الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي

لما ذكر تعالى ما أنعم به على داود، عطف بذكر ما أعطى ابنه سليمان (1) ، من تسخير الريح له تحمل بساطه، غدوها شهر ورواحها شهر.
قال الحسن البصري: كان يغدو على بساطه من دمشق فينزل بإصطخر يتغذّى (2) بها، ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل، وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع، وبين إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع.
وقوله: { وَأَسَلْنَا لَهُ (3) عَيْنَ الْقِطْرِ } قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء الخراساني، وقتادة، والسدي، ومالك عن زيد بن أسلم، و (4) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد: القطر: النحاس. قال قتادة: وكانت باليمن، فكل ما يصنع الناس مما أخرج الله تعالى لسليمان، عليه السلام.
قال السدي: وإنما أسيلت له ثلاثة أيام.
وقوله: { وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي: وسخرنا له الجن يعملون بين يديه بإذن الله، أي: بقدره (5) ، وتسخيره لهم بمشيئته ما يشاء من البنايات وغير ذلك. { وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا } أي: ومَنْ يعدل ويخرج منهم عن الطاعة { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ } وهو الحريق.
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا فقال: حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح، حدثنا معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نُفَير (6) ، عن أبي ثعلبة الخُشَنيّ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الجن على ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون". رفعه غريب جدًا. (7)
وقال (8) أيضا: حدثنا أبي، حدثنا حَرْمَلة، حدثنا ابن وهب، أخبرني بكر (9) بن مُضَر، عن محمد، عن ابن أنعم أنه قال: الجن ثلاثة: صنف لهم الثواب وعليهم العقاب، وصنف طيارون فيما بين السماء والأرض، وصنف حيات وكلاب.
قال بكر بن مضر: ولا أعلم إلا أنه قال: حدثني أن الإنس ثلاثة (10) : صنف يظلهم الله بظل عرشه يوم القيامة. وصنف كالأنعام بل هم أضل سبيلا. وصنف في صُوَر الناس على قلوب الشياطين.
__________
(1) في ت، أ: "ما أعطى ابنه سليمان بن داود" وفي س: "ما أعطى ابنه سليمان".
(2) في ت: "فيتغذى".
(3) في ت: "واسالنا"
(4) في ت: "بن".
(5) في ت، أ: "أي الإذن القدرى" وفي س: "أى القدرى".
(6) في ت: "وقد روى ابن حاتم هاهنا حديثًا غريبًا بإسناده".
(7) ورواه الحاكم في المستدرك (2/456) وصححه، ووافقه الذهبي، والطبراني في الكبير (22/214) من طريق عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح به، ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2007) من طريق ابن وهب عن معاوية بن صالح، به.
(8) في ت: "وروى".
(9) في أ : "بكير".
(10) في أ: "ثلاثة أصناف".

وقال أيضا (1) : حدثنا أبي: حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق حدثنا سلمة -يعني ابن الفضل-عن إسماعيل، عن الحسن (2) قال: الجن ولد إبليس، والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء مؤمنون ومن هؤلاء مؤمنون، وهم شركاؤهم في الثواب والعقاب، ومَنْ كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله، ومَنْ كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان.
وقوله: { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ } : أما المحاريب فهي البناء الحسن، وهو أشرف شيء في المسكن وصدره.
وقال مجاهد: المحاريب بنيان دون القصور. وقال الضحاك: هي المساجد. وقال قتادة: هي المساجد والقصور، وقال ابن زيد: هي المساكن. وأما التماثيل فقال عطية العوفي، والضحاك والسدي: التماثيل: الصور. قال مجاهد: وكانت من نحاس. وقال قتادة: من طين وزجاج.
وقوله: { وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } الجواب: جمع جابية، وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء، كما قال الأعشى ميمون بن قيس:
تَرُوحُ عَلَى آل المَحَلَّق جَفْنَةٌ ... كَجَابِيَة الشَّيخ العِراقي تَفْهَق (3) (4)
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { كَالْجَوَابِ } أي: كالجوبة من الأرض.
وقال العوفي، عنه: كالحياض. وكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، والضحاك وغيرهم.
والقدور الراسيات: أي الثابتات، في أماكنها (5) لا تتحول ولا تتحرك عن أماكنها لعظمها. كذا قال مجاهد، والضحاك، وغيرهما.
وقال عكرمة: أثافيها منها.
وقوله: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا } أي: وقلنا لهم اعملوا شكرًا على ما أنعم به عليكم في الدنيا والدين .
وشكرًا: مصدر من غير الفعل، أو أنه مفعول له، وعلى التقديرين فيه دلالة على أن الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول وبالنية، كما قال:
أفَادَتْكُمُ النّعْمَاء منِّي (6) ثَلاثةً: ... يدِي، ولَسَاني، وَالضَّمير المُحَجَّبَا ...
قال أبو عبد الرحمن الحُبلي (7) : الصلاة شكر، والصيام شكر، وكل خير تعمله لله شكر. وأفضل الشكر الحمد. رواه ابن جرير.
وروى هو وابن أبي حاتم، عن محمد بن كعب القُرَظي قال: الشكر تقوى الله والعمل الصالح.
__________
(1) في ت: "وروى ابن أبي حاتم أيضا".
(2) في ت: "الحسين".
(3) في ت: "بقهق".
(4) البيت في تفسير الطبرى (22/49).
(5) في ت، س، أ: "أماكنهم".
(6) في ت: "عندى".
(7) في هـ، ت، س، أ: "السلمى" والتصويت من الطبري 22/50، مستفادا من طبعة الشعب.

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)

وهذا يقال لمن هو متلبس بالفعل، وقد كان آل داود، عليه السلام، كذلك قائمين بشكر الله قولا وعملا.
قال (1) ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي بكر، حدثنا جعفر -يعني: ابن سليمان-عن ثابت البُنَاني قال: كان داود، عليه السلام، قد جزأ على أهله وولده ونسائه الصلاة، فكان لا تأتي عليهم (2) ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي، فغمرتهم هذه الآية: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } .
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أحب الصلاة إلى الله صلاةُ داودَ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما. ولا يَفر إذا لاقى". (3)
وقد روى أبو عبد الله بن ماجه من حديث سُنيْد بن داود، حدثنا يوسف بن محمد بن المُنْكَدِر، عن أبيه، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قالت أمّ سليمان بن داود لسليمان: يا بني، لا تكثر النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيرًا يوم القيامة". (4)
وروى ابن أبي حاتم عن داود، عليه السلام، هاهنا أثرا غريبا مطولا جدا، وقال أيضًا:
حدثنا أبي، حدثنا عمران بن موسى، حدثنا أبو يزيد (5) فيض بن إسحاق الرقي (6) قال: قال فضيل في قوله تعالى: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا } . فقال داود: يا رب، كيف أشكرك، والشكر نعمة منك؟ قال: "الآن شكرتني حين علمت (7) أن النعمة (8) مني".
وقوله: { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } إخبار عن الواقع.
{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) } .
يذكر تعالى كيفية موت سليمان، عليه السلام، وكيف عَمَّى الله موته على الجانّ المسخرين له في الأعمال الشاقة، فإنه مكث متوكئًا على عصاه -وهي مِنْسَأته-كما قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة وغير واحد -مدة طويلة نحوا من سنة، فلما أكلتها (9) دابةُ الأرض، وهي الأرضة، ضعفت (10) وسقط (11) إلى الأرض، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة-تبينت الجن والإنس أيضًا أن الجن لا يعلمون الغيب، كما كانوا يتوهمون ويوهمون الناس ذلك.
__________
(1) في ت: "روى".
(2) في ت: "لا يأتي عليهن"، وفي أ: "لا يأتي عليهم".
(3) صحيح البخاري برقم (1131) وصحيح مسلم برقم (1159).
(4) سنن ابن ماجه برقم (1332) وقال البوصيري في الزوائد (1/433) : "هذا إسناد ضعيف".
(5) في هـ: "زيد" والمثبت من ت، س ، أ، والجرح والتعديل 3/2/88 مستفادا من طبعة الشعب.
(6) في أ: "المرى".
(7) في ت، س: "قلت".
(8) في أ: "النعم".
(9) في ت: "فلما أكلت العصا".
(10) في ت، س، أ: "فضعفت".
(11) في أ: "وسقطت".

