليوم وغير غدا. فقال عيينة: لا والله، حتى تذوق نساؤه من الثُّكل ما ذاق نسائي. فجاء محلم (11) في بردين، فجلس بين يدي رسول الله
__________
(1) في ر، أ: "محكم".
(2) زيادة من أ.
(3) صحيح البخاري برقم (4591) وتفسير الطبري (9/75).
(4) في ر: "محكم".
(5) في ر: "محكم".
(6) في ر: "محكم".
(7) زيادة من ر، وفي هـ: "إلى قوله تعالى".
(8) المسند (6/11).
(9) في ر: "محكم".
(10) في ر: "محكم".
(11) في ر: "محكم".

صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا غَفَرَ الله لك". فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت له سابعة حتى مات، ودفنوه، فلفظته (1) الأرض، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: "إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم من جرمتكم" ثم طرحوه بين صدفي جبل (2) وألقوا عليه الحجارة، ونزلت: { يَا أَيُّهَا الَّذِيَن آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُم فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا } الآية (3) .
وقال البخاري: قال حبيب بن أبي عَمْرَة، عن سعيد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله (4) صلى الله عليه وسلم للمقداد: "إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه فقتلتَه، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل".
هكذا ذكر البخاري هذا الحديث معلقا مختصرا (5) وقد روي مطولا موصولا فقال الحافظ أبو بكر البزار:
حدثنا حماد (6) بن علي البغدادي، حدثنا جعفر بن سلمة، حدثنا أبو بكر بن علي (7) بن مُقَدَّم، حدثنا حبيب بن أبي عَمْرَة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فيها المقداد بن الأسود، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. وأهوى (8) إليه المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله؟ والله لأذكرَن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد. فقال: "ادعوا لي المقداد. يا مقداد، أقتلت رجلا يقول: لا إله إلا الله، فكيف لك بلا إله إلا الله غدا؟ ". قال: فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: "كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه، فقتلْتَه، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل" (9) .
وقوله: { فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } أي: خير مما رغبتم فيه من عرض الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام، وأظهر إليكم (10) الإيمان، فتغافلتم عنه، واتهمتموه بالمصانعة والتقية؛ لتبتغوا عَرَضَ الحياة الدنيا، فما عند الله من المغانم الحلال خير لكم من مال هذا.
وقوله: { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي: قد كنتم من قبل هذه (11) الحال كهذا (12) الذي
__________
(1) في أ: "ونفضته".
(2) في ر، أ: "ثم طرحوه في جبل".
(3) تفسير الطبري (9/72).
(4) في د، أ: "النبي".
(5) صحيح البخاري برقم (6866).
(6) في ر، أ: "حمدان".
(7) في أ: "عامر".
(8) في د: "فأهوى".
(9) مسند البزار برقم (2202) "كشف الأستار" وقال البزار: "لا نعلمه يروي عن ابن عباس إلا من هذا الوجه ولا له عنه إلا هذا الطريق" وقال الهيثمي في المجمع (7/8): "إسناده جيد".
(10) في ر: "لكم".
(11) في أ: "هذا".
(12) في ر: "لهذا".

يُسرّ إيمانه ويخفيه من قومه، كما تقدم في الحديث المرفوع آنفا، وكما قال تعالى: { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ [تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ] (1) } الآية [الأنفال: 26] ، وهذا هو مذهب سعيد بن جبير، كما رواه الثوري، عن حبيب بن أبي عَمْرَة، عن سعيد بن جبير في قوله: { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } تخفون إيمانكم في المشركين.
ورواه عبد الرزاق، عن ابن جُرَيْج، أخبرني عبد الله بن كثير، عن سعيد بن جبير في قوله: { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } تستخفون بإيمانكم، كما استخفى (2) هذا الراعي بإيمانه.
وهذا اختيار ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم: وذُكر عن قيس، عن سالم، عن سعيد بن جبير قوله: { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } [تورعون عن مثل هذا، وقال الثوري عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق: { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } ] (3) لم تكونوا مؤمنين { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [فَتَبَيَّنُوا } وقال السدي: { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } ] (4) أي: تاب عليكم، فحلف أسامة لا يقتل (5) رجلا يقول: "لا إله إلا الله" بعد ذلك الرجل، وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
وقوله: { فَتَبَيَّنُوا } تأكيد (6) لما تقدم. وقوله: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } قال سعيد بن جبير: هذا تهديد ووعيد.
__________
(1) زيادة من ر، أ.
(2) في أ: "يستخفى"
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في ر: "لا يقاتل".
(6) في ر: "تأكيدا".

لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)

{ لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) }
قال البخاري: حدثنا حفص بن عمر (1) حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء قال : لما نزلت: { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا فكتبها، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته فأنزل الله [عز وجل] (2) { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ }
حدثنا محمد بن يوسف، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: لما نزلت: { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ادع فلانا " فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف فقال: " اكتب: لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " وخَلْف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله، أنا ضرير فنزلت مكانها: { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ } (3)
وقال البخاري أيضا: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني إبراهيم بن سعد، عن صالح بن
__________
(1) في أ: "عمرو".
(2) زيادة من ر، أ.
(3) صحيح البخاري برقم (4593) ورقم (4594).

كَيْسان، عن ابن شهاب، حدثني سهل بن سعد الساعدي: أنه رأى مَروان بن الحكم في المسجد، قال: فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عَلَيّ: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله ". فجاءه ابن أم مكتوم، وهو يمليها عليَّ، قال: يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت -وكان أعمى-فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفَخِذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن تُرَض (1) فخذي، ثم سري عنه، فأنزل الله: { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ }
انفرد به البخاري (2) دون مسلم، وقد روي من وجه آخر عن زيد فقال الإمام أحمد:
حدثنا سليمان بن داود، أنبأنا عبد الرحمن بن (3) أبي الزناد، عن خارجة بن زيد قال: قال زيد بن ثابت: إني قاعد إلى جنب رسول الله (4) صلى الله عليه وسلم، إذ أُوحِي إليه، قال: وغشيته السكينة، قال: فوقع (5) فخذه على فخذي حين غشيته السكينة. قال زيد: فلا والله ما وجدت شيئًا قط أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سري عنه فقال: " اكتب يا زيد ". فأخذت كتفا فقال: "اكتب: { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ } إلى قوله (6) { أَجْرًا عَظِيمًا } فكتبت (7) ذاك في كتف، فقام حين سمعها ابن أم مكتوم -وكان رجلا أعمى -فقام حين سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله، وكيف بمن لا يستطيع الجهاد ممن هو أعمى، وأشباه ذلك؟ قال زيد: فوالله ما مضى (8) كلامه -أو ما هو إلا أن قضى كلامه -حتى غشيت النبي صلى الله عليه وسلم السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عنه فقال: " اقرأ ". فقرأت عليه: " لا يستوِي القاعدون من الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ " (9) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } قال زيد: فألحقتها، فوالله لكأني أنظر إلى مُلْحَقها عند صدع كان في الكتف.
ورواه أبو داود، عن سعيد بن منصور، عن عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، به نحوه (10) .
وقال عبد الرزاق: أنبأنا (11) معمر، عن الزهري، عن قَبيصة بن (12) ذُؤَيب، عن زيد بن ثابت، قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " فجاء (13) عبد الله ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي من الزمانة ما قد ترى، قد ذهب بصري. قال زيد: فثقلت فَخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، حتى خشيت أن ترضها (14) ثم سُرِّي عنه، ثم قال: " اكتب: { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }
__________
(1) في ر: "يرض".
(2) صحيح البخاري برقم (4592).
(3) في ر، أ: "عن".
(4) في أ: "النبي".
(5) في أ: "فرفع".
(6) في ر، أ: "الآية كلها إلى قوله".
(7) في أ: "فكتب".
(8) في ر، أ: "قضى".
(9) في ر: "والمجاهدين".
(10) المسند (5/191) وسنن أبي داود برقم (2507).
(11) في أ: "أخبرنا".
(12) في ر: "عن".
(13) في أ: "فجاءه".
(14) في أ: "يرضها".

ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير (1) وقال عبد الرزاق: أخبرني ابن جُرَيْج، أخبرني عبد الكريم -هو ابن مالك الجَزري (2) -أن مِقْسما مولى عبد الله بن الحارث -أخبره أن ابن عباس أخبره: لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر، والخارجون إلى بدر.
انفرد به البخاري (3) دون مسلم. وقد رواه الترمذي من طريق حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عبد الكريم، عن مِقْسم، عن ابن عباس قال: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضر عن بدر، والخارجون إلى بدر، لما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم: إنا أعميان يا رسول الله فهل لنا رخصة ؟ فنزلت: { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة، فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر { وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } درجات منه على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر.
هذا لفظ الترمذي، ثم قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. (4)
فقوله [تعالى] (5) { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } كان مطلقا، فلما نزل بوحي سريع: { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } صار (6) ذلك مخرجا لذوي الأعذار (7) المبيحة لترك الجهاد -من الْعَمَى والعَرَج والمرض-عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين، قال ابن عباس : { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } وكذا ينبغي أن يكون لما ثبت في الصحيح عند البخاري من طريق زهير بن معاوية، عن حُمَيْد، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن بالمدينة أقوامًا ما سِرْتُم من مَسِير، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه " قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله ؟ قال: " نعم حبسهم العذر ".
وهكذا رواه الإمام أحمد عن محمد بن أبي عَدِيّ عن حُمَيد، عن أنس، به (8) وعلقه البخاري مجزوما. ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن موسى بن أنس بن مالك، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرًا، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم فيه ". قالوا: يا رسول الله، وكيف (9) يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: " حبسهم العذر ".
لفظ أبي داود (10) وفي هذا المعنى قال الشاعر :
يا راحلين إلى البَيت العتيق لَقَدْ ... سرْتُم جُسُوما وسرْنا نحنُ أرواحا ...
إنَّا أقَمنا على عُذْرٍ وعَنْ قَدَرٍ ... ومَنْ أقامَ على عذْرٍ فقد راحا ...
__________
(1) تفسير عبد الرزاق (1/164) وتفسير الطبري (9/91).
(2) في أ: "الجهزي".
(3) تفسير عبد الرزاق (1/165) وصحيح البخاري برقم (4595).
(4) سنن الترمذي برقم (3032).
(5) زيادة من ر، أ.
(6) في أ: "كان".
(7) في أ: "الأضرار".
(8) صحيح البخاري برقم (2838) والمسند (3/103).
(9) في ر: "قالوا: وكيف يا رسول الله".
(10) صحيح البخاري برقم (2839) وسنن أبي داود برقم (2508).

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)

وقوله: { وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } أي: الجنة والجزاء الجزيل. وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين بل هو فرض على الكفاية.
ثم قال تعالى: { وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } ثم أخبر تعالى بما فضلهم به من الدرجات، في غرف الجِنَان (1) العاليات، ومغفرة الذنوب والزلات، وحلول الرحمة والبركات، إحسانا منه وتكريما؛ ولهذا قال تعالى: { دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
وقد ثبت في الصحيحين (2) عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن (3) في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض".
وقال الأعمش، عن عمرو بن مُرّة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من بلغ بسهم فله أجره درجة " فقال رجل: يا رسول الله، وما الدرجة ؟ فقال: " أما إنها ليست بعتبة أمك، ما بين الدرجتين مائة عام " (4) .
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) }
قال البخاري : حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا حَيْوَة وغيره قالا حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود قال: قطع على (5) أهل المدينة بعْثٌ، فاكتتبت فيه، فلقيتُ عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فَيُرمى (6) به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب عنقه فيقتل، فأنزل الله [عز وجل] (7) { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } رواه الليث عن أبي الأسود (8) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرَّمَادِي، حدثنا أبو أحمد -يعني الزبيري-حدثنا
__________
(1) في أ: "الجنات".
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (1884)، وهو عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه لا من حديث أبي سعيد الخدري برقم (2790).
(3) في أ: "إنه".
(4) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره وابن مردويه كما في الدر المنثور (2/645).
(5) في أ: "من".
(6) في د، ر أ: "يرمى".
(7) زيادة من ر.
(8) صحيح البخاري برقم (4596).

