الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)

وما جعل لكم من غير ذلك أعظم منه وأكثر (1) ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشَعَر، ألا ترى إلى قوله: { وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ } [النور : 43] ، لعجبهم من ذلك، وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر (2) ، ولكنهم كانوا لا يعرفونه؟ ألا ترى إلى قوله تعالى: { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } وما بقي من البرد أعظم وأكثر (3) ولكنهم كانوا أصحاب حر.
وقوله { فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي: بعد هذا البيان وهذا الامتنان، فلا عليك منهم، { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ } وقد أديته إليهم.
{ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } أي: يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك، وهو المتفضل به عليهم، ومع هذا ينكرون ذلك، ويعبدون معه غيره، ويسندون النصر والرزق (4) إلى غيره، { وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } -كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن مجاهد؛ أن أعرابيًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } قال الأعرابي: نعم. قال: { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ } قال الأعرابي: نعم. ثم قرأ عليه، كل ذلك يقول الأعرابي: نعم، حتى بلغ: { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } فولى الأعرابي، فأنزل الله: { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } (5) .
{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) }
__________
(1) في ت، ف، أ: "أكبر".
(2) في ف: "وأكبر".
(3) في ف: "وأكبر".
(4) في ف: "الرزق والنصر".
(5) أورده السيوطي في الدر المنثور (5/ 155) وعزاه لابن أبي حاتم وهو مرسل.

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)

{ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) }
يخبر تعالى عن شأن المشركين يوم معادهم في الدار الآخرة، وأنه يبعث من كل أمة شهيدا، وهو نبيها، يشهد عليها بما أجابته فيما بلغها عن الله تعالى، { ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي: في الاعتذار؛ لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه، كما قال: { هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [المرسلات : 35 ، 36] . ولهذا قال: { وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي: أشركوا { الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ } أي: لا يفتر عنهم ساعة واحدة، { وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي: [و] (1) لا يؤخر عنهم، بل يأخذهم سريعا من الموقف بلا حساب، فإنه إذا جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف
__________
(1) زيادة من ت.

ملك، فيشرف عُنُق منها على الخلائق، وتزفر زفرة لا (1) يبقى أحد إلا جثا لركبتيه، فتقول: إني وكلت بكل جبار عنيد، الذي جعل مع الله إلهًا آخر، وبكذا وكذا (2) وتذكر (3) أصنافا من الناس، كما جاء في الحديث. ثم تنطوي (4) عليهم وتتلقطهم من الموقف كما يتلقط الطائر الحب قال الله تعالى: { إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } [الفرقان : 12 -14] ، وقال تعالى: { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } [الكهف : 53] . وقال تعالى: { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } [الأنبياء : 39 ، 40] .
ثم أخبر تعالى عن تبرئ آلهتهم منهم أحوج ما يكونون إليها، فقال: { وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ } أي: الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا، { قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون } أي: قالت لهم الآلهة: كذبتم، ما نحن أمرناكم (5) بعبادتنا. كما قال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [الأحقاف : 5، 6] وقال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [مريم : 81 ، 82]. وقال الخليل عليه الصلاة والسلام: { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (6) يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [العنكبوت : 25] وقال تعالى: { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ (7) فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا } [الكهف : 52] والآيات في هذا كثيرة.
وقوله: { وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ } -قال قتادة، وعكرمة: ذلوا واستسلموا يومئذ، أي: استسلموا لله جميعهم، فلا أحد إلا سامع مطيع، كما قال: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [مريم : 38] أي: ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذ! وقال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة : 12]، وقال: { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } [طه : 111] أي: خضعت وذلت واستكانت وأنابت واستسلمت.
{ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي: ذهب واضمحل ما كانوا يعبدونه افتراء على الله فلا ناصر لهم ولا معين ولا مجيز.
ثم قال تعالى: { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } أي: عذابا على كفرهم، وعذابًا على صدهم الناس عن اتباع الحق، كما قال تعالى: { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } [الأنعام : 26] أي: ينهون الناس، عن اتباعه، ويبتعدون هم منه أيضًا { وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [الأنعام : 26]
__________
(1) في ف: "فلا".
(2) في ت، ف: "وبكذا".
(3) في ف: "ويذكر".
(4) في ف: "ينطوي".
(5) في ف: "نحن ما أمرناكم".
(6) في ت: "وقال الخليل ويوم"، وفي ف: "وقال الخليل عليه السلام ويوم".
(7) في ت، ف، أ، هـ: "وقيل ادعوا شركاءكم" والصواب ما أثبتناه.

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم، كما قال [الله] (1) تعالى: { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ } [الأعراف : 38].
وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سُرَيْح بن يونس، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن مُرَّة، عن مسروق، عن عبد الله في قول الله: { زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ } قال: زيدوا عقارب أنيابها كالنخل الطوال (2) .
وحدثنا سريج بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سليمان، حدثنا الأعمش، عن الحسن، عن ابن عباس أنه قال: { زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ } قال: هي خمسة أنهار
فوق (3) العرش يعذبون ببعضها بالليل وببعضها بالنهار (4) .
{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) }
يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم: { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ } (5) يعني أمته.
أي: اذكر ذلك اليوم وهوله وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع. وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة "النساء" فلما وصل إلى قوله تعالى: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } [النساء : 41] . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسبك". قال ابن مسعود، رضي الله عنه: فالتفت فإذا عيناه تذرفان (6) .
وقوله: { وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } قال ابن مسعود: [و] (7) قد بين لنا في هذا القرآن كل علم، وكل شيء.
وقال مجاهد: كل حلال وحرام.
وقول ابن مسعود: أعم وأشمل؛ فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي، وحكم كل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون (8) في أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) مسند أبي يعلى (5/ 66) ورواه الطبري في تفسيره (14/ 107) من طريق أبي معاوية عن الأعمش به.
(3) في ت، ف، "تحت".
(4) مسند أبي يعلى (5/ 66) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 390): "رجاله رجال الصحيح".
(5) في ت: "يبعث".
(6) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية: 41 من سورة النساء.
(7) زيادة من ف.
(8) في ف: "محتاجون إليه".

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)

ومعادهم.
{ وَهُدًى } أي: للقلوب، { وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }
وقال الأوزاعي: { وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } أي: بالسنة.
ووجه اقتران قوله: { وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ } مع قوله: { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ } أن المراد -والله أعلم-: إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك، سائلك عن ذلك يوم القيامة، { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [الأعراف : 6] ، { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الحجر : 92، 93] ، { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ } [المائدة : 109] ، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } [القصص : 85] أي: إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه، ومعيدك يوم القيامة، وسائلك عن أداء ما فرض عليك. هذا أحد الأقوال، وهو مُتَّجه حسن .
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) }
يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل، وهو القسط والموازنة، ويندب إلى الإحسان، كما قال تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } [النحل : 126] ، وقال { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [الشورى : 40] ، وقال { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } [المائدة : 45] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا، من (1) شرعية العدل والندب إلى الفضل.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } قال: شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال سفيان بن عيينة: العدل في هذا الموضع: هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا. والإحسان: أن تكون (2) سريرته أحسن من علانيته. والفحشاء والمنكر: أن تكون (3) علانيته أحسن من سريرته.
وقوله: { وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } أي: يأمر بصلة الأرحام، كما قال: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } [الإسراء : 26] .
وقوله: { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } فالفواحش: المحرمات. والمنكرات: ما ظهر منها من فاعلها؛ ولهذا قيل في الموضع الآخر: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [الأعراف : 33] . وأما البغي فهو: العدوان على الناس. وقد جاء في الحديث: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله
__________
(1) في ف: "في".
(2) في ف: "يكون".
(3) في ف: "يكون".

عقوبته في الدنيا، مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم" (1) .
وقوله { يَعِظُكُمْ } أي: يأمركم بما يأمركم به من الخير، وينهاكم عما (2) ينهاكم عنه من الشر، { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
قال الشعبي، عن شُتَيْر بن شَكَل: سمعت ابن مسعود يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } الآية. رواه ابن جرير (3) .
وقال سعيد عن قتادة: قوله: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } الآية، ليس من خُلُق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به، وليس من خلق سيئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدم فيه. وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها.
قلت: ولهذا جاء في الحديث: "إن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سَفْسافها" (4) .
وقال الحافظ أبو نُعَيم في كتابه "كتاب معرفة الصحابة": حدثنا أبو بكر محمد بن الفتح الحنبلي، حدثنا يحيى (5) بن محمد مولى بني هاشم، حدثنا الحسن بن داود المنْكَدري، حدثنا عمر بن علي المقدمي، عن علي بن عبد الملك بن عمير (6) عن أبيه قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه وقالوا: أنت كبيرنا، لم تكن لتخف إليه! قال: فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه. فانتدب رجلان فأتيا النبي (7) صلى الله عليه وسلم فقالا نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك: من أنت؟ وما أنت (8) ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله، وأما ما أنا فأنا عبد الله ورسوله". قال: ثم تلا عليهم هذه الآية: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } قالوا: اردد علينا هذا القول فردده عليهم حتى حفظوه. فأتيا أكثم فقالا أبى أن يرفع نسبه، فسألنا عن نسبه، فوجدناه زاكي النسب، وسطا في مضر، وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها، فلما سمعهن أكثم قال: إني قد أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رءوسا، ولا تكونوا فيه أذنابا (9) .
__________
(1) رواه أحمد في المسند (5/ 36) وأبو داود في السنن برقم (4902) والترمذي في السنن برقم (2511) وابن ماجه في السنن برقم (4211) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
(2) في ف: "عن الذي".
(3) تفسير الطبري (14/ 109).
(4) رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق برقم (3) وأبو نعيم في الحلية (8/ 255) من طريق معمر، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد مرفوعًا، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث أبي حازم وسهل تفرد به عن أبي حازم معمر".
(5) في ف: "حدثنا محمد بن يحيى".
(6) في هـ، ت، أ: "علي بن عبد الله بن عمير" وهو خطأ، وانظر: معرفة الصحابة (2/ 420) والثقات لابن حبان (7/ 207) والإصابة (1/ 118).
(7) في أ: "رسول الله".
(8) في ف: "من أنت وصفاتك وما جئت به".
(9) معرفة الصحابة (2/ 420) قال ابن حجر: "وهو مرسل" وأورده ابن عبد البر في الاستيعاب (1/ 146) وأنكر كون أكثم بن صيفي من الصحابة وانظر: الإصابة (1/ 119).

وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)

وقد ورد في نزول هذه الآية الكريمة حديث حَسن، رواه الإمام أحمد:
حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الحميد، حدثنا شهر، حدثني عبد الله بن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته جالس، إذ مر به عثمان بن مظعون، فكشر (1) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تجلس؟" فقال: بلى. قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبله، فبينما هو يحدثه إذ شَخَص رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره في السماء، فنظر ساعة إلى [السماء] (2) فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يَمْنته في الأرض، فتحرَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له، وابن مظعون ينظر فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له، شخص بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما شخص أول مرة. فأتبعه بصره حتى توارى في السماء. فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى فقال: يا محمد، فيما كنت أجالسك؟ ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة! قال: "وما رأيتني فعلت؟" قال: رأيتك شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته حيث وضعته على يمينك، فتحرفت إليه وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك. قال: "وفطنت لذلك؟" فقال عثمان: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني رسول الله آنفا وأنت جالس". قال: رسولُ الله؟ قال: "نعم". قال: فما قال لك؟ قال: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي، وأحببت محمدًا صلى الله عليه وسلم (3) .
إسناد جيد متصل حسن، قد (4) بُيِّن فيه السماع المتصل. ورواه ابن أبي حاتم، من حديث عبد الحميد بن بَهرام مختصرًا.
حديث آخر: عن عثمان بن أبي العاص الثقفي في ذلك، قال الإمام أحمد:
حدثنا أسود بن عامر، حدثنا هُرَيْم، عن لَيْث، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا، إذ شَخَصَ بَصره فقال: "أتاني جبريل، فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ [وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ] } (5) (6) .
وهذا إسناد لا بأس به، ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين، والله أعلم.
{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) }
__________
(1) في ف: "فكر".
(2) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(3) المسند (1/ 318).
(4) في ف: "وقد".
(5) زيادة من ف، أ، وفي هـ: "الآية".
(6) المسند (4/ 218).

وهذا مما يأمر الله تعالى به (1) وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة؛ ولهذا قال: { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا }
ولا تعارض بين هذا وبين قوله: { وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا [وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ] } [البقرة : 224] (2) وبين قوله تعالى: { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } [المائدة : 89] أي: لا تتركوها بلا تكفير، وبين قوله، عليه السلام (3) فيما ثبت عنه في الصحيحين (4) : إني والله إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها". وفي رواية: "وكفرت عن يميني" لا تعارض بين هذا كله، ولا بين الآية المذكورة هاهنا وهي قوله: { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا [وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا] } (5) ؛ لأن هذه الأيمان، المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان التي هي واردة على حَثّ أو منع؛ ولهذا قال مجاهد في قوله: { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } يعني: الحِلْف، أي: حلْفَ الجاهلية؛ ويؤيده ما رواه الإمام أحمد:
حدثنا عبد الله بن محمد -هو ابن أبي شيبة-حدثنا ابن نُمَيْر وأبو أسامة، عن زكريا -هو ابن أبي زائدة-عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جُبَيْر بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حِلْف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة".
وكذا رواه مسلم، عن ابن أبي شيبة، به (6) .
ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلْف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.
وأما ما ورد في الصحيحين، عن عاصم الأحول، عن أنس، رضي الله عنه، أنه قال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا (7) -فمعناه: أنه آخى بينهم، فكانوا يتوارثون به، حتى نسخ الله ذلك والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عمارة الأسدي، حدثنا عبيد الله (8) بن موسى، أخبرنا أبن أبي ليلى، عن مَزِيدة (9) في قوله: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } قال: نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم، كان من أسلم بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فقال: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } هذه البيعة التي بايعتم
__________
(1) في ت، ف، أ: "به تعالى".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(4) في ت: "الصحيح".
(5) زيادة من ت، ف، أ.
(6) المسند (4/ 83) وصحيح مسلم برقم (2530).
(7) صحيح البخاري برقم (2294) وصحيح مسلم برقم (2529).
(8) في ت: "عبد الله".
(9) في ف: "بريدة".

على الإسلام، { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } البيعة، لا يحملنكم قلة محمد [وأصحابه] (1) وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي تبايعتم على الإسلام.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا صخر بن جُوَيرية، عن نافع قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر بنيه وأهله، ثم تشهد، ثم قال: أما بعد، فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الغادر يُنصب له لواء يوم القيامة، فيقال (2) هذه غَدْرة فلان وإن من أعظم الغَدْر -إلا أن يكون الإشراك بالله-أن يبايع رجل رجلا على بيعة الله ورسوله، ثم ينكث بيعته، فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر، فيكون صَيْلم بيني وبينه" (3) .
المرفوع منه في الصحيحين (4) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حجاج، عن عبد الرحمن بن عابس، عن أبيه، عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من شرط لأخيه شرطًا، لا يريد أن يفي له به، فهو كالمدلي جاره إلى غير مَنْعَة" (5) .
وقوله: { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها.
وقوله: { وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا } قال عبد الله بن كثير، والسدّي: هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه.
وقال مجاهد، وقتادة، وابن زيد: هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده.
وهذا القول أرجح وأظهر، وسواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا.
وقوله: { أَنْكَاثًا } يحتمل أن يكون اسم مصدر: نقضت غزلها أنكاثا، أي: أنقاضا. ويحتمل أن يكون بدلا عن خبر كان، أي: لا تكونوا أنكاثا، جمع نكث من ناكث؛ ولهذا قال بعده: { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ } أي: خديعة ومكرًا، { أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } أي: يحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم، فإذا أمكنكم الغدر بهم غَدَرتم. فنهى الله عن ذلك، لينبه بالأدنى على الأعلى؛ إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه، فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى.
وقد قدمنا -ولله الحمد-في سورة "الأنفال" (6) قصة معاوية لما كان بينه وبين ملك الروم أمَدٌ، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل، حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم، أغار عليهم وهم غارون لا يشعرون، فقال له عمرو بن عَبْسَة: الله أكبر يا معاوية، وفاء لا غدرًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) في ت، ف: "يقال".
(3) المسند (2/ 48).
(4) صحيح البخاري برقم (3188) وصحيح مسلم برقم (1735).
(5) المسند (5/ 404).
(6) عند تفسير الآية: 58.

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)

يقول: "من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عُقدة حتى ينقضي أمَدها". فرجع معاوية بالجيش، رضي الله عنه وأرضاه.
قال ابن عباس: { أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } أي: أكثر.
وقال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء، فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز. فنهوا عن ذلك. وقال الضحاك، وقتادة، وابن زيد نحوه.
وقوله: { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } قال سعيد بن جُبَير: يعني بالكثرة. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: أي: بأمره إياكم بالوفاء والعهد.
{ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فيجازى كل عامل بعمله، من خير وشر.
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) }

وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)

{ وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) }
يقول تعالى: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ } أيها الناس { أُمَّةً وَاحِدَةً } (1) ، كما قال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } [يونس : 99] أي: لوفق بينكم. ولما جعل اختلافا ولا تباغُضَ ولا شحناء { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } [هود : 118 ، 119]، وهكذا قال هاهنا: { وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم، فيجازيكم عليها على الفتيل والنقير والقطْمير.
ثم حذر تعالى عباده عن (2) اتخاذ الأيمان دخلا أي خديعة ومكرًا، لئلا تَزل قدم بعد ثبوتها: مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها وزل عن طريق الهدى، بسبب الأيمان الحانثة (3) المشتملة على الصد عن سبيل الله، لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به، لم يبق له وثوق بالدين، فانصد بسببه عن الدخول في الإسلام؛ ولهذا قال: { وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
ثم قال تعالى: { وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا } أي: لا تعتاضوا عن الأيمان بالله عَرَض الحياة الدنيا وزينتها، فإنها قليلة، ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له، أي: جزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به (4) وطلبه، وحفظ عهده (5) رجاء موعوده؛ ولهذا قال: { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ }
__________
(1) في ت: "أمة واحدة أيها الناس".
(2) في ت، ف: "من".
(3) في ت: "الحادثة".
(4) في ف: "خير لمن آمن به ورجاه".
(5) في ف، أ: "عهد الله".

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)

أي: يفرغ وينقضي، فإنه إلى أجل معدود محصور مقدَّر مُتَناه، { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } أي: وثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع ولا نفاد له فإنه دائم لا يحول ولا يزول، { وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } قسم من الرب عز وجل (1) مُتَلقى باللام، أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم، أي: ويتجاوز عن سيئها.
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) }
هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا -وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه (2) من ذكر أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وإن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله -بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه (3) بأحسن ما عمله في الدار الآخرة.
والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت. وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب.
وعن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه فسرها بالقناعة. وكذا قال ابن عباس، وعِكْرِمة، ووهب بن منبه.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أنها (4) السعادة.
وقال الحسن، ومجاهد، وقتادة: لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة.
وقال الضحاك: هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا، وقال الضحاك أيضا: هي (5) العمل بالطاعة والانشراح بها.
والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني شرحبيل بن شريك، عن
أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عَمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد أفلح من أسلم ورُزق كفافا، وقَنَّعه الله بما آتاه".
ورواه مسلم، من حديث عبد الله بن يزيد المقرئ به (6)
وروى الترمذي والنسائي، من حديث أبي هانئ، عن أبي علي الجنبي (7) عن فضالة بن عُبَيد؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قد أفلح من هُدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا، وقنع (8) به". وقال
__________
(1) في ف: "جل شأنه".
(2) في ت: "رسوله".
(3) في ت: "يجزى".
(4) في ت، ف: "هي".
(5) في ت، ف: "هو".
(6) المسند (2/ 168) وصحيح مسلم برقم (1054).
(7) في ت، ف، أ: "الحسبي".
(8) في ت: "ومنع".

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)

الترمذي: هذا حديث صحيح (1) .
وقال الإمام أحمد، حدثنا يزيد، حدثنا هَمَّام، عن يحيى، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا [ويثاب عليها في الآخرة وأما الكافر فيعطيه حسناته في الدنيا] (2) حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرًا". انفرد بإخراجه مسلم (3) .
{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) }
هذا أمر من الله تعالى لعباده (4) على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: إذا أرادوا قراءة القرآن، أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم. وهو أمرُ ندبٍ ليس بواجب، حكى الإجماع على ذلك (5) الإمام أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة. وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الاستعاذة مبسوطة في أول التفسير، ولله الحمد والمنة.
والمعنى في الاستعاذة عند ابتداء القراءة، لئلا يلبس (6) على القارئ قراءته ويخلط عليه، ويمنعه من التدبر والتفكر، ولهذا ذهب الجمهور إلى أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة (7) وحكي عن حمزة وأبي حاتم السجستاني: أنها تكون بعد التلاوة، واحتجا بهذه الآية. ونقل النووي في شرح المهذب مثل ذلك عن أبي هريرة أيضًا، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النَّخَعي. والصحيح الأول، لما تقدم من الأحاديث الدالة على تقدمها على التلاوة، والله أعلم.
وقوله: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } قال الثوري: ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه.
وقال آخرون: معناه لا حجة له عليهم. وقال آخرون: كقوله: { إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ص : 83] .
{ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } قال مجاهد: يطيعونه.
وقال آخرون: اتخذوه وليًا من دون الله.
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2349).
(2) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(3) المسند (3/ 123) وصحيح مسلم برقم (2818).
(4) في ت، ف: "عباده".
(5) في ت، ف: "وحكى على ذلك الإجماع".
(6) في ف: "تلتبس".
(7) في ف: "القراءة".

وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)

{ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } أي: أشركوا في عبادة الله تعالى. ويحتمل أن تكون الباء سببية، أي: صاروا بسبب طاعتهم للشيطان مشركين بالله تعالى.
وقال آخرون: معناه: أنه شركهم في الأموال والأولاد.
{ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنزلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نزلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) }
يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم، وأنه لا يتصور منهم الإيمان وقد كتب عليهم الشقاوة، وذلك أنهم إذا رأوا تغيير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا للرسول: { إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ } أي: كذاب وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
وقال مجاهد: { بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } أي: رفعناها وأثبتنا غيرها.
وقال قتادة: هو كقوله تعالى: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } [البقرة :106] .
فقال تعالى مجيبا لهم: { قُلْ نزلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ } أي: جبريل، { مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } أي: بالصدق والعدل، { لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا } فيصدقوا بما أنزل أولا وثانيا وتخبت له قلوبهم، { وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } أي: وجعله هاديا [مهديا] (1) وبشارة للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسله.
__________
(1) زيادة من ت.

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)

{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) }
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت: أن محمدًا إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر، ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم، غلام لبعض بطون قريش، وكان بياعا يبيع عند الصفا، فربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء، وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف العربية، أو أنه كان يعرف الشيء اليسير بقدر ما يَرُد جواب الخطاب فيما لا بد منه؛ فلهذا قال الله تعالى رادًا عليهم في افترائهم ذلك: { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } يعني: القرآن أي: فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن، في فَصَاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة، التي هي أكمل من (1) معاني كل كتاب نزل على نبي أرسل، كيف يتعلم من رجل أعجمي؟! لا يقول هذا من له أدنى مُسْكة (2) من العقل.
قال محمد بن إسحاق بن يَسَار في السيرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني-كثيرًا ما يجلس
__________
(1) في ت: "هي من أكمل".
(2) في ت: "مسلة".

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)

عند المروة إلى مَبيعة غلام نصراني يقال له جبر، عبد لبعض بني الحضرمي، [فكانوا يقولون: والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام بن الحضرمي] (1) فأنزل الله: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } (2)
وكذا قال عبد الله بن كثير: وعن عِكْرِمة وقتادة: كان اسمه يعيش.
وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن محمد الطوسي، حدثنا أبو عامر، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَان، عن مسلم بن عبد الله الملائي، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قَينًا بمكة، وكان اسمه بلغام، وكان أعجمي اللسان، وكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده، قالوا: إنما يعلمه بلغام، فأنزل الله هذه الآية: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } (3) .
وقال الضحاك بن مزاحم: هو سلمان الفارسي، وهذا القول ضعيف؛ لأن هذه الآية مكية، وسلمان إنما أسلم بالمدينة وقال عبيد الله (4) بن مسلم: كان لنا غلامان روميان يقرآن كتابا لهما بلسانهما، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بهما (5) ، فيقوم فيسمع منهما فقال المشركون: يتعلم منهما، فأنزل الله هذه الآية.
وقال الزهري، عن سعيد بن المسيب: الذي قال ذلك من المشركين رجل كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتد بعد ذلك عن الإسلام، وافترى هذه المقالة، قبحه الله!.
{ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) }
يخبر تعالى أنه لا يهدي (6) من أعرض عن ذكره وتَغَافل عما أنزله على رسوله، ولم يكن له قصد إلى الإيمان بما جاء من عند الله، فهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله إلى الإيمان بآياته وما أرسل به رسله في الدنيا، ولهم عذاب أليم موجع في الآخرة.
ثم أخبر تعالى أن رسوله ليس بمفتر ولا كَذَّاب؛ لأنه { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ } على الله وعلى رسوله شِرارُ الخلق، { الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس. والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، كان (7) أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا وإيقانا، معروفًا بالصدق في قومه، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يُدْعى بينهم إلا بالأمين محمد؛ ولهذا لما
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ، وابن هشام.
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 393).
(3) تفسير الطبري (14/ 119).
(4) في ت، ف: "عبد الله".
(5) في أ: "عليهما".
(6) في أ: "لا يهتدي".
(7) في ت: "كان من".

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)

سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان فيما قال له: أو كنتم (1) تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. فقال: هرقل فما كان ليَدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عز وجل.
{ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) }
أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر، وشرح صدره بالكفر واطمأن به: أنه قد غَضب عليه، لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه، وأن لهم عذابا عظيما في الدار الآخرة؛ لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدموا (2) على ما أقدموا عليه من الردة لأجل (3) الدنيا، ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق، فطبع على قلوبهم فلا (4) يعقلون بها شيئا ينفعهم وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها، ولا أغنت عنهم شيئا، فهم غافلون عما يراد بهم.
{ لا جَرَمَ } أي: لا بد ولا عجب أن من هذه صفته، { أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } أي: الذين خسروا أنفسهم وأهاليهم (5) يوم القيامة.
وأما قوله: { إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ } فهو استثناء ممن (6) كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرها لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله.
وقد روى العَوفِيّ عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في عمَّار بن ياسر، حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فوافقهم على ذلك مُكرَها (7) وجاء معتذرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، وهكذا قال الشعبي، وأبو مالك وقتادة.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثَور، عن مَعْمَر، عن عبد الكريم الجَزَريّ، عن أبي عبيدة [بن] (8) محمد بن عمار (9) بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف تجد قلبك؟" قال: مطمئنا بالإيمان قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عادوا فعد" (10) .
ورواه البيهقي بأبسط من ذلك، وفيه أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، وأنه قال: يا رسول
__________
(1) في ف: "أفكنتم".
(2) في ت: "فما قدموا".
(3) في ت: "الردة إلا لأجل".
(4) في أ: "فهم لا".
(5) في ت: "وأهليتهم".
(6) في ت: "فمن".
(7) في ف، أ: "مستكرهًا".
(8) زيادة من ت، ف، أ، والطبري.
(9) في ت: "على".
(10) تفسير الطبري (14/ 122).

الله، ما تُركتُ حتى سَببتك وذكرت آلهتهم بخير! قال: "كيف تجد قلبك؟" قال: مطمئنا بالإيمان. فقال: "إن عادوا فعد". وفي ذلك أنزل الله: { إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ } (1) .
ولهذا اتفق العلماء على أنه يجوز أن يُوَالى المكرَه على الكفر، إبقاءً لمهجته، ويجوز له أن يستقتل، كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى أنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدَّة الحر، ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول: أحَد، أحَد. ويقول: والله لو أعلم كلمة هي (2) أغيظ لكم منها لقلتها، رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد (3) الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فلم يزل يقطعه إرْبًا إرْبًا وهو ثابت على ذلك (4) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن عِكْرِمة، أن عليا، رضي الله عنه، حَرَّق ناسا ارتدوا عن الإسلام، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لم أكن لأحرقهم بالنار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعذبوا بعذاب الله". وكنت قاتلهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" فبلغ ذلك عليا فقال: ويح أم ابن (5) عباس. رواه البخاري (6) .
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا مَعْمَر، عن أيوب، عن حُمَيْد بن هلال العَدَويّ، عن أبي بردة قال: قدم على أبي موسى معاذُ بن جبل باليمن، فإذا رجل عنده، قال: ما هذا ؟ قال (7) رجل كان يهوديا فأسلم، ثم تهود، ونحن نريده على الإسلام منذ -قال: أحسب-شهرين فقال: والله لا أقعد (8) حتى تضربوا عنقه. فضربت عنقه. فقال: قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه-أو قال: من بدل دينه فاقتلوه (9) .
وهذه القصة في الصحيحين بلفظ آخر (10) .
والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه، ولو أفضى إلى قتله، كما قال (11) الحافظ ابن عساكر، في ترجمة عبد الله بن حُذَافة السهمي أحد الصحابة: أنه أسرته الروم، فجاءوا به إلى (12) ملكهم، فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي. فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب، على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين، ما فعلت! فقال: إذا أقتلك. قال: أنت وذاك! فأمر به فصلب، وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين
__________
(1) سنن البيهقي الكبرى (8/ 209).
(2) زيادة من ت، ف، أ.
(3) في ف: "يزيد".
(4) انظر: الاستيعاب لابن عبد البر (1/ 327) وأسد الغابة لابن الأثير (1/ 443).
(5) في ت، ف: "ابن أم".
(6) المسند (1/ 217) وصحيح البخاري برقم (6922).
(7) في ت: "فقال".
(8) في ف: "قعدتك".
(9) المسند (5/ 231)
(10) صحيح البخاري برقم (6923) وصحيح مسلم برقم (1733).
(11) في ف، أ: "كما ذكر".
(12) في ف: "عند".