قد ورد في ذلك حديث مرفوع غريب، وفي صحته نظر، قال ابن جرير:
حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا موسى بن مسعود أبو حذيفة، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَان، عن عطاء، عن السائب، عن سعيد بن جبير (1) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان سليمان نبي الله، عليه السلام، إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها: ما اسمك؟ فتقول: كذا. فيقول: لأي شيء أنت؟ فإن كانت لغرس غُرِسَتْ، وإن كانت لدواء كُتِبَتْ. فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخروب. قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت. فقال سليمان: اللهم، عَمّ على الجن موتتي (2) حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب. فنحتها عصًا، فتوكأ عليها حولا ميتا، والجن تعمل. فأكلتها الأرضة، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا [حولا] (3) في العذاب المهين".
قال: وكان ابن عباس يقرؤها كذلك قال: "فشكرت الجن الأرضة (4) ، فكانت تأتيها بالماء" (5) .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديث إبراهيم بن طَهْمان، به. وفي رفعه غرابة ونكارة، والأقرب أن يكون موقوفًا، وعطاء بن أبي مسلم الخراساني له غرابات، وفي بعض حديثه نكارة.
وقال السُّدِّي، في حديث ذكره عن أبي مالك عن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كان سليمان يتحرر في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر، يدخل طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي توفي فيها، وكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة، فيأتيها فيسألها، فيقول: ما اسمك؟ فتقول: اسمي كذا وكذا. فإن كانت لغرس غرسها، وإن كانت نبْتَ دواء قالت: نَبَتُّ دواء لكذا وكذا. فيجعلها (6) كذلك، حتى نبتت شجرة يقال لها: الخرّوبة، فسألها: ما اسمك؟ فقالت: أنا الخروبة. قال: ولأي شيء نَبَتِّ؟ قالت: نبت لخراب هذا المسجد. قال سليمان: ما كان الله ليُخَرِّبه وأنا حي؟ أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس. فنزعها وغرسها في حائط له، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه، فمات ولم تعلم (7) به الشياطين، وهم في ذلك يعملون له، يخافون أن يخرج فيعاقبهم. وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب، وكان المحراب له كُوى بين يديه وخلفه، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول: ألست جلدا (8) إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب؟ فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر، فدخل شيطان من أولئك فمر، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق. فمر ولم يسمع صوت سليمان، ثم رجع فلم يسمع، ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق. ونظر إلى سليمان، عليه السلام، قد سقط ميتا. فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات. ففتحوا (9) عنه
__________
(1) في ت: "رواه ابن جرير بإسناده".
(2) في ت: "موتى".
(3) زيادة من ت، س، أ، والطبري.
(4) في ت، س، أ: "للأرضة".
(5) تفسير الطبري (22/51).
(6) في ت، س: "فيجعل الشجرة".
(7) في أ: "ولم يعلم".
(8) في ت: "جليدا".
(9) في هـ، س: :فتنحوا".

فأخرجوه. وَوَجدوا منسأته -وهي: العصا بلسان الحبشة-قد أكلتها الأرضة، ولم يعلموا منذ كم مات؟ فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها يوما وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة. وهي في قراءة ابن مسعود: فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا (1) ، فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبونهم ولو أنهم علموا الغيب، لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب يعملون له سنة، وذلك قول الله (2) عز وجل: { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } . يقول: تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليك الماء والطين -قال: فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت-قال: ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب؟ فهو ما تأتيها به الشياطين، شكرًا (3) لها. (4)
وهذا الأثر -والله أعلم-إنما هو مما تُلُقِّي من علماء أهل الكتاب، وهي وَقْفٌ، لا يصدق منها (5) إلا ما وافق الحق، ولا يُكذب منها إلا ما خالف الحق، والباقي لا يصدق ولا يكذب (6) .
وقال ابن وهب وأصبغ بن الفرج، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ } قال: قال سليمان عليه السلام لملك الموت: إذا أُمِرْتَ بي فأعلمني. فأتاه فقال: يا سليمان، قد أمرت بك، قد بقيت لك سويعة. فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير، وليس له باب، فقام يصلي فاتكأ على عصاه، قال: فدخل عليه ملك الموت، فقبض روحه وهو متكئ على عصاه، ولم يصنع ذلك فرارًا من ملك الموت. قال: والجن يعملون (7) بين يديه وينظرون إليه، يحسبون أنه حي. قال: فبعث الله، عز وجل، دابة الأرض. قال: والدابة تأكل العيدان -يقال لها: القادح-فدخلت فيها فأكلتْها، حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت، وثقل عليها فخر ميتًا، فلما رأت ذلك الجن انفضوا وذهبوا. قال: فذلك قوله: { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهِ } . قال أصبغ: بلغني عن غيره أنها قامت (8) سنة تأكل منها قبل أن يخر (9) . وقد ذكر غير واحد من السلف نحوًا من هذا، والله أعلم.
__________
(1) في ت، س، أ: "حولا كاملا".
(2) في ت: "قوله".
(3) في ت، س، أ: "تشكرا".
(4) تفسير الطبري (22/51).
(5) في س، أ: "لا نصدق منه".
(6) في ت، أ: "لا تصدق ولا تكذب".
(7) في ت، س، أ: "تعمل".
(8) في ت: "أقامت".
(9) في أ:"تخر".

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)

{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ (17) } .

كانت سبأ ملوكَ اليمن وأهلها، وكانت التبابعة منهم، وبلقيس -صاحبة سليمان-منهم (1) ، وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم، وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم. وبعث الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه، ويشكروه (2) بتوحيده وعبادته، فكانوا كذلك ما شاء الله ثم أعرضوا عما أمروا به، فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد أيدي سبأ، شذر مَذرَ، كما يأتي تفصيله وبيانه قريبًا إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
قال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا ابن لَهِيعة، عن عبد الله بن هُبَيْرة، عن عبد الرحمن بن وَعْلة قال: سمعت ابن عباس يقول (3) : إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ: ما هو؟ رجل (4) أم امرأة أم أرض؟ قال: "بل هو رجل، ولد عَشَرة (5) ، فسكن اليمن منهم ستة، وبالشام منهم أربعة، فأما اليمانيون: فَمَذْحِجُ، وكِنْدَةُ، والأزد، والأشعريون، وأنمار، وحمير. وأما الشامية فلخم، وجذام، وعاملة، وغسان.
ورواه عَبد، عن الحسن بن موسى، عن ابن لَهِيعة، به (6) . وهذا إسناد (7) حسن، ولم يخرجوه، [وقد روي من طرق متعددة] (8) . وقد رواه الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتاب "القصد والأمَمْ، بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم"، من حديث ابن لهيعة، عن علقمة بن وعلة، عن ابن عباس فذكر نحوه. وقد روي نحوه من وجه آخر.
وقال [الإمام] أحمد (9) أيضا وعبد بن حميد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا أبو جَنَاب يحيى بن أبي حيَّة الكلبي، عن يحيى بن هانئ بن عُرْوَة، عن فروة بن مُسيَك قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أقاتل بمقبل قومي مدبرهم؟ قال: "نعم، فقاتل بمقبل قومك مدبرهم". فلما وليت دعاني فقال: "لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام". فقلت: يا رسول الله، أرأيت سبأ؛ أواد هو، أو رجل (10) ، أو ما هو؟ قال: " [لا] (11) ، بل رجل من العرب، ولد له عشرة فَتَيَامَنَ ستة وتشاءم أربعة، تيامن الأزد، والأشعريون، وحمير، وكندة، ومذحج، وأنمار الذين يقال لهم: بجيلة وخثعم. وتشاءم لخم، وجذام، وعاملة، وغسَّان".
وهذا أيضًا إسناد جيد (12) وإن كان فيه أبو جَنَاب الكلبي، وقد تكلموا فيه (13) . لكن رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب، عن العَنْقَزِي (14) ، عن أسباط بن نصر، عن يحيى بن هانئ المرادي، عن عمه أو عن أبيه -يشك أسباط-قال: قدم فروة بن مُسَيك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره. (15)
طريق أخرى لهذا الحديث: قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، حدثني ابن لهيعة، عن توبة بن نَمر (16) ، عن عبد العزيز بن يحيى أنه أخبره قال: كنا عند عبيدة (17)
__________
(1) في ت، س، أ: "من جملتهم".
(2) في أ: "ويشكروا له".
(3) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس قال".
(4) في ت، س: "أرجل".
(5) في أ: "ولد له عشرة".
(6) المسند (1/316).
(7) في ت: "وإسناده".
(8) زيادة من ت.
(9) زيادة من ت، س، أ.
(10) في أ: "أم جبل".
(11) زيادة من أ.
(12) في أ: "حسن".
(13) ذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (5/178) وليس في المطبوع من المسند.
(14) في أ: "العبقري".
(15) تفسير الطبري (22/53).
(16) في س، أ: "نمير".
(17) في أ: "عبدة".