محمد بن شَرِيك المكي، حدثنا عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم بفعل بعض (1) قال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين (2) وأكرهوا، فاستَغْفَروا لهم، فنزلت: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [قَالُوا فِيمَ كُنْتُم } إلى آخر] (3) الآية، قال: فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية: لا عذر لهم. قال: فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت هذه (4) الآية: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ } الآية (5) [البقرة: 8] .
وقال عكرمة : نزلت هذه الآية في شباب من قريش، كانوا تكلموا بالإسلام بمكة، منهم: علي بن أمية بن خَلَف، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو العاص بن منبه (6) بن الحجاج، والحارث بن زَمْعة.
وقال الضحاك: نزلت في ناس (7) من المنافقين، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وخرجوا مع المشركين يوم بدر، فأصيبوا فيمن أصيب فنزلت هذه (8) الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع، وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } أي: بترك الهجرة { قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ } أي: لم مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة؟ { قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ } أي: لا نقدر على الخروج من البلد، ولا الذهاب في الأرض { قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً [فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] (9) } .
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن داود بن سفيان، حدثني يحيى بن حسان، أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود، حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، حدثني خبيب (10) بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة، عن سمرة بن جندب: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله " (11) .
وقال السدي : لما أسر العباس وَعقِيل ونَوْفَل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: " افد نفسك وابن أخيك " قال: يا رسول الله، ألم نصل قبلتك، ونشهد شهادتك؟ قال: " يا عباس، إنكم خاصمتم فخُصمتم". ثم تلا عليه هذه الآية: { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً [فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] (12) } رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: { إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ [مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا (13)
__________
(1) في ر، أ: "بنبل".
(2) في ر: "مسلمون".
(3) زيادة من ر، أ.
(4) في أ: "فيهم".
(5) ورواه الطبراني في تفسيره (9/102) حدثنا أحمد بن منصور الرمادي به.
(6) في د: "ابن منصور".
(7) في د، ر: "أناس".
(8) في أ: "فهذه".
(9) زيادة من د، ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(10) في ر، أ: "حبيب".
(11) سنن أبي داود برقم (2787).
(12) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(13) زيادة من د، ر، أ، وفي هـ: "إلى آخر الآية".

] } هذا عذر من الله تعالى لهؤلاء في ترك الهجرة، وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق، ولهذا قال: { لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا } قال مجاهد وعكرمة، والسدي: يعني طريقا.
وقوله تعالى: { فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ } أي: يتجاوز عنهم بترك (1) الهجرة، وعسى من الله موجبة { وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (2) } .
قال البخاري : حدثنا أبو نُعَيْم، حدثنا شَيْبَان، عن يَحْيَى، عن أبي سَلَمَة، عن أبي هريرة قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال: " سمع الله لمن حمده " ثم قال قبل أن يسجد " اللهم نَج (3) عياش بن أبي ربيعة، اللهم نج (4) سلمة بن هشام، اللهم نج (5) الوليد بن الوليد، اللهم نَج (6) المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مُضَر، اللهم اجعلها سنين كسِنِيِّ يوسف". (7)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو معمر المقري (8) حدثنا عبد الوارث، حدثنا علي بن زيد، عن سعيد بن المسَّيب، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده بعدما سلم، وهو مستقبل القبلة فقال: " اللهم خلص الوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة، وسَلَمة بن هشام، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا من أيدي الكفار" (9) .
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا حجاج، حدثنا حماد، عن علي بن زيد عن عبد الله (10) -أو إبراهيم بن عبد الله القرشي-عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دُبُرِ صلاة الظهر: " اللهم خَلِّص الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وضعفة المسلمين من أيدي المشركين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " .
ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه كما تقدم (11) .
وقال عبد الرزاق: أنبأنا (12) ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان (13)
وقال البخاري : أنبأنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن ابن عباس: { إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ } قال : كانت أمي ممن عَذَر الله عز وجل (14) .
وقوله: { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً } هذا تحريض على
__________
(1) في د، أ: "بتركهم".
(2) في ر: "عفوا غفورا" وهو خطأ.
(3) في ر، أ: "أنج".
(4) في ر، أ: "أنج".
(5) في ر، أ: "أنج".
(6) في ر، أ: "أنج".
(7) صحيح البخاري برقم (4598).
(8) في ر: "المنقري".
(9) وفي إسناده علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة ضعيف لا يحتج به، وقد اختلف عليه فيه، كما سيأتي في رواية الطبري.
(10) في ر، أ: "عبيد الله".
(11) تفسير الطبري (9/110) وإسناده ضعيف.
(12) في أ: "أخبرنا".
(13) تفسير عبد الرزاق (1/166).
(14) صحيح البخاري برقم (4597).