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)

النصرانية، فيأبى (1) ثم أمر به فأنزل، ثم أمر بِقِدْر. وفي رواية: ببقرة من نحاس، فأحميت، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح. وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها، فرفع في البَكَرَة ليلقى فيها، فبكى فطمع فيه ودعاه فقال له: إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة، تُلْقى في هذه القدر الساعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله. وفي بعض الروايات: أنه سجنه ومنع عنه الطعام والشراب أياما، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير، فلم يقربه، ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما إنه قد حَلَّ لي، ولكن لم أكن لأشمتك فيّ. فقال له الملك: فَقَبِّلْ رأسي وأنا أطلقك. فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين؟ قال: نعم. فقبل رأسه، فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب: حَقّ على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ. فقام فقبل رأسه (2) .
{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) }
__________
(1) في ف: "فأبي".
(2) تاريخ دمشق (9/116 "المخطوط").

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)

{ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) }
هؤلاء صنف آخر كانوا مستضعفين بمكة، مهانين في قومهم قد واتوهم على الفتنة، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا معهم الكافرين، وصبروا، فأخبر الله تعالى أنه { مِنْ بَعْدِهَا } أي: تلك الفعلة، وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم، رحيم بهم يوم معادهم.
{ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ } أي: تحاج { عَنْ نَفْسِهَا } ليس أحد يحاج عنها لا أب ولا ابن ولا أخ ولا زوجة { وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ } أي: من خير وشر، { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } أي: لا ينقص من ثواب الخير ولا يزاد على ثواب الشر (1) ولا يظلمون نقيرًا.
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) }
هذا مثل أريد به أهل مكة، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يُتخطَّف الناس من حولها، ومن دخلها آمن لا يخاف، كما قال تعالى: { وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا } [القصص : 57]
__________
(1) في ت: "المسيء".

وهكذا (1) قال هاهنا: { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا } أي: هنيئها سهلا { مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ } أي: جحدت آلاء الله عليها وأعظم ذلك بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [إبراهيم : 28، 29] . (2) ولهذا بدَّلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما، فقال: { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } أي: ألبسها وأذاقها (3) الجوع بعد أن كان يُجبى إليهم ثمرات كل شيء، ويأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، وذلك لما استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه، فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابتهم سنة (4) أذهبت كل شيء لهم، فأكلوا العِلْهِز -وهو: وبر البعير، يجعل بدمه إذا نحروه.
وقوله: { وَالْخَوْفِ } وذلك بأنهم (5) بُدِّلوا بأمنهم خوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حين هاجروا إلى المدينة، من سطوة سراياه وجُيوشه، وجعلوا كل ما لهم في سَفَال ودمار، حتى فتحها الله عليهم (6) وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول الذي بعثه الله فيهم منهم، وامتن به عليهم في قوله: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [آل عمران : 164] ، وقال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولا [يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] } [الطلاق : 10 ، 11] (7) الآية وقوله (8) : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } إلى قوله (9) : { وَلا تَكْفُرُونِ } [البقرة : 151 ، 152] .
وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم، فخافوا بعد الأمن، وجاعوا بعد الرغد، بَدَّل (10) الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنا، ورزقهم بعد العَيْلَة، وجعلهم أمراء الناس وحكامهم، وسادتهم وقادتهم (11) وأئمتهم.
وهذا (12) الذي قلناه من أن هذا المثل مضروب لمكة، قاله العوفي، عن ابن عباس. وإليه ذهب مجاهد، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وحكاه مالك عن الزهري، رحمهم الله.
وقال ابن جرير: حدثني ابن عبد الرحيم البَرْقي، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا نافع بن زيد، حدثنا عبد الرحمن بن شُرَيْح، أن عبد الكريم بن الحارث الحضرمي حدثه، أنه سمع مشْرَح بن هاعان يقول: سمعت سليم بن عتر (13) يقول: صدرنا من الحج مع حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وعثمان، رضي
__________
(1) في ف: "ولكن".
(2) في ت: "فبئس" وهو خطأ.
(3) في ت: "فأذاقها".
(4) في ت، ف، أ: "سنة جائحة".
(5) في ت، ف: "أنهم".
(6) في ت، ف: "على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(7) زيادة من ت، ف، أ.
(8) في ف: "وقال".
(9) في ت، ف، أ: "ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون. فاذكروني أذكركم واشكروا لي".
(10) في ف: "فبدل".
(11) في ت، ف: "وقادتهم وسادتهم".
(12) في أ: "وهكذا"
(13) في ت: "عمير".

فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)

الله عنه، محصور بالمدينة، فكانت تسأل عنه: ما فعل؟ حتى رأت راكبين، فأرسلت إليهما تسألهما، فقالا قتل. فقالت حفصة: والذي نفسي بيده، إنها القرية التي قال الله: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ } قال أبو شريح: وأخبرني عبيد الله بن المغيرة، عمن حدثه: أنه كان يقول: إنها المدينة (1) .
{ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) }
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بأكل رزقه الحلال الطيب، وبشكره على ذلك، فإنه المنعم المتفضل به ابتداء، الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له.
ثم ذكر ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم، من الميتة والدم، ولحم الخنزير.
{ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } أي: ذبح على غير اسم الله، ومع هذا { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي: احتاج في غير بغي ولا عدوان، { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة "البقرة" (2) بما فيه كفاية عن إعادته، ولله الحمد [والمنة] (3) .
ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين، الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وضعوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم، من البَحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وغير ذلك مما كان شرعا لهم ابتدعوه في جاهليتهم، فقال: { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس [له] (4) فيها مستند شرعي، أو حلل شيئا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أباح الله، بمجرد رأيه وتشهِّيه.
و "ما" في قوله: { لِمَا } مصدرية، أي: ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم.
ثم توعد على ذلك فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ } أي: في الدنيا ولا في الآخرة. أما في الدنيا فمتاع (5) قليل، وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم، كما قال: { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان : 24]
__________
(1) تفسير الطبري (14/ 125).
(2) عند تفسير الآية: 137.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من ت، ف، أ.
(5) في ت، ف: "متاع".

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)

وقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [يونس : 69، 70] .
{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) }

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)

{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) }
لما ذكر تعالى أنه إنما حرم علينا الميتة (1) والدم ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وأنه (2) أرخص فيه عند الضرورة -وفي ذلك توسعة لهذه الأمة، التي يريد الله بها اليسر ولا يريد بها العسر -ذكر سبحانه وتعالى ما كان حَرَّمه على اليهود في شريعتهم قبل أن ينسخها، وما كانوا فيه من الآصار والأغلال والحرج والتضييق، فقال: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ } يعني: في "سورة الأنعام" في قوله: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا [أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ] } [الأنعام : 146] (3) ؛ ولهذا قال هاهنا: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } أي: فيما ضيقنا عليهم، { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي: فاستحقوا ذلك، كما قال: { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } [النساء : 160] .
ثم أخبر تعالى تكرمًا وامتنانًا في حق العصاة المؤمنين: أن من تاب منهم إليه تاب عليه، فقال: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ } قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل.
{ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } أي: أقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي، وأقبلوا على فعل الطاعات، { إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا } أي: تلك الفعلة والذلة { لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) }
يمدح [تبارك و] (4) تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم، إمام الحنفاء ووالد الأنبياء، ويبرئه من المشركين، ومن اليهودية والنصرانية فقال: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا } فأما "الأمة" ، فهو
__________
(1) في ت: "المدينة".
(2) في ف: "وإنما".
(3) زيادة من ت، ف، أ، وفي هـ: "إلى قوله: وإنا لصادقون".
(4) زيادة من ف، أ.

الإمام الذي يقتدى به. والقانت: هو الخاشع المطيع. والحنيف: المنحرف قصدًا عن الشرك إلى التوحيد؛ ولهذا قال: { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
قال سفيان الثوري، عن سلمة بن كُهَيْل، عن مسلم البَطِين، عن أبي العبيدين: أنه سأل عبد الله بن مسعود عن الأمة القانت، فقال: الأمة: معلم الخير، والقانت: المطيع لله ورسوله.
وعن مالك قال: قال ابن عمر: الأمة الذي يعلم الناس دينهم.
وقال الأعمش، [عن الحكم] (1) عن يحيى بن الجزار، عن أبي العُبَيدين؛ أنه جاء إلى عبد الله فقال: مَنْ نسأل إذا لم نسألك؟ فكأن ابن مسعود رقَّ له، فقال: أخبرني عن الأمة (2) فقال: الذي يعلم الناس الخير.
وقال الشعبي: حدثني فروَة بن نوفل الأشجعي قال: قال ابن مسعود: إن معاذًا كان أمة قانتا لله حنيفا، فقلت في نفسي: غلط أبو عبد الرحمن، إنما قال الله: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } فقال: أتدري ما الأمة وما القانت؟ قلت: الله [ورسوله] (3) أعلم. قال: الأمة الذي يعلم [الناس] (4) الخير. والقانت: المطيع لله ورسوله. وكذلك كان معاذ معلم الخير. وكان مطيعا لله ورسوله.
وقد روي من غير وجه، عن ابن مسعود؛ حرره ابن جرير (5) .
وقال مجاهد: { أُمَّةً } أي: أمة وحده، والقانت: المطيع. وقال مجاهد أيضًا: كان إبراهيم أمة، أي: مؤمنا وحده، والناس كلهم إذ ذاك كفار.
وقال قتادة: كان إمام هُدى، والقانت: المطيع لله.
وقوله: { شَاكِرًا لأنْعُمِهِ } أي: قائما بشكر (6) نعم الله عليه، كما قال: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [النجم : 37] ، أي: قام بجميع ما أمره الله تعالى به.
وقوله: { اجْتَبَاهُ } أي: اختاره واصطفاه، كما قال: { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } [الأنبياء : 51] .
ثم قال: { وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وهو عبادة الله وحده لا شريك له على شرع مرضي.
وقوله: { وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } أي: جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة، { وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ }
وقال مجاهد في قوله: { وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } أي: لسان صدق.
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ، والطبري.
(2) في ف، أ: "أمة".
(3) زيادة من أ.
(4) زياد من ف، أ.
(5) تفسير الطبري (14/ 128، 129).
(6) في ت: "يشكر".

إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

وقوله: { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } أي: ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه، أنا أوحينا إليك يا خاتم الرسل وسيد الأنبياء: { أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } كما قال: في "الأنعام": { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام : 161] ، ثم قال تعالى منكرا على اليهود.
{ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) }
لا شك أن الله تعالى شرَع في كل ملة يوما من الأسبوع، يجتمع الناس فيه للعبادة، فشرع تعالى لهذه الأمة يوم الجمعة؛ لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة، واجتمعت [الناس] (1) فيه وتمت النعمة على عباده. ويقال: إنه تعالى شرع ذلك لبني إسرائيل على لسان موسى، فعدلوا عنه واختاروا السبت؛ لأنه اليوم الذي لم يخلق فيه الرب شيئًا من المخلوقات الذي (2) كمل خلقها يوم الجمعة، فألزمهم (3) تعالى به في شريعة التوراة، ووصاهم أن يتمسكوا به وأن يحافظوا عليه، مع أمره إياهم بمتابعة محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعثه. وأخذه (4) مواثيقهم وعهودهم على ذلك؛ ولهذا قال تعالى: { إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ }
قال مجاهد: اتبعوه وتركوا الجمعة.
ثم إنهم لم يزالوا متمسكين به، حتى بعث الله عيسى ابن مريم، فيقال: إنه حوَّلهم إلى يوم الأحد. ويقال إنه: لم [يترك (5) شريعة التوراة إلا ما نسخ من بعض أحكامها وإنه لم] (6) يزل محافظًا على السبت حتى رفع، وإن النصارى بعده في زمن قسطنطين هم الذين تحولوا إلى يوم الأحد، مخالفة لليهود، وتحولوا إلى الصلاة شرقا عن الصخرة، والله (7) أعلم.
وقد ثبت في الصحيحين، من حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن همام، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد". لفظ البخاري (8) .
وعن أبي هريرة، وحذيفة، رضي الله عنهما، قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم
__________
(1) زيادة من ت، ف.
(2) في أ: "التي".
(3) في أ: "وألزمهم".
(4) في أ: "وأخذ".
(5) في أ: "يزل على".
(6) زيادة من ت، ف، أ.
(7) في ت: "فالله".
(8) صحيح البخاري برقم (6624) وصحيح مسلم برقم (855).

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة، والمقضي بينهم قبل الخلائق". رواه مسلم [والله أعلم] (1) (2) .
{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) }
يقول تعالى آمرًا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يدعو الخلق إلى الله { بِالْحِكْمَةِ }
قال ابن جرير: وهو ما أنزله عليه (3) من الكتاب والسنة { وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } أي: بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ذكرهم (4) بها، ليحذروا بأس الله تعالى.
وقوله: { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، كما قال: { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } [العنكبوت : 46] فأمره تعالى بلين الجانب، كما أمر موسى وهارون، عليهما السلام، حين بعثهما إلى فرعون فقال: { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [طه : 44] .
وقوله: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } أي: قدم علم الشقي منهم والسعيد، وكتب ذلك عنده وفرغ منه، فادعهم إلى الله، ولا تذهب نفسك على من ضل منهم (5) حسرات، فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير، عليك البلاغ، وعلينا الحساب، { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص : 56]، (6) و { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } [البقرة : 272] .
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) }
يأمر تعالى بالعدل في الاقتصاص والمماثلة في استيفاء الحق، كما قال عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد، عن ابن سيرين: أنه قال في قوله تعالى: { فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } إن أخذ منكم رجل شيئًا، فخذوا منه مثله.
وكذا قال مجاهد، وإبراهيم، والحسن البصري، وغيرهم. واختاره ابن جرير.
وقال ابن زيد: كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين، فأسلم رجال ذوو منعةٍ، فقالوا: يا رسول
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) صحيح مسلم برقم (856).
(3) في ف، أ: "عليك".
(4) في ت، ف: "يذكرهم".
(5) في ت: "عليهم".
(6) في ف: "وإنك" وهو خطأ.

الله، لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب! فنزلت هذه الآية، ثم نسخ ذلك بالجهاد.
وقال محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يَسَار قال: نزلت سورة "النحل" كلها بمكة، وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد، حيث قتل حمزة، رضي الله عنه، ومثل به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بثلاثين رجلا منهم" فلما سمع المسلمون ذلك قالوا: والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط. فأنزل الله: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } إلى آخر السورة (1) .
وهذا مرسل، وفيه [رجل] (2) مبهم لم يسم، وقد روي هذا من وجه (3) آخر متصل، فقال الحافظ أبو بكر البزار:
حدثنا الحسن بن يحيى، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا صالح المري (4) ، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن أبي هريرة، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه، حين استشهد، فنظر إلى منظر لم ينظر أوجع للقلب منه. أو قال: لقلبه [منه] (5) فنظر (6) إليه وقد مُثِّل به فقال: "رحمة الله عليك، إن كنت -لما علمتُ-لوصولا للرحم، فعولا للخيرات، والله لولا حزن من بعدك عليك، لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع -أو كلمة نحوها-أما والله على ذلك، لأمثلن بسبعين كمثلتك (7) . فنزل جبريل، عليه السلام، على محمد صلى الله عليه وسلم بهذه السورة (8) وقرأ: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } إلى آخر الآية، فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: عن يمينه-وأمسك عن ذلك (9) .
وهذا إسناد فيه ضعف؛ لأن صالحا -هو ابن بشير المري-ضعيف عند الأئمة، وقال البخاري: هو منكر الحديث.
وقال الشعبي وابن جُرَيْج: نزلت في قول المسلمين يوم أحد فيمن مثل بهم: لنمثلن بهم. فأنزل الله فيهم ذلك.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثنا هدِيَّة (10) بن عبد الوهاب المروزي، حدثنا الفضل بن موسى، حدثنا عيسى بن عبيد، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد، قتل من الأنصار ستون رجلا ومن المهاجرين ستة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لَنُرْبِيَنَّ عليهم. فلما كان يوم الفتح قال رجل: لا
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (14/ 132).
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في أ: "من غير وجه".
(4) في ت: "حدثنا صالح حدثنا المرى".
(5) زيادة من ت.
(6) في ت: "ونظر".
(7) في ف، أ: "كمثلك".
(8) في ت: "الآية".
(9) مسند البزار برقم (1795) "كشف الأستار".
(10) في ت، ف، أ: "هدية".

تعرف (1) قريش بعد اليوم. فنادى مناد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن الأسود والأبيض إلا فلانا وفلانا -ناسا سماهم-فأنزل الله تبارك وتعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ [فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ] } (2) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصبر ولا نعاقب" (3) .
وهذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل، كما في قوله: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } ثُمَّ قَالَ { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [الشورى : 40]. وقال { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } ثُمَّ قَالَ { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } [المائدة : 45]، وقال في هذه الآية الكريمة: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } ثُمَّ قَالَ { وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ }
وقوله: { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ } تأكيد للأمر بالصبر، وإخبار بأن ذلك إنما ينال بمشيئة الله وإعانته، وحوله وقوته.
ثم قال تعالى: { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي: على من خالفك، لا تحزن عليهم؛ فإن الله قدر ذلك، { وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ } أي: غم { مِمَّا يَمْكُرُونَ } أي: مما يجهدون [أنفسهم] (4) في عداوتك وإيصال الشر إليك، فإن الله كافيك وناصرك، ومؤيدك، ومظهرك ومظفرك بهم.
وقوله: { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } أي: معهم بتأييده ونصره ومعونته وهذه معية خاصة، كقوله: { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } [الأنفال : 12] ، وقوله لموسى وهارون: { لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه : 46]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للصديق وهما في الغار: { لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [التوبة : 40] وأما المعية العامة فبالسمع والبصر والعلم، كقوله تعالى: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [الحديد : 4]، وكقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } [المجادلة : 7]، وكما قال تعالى: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا [إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ] } [يونس : 61] . (5)
ومعنى: { الَّذِينَ اتَّقَوْا } أي: تركوا المحرمات، { وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } أي: فعلوا الطاعات، فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم، وينصرهم ويؤيدهم، ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا
__________
(1) في ت، ف، أ: "يعرف".
(2) زيادة من ت، ف، أ، وفي هـ: "الآية".
(3) زوائد المسند (5/135).
(4) زيادة من ت، ف، أ.
(5) زيادة من ت، ف، أ، وفي هـ: "الآية".

مِسْعر، عن ابن عون، عن محمد بن حاطب قال: كان عثمان، رضي الله عنه، من الذين آمنوا، والذين اتقوا، والذين هم محسنون.
[آخر تفسير سورة النحل ولله الحمد أجمعه والمنة، وبه المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل] (1)
__________
(1) ما بين المعقوفين من "هـ".

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

[ بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ] (1)
تفسير سورة الإسراء (2)
وهي مكية
قال الإمام [الحافظ المتقن أبو عبد الله محمد بن إسماعيل] (3) البخاري: حدّثنا آدم بن أبي إياس، حدّثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد، سمعت ابن مسعود، رضي الله عنه، قال في بني إسرائيل والكهف ومريم: إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي (4) .
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرحمن، حدثنا حماد بن زيد، عن مروان، عن أبي لبابة، سمعت عائشة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول: ما يريد أن يصوم، وكان يقرأ كل ليلة " بني إسرائيل " ، و " الزمر " (5) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) }
يمجد تعالى نفسه، ويعظم شأنه، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه، فلا إله غيره { الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } يعني محمدًا، صلوات الله وسلامه عليه (6) { لَيْلا } أي في جنح الليل { مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وهو مسجد مكة { إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى } وهو بيت المقدس الذي هو إيلياء (7) ، معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل؛ ولهذا جمعوا له هنالك كلهم، فَأمّهم في مَحِلّتهم (8) ، ودارهم، فدل على أنه هو الإمام الأعظم، والرئيس المقدم، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
وقوله: { الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } أي: في الزروع والثمار { لِنُرِيَهُ } أي: محمدًا { مِنْ آيَاتِنَا } أي: العظام كما قال تعالى: { لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [ النجم: 18 ].
وسنذكر من ذلك ما وردت به السنة من الأحاديث عنه، صلوات الله عليه وسلامه.
وقوله: { إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } أي: السميع لأقوال عباده، مؤمنهم وكافرهم، مصدقهم
__________
(1) زيادة من ت .
(2) في ت، ف، أ: "سورة سبحان".
(3) زيادة من ت، ف، أ.
(4) صحيح البخاري برقم (4708).
(5) المسند (6/189) ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (1163) وقال: "إن كان أبو لبابة هذا يجوز الاحتجاج بخبره وفإني لا أعرفه بعدالة ولا حرج". وقد وثقه ابن معين.
(6) في ف: "صلى الله عليه وسلم".
(7) في ت، ف، أ: "بإيلياء"
(8) في ت: "محلهم".

ومكذبهم، البصير بهم فيعطي كلا ما يستحقه في الدنيا والآخرة.
ذكر الأحاديث الواردة في الإسراء
رواية أنس بن مالك:
قال الإمام أبو عبد الله البخاري: حدثني عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا سليمان -هو ابن بلال-عن شريك بن عبد الله (1) قال: سمعت أنس بن مالك يقول ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة: إنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم. فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه، وتنام عيناه ولا ينام قلبه -وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم-فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم، بيده حتى أنقي جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشوًا إيمانًا وحكمة، فحشا به صدره ولغاديده -يعني عروق حلقه-ثم أطبقه. ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابًا من أبوابها، فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد. قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. قالوا: مرحبًا به وأهلا به، يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يُعْلِمهم.
ووجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل: هذا أبوك آدم فسلِّم عليه، فسلَّم عليه، وردّ عليه آدم فقال: مرحبًا وأهلا بابني، نعم (2) الابن أنت، فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال: "ما هذان النهران يا جبريل؟" قال: هذا النيل والفرات عنصرهما، ثم مضى به في (3) السماء، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده فإذا هو مسك أذْفر فقال: "ما هذا يا جبريل؟" قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك.
ثم عرج إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى: مَنْ هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. قالوا: مرحبًا (4) وأهلا وسهلا.
ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية. ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء السادسة، فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء السابعة، فقالوا له مثل ذلك. كل سماء فيها أنبياء قد سماهم، قد وعيت (5) منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله. فقال موسى: "رب لم أظن أن يرفع عليّ أحد" (6) ثم علا به فوق ذلك، بما لا يعلمه إلا الله، عز وجل، حتى جاء سِدْرَة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله إليه فيما
__________
(1) في ف: "عبد الله يعني ابن أبي نمر أنه".
(2) في ف: "فنعم".
(3) في ت، ف: "إلى".
(4) في ف: "مرحبا به".
(5) في أ: "عينهم".
(6) في ت: "أنه عليَّ أحد".

يوحى: خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة. ثم هبط به حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال: "يا محمد، ماذا عهد إليك ربك؟" قال: "عهد إليّ خمسين صلاة كل يوم وليلة" قال:" إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم". فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار إليه جبريل: أن نعم، إن شئت. فعلا (1) به إلى الجبار تعالى، فقال وهو في مكانه: "يا رب، خفف عنا، فإن أمتي لا تستطيع هذا" فوضع عنه عشر صلوات، ثم رجع إلى موسى فاحتبسه، فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات. ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال: "يا محمد، والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا، فضعفوا فتركوه، فأمتك أضعف أجسادًا وقلوبًا وأبدانًا وأبصارًا وأسماعًا، فارجع فليخفف عنك ربك" كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه، ولا يكره ذلك جبريل، فرفعه عند الخامسة فقال: "يا رب، إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم (2) وأبدانهم فخفف عنا" فقال: الجبار: "يا محمد، قال: "لبيك وسعديك" قال: إنه لا يبدل القول لديّ، كما فرضت عليك في أم الكتاب: "كل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك"، فرجع إلى موسى فقال: "كيف فعلت؟" فقال: "خفف عنا، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها" قال: موسى: "قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، فارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضًا". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا موسى قد -والله-استحييت من ربي مما أختلف إليه" (3) قال: "فاهبط باسم الله"، فاستيقظ وهو في المسجد الحرام.
هكذا ساقه البخاري في "كتاب التوحيد" (4) ، ورواه في "صفة النبي صلى الله عليه وسلم"،عن إسماعيل بن أبي أُوَيْس عن أخيه أبي بكر عبد الحميد، عن سليمان بن بلال (5) .
ورواه مسلم، عن هارون بن سعيد، عن ابن وَهْب، عن سليمان (6) قال: "فزاد ونقص، وقدم وأخر" (7) .
وهو كما قاله (8) مسلم، رحمه الله، فإن شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر اضطرب في هذا الحديث، وساء حفظه ولم يضبطه، كما سيأتي بيانه في الأحاديث الأخر.
ومنهم من يجعل هذا منامًا توطئة لما وقع بعد ذلك، والله أعلم.
[وقال] (9) البيهقي: في (10) حديث "شريك" زيادة تفرد بها، على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه، يعني قوله: "ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى" قال: وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤيته جبريل -أصح (11) .
__________
(1) في ف: "ثم علا".
(2) في ف، أ: "وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم".
(3) في ف : "عليه".
(4) صحيح البخاري برقم (7517).
(5) صحيح البخاري برقم (3570).
(6) في ف، أ: "سليمان به".
(7) صحيح مسلم برقم (162).
(8) في أ: "قال".
(9) زيادة من ت.
(10) في ف، أ: "وفي".
(11) دلائل النبوة للبيهقي (2/385).

وهذا الذي قاله البيهقي هو الحق في هذه المسألة، فإن أبا ذر قال: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنى أراه". وفي رواية "رأيت نورا". أخرجه مسلم، رحمه الله (1) .
وقوله: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } [ النجم: 8 ]، إنما هو جبريل، عليه السلام، كما ثبت ذلك في الصحيحين، عن عائشة أمّ المؤمنين، وعن ابن مسعود، وكذلك هو في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، رضي الله عنهم، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في تفسير هذه الآية بهذا (2) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت البُناني، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس، فربطت الدابة بالحلقة التي يربط (3) فيها الأنبياء، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت. فأتاني (4) جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن. قال جبريل: أصبت الفطرة" قال: "ثم عرج بي إلى السماء الدنيا، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: (5) ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ [قال: قد أرسل إليه] (6) . ففتح لنا، فإذا أنا بآدم، فرحب ودعا لي بخير.
ثم عَرَج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى، فرحبا بي ودعوا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ فقال: محمد. فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن، فرحب ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: قد أرسل إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح الباب، فإذا أنا بإدريس، فرحب ودعا لي بخير. ثم قال: يقول الله: { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } [ مريم: 57 ].
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل. فقيل: [و] (7) من معك؟ فقال: محمد. فقيل: قد أرسل إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بهارون، فرحب ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل. قيل (8) ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بموسى فرحب ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: (9) ومن
__________
(1) صحيح مسلم برقم (178).
(2) حديث عائشة: رواه البخاري في صحيحه برقم (3235) ومسلم في صحيحه برقم (177) وحديث ابن مسعود: رواه البخاري في صحيحه برقم (4856) ومسلم في صحيحه برقم (174) وحديث أبي هريرة: رواه مسلم في صحيحه برقم (175).
(3) في ت، ف، أ: "تربط".
(4) في ف، أ: "فجاءني".
(5) في ت، ف، أ: "قيل".
(6) زيادة من ت، ف، أ، هـ المسند.
(7) زيادة من ت، ف، أ.
(8) في ف، أ: "فقيل".
(9) في ف: "فقيل".

معك؟ قال: محمد. فقيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم (1) ، وإذا هو مستند إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه.
ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، فإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال. فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق الله تعالى يستطيع أن يصفها من حسنها. قال: "فأوحى الله إليّ ما أوحى، وفرض عليّ في كل يوم وليلة خمسين صلاة، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى". قال: "ما فرض ربك على أمّتك؟ (2) قال: "قلت: خمسين صلاة في كل يوم وليلة". قال: ارجع (3) إلى ربك فاسأله التخفيف؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك، وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم". قال (4) :" فرجعت إلى ربي، فقلت: أي رب، خفف عن أمّتي، فحطّ عني خمسًا. فرجعت إلى موسى فقال: ما فعلت؟ قلت: (5) قد حطّ عني خمسًا". قال: "إن أمّتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمّتك" قال: "فلم (6) أزل أرجع بين ربي وبين موسى، ويحط عني خمسًا خمسًا حتى قال: يا محمد، هي خمس صلوات في كل يوم وليلة، بكل صلاة عشر، فتلك خمسون صلاة، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت [له] (7) حسنة، فإن عملها كتبت عشرًا. ومن همّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب، فإن عملها كتبت سيئة واحدة. فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمّتك، فإنّ أمّتك لا تطيق ذلك". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت".
ورواه مسلم عن شَيْبَان بن فَرُّوخ، عن حماد بن سلمة بهذا السياق (8) ، وهو أصح من سياق شَريك.
قال البيهقي: وفي هذا السياق دليل على أن المعراج كان ليلة أسري به، عليه الصلاة والسلام، من مكة إلى بيت المقدس (9) . وهذا الذي قاله هو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به مُسْرَجًا ملجمًا ليركبه، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: ما يحملك على هذا؟ فوالله ما ركبك قط أكرم على الله منه. قال: فارفضَّ عرقًا.
ورواه الترمذي عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرزاق، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديثه (10) .
وقال أحمد أيضًا: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثني راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما عرج بي ربي، عز وجل، مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون
__________
(1) في ت: "بإبراهيم عليه وسلم" وفي ف: "بإبراهيم عليه السلام".
(2) في ت: "ما فرض عليك على أمتك".
(3) في ت: "فارجع".
(4) في أ: "ثم قال".
(5) في ف، أ: "فقلت".
(6) في ف: "فقال: لم".
(7) في ف، أ: "كتبت له".
(8) المسند (3/148)، وصحيح مسلم برقم (162).
(9) دلائل النبوة للبيهقي (2/385).
(10) المسند (3/164) وسنن الترمذي برقم (3131).

لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم".
وأخرجه أبو داود، من حديث صفوان بن عمرو، به (1) . ومن وجه آخر ليس فيه أنس (2) ، فالله أعلم.
وقال أيضًا: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن سليمان التّيْمِي، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررت ليلة أسري بي على موسى، عليه السلام، قائمًا يصلي في قبره" (3) .
ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن سليمان بن طرخان التيمي وثابت البناني، كلاهما عن أنس (4) .
قال النسائي: وهذا أصح من رواية من قال: سليمان عن ثابت، عن أنس.
وقال [الحافظ] (5) أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا وهب بن بقيَّة، حدثنا خالد، عن التيمي، عن أنس قال: أخبرني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مرّ على موسى وهو يصلي في قبره (6) .
وقال أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عَرْعَرة، حدثنا معتمر، عن أبيه قال: سمعت أنسًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مرّ بموسى (7) وهو يصلي في قبره -قال أنس: ذكر أنه حمل على البراق-فأوثق الدابة -أو قال: الفرس-قال أبو بكر: صفها لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر كلمة (8) فقال: أشهد أنك رسول الله، وكان أبو بكر، رضي الله عنه، قد رآها (9) .
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار في مسنده: حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا الحارث بن عبيد، عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا قاعد (10) إذ جاء جبريل عليه السلام، فوكز بين كتفي، فقمت إلى شجرة فيها كوكري الطير، فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر فسمت (11) وارتفعت حتى سدت الخافقين وأنا أقلب طرفي، ولو شئت أن أمس السماء لمسست، فالتفت إلى جبريل، عليه السلام، كأنه حِلْس (12) لاط فعرفت فضل علمه بالله علي، وفتح لي باب من أبواب السماء فرأيت النور الأعظمَ، وإذا دون الحجاب رفرف الدر والياقوت، وأوحى إليَّ ما شاء الله أن يوحى" ثم قال: هذا الحديث لا نعلم رواه إلا أنس، ولا نعلم رواه عن أبي عمران الجوني إلا الحارث بن عبيد، وكان رجلا مشهورًا من أهل البصرة (13) .
__________
(1) المسند (3/224) وسنن أبي داود برقم (4878).
(2) سنن أبي داود برقم (4878).
(3) المسند (3/120).
(4) صحيح مسلم برقم (2375).
(5) زيادة من أ.
(6) مسند أبي يعلى (7/117).
(7) في ف: "مر على موسى".
(8) في هـ: "هي كذه وذه" والتصويب من مسند البزار و "ت".
(9) مسند أبي يعلى (7/126).
(10) في هـ: "نائم" والتصويب من مسند البزار.
(11) في أ: "فسميت".
(12) في ت، أ: "جلس".
(13) مسند البزار برقم (58) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (59) عن محمد بن علي الصائغ عن سعيد بن منصور به. وقال الهيثمي في المجمع (1/75): "رجاله رجال الصحيح". وقال الحافظ ابن حجر في زوائد البزار (1/95): "الحارث أخرج له الشيخان، وهو مع ذاك له مناكير هذا منها".

ورواه الحافظ البيهقي في "الدلائل"، عن أبي بكر القاضي، عن أبي جعفر محمد بن علي بن دُحَيْم، عن محمد بن الحسين بن أبي الحُنَيْن، عن سعيد بن منصور، فذكر بسنده مثله، ثم قال: وقال غيره في هذا الحديث في آخره: "ولُطّ دوني -أو قال: دون الحجاب-رفرف الدر والياقوت". ثم قال: هكذا (1) رواه الحارث بن عبيد. ورواه حماد (2) بن سلمة، عن أبي عمران الجَوْني، عن محمد بن عمير بن عطارد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ملإ من أصحابه، فجاءه (3) جبريل، فنكت في ظهره فذهب به إلى الشجرة وفيها مثل وَكْري الطير، فقعد في أحدهما وقعد جبريل في الآخر، فنشأت بنا حتى بلغت (4) الأفق، فلو بسطت يدي إلى السماء لنلتها، فدلي بسبب وهبط النور، فوقع جبريل مغشيًا عليه كأنه حِلْس، فعرفت فضل خشيته على خشيتي. فأوحي إلي: نبيًا ملكًا أو نبيًا عبدًا؟ وإلى الجنة ما أنت؟ فأومَأ (5) إلي جبريل وهو مضطجع: أن تواضع. قال: قلت: لا. بل نبيًا عبدًا (6) .
قلت: وهذا إن صح يقتضي أنها واقعة غير ليلة الإسراء، فإنه لم يذكر فيها بيت المقدس، ولا الصعود إلى السماء، فهي كائنة غير ما نحن فيه، والله أعلم.
وقال البزار أيضًا: حدثنا عمرو بن عيسى، حدثنا أبو بحر، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس، رضي الله عنه، أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه، عز وجل، هذا غريب.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا يونس، حدثنا عبد الله بن وهب، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن أنس بن مالك قال: لما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق فكأنها أَمَرَّت ذنبها، فقال لها جبريل: مه يا براق، فوالله إن ركبك (7) مثله. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بعجوز على جانب الطريق، فقال: "ما هذه يا جبريل؟" قال: سر يا محمد. قال: فسار ما شاء الله أن يسير، فإذا شيء يدعوه متنحيًا عن الطريق يقول: هلم يا محمد فقال له جبريل: سر يا محمد فسار ما شاء الله أن يسير، قال: فلقيه خلق من الخلق فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر، فقال له جبريل: اردد السلام يا محمد. فرد السلام، ثم لقيه الثانية فقال له مثل مقالته الأولى، ثم الثالثة كذلك، حتى انتهى إلى بيت المقدس. فعرض عليه الماء والخمر واللبن، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغويت ولغوت (8) أمتك. ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء، عليهم السلام، فأمَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة. ثم قال له جبريل: أما العجوز التي (9) رأيت على جانب الطريق، فلم يبق من الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز، وأما الذي أراد أن تميل إليه، فذاك عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه، وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى، عليهم الصلاة والسلام.
وهكذا رواه الحافظ البيهقي في "دلائل النبوة" من حديث ابن وهب (10) ، وفي بعض ألفاظه نكارة
__________
(1) في ت: "هذا".
(2) في ت: "ابن حماد" وهو خطأ.
(3) في ف، أ: "فجاء".
(4) في ت: "بلغنا".
(5) في أ: "فأوحى".
(6) دلائل النبوة للبيهقي (2/369).
(7) في ت، أ: "فواللله ما ركبك".
(8) في ف: "وغويت".
(9) في ت، أ: "الذي".
(10) تفسير الطبري (15/5)، ودلائل النبوة للبيهقي (2/362).

وغرابة.
طريق أخرى عن أنس بن مالك:
وفيها غرابة ونكارة جدًا، وهي في سنن النسائي المجتبى، ولم أرها في الكبير قال: أخبرنا عمرو (1) بن هشام، حدثنا مَخْلَد -هو ابن الحسين-عن سعيد بن عبد العزيز، حدثنا يزيد بن أبي مالك، حدثنا أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل، خطوها عند منتهى طرفها، فركبت ومعى جبريل عليه السلام فسرت فقال: انزل فصل. فصليت، فقال: أتدري أين صليت؟ [صليت بطيبة وإليها المهاجر، ثم قال: انزل فصل. فصليت، فقال: أتدري أين صليت؟] (2) صليت بطور سيناء، حيث كلم الله موسى، ثم قال: انزل فصل. فصليت، فقال: أتدري أين صليت. صليت ببيت لحم، حيث ولد عيسى، عليه السلام، ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي الأنبياء عليهم السلام، فقدمني جبريل حتى أممتهم [ثم صعد بي إلى السماء الدنيا، فإذا فيها آدم، عليه السلام] (3) ثم صعد بي إلى السماء الثانية، فإذا فيها ابنا الخالة: عيسى ويحيى، عليهما السلام، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فإذا فيها يوسف عليه السلام. ثم صعد بي إلى السماء الرابعة، فإذا فيها هارون، عليه السلام. ثم صعد بي إلى السماء الخامسة، فإذا فيها إدريس عليه السلام. ثم صعد بي إلى السماء السادسة، فإذا فيها موسى، عليه السلام. ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فإذا فيها إبراهيم عليه السلام، ثم صعد بي فوق سبع سموات وأتيت سدرة المنتهى، فغشيتني ضبابة فخررت (4) ساجدًا فقيل لي: إني يوم خلقت السموات والأرض، فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة، فقم بها أنت وأمتك [فرجعت إلى إبراهيم فلم يسألني، عن شيء. ثم أتيت موسى فقال: كم فرض الله عليك وعلى أمتك؟] (5) قلت: خمسين صلاة. قال: فإنك لا تستطيع أن تقوم بها، لا أنت ولا أمتك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف (6) فرجعت إلى ربي فخفف عني عشرًا. ثم أتيت موسى فأمرني بالرجوع، فرجعت فخفف عني عشرًا، ثم ردت إلى خمس صلوات، قال: فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتين، فما قاموا بهما. فرجعت إلى ربي، عز وجل، فسألته التخفيف، فقال: إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة، فخمس بخمسين، فقم بها أنت وأمتك. فعرفت أنها من الله عز وجل (7) صِرَّى فرجعت إلى موسى، عليه السلام (8) فقال: ارجع، فعرفت أنها من الله صِرَّى -يقول: أي حتم-فلم أرجع" (9) .
طريق أخرى:
وقال ابن أبي حاتم: حدثني أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: لما كان ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، أتاه جبريل بدابة فوق الحمار ودون البغل، حمله جبريل عليها، ينتهي خفها حيث ينتهي
__________
(1) في ت: "عمر".
(2) زيادة من ت، ف، أ والنسائي.
(3) زيادة من ت، ف، أ والنسائي.
(4) في ت: "خررت".
(5) زيادة من ت، ف، أ، والنسائي.
(6) في ف: "تخفيفها".
(7) في ف، أ: "من الله تعالى".
(8) في ت: "فرجعت إليه عليه السلام".
(9) سنن النسائي (1/221).

طرفها. فلما بلغ بيت المقدس وبلغ (1) المكان الذي يقال له: "باب محمد صلى الله عليه وسلم" أتى إلى الحجر الذي ثمة، فغمزه جبريل بأصبعه فثقبه، ثم ربطها. ثم صعد فلما استويا في صَرْحَة المسجد، قال جبريل: يا محمد، هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ فقال: نعم. فقال: فانطلق إلى أولئك النسوة، فسلم عليهن وهن جلوس عن يسار الصخرة، قال: فأتيتهن فسلمت عليهن، فرددن عليّ السلام، فقلت: من أنتن؟ فقلن: نحن خيرات حسان، نساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا، وأقاموا فلم يظعنوا، وخلدوا فلم يموتوا". قال: "ثم انصرفت (2) ، فلم ألبث إلا يسيرًا حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة". قال: "فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدي جبريل عليه السلام، فقدمني فصليت بهم. فلما انصرفت قال جبريل: يا محمد، أتدري من صلى خلفك؟" قال: "قلت: لا. قال: صلى خلفك كل نبي بعثه الله عز وجل".
قال: "ثم أخذ بيدي جبريل فصعد بي إلى السماء، فلما انتهينا إلى الباب استفتح فقالوا: من أنت؟ قال: أنا جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث؟ قال: نعم". قال: "ففتحوا له وقالوا: مرحبًا بك وبمن معك". قال: "فلما استوى على ظهرها إذا فيها آدم، فقال لي جبريل: يا محمد، ألا تسلم على أبيك آدم؟" قال: "قلت: بلى. فأتيته فسلمت عليه، فرد عليّ وقال: مرحبًا بابني والنبي الصالح". قال: "ثم عرج بي إلى السماء الثانية فاستفتح، قالوا: من أنت؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث؟ قال: نعم": "ففتحوا (3) له وقالوا: مرحبًا بك وبمن معك، فإذا فيها عيسى وابن خالته يحيى عليهما السلام (4) . قال: "ثم عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح، قالوا: من أنت؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث؟ قال: نعم" (5) . ففتحوا (6) وقالوا: مرحبًا بك وبمن معك، فإذا فيها يوسف، عليه السلام، ثم عرج بي إلى السماء الرابعة فاستفتح، قالوا: من أنت؟ قال: جبريل؟ قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث؟ قال: نعم. ففتحوا وقالوا: مرحبًا بك وبمن معك. فإذا فيها إدريس عليه السلام". قال: "فعرج بي إلى السماء الخامسة، فاستفتح، قالوا: من أنت؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث؟ قال: نعم. قال: ففتحوا وقالوا: مرحبًا بك وبمن معك فإذا فيها هارون، عليه السلام". قال: "ثم عرج بي إلى السماء السادسة فاستفتح، قالوا: من أنت؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث؟ قال: نعم. ففتحوا وقالوا: مرحبًا بك وبمن معك، فإذا فيها موسى، عليه السلام. ثم عرج بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقالوا (7) من أنت؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. ففتحوا له وقالوا: مرحبًا بك وبمن معك، فإذا فيها إبراهيم، عليه السلام. فقال جبريل: يا محمد، ألا تسلم على أبيك إبراهيم؟ قال: قلت: بلى. فأتيته فسلمت عليه، فرد عليّ السلام وقال: مرحبًا بك يا بني (8) والنبي الصالح.
ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة، حتى انتهى بي إلى نهر عليه خيام الياقوت واللؤلؤ والزبرجد وعليه طير خضر أنعم طير رأيت. فقلت: يا جبريل، إن هذا الطير لناعم قال (9) : يا محمد، آكله أنعم منه ثم قال: يا محمد، أتدري أي نهر هذا؟ قال: "قلت: لا. قال: هذا الكوثر الذي أعطاك
__________
(1) في ت: "فبلغ".
(2) في ف: "قال: وانصرفت".
(3) في ف: "قال: ففتحوا".
(4) في ت: "عليهما الصلاة والسلام".
(5) في ف، أ: "قال: ففتحوا".
(6) في ت، ف، أ: "ففتحوا له".
(7) في ف: "قالوا".
(8) في ف: "مرحبا بابني".
(9) في ف: "فقال".

الله إياه. فإذا فيه آنية الذهب والفضة، يجري (1) على رَصْرَاض من الياقوت والزمرد، ماؤه، (2) أشد بياضًا من اللبن" قال: "فأخذت منه آنية (3) من الذهب، فاغترفت من ذلك الماء فشربت، فإذا هو أحلى من العسل، وأشد (4) رائحة من المسك. ثم انطلق بي حتى انتهيت (5) إلى الشجرة، فغشيتني سحابة فيها من كل لون، فرفضني جبريل، وخررت ساجدًا لله، عز وجل، فقال الله لي: يا محمد، إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة، فقم بها أنت وأمتك". قال: "ثم انجلت عني السحابة وأخذ بيدي جبريل، فانصرفت سريعًا فأتيت على إبراهيم فلم يقل لي شيئًا، ثم أتيت على موسى فقال: ما صنعت يا محمد؟ فقلت: فرض ربي عليّ وعلى أمتي خمسين صلاة. قال: فلن تستطيعها أنت ولا أمتك، فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنك. فرجعت سريعًا حتى انتهيت إلى الشجرة، فغشيتني السحابة، ورفضني جبريل وخررت ساجدًا وقلت: رب، إنك فرضت عليّ وعلى أمتي خمسين صلاة، ولن أستطيعها أنا ولا أمتي، فخفف عنا. قال: قد وضعت عنكم عشرًا. قال: ثم انجلت عني السحابة، وأخذ (6) بيدي جبريل وانصرفت (7) سريعًا حتى أتيت على إبراهيم فلم يقل لي شيئًا، ثم أتيت على موسى، فقال لي: ما صنعت يا محمد؟ فقلت: وضع ربي عني عشرًا فقال: أربعون صلاة! لن تستطيعها أنت ولا أمتك، فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنكم -فذكر الحديث كذلك إلى خمس صلوات، وخمس بخمسين ثم أمره (8) موسى أن يرجع فيسأل التخفيف، فقلت: "إني قد استحييت منه تعالى".
قال: ثم انحدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: "ما لي لم آت على (9) سماء إلا رحبوا بي وضحكوا إليّ، غير رجل واحد، فسلمت عليه فردّ عليّ السلام فرحب بي ولم يضحك إليّ. قال: يا محمد، ذاك مالك خازن جهنم لم يضحك منذ خلق (10) ولو ضحك إلى أحد لضحك إليك".
قال: ثم ركب منصرفًا، فبينا هو في بعض طريقه مرّ بعير لقريش تحمل طعامًا، منها جمل عليه غرارتان: غرارة سوداء، وغرارة بيضاء، فلما حاذى بالعير نفرت منه واستدارت، وصرع ذلك البعير وانكسر.
ثم إنه مضى فأصبح، فأخبر عما كان، فلما سمع المشركون قوله أتوا أبا بكر فقالوا: يا أبا بكر، هل لك في صاحبك؟ يخبر (11) أنه أتى في ليلته هذه مسيرة شهر، ثم رجع في ليلته. فقال أبو بكر، رضي الله عنه: إن كان قاله فقد صدق، وإنا لنصدقه فيما هو أبعد من هذا، نصدقه على خبر السماء.
فقال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما علامة ما تقول؟ قال: "مررت بعير لقريش، وهي في مكان كذا وكذا، فنفرت العير (12) منا واستدارت، [وفيها بعير عليه] (13) غرارتان: غرارة سوداء، وغرارة بيضاء، فصرع فانكسر".
فلما قدمت العير سألوهم، فأخبروهم الخبر على مثل ما حدثهم النبي صلى الله عليه وسلم (14) ومن (15) ذلك سمي أبو (16) بكر الصديق.
__________
(1) في ف، أ: "تجري".
(2) قي ف، أ: "وماؤه".
(3) في ف، أ: "من آنيته".
(4) في ت: "وألد".
(5) في ت، ف، أ: "انتهى".
(6) في ت: "فأخذ".
(7) في ت، ف، أ: "فانصرفت".
(8) في ت: "أمر".
(9) في أ: "أهل".
(10) في ت: "خلقت".
(11) في ت: "يزعم".
(12) في ف: "الإبل".
(13) زيادة من ف، أ، وفي ت: "جمل عليه".
(14) في ف: "رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(15) في ف، أ: "وفي".
(16) في ف: "أبا".

وسألوه وقالوا (1) : هل كان معك فيمن حضر موسى وعيسى؟ قال: "نعم". قالوا: فصفهم. قال: "نعم"، أما موسى فرجل آدم، كأنه من رجال أزْدِ عمان، وأما عيسى فرجل ربعة، سَبْط، تعلوه (2) حمرة كأنما يتحادر من شعره الجُمَان" (3) .
هذا سياق فيه غرائب عجيبة.
رواية أنس، رضي الله عنه، عن مالك بن صَعْصَعَة:
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا هَمَّام، قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك: أن مالك بن صعصعة حدثه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به، قال: "بينما أنا في الحطيم (4) -وربما قال قتادة: في الحجر-مضطجعًا إذ أتاني آت" فجعل يقول لصاحبه الأوسط بين الثلاثة، قال: "فأتاني فقدّ -وسمعت قتادة يقول: فشق-ما بين هذه إلى هذه". وقال قتادة: فقلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني؟ قال: من ثغرة نحره إلى شِعْرته، وقد سمعته يقول: من قَصَّته إلى شِعْرَته قال: "فاستخرج قلبي" قال: "فأتيت بطست من ذهب مملوء إيمانًا وحكمة فغسل قلبي ثم حشى، ثم أعيد. ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض" قال: فقال الجارود: وهو البراق يا أبا حمزة؟ قال: نعم، يقع خطوه عند أقصى طرفه. قال: "فحملت عليه، فانطلق بي جبريل، عليه السلام، حتى أتى بي إلى السماء الدنيا، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. فقيل: مرحبًا به، ولنعم المجيء جاء" قال: "ففتح (5) فلما خلصت، فإذا فيها آدم، عليه السلام، فقال: هذا أبوك آدم، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال (6) : جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل (7) : أوقد (8) أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به ولنعم المجيء جاء"، قال: "ففتح، فلما خلصت، فإذا يحيى (9) وعيسى وهما ابنا الخالة. قال: هذا (10) يحيى وعيسى، فسلم عليهما. قال: فسلمت فردا السلام ثم قالا (11) مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد حتى أتى السماء الثالثة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به ولنعم المجيء جاء". قال: ففتح (12) فلما خلصت، فإذا يوسف (13) ، عليه السلام، قال: هذا يوسف (14) قال: "فسلمت عليه، فرد السلام ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟
__________
(1) في ت، ف: "فقالوا".
(2) في ت: "يعلوه".
(3) وفي إسناده خالد بن يزيد بن أبي مالك ضعفه أحمد وابن معين والنسائي والدارقطني ولم يوثقه إلا أبو زرعة الدمشقي.
(4) في ف: "بالحطيم".
(5) في ت، أ: "ففتح لنا".
(6) في ت، ف: "فقال".
(7) في ت: "قال".
(8) في ت: "وقد".
(9) في ف، أ: "بيحيى".
(10) في ف، أ: "وهذان".
(11) في ف، أ: "وقالا".
(12) في ف، أ: "ففتح الباب".
(13) في ت: "فإدريس"، وفي ف، أ: "إذا بيوسف".
(14) في ت: "إدريس".

قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به، ولنعم المجيء جاء" قال: "ففتح فلما خلصت فإذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه". قال: "فسلمت عليه. فرد السلام (1) ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح".
قال: "ثم صعد حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به ولنعم المجيء جاء". قال: "ففتح، فلما خلصت، فإذا هارون، عليه السلام، قال: هذا هارون فسلم عليه. قال: فسلمت عليه فرد السلام (2) ، ثم قال: مرحبًا بالأخ والنبي الصالح".
قال: "ثم صعد حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به ولنعم المجيء جاء. ففتح، فلما خلصت، فإذا أنا بموسى، قال: هذا موسى، عليه السلام، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح". قال: "فلما تجاوزته بكى. قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلامًا بعث بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي".
قال: "ثم صعد حتى أتى السماء السابعة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به ولنعم المجيء جاء". قال: "ففتح، فلما خلصت، فإذا إبراهيم، عليه السلام. فقال: هذا إبراهيم، فسلم عليه". قال: "فسلمت عليه، فرد السلام (3) ، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح".
قال: ثم رفعت إلي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قِلال هَجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، فقال: هذه سدرة المنتهى". قال: "وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات".
قال: ثم رفع إلي البيت المعمور.
قال قتادة: وحدثني الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون فيه.
ثم رجع إلى حديث أنس [قال: "ثم] (4) أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل". قال: "فأخذت اللبن، قال: هذه الفطرة وأنت (5) عليها وأمتك".
قال: "ثم فرضت الصلاة خمسين صلاة كل يوم". قال: "فنزلت حتى انتهيت إلى (6) موسى، قال (7) ما فرض ربك على أمتك؟" قال: "قلت (8) خمسين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة، وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى
__________
(1) في ف، أ: "فرد علي السلام".
(2) في ف، أ: "فرد علي السلام".
(3) في ف، أ: "فرد علي السلام".
(4) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(5) في ت، ف، أ: "أنت".
(6) في أ: "أتيت".
(7) في أ: "فقال".
(8) في ف، أ: "فقلت".

ربك فاسأله التخفيف، عن أمتك (1) ". قال: "فرجعت فوضع عني عشرًا، قال: فرجعت إلى موسى، فقال: بم أمرت؟ قلت: بأربعين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع أربعين صلاة كل يوم، وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال: فرجعت فوضع عني عشرًا أخر. فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ فقلت: أمرت بثلاثين صلاة. قال: إن أمتك لا تستطيع ثلاثين صلاة كل يوم، وإني قد خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك". قال: "فرجعت فوضع عني عشرًا أخر، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: بعشرين (2) صلاة كل يوم. فقال: إن أمتك لا تستطيع لعشرين صلاة كل يوم، وإني قد خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك". قال: "فرجعت فوضع عني عشرًا أخر، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ فقلت: أمرت بعشر صلوات في كل يوم. فقال: إن أمتك (3) لا تستطيع لعشر صلوات كل يوم، وإني قد خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك". قال: "فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ فقلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم. فقال: إن أمتك (4) لا تستطيع لخمس صلوات كل يوم وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك". قال: "قلت: لقد (5) سألت ربي [عز وجل] (6) حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم. فنفذت، فناداني مناد: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي".
وأخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة، بنحوه (7) .
"رواية أنس، عن أبي ذر:
قال البخاري: حدثنا يحيى بن بُكَيْر، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك قال: كان أبو ذر، رضي الله عنه، يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج [صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغه] (8) في صدري، ثم أطبقه. ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء، فلما جئت إلى السماء [الدنيا] (9) قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال: من هذا؟ قال: جبريل. قال: هل معك أحد؟ قال: نعم، معي محمد. قال: أرسل إليه؟ قال: نعم. فلما فتح علونا السماء الدنيا وإذا رجل قاعد على يمينه أَسْوِدَة وعلى يساره أسودة، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت: لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم. وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نَسَم (10) بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار. فإذا نظر، عن يمينه ضحك، وإذا نظر، عن شماله بكى.
"ثم عرج بي إلى السماء الثانية فقال لخازنها: افتح. فقال له خازنها مثل ما قال له الأول،
__________
(1) في ف، أ: "لأمتك".
(2) في ف: "فقلت أمرت بعشرين".
(3) في ف: "قال: أمتك".
(4) في ف: "قال: أمتك".
(5) في ف، أ: "قد".
(6) زيادة من "أ".
(7) المسند (4/208) وصحيح البخاري برقم (3393) ومعلقا برقم (3207) وصحيح مسلم برقم (164).
(8) زيادة من ت، ف، أ، والبخاري.
(9) زيادة من ت، ف، أ، والبخاري.
(10) في ت: "نطف".

ففتح". قال أنس: فذكر أنه وجد في السموات آدم، وإدريس، وموسى، وعيسى، وإبراهيم، ولم يثبت كيف منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة. قال أنس: فلما مرّ جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم بإدريس قال: "مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح. فقلت: من هذا؟ فقال: هذا إدريس. ثم مررت بموسى فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قلت: (1) من هذا؟ قال: موسى (2) ثم مررت بعيسى فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قلت: من هذا؟ قال: عيسى (3) ابن مريم. ثم مررت بإبراهيم فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم". قال الزهري: فأخبرني ابن حزم: أن ابن عباس وأبا حَبَّة (4) الأنصاري كانا يقولان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام". قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض الله على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة. قال: فارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجعت [فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى، قلت: وضع شطرها. فقال: ارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك. فرجعت فوضع شطرها. فرجعت إليه فقال: ارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك. فراجعته] (5) فقال: هي خمس وهي خمسون، لا يبدل القول لديّ. فرجعت إلى موسى فقال: ارجع إلى ربك. قلت: قد استحييت من ربي. ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى فغشيها ألوان (6) لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جَنَابذ (7) اللؤلؤ وإذا ترابها المسك".
هذا لفظ البخاري في "كتاب الصلاة" (8) ورواه في ذكر بني إسرائيل، وفي الحج وفي أحاديث الأنبياء من طرق أخر، عن يونس، به (9) ورواه مسلم في صحيحه في "كتاب الإيمان" منه، عن حَرْملة، عن ابن وهب، عن يونس به نحوه. (10) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام، عن قتادة، عن عبد الله بن شَقِيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. قال: وما كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله: هل رأى ربه؟ فقال: إني قد سألته فقال: "إني قد رأيته (11) نورا أنى أراه" (12) .
هكذا قد وقع في رواية الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق، [عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: "إني نور أنى أراه".
وعن محمد بن بَشَّار، عن معاذ بن هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق] (13) قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. فقال (14) عن أي شيء كنت تسأله؟ قال:
__________
(1) في ف: "فقلت".
(2) في ف، أ: "هذا موسى".
(3) في ف، أ: "هذا عيسى".
(4) في ت: "حية".
(5) زيادة من ت، ف، أ، والبخاري.
(6) في ف: "الألوان".
(7) في ف: "جبال"، وفي أ: "حبائل".
(8) صحيح البخاري برقم (349).
(9) صحيح البخاري برقم (1636، 3342).
(10) صحيح مسلم برقم (163).
(11) في ت، ف، أ: "رأيت".
(12) المسند (5/147).
(13) زيادة من ت، ف، أ، ومسلم.
(14) في ف: "قال".

كنت أسأله: هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر: قد سألت فقال: "رأيت نورًا" (1) .
رواية أنس، عن أبي بن كعب الأنصاري، رضي الله عنه:
قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا محمد بن إسحاق بن محمد بن المسيبي (2) حدثنا أنس بن عياض، عن يونس بن يزيد قال: قال ابن شهاب: قال أنس بن مالك: كان أبي بن كعب يحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغها (3) في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء. فلما جاء السماء [فافتتح فقال: من هذا؟ قال: جبريل. قال: هل معك أحد؟ قال: نعم، معي محمد. قال: أرسل إليه؟ قال: نعم، فافتح. فلما علونا السماء الدنيا] (4) إذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى قال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح". قال: "قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم وهذه الأسودة (5) عن يمينه وعن شماله نسم بنيه، فأهل اليمين هم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله هم أهل النار. فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى" قال: "ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية، فقال لخازنها: افتح. فقال له خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا ففتح له". قال أنس: فذكر أنه وجد في السموات: آدم، وإدريس، وموسى، وعيسى، وإبراهيم، ولم يثبت لي كيف منازلهم؟ غير أنه ذكر أنه وجد آدم، عليه السلام، في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة. قال أنس: فلما مرّ جبريل عليه السلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بإدريس قال: "مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح". قال: "قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا إدريس"، قال: "ثم مررت بموسى، فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح. فقلت: من هذا؟ قال: هذا موسى، ثم مررت بعيسى فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قلت: من هذا. قال: هذا عيسى ابن مريم" قال: "ثم مررت بإبراهيم فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم". قال ابن شهاب: وأخبرني ابن حزم: أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع صريف الأقلام" قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرض الله على أمتي خمسين صلاة" قال: "فرجعت بذلك حتى أمر (6) على موسى، فقال موسى: ماذا فرض ربك على أمتك؟ قلت: فرض عليهم خمسين صلاة. فقال لي موسى: راجع ربك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك" قال: "فراجعت ربي فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك (7) فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجعت (8) فقال: هي خمس وهي خمسون، لا يبدل القول لدي". قال: "فرجعت إلى موسى فقال: راجع ربك. فقلت (9) قد استحييت من ربي" قال: "ثم انطلق بي حتى أتى سدرة المنتهى. قال: "فغشيها ألوان ما أدري (10) ما هي؟" قال: "ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك".
هكذا رواه عبد الله بن [الإمام] (11) أحمد في مسند أبيه (12) . وليس هو في شيء من الكتب
__________
(1) صحيح مسلم برقم (178).
(2) في ف، أ: "بن محمد بن المثنى".
(3) في ت: "ففرغهما".
(4) زيادة من ف، أ، والمسند.
(5) في ت، ف: "الأسودة التي".
(6) في ت، ف، أ: "حتى أتى".
(7) في ف: "راجع ربك".
(8) في ف، أ: "فرجعت ربي".
(9) في ت: "قلت".
(10) في ف: "لا أدري".
(11) زيادة من: ف، أ.
(12) زوائد المسند (5/143) وقال الهيثمي في المجمع (1/66): "رجاله رجال الصحيح".