بن عبد الرحمن بأفريقية فقال يومًا: ما أظن قوما بأرض إلا وهم من أهلها. فقال علي بن رباح: كلا قد حدثني فلان أن فروة بن مُسَيك الغُطَيفي (1) قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول (2) الله، إن سبأ قوم كان لهم عز في الجاهلية، وإني أخشى أن يرتدّوا عن الإسلام، أفأقاتلهم؟ فقال: "ما أمرت فيهم بشيء بعد". فأنزلت هذه الآية: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ } الآيات، فقال له رجل: يا رسول الله، ما سبأ؟ فذكر مثل هذا الحديث الذي قبله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن سبأ: ما هو؟ أبلد، أم رجل، أم امرأة؟ قال: "بل رجل، وَلَد له عَشَرَة فسكن اليمن منهم ستة، والشام أربعة، أما اليمانيون: فمذحج، وكندة، والأزد، والأشعريون، وأنمار، وحمير غير ما حلها. وأما الشام: فلخم، وجذام، وغسان، وعاملة".
فيه غرابة من حيث ذكر [نزول] (3) الآية بالمدينة، والسورة مكية كلها، والله (4) أعلم.
طريق أخرى: قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو أسامة، حدثني الحسن بن الحكم، حدثنا أبو (5) سَبْرَة النَّخَعِي، عن فَرْوَة بن مُسَيْك الغُطَيْفي (6) قال: قال رجل: يا رسول الله، أخبرني عن سبأ: ما هو؟ أرض، أم امرأة؟ قال: "ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد له عشرة من الولد، فتيامن ستة وتشاءم أربعة، فأما الذين تشاءموا: فلخم وجذام وعاملة وغسان، وأما الذين تيامنوا: فكندة، والأشعريون، والأزد، ومذحج، وحمير، وأنمار". فقال رجل: ما أنمار؟ قال: "الذين منهم خثعم وبجيلة".
ورواه الترمذي في جامعه، عن أبي كُرَيْب وعبد بن حميد قالا حدثنا أبو أسامة، فذكره أبسط من هذا، ثم قال: هذا حديث حسن غريب. (7)
وقال أبو عمر بن عبد البر: حدثنا عبد الوارث بن سفيان، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، حدثنا ابن كثير -هو عثمان بن كثير-عن الليث بن سعد، عن موسى بن على، عن يزيد بن حصين، عن تميم الداري؛ أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن سبأ، فذكر مثله، فقوي هذا الحديث وحَسّن. (8)
قال علماء النسب، منهم محمد بن إسحاق: اسم سبأ: عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب، وكان يقال له: الرائش؛ لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه، فسمي الرائش، والعرب تسمي المال: ريشا ورياشا. وذكروا أنه بشَّر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه (9) المتقدم، وقال في ذلك شعرًا:
__________
(1) في أ: "القطيعي".
(2) في س، أ: "يا نبي".
(3) زيادة من أ.
(4) في س: "فالله".
(5) في أ: "ابن".
(6) في أ: "القطيعي".
(7) تفسير الطبري (22/53) وسنن الترمذي برقم (3222).
(8) القصد والأمم ص (20).
(9) في ت، أ: "الزمان".

سَيَمْلِكُ بَعْدَنَا مُلْكًا عَظيمًا ... نَبيّ لا يُرَخِّصُ في الحَرَام ...
وَيَْملك بَعْدَه منْهُم مُلُوك ... يدينوه العبادَ بغَير ذام ...
ويَملك بَعدهم منا مُلُوك ... يَصير المُلك فينَا باقْتسَام ...
وَيَمْلك بَعَْد قَحْطَان نَبي ... تَقي خَبْتَة خير الأنام ...
وسُميَ أحْمَدًا يَا لَيْتَ أني ... أُعَمَّرُ بَعْد مَبْعَثه بعام ...
فأعضُده وأَحْبوه بنَصْري ... بكُل مُدَجّج وبكُل رام ...
متى يَظْهَرْ فَكُونُوا نَاصريه ... وَمَنْ يَلْقَاهُ يُبْلغه سَلامي ...
ذكر ذلك الهمداني في كتاب "الإكليل".
واختلفوا في قحطان على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه من سلالة إرم بن سام بن نوح، واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاث (1) طرائق.
والثاني: أنه من سلالة عَابَر، وهو هود، عليه الصلاة والسلام، واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاث طرائق أيضًا.
والثالث: أنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهما السلام، واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاث طرائق أيضا. وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر النَّمري، رحمه الله، في كتابه [المسمى] (2) : "الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواة" (3) .
ومعنى قوله عليه السلام: "كان رجلا من العرب" يعني: العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل، عليه السلام، من سلالة سام بن نوح. وعلى القول الثالث: كان من سلالة الخليل، عليه السلام، وليس هذا بالمشهور عندهم، والله أعلم. ولكن في صحيح البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بنفر من "أسلَمَ" ينتضلون، فقال: "ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا" (4) . فأسلم قبيلة من الأنصار، والأنصار أوسها وخزرجها من غسان من عرب اليمن من سبأ، نزلوا بيثرب لما تفرقت سبأ في البلاد، حين بعث الله عليهم سيل العرم، ونزلت طائفة منهم بالشام، وإنما (5) قيل لهم: غَسَّان بماء نزلوا عليه قيلَ: باليمن. وقيل: إنه قريب من المُشَلَّل (6) ، كما قال حسان بن ثابت:
إمَّا سَألت فَإنَّا مَعْشَرٌ نُجُبٌ ... الأزْدُ نِسْبَتُنَا، والماء غَسَّانُ (7)
ومعنى قوله: "ولد له عشرة من العرب" أي: كان (8) من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع
__________
(1) في أ: "ثلاثة".
(2) زيادة من أ.
(3) في ت: "بالرواة".
(4) صحيح البخاري برقم (3507) من حديث سلمة، رضي الله عنه.
(5) في ت: "وإن".
(6) في ت: "المسلك" وفي أ: "المسكن".
(7) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/10).
(8) في ت: "كانوا".