الهجرة، وترغيب في مفارقة المشركين، وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه، و "المراغم" مصدر، تقول العرب: راغم فلان قومه مراغما ومراغمة، قال نابغة (1) بني جعدة (2) .
كَطَوْدٍ يُلاذُ بأرْكَانِه ... عَزيز المُرَاغَم وَالْمَهْربِ ...
وقال ابن عباس : "المراغَم": التحول من أرض إلى أرض . وكذا رُوي عن الضحاك والربيع بن أنس، الثوري، وقال مجاهد : { مُرَاغَمًا كَثِيرًا } يعني: متزحزحا عما يكره. وقال سفيان بن عيينة: { مُرَاغَمًا كَثِيرًا } يعني: بروجا.
والظاهر -والله أعلم-أنه (3) التمنّع الذي يُتَحصَّن به، ويراغم به الأعداء.
قوله: { وَسَعَةً } يعني: الرزق. قاله غير واحد، منهم: قتادة، حيث قال في قوله: { يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً } إي، والله، من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى.
وقوله: { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } أي: ومن خرج من منزله بنية الهجرة، فمات في أثناء الطريق، فقد حصل له من (4) الله ثواب من هاجر، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من الصحاح والمسانيد والسنن، من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري (5) عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وَقّاص الليثي، عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" (6) .
وهذا عام في الهجرة وفي كل الأعمال. ومنه الحديث الثابت في الصحيحين (7) في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نَفْسًا. ثم أكمل بذلك العابد المائة، ثم سأل عالما: هل له من توبة؟ فقال: ومن يَحُول بينك وبين التوبة ؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد آخر يعبد الله فيه، فلما ارتحل من بلده مهاجرا إلى البلد الآخر، أدركه الموت في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقال هؤلاء: إنه جاء تائبا. وقال هؤلاء: إنه لم يَصِلْ بَعْدُ. فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما (8) كان أقرب كان (9) منها، فأمر الله هذه أن يُقرب (10) من هذه، وهذه أن تبعد (11) فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بِشِبْر، فقبضته ملائكة الرحمة. وفي رواية: أنه لما جاءه
__________
(1) في أ: "نابغة في بني جعدة.
(2) البيت في تفسير الطبري (10/112) واللسان مادة (رغم).
(3) في أ: "أن المراغم هو".
(4) في أ: "عند".
(5) في أ: "القطان".
(6) صحيح البخاري برقم (1، 54) وصحيح مسلم برقم (1907) وسنن أبي داود برقم (2201) وسن الترمذي برقم (1647)، وسنن النسائي (1/59) وسنن ابن ماجه برقم (4227) ومسند أحمد (1/25) ومسند الحميدي (1/16) ومسند الطيالسي (2/27) "منحة المعبود".
(7) صحيح البخاري برقم (3470) وصحيح مسلم برقم (2766).
(8) في د، ر: "أيها"، وفي أ: "أيهما".
(9) في د، ر: "فهو".
(10) في د: "تقترب"، وفي ر: "تقرب".
(11) في د: "تبتعد".