الستة، وقد تقدم في الصحيحين من طريق يونس، عن الزهري (1) ، عن أبي ذر، مثل هذا السياق سواء، فالله أعلم (2) .
رواية بريدة بن الحصيب الأسلمي:
قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عبد الرحمن بن المتوكل ويعقوب بن إبراهيم -واللفظ له-قالا حدثنا أبو نُميلَة، أخبرنا الزبير بن جنادة، عن عبد الله بن بُرَيْدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما كان ليلة أسري به (3) قال: فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس، فوضع إصبعه فيها فخرقها فشد بها البراق".
ثم قال البزار: لا نعلم رواه عن الزبير بن جنادة إلا أبو نُميلَة، ولا نعلم (4) هذا الحديث [يروى] (5) إلا عن بريدة. وقد رواه الترمذي في التفسير من جامعه، عن يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقِي به (6) وقال: غريب.
رواية جابر بن عبد الله، رضي الله عنه (7) :
قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب قال: قال أبو سلمة: سمعت جابر بن عبد الله يحدث: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (8) : " لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس، قمت في الحجر فَجَلَّى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه".
أخرجاه في الصحيحين من طرق، عن الزهري به، (9) .
وقال البيهقي: أخبرنا أحمد بن الحسن (10) القاضي، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن صالح بن كَيْسَان، عن ابن شهاب قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى بيت المقدس، لقي فيه إبراهيم وموسى وعيسى، وإنه أتي بقدحين: قدح من لبن وقدح خمر، فنظر إليهما، ثم أخذ قدح اللبن. فقال جبريل (11) : أصبت، هديت للفطرة (12) ، لو اخترت الخمر لغوت أمتك. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فأخبر أنه أسري به، فافتتن ناس كثير كانوا قد صلوا معه.
قال ابن شهاب: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: فتجهز -أو كلمة نحوها-ناس من قريش إلى أبي بكر فقالوا: هل لك في صاحبك؟ يزعم أنه جاء إلى بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة! فقال أبو بكر: أوقال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فأشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: فتصدقه بأن يأتي الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح؟ قال: نعم، إني أصدقه بأبعد من ذلك (13) أصدقه بخبر السماء. قال أبو سلمة: فبها سمي أبو بكر: الصديق.
__________
(1) في ت، ف، أ: "عن الزهري، عن أنس".
(2) في ت: "والله أعلم".
(3) في ف: "أسري بي".
(4) في ت: "يعلم".
(5) زيادة من أ.
(6) سنن الترمذي برقم (3132).
(7) في ف، أ: "عنهما".
(8) في ت، ف، أ: "قال".
(9) المسند (3/377)، وصحيح البخاري برقم (4710) وصحيح مسلم برقم (170).
(10) في ت، ف: "الحسين".
(11) في ف، أ: "فقال له جبريل عليه السلام".
(12) في ف: "الفطرة".
(13) في ت: "من هذا".

قال أبو سلمة: فسمعت جابر بن عبد الله يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس، قمت في الحجر، فجلى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه" (1) .
رواية حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه:
قال الإمام أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا شيبان، عن عاصم، عن زِرَّ بن حُبَيْش، قال: أتيت على حذيفة بن اليمان وهو يحدث، عن ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: "فانطلقنا (2) حتى أتينا (3) بيت المقدس". فلم يدخلاه. قال: قلت: بل دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ وصلى فيه. قال: ما اسمك يا أصلع؟ فإني أعرف وجهك ولا أدري ما اسمك؟ قال: قلت: أنا زر بن حُبَيْش. قال: فما علمك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه ليلتئذ؟ قال: قلت: القرآن يخبرني بذلك. قال: من تكلم بالقرآن فلج (4) ، اقرأ. قال: فقلت: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى } قال: يا أصلع، هل تجد "صلى فيه"؟ قلت: لا. قال: والله ما صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ، ولو صلى فيه لكتب عليكم صلاة فيه، كما كتب عليكم صلاة في البيت العتيق، والله ما زايلا البراق حتى فتحت لهما أبواب السماء، فرأيا الجنة والنار ووعد الآخرة أجمع، ثم عادا عودهما على بدئهما. قال: ثم ضحك حتى رأيت نواجذه. قال: وتحدثوا (5) أنه ربطه لا يفر منه، وإنما سخره له عالم الغيب والشهادة. قلت: أبا عبد الله (6) أي دابة البراق؟ قال: دابة أبيض طويل هكذا، خطوه مد البصر.
ورواه أبو داود الطيالسي، عن حماد بن سلمة، عن عاصم، به. ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من حديث عاصم -وهو ابن أبي النجود-به (7) ، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وهذا الذي قاله حذيفة، رضي الله عنه، نفي، وما أثبته غيره، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربط الدابة بالحلقة ومن الصلاة بالبيت المقدس، مما سبق وما سيأتي مقدم على قوله، والله أعلم بالصواب.
رواية أبي سعيد -سعد بن مالك بن سنان الخدري:
قال الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب "دلائل النبوّة":
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أبو بكر يحيى بن أبي طالب، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، أخبرنا أبو محمد راشد الحماني، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له أصحابه: يا رسول الله، أخبرنا عن ليلة أسري بك فيها، قال: قال الله عز وجل: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }
__________
(1) دلائل النبوة (2/359).
(2) في ف: "فانطلقا".
(3) في ف: "أتيا".
(4) في ت، ف، أ: "فلح".
(5) في ت: "ويحدثون" وفي ف، أ: "وتحدثون".
(6) في ت: "يا عبد الله".
(7) المسند (5/387) ومسند الطيالسي برقم (411)، وسنن الترمذي برقم (3147) وسنن النسائي الكبرى برقم (11280).

قال: فأخبرهم فقال: "فبينا أنا نائم عشاء في المسجد الحرام، إذ أتاني آت فأيقظني، فاستيقظت فلم أر شيئًا، وإذا أنا بكهيئة خيال، فأتبعته بصري حتى خرجت من المسجد (1) فإذا أنا بدابة أدنى في شبهه بدوابكم هذه، بغالكم هذه، مضطرب (2) الأذنين يقال له: البراق. وكانت الأنبياء تركبه قبلي، يقع حافره عند مَدِّ بصره، فركبته، فبينما أنا أسير عليه، إذ دعاني داع، عن يميني: يا محمد، انظرني أسألك، يا محمد، انظرني أسألك، فلم أجبه ولم أقم عليه، [فبينما أنا أسير عليه، إذ دعاني داع، عن يساري: يا محمد، انظرني أسألك، فلم أجبه ولم أقم عليه] (3) ، فبينما أنا أسير، إذ أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها، وعليها من كل زينة خلقها الله، فقالت: يا محمد، انظرني أسألك. فلم ألتفت إليها ولم أقم عليها. حتى أتيت بيت المقدس، فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء توثقها بها. فأتاني (4) جبريل، عليه السلام بإناءين: أحدهما خمر، والآخر لبن، فشربت اللبن، وتركت الخمر، فقال جبريل: أصبت الفطرة (5) فقلت: الله أكبر، الله أكبر. فقال: جبريل: ما رأيت في وجهك هذا؟" قال: "فقلت: بينما أنا أسير، إذ دعاني داع، عن يميني: يا محمد، انظرني أسألك. فلم أجبه ولم أقم عليه. قال: ذاك داعي اليهود، أما إنك لو أجبته -أو: وقفت عليه-لتهودت أمتك" . قال: (6) : فبينما أنا أسير، إذ دعاني داع عن يساري قال: يا محمد، انظرني أسألك. فلم ألتفت إليه ولم أقم عليه. قال: ذاك داعي النصارى، أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك". قال: "فبينما أنا أسير إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها عليها من كل زينة خلقها الله تقول: يا محمد، انظرني أسألك. فلم أجبها ولم أقم عليها". قال: تلك الدنيا، أما إنك لو أجبتها أو أقمت عليها، لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة".
قال: "ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصلى كل واحد منا ركعتين.
ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج (7) عليه أرواح بني آدم (8) ، فلم ير الخلائق أحسن من المعراج، أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحًا إلى السماء، فإنما يشق بصره طامحًا إلى السماء عجبه بالمعراج". قال: "فصعدت أنا وجبريل، فإذا أنا بملك يقال: له: إسماعيل. وهو صاحب السماء الدنيا وبين يديه سبعون ألف ملك، مع كل ملك جُنْده مائة ألف ملك". قال: "وقال: الله [عز وجل] (9) { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ } [ المدثر: 31 ] فاستفتح (10) جبريل باب السماء، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم. فإذا أنا بآدم كهيئته يوم خلقه الله، عز وجل على صورته (11) ، هو تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول: روح طيبة، ونفس طيبة، اجعلوها في عليين ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول: روح خبيثة، ونفس خبيثة، اجعلوها في سجين.
__________
(1) في ت، ف، أ: "المسجد الحرام".
(2) في ف، أ: "غير أنه مضطرب".
(3) زيادة من ف، أ والدلائل.
(4) في ت: "أتاني" وفي ف: "ثم أتاني"
(5) في ف، أ: "أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك".
(6) في ف: "قلت".
(7) في ت: "يعرج".
(8) في أ: "الأنبياء".
(9) زيادة من : ف، أ.
(10) في ف، أ: "قال: فاستفتح".
(11) في أ: "على صورته لم يتغير منه شيء".

ثم مضيت هنية (1) ، فإذا أنا بأخونة عليها لحم مشرح ليس يقربها أحد، وإذا أنا بأخْوِنَة أخرى عليها لحم قد أروح وأنتن، عندها أناس يأكلون منها، قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك يتركون الحلال ويأتون (2) الحرام."
قال: "ثم مضيت هنية (3) ، فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خرّ يقول: اللهم، لا تقم الساعة"، قال: "وهم على سابلة آل فرعون". قال: "فتجيء السابلة فتطؤهم". قال: "فسمعتهم يضجون إلى الله عز وجل". قال: "قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } [ البقرة: 275 ].
قال: "ثم مضيت هنية (4) ، فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل". قال: "فتفتح على أفواههم ويلقمون من ذلك الجمر، ثم يخرج من أسافلهم. فسمعتهم يضجون إلى الله ،عز وجل، فقلت (5) : من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء من أمتك { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء: 10 ].
قال: "ثم مضيت هنية، فإذا أنا بنساء يعلقن بثديهن (6) فسمعتهن يضججن إلى الله عز وجل قلت: يا جبريل من هؤلاء النساء؟ قال: هؤلاء الزناة من أمتك".
قال: "ثم مضيت هنية (7) فإذا أنا بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم، فيلقمونه، فيقال له: كل كما كنت تأكل من لحم أخيك. قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون".
قال: "ثم صعدنا إلى السماء الثانية، فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله، عز وجل، قد فضل الناس في الحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب، قلت: يا جبريل، من هذا؟ قال: هذا أخوك يوسف ومعه نفر من قومه، فسلمت عليه وسلم عليّ.
ثم صعدت (8) إلى السماء الثالثة، فإذا أنا بيحيى وعيسى، عليهما السلام، ومعهما نفر من قومهما، فسلمت عليهما وسلما عليّ.
ثم صعدت (9) إلى السماء الرابعة، فإذا أنا بإدريس قد رفعه الله مكانًا عليًا، فسلمت عليه وسلم عليّ".
قال: "ثم صعدت (10) إلى السماء الخامسة، فإذا [أنا] (11) بهارون ونصف لحيته بيضاء ونصفها سوداء، تكاد لحيته تصيب سرته من طولها، قلت: يا جبريل، من هذا؟ قال: هذا المحبب في قومه، هذا هارون بن عمران، ومعه نفر من قومه، فسلمت عليه وسلم عليّ.
ثم صعدت (12) إلى السماء السادسة، فإذا أنا بموسى بن عمران، رجل آدم كثير الشعر، لو كان
__________
(1) في ف، أ: "هنيهة".
(2) في أ: "ويأكلون".
(3) في ف، أ: "هنيهة".
(4) في ف، أ: "هنيهة".
(5) في ف: "قلت".
(6) في ت، أ: "بأيديهن".
(7) في ف، أ: "هنيهة".
(8) في ف، أ: "صعدنا".
(9) في ف، أ: "صعدنا".
(10) في ف، أ: "صعدنا".
(11) زيادة من ت، ف، أ.
(12) في ت: "صعد بي".

عليه قميصان لنفذ شعره دون القميص، فإذا (1) هو يقول: يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا، بل هذا أكرم على الله تعالى مني". قال: "قلت: يا جبريل، من هذا؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران، عليه السلام، ومعه نفر من قومه، فسلمت عليه وسلم علي.
ثم صعدت إلى السماء السابعة، فإذا أنا بأبينا إبراهيم (2) خليل الرحمن ساند ظهره إلى البيت المعمور كأحسن الرجال، قلت: يا جبريل، من هذا؟ قال: هذا أبوك (3) خليل الرحمن ومعه نفر من قومه، فسلمت عليه فسلم عليّ، وإذا [أنا] (4) بأمتي شطرين: شطر عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس. وشطر عليهم ثياب رُمْد". قال: "فدخلت البيت المعمور ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض، وحجب الآخرون الذين عليهم ثياب رمد، وهم على خير. فصليت أنا ومن معي في البيت المعمور، ثم خرجت أنا ومن معي". قال: "والبيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، لا (5) يعودون فيه إلى يوم القيامة".
قال: "ثم دفعت لي سدرة المنتهى، فإذا كل ورقة منها تكاد أن تغطي هذه الأمة، وإذا فيها عين تجري يقال لها: سلسبيل، فينشق منها نهران، أحدهما: الكوثر، والآخر: يقال له: نهر الرحمة. فاغتسلت فيه، فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر.
ثم إني دفعت إلي الجنة، فاستقبلتني جارية، فقلت: لمن أنت يا جارية؟ فقالت (6) لزيد بن حارثة، وإذا [أنا] (7) بأنهار من [ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من] (8) عسل مصفى، وإذا رمانها كأنه الدلاء عظمًا، وإذا أنا بطيرها كأنها بختيكم هذه". فقال عندها صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قد أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" .
قال: "ثم عرضت علي النار، فإذا فيها غضب الله وزجره ونقمته، لو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها، ثم أغلقت (9) دوني.
ثم إني دفعت (10) إلى سدرة المنتهى، فتغشاني فكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى". قال: "ونزل على كل ورقة ملك من الملائكة". قال: "وفرضت علي خمسون (11) وقال: لك بكل حسنة عشر، إذا هممت بالحسنة فلم تعملها كتبت لك حسنة، فإذا عملتها كتبت لك عشرًا، وإذا هممت بالسيئة فلم تعملها لم يكتب عليك شيء، فإن (12) عملتها كتبت عليك سيئة واحدة.
ثم دفعت إلى موسى فقال: بما أمرك ربك؟ قلت: بخمسين صلاة. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، ومتى لا [تطيقه] (13) تكفر (14) فرجعت إلى ربي [عز . وجل] (15) فقلت: يا رب، خفف عن أمتي، فإنها أضعف الأمم. فوضع عني عشرًا، وجعلها
__________
(1) في ت، ف: "وإذا".
(2) في ت: "فإذا أنا بإبراهيم".
(3) في ف، أ: "أبوك إبراهيم".
(4) زيادة من ف، أ، والدلائل.
(5) في ت، ف، أ: "ثم لا".
(6) في ف: "قالت".
(7) زيادة من ف، أ، والدلائل.
(8) زيادة من ف، أ، والدلائل.
(9) في ف: "غلقت".
(10) في ف: "رفعت".
(11) في أ: "خمسون صلاة".
(12) في ف: "فإذا".
(13) زيادة من ف، أ، والدلائل.
(14) في ت: "يكفر".
(15) زيادة من ف، أ.

أربعين. فما زلت أختلف بين موسى وربي (1) كلما أتيت عليه قال لي مثل مقالته، حتى رجعت إليه فقال لي: بم أمرت؟ فقلت: أمرت بعشر صلوات. قال: ارجع إلى ربك [عز وجل] (2) فاسأله التخفيف لأمتك. فرجعت إلى ربي [سبحانه وتعالى] (3) فقلت: أي رب، خفف عن أمتي، فإنها أضعف الأمم. فوضع عني خمسًا، وجعلها خمسًا. فناداني ملك عندها: تممت فريضتي، وخففت عن عبادي، وأعطيتهم بكل حسنة عشر أمثالها.
ثم رجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ فقلت: بخمس صلوات. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإنه لا يؤوده شيء، فاسأله التخفيف لأمتك". "فقلت (4) : رجعت إلى ربي حتى استحييته" ثم أصبح بمكة يخبرهم بالأعاجيب: "إني أتيت البارحة بيت المقدس، وعرج بي إلى السماء، ورأيت كذا وكذا (5) " . فقال أبو جهل -يعني ابن هشام-: ألا تعجبون مما يقول محمد؟ يزعم أنه أتى البارحة بيت المقدس، ثم أصبح فينا. وأحدنا يضرب مطيته مصعدة شهرًا، ومقفلة شهرًا، فهذا مسيرة شهرين في ليلة واحدة! قال: فأخبرهم بعير لقريش: "لما كنت (6) في مصعدي رأيتها في مكان كذا وكذا، وأنها نفرت، فلما رجعت رأيتها عند العقبة". وأخبرهم بكل رجل وبعيره كذا وكذا، ومتاعه كذا وكذا. فقال أبو جهل: يخبرنا (7) بأشياء. فقال رجل من المشركين: أنا أعلم الناس ببيت المقدس، وكيف بناؤه؟ وكيف هيئته؟ وكيف قربه من الجبل؟ [فإن يك محمد صادقا فسأخبركم، وإن يك كاذبًا فسأخبركم. فجاء ذلك المشرك فقال: يا محمد، أنا أعلم الناس ببيت المقدس، فأخبرني كيف بناؤه؟ وكيف هيئته؟ وكيف قربه من الجبل] (8) . قال: فرفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس من مقعده، فنظر إليه كنظر أحدنا إلى بيته: بناؤه كذا وكذا، وهيئته كذا وكذا، وقربه من الجبل كذا وكذا. فقال الآخر: صدقت. فرجع إلى أصحابه فقال: صدق محمد فيما قال أو نحو هذا (9) الكلام (10) .
وكذا رواه الإمام أبو جعفر بن جرير بطوله، عن محمد بن عبد الأعلى، عن محمد بن ثور، عن معمر، عن أبي هارون العبدي، وعن الحسن بن يحيى، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي هارون العبدي، به. ورواه، أيضًا، من حديث محمد بن إسحاق: حدثني روح بن القاسم، عن أبي هارون، به نحو سياقه المتقدم (11) .
ورواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أحمد بن عبدة، عن أبي عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، فذكره (12) بسياق طويل حسن أنيق، أجود مما ساقه غيره، على غرابته وما فيه من النكارة.
__________
(1) في ف، أ: "بين موسى وبين ربي عز وجل".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) زيادة من : ت.
(4) في ف، أ: "قال: فقلت".
(5) في ف، أ: "ورأيت كذا ورأيت كذا".
(6) في ت، ف، أ: "كانت".
(7) من ف، أ: "تخبرنا".
(8) زيادة من ف، أ، والدلائل.
(9) في ت: "أو نحوه من هذا".
(10) دلائل النبوة (2/390).
(11) تفسير الطبري (15/10).
(12) في ف، أ: "فذكر".

ثم ذكره (1) البيهقي، أيضًا، من رواية نوح بن قيس الحُدَّاني وهُشَيم ومعمر، عن أبي هارون العبدي -واسمه عمارة بن جوين (2) وهو مضعف عند الأئمة (3) .
وإنما سقنا حديثه هاهنا لما في حديثه (4) من الشواهد لغيره، ولما رواه البيهقي:
أخبرنا [الإمام] (5) أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن (6) ، أنبأنا أبو نعيم أحمد بن محمد بن إبراهيم البزاز، حدثنا أبو حامد (7) بن بلال، حدثنا أبو الأزهر، حدثنا يزيد بن أبي حكيم قال: رأيت في النوم رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله، رجل من أمتك يقال له: "سفيان الثوري" لا بأس به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا بأس به"، حدثنا عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، عنك (8) ليلة أسري بك، قلت (9) "رأيت في السماء" فحدثه بالحديث؟ فقال لي: "نعم". فقلت له: يا رسول الله، إن ناسًا من أمتك يحدثون عنك في السرى بعجائب؟ فقال لي: "ذلك (10) حديث القصاص" (11) .
رواية شداد بن أوس:
قال الإمام أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن الضحاك الزَّبيدي، حدثنا عمرو بن الحارث، عن عبد الله بن سالم (12) الأشعري، عن محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي، حدثنا الوليد (13) بن عبد الرحمن، عن جبير (14) بن نفير: حدثنا (15) شداد بن أوس قال: قلنا: يا رسول الله، كيف أسري بك؟ قال: "صليت لأصحابي صلاة العتمة بمكة معتمًا". قال: "فأتاني جبريل، عليه السلام، بدابة أبيض -أو قال: بيضاء-فوق الحمار ودون البغل، فقال: اركب. فاستصعبت علي، فرازها (16) بأذنها، ثم حملني عليها. فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها، حتى بلغنا أرضًا ذات نخل (17) فأنزلني فقال: صل. فصليت، ثم ركبنا (18) فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت بيثرب صليت بطيبة. فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها. ثم بلغنا أرضًا فقال: انزل. [فنزلت] (19) ثم قال: صل. فصليت ثم ركبنا، فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت بمدين، صليت عند شجرة موسى. ثم انطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها، ثم بلغنا أرضًا، بدت لنا قصور، فقال: انزل. فنزلت، فقال (20) صل فصليت ثم ركبنا فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى المسيح ابن مريم. ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني، فأتى قبلة المسجد، فربط فيه دابته ودخلنا المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر، فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذني من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين (21) ، في أحدهما لبن وفي الآخر
__________
(1) في ت، ف، أ : "ذكر".
(2) في ت، أ: "جرين"، وفي ف: "جرير".
(3) دلائل النبوة (2/396).
(4) في أ: "سياقه".
(5) زيادة من ت، ف، أ.
(6) في ف، أ: "أبو عثمان علي بن عبد الرحمن".
(7) في ف: "حدثنا أحمد".
(8) في ف، أ: "عنك يا رسول الله".
(9) في أ: "أنك قلت".
(10) في ت، ف، أ: "ذاك".
(11) دلائل النبوة (2/405).
(12) في ت: "سلام".
(13) في ت، ف: "أبو الوليد".
(14) في ت، ف: "أن جبير".
(15) في ت، ف، أ: "قال: حدثنا".
(16) في أ: "مزارها".
(17) في ت: "نخيل".
(18) في ف، أ: "ركبت".
(19) زيادة من الدلائل.
(20) في ت: "قال".
(21) في ت: "بإناءات".

عسل، أرسل إليّ بهما جميعًا، فعدلت بينهما، ثم هداني الله عز وجل (1) ، فأخذت اللبن فشربت (2) حتى قَرَعت به جبيني، وبين يدي شيخ متكئ على مثواة له، فقال: أخذ صاحبك الفطرة، إنه ليهدى. ثم انطلق بي حتى أتينا الوادي الذي فيه المدينة، فإذا جهنم [تنكشف] (3) عن مثل الزرابي، قلت: يا رسول الله، كيف وجدتها؟ قال: مثل الحمة السخنة. ثم انصرف بي (4) فمررنا بعير لقريش بمكان كذا وكذا، قد أضلوا بعيرًا لهم، قد جمعه فلان، فسلمت عليهم، فقال بعضهم: هذا صوت محمد. ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة"، فأتاني أبو بكر، رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، أين كنت الليلة؟ فقد التمستك في مظانك (5) . فقال: "علمت أني أتيت بيت المقدس الليلة؟". فقال: يا رسول الله، إنه مسيرة شهر، فصفه لي. قال: "ففتح لي صراط كأني أنظر إليه لا يسألني عن شيء إلا أنبأته عنه". قال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله. فقال المشركون: انظروا إلى ابن أبي كَبْشَة يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة!. قال: فقال: "إن من آية ما أقول لكم أني مررت بعير لكم بمكان كذا وكذا، قد أضلوا بعيرًا لهم، فجمعه فلان، وإن مسيرهم ينزلون بكذا ثم بكذا، ويأتونكم يوم كذا وكذا، يقدمهم جمل آدم، عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان". فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون (6) حتى كان قريب من نصف النهار حتى أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هكذا رواه البيهقي من طريقين عن أبي إسماعيل الترمذي، به (7) . ثم قال بعد تمامه: "هذا إسناد صحيح، وروى ذلك مفرقًا في أحاديث غيره، ونحن نذكر من ذلك إن شاء الله ما حضرنا". ثم ساق أحاديث كثيرة في الإسراء كالشاهد لهذا الحديث. وقد روى هذا الحديث عن شداد بن أوس بطوله الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره، عن أبيه، عن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي، به. ولا شك أن هذا الحديث -أعني الحديث المروي عن شداد بن أوس-مشتمل (8) على أشياء منها ما هو صحيح كما ذكره البيهقي، ومنها ما هو منكر، كالصلاة في بيت لحم، وسؤال الصديق عن نعت بيت المقدس، وغير ذلك. والله أعلم.
رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
قال الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه قال: حدثنا ابن عباس قال: ليلة أسري بنبي الله صلى الله عليه وسلم دخل الجنة، فسمع في جانبها وَجْسًا (9) فقال: "يا جبريل، ما هذا؟" قال: "هذا بلال المؤذن". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاء إلى الناس: "قد أفلح بلال، قد رأيت له كذا وكذا". قال: فلقيه موسى، عليه السلام، فرحب به، وقال: "مرحبًا بالنبي الأمي"، قال: "وهو رجل آدم طويل، سبط شعره مع أذنيه أو فوقهما"، فقال: "من هذا يا جبريل؟" قال: "هذا موسى. [قال: فمضى، فلقيه عيسى فرحب به، وقال: "من هذا يا جبريل؟" قال: "هذا عيسى". قال] (10) فمضى فلقيه شيخ جليل متهيب فرحب به وسلم عليه وكلهم يسلم عليه، قال: "من هذا يا جبريل؟" قال: "هذا أبوك إبراهيم"، قال: ونظر في النار، فإذا قوم يأكلون الجيف، قال: "من هؤلاء يا جبريل؟" قال: "هؤلاء الذين يأكلون لحم (11) الناس"، ورأى رجلا أحمر أزرق جدًا، قال: "من هذا يا جبريل؟"
__________
(1) في أ: "تعالى".
(2) في ت: "فشربت اللبن".
(3) زيادة من ف، أ، والدلائل.
(4) في أ: "بنا".
(5) في ف، أ: "منامك".
(6) في ت: "ينتظرون".
(7) دلائل النبوة (2/355).
(8) في ف، أ: "يشتمل".
(9) في ت، ف، أ: "وخشا".
(10) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(11) في أ: "لحوم".

قال: "هذا عاقر الناقة"، قال: فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى قام يصلي، [فالتفت ثم التفت] (1) فإذا النبيون أجمعون يصلون معه. فلما انصرف جيء بقدحين، أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال، في أحدهما لبن وفي الآخر عسل، فأخذ اللبن فشرب منه، فقال الذي كان معه القدح: أصبت الفطرة. إسناد صحيح ولم يخرجوه (2) .
طريق أخرى:
قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ثابت أبو زيد، حدثنا هلال، حدثني عكرمة، عن ابن عباس قال: أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته فحدثهم بمسيره وبعلامة بيت المقدس وبعيرهم، فقال ناس: نحن لا نصدق محمدًا بما يقول! فارتدوا كفارًا، فضرب الله رقابهم مع أبي جهل (3) وقال أبو جهل (4) يخوفنا محمد بشجرة الزقوم، هاتوا تمرا وزبدا فتزقموا، ورأى الدجال في صورته رؤيا عين ليس برؤيا منام، وعيسى وموسى وإبراهيم. فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال فقال: "رأيته فيلمانيًا أقمر هجانا، إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دري، كأن شعر رأسه أغصان شجرة. ورأيت عيسى أبيض، جعد الرأس، حديد البصر، مبطن الخلق. ورأيت موسى أسحم آدم، كثير الشعر، شديد الخلق. ونظرت إلى إبراهيم فلم أنظر إلى إرب منه إلا نظرت إليه مني، حتى كأنه صاحبكم. قال جبريل: سلم على مالك فسلمت عليه".
ورواه النسائي من حديث أبي زيد ثابت بن يزيد (5) عن هلال -وهو ابن خباب-به، وهو (6) إسناد صحيح.
طريق أخرى:
وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو بكر الشافعي، أنبأنا إسحاق بن الحسن، حدثنا الحسين بن محمد، حدثنا شيبان، عن قتادة، عن أبي العالية قال: حدثنا ابن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران، رجلا طوالا جعدًا، كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى ابن مريم مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سبط الرأس". وأرى مالكًا خازن جهنم والدجال، في آيات أراهن الله إياه، قال: { فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ } [ السجدة: 23 ] فكان قتادة يفسرها: أن نبي الله [صلى الله عليه وسلم] (7) قد لقي موسى [عليه السلام] (8) { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } قال: جعل الله موسى هدى لبني إسرائيل (9) .
رواه مسلم في الصحيح عن عبد بن حميد، عن يونس بن محمد، عن شيبان (10) . وأخرجاه من حديث شعبة عن قتادة مختصرًا (11) .
__________
(1) زيادة من المسند مستفاد من هامش ط. الشعب.
(2) المسند (1/257) وفيه قابوس بن أبي ظبيان وقد تكلم فيه خاصة روايته عن أبيه، وقال ابن عدي: "أحاديثه متقاربة، وأرجو أنه لا بأس" فمثل حديثه أقرب درجاته التحسين.
(3) في ف، أ: "أبي جهل قبحهم الله".
(4) في ف، أ: "أبو جهل قبحه الله".
(5) في ت، ف: "أبي يزيد ثابت بن زيد".
(6) المسند (1/374) وسنن النسائي الكبرى برقم (11484).
(7) زيادة من ت، أ.
(8) زيادة من أ.
(9) دلائل النبوة (2/386).
(10) صحيح مسلم برقم (165).
(11) صحيح البخاري برقم (3239) وصحيح مسلم برقم (165).