إليهم أصول القبائل من عرب اليمن، لا أنهم ولدوا من صلبه، بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثلاثة والأقل والأكثر، كما هو مقرر مبين في مواضعه من (1) كتب النسب.
ومعنى قوله: "فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة" أي: بعد ما أرسل الله عليهم سيل العرم، منهم مَنْ أقام ببلادهم، ومنهم مَنْ نزح عنها إلى غيرها، وكان من أمر السد أنه كان الماء يأتيهم من بين جبلين وتجتمع إليه أيضا سيول أمطارهم وأوديتهم، فعَمَدَ ملوكهم الأقادم، فبنوا بينهما سدًا عظيما محكما حتى ارتفع الماء، وحُكمَ على حافات ذينك الجبلين، فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن، كما ذكر غير واحد من السلف، منهم قتادة: أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل، وهو الذي تخترف (2) فيه الثمار، فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قُطَّاف، لكثرته ونضجه واستوائه، وكان هذا السد بمأرب: بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل، ويعرف بسد مأرب.
وذكر آخرون أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث، ولا شيء من الهوام، وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج وعناية الله بهم، ليوحدوه ويعبدوه، كما قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ } ، ثم فسرها بقوله: { جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ } أي: من ناحيتي الجبلين والبلدة بين (3) ذلك، { كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } أي: غفور لكم إن استمررتم على التوحيد.
وقوله: { فَأَعْرَضُوا } أي: عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم، وعدلوا إلى عبادة الشمس، كما قال هدهد سليمان: { وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ . إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ . وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ } [النمل: 22، 24].
وقال محمد بن إسحاق، عن وهب بن مُنَبّه: بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا.
وقال السُّدِّي: أرسل الله إليهم اثني عشر ألف نبي، والله (4) أعلم.
وقوله: { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ } : قيل: المراد بالعرم المياه. وقيل: الوادي. وقيل: الجُرَذ. وقيل: الماء الغزير. فيكون من باب إضافة الاسم إلى صفته، مثل: "مسجد الجامع". و"سعيد كُرْز" حكى ذلك السهيلي. (5)
وذكر غير واحد منهم ابن عباس، ووهب بن منبه، وقتادة، والضحاك؛ أن الله، عز وجل، لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم، بعث على السد دابة من الأرض، يقال لها: "الجُرَذ" نقبته -قال وهب بن منبه: وقد كانوا يجدون في كتبهم أن سبب خراب هذا السد هو الجُرَذ فكانوا يرصدون عنده السنانير برهة من الزمان، فلما جاء القدر غلبت الفأر السنانير، وولجت إلى السَّدّ فنقبته، فانهار عليهم.
__________
(1) في ت: "في".
(2) في ت: "يحترق".
(3) في أ: "من".
(4) في ت، س: "فالله".
(5) الروض الأنف (1/15).

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)

وقال قتادة وغيره: الجُرَذ: هو الخَلْد، نقبت أسافله حتى إذا ضَعف ووَهَى، وجاءت أيام السيول، صَدمَ الماءُ البناءَ فسقط، فانساب الماء في أسفل (1) الوادي، وخرّبَ ما بين يديه من الأبنية والأشجار وغير ذلك، ونضب الماء عن الأشجار التي في الجبلين عن يمين وشمال، فيبست وتحطمت، وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة، كما قال الله وتعالى: { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } .
قال ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمة، وعطاء الخُرَاساني، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي: وهو الأراك، وأكلة البَرير.
{ وَأَثْل } : قال العوفي، عن ابن عباس: هو الطَّرْفاء.
وقال غيره: هو شجر يشبه الطرفاء. وقيل: هو السّمُر. فالله أعلم.
وقوله : { وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } : لما كان أجودَ هذه الأشجار المبدل بها هو السّدْر قال: { وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } ، فهذا الذي صار أمر تَيْنك (2) الجنتين إليه، بعد الثمار النضيجة والمناظر الحسنة، والظلال العميقة والأنهار الجارية، تبدلت إلى شجر الأراك والطرفاء والسّدْر ذي الشوك الكثير والثمر القليل. وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله، وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل؛ ولهذا قال: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا (3) وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ } أي: عاقبناهم بكفرهم.
قال مجاهد: ولا يعاقب إلا الكفور.
وقال الحسن البصري: صدق الله العظيم. لا يعاقب بمثل فعله إلا الكفور. وقال طاوس: لا يناقش إلا الكفور.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو عمر بن النحاس الرملي، حدثنا حجاج بن محمد، حدثنا أبو البيداء، عن هشام بن صالح التغلبي (4) ، عن ابن خيرة -وكان من أصحاب علي، رضي الله عنه-قال: جزاء المعصية الوهن في العبادة، والضيق في المعيشة، والتعسر في اللذة. قيل: وما التعسر في اللذة؟ قال: لا يصادف لذة حلالا (5) إلا جاءه مَنْ يُنَغِّصه إياها.
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) } .
يذكر تعالى ما كانوا فيه من الغِبْطة والنعمة، والعيش الهني الرغيد، والبلاد الرخية، والأماكن الآمنة، والقرى المتواصلة المتقاربة، بعضها من بعض، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، بحيث
__________
(1) في ت: "أصل".
(2) في ت، أ: "تللك".
(3) في ت: "بكفرهم" وهو خطأ.
(4) في ت: "وقال ابن أبي حاتم بإسنادة".
(5) في ت: "حلالاً".

إن مسافرهم لا يحتاج إلى حَمل زاد ولا ماء، بل حيث نزل وجد ماء وثمرا، ويَقيل في قرية ويبيت في أخرى، بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم؛ ولهذا قال تعالى: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } ، قال وهب بن منبه: هي قرى بصنعاء. وكذا قال أبو مالك.
وقال مجاهد، والحسن، وسعيد بن جبير، ومالك عن زيد بن أسلم، وقتادة، والضحاك، والسُّدِّي، وابن زيد وغيرهم (1) : يعني: قرى الشام. يعنون أنهم كانوا يسيرون من اليمن إلى الشام في قرى ظاهرة متواصلة.
وقال العوفي، عن ابن عباس: القرى التي باركنا فيها (2) : بيت المقدس.
وقال العوفي، عنه أيضا: هي قرى عربية بين المدينة والشام.
{ قُرًى ظَاهِرَةً } أي: بينة واضحة، يعرفها المسافرون، يَقيلون في واحدة، ويبيتون في أخرى؛ ولهذا قال: { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } أي: جعلناها بحسب ما يحتاج المسافرون إليه، { سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ } أي: الأمن حاصل لهم في سيرهم ليلا ونهارا.
{ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } ، وقرأ آخرون: "بعد بين أسفارنا "، وذلك أنهم بَطروا هذه النعمة -كما قاله ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وغير واحد-وأحبوا مفاوز ومهامه يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في الحَرُور والمخاوف، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض، من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، مع أنهم كانوا في عيش رغيد في مَنّ وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة؛ ولهذا قال لهم: { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } [البقرة: 61]، وقال تعالى: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } [القصص: 58]، وقال تعالى: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [النحل: 112]. وقال في حق هؤلاء: { وَظَلَمُوا (3) أَنْفُسَهُمْ } أي: بكفرهم، { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي: جعلناهم حديثا للناس، وَسمَرًا يتحدثون به من (4) خبرهم، وكيف مكر الله بهم، وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء تفرقوا في البلاد هاهنا وهاهنا؛ ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا: "تفرقوا أيدي سبأ" "وأيادي سبأ" و "تفرقوا شَذَرَ مَذَرَ". (5)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، سمعت أبي يقول: سمعت (6) عكرمة يحدث بحديث أهل سبأ، قال: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ [عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ] } (7) إلى قوله: { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ } وكانت فيهم
__________
(1) في ت: "وخلق غيرهما".
(2) في ت: "هي".
(3) في ت، س، أ: "فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا".
(4) في ت: "في".
(5) في ت: "ومدر".
(6) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى عكرمة".
(7) زيادة من ت، س، أ.