الموت ناء بصدره إلى الأرض (1) التي هاجر إليها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن محمد بن عبد الله بن عَتِيك، عن أبيه عبد الله بن عَتِيك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من خرج من بيته مهاجرا (2) في سبيل الله-ثم قال بأصابعه هؤلاء الثلاث: الوسطى والسبابة والإبهام، فجمعهن وقال: وأين المجاهدون-؟ فخرَّ عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله، أو لدغته دابة فمات، فقد وقع أجره على الله أو مات حَتْف أنفه، فقد وقع أجره على الله -والله! إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم-ومن قتل قَعْصًا (3) فقد استوجب المآب (4) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الحزامي (5) حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي (6) عن المنذر بن عبد الله، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه؛ أن الزبير بن العوام قال : هاجر خالد بن حِزَام (7) إلى أرض الحبشة، فنهشته حية في الطريق فمات، فنزلت فيه: { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } قال الزبير : فكنت أتوقعه وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة، فما أحزنني شيء حزن وفاته حين بلغني؛ لأنه قَلّ أحد ممن هاجر من قريش إلا معه بعض أهله، أو ذوي رحمه، ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى، ولا أرجو غيره.
وهذا الأثر غريب جدا (8) فإن هذه القصة مكية، ونزول هذه الآية مدنية، فلعله أراد أنها أنزلت تعم حكمه مع غيره، وإن لم يكن ذلك سبب النزول، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا سليمان بن داود مولى عبد الله بن جعفر، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا عبد الرحمن (9) بن سليمان، عن الأشعث (10) -هو ابن سَوَّار-عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج ضَمْرَةُ بن جُنْدُب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] (11) } (12) .
وحدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رَجَاء، أنبأنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير عن أبي ضمرة بن العيص الزُّرَقِي، الذي كان مصاب البصر، وكان بمكة فلما نزلت: { إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } فقلت: إني لغني، وإني لذو حيلة، [قال] (13) فتجهز يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأدركه الموت بالتَّنْعِيم، فنزلت هذه الآية: { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ [فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] (14) }
__________
(1) في د: "البلد".
(2) في أ : "مجاهدا".
(3) في د: "نفسا"، وفي ر: "بعضا"، وفي أ: "بعض".
(4) المسند (4/36)، وقال الهيثمي في المجمع (5/260: "فيه محمد بن إسحاق وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات".
(5) في أ: "الخزامي".
(6) في أ: "الخزامي".
(7) في أ: "ابن حرام".
(8) ووجه غرابته أيضا كما قال ابن حجر: أن الذي نزلت فيه هذه الآية جندب بن ضمرة، وسيأتي حديثه عقب هذا.
(9) في ر: "عبد الرحيم".
(10) في ر: "أشعث".
(11) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(12) ورواه أبو يعلى في مسنده (5/81) والطبراني في المعجم الكبير (11/272 ) من طريق أشعث بن سوار به. قال الهيثمي بعد أن عزاه لأبي يعلى وحده: "رجاله ثقات، لكن في إسناده أشعث بن سوار وهو ضعيف".
(13) زيادة من ر.
(14) تفسير ابن أبي حاتم (ق176) وقد روي هذا الأثر من طرق أخرى مرسلة، فرواه سعيد بن منصور في سننه برقم (685) قال: أخبرنا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير به مرسلا، ورواه الطبري في تفسيره (9/118) من طريق قيس بن الربيع عن سالم عن سعيد بن جبير به مرسلا.

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)

قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن زياد سَبَلانُ، حدثنا أبو معاوية، حدثنا محمد بن إسحاق، عن حميد بن أبي حميد، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج حاجا فمات، كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمرا فمات، كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازيا في سبيل الله فمات، كتب له أجر الغازي (1) إلى يوم القيامة".
وهذا حديث غريب من هذا الوجه (2) .
{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) }
يقول تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ } أي: سافرتم في البلاد، كما قال تعالى: { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ [وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ] (3) } الآية [المزمل: 20].
وقوله: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } أي: تخَفّفوا فيها، إما من كميتها بأن تجعل (4) الرباعية ثنائية، كما فهمه الجمهور من هذه الآية، واستدلّوا بها على قصر الصلاة في السفر، على اختلافهم في ذلك: فمن قائل لا بد أن يكون سفر طاعة، من جهاد، أو حج، أو عمرة، أو طلب علم، أو زيارة، وغير ذلك، كما هو مروي عن ابن عمر وعطاء، ويحكى عن مالك في رواية عنه نحوه، لظاهر قوله: { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا }
ومن قائل (5) لا يشترط سفر القربة، بل لا بد أن يكون مباحا، لقوله: { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ [فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] (6) } [المائدة: 3] أباح له تناول الميتة مع اضطراره إلا بشرط ألا يكون عاصيا بسفره. وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة.
وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا وَكِيع، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، إني رجل تاجر، أختلف إلى البحرين "فأمره أن يصلي ركعتين" وهذا مرسل (7) .
ومن قائل: يكفي مطلق السفر، سواء كان مباحا أو محظورا، حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل، تَرَخَّص، لوجود مطلق السفر. وهذا قول أبي حنيفة، رحمه الله، والثوري وداود،
__________
(1) في ر: "المغازي".
(2) مسند أبي يعلى (1/238) وفي إسناده جميل بن أبي ميمونة لم يوثقه سوى ابن حبان، وابن إسحاق مدلس وقد عنعن.
(3) زيادة من ر، أ.
(4) في ر: "ترجع".
(5) في ر: "ومن قال".
(6) زيادة من ر، أ.
(7) المصنف (2/448).