طريق أخرى:
قال [البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفَّار، حدثنا دُبَيْس المُعدَّل، حدثنا عفان قال: حدثنا] (1) حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أسري بي، مرت بي رائحة طيبة، فقلت: ما هذه الرائحة؟ قالوا: ماشطة بنت فرعون وأولادها، سقط مُشْطُهَا من يدها فقالت: باسم الله: فقالت ابنة فرعون: أبي؟ قالت: ربي وربك ورب أبيك. قالت: أولك رب غير أبي؟ قالت: نعم، ربي وربك ورب أبيك الله" . قال: "فدعاها فقال: ألك رب غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك الله، عز وجل". قال: "فأمر بنقرة (2) من نحاس فأحميت، ثم أمر بها لتلقى فيها، قالت: إن لي [إليك] (3) حاجة. قال: ما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي في موضع، قال (4) ذاك لك، لما لك علينا من الحق"، قال: "فأمر بهم فألقوا واحدًا واحدًا، حتى بلغ رضيعًا فيهم، فقال: يا أمه، قعي ولا تقاعسي، فإنك (5) على الحق". قال: "وتكلم أربعة وهم صغار: هذا، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم، عليه السلام" (6) .
إسناد لا بأس به، ولم يخرجوه.
طريق أخرى:
وقال الإمام أحمد [أيضًا] (7) حدثنا محمد بن جعفر وروح المعنى (8) قالا حدثنا عوف، عن زُرَارة بن أوفى، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما كان ليلة أسري بي وأصبحت بمكة، فظعت [بأمري] (9) وعرفت أن الناس مكذبي" فقعد (10) معتزلا حزينًا، فمرّ به عدو الله أبو جهل (11) فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" قال: وما هو؟ قال "إني أسري بي الليلة": قال إلى أين؟ قال: "إلى بيت المقدس" قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟! قال: "نعم". قال: فلم يره أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه، فقال: أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال: هيا (12) معشر بني كعب بن لؤي، قال: فانتفضت (13) إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما. قال: حدث قومك بما حدثتني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أسري بي الليلة". فقالوا: إلى أين؟ قال: "إلى بيت المقدس" قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: "نعم". قال: فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبًا للكذب -زعم-قالوا: وتستطيع أن تنعت [لنا] (14) المسجد -وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد-قال (15) رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذهبت أنعت، فما زلت أنعت حتى التبس عليّ بعض النعت" قال: "فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه، حتى وضع دون دار عقيل -أو عقال-فَنَعتُّه
__________
(1) زيادة من ف، أ، والدلائل.
(2) في ت، ف، أ: "ببقرة".
(3) زيادة من أ، والدلائل.
(4) في ف: "فقال".
(5) في ف: "فأنا".
(6) دلائل النبوة (2/389) ورواه البزار في مسنده برقم (54) "كشف الأستار" من طريق عفان به وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط.
(7) زيادة من ف، أ.
(8) في ف، أ: "وروح بن المعين".
(9) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(10) في ت، ف: "فقعدت"، وفي أ: "فعدت".
(11) في ف، أ: "أبو جهل قبحه الله".
(12) في ف، أ: "فيا".
(13) في ت، ف: "فانقضت".
(14) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(15) في ف: "فقال".

وأنا أنظر إليه". قال: وكان مع هذا نعت لم أحفظه -يقول عوف-: قال: فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب.
وأخرجه (1) النسائي من حديث عوف بن أبي جميلة -وهو الأعرابي، به. ورواه البيهقي من حديث النضر بن شميل وهوذة، عن عوف وهو ابن أبي جميلة الأعرابي، أحد الأئمة الثقات، به (2) .
رواية عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه:
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، حدثنا السري بن خزيمة، حدثنا يوسف بن بُهلول، حدثنا عبد الله بن نمير، عن مالك بن مِغْوَل، عن الزبير بن عدي، عن طلحة بن مُصَرِّف، عن مرة الهَمْدَاني، عن عبد الله بن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهى إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، وإليها ينتهي ما يصعد به حتى يقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط [به] (3) من فوقها حتى يقبض [منها] (4) { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } [ النجم: 16 ] قال: غشيها فراش من ذهب، وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله (6) المقحمات، يعني الكبائر.
ورواه مسلم في صحيحه، عن محمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب، كلاهما عن عبد الله بن نمير، به (7) . ثم قال البيهقي: "وهذا الذي ذكره عبد الله بن مسعود طرف من حديث المعراج، وقد رواه أنس بن مالك، عن مالك بن صَعْصَعَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رواه مرة مرسلا دون ذكرهما" (8) ثم إن البيهقي ساق الأحاديث الثلاثة كما تقدّم.
قلت: وقد روي عن ابن مسعود بأبسط من هذا، وفيه غرابة، وذلك فيما رواه "الحسن بن عرفة" في جزئه المشهور. حدثنا مروان بن معاوية، عن قنان بن عبد الله النهمي (9) ، حدثنا أبو ظبيان الجنبي قال: كنا جلوسًا عند أبي عبيدة بن عبد الله -يعني ابن مسعود-ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، وهما جالسان، فقال محمد بن سعد لأبي عبيدة: حدثنا عن أبيك ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه وسلم. فقال أبو عبيدة: لا بل حدثنا أنت عن أبيك. فقال محمد: لو سألتني قبل أن أسألك لفعلت! قال: فأنشأ أبو عبيدة يحدث يعني عن أبيه كما سئل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل بدابة فوق الحمار ودون البغل، فحملني عليه، ثم انطلق يهوي بنا كلما صعد عقبة استوت رجلاه كذلك مع يديه، وإذا هبط استوت يداه مع رجليه، حتى مررنا برجل طوال سبط آدم، كأنه من رجال أزد شنوءة، وهو يقول -فيرفع (10) صوته يقول-أكرمته وفضلته". قال: "فدفعنا إليه فسلمنا عليه فرد السلام، فقال: من هذا معك يا جبريل؟ قال: هذا أحمد (11) ، قال: مرحبًا بالنبي الأمي العربي، الذي بلغ رسالة ربه، ونصح لأمته". قال: "ثم اندفعنا فقلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا موسى بن عمران". قال:
__________
(1) في ت: "أخرجه".
(2) المسند (1/309) وسنن النسائي الكبرى برقم (11285) ودلائل النبوة للبيهقي (2/363).
(3) زيادة من ف، أ، والدلائل.
(4) زيادة من ف، أ، والدلائل.
(5) في ت: "صلى الله عليه وسلم تسليما".
(6) في ت: "بالله من أمتي"، وفي ف: "بالله شيئا".
(7) دلائل النبوة (2/372) وصحيح مسلم برقم (173).
(8) دلائل النبوة (2/373).
(9) في ت، ف، أ: "التيمي".
(10) في ف: "فرفع".
(11) في ت: "محمد".

قلت: ومن يعاتب؟ قال: يعاتب ربه فيك! قلت: فيرفع صوته على ربه؟! قال: إن الله [عز وجل] (1) قد عرف له حدته". قال: "ثم اندفعنا حتى مررنا بشجرة كأن ثمرها السُّرُج تحتها شيخ وعياله". قال: "فقال لي جبريل: اعمد إلى أبيك إبراهيم. فدفعنا إليه فسلمنا عليه فرد السلام، فقال إبراهيم: من هذا معك يا جبريل؟ قال: هذا ابنك أحمد". قال: "فقال: مرحبًا بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته، يا بني، إنك لاق ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل". قال: "ثم اندفعنا حتى انتهينا إلى المسجد الأقصى، فنزلت فربطت الدابة بالحلقة التي في باب المسجد التي كانت الأنبياء تربط بها. ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من بين راكع وقائم وساجد". قال: "ثم أتيت بكأسين من عسل ولبن فأخذت اللبن فشربت فضرب جبريل عليه السلام منكبي وقال: أصبت الفطرة ورب محمد". قال: "ثم أقيمت الصلاة فأممتهم، ثم انصرفنا فأقبلنا" (2) .
إسناد غريب ولم يخرجوه، فيه من الغرائب (3) سؤال الأنبياء عنه عليه السلام ابتداء، ثم سؤاله عنهم (4) بعد انصرافه. والمشهور في الصحاح كما تقدم: أن جبريل [عليه السلام] (5) كان يعلمه بهم أولا ليسلم عليهم سلام معرفة. وفيه (6) أنه اجتمع بالأنبياء عليهم (7) السلام قبل دخوله المسجد (8) ، والصحيح أنه إنما اجتمع بهم في السموات، ثم نزل إلى بيت المقدس ثانيًا وهم معه، وصلى بهم فيه، ثم إنه ركب البراق وكر راجعًا إلى مكة، والله أعلم.
طريق أخرى:
قال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيم، أخبرنا العوام، عن جبلة بن سُحَيْم، عن مُوثَر (9) بن عفارة، عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى، فتذاكروا أمر الساعة" قال: "فردوا أمرهم إلى إبراهيم عليه السلام (10) فقال: لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى موسى. فقال: لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، عز وجل، وفيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج". قال: "ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص". قال: "فيهلكه الله إذا رآني، حتى إن الحجر والشجر يقول: يا مسلم إن تحتي كافرًا، فتعال فاقتله". قال: "فيهلكهم الله، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم (11) " . قال: "فعند (12) ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيطؤون بلادهم، فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه" قال: "ثم يرجع الناس إليّ فيشكونهم. فأدعو الله عليهم، فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم -أي: تنتن" قال: "فينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر. ففيما عهد إلي ربي: أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم، لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادها، ليلا أو نهارًا".
وأخرجه ابن ماجه، عن بُنْدار، عن يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب (13) .
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) جزء الحسن بن عرفة برقم (69).
(3) في ت، ف: "من الغرابة".
(4) في ت: "ثم سؤالهم له".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في ف: "وقيل".
(7) في ت: "عليه".
(8) في ف، أ: "المسجد الأقصى".
(9) في ت، ف: "مرثد".
(10) في ت: "عليه الصلاة والسلام".
(11) في ت: "وأقطانهم".
(12) في ت: "فبعد".
(13) المسند (1/375)، وسنن ابن ماجه برقم (4081) وقال البوصري في الزوائد (3/261): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، مؤثر ابن عفارة ذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد ثقات".

رواية عبد الرحمن بن قرط، أخي عبد الله بن قرط الثمالي:
قال سعيد بن منصور: حدثنا مسكين بن ميمون -مؤذن (1) مسجد الرملة-حدثني عُروة بن رُوَيْم، عن عبد الرحمن بن قُرط، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كان بين زمزم (2) والمقام، جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فطارا به حتى بلغ السموات العلى، فلما رجع قال: "سمعت تسبيحًا في السموات العلى مع تسبيح كثير (3) ، سبحت السموات العلى من ذي المهابة مشفقات من ذي العلو بما علا سبحان العلي الأعلى، سبحانه وتعالى" (4) .
ويذكر هذا الحديث عند قوله تعالى من هذه السورة: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ } الآية [ الإسراء: 44 ] .
رواية عمر بن الخطاب، رضي الله عنه:
قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي سنان، عن عبيد بن آدم وأبي مريم وأبي شعيب؛ أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان بالجابية، فذكر فتح بيت المقدس قال: قال أبو سلمة: فحدثني أبو سنان، عن عبيد بن آدم قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لكعب: أين ترى أن أصلي؟ قال (5) إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، فكانت القدس كلها بين يديك، فقال عمر رضي الله عنه: ضاهيت اليهودية، [لا] (6) ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم إلى القبلة، فصلى ثم جاء فبسط رداءه وكنس الكناسة في ردائه، وكنس الناس (7) .
فلم يعظم الصخرة تعظيما يصلي وراءها وهي بين يديه، كما أشار كعب الأحبار وهو من قوم يعظمونها حتى جعلوها قبلتهم. ولكن منّ الله عليه بالإسلام، فهُدي إلى الحق؛ ولهذا لما أشار بذلك قال له أمير المؤمنين: ضاهيت اليهودية، ولا أهانها إهانة النصارى الذين كانوا قد جعلوها مزبلة من أجل أنها قبلة اليهود، ولكن أماط الأذى، وكنس عنها الكناس بردائه. وهذا شبيه بما جاء في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغَنَوِي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" (8) .
رواية أبي هريرة، رضي الله عنه:
وهي مطولة جدًا وفيها غرابة. قال الإمام أبو جعفر بن جرير في تفسير "سورة سبحان": حدثنا علي بن سهل، حدثنا حجاج، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية الرياحي، عن أبي هريرة أو غيره -شك أبو جعفر-في قول الله عز وجل: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } قال: جاء جبريل [إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ميكائيل، فقال جبريل] (9) لميكائيل: ائتني بطَسْت من ماء زمزم، كيما أطهر قلبه وأشرح له صدره. قال: فشق عنه بطنه، فغسله ثلاث مرات. واختلف إليه
__________
(1) في ت، أ: "مؤدب".
(2) في ت، ف: "من بين زمزم".
(3) في ت: "كبير".
(4) سيأتي من رواية الطبراني من طريق سعيد بن منصور، وانظر تخريجه هناك عند الآية: 44 من هذه السورة.
(5) في ف: "فقال".
(6) زيادة من ت، ف، والمسند.
(7) المسند (1/38).
(8) صحيح مسلم برقم (972).
(9) زيادة من ت، ف، أ، والطبري.

ميكائيل بثلاث طساس من ماء زمزم، فشرح صدره ونزع ما كان فيه من غل، وملأه حلمًا وعلمًا، وإيمانًا ويقينًا وإسلامًا، وختم بين كتفيه بخاتم النبوة.
ثم أتاه بفرس فحمل (1) عليه، كل خطوة منه منتهى بصره -أو: أقصى بصره-قال: فسار وسار معه جبريل عليهما (2) السلام قال: فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال النبي (3) صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل، ما هذا؟" قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين.
ثم أتى على قوم تُرضَخ رءوسهم بالصخر، كلما رُضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال: "ما هؤلاء يا جبريل؟" قال: هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة المكتوبة. ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الإبل والنعم، ويأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم وحجارتها، قال (4) : " ما هؤلاء يا جبريل؟" قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم، وما ظلمهم الله شيئًا وما الله بظلام للعبيد.
ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر (5) ولحم نيئ في قدر خبيث، فجعلوا يأكلون من النيئ الخبيث ويدعون النضيج الطيب، فقال: "ما هؤلاء يا جبريل؟" فقال: هذا الرجل من أمتك، تكون عنده المرأة الحلال الطيبة، فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، [والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبًا، فتأتي رجلا خبيثًا فتبيت معه حتى تصبح] (6) .
قال: ثم أتى على خشبة على الطريق، لا يمر بها ثوب إلا شقته، ولا شيء إلا خرقته، قال: "ما هذا يا جبريل؟" قال: هذا مثل أقوام من أمتك، يقعدون على الطريق يقطعونه (7) ثم تلا { وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] (8) } [ الأعراف: 86 ].
قال: ثم أتى على رجل قد جمع (9) حزمة [حطب] (10) عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها، فقال: "ما هذا يا جبريل؟" فقال (11) هذا الرجل من أمتك يكون عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يحمل عليها.
ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: "ما هؤلاء يا جبريل؟" قال: هؤلاء خطباء الفتنة.
ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من [حيث] (12) خرج، فلا يستطيع، فقال: "ما هذا يا جبريل؟" فقال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها.
ثم أتى على واد فوجد ريحًا طيبة باردة، وريح مسك، وسمع صوتًا، فقال: "يا جبريل، ما هذه (13) الريح الطيبة الباردة؟ وما هذا المسك؟ وما هذا الصوت؟" قال: هذا صوت الجنة تقول: يا رب آتني ما وعدتني، فقد كثرت غرفي، وإستبرقي وحريري وسندسي، وعبقريي ولؤلؤي ومرجاني، وفضتي
__________
(1) في ف، أ: "فحمله".
(2) في ت، ف، أ: "عليه".
(3) في ف: "فقال رسول الله".
(4) في ف: "فقال".
(5) في ت، ف: "قدور".
(6) زيادة من ت، ف، أ، والطبري.
(7) في ت، ف: "فيقطعونه".
(8) زيادة من ف، أ.
(9) في ت: "حمل".
(10) زيادة من ت، ف، أ، والطبري.
(11) في ف: "قال".
(12) في ت، هـ: "موضع" والمثبت من الطبري.
(13) في ت، ف، أ: "ما هذا".

وذهبي وأكوابي وصحافي، وأباريقي ومراكبي، وعسلي ومائي، وخمري ولبني فآتني ما (1) وعدتني. فقال: لك كل مسلم ومسلمة، ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحًا ولم يشرك بي، ولم يتخذ من دوني أندادًا، ومن خشيني فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني جزيته، ومن توكل عليّ كفيته، إني أنا الله لا إله إلا أنا، لا أخلف الميعاد، وقد أفلح المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين، قالت: قد رضيت.
قال: "ثم أتى على واد فسمع صوتًا منكرًا، ووجد ريحًا منتنة، فقال: ما هذه (2) الريح يا جبريل؟ وما هذا الصوت؟" فقال: هذا صوت جهنم تقول: يا رب آتني ما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي، وسعيري وحميمي، وضريعي، وغساقي وعذابي، وقد بعد قعري، واشتد حري، فآتني كل ما وعدتني، فقال: لك كل مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وكل خبيث وخبيثة، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب. قالت: قد رضيت.
قال: ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فنزل فربط فرسه إلى صخرة، ثم دخل فصلى مع الملائكة، فلما قضيت الصلاة قالوا: يا جبريل، من هذا معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قالوا: أوقد أرسل محمد؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء.
قال: ثم لقي أرواح الأنبياء، فأثنوا على ربهم، فقال إبراهيم: الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني ملكًا عظيمًا، وجعلني أمة قانتًا يؤتم بي، وأنقذني من النار، وجعلها عليّ بردًا وسلامًا. ثم (3) إن موسى، عليه السلام (4) ، أثنى على ربه، عز وجل، فقال: الحمد لله الذي كلمني تكليمًا، وجعل هلاك آل فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي، وجعل من أمتي قومًا يهدون بالحق وبه يعدلون. ثم إن داود، عليه السلام (5) أثنى على ربه [عز وجل] (6) ، فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكًا عظيمًا، وعلمني الزبور، وألان لي الحديد، وسخر لي الجبال يسبحن والطير، وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب. ثم إن سليمان، عليه السلام، أثنى على ربه [عز وجل] (7) فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح، وسخر لي الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل، وجفان كالجواب وقدور راسيات، وعلمني منطق الطير، وآتاني من كل شيء فضلا وسخر لي جنود الشياطين والإنس والطير، وفضلني على كثير من عباده المؤمنين، وآتاني ملكًا عظيمًا لا ينبغي لأحد من بعدي، وجعل ملكي ملكًا طيبًا ليس فيه حساب. ثم إن عيسى، عليه السلام، أثنى على ربه، عز وجل، فقال: الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعل مثلي مثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له: "كن" فيكون، وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير، فأنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذنه (8) ، ورفعني وطهرني، وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان علينا سبيل. قال: ثم إن محمدًا (9) صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه، عز وجل، فقال: "فكلكم أثنى على ربه، وإني مثن على ربي [عز وجل] (10) فقال: الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرًا ونذيرًا، وأنزل عليّ الفرقان (11) فيه بيان لكل شيء، وجعل
__________
(1) في ت: "بما".
(2) في أ: "ما هذا".
(3) في ف، أ: "قال: ثم".
(4) في ت: "عليه الصلاة والسلام".
(5) في ت: "عليه الصلاة والسلام".
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من أ.
(8) في ف، أ: "بإذن الله".
(9) في أ: "محمدا رسول الله".
(10) زيادة من ف، أ.
(11) في ت، ف: "القرآن".

أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي أمة وسطًا، وجعل أمتي هم الأولين وهم الآخرين، وشرح لي صدري، ووضع عني وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحًا وخاتمًا" فقال إبراهيم [عليه السلام] (1) : بهذا فضلكم محمد صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر الرازي: خاتم النبوة، فاتح بالشفاعة يوم القيامة.
ثم أتي بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها، فأتي بإناء منها فيه ماء فقيل: اشرب. فشرب منه يسيرًا، ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن، فقيل له: اشرب، فشرب منه حتى روي. ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر فقيل له: اشرب فقال: "لا أريده قد رويت". فقال له جبريل [عليه السلام] (2) : أما إنها ستحرم على أمتك، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا قليل.
قال: ثم صعد به إلى السماء فاستفتح، فقيل: من هذا يا جبريل؟ فقال: محمد، فقالوا: أوقد أرسل؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء. فدخل فإذا هو برجل تام الخلق (3) لم ينقص من خلقه شيء كما ينقص من خلق الناس، عن (4) يمينه باب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر إلى الباب الذي عن يساره بكى وحزن، فقلت: "يا جبريل من هذا الشيخ التام الخلق الذي لم ينقص من خلقه شيء؟ وما هذان البابان؟ " فقال: هذا أبوك آدم [عليه السلام] (5) ، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة، إذا نظر إلى من يدخل (6) من ذريته ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم، إذا نظر إلى من يدخله من ذريته بكى وحزن.
ثم صعد به جبريل إلى السماء الثانية فاستفتح، فقيل: من هذا معك؟ فقال: محمد رسول الله. قالوا: أوقد أرسل محمد؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فلنعم الأخ ولنعم الخليفة ونعم المجيء جاء. قال: فدخل فإذا هو بشابين فقال: "يا جبريل، من هذان الشابان؟" قال: هذا عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا، ابنا الخالة عليهما السلام.
قال: فصعد به إلى السماء الثالثة فاستفتح، فقالوا: من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: أوقد أرسل؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء. قال: فدخل فإذا هو برجل قد فضل على الناس في الحسن كما فضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، قال: "من هذا يا جبريل الذي قد فضل على الناس في الحسن؟" قال: هذا أخوك يوسف، عليه السلام (7) .
قال: ثم صعد به إلى السماء (8) الرابعة فاستفتح، فقالوا (9) من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: أوقد أرسل ؟ (10) قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء. قال: فدخل، فإذا هو برجل، قال: "من هذا يا جبريل؟" قال: هذا إدريس رفعه الله [تعالى] (11) مكانًا عليًا.
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في ف: "تام الخلقة".
(4) في ف: "على".
(5) زيادة من أ
(6) في ت، ف: "يدخله".
(7) في ت: "عليه الصلاة والسلام".
(8) في ف: "ثم صعدت إلى السماء".
(9) في ف: "فقيل".
(10) في ف، أ: "أرسل إليه".
(11) زيادة من ت.

ثم صعد به إلى السماء الخامسة فاستفتح، فقالوا: من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: أوقد أرسل (1) إليه؟ قال: نعم. قالوا: حياه (2) الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء. ثم دخل فإذا هو برجل جالس وحوله قوم يقص عليهم، قال: "من هذا يا جبريل؟ ومن هؤلاء حوله؟" قال: هذا هارون المحبب [في قومه] (3) وهؤلاء بنو إسرائيل.
ثم صعد به إلى السماء السادسة فاستفتح، قيل: (4) من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: أوقد أرسل؟ (5) قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء (6) . فإذا هو برجل جالس فجاوزه فبكى الرجل، فقال: "يا جبريل، من هذا؟" قال: موسى، قال: "فما باله (7) يبكي؟" قال: زعم (8) بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله عز وجل، وهذا رجل من بني آدم قد خلفني في دنيا، وأنا في أخرى، فلو أنه بنفسه لم أبال، ولكن مع كل نبي أمته.
قال: ثم صعد به إلى السماء السابعة فاستفتح، فقيل له: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء. قال: فدخل فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي، وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس، وقوم في ألوانهم شيء، فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فدخلوا نهرًا فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد (9) خلص من ألوانهم شيء ثم دخلوا نهرًا آخر فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خلص [من] (10) ألوانهم [شيء ثم دخلوا نهرًا آخر فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خلصت ألوانهم] (11) فصارت مثل ألوان أصحابهم، فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم، فقال: "يا جبريل من هذا الأشمط؟ ثم من هؤلاء البيض الوجوه؟ ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شيء؟ وما هذه الأنهار التي دخلوا فيها فجاءوا وقد صَفَت ألوانهم؟" قال: هذا أبوك إبراهيم [عليه السلام] (12) أول من شمط على الأرض. وأما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم. وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء، فقوم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا، فتابوا فتاب الله عليهم. وأما الأنهار فأولها رحمة الله، والثاني نعمة الله، والثالث سقاهم ربهم شرابًا طهورًا.
قال: ثم انتهى إلى السدرة فقيل له: هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك. فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذّة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عامًا لا يقطعها. والورقة منها مغطية للأمة كلها. قال: فغشيها نور الخلاق، عز وجل، وغشيتها (13) الملائكة أمثال الغربان حين يقعن (14) على الشجرة قال: فكلمه الله عند ذلك (15)
__________
(1) في ف، أ: "أرسل إليه".
(2) في ف، أ: "قالوا: مرحبا به حياه".
(3) زيادة من ف، ت، أ، والطبري.
(4) في ف: "فقيل".
(5) في ف، أ: "أرسل إليه".
(6) في ت، ف، أ: "المجيء جاء".
(7) في ت: "فما له".
(8) في ت، أ: "يزعم".
(9) في ت: "قد".
(10) زيادة من ف، أ، والطبري.
(11) زيادة من ت، ف، أ، والطبري.
(12) زيادة من ف، أ.
(13) في ت: "وغشيها".
(14) في ت، ف، أ: "حتى تقع".
(15) في ت: "فكلمه يعني عند ذلك".

قال له: سل (1) ، قال: "إنك اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته ملكًا عظيمًا، وكلمت موسى تكليمًا، وأعطيت داود ملكًا عظيمًا، وألنت له الحديد، وسخرت له [الجبال، وأعطيت سليمان ملكًا عظيمًا، وسخرت له الجن والإنس والشياطين، وسخرت له] (2) الرياح، وأعطيت له ملكًا عظيمًا لا ينبغي لأحد من بعده، وعلمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذنك، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان عليهما سبيل". فقال له ربه عز وجل: وقد اتخذتك خليلا -وهو مكتوب في التوراة: حبيب الرحمن (3) -وأرسلتك إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس، وجعلت أمتك أمة وسطًا، وجعلت أمتك هم الأولين والآخرين، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي، وجعلت من أمتك أقوامًا قلوبهم أناجيلهم، وجعلتك أول النبيين خلقًا، وآخرهم بعثًا، وأولهم يقضى له، وأعطيتك سبعًا من المثاني لم يعطها نبي قبلك، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم أعطها نبيًا قبلك، وأعطيتك الكوثر، وأعطيتك ثمانية أسهم: الإسلام، والهجرة، والجهاد، والصدقة، والصلاة، وصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلتك فاتحًا وخاتمًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فضلني ربي بست: أعطاني فواتح الكلام (4) وخواتيمه وجوامع الحديث، وأرسلني إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا وقذف في قلوب عدوي الرعب من مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض كلها طهورًا ومسجدًا".
قال: وفرض عليه خمسين صلاة. فلما رجع إلى موسى قال: بم أمرت يا محمد؟ قال: "بخمسين صلاة" قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، فقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه، عز وجل، فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرًا. ثم رجع إلى موسى فقال: بكم أمرت؟ قال: "بأربعين" قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه [عز وجل] (5) فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرًا، فرجع إلى موسى فقال: بكم أمرت؟ قال: "أمرت بثلاثين"، فقال له موسى: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: فرجع إلى ربه [عز وجل] (6) فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرا، فرجع إلى موسى فقال (7) بكم أمرت؟ قال: "أمرت بعشرين". قال: ارجع إلى ربك [عز وجل] (8) فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: فرجع إلى ربه [عز وجل] (9) فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرًا. فرجع إلى موسى فقال: بكم أمرت؟ قال: "أمرت بعشر"، قال: ارجع إلى ربك [عز وجل] (10) فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم وقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: فرجع على حياء إلى ربه [عز وجل] (11) فسأله التخفيف فوضع عنه خمسًا. فرجع إلى موسى، عليه السلام، فقال (12) بكم أمرت؟ قال: "بخمس" فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن
__________
(1) في ف: "فقال".
(2) زيادة من ف، أ، والطبري.
(3) في ت: "محمد حبيب الرحمن".
(4) في ف: "الكلم".
(5) زيادة من ف.
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في ت: "قال".
(8) زيادة من ف، أ.
(9) زيادة من ف، أ.
(10) زيادة من ف، أ.
(11) زيادة من ف، أ.
(12) في ف: "قال".

أمتك أضعف الأمم وقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: "قد رجعت إلى ربي حتى استحييت، فما أنا براجع إليه"، قيل: أما إنك كما صبرت نفسك على خمس صلوات، فإنهن يجزين عنك خمسين صلاة، فإن كل حسنة بعشر أمثالها. قال: فرضي محمد صلى الله عليه وسلم كل الرضا، قال: وكان موسى، عليه السلام، من أشدهم عليه حين مرّ به وخيرهم له حين رجع إليه (1) .
ثم رواه ابن جرير، عن محمد بن عبيد الله، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن أبى جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية أو غيره -شك أبو جعفر-عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بمعناه (2) .
وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي، عن أبي سعيد الماليني، عن ابن عدي، عن محمد بن الحسن السَّكُوني البالسي بالرملة، حدثنا علي بن سهل، فذكر مثل ما رواه ابن جرير عنه (3) ، وذكر البيهقي أن الحاكم أبا عبد الله رواه عن إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد الشعراني، عن جده، عن إبراهيم بن حمزة الزبيري، عن حاتم بن إسماعيل، حدثني عيسى بن ماهان -يعني أبا جعفر الرازي-عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره (4) .
وقال: ابن أبي حاتم: ذكر أبو زُرْعَة، حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا عيسى بن عبد الله التميمي (5) -يعني: أبا جعفر الرازي-عن الربيع بن أنس البكري، عن أبي العالية أو غيره -شك عيسى-، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى] (6) } فذكر الحديث بطوله كنحو مما سقناه.
قلت: "أبو جعفر الرازي" قال فيه الحافظ أبو زرعة: "الرازي يهم في الحديث كثيرًا" وقد ضعفه غيره أيضًا، ووثقه بعضهم، والأظهر أنه سيئ الحفظ ففيما تفرد به نظر. وهذا الحديث في بعض ألفاظه غرابة ونكارة شديدة، وفيه (7) شيء من حديث المنام من رواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخاري، ويشبه أن يكون مجموعًا من أحاديث شتى، أو منام أو قصة أخرى غير الإسراء، والله أعلم.
وقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَرُ، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم حين أسري به: "لقيت موسى" قال: فنعته فإذا رجل -حسبته قال:-مضطرب، رَجْل الرأس، كأنه من رجال شنوءة. قال: "ولقيت عيسى" -فنعته النبي صلى الله عليه وسلم-ربعة (8) أحمر كأنما خرج من ديماس -يعني حمام. قال: "ورأيت إبراهيم، وأنا أشبه ولده به". قال: "وأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر، قيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن، فشربت، فقيل لي: هديت الفطرة -أو: أصبت الفطرة-أما إنك لو
__________
(1) تفسير الطبري (15/6).
(2) تفسير الطبري (15/10).
(3) دلائل النبوة (2/296 ، 297).
(4) دلائل النبوة (2/397).
(5) في ت: "اليمني".
(6) زيادة من ت.
(7) في ت: "فيه".
(8) في ت، أ: "قال: ربعة".