كهنة، وكانت الشياطين يسترقون السمع، فأخبروا الكهنة (1) بشيء من أخبار (2) السماء، فكان (3) فيهم رجل كاهن شريف كثير المال، وإنه خُبّر أن زوال أمرهم قد دنا، وأن العذاب قد أظلهم (4) . فلم يدر كيف يصنع؛ لأنه كان له مال كثير من عقار، فقال لرجل من بنيه -وهو أعزهم أخوالا-: إذا كان غدا وأمرتك بأمر فلا تفعل، فإذا انتهرتك فانتهرني، فإذا تناولتك فالطمني. فقال: يا أبت، لا تفعل، إن هذا أمر عظيم، وأمر شديد، قال: يا بني، قد حدث أمر لا بد منه. فلم يزل به حتى وافاه على ذلك. فلما أصبحوا واجتمع الناس، قال: يا بني، افعل كذا وكذا. فأبى، فانتهره أبوه، فأجابه، فلم يزل ذلك بينهما حتى تناوله أبوه، فوثب على أبيه فلطمه، فقال: ابني يلطمني؟ عَلَيّ بالشفرة. قالوا: وما تصنع بالشفرة؟ قال: أذبحه. قالوا: تذبح ابنك. الطمه أو اصنع ما بدا لك. قال: فأبى، قال: فأرسلوا إلى أخواله فأعلموهم ذلك، فجاء أخواله فقالوا: خذ منا ما بدا لك. فأبى إلا أن يذبحه. قالوا: فلتموتن قبل أن تذبحه. قال: فإذا كان الحديث هكذا فإني لا أرى أن أقيم ببلد يحال بيني وبين ولدي (5) فيه، اشتروا مني دوري، اشتروا مني أرضي، فلم يزل حتى باع دوره وأرضيه وعقاره، فلما صار الثمن في يده وأحرزه، قال: أي قوم، إن العذاب قد أظلكم، وزوال أمركم قد دنا، فمن أراد منكم دارا جديدا، وجملا شديدا، وسفرا بعيدا، فليلحق بعمان. ومن أراد منكم الخَمْر والخَمير والعَصير -وكلمة، قال (6) إبراهيم: لم أحفظها-فليلحق (7) ببصْرَى، ومن أراد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، المقيمات في الضحل، فليلحق (8) بيثرب ذات نخل. فأطاعه قومه (9) فخرج أهل عمان إلى عمان. وخرجت غسان إلى بصرى. وخرجت الأوس والخزرج وبنو عثمان إلى يثرب ذات النخل. قال: فأتوا على بطن مر فقال بنو عثمان: هذا مكان صالح، لا نبغي به بدلا. فأقاموا به، فسموا لذلك خزاعة، لأنهم انخزعوا من أصحابهم، واستقامت الأوس والخزرج حتى نزلوا المدينة، وتوجه أهل عمان إلى عمان، وتوجهت غسان إلى بصرى.
هذا أثر غريب عجيب، وهذا الكاهن هو عمرو بن عامر أحد رؤساء اليمن وكبراء سبأ وكهانهم. (10)
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في أول السيرة ما كان من أمر عمرو بن عامر الذي كان أول من خرج من بلاد اليمن، بسبب استشعاره بإرسال العَرم فقال: وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن -فيما حدثني أبو زيد الأنصاري-: أنه رأى جرذًا يَحفر (11) في سد مأرب، الذي كان يحبس عنهم الماء فيصرفونه حيث شاؤوا من أرضهم. فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك، فاعتزم على النَّقُلة عن اليمن فكاد (12) قومه، فأمر أصغر أولاده إذا أغلظ له ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه، ففعل ابنه ما أمره به، فقال عمرو: لا أقيم ببلد لَطَم وجهي فيها أصغر ولدي (13) . وعرض أمواله، فقال
__________
(1) في س: "فأخبروا به الكهنة".
(2) في أ: "خبر".
(3) في س: "وكان".
(4) في أ: "أضلهم".
(5) في ت، س: "ابنى".
(6) في ت: "قالها".
(7) في ت: "فيحق".
(8) في ت: "فليحق".
(9) في س: "قومنا".
(10) في ت: "كهناتهم".
(11) في س: "تحفر".
(12) في ت، س: "وكاد".
(13) في ت: "أولادى".

أشراف من أشراف اليمن: اغتنموا غَضْبَةَ عمرو. فاشتروا منه أمواله، وانتقل هو في ولده وولد ولده. وقالت الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر. فباعوا أموالهم، وخرجوا معه فساروا (1) حتى نزلوا بلاد "عك" مجتازين يرتادون البلدان، فحاربتهم عك، وكانت حربهم سجَالا. ففي ذلك يقول عباس بن مرداس السلمي:
وَعَكَ بنُ عَدنَانَ الذين تَغَلَّبُوا ... بِغَسَّانَ، حتى طُرّدُوا كُلّ مَطْرَد ...
وهذا البيت من (2) قصيدة له.
قال: ثم ارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلاد، فنزل آل جَفْنَة بن عمرو بن عامر الشام، ونزلت الأوس والخزرج يثرب، ونزلت خزاعة مَرّا. ونزلت أزد السراة السراة، ونزلت أزد عُمَان عُمان، ثم أرسل الله على السد السيل فهدمَه، وفي ذلك أنزل الله عز وجل هذه الآيات. (3)
وقد ذكر السدي قصة عمرو بن عامر بنحو مما ذكر محمد بن إسحاق، إلا أنه قال: "فأمر ابن أخيه"، مكان "ابنه"، إلى قوله: "فباع ماله وارتحل بأهله، فتفرقوا". رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، أخبرنا [سلمة] (4) ، عن ابن إسحاق قال: يزعمون أن عمرو بن عامر -وهو عم القوم-كان كاهنًا، فرأى في كهانته أن قومه سَيمَزّقون ويباعَدُ بين أسفارهم. فقال لهم: إني قد علمت أنكم ستمزقون، فمن كان منكم ذا هَمٍّ بعيد وجمل شديد، ومَزَاد جَديد -فليلحق بكاس أو كرود. قال: فكانت وادعة بن عمرو. ومَنْ كان منكم ذا هَمّ مُدْن، وأمر دَعْن، فليلحق بأرض شَنْ. فكانت عوف بن عمرو، وهم الذين يقال لهم: بارق. ومَنْ كان منكم يريد عيشا آنيا، وحرما آمنا، فليلحق بالأرزين. فكانت خزاعة. ومَنْ كان منكم يريد الراسيات في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل. فكانت الأوس والخزرج، وهما هذان الحيان من الأنصار. ومَنْ كان منكم يريد خمرا وخَميرا، وذهبا وحريرا، وملكا وتأميرا، فليلحق بكُوثي وبُصرى، فكانت غسانَ بنو جَفنة (5) ملوكُ الشام. ومَنْ كان منهم بالعراق. قال ابن إسحاق: وقد سمعت بعض أهل العلم يقول: إنما قالت هذه المقالة طريفةُ امرأة عمرو بن عامر، وكانت كاهنة، فرأت في كهانتها ذلك، فالله أعلم أيّ ذلك كان. (6)
وقال سعيد، عن قتادة، عن الشعبي: أما غسان فلحقوا بالشام، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، وأما الأزد فلحقوا بعمان، فمزقهم الله كل ممزق. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
ثم قال محمد بن إسحاق: حدثني أبو عبيدة قال: قال الأعشى -أعشى بني قيس بن ثعلبة-واسمه: ميمون بن قيس:
__________
(1) في ت: "فسار".
(2) في ت، س: "في".
(3) السيرة النبوية لابن هشام (1/10).
(4) زيادة من ت، والطبري.
(5) في ت: "بنو حنيفة".
(6) تفسير الطبري (22/59).

وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)

وَفي ذَاكَ للمُؤتَسي (1) أسْوَةٌ ... ومَأربُ عَفّى عَلَيها العَرمْ ...
رُخَام بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيرُ ... إذا جاءَ مَوَارهُ لم يَرمْ ...
فَأرْوَى الزُّرُوعَ وَأعنَابَها ... عَلَى سَعَة مَاؤهُمْ إذْ (2) قُسِم ...
فَصَارُوا أيَادي مَا يَقْدرُو ... نَ منْه عَلَى شُرب طِفْل فُطِم (3)
وقوله تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي: إن في هذا الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب، وتبديل النعمة وتحويل العافية، عقوبةَ على ما ارتكبوه من الكفر والآثام -لعبرةً وَدَلالةً لكل عبد صبار (4) على المصائب، شكور على النعم.
قال (5) الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن وعبد الرزاق المعني، قالا أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن العَيْزَار بن حُرَيث عن عمر بن سعد، عن أبيه -هو سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن، إن أصابه خير حَمدَ رَبَّه وشكر، وإن أصابته مصيبة حَمِد ربه وصَبَر، يؤجر المؤمن في كل شيء، حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته".
وقد رواه النسائي في "اليوم والليلة"، من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي، به (6) -وهو حديث عزيز-من رواية عمر بن سعد، عن أبيه. ولكن له شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا (7) ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن". (8)
قال عبد: حدثنا يونس، عن شيبان، عن (9) قتادة { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } قال: كان مطرّف يقول: نعم العبد الصبار الشكور، الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر .
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) } .
لما ذكر [الله] (10) تعالى قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباعهم الهوى والشيطان، أخبر عنهم وعن أمثالهم ممن اتبع إبليس والهوى، وخالف الرشاد والهدى، فقال: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } .
__________
(1) في ت: "وفي ذلك للمتوسى".
(2) في ت: "إذا".
(3) السيرة النبوية لابن هشام (1/14).
(4) في ت: "صبار شكور على".
(5) في ت: "وروى".
(6) المسند (1/173) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10906).
(7) في ت، س: "خيرًا له".
(8) لم أجده من حديث أبي هريرة، وقد رواه مسلم في صحيحه برقم (2999) من حديث صهيب، رضي الله عنه.
(9) في ت: "وعن".
(10) زيادة من ت.