لعموم الآية وخالفهم الجمهور. وأما قوله: { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقد يكون هذا خُرِّج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو في سرية خاصة، وسائر الأحيان حرب الإسلام وأهله، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له، كقوله (1) { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } [النور: 33]، وكقوله: (2) { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ } الآية [النساء: 23] .
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن إدريس، حدثنا ابن جُرَيْج، عن ابن أبي عمار، عن عبد الله بن بابَيْه، عن يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب قلت: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } وقد أمَّن الله الناس (3) ؟ فقال لي عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته".
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن، من حديث ابن جريج، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار، به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال علي بن المديني: هذا حديث صحيح من حديث عمر، ولا يحفظ إلا من هذا الوجه، ورجاله معروفون (4) وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مالك بن مِغْول، عن أبي حنظلة الحذَّاء قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال: ركعتان. فقلت: أين قوله تعالى: { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } ونحن آمنون؟ فقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) .
وقال ابن مَرْدُويه: حدثنا عبد الله بن محمد بن عيسى، حدثنا علي بن محمد بن سعيد، حدثنا مِنْجَاب، حدثنا شُرَيْك، عن قيس بن وهب، عن أبي الودَّاك: سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر؟ فقال: هي رخصة، نزلت من السماء، فإن شئتم فردوها.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا ابن عَوْن، عن ابن سِيرِين، عن ابن عباس قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، ونحن آمنون، لا نخاف بينهما، ركعتين ركعتين.
وكذا رواه النسائي، عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد الحذَّاء (6) عن عبد الله بن عون، به (7) قال أبو عمر بن عبد البر: وهكذا رواه أيوب، وهشام، ويزيد بن إبراهيم التُّسْتَرِي، عن محمد بن سيرين، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله.
قلت: وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا، عن قتيبة، عن هُشَيم، عن منصور بن زَاذَان، عن
__________
(1) في ر: "لقوله".
(2) في ر: "لقوله".
(3) في أ: "البأس".
(4) المسند (1/25) وصحيح مسلم برقم (686) وسنن أبي داود برقم (1199) وسنن النسائي (3/116) وسنن ابن ماجه برقم (1065).
(5) المصنف (2/447) ورواه أحمد في مسنده (2/31) عن طريق يزيد بن إسماعيل عن أبي حنظلة عن ابن عمر رضي الله عنه.
(6) في أ: "ابن الحارث".
(7) المصنف (2/448) وسنن النسائي (3/117).

محمد بن سيرين، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة، لا يخاف إلا ربَّ العالمين، فصلى ركعتين، ثم قال الترمذي: صحيح (1) .
وقال البخاري: حدثنا أبو مَعْمَر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال: سمعت أنسا يقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة. قلت: أقمتم بمكة شيئا؟ قال: أقمنا بها عَشْرًا.
وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي، به (2) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا سُفْيان، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن وهب الخُزَاعي قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى -أكثر ما كان الناس وآمنه -ركعتين.
ورواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق، عن أبي إسحاق السَّبِيعي، عنه، به (3) ولفظ البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، أنبأنا أبو إسحاق، سمعت حارثة بن وهب قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين.
وقال البخاري: حدثنا مُسَدَّد، حدثنا يحيى، حدثنا عبيد الله، أخبرنا نافع، عن عبد الله بن عمر قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، وأبي بكر وعمر، ومع عثمان صدرا من إمارته، ثم أتمها.
وكذا رواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان [الأنصاري] (4) به (5) .
وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا عبد الواحد، عن الأعمش، حدثنا إبراهيم، سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول: صلى بنا عثمان بن عفان، رضي الله عنه، بمنى أربع ركعات، فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع، ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي مع (6) أربع ركعات ركعتان متقبلتان.
ورواه البخاري أيضا من حديث الثوري، عن الأعمش، به. وأخرجه مسلم من طرق، عنه. منها عن قتيبة كما تقدم (7) .
فهذه الأحاديث دالة صريحا على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف؛ ولهذا قال من قال من العلماء: إن المراد من القصر هاهنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية. وهو قول مجاهد، والضحاك، والسدي كما سيأتي بيانه، واعتضدوا أيضا بما رواه الإمام مالك، عن صالح بن كيسان، عن عروة بن
__________
(1) سنن الترمذي برقم (547) وسنن النسائي (3/117).
(2) صحيح البخاري برقم (1081) وصحيح مسلم برقم (693) وسنن أبي داود برقم (1233) وسنن الترمذي برقم (548) وسنن النسائي (3/118) وسنن ابن ماجه برقم (1077).
(3) المسند (4/306) وصحيح البخاري برقم (1083) وصحيح مسلم برقم (696) وسنن أبي داود برقم (1965) وسنن الترمذي برقم (882) وسنن النسائي (3/120).
(4) زيادة من أ.
(5) صحيح البخاري برقم (1082) وصحيح مسلم برقم (694) وسنن النسائي (3/121).
(6) في ر، أ: "من".
(7) صحيح البخاري برقم (1084) و ( 1657) وصحيح مسلم برقم (695).