أخذت الخمر غوت أمتك" وأخرجاه من وجه آخر. عن الزهري -به نحوه (1) .
وفي صحيح مسلم، عن محمد بن رافع، عن حُجَيْن بن المثنى، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي (2) فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربًا ما كربت مثله قط، فرفعه الله لي أنظر إليه ما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، وإذا موسى قائم يصلي، وإذا هو رجل ضربٌ جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبهًا عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم -يعني نفسه-فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت قال قائل: يا محمد، هذا مالك صاحب النار، [فسلم عليه] (3) فالتفت إليه فبدأني بالسلام " (4) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي الصلت، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي لما انتهينا إلى السماء السابعة، فنظرت فوق (5) فإذا رعد وبرق وصواعق". قال: "وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا، فلما نزلت إلى السماء الدنيا نظرت أسفل مني فإذا أنا بِرَهَج ودخان وأصوات، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الشياطين يحرفون على أعين بني آدم ألا يتفكرون في ملكوت السموات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب".
ورواه الإمام أحمد عن حسن وعفان، كلاهما عن حماد بن سلمة، به. ورواه ابن ماجه من حديث حماد، به (6) .
رواية جماعة من الصحابة [رضي الله عنهم] (7) ممن تقدم وغيرهم:
قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله -يعني الحاكم-أخبرنا عبدان بن يزيد بن يعقوب الدقاق بهمذان، حدثنا إبراهيم بن الحسين الهمداني، حدثنا أبو محمد هو إسماعيل بن موسى الفزاري، حدثنا عمر بن سعد النصري (8) من بني نصر (9) بن قُعَين، حدثني عبد العزيز، وليث بن أبي سليم (10) وسليمان الأعمش، وعطاء بن السائب -بعضهم يزيد في الحديث على بعض-عن علي بن أبي طالب وعبد الله (11) بن عباس -ومحمد بن إسحاق بن يسار، عمن حدثه عن ابن عباس-
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3394) وصحيح مسلم برقم (168).
(2) في ت: "عن أمري".
(3) زيادة من ف، أ، ومسلم.
(4) صحيح مسلم برقم (172).
(5) في ف، أ: "فوق رأسي".
(6) المسند (2/353- 363) وسنن ابن ماجة برقم (2273) . وسبق الحديث من رواية أحمد عند تفسير الآية: 185 من سورة الأعراف، وعقب عليه الحافظ ابن كثير بقوله: "علي بن زيد بن جدعان له منكرات".
(7) زيادة من أ.
(8) في ف: "النضري".
(9) في ف: "من بني نضرة".
(10) في أ: "سلمة".
(11) في ت، ف: "وعن عبد الله".

وعن سليم بن مسلم العقيلي، عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن مسعود -وجويبر، عن الضحاك، ابن مزاحم قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ راقدًا، وقد صلى العشاء الآخرة. قال أبو عبد الله الحاكم: قال لنا هذا الشيخ . . . وذكر الحديث، فكتب (1) المتن من نسخة مسموعة منه، فذكر حديثًا طويلا يذكر فيه عدد الدرج والملائكة وغير ذلك مما لا ينكر شيء منها في قدرة الله إن صحت الرواية.
قال البيهقي: فيما ذكرنا قبل في حديث أبي هارون العبدي في إثبات الإسراء والمعراج كفاية، وبالله التوفيق (2) .
قلت: وقد أرسل هذا الحديث غير واحد من التابعين وأئمة المفسرين، رحمة الله عليهم أجمعين.
رواية عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها:
قال [الإمام] (3) البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني مكرم بن أحمد القاضي، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي (4) ، حدثنا محمد بن كثير الصَّنْعاني، حدثنا معمر بن راشد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك في صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس! فقال: أوقال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غَدْوة أو رَوْحة. فلذلك سمي أبو بكر: الصديق، رضي الله عنه (5) .
رواية أم هانئ بنت أبي طالب، رضي الله عنها:
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح باذان، عن أم هانئ بنت أبي طالب [رضي الله عنها] (6) في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي، نائم عندي تلك الليلة، فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا، فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: "يا أم هانئ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين" (7) .
الكلبي: متروك بمرة ساقط، لكن رواه أبو يعلى في مسنده عن محمد بن إسماعيل الأنصاري، عن ضَمْرَة بن ربيعة، عن يحيى بن أبي عمرو السيباني (8) ، عن أبي صالح، عن أم هانئ بأبسط من هذا
__________
(1) في ت: "فثبت".
(2) دلائل النبوة (2/404).
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ت: "البكري".
(5) دلائل النبوة (2/360) وهو في المستدرك (3/62) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
(6) زيادة من أ.
(7) رواه الطبري في تفسيره (15/3) من طريق محمد بن إسحاق.
(8) في ت، ف، أ: "الشيباني"

السياق، فليكتب هاهنا (1) .
وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الأعلى بن أبي المُسَاور، عن عكرمة، عن أم هانئ قالت: بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به في بيتي، ففقدته من الليل، فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل، عليه السلام، أتاني فأخذ بيدي فأخرجني، فإذا على الباب دابة دون البغل وفوق الحمار، فحملني عليها، ثم انطلق حتى انتهى بي إلى بيت المقدس، فأراني إبراهيم يشبه خلقه خلقي، ويشبه خلقي خلقه، وأراني موسى آدم طويلا سبط الشعر، شبهته برجال أزد شنوءة، وأراني عيسى ابن مريم رَبْعة أبيض يضرب إلى الحمرة، شبهته بعروة بن مسعود الثقفي، وأراني الدجال ممسوح العين اليمنى، شبهته بقطن بن عبد العزى"
__________
(1) كذا ولم أجد فى النسخ إثباته، وقد رواه أبو يعلى فى معجم شيوخه برقم (10) قال: "حدثنا محمد بن إسماعيل الوساوسي، حدثنا ضمرة بن ربيعة، حدثنا يحيى بن أبى عمرو السيباني، عن أبى صالح مولى أم هانئ، عن أم هانئ قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلس، فجلس، وأنا على فراشي، فقال: "شعرت أنى بت الليلة فى المسجد الحرام، فأتاني جبريل، فذهب بى إلى باب المسجد، فإذا بدابة أبيض، فوق الحمار، ودون البغل، مضطرب الأذنين، فركبت وكان يضع حافره مد بصره، إذا أخذني فى هبوط طالت يداه وقصرت رجلاه، وإذا أخذني في صعود طالت رجلاه وقصرت يداه، وجبريل لا يفوتني، حتى انتهينا إلى بيت المقدس، فأوثقته بالحلقة التى كانت الأنبياء توثق بها، فنشر لي رهط من الأنبياء، منهم إبراهيم، وموسى، وعيسى، فصليت بهم، وكلمتهم، وأتيت بإناءين أحمر وأبيض، فشربت الأبيض، فقال لي جبريل: شربت اللبن، وتركت الخمر، لو شربت الخمر لارتدت أمتك. ثم ركبته، فأتيت المسجد الحرام وصليت به الغداة" قالت: فعلقت بردائه: أنشدك الله يا ابن عمى! أن تحدث بهذا قريشا، فيكذبك من صدقك. فضرب بيده على ردائه، فانتزعه من يدى، فارتفع عن بطنه، فنظرت إلى عكنه، فوق إزاره كأنها طى القراطيس، فإذا نور ساطع عند فؤاده، كاد يخطف بصري، فخررت ساجدة، فلما رفعت رأسي إذا هو قد خرج، فقلت لجاريتي نبعة: ويحك اتبعيه، فانظرى ماذا يقول، وماذا يقال له؟ فلما رجعت نبعة، أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى نفر من قريش، فى الحطيم، فيهم المطعم بن عدي، وعمرو بن هشام، والوليد بن المغيرة، فقال: "إنى صليت الليلة العشاء فى هذا المسجد، وصليت به الغداة، وأتيت فيما دون ذلك بيت المقدس، فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم، وموسى، وعيسى، وصليت بهم وكلمتهم".
فقال عمرو بن هشام كالمستهزئ به: صفهم لي، فقال: "أما عيسى، ففوق الربعة، ودون الطول، عريض الصدر، ظاهر الدم، جعد، أشعر تعلوه صهبة، كأنه عروة بن مسعود الثقفي. وأما موسى، فضخم آدم، طوال، كأنه من رجال شنوءة، متراكب الأسنان، مقلص الشفة، خارج اللثة، عابس. وأما إبراهيم فوالله إنه لأشبه الناس بي، خلقا، وخلقا". قال: فضجوا، وأعظموا ذلك، فقال المطعم بن عدي: كل أمرك كان قبل اليوم، كان أمما غير قولك اليوم، أما أنا، فأشهد أنك كاذب، نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس، نصعد شهرا، ونحدر شهرا، تزعم أنك أتيته فى ليلة، واللات والعزى لا أصدقك، وما كان الذى تقول قط. وكان للمطعم بن عدي حوض على زمزم أعطاه إياه عبد المطلب، فهدمه وأقسم باللات والعزى لا يسقى قطرة أبدا، فقال أبو بكر: يا مطعم، بئس ما قلت لابن أخيك جبهته وكذبته، أنا أشهد أنه صادق، فقالوا: يا محمد، فصف لنا بيت المقدس، قال: "دخلت ليلا وخرجت منه ليلا". فأتاه جبريل بصورته فى جناحه، فجعل يقول: "باب منه كذا، فى موضوع كذا، وباب منه كذا، فى موضع كذا"، وأبو بكر يقول: صدقت، قالت نبعة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ: "يا أبا بكر، إنى قد سميتك (الصديق)". قالوا: يا مطعم، دعنا نسأله عما هو أغنى لنا من بيت المقدس. يا محمد، أخبرنا عن عيرنا، فقال: "أتيت على عير بنى فلان بالروحاء، قد أضلوا ناقة لهم، فانطلقوا فى طلبها، فانتهيت إلى رحالهم، ليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء، فشربت منه، فاسألوهم عن ذلك " قالوا: هذه والإله آية. "ثم انتهيت إلى عير بنى فلان، فنفرت منى الإبل، وبرك منها جمل أحمر، عليه جوالق محيط ببياض، لا أدرى أكسر البعير، أم لا، فاسألوهم عن ذلك" قالوا: هذه والإله آية "ثم انتهيت إلى عير بنى فلان فى التنعيم، يقدمها جمل أورق ، وها هى ذه يطلع عليكم من الثنية". فقال الوليد بن المغيرة: ساحر، فانطلقوا فنظروا، فوجدوا الأمر كما قال. فرموه بالسحر، وقالوا: صدق الوليد بن المغيرة فيما قال، فأنزل الله عز وجل: "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن" (الإسراء : 60) قلت لأم هانئ: ما الشجرة الملعونة فى القرآن؟ قالت: الذين خوفوا فلم يزدهم التخويف إلا طغيانا وكفرا".

قال: "وأنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت". فأخذت بثوبه فقلت: إني أذكرك (1) الله، إنك تأتي قوما يكذبونك وينكرون مقالتك، فأخاف أن يسطوا بك. قالت: فضرب ثوبه من يدي، ثم خرج إليهم فأتاهم وهم جلوس، فأخبرهم ما أخبرني، فقام جبير بن مطعم فقال: يا محمد لو كنت شابا (2) كما كنت، ما تكلمت بما تكلمت به وأنت بين ظهرانينا. فقال رجل من القوم: يا محمد، هل مررت بإبل لنا في مكان كذا وكذا؟ قال: "نعم، والله قد وجدتهم أضلوا بعيرًا لهم فهم في طلبه" .
قال: فهل مررت بإبل لبني فلان؟ قال: "نعم، وجدتهم في مكان كذا وكذا، وقد انكسرت (3) لهم ناقة حمراء، وعندهم قصعة من ماء، فشربت ما فيها". قالوا: فأخبرنا عدتها وما فيها من الرعاة [قال: "قد كنت عن عدتها مشغولا". فنام فأوتي بالإبل فعدها وعلم ما فيها من الرعاة] (4) ثم أتى قريشا فقال لهم: "سألتموني عن إبل بني فلان، فهي كذا وكذا، وفيها من الرعاة فلان وفلان، وسألتموني عن إبل بني فلان، فهي كذا وكذا، وفيها من الرعاة ابن أبي قحافة وفلان وفلان، وهي مصبحتكم من الغداة (5) على الثنية". قال: فقعدوا (6) على الثنية ينظرون أصدقهم ما قال؟ فاستقبلوا الإبل فسألوهم: هل ضل لكم بعير؟ قالوا: نعم. فسألوا الآخر: هل انكسرت لكم ناقة حمراء؟ قالوا: نعم. قالوا: فهل كان عندكم قصعة؟ قال: أبو بكر: أنا والله وضعتها فما شربها أحد، ولا أهراقوه في الأرض. فصدقه أبو بكر [رضي الله عنه] (7) وآمن به، فسمي يومئذ الصديق (8) .
فصل
وإذا (9) حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها، يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرة واحدة، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه، أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه، فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء، عليهم السلام. ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب ولم يحصل على مطلب.
وقد صرح بعضهم من المتأخرين بأنه، عليه السلام (10) أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط، ومرة من مكة إلى السماء فقط، ومرة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء. وفرح بهذا المسلك، وأنه قد ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات. وهذا بعيد جدًا، ولم ينقل هذا عن أحد من السلف، ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به أمته، ولنقلته (11) الناس على التعدد والتكرر.
قال موسى بن عقبة، عن الزهري: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة. وكذا قال عروة. وقال السدي: بستة عشر شهرًا.
والحق أنه، عليه السلام (12) أسري به يقظة لا منامًا من مكة إلى بيت المقدس، راكبًا البراق،
__________
(1) في ت: "أذكر".
(2) في ت، ف: "أن لو كنت لك شابا".
(3) في ت: "وقد كسرت".
(4) زيادة من الخصائص الكبرى للسيوطي (1/439) .
(5) في ف: "بالغداة".
(6) في ت، ف: "فغدوا".
(7) زيادة من ف، أ.
(8) المعجم الكبير (24/432) وعبد الأعلى بن أبي المساور كذاب.
(9) في ف: "فإذا".
(10) في ف: "بأنه صلى الله عليه وسلم".
(11) في ت: "ولتعلمه".
(12) في ف: "أنه صلى الله عليه وسلم".

فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب، ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين. ثم أتى المعراج (1) -وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها-فصعد فيه إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقية السماوات السبع، فتلقاه من كل سماء مقربوها، وسلم عليه الأنبياء [عليهم السلام] (2) الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مرّ بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزلتهما صلى الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء، حتى انتهى إلى مستوى يسمع (3) فيه صريف الأقلام، أي: أقلام القدر بما هو كائن، ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر الله، تعالى، عظمة عظيمة، من فراش من ذهب، وألوان متعددة، وغشيتها الملائكة، ورأى هنالك جبريل على صورته، وله ستمائة جناح، ورأى رفرفًا أخضر قد سد الأفق، ورأى البيت المعمور (4) وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسندًا ظهره إليه؛ لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفًا من الملائكة يتعبدون فيه، ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. ورأى الجنة والنار، وفرض الله [عز وجل] (5) عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خففها إلى خمس؛ رحمة منه ولطفًا بعباده. وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها. ثم هبط إلى بيت المقدس، وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة، ويحتمل أنها الصبح من يومئذ. ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء. والذي تظاهرت به الروايات أنه بيت المقدس، ولكن في بعضها أنه كان أول (6) دخوله إليه. والظاهر أنه بعد رجوعه إليه؛ لأنه لما مرّ بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحدًا واحدًا وهو يخبره بهم، وهذا هو اللائق؛ لأنه كان أولا مطلوبًا إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله، تعالى. ثم لما فرغ من الذي أريد به، اجتمع هو وإخوانه من النبيين [صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين] (7) ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام (8) له في ذلك. ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما عرض الآنية عليه من اللبن والعسل، أو اللبن والخمر، أو اللبن والماء، أو الجميع -فقد ورد أنه في بيت المقدس، وجاء أنه في السماء. ويحتمل أن يكون هاهنا وهاهنا؛ لأنه كالضيافة للقادم، والله أعلم.
ثم اختلف الناس: هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام (9) وروحه؟ أو بروحه فقط؟ على قولين، فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا منامًا، ولا ينكر أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك منامًا، ثم رآه بعده يقظة؛ لأنه عليه السلام (10) كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح؛ والدليل على هذا قوله [عز وجل] (11) { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، ولو كان منامًا لم يكن فيه كبير شيء ولم يكن مستعظمًا، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه، ولما ارتد جماعة ممن كان قد أسلم. وأيضًا فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد،
__________
(1) في ت، ف: "بالمعراج".
(2) زيادة من ف.
(3) في ت: "سمع"، وفي ف، أ: "فسمع".
(4) في ت، ف، أ: "المعمور الذي".
(5) زيادة من ف.
(6) في ف، أ: "كان في أول".
(7) زيادة من ف، أ.
(8) في ت: "عليه الصلاة والسلام"
(9) في ف: "صلى الله عليه وسلم".
(10) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(11) زيادة من: ف، أ.

وقد قال [عز شأنه] (1) { أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا } وقد قال تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } [ الأسراء: 60 ] قال ابن عباس [رضي الله عنهما] (2) هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم [ليلة أسري به، والشجرة الملعونة: شجرة الزقوم] (3) رواه البخاري. وقال تعالى: { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } [ النجم: 17 ]، والبصر من آلات الذات لا الروح. وأيضًا فإنه حمل على البراق، وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان، وإنما يكون هذا للبدن لا للروح؛ لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب (4) عليه، والله أعلم.
وقال آخرون: بل أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه لا بجسده. قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس؛ أن معاوية بن أبي سفيان [رضي الله عنهما] (5) كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقة.
وحدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أسري بروحه.
قال ابن إسحاق: فلم ينكر ذلك من قولها، لقول الحسن: إن هذه الآية نزلت { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } ولقول (6) الله في الخبر عن إبراهيم: { إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } [ الصافات: 102 ]، ثم مضى على ذلك. فعرفت أن الوحي يأتي للأنبياء من الله أيقاظًا ونياما.
فكان (7) رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تنام عيناي، وقلبي يقظان" فالله أعلم أي ذلك كان قد جاءه، وعاين فيه من الله ما عاين، على أي حالاته كان، نائمًا أو يقظان، كل ذلك حق وصدق. انتهى كلام ابن إسحاق (8) .
وقد تعقبه أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالرد والإنكار والتشنيع، بأن هذا خلاف (9) ظاهر سياق القرآن، وذكر من الأدلة على رده بعض ما تقدم (10) والله أعلم.
فائدة حسنة جليلة:
روى الحافظ أبو نُعَيم الأصبهاني في كتاب "دلائل النبوة" من طريق محمد بن عمر الواقدي: حدثني مالك بن أبي الرجال، عن عمرو بن عبد الله، عن محمد بن كعب القرظي، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دَحْية بن خليفة إلى قيصر -فذكر وروده عليه وقدومه إليه. وفي السياق دلالة عظيمة على وُفُور عقل هرقل-ثم استدعى من بالشام من التجار، فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) زيادة من ف، أ.
(3) زيادة من ت، ف، أ.
(4) في ف: "يركب".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في ف: "وكقول".
(7) في ف: "وكان".
(8) ذكره الطبري في تفسيره (15/13) بإسناده إلى ابن إسحاق.
(9) في ف: "اختلاف".
(10) تفسير الطبري (15/13،14)

وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)

وأصحابه، فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها البخاري ومسلم، كما سيأتي بيانه، وجعل أبو سفيان يجهد أن يحقر أمره ويصغره عنده. قال في هذا السياق عن أبي سفيان: والله ما يمنعني أن أقول عليه قولا أسقطه من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها عليّ، ولا يصدقني بشيء. قال: حتى ذكرت قوله ليلة أسري به قال: فقلت: أيها الملك، ألا أخبرك خبرًا تعرف أنه قد كذب؟ قال: وما هو؟ قال: قلت: إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا -أرض الحرم-في ليلة فجاء مسجدكم هذا-مسجد إيلياء، ورجع (1) إلينا تلك الليلة قبل الصباح. قال: وبَطْرِيقُ إيلياء عند رأس قيصر، فقال: بَطْرِيق إيلياء: قد علمت تلك الليلة، قال: فنظر (2) قيصر، وقال: وما علمك بهذا؟ قال: إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كان تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني، فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني كلهم فعالجته فغلبني، فلم نستطع أن نحركه، كأنما نزاول به جبلا فدعوت إليه النجاجرة، فنظروا إليه فقالوا: إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان ولا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتى. قال: فرجعت وتركت البابين مفتوحين. فلما أصبحت غدوت عليهما فإذا الحجر الذي في زاوية الباب (3) مثقوب، وإذا فيه أثر مربط الدابة قال: فقلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي، وقد صلى الليلة في مسجدنا. وذكر تمام الحديث (4) .
فائدة:
قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دَحْيَة في كتابه "التنوير في مولد السراج المنير" وقد ذكر حديث الإسراء من طريق أنس، وتكلم عليه فأجاد وأفاد-ثم قال: وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب، وعلي [بن أبي طالب] (5) وابن مسعود، وأبي ذر، ومالك بن صعصعة، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، وشداد بن أوس، وأبي بن كعب، وعبد الرحمن بن قُرْط، وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين (6) ، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وحذيفة، وبريدة، وأبي أيوب، وأبي أمامة، وسمرة بن جُنْدُب، وأبي الحمراء، وصهيب الرومي، وأم هانئ، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم أجمعين. منهم من ساقه بطوله، ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد، وإن لم تكن (7) رواية بعضهم على شرط الصحة، فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، واعترض فيه الزنادقة الملحدون (8) { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [ الصف: 8 ].
{ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) } .
لما ذكر تعالى أنه أسرى بعبده محمد، صلوات الله وسلامه عليه (9) ، عطف بذكر موسى عبده
__________
(1) في ف: "فرجع".
(2) في ف، أ: "فنظر إليه".
(3) في ف، هـ: "المسجد".
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (5/224) وعزاه لأبي نعيم في الدلائل، ولم أجده في المطبوع من الدلائل.
(5) زيادة من ف.
(6) في ت، ف: "الأنصاري".
(7) في ف: "يكن".
(8) في ف: "والملحدون".
(9) في ف: "صلى الله عليه وسلم".

وكليمه [عليه السلام] (1) أيضًا، فإنه تعالى كثيرًا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما السلام (2) وبين ذكر التوراة والقرآن؛ ولهذا قال بعد ذكر الإسراء: { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } يعني التوراة { وَجَعَلْنَاهُ } أي الكتاب { هُدًى } أي هاديًا { لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا } أي لئلا تتخذوا { مِنْ دُونِي وَكِيلا } أي وليًا ولا نصيرًا ولا معبودًا دوني؛ لأن الله تعالى أنزل على كل نبي أرسله (3) أن يعبده وحده لا شريك له.
ثم قال: { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } تقديره: يا ذرية من حملنا مع نوح. فيه تهييج وتنبيه على المنة، أي: يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة، تشبهوا بأبيكم، { إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } فاذكروا أنتم نعمتي عليكم بإرسالي إليكم محمدًا صلى الله عليه وسلم. وقد ورد في الحديث وفي الأثر عن السلف: أن نوحًا، عليه السلام، كان يحمد الله [تعالى] (4) على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله; فلهذا سمي عبدًا شكورًا.
قال: الطبراني حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن أبي حُصَين، عن عبد الله بن سنان، عن سعد بن مسعود الثقفي قال: إنما سمي نوح عبدًا شكورًا؛ لأنه كان إذا أكل أو شرب حمد الله (5) .
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو أسامة، حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن سعيد بن أبي بُرْدَة، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها".
وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من طريق أبي أسامة، به (6) .
وقال مالك، عن زيد بن أسلم: كان يحمد الله على كل حال.
وقد ذكر البخاري هنا حديث أبي زُرْعَة، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (7) ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أنا سيد الناس يوم القيامة -بطوله، وفيه -: فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح، أنت (8) أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربك" وذكر الحديث بكماله (9) .
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ت: "عليهما الصلاة والسلام" . وفي ف، أ: "عليهما من الله الصلاة والسلام".
(3) في ت: "أرسل".
(4) زيادة من أ.
(5) المعجم الكبير (6/32).
(6) المسند (3/117) ، وصحيح مسلم برقم (2734) وسنن الترمذي برقم (1816) وسنن النسائي الكبرى برقم (6899).
(7) زيادة من ف، أ.
(8) في ف، أ: "يانوح، إنك أنت".
(9) صحيح البخاري برقم (4712).

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)

{ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) }

عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)

{ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) }
يقول تعالى: إنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب، أي: تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون (1) علوًا كبيرًا، أي: يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس كما قال تعالى: { وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ } [ الحجر: 66 ] أي: تقدمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه به.
وقوله: { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا } أي: أولى الإفسادتين { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي: سلطنا عليكم جندًا من خلقنا أولي بأس شديد، أي: قوة وعدة وسلطة (2) شديدة { فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ } أي: تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم، أي: بينها ووسطها، وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحدا { وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا }
وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم: من هم؟ فعن ابن عباس وقتادة: أنه جالوت الجَزَريّ وجنوده، سلط عليهم أولا ثم أديلوا عليه بعد ذلك. وقتل داود جالوت؛ ولهذا قال: { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا }
وعن سعيد بن جبير: أنه ملك الموصل سنجاريب وجنوده. وعنه أيضًا، وعن غيره: أنه بختنصر ملك بابل.
وقد ذكر ابن أبي حاتم له قصة عجيبة في كيفية ترقيه من حال إلى حال، إلى أن ملك البلاد، وأنه كان فقيرًا مقعدًا ضعيفًا يستعطي الناس ويستطعمهم، ثم آل به الحال إلى ما آل، وأنه سار إلى بلاد بيت المقدس، فقتل بها خلقًا كثيرًا من بني إسرائيل.
وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثًا أسنده عن حذيفة مرفوعًا مطولا (3) وهو حديث موضوع لا محالة، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث! والعجب كل العجب كيف راج عليه مع إمامته وجلالة قدره! وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي، رحمه الله، بأنه موضوع مكذوب، وكتب ذلك على حاشية الكتاب.
وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرها؛ لأن منها ما هو موضوع، من وضع [بعض] (4) زنادقتهم، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحًا، ونحن في غُنْيَة عنها، ولله الحمد. وفيما قص الله تعالى علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم. وقد أخبر الله تعالى أنهم لما بغوا وطغوا سلط الله عليهم عدوهم، فاستباح بَيْضَتَهم، وسلك خلال بيوتهم وأذلهم وقهرهم، جزاء وفاقًا، وما ربك بظلام للعبيد؛ فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء.
__________
(1) في ف، أ: "ولتعلن".
(2) في ف: "وسلطنة".
(3) تفسير الطبري (15/17)
(4) زيادة من ف، أ.

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)

وقد روى ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: ظهر بُختنَصَّر على الشام، فخرب بيت المقدس وقتلهم، ثم أتى دمشق فوجد بها دمًا يغلي على كِبًا، فسألهم: ما هذا الدم؟ فقالوا أدركنا آباءنا على هذا، وكلما ظهر عليه الكبا ظهر. قال: فقتل على ذلك الدم سبعين ألفًا من المسلمين وغيرهم، فسكن (1) .
وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب، وهذا هو المشهور، وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم، حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة، وأخذ معه خلقًا منهم أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم، وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها. ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه، لجاز كتابته وروايته، والله أعلم.
ثم قال تعالى: { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } أي: فعليها، كما قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } [ فصلت: 46 ].
وقوله: { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ } أي: المرة الآخرة (2) أي: إذا أفسدتم المرة الثانية وجاء أعداؤكم { لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ } أي: يهينوكم ويقهروكم { وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ } أي بيت المقدس { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي: في التي جاسوا فيها خلال الديار { وَلِيُتَبِّرُوا } أي: يدمروا ويخربوا { مَا عَلَوْا } أي: ما ظهروا عليه { تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ } أي: فيصرفهم عنكم { وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا } أي: متى عدتم إلى الإفساد { عُدْنَا } إلى الإدالة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنكال، ولهذا قال [تعالى] (3) { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا } أي: مستقرًا ومحصرًا وسجنًا لا محيد لهم عنه.
قال ابن عباس [رضي الله عنهما] (4) : { حَصِيرًا } أي: سجنًا.
وقال مجاهد: يحصرون فيها. وكذا قال غيره.
وقال الحسن: فراش ومهاد.
وقال قتادة: قد عاد بنو إسرائيل، فسلط الله عليهم هذا الحي، محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون.
{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) }
يمدح تعالى كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن، بأنه يهدي لأقوم الطرق، وأوضح السبل { وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ } به { الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ } على مقتضاه { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } أي: يوم القيامة.
{ وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } أي: ويبشر الذين لا يؤمنون بالآخرة أن { لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } أي: يوم القيامة، كما قال تعالى: { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران: 21 ].
__________
(1) تفسير الطبري (15/24).
(2) في ت: "الأخرى".
(3) زيادة من ت.
(4) زيادة من ف، أ.

وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)

{ وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا (11) }
يخبر تعالى عن عجلة الإنسان، ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله { بِالشَّرِّ } أي: بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك، فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه، كما قال تعالى: { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } [ يونس: 11 ]، وكذا فسره ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وقد تقدم في الحديث: "لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم، أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها".
وإنما يحمل ابن آدم على ذلك عجلته وقلقه؛ ولهذا قال تعالى { وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا }
وقد ذكر سلمان الفارسي وابن عباس -رضي الله عنهما-هاهنا قصة آدم، عليه السلام، حين همّ بالنهوض قائمًا قبل أن تصل الروح إلى رجليه، وذلك أنه جاءته النفخة من قبل رأسه، فلما وصلت إلى دماغه عطس، فقال: الحمد لله. فقال الله: يرحمك ربك يا آدم. فلما وصلت إلى عينيه فتحهما، فلما سرت إلى أعضائه وجسده جعل ينظر إليه ويعجبه، فهمّ بالنهوض قبل أن تصل إلى رجليه فلم يستطع (1) وقال: يا رب عجل (2) قبل الليل.
{ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا (12) }
يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام، فمنها مخالفته بين الليل والنهار، ليسكنوا في الليل وينتشروا في النهار للمعايش والصناعات (3) والأعمال والأسفار، وليعلموا عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام، ويعرفوا مضي الآجال المضروبة للديون والعبادات والمعاملات والإجارات وغير ذلك؛ ولهذا قال: { لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } أي: في معايشكم (4) وأسفاركم ونحو ذلك { وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } فإنه لو كان الزمان كله نسقًا واحدًا وأسلوبًا متساويًا لما عرف شيء من ذلك، كما قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ القصص: 71 -73 ]، وقال تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } [ الفرقان: 61 ، 62 ] وقال تعالى: { وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [ المؤمنون: 80 ]، وقال: { يُكَوِّرُ (5) اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } [ الزمر: 5 ]، وقال تعالى: { فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ الأنعام: 96 ]، وقال
__________
(1) في ت: "قبل أن يستطيع".
(2) في ت، ف: "اعجل".
(3) في ت، ف، أ: "والصنائع".
(4) في ت، ف: "معاشكم".
(5) في ت: "ويكور" وهو خطأ.

وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)

تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ يس: 37 ، 38 ].
ثم إنه تعالى جعل لليل آية، أي: علامة يعرف بها (1) وهي الظلام وظهور القمر فيه، وللنهار علامة، وهي النور وظهور (2) الشمس النيرة فيه، وفاوت بين ضياء القمر وبرهان الشمس ليعرف هذا من هذا، كما قال تعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ } إلى قوله: { لآيَاتٍ (3) لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ } [ يونس: 5 ، 6 ]، كما قال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } الآية [ البقرة: 189 ] .
قال ابن جُرَيْج، عن عبد الله بن كثير في قوله: { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } قال: ظلمة الليل وسُدفة (4) النهار.
وقال ابن جريج عن مجاهد: الشمس آية النهار، والقمر آية الليل { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ } قال: السواد الذي في القمر، وكذلك (5) خلقه الله تعالى.
وقال ابن جريج: قال ابن عباس: كان القمر يضيء كما تضيء الشمس، والقمر آية الليل، والشمس آية النهار { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ } السواد الذي في القمر.
وقد روى أبو جعفر بن جرير من طرق متعددة جيدة: أن ابن الكَوَّاء سأل [أمير المؤمنين] (6) علي ابن أبي طالب فقال: يا أمير المؤمنين، ما هذه اللطخة التي في القمر؟ فقال: ويحك أما تقرأ القرآن؟ { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ } فهذه محوه.
وقال قتادة في قوله: { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ } كنا نحدث أن (7) محو آية الليل سواد القمر الذي فيه، وجعلنا آية النهار مبصرة، أي: منيرة، خلق الشمس أنور من القمر وأعظم.
وقال ابن أبي نجيح عن ابن عباس: { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ } قال: ليلا ونهارًا، كذلك خلقهما الله، عز وجل (8) .
{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) }
يقول تعالى بعد ذكر الزمان وذكر ما يقع فيه من أعمال بني آدم: { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } وطائره: هو ما طار عنه من عمله، كما قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: من خير وشر، يُلزم به ويجازى عليه { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة: 5 ، 6 ]، وقال تعالى: { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق: 17 ، 18 ]،
__________
(1) في ت: "يعرفونها".
(2) في ت، ف: "وطلوع".
(3) في ف، أ: (إن في ذلك لآيات) وهو خطأ.
(4) في ت، ف، أ: "وسدف".
(5) في ف: "ولذلك".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في ت: "ما نجد كان".
(8) في ف: "الله تعالى".

وقال تعالى: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار: 10 -14 ]، قال: { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور : 16] وقال: { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء: 123 ].
والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه، قليله وكثيره، ويكتب عليه ليلا ونهارًا، صباحًا ومساء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لَهِيعة، عن أبى الزبير، عن جابر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَطَائر كل إنسان في عنقه" . قال ابن لهيعة: يعني الطيرة (1) .
وهذا القول من ابن لهيعة في تفسير هذا الحديث، غريب جدًا، والله أعلم.
وقوله [تعالى] (2) { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا } أي: نجمع له عمله كله في كتاب يعطاه يوم القيامة، إما بيمينه إن كان سعيدًا، أو بشماله إن كان شقيًا { مَنْشُورًا } أي: مفتوحًا يقرؤه هو وغيره، فيه جميع عمله من أول عمره إلى آخره { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } [ القيامة: 13 -15 ]، ولهذا قال تعالى: { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } أي: إنك (3) تعلم أنك لم تظلم ولم يكتب عليك غير ما عملت؛ لأنك ذكرت جميع ما كان منك، ولا ينسى أحد شيئًا مما كان منه، وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب وأمي.
وقوله [تعالى] (4) { أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } إنما ذكر العنق؛ لأنه عضو لا نظير له في (5) الجسد، ومن ألزم بشيء فيه فلا محيد له عنه، كما قال الشاعر: (6) .
اذهب بها اذهب بها ... طوقتها طوق الحمامة ...
قال قتادة، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه (7) عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا عَدْوَى ولا طيرَة وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه". كذا رواه ابن جرير (8) .
وقد رواه الإمام عبد بن حميد، رحمه الله، في مسنده متصلا فقال: حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر [رضي الله عنه] (9) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طير كل عبد في عنقه" (10) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، حدثنا عبد الله، حدثنا ابن لهيعة، حدثني يزيد: أن أبا الخير حدثه: أنه سمع عقبة بن عامر [رضي الله عنه] (11) يحدث، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من عمل يوم إلا وهو يختم عليه، فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة: يا ربنا، عبدك فلان، قد حبسته؟ فيقول الرب جل جلاله: اختموا له على مثل عمله، حتى يبرأ أو يموت" (12) .
__________
(1) المسند (3/360) ، وقال الهيثمي في المجمع (7/49): "فيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت، ف: "أي أنت".
(4) زيادة من ت.
(5) في ت، أ: "من".
(6) هو أبو أحمد بن جحش، والأبيات في السيرة النبوية لابن هشام (1/500).
(7) في ف، أ: "عنهما".
(8) تفسير الطبري (15/39) .
(9) زيادة من ف، أ.
(10) المنتخب لعبد بن حميد برقم (1053).
(11) زيادة من ف، أ.
(12) المسند (4/146).

مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)

إسناده جيد قوي، ولم يخرجوه.
وقال مَعْمَر، عن قتادة: { أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } قال: عمله. { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } قال: نخرج ذلك العمل { كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا } قال معمر: وتلا الحسن البصري { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ ق: 17 ] يا ابن آدم، بسطت لك صحيفتك (1) ووكل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك، فاعمل (2) ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة كتابًا تلقاه منشورًا { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } قد عدل -والله (3) -عليك من جعلك حسيب نفسك.
هذا من حسن (4) كلام الحسن، رحمه الله.
{ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا (15) }
يخبر تعالى أن من اهتدى واتبع الحق واقتفى آثار النبوة، فإنما يحصل عاقبة ذلك الحميدة (5) لنفسه { وَمَنْ ضَلَّ } أي: عن الحق، وزاغ عن سبيل الرشاد، فإنما يجني على نفسه، وإنما يعود وبال ذلك عليه.
ثم قال: { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي: لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يجني جانٍ إلا على نفسه، كما قال تعالى: { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ } [ فاطر: 18 ].
ولا منافاة بين هذا وبين قوله تعالى: { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت: 13]، وقوله [تعالى] (6) { وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ النحل: 25 ]، فإن الدعاة عليهم إثم ضلالهم في أنفسهم، وإثم آخر بسبب ما أضلوا من أضلوا من غير أن ينقص من أوزار أولئك، ولا يحملوا عنهم شيئًا. وهذا من عدل الله ورحمته بعباده.
وكذا قوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } إخبار عن عدله تعالى، وأنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه، كما قال تعالى: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ } [ الملك: 8 ، 9 ]، وكذا قوله [تعالى] (7) : { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ الزمر: 71 ]، وقال تعالى: { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } [ فاطر: 37 ]
__________
(1) في ت، ف، أ: "صحيفة".
(2) في ت، ف، أ: "فاملك".
(3) في ت، ف، أ: "الله".
(4) في ف: "أحسن".
(5) في ف: "الحمد".
(6) زيادة من ت.
(7) زيادة من ت.

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحدًا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه، ومن ثم طعن جماعة من العلماء في اللفظة التي جاءت مقحمة في صحيح البخاري عند قوله تعالى: { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [ الأعراف: 56 ].
حدثنا عبيد الله بن سعد، حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح بن كَيْسَان، عن الأعرج بإسناده إلى (1) أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اختصمت الجنة والنار" فذكر الحديث إلى أن قال: "وأما الجنة فلا يظلم الله من خلقه أحدًا، وأنه ينشئ للنار خلقًا فيلقون فيها، فتقول: هل من مزيد؟ (2) ثلاثا، وذكر تمام الحديث (3) .
فإن هذا إنما جاء في الجنة لأنها دار فضل، وأما النار فإنها دار عدل، لا يدخلها أحد إلا بعد الإعذار إليه وقيام الحجة عليه. وقد تكلم جماعة من الحفاظ في هذه اللفظة (4) وقالوا: لعله انقلب على الراوي بدليل ما أخرجاه في الصحيحين واللفظ للبخاري من حديث عبد الرزاق (5) عن مَعْمَر، عن همام، عن أبي هريرة قال: قال النبي (6) صلى الله عليه وسلم: "تحاجت الجنة والنار" فذكر الحديث إلى أن قال: "فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع فيها قدمه، فتقول: قط، قط، فهنالك تمتلئ ويزوي (7) بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدًا، وأما الجنة فينشئ الله لها خلقًا" (8) .
بقي هاهنا مسألة قد اختلف الأئمة (9) رحمهم الله تعالى، فيها (10) قديمًا وحديثًا وهي: الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار، ماذا حكمهم؟ وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف، ومن مات في الفَتْرة ولم تبلغه (11) الدعوة. وقد ورد في شأنهم أحاديث أنا ذاكرها لك بعون الله [تعالى] (12) وتوفيقه ثم نذكر فصلا ملخصًا من كلام الأئمة في ذلك، والله (13) المستعان.
فالحديث الأول: عن الأسود بن سَريع:
قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع [رضي الله عنه] (14) أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب، قد (15) جاء الإسلام وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق فيقول: رب، قد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني (16) بالبعر، وأما الهَرَمُ فيقول: رب، لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئًا،
__________
(1) في ت، ف، أ: "عن".
(2) في ت، ف، أ: "هل من مزيد؟ ويلقون فيها فتقول: هل من مزيد".
(3) صحيح البخاري برقم (7449)
(4) في ت: "الفظلة" وهو خطأ.
(5) في ت: "وعبد الرزاق".
(6) في ف : "قال رسول الله".
(7) في ف: "وينزوي".
(8) صحيح البخاري برقم (4850) وصحيح مسلم برقم (2846).
(9) في أ: "العلماء".
(10) في ف: "اختلف العلماء فيها".
(11) في ت: "ومن لم تبلغه".
(12) زيادة من ت، ف.
(13) في ت، ف، أ: "وبالله".
(14) زيادة من ف، أ.
(15) في ف: "لقد".
(16) في ت: "يقذفوني".

وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب، ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليُطِعنّه (1) فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا" (2) .
وبالإسناد عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبى هريرة، مثل هذا الحديث غير أنه قال في آخره: "من (3) دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها يسحب إليها" (4) .
وكذا رواه إسحاق بن راهويه، عن معاذ بن هشام، ورواه البيهقي في كتاب الاعتقاد، من حديث حنبل (5) بن إسحاق، عن علي بن عبد الله المديني، به (6) وقال: هذا إسناد صحيح، وكذا رواه حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعة كلهم يدلي على الله بحجة" فذكر نحوه (7) .
ورواه ابن جرير، من حديث مَعْمَر، عن همام، عن أبي هريرة، فذكره موقوفًا، ثم قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } (8) .
وكذا رواه معمر عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة موقوفًا.
الحديث الثاني: عن أنس بن مالك:
قال أبو داود الطيالسي: حدثنا الربيع، عن يزيد بن أبان (9) قال: قلنا لأنس: يا أبا حمزة، ما تقول في أطفال المشركين؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يكن لهم سيئات فيعذبوا (10) بها فيكونوا من أهل النار، ولم يكن لهم حسنات فيجازوا بها فيكونوا من ملوك أهل الجنة هم من خدم أهل الجنة" (11) .
الحديث الثالث: عن أنس أيضًا:
قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خَيْثَمَةَ، حدثنا جرير، عن لَيْث، عن عبد الوارث، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بأربعة يوم القيامة: بالمولود، والمعتوه، ومن مات في الفَتْرَة، والشيخ الفاني الهرم، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار: أبرز. ويقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم، وإني رسول نفسي إليكم ادخلوا هذه. قال: فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب، أنى ندخلها ومنها كنا نفر؟ قال: ومن كتبت عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعًا، قال: فيقول الله تعالى: أنتم لرسلي أشد تكذيبًا ومعصية، فيدخل هؤلاء الجنة، وهؤلاء النار" .
__________
(1) في ت، ف: "لتطيعنه".
(2) المسند (4/24) وقال الهيثمي في المجمع (7/216): "رجاله رجال الصحيح".
(3) في ف: "فمن".
(4) المسند (4/24) وقال الهيثمي في المجمع (7/216): "رجاله رجال الصحيح".
(5) في ف، أ: "أحمد".
(6) الاعتقاد (ص169).
(7) رواه ابن أبي عاصم في السنة برقم (404) من طريق الحسن بن موسى، عن حماد بن سلمة به.
(8) تفسير الطبري (15/41).
(9) في ف: "زيد هو أبان".
(10) في ت: "ليعذبوا".
(11) رواه أبو نعيم في الحلية (6/308) من طريق سفيان الثوري، عن الربيع بن صبيح به، وضعفه الحافظ ابن حجر في الفتح (3/246) وله شواهد من حديث أبي سعيد الخدري، وسمرة بن جندب رضي الله عنهما. وكأن في متن الحديث نكاره لمخالفته ما ورد في الصحيحين أولا، ولأن الله وصف خدم أهل الجنة بالخلود فقال: (ويطوف عليهم ولدان مخلدان) [الإنسان : 19] وسيأتي تضعيف الحافظ ابن كثير له، والله تعالى أعلم.

وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البزار، عن يوسف بن موسى، عن جرير بن عبد الحميد، بإسناده مثله (1) .
الحديث الرابع: عن البراء بن عازب، رضي الله عنه:
قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده أيضًا: حدثنا قاسم بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله.
-يعني ابن داود-عن عمر بن ذر، عن يزيد بن أمية، عن البراء قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المسلمين قال: "هم مع آبائهم". وسئل عن أولاد المشركين فقال: "هم مع آبائهم". فقيل: يا رسول الله، ما يعملون؟ قال : "الله أعلم بهم" (2) .
ورواه عمر بن ذر، عن يزيد بن أمية، عن رجل، عن البراء، عن عائشة، فذكره (3) .
الحديث الخامس: عن ثوبان:
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا ريحان بن سعيد، حدثنا عباد بن منصور، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم عظَّم شأن المسألة، قال: "إذا كان يوم القيامة، جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم فيسألهم ربهم، فيقولون: ربنا لم ترسل إلينا رسولا ولم يأتنا لك أمر، ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك، فيقول لهم ربهم: أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيقولون: نعم، فيأمرهم (4) أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها، فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظًا وزفيرًا، فرجعوا إلى ربهم فيقولون: ربنا أخرجنا -أو: أجرنا-منها، فيقول لهم: ألم تزعموا أني إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيأخذ على ذلك مواثيقهم. فيقول: اعمدوا إليها، فادخلوها.
فينطلقون حتى إذا رأوها فَرِقوا ورجعوا، فقالوا: ربنا فَرِقنا منها، ولا نستطيع أن ندخلها فيقول: ادخلوها داخرين". فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردًا وسلامًا". ثم قال البزار: ومتن هذا الحديث غير معروف إلا من هذا الوجه، لم يروه عن أيوب إلا عباد، ولا عن عباد إلا ريحان بن سعيد (5) .
قلت: وقد ذكره ابن حبان في ثقاته، وقال يحيى بن معين والنسائي: لا بأس به، ولم يرضه أبو داود. وقال أبو حاتم: شيخ لا بأس به يكتب حديثه ولا يحتج به.
الحديث السادس: عن أبي سعيد-سعد بن مالك بن سنان الخدري:
قال الإمام محمد بن يحيى الذُّهَلي: حدثنا سعيد بن سليمان، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الهالك في الفترة والمعتوه والمولود: يقول الهالك
__________
(1) مسند أبي يعلى (7/225) ومسند البزار برقم (2177) "كشف الأستار" وليث بن أبي سليم ضعيف، وعبد الوارث قال عنه البخاري: "منكر الحديث".
(2) وذكره المؤلف في جامع المسانيد والسنن (37/87) من مسند أبي يعلى، ولم أقع عليه في المطبوع من المسند.
(3) لم أقع على هذا الطريق، ولعلي أستدركه فيما بعد -إن شاء الله. وروى الإمام أحمد في مسنده (6/84) من طريق بهية عن عائشة نحوه.
(4) في ت: "فأمرهم".
(5) مسند البزار برقم (3433) "كشف الأستار".

في الفترة: لم يأتني كتاب، ويقول المعتوه: رب، لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرًا ولا شرًا، ويقول المولود: رب لم أدرك العقل فترفع (1) لهم نار فيقال لهم (2) : ردوها" ، قال: فيردها من كان في علم الله سعيدًا لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل، فيقول: إياي عصيتم، فكيف لو أن رسلي أتتكم؟".
وكذا رواه البزار، عن محمد بن عمر بن هَيَّاج الكوفي، عن عبيد الله (3) بن موسى، عن فضيل بن مرزوق، به (4) ثم قال: لا يعرف من حديث أبي سعيد إلا من طريقه، عن عطية عنه، وقال في آخره: "فيقول الله: إياي عصيتم فكيف برسلي بالغيب؟"
الحديث السابع: عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه:
قال هشام بن عَمَّار ومحمد بن المبارك الصوري (5) حدثنا عمر بن واقد، عن يونس بن حلبس، عن أبي إدريس (6) الخولاني، عن معاذ بن جبل، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيرًا. فيقول الممسوخ: يا رب، لو آتيتني عقلا ما كان (7) من آتيته عقلا بأسعد مني -وذكر في الهالك في الفترة والصغير نحو ذلك-فيقول الرب عز وجل: إني آمركم بأمر فتطيعوني؟ فيقولون: نعم، فيقول: اذهبوا فادخلوا النار -قال: ولو دخلوها ما ضرّتهم-فتخرج عليهم قوابص، فيظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، فيرجعون سراعًا، ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك، فيقول الرب عزّ وجل: قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون، وعلى علمي خلقتكم، وإلى علمي تصيرون، ضميهم، فتأخذهم النار" (8) .
الحديث الثامن: عن أبي هريرة، رضي الله عنه:
قد تقدم روايته مندرجة مع رواية الأسود بن سريع، رضي الله عنه:
وفي الصحيحين، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرَانه ويُمَجِّسانه، كما تنتج (9) البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟" (10) .
وفي رواية قالوا: يا رسول الله، أفرأيت من يموت صغيرا؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" (11) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت، عن عطاء بن قُرَّة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم -فيما أعلم، شك موسى-قال:
__________
(1) في ف: "فرفع".
(2) في ت: "فيقول لهم".
(3) في ت: "عبد الله".
(4) مسند البزار برقم (2176) وقال الهيثمي في المجمع (7/216) "فيه عطية وهو ضعيف".
(5) في ت: "الغوري".
(6) في ت: "عن أبي ذر".
(7) في ت: "ما مات".
(8) ورواه ابن عدي في الكامل (5/118) من طريق عبد الصمد بن عبد الله، عن هشام بن عمار، عن عمرو بن واقد به. وقال بعد أن ساق أحاديث عمرو بن واقد عن يونس: "كلها غير محفوظة إلا من رواية عمرو بن واقد عن يونس، عن أبي إدريس، عن معاذ ابن جبل وهو من الشاميين ممن يكتب حديثه ولا يحتج به".
(9) في ت، ف: "تولد".
(10) صحيح البخاري برقم (1385) وصحيح مسلم برقم (2658) .
(11) الرواية في صحيح مسلم برقم (2658).

"ذراري المسلمين في الجنة، يكفلهم إبراهيم عليه السلام (1) " (2) .
وفي صحيح مسلم، عن عياض بن حمار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الله، عز وجل، أنه قال: "إني خلقت عبادي حنفاء" (3) وفي رواية لغيره "مسلمين".
الحديث التاسع: عن سمرة، رضي الله عنه:
رواه الحافظ أبو بكر البرقاني في كتابه "المستخرج على البخاري" من حديث عوف الأعرابي، عن أبي رجاء العطاردي، عن سَمُرَة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة" فناداه الناس: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: "وأولاد المشركين" (4) .
وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا عقبة بن مكرم الضَّبِّي، عن عيسى بن شعيب، عن عباد بن منصور، عن أبي رَجَاء، عن سمرة قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين فقال: "هم خدم أهل الجنة" (5) .
الحديث العاشر: عن عم حسناء (6) .
قال [الإمام] (7) أحمد: [حدثنا إسحاق، يعني الأزرق] (8) ، أخبرنا رَوْح، حدثنا عوف، عن حسناء (9) بنت معاوية من بني صريم قالت: حدثني عمي قال: قلت: يا رسول الله، من في الجنة؟ قال: "النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة" (10) .
فمن العلماء من ذهب إلى التوقف (11) فيهم لهذا الحديث، ومنهم من جزم لهم بالجنة، لحديث سَمُرَة بن جندب في صحيح البخاري: أنه عليه الصلاة والسلام (12) قال في جملة ذلك المنام، حين مرّ على ذلك الشيخ تحت الشجرة وحوله ولدان، فقال له جبريل: هذا إبراهيم، عليه السلام، وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين، قالوا: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟. قال "نعم، وأولاد المشركين" (13) .
ومنهم من جزم لهم بالنار، لقوله عليه السلام (14) : "هم مع آبائهم" .
ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العَرَصَات، فمن أطاع دخل الجنة وانكشف علم الله فيهم بسابق السعادة، ومن عصى دخل النار داخرًا، وانكشف علم الله فيه بسابق (15) الشقاوة.
__________
(1) في ت: "عليه الصلاة والسلام".
(2) المسند (2/326) وقال الهيثمي في المجمع (7/219): "فيه عبد الرحمن بن ثابت وثقه ابن المديني وجماعة، وضعفه ابن معين وغيره، وبقية رجاله ثقات".
(3) صحيح مسلم برقم (2865).
(4) أصله في صحيح البخاري برقم (7047) من طريق عوف به نحوه.
(5) المعجم الكبير (7/244) وقال الهيثمي في المجمع (7/219): "وفيه عبادة بن منصور وثقة يحيى القطان وفيه ضعف".
(6) في ت، ف، أ: "خنساء".
(7) زيادة من ت، أ.
(8) زيادة من ف، أ، والمسند.
(9) في ت، ف، أ: "خنساء".
(10) المسند (5/58) وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (3/246) : "إسناده حسن".
(11) في ت، ف، أ: "الوقف".
(12) في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(13) صحيح البخاري برقم (7047).
(14) في ت: "عليه الصلاة والسلام" ، وفي ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(15) في ت، ف، أ: "بتقدم".

وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، رحمه الله، عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في "كتاب الاعتقاد" وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ النقاد.
وقد ذكر الشيخ أبو عمر بن عبد البر النَّمَري بعد ما تقدم من أحاديث الامتحان، ثم قال: وأحاديث هذا الباب ليست قوية، ولا تقوم بها حجة وأهل العلم ينكرونها؛ لأن الآخرة دار جزاء وليست دار عمل ولا ابتلاء، فكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها؟!
والجواب عما قال: أن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح، كما قد نص على ذلك غير واحد من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يقوى (1) بالصحيح والحسن. وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متعاضدة على هذا النمط، أفادت الحجة عند الناظر فيها، وأما قوله: "إن الآخرة دار جزاء". فلا شك أنها دار جزاء، ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار، كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة، من امتحان الأطفال، وقد قال الله تعالى: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ } [ ن: 42 ] وقد ثبتت السنة في الصحاح (2) وغيرها: أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة، وأما المنافق فلا يستطيع ذلك ويعود ظهره طبقًا واحدًا كلما أراد السجود (3) خَرَّ لقفاه (4) .
وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجًا منها أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك مرارًا، ويقول الله تعالى: يا ابن آدم، ما أغدرك! ثم يأذن له في دخول الجنة (5) .
وأما قوله: "وكيف يكلفهم (6) دخول النار، وليس ذلك في وسعهم؟" فليس هذا بمانع من صحة الحديث، فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسر على جهنم أحدّ من السيف وأدق من الشعرة، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم، كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، ومنهم الساعي ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم المكدوش على وجهه في النار، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم، وأيضًا فقد ثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار، فإنه يكون عليه بردًا وسلامًا، فهذا نظير ذلك، وأيضًا فإن الله تعالى [قد] (7) أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، فقتل بعضهم بعضًا حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفًا، يقتل الرجل أباه وأخاه وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل، وهذا أيضًا شاق على النفوس جدًا لا يتقاصر (8) عما ورد في الحديث المذكور، والله أعلم.
__________
(1) في ف، أ: "يتقوى".
(2) في ت: "والصحاح".
(3) في ف: "سجودا".
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (4919) من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه.
(5) صحيح البخاري برقم (806) وصحيح مسلم برقم (182) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(6) في ت، ف: "كلفهم الله" ، وفي أ: "يكفهم الله النار".
(7) زيادة من ت، ف، أ.
(8) في ف: "لا تتقاصر".

فصل
فإذا تقرر هذا، فقد اختلف الناس في ولدان المشركين على أقوال:
أحدها: أنهم في الجنة، واحتجوا بحديث سَمُرَة أنه، عليه السلام (1) رأى مع إبراهيم أولاد المسلمين وأولاد المشركين وبما تقدم في (2) رواية أحمد عن حسناء (3) عن عمها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والمولود في الجنة". وهذا استدلال صحيح، ولكن أحاديث الامتحان أخص منه. فمن علم الله [عز وجل] (4) منه أنه يطيع جعل (5) روحه في البرزخ مع إبراهيم وأولاد المسلمين الذين ماتوا على الفطرة، ومن علم منه أنه لا يجيب، فأمره إلى الله تعالى، ويوم القيامة يكون في النار كما دلت عليه أحاديث الامتحان، ونقله الأشعري عن أهل السنة [والجماعة] (6) ثم من هؤلاء القائلين بأنهم في الجنة من يجعلهم مستقلين فيها، ومنهم من يجعلهم خدمًا لهم، كما جاء في حديث علي بن زيد، عن أنس، عند أبي داود الطيالسي (7) وهو ضعيف، والله أعلم.
القول الثاني: أنهم مع آبائهم في النار، واستدل عليه بما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي المغيرة حدثنا عتبة بن ضمرة (8) بن حبيب، حدثني عبد الله بن أبى قيس مولى غُطَيْف، أنه أتى عائشة فسألها عن ذراري الكفار فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم تبع لآبائهم". فقلت: يا رسول الله، بلا عمل؟ فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" (9) .
وأخرجه أبو داود من حديث محمد بن حرب، عن محمد بن زياد الألهاني، سمعت عبد الله بن أبي قيس سمعت، عائشة تقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذراري المؤمنين قال (10) : "هم من آبائهم". قلت: فذراري المشركين؟ قال : "هم مع آبائهم" قلت: بلا عمل؟ قال : "الله أعلم بما كانوا عاملين" (11) .
ورواه [الإمام] (12) أحمد أيضا، عن وكيع، عن أبي عَقِيل يحيى بن المتوكل -وهو متروك-عن مولاته بُهَيَّة عن عائشة؛ أنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أطفال المشركين فقال: "إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار" (13) .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل بن (14) غزوان، عن محمد بن عثمان، عن زاذان عن علي، رضي الله عنه، قال: سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال: "هما في النار" . قال: فلما رأى الكراهية في وجهها [قال] (15) لو رأيت مكانهما لأبغضتهما". قالت: فولدي منك؟ قال: [قال: "في الجنة". قال: ثم قال رسول الله
__________
(1) في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(2) في ت، ف: "من".
(3) في ت، ف، أ: "خنساء".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ت، ف، أ: "جعل الله".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) سبق الحديث والكلام عليه عند هذه الآية.
(8) في ف: "حمزة".
(9) المسند (6/84).
(10) في ف، أ: "فقال".
(11) سنن أبي داود برقم (4712).
(12) زيادة من ف، أ.
(13) المسند (6/208).
(14) في ت: "عن".
(15) زيادة من ف، أ، والمسند.