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)

قال ابن عباس وغيره: هذه الآية كقوله تعالى إخبارًا عن إبليس حين امتنع من السجود لآدم، ثم قال: { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا } [الإسراء: 62]، ثم قال: (1) { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [الأعراف: 17] والآيات في هذا كثيرة.
وقال الحسن البصري: لما أهبط الله آدم من الجنة ومعه حواء، هبط (2) إبليس فَرحا بما أصاب منهما، وقال: إذا أصبت من الأبوين ما أصبت، فالذرية أضعف وأضعف. وكان ذلك ظنًّا من إبليس، فأنزل الله عز وجل: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } فقال عند ذلك إبليس: "لا أفارق ابن آدم ما دام فيه الروح، أعدُه (3) وأُمَنّيه وأخدعه". فقال الله: "وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما لم يُغَرغِر بالموت، ولا يدعوني إلا أجبته، ولا يسألني إلا أعطيته، ولا يستغفرني إلا غفرت له". رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ } قال ابن عباس: أي من حجة.
وقال الحسن البصري: والله ما ضربهم بعصا، ولا أكرههم على شيء، وما كان إلا غرورا وأماني دعاهم إليها فأجابوه.
وقوله: { إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } أي: إنما سلطناه عليهم ليظهرَ أمر مَنْ هو مؤمن بالآخرة وقيامها والحساب فيها والجزاء، فيُحسِنَ عبادة ربه عز وجل في الدنيا، ممن هو منها في شك.
وقوله: { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } أي: ومع حفظه ضَلّ من ضَلّ من اتباع إبليس، وبحفظه وكلاءته سَلِم مَنْ سلم من المؤمنين أتباع الرسل.
{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) }
__________
(1) في ت، س: "وقال".
(2) في أ: "أهبط".
(3) في ت، س: "أغره".

وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)

{ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) } .
بَيَّن (1) تعالى أنه الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لا نظير له ولا شريك له، بل هو المستقل بالأمر وحده، من غير مشارك ولا منازع ولا معارض، فقال: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي: من الآلهة التي عبدت من دونه { لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ } ، كما قال تبارك وتعالى: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } [فاطر: 13].
وقوله: { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ } أي: لا يملكون شيئا استقلالا ولا على سبيل الشركة، { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } أي: وليس لله من (2) هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور، بل
__________
(1) في ت، س، أ: "يبين".
(2) في ت: "في".

الخلق كلهم فقراء إليه، عبيد لديه.
قال قتادة في قوله: { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } ، من عون يعينه بشيء.
وقال: (1) { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } أي: لعظمته [وجلاله] (2) وكبريائه لا يجترئ أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا بعد إذنه له في الشفاعة، كما قال تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [البقرة:255]، وقال: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ [وَيَرْضَى (3) ] } [النجم: 26]، وقال: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [الأنبياء: 28].
ولهذا ثبت في الصحيحين (4) ، من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو سيد ولد آدم، وأكبر شفيع عند الله-: أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلّهم أن يأتي ربّهم لفصل القضاء، قال: "فأسجد لله فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يُسمع (5) ، وسل تُعْطَه واشفع تشفع" الحديث بتمامه.
وقوله: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ } . وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة. وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي، سمع أهل السموات كلامه، أرْعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي. قاله ابن مسعود ومسروق، وغيرهما.
{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم } أي: زال الفزع عنها. قال ابن عباس، وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي، وإبراهيم النَّخَعيّ، والضحاك والحسن، وقتادة في قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم } يقول: جُلِّى عن قلوبهم، وقرأ بعض السلف -وجاء مرفوعا-: " [حَتَّى] (6) إذَا فرغ" بالغين (7) المعجمة، ويرجع إلى الأول.
فإذا كان كذلك يسأل بعضهم بعضا: ماذا قال ربكم؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم، ثم الذين يلونهم لمن تحتهم، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا؛ ولهذا قال: { قَالُوا الْحَقّ } أي: أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان، { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } .
وقال آخرون: بل معنى قوله: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } يعني: المشركين عند الاحتضار، ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا، ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة، قالوا: ماذا قال ربكم؟ فقيل لهم: الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا.
قال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } : كشف عنها الغطاء يوم القيامة.
وقال الحسن: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } يعني: ما فيها من الشك والتكذيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } يعني: ما فيها من الشك،
__________
(1) في ت: "ثم قال".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ت، أ.
(4) تقدمت أحاديث الشفاعة عند تفسير الآية: 79 من سورة الإسراء.
(5) في س، أ: "تسمع".
(6) زيادة من أ.
(7) في ت: "بالعين".

قال: فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم، { قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } قال: وهذا في بني آدم، هذا عند الموت، أقروا حين لا ينفعهم الإقرار.
وقد اختار ابن جرير القول الأول: أن الضمير عائد على الملائكة (1) . هذا هو الحق الذي لا مرية فيه، لصحة الأحاديث فيه والآثار، ولنذكر منها طرفا يدل على غيره:
قال البخاري عند تفسير هذه الآية الكريمة في صحيحه: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو، سمعت عِكْرِمة، سمعت أبا هُرَيرة (2) يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمرَ في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوانَ، فإذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحقّ، وهو العلي الكبير فيسمعها مُسْتَرق السمع، ومسترق السمع -هكذا بعضه (3) فوق بعض-ووصف سفيان بيده-فَحَرّفها وبَدّد (4) بين أصابعه-فَيسمع الكلمة، فيلقيها إلى مَنْ تحته، ثم يلقيها الآخر إلى مَنْ تحته، حتى يلقيَها على لسان الساحر (5) أو الكاهن، فَربما أدركه الشّهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كَذْبَة، فيقال: أليس قد قال لنا يومَ كذا وكذا: كذا (6) وكذا؟ فيصدّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء.
انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم من هذا الوجه. وقد رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث سفيان بن عيينة، به. (7)
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، أخبرنا الزهري، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [جالسًا] (8) في نفر من أصحابه -قال عبد الرزاق: "من الأنصار"-فَرُميَ بنجم فاستنار، [قال] (9) : " ما كنتم تقولون إذا كان مثلُ هذا في الجاهلية؟" قالوا: كنا نقول يُولَد عظيم، أو يموت (10) عظيم -قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكن غُلّظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم -قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا، تبارك وتعالى، إذا قضى أمرا سبح حَمَلةُ العرش [ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح هذه (11) الدنيا، ثم يستخبر أهل السماء الذين يَلُونَ حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش] (12) : ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء سماء؛ حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، وتخطف الجن السمع فيرمون، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون.
هكذا رواه الإمام أحمد (13) . وقد أخرجه مسلم في صحيحه، من حديث صالح بن كَيْسَان،
__________
(1) تفسير الطبري (22/64).
(2) في ت: "قال البخاري عند تفسيره هذه الآية الكريمة في صحيحه بإسناده عن أبي هريرة".
(3) في أ: "بعضهم".
(4) في أ: "وسدد".
(5) في أ: "الآخر".
(6) في أ: "وكذا، يوم كذا".
(7) صحيح البخاري برقم (4800) وسنن أبي داود برقم (3989) وسنن الترمذي برقم (3223) وسنن ابن ماجه برقم (194).
(8) زيادة من ت، س، والمسند.
(9) زيادة من ت، س، والمسند.
(10) في ت، س: "ويموت".
(11) في تـ س: "السماء".
(12) زيادة من ت، س، والمسند.
(13) المسند (1/218).