الزبير، عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر، فَأقرَّت صلاة السفر؛ وَزِيد في صلاة الحضر.
وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنَّيسي، ومسلم عن يحيى بن يحيى، وأبو داود عن القَعْنَبي، والنَّسائي عن قتيبةَ، أربعتهم عن مالك، به (1) .
قالوا: فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين، فكيف يكون المراد بالقصر هاهنا قصر الكمية؛ لأن ما هو الأصل لا يقال فيه: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } ؟
وأصرح من ذلك دلالة على هذا، ما رواه الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان -وعبد الرحمن حدثنا سفيان -عن زُبَيْد اليامي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر، رضي الله عنه، قال: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى (2) ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
وهكذا رواه النسائي وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، من طرق عن زُبَيْد اليامي (3) به (4) .
وهذا إسناد على شرط مسلم. وقد حَكَم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى، عن عمر. وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث وفي غيره، وهو الصواب إن شاء الله. وإن كان يحيى بن مَعين، وأبو حاتم، والنسائي قد قالوا: إنه لم يسمع منه. وعلى هذا أيضا، فقد وقع في بعض طرق أبي يَعْلى الموصِلي، من طريق الثوري، عن زُبَيد، عن عبد الرحمن [بن أبي ليلى] (5) عن الثقة، عن عمر فذكره، وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد، عن زبيد، عن عبد الرحمن، عن كعب بن عُجْرَة، عن عمر، به. ، فالله أعلم (6) .
وقد روى مسلم في صحيحه، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث أبي عَوَانة الوضاح بن عبد الله اليَشْكُري -زاد مسلم والنسائي: وأيوب بن عائد -كلاهما عن بُكَير بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة، [هكذا رواه وكيع وروح بن عبادة عن أسامة بن زيد الليثي: حدثني الحسن بن مسلم بن يَسَاف عن طاوس عن ابن عباس قال: فرض الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين] (7) فكما يصلى في الحضر قبلها وبعدها، فكذلك يصلى في السفر (8) .
ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد، عن طاوس نفسه (9) .
__________
(1) الموطأ في قصر الصلاة في السفر برقم (8)، (1/146) وصحيح البخاري برقم (350) وصحيح مسلم برقم (685) وسنن أبي داود برقم (1198) وسنن النسائي (1/225).
(2) في أ: "الضحى".
(3) في ر: "الأيامى".
(4) المسند (1/37) وسنن النسائي (3/111) وسنن ابن ماجه برقم (1063) وصحيح ابن حبان (4/197).
(5) زيادة من أ.
(6) انظر صحيح مسلم المقدمة (1/34) والمراسيل لابن أبي حاتم (125) وتاريخ الدروي عن يحيى بن معين (2/356). والصحيح أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من عمر، بل قال ابن معين في رواية ابن أبي شيبة عنه: لم يسمع من عمر ولا عثمان وسمع من علي. وانظر: تهذيب الكمال للمزي (17/376) وحاشية الدكتور بشار عواد عليه.
(7) زيادة من أ.
(8) صحيح مسلم برقم (687) وسنن أبي داود برقم (1247) وسنن النسائي (3/169) وسنن ابن ماجه برقم (1068).
(9) سنن ابن ماجه برقم (1072).

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49