صلى الله عليه وسلم] (1) .
"إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار" ثم قرأ: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ [أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ] (2) } [ الطور: 21 ] (3) .
وهذا حديث غريب؛ فإن محمد بن عثمان هذا مجهول الحال، وشيخه زاذان لم يدرك عليًا، والله أعلم.
وروى أبو داود من حديث ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوائدة والموءودة في النار". ثم قال الشعبي: حدثني به علقمة، عن أبي وائل، عن ابن مسعود (4) .
وقد رواه جماعة عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن سلمة بن قيس الأشجعي قال: أتيت أنا وأخي النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: إن أمنا ماتت في الجاهلية، وكانت تقري الضيف وتصل الرحم، وأنها وأدت أختًا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث. فقال: "الوائدة والموءودة في النار، إلا أن تدرك الوائدة الإسلام، فتسلم". وهذا إسناد حسن (5) .
والقول الثالث: التوقف فيهم، واعتمدوا على قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين". وهو في الصحيحين من حديث جعفر بن أبي إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين قال (6) : الله أعلم بما كانوا عاملين" (7) وكذلك هو في الصحيحين، من حديث الزهري، عن عطاء بن يزيد، وعن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن أطفال المشركين، فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" (8) .
ومنهم من جعلهم من أهل الأعراف. وهذا القول يرجع إلى قول من ذهب إلى أنهم من أهل الجنة؛ لأن الأعراف ليس دار قرار، ومآل أهلها إلى الجنة كما تقدم تقرير ذلك في "سورة الأعراف"، والله أعلم.
فصل
وليعلم أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين، فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء كما حكاه القاضي أبو يعلى بن الفرّاء الحنبلي، عن الإمام أحمد أنه قال: لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة. وهذا هو المشهور بين الناس، وهو الذي نقطع (9) به إن شاء الله، عز وجل. فأما ما ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر، عن بعض العلماء: أنهم توقفوا في ذلك، وأن الولدان كلهم تحت شيئة (10) الله، عز وجل (11) . قال أبو عمر: ذهب إلى هذا القول جماعة من أهل الفقه والحديث
__________
(1) زيادة من ف، أ
(2) زيادة من ف، أ.
(3) زوائد المسند (1/134).
(4) سنن أبي داود برقم (4717).
(5) أخرجه أحمد في مسنده (3/478) من طريق ابن أبي عدي، عن داود بن أبي هند به.
(6) في ت، ف: "فقال".
(7) صحيح البخاري برقم (1383) وصحيح مسلم برقم (2660).
(8) صحيح البخاري برقم (1384) وصحيح مسلم برقم (2659)
(9) في ف: "يقطع".
(10) في ت، ف، أ: "مشيئة".
(11) في أ: "تعالى".

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)

منهم: حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وابن المبارك، وإسحاق بن راهويه وغيرهم قالوا: وهو يشبه ما رسم مالك في موطئه في أبواب القدر، وما أورده من الأحاديث في ذلك، وعلى ذلك أكثر أصحابه. وليس عن مالك فيه شيء منصوص، إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال المشركين خاصة في المشيئة (1) انتهى كلامه وهو غريب جدًا.
وقد ذكر أبو عبد الله القرطبي في كتاب "التذكرة" (2) نحو ذلك أيضًا، والله أعلم.
وقد ذكروا في ذلك حديث عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين قالت: دعي النبي (3) صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله، طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه، فقال: "أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم". رواه أحمد مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه (4) .
ولما كان الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى دلائل صحيحة جيدة، وقد يتكلم فيها من لا علم عنده عن الشارع، كره جماعة من العلماء الكلام فيها، روي ذلك عن ابن عباس، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، ومحمد بن الحنفية وغيرهم. وأخرج ابن حبان في صحيحه، عن جرير بن حازم سمعت أبا رجاء العُطَاردي، سمعت ابن عباس وهو على المنبر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال أمر هذه الأمة مواتيًا -أو مقاربًا-ما لم يتكلموا في الوِلْدان والقَدَر".
قال ابن حبان: يعني أطفال المشركين.
وهكذا رواه أبو بكر البزار من طريق جرير بن حازم، به (5) . ثم قال: وقد رواه جماعة عن أبي رجاء، عن ابن عباس موقوفًا.
{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) }
اختلف القراء في قراءة قوله: { أَمَرْنَا } فالمشهور قراءة التخفيف، واختلف المفسرون في معناها، فقيل: معناها أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمرًا قدريًا، كقوله تعالى: { أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا } [ يونس: 24 ]، فإن الله لا يأمر بالفحشاء، قالوا: معناه: أنه سخرهم إلى فعل الفواحش فاستحقوا العذاب.
وقيل: معناه: أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة. رواه ابن جريج (6) عن ابن عباس، وقاله سعيد بن جبير أيضًا.
__________
(1) في ف: "وأطفال الكفار تحت المشيئة".
(2) التذكرة: (ص511-517)
(3) في ف، أ: "رسول الله".
(4) المسند (6/41) وصحيح مسلم برقم (2662) وسنن أبي داود برقم (4713) وسنن النسائي (4/57) وسنن ابن ماجة برقم (82).
(5) صحيح ابن حبان برقم (1824) "موارد"، ومسند البزار برقم (2180) "كشف الأستار".
(6) في أ: "ابن جرير".

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)

وقال ابن جرير: وقد يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء.
قلت: إنما يجيء هذا (1) على قراءة من قرأ "أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا" قال علي بن طلحة، عن ابن عباس قوله: { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا } يقول: سلطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم (2) بالعذاب، وهو قوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا } [ الأنعام: 123 ]، وكذا قال أبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس.
وقال العَوْفِي عن ابن عباس: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا } يقول: أكثرنا عددهم، وكذا قال عكرمة، والحسن، والضحاك، وقتادة، وعن مالك عن الزهري: { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } : أكثرنا.
وقد استشهد بعضهم بالحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا روح بن عبادة، حدثنا أبو نعامة العدوي، عن مسلم بن بُدَيْل، عن إياس بن زهير، عن سُوَيْد بن هُبَيْرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خير مال امرئ له مهرة مأمورة أو سكة مأبورة".
قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام، رحمه الله، في كتابه "الغريب": المأمورة: كثيرة النسل. والسّكة: الطريقة المصطفة من النخل، والمأبورة: من التأبير، وقال بعضهم: إنما جاء هذا متناسبًا كقوله: "مأزورات غير مأجورات" (3) .
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) }
يقول تعالى منذرًا كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه قد أهلك أممًا من المكذبين للرسل من بعد نوح، ودل هذا على (4) أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام، كما قاله (5) ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة (6) قرون كلهم على الإسلام.
ومعناه: أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم، وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق، فعقوبتكم أولى وأحرى.
وقوله [تعالى] (7) { وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } أي: هو عالم بجميع أعمالهم، خيرها وشرها، لا يخفى عليه منها خافية [سبحانه وتعالى] (8) .
__________
(1) في ت، ف: "هذا إنما يجيء".
(2) في أ: "أهلكناهم".
(3) ذكره الزيلعي في تخريج الكشاف (2/262) وزاد: "لأنه من التأبيد وهو ما يصلح النخل من سقي وغيره".
(4) في ت: "ودل على هذا".
(5) في ت: "كما قال".
(6) في ت، ف: "عشر".
(7) زيادة من ت.
(8) زيادة من ف، أ.

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)

{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) } .
يخبر تعالى أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعيم يحصل له، بل إنما يحصل لمن أراد الله

كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)

ما يشاء.
وهذه مقيدة لإطلاق ما سواها من الآيات (1) فإنه قال: { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا } أي: في الآخرة { يَصْلاهَا } أي: يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه { مَذْمُومًا } أي: في حال كونه مذمومًا على سوء تصرفه وصنيعه (2) إذ اختار الفاني على الباقي { مَدْحُورًا } : مبعدًا مقصيًا حقيرًا ذليلا مهانًا.
قال الإمام أحمد: حدثنا حسين، حدثنا ذويد (3) ، عن أبي إسحاق، عن زُرْعَة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له" (4) .
وقوله: { وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ } أي: أراد الدار الآخرة وما فيها من النعيم والسرور { وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا } أي: طلب ذلك من طريقه وهو متابعة الرسول { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } أي: وقلبه مؤمن، أي: مصدق بالثواب والجزاء { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا }
{ كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا (21) }
[يقول تعالى: { كُلا } أي كل واحد من الفريقين الذين أرادوا الدنيا والذين أرادوا الآخرة، نمدهم فيما هم فيه { مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ } أي: هو المتصرف الحاكم الذي لا يجور، فيعطي كلا ما يستحقه من الشقاوة والسعادة ولا راد لحكمه ولا مانع لما أعطى، ولا مغير لما أراد؛ ولهذا قال: { وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } أي: ممنوعا، أي: لا يمنعه أحد ولا يرده راد.
قال قتادة: { وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } أي: منقوصًا.
وقال الحسن وابن جريج وابن زيد: ممنوعًا.
ثم قال تعالى: { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } في الدنيا، فمنهم الغني والفقير وبين ذلك، والحسن والقبيح وبين ذلك، ومن يموت صغيرًا، ومن يعمر حتى يبقى شيخًا كبيرًا، وبين ذلك { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } أي: ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من الدنيا؛ فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها، ومنهم من يكون في الدرجات العُلَى ونعيمها وسرورها، ثم أهل الدركات يتفاوتون فيما هم فيه، كما أن أهل الدرجات يتفاوتون، فإن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. وفي الصحيحين: "إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين، كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء" (5) ؛ ولهذا قال تعالى: { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } ] (6) .
__________
(1) في ت: "الإيمان".
(2) في ت: "وصنعه".
(3) في ت، ف: "حسين بن دويل".
(4) المسند (6/71) وقال الهيثمي في المجمع (10/288): "رجاله رجال الصحيح غير دويد وهو ثقة".
(5) تقدم تخريجه عند تفسير الآية: 69 من سورة النساء من حديث أبي سعيد، رضي الله عنه، وفي لفظه اختلاف عن هذا اللفظ. ورواه بهذا اللفظ الحميدي في مسنده برقم (775) من حديث أبي سعيد، رضي الله عنه.
(6) زيادة من ف، أ.

لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)

{ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولا (22) }
يقول تعالى: والمراد المكلفون من الأمة، لا تجعل أيها المكلف في عبادتك ربك له شريكًا { فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا } على إشراكك (1) { مَخْذُولا } لأن الرب تعالى لا ينصرك، بل يكلك إلى الذي عبدت معه، وهو لا يملك لك (2) ضرًا ولا نفعًا؛ لأن مالك الضر والنفع (3) هو الله وحده لا شريك له. وقد قال الإمام أحمد:
حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا بشير بن سلمان، عن سَيَّار أبي الحكم، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله -هو ابن مسعود -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى، إما أجَلٌ [عاجل] (4) وإما غنى عاجل".
ورواه أبو داود، والترمذي من حديث بشير بن سلمان، به (5) ، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) }
يقول تعالى آمرًا بعبادته وحده لا شريك له؛ فإن القضاء هاهنا بمعنى الأمر.
قال مجاهد: { وَقَضَى } يعني: وصى، وكذا قرأ أبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، والضحاك بن مزاحم: "ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه" ولهذا قرن بعبادته بر الوالدين فقال: { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي: وأمر بالوالدين إحسانًا، كما قال في الآية الأخرى: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ لقمان: 14 ].
وقوله: { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } أي: لا تسمعهما قولا سيئًا، حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ { وَلا تَنْهَرْهُمَا } أي: ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح، كما قال عطاء بن أبي رباح في قوله: { وَلا تَنْهَرْهُمَا } أي: لا تنفض (6) يدك على والديك.
ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح، أمره بالقول الحسن والفعل الحسن فقال: { وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا } أي: لينًا طيبًا حسنًا بتأدب وتوقير وتعظيم.
{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } أي: تواضع لهما بفعلك { وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا } أي: في كبرهما وعند وفاتهما { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }
__________
(1) في ف: "شركك".
(2) في ت: "له".
(3) في ف: "النفع واالضر".
(4) زيادة من ف، أ، والمسند.
(5) سنن أبي داود برقم (1645) وسنن الترمذي برقم (2326).
(6) في ف: "ولا تنفض".

قال ابن عباس: ثم أنزل الله [تعالى] (1) : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } [ التوبة: 113 ].
وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة، منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال: "آمين آمين آمين": فقالوا: يا رسول الله، علام أمنت؟ قال: "أتاني جبريل فقال: يا محمد رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقل: آمين. فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، قل: آمين. فقلت آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين. فقلت: آمين" (2) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيْم، حدثنا علي بن زيد، أخبرنا زُرَارَة بن أَوْفَى، عن مالك بن الحارث -رجل منهم -أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من ضَمَّ يتيمًا بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغني عنه، وجبت له الجنة البتة، ومن أعتق امرأ (3) مسلمًا كان فَكَاكه من النار، يجزى بكل عضو منه عضوًا منه".
ثم قال: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت علي بن زيد -فذكر معناه، إلا أنه قال: عن رجل من قومه يقال له: مالك أو ابن مالك، وزاد: "ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار، فأبعده الله" (4) .
حديث آخر: وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا علي بن زيد، عن زرارة بن أوفى (5) عن مالك بن عمرو القشيري: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أعتق رقبة مسلمة فهي فداؤه من النار، مكان كل عَظْم من عظامه مُحَرّره بعظم من عظامه، ومن أدرك أحد والديه ثم لم يغفر له فأبعده الله عز وجل، ومن ضم يتيمًا بين (6) أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله، وجبت له الجنة" (7) .
حديث آخر: وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج ومحمد بن جعفر قالا حدثنا شعبة، عن قتادة سمعت زرارة بن أوفى (8) يحدث عن أبي بن مالك القشيري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك، فأبعده الله وأسحقه".
ورواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة به (9) وفيه زيادات أخر.
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) رواه البزار في مسنده برقم (3168) "كشف الأستار" من طريق جعفر بن عون، عن سلمة بن وردان، عن أنس، رضي الله عنه، وقال: وسلمة صالح وله أحاديث يستوحش منها ولا نعلم روى أحاديث بهذه الألفاظ غيره. وجاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2551) وسيأتي. ومن حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، رواه الحاكم في المستدرك (4/153). ومن حديث عمار بن ياسر وجابر بن سمرة وابن مسعود وعبد الله بن الحارث رواها البزار في مسنده برقم (3164 - 3167).
(3) في ت: "رجلا".
(4) المسند (4/344).
(5) في ت: "زراة بن أبي أوفى".
(6) في ف، أ: "من".
(7) المسند (4/344).
(8) في ت: "زرارة بن أبي أوفى".
(9) المسند (4/344).

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة، حدثنا سهيل (1) بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه أحدهما أو كلاهما عند الكبر ولم يدخل الجنة".
صحيح من هذا الوجه، ولم يخرجه سوى مسلم، من حديث أبي عوانة وجرير وسليمان بن بلال، عن سهيل، به (2) .
حديث آخر: وقال الإمام أحمد: حدثنا رِبعيّ بن إبراهيم -قال أحمد: وهو أخو إسماعيل بن عُلَيَّة، وكان يفضل على أخيه -عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ ! ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان، فانسلخ قبل يغفر له! ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه (3) الكبر فلم يدخلاه الجنة" قال ربعي: لا أعلمه (4) إلا قال: "أحدهما".
ورواه الترمذي، عن أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقِي، عن ربعي بن إبراهيم، ثم قال: غريب من هذا الوجه (5) .
حديث آخر: وقال (6) الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا عبد الرحمن بن الغَسِيل، حدثنا أسيد بن علي، عن أبيه، علي بن عبيد، عن أبي أسيد وهو مالك بن ربيعة الساعدي، قال: بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، هل بقي عليّ من برّ أبويّ شيء بعد موتهما أبرهما به؟ قال: "نعم، خصال أربع: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهو الذي بقي عليك بعد موتهما من برهما" (7) .
ورواه أبو داود وابن ماجه، من حديث عبد الرحمن بن سليمان -وهو ابن الغسيل -به (8) .
حديث آخر: وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا ابن جريج، أخبرني محمد بن طلحة بن عبد الله (9) بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن معاوية بن جاهمة السلمي؛ أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أردت الغزو، وجئتك أستشيرك؟ فقال: "فهل لك من أم؟" قال (10) .
نعم. فقال: "الزمها. فإن الجنة عند رجليها (11) ثم الثانية، ثم الثالثة في مقاعد شتى، كمثل هذا القول.
ورواه النسائي وابن ماجه، من حديث ابن جريج، به (12) .
__________
(1) في ت: "إسماعيل".
(2) المسند (2/364) وصحيحح مسلم برقم (2551)
(3) في ت: "أدرك أبواه عنده".
(4) في ف: "ولا علم".
(5) المسند (2/254) وسنن الترمذي برقم (3545).
(6) في ت: "قال".
(7) في ف: "من برهما بعد موتهما" .
(8) المسند (3/497) وسنن أبي داود برقم (5142) وسنن ابن ماجة برقم (3664).
(9) في أ: "عبيد الله".
(10) في ت، ف: "فقال".
(11) في ف: "عند رجلها".
(12) المسند (3/429) وسنن النسائي (6/11) وسنن ابن ماجة برقم (2781).

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا ابن عياش، عن بَحِير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معد يكرب (1) الكندي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يوصيكم بآبائكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب".
وقد أخرجه ابن ماجه، من حديث [عبد الله] (2) بن عياش، به (3) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا أبو عَوَانة، عن الأشعث بن سليم، عن أبيه، عن رجل من بني يربوع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته وهو يكلم الناس يقول: "يد المعطي [العليا] (4) أمك وأباك وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك" (5) .
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده: حدثنا إبراهيم ابن المستمر العُرُوقي، حدثنا عمرو بن سفيان، حدثنا الحسن بن أبي جعفر، عن ليث بن أبي سليم، عن علقمة بن مرثد (6) عن سليمان بن بُرَيدة، عن أبيه؛ أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل (7) أديت حقها؟ قال: "لا ولا بزفرة واحدة" أو كما قال. ثم قال البزار: لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه (8) .
قلت: والحسن بن أبي جعفر ضعيف، والله أعلم.
{ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا (25) }
قال سعيد بن جبير: هو الرجل تكون (9) منه البادرة إلى أبويه، وفي نيته وقلبه أنه لا يؤخذ به -وفي رواية: لا يريد إلا الخير بذلك -فقال: { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ }
وقوله [تعالى] (10) : { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا } قال قتادة: للمطيعين أهل الصلاة.
وعن ابن عباس: المسبحين. وفي رواية عنه: المطيعين المحسنين.
وقال بعضهم: هم الذين يصلون بين العشاءين. وقال بعضهم: هم الذين يصلون الضحى (11) .
وقال شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في قوله: { [فَإِنَّهُ] (12) كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا } قال: الذي يصيب الذنب ثم يتوب، ويصيب الذنب ثم يتوب.
وكذا رواه عبد الرزاق، عن الثوري ومعمر، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب نحوه، وكذا رواه الليث وابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن ابن] (13) المسيب، به وكذا قال عطاء بن يسار.
__________
(1) في ت، ف: "معدى كرب".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) المسند (4/132) وسنن ابن ماجة برقم (3661).
(4) زيادة من ف، أ، والمسند.
(5) المسند (4/64).
(6) في ف، أ: "يزيد".
(7) في ت: "فسأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: هل".
(8) مسند البزار برقم (1872)"كشف الأستار" ووقع فيه: "ولا بركزة" وفي مجمع الزوائد: "ولا بركة".
(9) في ت، ف: "يكون".
(10) زيادة من ت.
(11) في ت: "الصبح".
(12) في ت، ف: "إنه" وهو خطأ.
(13) زيادة من ف.

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)

وقال مجاهد، وسعيد بن جبير: هم الراجعون إلى الخير.
وقال مجاهد عن عبيد بن عمير في قوله: { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا } قال: هو الذي إذا ذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها. ووافقه على ذلك مجاهد (1) .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن عبيد بن عمير، في قوله: { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا } قال: كنا نعد الأواب الحفيظ، أن يقول: اللهم اغفر لي ما أصبت (2) في مجلسي هذا (3) .
وقال ابن جرير: والأولى في ذلك قول من قال: هو التائب من الذنب، الراجع عن المعصية إلى الطاعة، مما يكره الله إلى ما يحبه ويرضاه (4) .
وهذا الذي قاله هو الصواب؛ لأن الأواب مشتق من الأوب وهو الرجوع، يقال: آب فلان إذا رجع، قال الله تعالى: { إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ } [ الغاشية: 25 ]، وفي الحديث الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رجع من سفر قال (5) : آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون" (6) .
{ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) } .
__________
(1) في ف: "ووافقه مجاهد في ذلك".
(2) في ت: "ما أحببت".
(3) تفسير عبد الرزاق (1/320).
(4) تفسير الطبري (15/52).
(5) في ف، أ: "يقول".
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (1797) من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما

وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)

{ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا (28) }
لما ذكر تعالى بر الوالدين، عطف بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام، كما تقدم في الحديث: "أمك وأباك، ثم أدناك أدناك" وفي رواية: "ثم الأقرب فالأقرب".
وفي الحديث: "من أحب أن يبسط له رزقه (1) وينسأ له في أجله، فليصل رحمه" (2) .
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عباد بن يعقوب، حدثنا أبو يحيى التيمي (3) حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد قال لما نزلت، هذه الآية { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها "فدك". ثم قال: لا نعلم حدث به عن فضيل بن مرزوق إلا أبو يحيى التيمي (4) وحميد بن حماد بن أبي الخوار (5) (6) .
__________
(1) في ت، ف، أ: "له في رزقه".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (5986) ومسلم في صحيحه برقم (2557).
(3) في ت: أبو نجي التمي" ، وفي ف: "التميمي".
(4) في ت: "أبو نجي التميمي".
(5) في ت، ف، أ: "الجوزاء".
(6) مسند البزار برقم (2223) "كشف الأستار" وعطية العوفي متروك.

وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده؛ لأن الآية مكية، وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة فكيف يلتئم هذا مع هذا؟!
وقد تقدم الكلام على المساكين وابن السبيل في "سورة براءة" بما أغنى عن إعادته هاهنا.
قوله [تعالى] (1) { وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } لما أمر بالإنفاق نهى عن الإسراف فيه، بل يكون وسطًا، كما قال في الآية الأخرى: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } [ الفرقان: 67 ].
ثم قال: منفرًا عن التبذير والسرف : { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } أي: أشباههم في ذلك.
وقال ابن مسعود: التبذير: الإنفاق في غير حق. وكذا قال ابن عباس.
وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في الحق، لم يكن مبذرًا، ولو أنفق مدًا في غير حقه كان تبذيرًا.
وقال قتادة: التبذير: النفقة (2) في معصية الله تعالى، وفي غير الحق وفي الفساد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا لَيْث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبى هلال، عن أنس بن مالك أنه قال: أتى رجل من بني تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني ذو مال كثير، وذو أهل وولد وحاضرة، فأخبرني كيف أنفق وكيف أصنع؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تخرج الزكاة من مالك، فإنها طهرة تطهرك، وتصل أقرباءك، وتعرف حق السائل والجار والمسكين (3) " . فقال: يا رسول الله، أقلل (4) لي؟ فقال: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } فقال : (5) : حسبي يا رسول الله، إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله وإلى رسوله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها، فلك أجرها، وإثمها على من بدلها" (6) .
وقوله [تعالى] (7) { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } أي: في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته؛ ولهذا قال: { وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } أي: جحودًا؛ لأنه أنكر نعمة الله عليه ولم يعمل بطاعته؛ بل أقبل على معصيته ومخالفته.
وقوله [تعالى] (8) { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا } أي: وإذا سألك أقاربك ومن أمرنا بإعطائهم وليس عندك شيء، وأعرضت عنهم لفقد النفقة { فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا } أي: عدهم وعدًا بسهولة، ولين إذا جاء رزق الله فسنصلكم إن شاء الله، هكذا فسر قوله { فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا } بالوعد: مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة وغير واحد.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ف، أ: "الإنفاق".
(3) في ت: "حق المسكين السائل والجار والمسكين".
(4) في ت: "أتلك".
(5) في ف: "قال"
(6) المسند (3/136).
(7) زيادة من ت
(8) زيادة من ت

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)

{ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) } .
يقول تعالى آمرًا بالاقتصاد في العيش ذامّا للبخل ناهيًا عن السَّرَف: { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } أي: لا تكن بخيلا منوعًا، لا تعطي أحدًا شيئًا، كما قالت اليهود عليهم لعائن الله: { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } [ المائدة: 64 ] أي نسبوه إلى البخل، تعالى وتقدس الكريم الوهاب.
وقوله: { وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } أي: ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك، وتخرج أكثر من دخلك، فتقعد ملومًا محسورًا.
وهذا من باب اللف والنشر أي: فتقعد إن بخلت ملومًا، يلومك الناس ويذمونك ويستغنون عنك كما قال زهير بن أبي سُلمى في المعلقة:
ومن كان ذا مال ويبخل بماله ... على قومه يستغن عنه ويذمم (1)
ومتى بسطت يدك فوق طاقتك، قعدت بلا شيء تنفقه، فتكون كالحسير، وهو: الدابة التي قد عجزت عن السير، فوقفت ضعفًا وعجزًا (2) فإنها تسمى الحسير، وهو مأخوذ من الكلال، كما قال تعالى: { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك: 3 ، 4 ] أي: كليل عن أن يرى عيبًا. هكذا فسر هذه الآية -بأن المراد هنا البخل والسرف -ابن عباس والحسن وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم.
وقد جاء في الصحيحين، من حديث أبي الزِّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مثل البخيل والمنفق، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثدييهما (3) إلى تراقيهما. فأما المنفق فلا ينفق إلا سَبَغَت -أو: وفرت -على جلده، حتى تُخفي بنانه وتعفو (4) أثره. وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها فلا (5) تتسع".
هذا لفظ البخاري في الزكاة (6) .
وفي الصحيحين من طريق هشام بن عُرْوَةَ، عن زوجته فاطمة بنت المنذر، عن جدتها أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنفقي هكذا وهكذا وهكذا، ولا تُوعِي فَيُوعي الله عليك، ولا توكي فيوكي الله عليك" وفي لفظ: "ولا تُحصي فيحصي الله عليك" (7) .
وفي صحيح مسلم من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال لي: أنفق أنفق عليك" (8) .
وفي الصحيحين من طريق معاوية بن أبي مُزَرِّد، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة رضي
__________
(1) البيت في ديوانه (ص30).
(2) في ت، ف: "عجزا وضعفا".
(3) في أ: "من يديهما".
(4) في ت، ف: "يخفى بنانه ويعفو".
(5) في ف: "ولا".
(6) صحيح البخاري برقم (1443) وليس في صحيح مسلم من طريق أبي الزناد، وإنما هو فيه من طريق الحسن بن مسلم وعبد الله بن طاوس، عن طاوس، عن أبي هريرة برقم (1021).
(7) صحيح البخاري برقم (1433) وصحيح مسلم برقم (1029)
(8) صحيح مسلم برقم (993).

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)

الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا" (1) .
وروى مسلم، عن قتيبة، عن إسماعيل بن جعفر، عن العلاء (2) عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعًا: "ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا (3) ومن تواضع لله رفعه الله" (4) .
وفي حديث أبي كثير، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "إياكم والشُّح، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا" (5) .
وروى البيهقي من طريق سعدان بن نصر، عن أبي معاوية، عن الأعمش، [عن ابن بريدة] (6) عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يخرج رجل صدقة، حتى يفك لَحْيَى سبعين شيطانا" (7) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبيدة الحداد، حدثنا سُكَين (8) بن عبد العزيز، حدثنا إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعوده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عال من اقتصد" (9) .
وقوله [تعالى] (10) { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ } إخبار أنه تعالى هو الرزاق، القابض الباسط، المتصرف في خلقه بما يشاء، فيغني من يشاء، ويفقر من يشاء، بما له في ذلك من الحكمة؛ ولهذا قال: { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } أي: خبير بصير بمن يستحق الغنى ومن يستحق الفقر (11) ، كما جاء في الحديث: "إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه".
وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجًا، والفقر عقوبة عياذًا بالله من هذا وهذا.
{ وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) }
هذه الآية الكريمة دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده؛ لأنه ينهى [تعالى] (12)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1442) وصحيح مسلم برقم (1010).
(2) في ف: "عن العلاء بن عبد الرحمن".
(3) في ت، ف، أ : "إلا غنى".
(4) صحيح مسلم برقم (2588).
(5) رواه أحمد في المسند (2/159) وأبو داود في السنن برقم (1698) وابن حبان في صحيحه برقم (1580) "موارد" من طرق عن شعبة عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، عن أبي كثير الزبيدي به.
(6) زيادة من ف، أ، والسنن الكبرى، وصحيح ابن خزيمة.
(7) السنن الكبرى (4/187) ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (2457) من طريق محمد المخزومي، عن أبي معاوية، به، وقال: "إن صح الخبر، فإني لا أقف هل سمع الأعمش من ابن بريدة أم لا".
(8) في ت: "مسكين" ، وفي ف، أ: "سكن".
(9) المسند (1/447) وقال الهيثمي في المجمع (10/252): "فيه إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف".
(10) زيادة من ت.
(11) في ف، أ: "بمن يستحق الفقر ومن يستحق الغنى".
(12) زيادة من ت، ف، أ.

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)

عن قتل الأولاد، كما أوصى بالأولاد في الميراث، وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات، بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته، فنهى الله [تعالى] (1) عن ذلك فقال: { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } أي: خوف أن تفتقروا في ثاني الحال؛ ولهذا قدم الاهتمام برزقهم فقال: { نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ } وفي الأنعام (2) { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ } أي: من فقر { نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ (3) } [ الأنعام: 151].
وقوله: { إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا } أي: ذنبًا عظيمًا.
وقرأ بعضهم: "كان خَطَأً كبيرًا" وهو بمعناه.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًا وهو خلقك" . قلت :ثم أي ؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعَمَ معك". قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزاني بحليلة (4) جارك" (5) .
{ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا (32) } .
يقول تعالى ناهيًا عباده عن الزنا وعن مقاربته، وهو مخالطة أسبابه (6) ودواعيه { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } أي: ذنبًا عظيمًا { وَسَاءَ سَبِيلا } أي: وبئس طريقًا ومسلكًا.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا جرير، حدثنا سليم بن عامر، عن أبي أمامة قال: إن فتى شابًا أتى النبي (7) صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مًهْ مَهْ. فقال: "ادنه". فدنا منه قريبًا (8) فقال (9) اجلس". فجلس، قال: "أتحبه لأمك؟" قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم" . قال: "أفتحبه لابنتك"؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك. قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم" ، قال: "أتحبه لأختك"؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم"، قال: "أفتحبه لعمتك"؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم" قال: "أفتحبه لخالتك"؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم" قال: فوضع يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن (10) فرجه" قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (11) .
وقال (12) ابن أبي الدنيا: حدثنا عمار بن نصر، حدثنا بَقيَّةُ، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن الهيثم بن مالك الطائي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ت، ف، أ: "وقال في سورة الأنعام".
(3) في ت: "نرزقهم وإياكم" وهو خطأ.
(4) في ف: "خليلة" ، وفي أ: "حليلة".
(5) صحيح البخاري برقم (4477) وصحيح مسلم برقم (68).
(6) في ت: "أشباهه".
(7) في ت: "أتى إلى النبي".
(8) في ف: "قريبا منه".
(9) في ت: "فقال له".
(10) في ف: "وأحصن"
(11) المسند (5/356).
(12) في ف، أ: "قال".

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49