والأوزاعي، ويونس ومَعْقِل بن عبيد الله (1) ، أربعتهم عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس عن رجل من الأنصار، به (2) . ورواه وقال يونس: عن رجال من الأنصار (3) ، وكذا رواه النسائي (4) في "التفسير" من حديث الزبيدي، عن الزهري، به (5) . ورواه الترمذي فيه عن الحُسَين بن حريث؛ عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عُبَيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن رجل من الأنصار، رضي الله عنه (6) ، والله (7) أعلم.
حديث آخر: قال ابن أبى حاتم: حدثنا محمد بن عوف وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي -والسياق لمحمد بن عوف-قالا حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا الوليد -هو ابن مسلم-عن عبد الرحمن بن يزيد (8) بن جابر، عن عبد الله بن أبي زكرياء، عن رجاء بن حيوة، عن النواس بن سَمْعان (9) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله أن يوحي بأمره تكلم بالوحي، فإذا تكلم أخذت السموات منه (10) رجفة -أو قال: رعدة-شديدة؛ من خوف الله، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا، فيكون أول مَنْ يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فيمضي به جبريل على الملائكة، كلما مَرّ بسماء سماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال: الحقّ، وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله من السماء والأرض".
وكذا رواه ابن جرير وابن خُزَيمة، عن زكريا بن أبان المصري، عن نعيم بن حماد، به. (11)
قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: ليس هذا الحديث بالشام عن الوليد بن مسلم، رحمه الله.
وقد روى ابن أبي حاتم من حديث العَوفي، عن ابن عباس -وعن قتادة: أنهما فسرا هذه الآية بابتداء إيحاء الله سبحانه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى، ولا شك أن هذا أولى ما دخل في هذه الآية.
__________
(1) في س: "بن عبد الله".
(2) صحيح مسلم برقم (2229).
(3) صحيح مسلم برقم (2229).
(4) في ت: "وكذا رواه النسائي والترمذي".
(5) سنن الترمذي برقم (3224).
(6) النسائي في السنن الكبرى برقم (11272).
(7) في س: "فالله".
(8) في أ: "زيد".
(9) في ت: "حديث آخر رواه ابن جرير بإسناده عن النواس بن سمعان".
(10) في أ: "منها".
(11) تفسير الطبري (22/63) والتوحيد لابن خزيمة ص (95) ورواه ابن عاصم في السنة برقم (515) من طريق محمد بن عوف، عن نعيم بن حماد، به.

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

{ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) } .
يقول تعالى مقررًا تفرُّدَه بالخلق والرزق (1) ، وانفراده بالإلهية أيضا، فكما كانوا يعترفون بأنه لا يرزقهم من السماء (2) والأرض -أي: بما ينزل من المطر وينبت من الزرع-إلا الله، فكذلك فليعلموا أنه لا إله غيره.
وقوله: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } : هذا من باب اللف والنشر، أي: واحد من الفريقين مبطل، والآخر محق، لا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال، بل واحد منا مصيب، ونحن قد أقمنا البرهان على التوحيد، فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك بالله؛ ولهذا قال: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } .
قال قتادة: قد قال ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم للمشركين: والله ما نحن وإياكم على أمر واحد، إن أحد الفريقين لمهتد.
وقال عِكْرِمة وزياد بن أبي مريم: معناه: إنا نحن لعلى هدى، وإنكم لفي ضلال مبين.
وقوله: { قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } : معناه التبري منهم، أي: لستم منا ولا نحن منكم، بل ندعوكم إلى الله وإلى توحيده وإفراد العبادة له، فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم، وإن كذبتم فنحن برآء منكم وأنتم بُرآء منا، كما قال تعالى: { وَإِنْ (3) كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [يونس: 41]، وقال: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ . وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [سورة الكافرون].
وقوله: { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } أي: يوم القيامة، يجمع [بين] (4) الخلائق في صعيد واحد، ثم يفتح بيننا بالحق، أي: يحكم بيننا بالعدل، فيجزي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية، كما قال تعالى: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } [الروم: 14-16] ؛ ولهذا قال تعالى: { وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } أي: الحاكم (5) العادل العالم بحقائق الأمور.
وقوله: { قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ } أي: أروني هذه الآلهة التي جعلتموها لله أندادا وصيَّرتموها له عدْلا. { كَلا } أي: ليس له نظير ولا نَديد، ولا شريك ولا عديل، ولهذا قال: { بَلْ هُوَ اللَّهُ } :أي: الواحد الأحد الذي لا شريك له { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي: ذو العزة التي قد قهر
__________
(1) في ت: "بفرضه بالرزق والخلق".
(2) في ت، أ: "السموات".
(3) في هـ، ت، س، أ: "فإن" والصواب ما أثبتناه.
(4) زيادة من ت.
(5) في ت، أ: "الحكام".

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)

بها كل شيء، وَغَلَبت كل شيء، الحكيم في أفعاله وأقواله، وشرعه وقدره، تعالى وتقدس.
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) } .
يقول تعالى لعبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه (1) : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ (2) } : أي: إلا إلى جميع الخلق من المكلفين، كقوله (3) تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [الأعراف: 158]، { تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [الفرقان: 1]. { بَشِيرًا وَنَذِيرًا } أي تبشر (4) مَنْ أطاعك بالجنة، وتنذر مَنْ عصاك بالنار.
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } ، كقوله (5) تعالى: { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف: 103]، { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [الأنعام: 116].
قال محمد بن كعب في قوله: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ } يعني: إلى الناس عامة.
وقال قتادة في هذه الآية: أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العرب والعجم، فأكرمُهم على الله أطوعهم لله عز وجل.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الظهراني، حدثنا حفص بن عمر العَدَني، حدثنا الحكم -يعني: ابن أبان (6) -عن عِكْرِمة قال: سمعت ابن عباس يقول: إن الله فضل محمدًا صلى الله عليه وسلم على أهل السماء وعلى الأنبياء. قالوا: يا بن عباس، فيم فضله الله (7) على الأنبياء؟ قال: إن الله قال: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ } ، فأرسله الله إلى الجن والإنس.
وهذا الذي قاله ابن عباس قد ثبت في الصحيحين رَفْعهُ عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل. وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي. وأعطيت الشفاعة. وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة". (8)
وفي الصحيح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت إلى الأسود والأحمر" (9) : قال مجاهد. يعني: الجن والإنس. وقال غيره: يعني: العرب والعجم. والكل صحيح.
ثم قال تعالى مخبرا عن الكفار في استبعادهم قيام الساعة: { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
__________
(1) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(2) في ت : "للناس بشيرا".
(3) في ت، س: "لقوله".
(4) في س: "يبشر".
(5) في ت، س: "لقوله".
(6) في ت: "روى ابن أبي حاتم بإسناده".
(7) في ت، س: "فما فضله".
(8) صحيح البخاري برقم (335) وصحيح مسلم برقم (521).
(9) وهو قطعة من حديث جابر السابق عند مسلم في صحيحه برقم (521).

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)

، كما قال تعالى: { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } الآية [الشورى: 18].
ثم قال: { قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ } أي: لكم ميعاد مؤجل معدود محرر، لا يزداد ولا ينتقص، فإذا جاء فلا يؤخر ساعة ولا يقدم، كما قال تعالى: { إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ } [نوح: 4] ، وقال { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [هود: 104، 105].
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) }

قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)

{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) } .
يخبر تعالى عن تمادي الكفار في طغيانهم وعنادهم وإصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن وما أخبر به من أمر المعاد؛ ولهذا قال: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } . قال الله تعالى متهددا لهم ومتوعدا، ومخبرا عن مواقفهم الذليلة بين يديه في حال تخاصمهم وتحاجهم: { يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا } منهم وهم الأتباع { لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } وهم قادتهم وسادتهم: { لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } أي: لولا أنتم تصدونا، لكنا اتبعنا الرسل وآمنا بما جاؤونا به. فقال لهم القادة والسادة، وهم الذين استكبروا: { أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ } أي: نحن ما فعلنا بكم (1) أكثر من أنَّا دعوناكم فاتبعتمونا من غير (2) دليل ولا برهان، وخالفتم الأدلة والبراهين والحجج التي جاءت بها الأنبياء، لشهوتكم واختياركم لذلك؛ ولهذا قالوا: { بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ. وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار } أي: بل كنتم تمكرون بنا ليلا ونهارا، وتَغُرّونا وتُمَنّونا، وتخبرونا أنا على هدى وأنا على شيء، فإذا جميع ذلك باطل وكَذبٌ ومَيْن.
قال قتادة، وابن زيد (3) : { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } يقول: بل مكرهم بالليل والنهار. وكذا قال مالك، عن زيد بن أسلم: مكرهم بالليل والنهار.
{ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا } أي نظراء وآلهة معه، وتقيموا لنا شُبَهًا وأشياءَ من
__________
(1) في س، أ: "بكم ذلك".
(2) في ت، س، أ: "بغير".
(3) في ت، أ: "ابن زيد بن أسلم".

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)

المحال تضلونا بها { وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ } أي: الجميع من السادة والأتباع، كُلٌّ نَدم على ما سَلَف منه.
{ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا } : وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم، { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (1) أي: إنما نجازيكم بأعمالكم (2) ، كُلٌّ بحسبه، للقادة عذاب بحسبهم، وللأتباع بحسبهم { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 38].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا فَرْوَة بن أبي المغراء، حدثنا محمد بن سليمان (3) بن الأصبهاني، عن أبي سنان ضرار بن صُرَد، عن عبد الله بن أبي الهُذَيل (4) ، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن جهنم لما سيق إليها أهلها تَلَقَّاهم لهبها، ثم لَفَحَتْهُم لفحةً فلم يبق لحم (5) إلا سقط على العرقوب". (6)
وحدثنا (7) أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا الطيب أبو الحسن، عن الحسن بن يحيى الخُشَني قال: ما في جهنم دار ولا مغار ولا غل ولا سلسلة ولا قيد، إلا اسم صاحبها عليه مكتوب. قال: فحدثته أبا سليمان -يعني: الداراني، رحمة الله عليه (8) -فبكى ثم قال: ويحك. فكيف به لو جمع هذا كله عليه، فجعل القيد في رجليه، والغُلّ في يديه والسلسلة في عنقه، ثم أدخل النار وأدخل المغار؟!
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) } .
يقول تعالى مسليا لنبيه، وآمرا له بالتأسي بمن قبله من الرسل، ومخبره بأنه ما بعث نبيا في قرية إلا كذبه (9) مترفوها، واتبعه ضعفاؤهم، كما قال قوم نوح: { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ } [الشعراء: 111]، { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } [هود: 27]، وقال الكبراء من قوم صالح: { لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [الأعراف: 75، 76]
__________
(1) في ت، س: "هل تجزون إلا ما كنتم تعلمون".
(2) في أ: "نجازيهم بأعمالهم".
(3) في أ: "سليم".
(4) في ت: "روى ابن أبي حاتم بإسناده".
(5) في ت: "فلم يبق لهم لحم".
(6) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4848) "مجمع البحرين" وأبو نعيم في الحلية (4/363) من طرق عن محمد بن سليمان الأصبهاني، به. وقال الهيثمى في المجمع (10/389) : "وفيه محمد بن سليمان الأصبهاني وهو ضعيف".
(7) في ت: "وروى".
(8) في ت: "رحمه الله".
(9) في ت: "إلا كفر به".

وقال تعالى: { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } [الأنعام: 53] ؟ وقال: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا } [الأنعام: 122] وقال: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ (1) ] } [الإسراء: 16]. وقال هاهنا: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ } أي: نبي أو رسول { إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا } ، وهم أولو النعمة والحشمة والثروة والرياسة.
قال قتادة: هم جَبَابرتهم وقادتهم ورؤوسهم في الشر. { إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونََ } أي: لا نؤمن به ولا نتبعه.
قال (2) ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا محمد بن عبد الوهاب عن سفيان عن عاصم، عن أبي رَزِين قال: كان رجلان شريكان (3) خرج أحدهما إلى الساحل وبقي الآخر، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله: ما فعل؟ فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش، إنما (4) اتبعه أراذل (5) الناس ومساكينهم. قال: فترك تجارته ثم أتى صاحبه فقال: دلني عليه -قال: وكان يقرأ الكتب، أو بعض الكتب-قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إلام تدعو؟ قال: "إلى كذا وكذا". قال: أشهد أنك رسول الله. قال: "وما علمك بذلك؟" قال: إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه رُذَالة الناس ومساكينهم. قال: فنزلت هذه الآية (6) : { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } ]الآيات] (7) ، قال: فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله قد أنزل تصديق ما قلت". (8)
وهكذا قال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن تلك المسائل، قال فيها: وسألتك: أضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم فزعمت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل.
وقوله تعالى إخبارا عن المترفين المكذبين: { وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينََ } أي: افتخروا بكثرة الأموال والأولاد، واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله لهم واعتنائه بهم، وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا، ثم يعذبهم في الآخرة، وهيهات لهم ذلك. قال الله: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [المؤمنون: 55، 56] وقال: { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة: 55]، (9) وقال تعالى: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا. سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا. } [المدثر: 11-17].
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت: "روى".
(3) في ت، س: "شريكين".
(4) في س: "إلا".
(5) في ت، س: "رذالة".
(6) في ت، س: "الآيات".
(7) زيادة من ت، س.
(8) ورواه ابن أبي شيبة وابن المنذر كما في الدر المنثور (6/704) ووقع في الدر: "ابن زيد" بدل: "أبو رزين".
(9) في ت، س: "أن يعذبهم".

وقد أخبر الله عن صاحب تينك الجنتين: أنه كان ذا مال وولد وثمر، ثم لم تُغن عنه شيئا، بل سُلب ذلك كله في الدنيا قبل الآخرة؛ ولهذا قال تعالى هاهنا: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ } أي: يعطي المال لمن يحب ومَنْ لا يحب، فيفقر مَنْ يشاء ويغني مَنْ يشاء، وله الحكمة التامة البالغة، والحجة الدامغة القاطعة { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونََ } .
ثم قال: { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى } أي: ليست هذه دليلا على محبتنا لكم، ولا اعتنائنا بكم.
قال (1) الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا كَثير، حدثنا جعفر، حدثنا يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) : إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". [و] (3) رواه مسلم وابن ماجة، من حديث كثير بن هشام، عن جعفر بن بُرْقَان، به. (4)
ولهذا قال: { إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا } أي: إنما يقربكم عندنا زلفى الإيمان والعمل الصالح، { فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا } أي: تضاعف (5) لهم الحسنة بعشرة (6) أمثالها، إلى سبعمائة ضعف { وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } أي: في منازل الجنة العالية آمنون من كل بأس وخوف وأذى، ومن كل شر يُحْذَر منه.
قال (7) ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا فَرْوَة بن أبي المغراء الكندي، حدثنا القاسم وعلي بن مُسْهِر، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن علي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لَغرفا ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها". فقال أعرابي: لمن هي؟ قال: "لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، [وصلى بالليل والناس نيام]" (8) (9) .
{ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } أي: يسعون في الصد عن سبيل الله، واتباع الرسل والتصديق بآياته، { أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } أي: جميعهم مَجْزيون بأعمالهم فيها بحسبهم.
وقوله: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } أي: بحسب مَا لَه في ذلك من الحكمة، يبسط على هذا من المال كثيرا، ويضيق على هذا ويقتر على هذا رزقه جدًا، وله في ذلك من الحكمة ما لا يدركها غيره، كما قال تعالى: { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } [الإسراء: 21] أي: كما هم متفاوتون في الدنيا: هذا فقير مدقع، وهذا غني
__________
(1) في ت: "كما روى".
(2) في ت، س: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال".
(3) زيادة من س.
(4) المسند (2/539) وصحيح مسلم برقم (2564) وسنن ابن ماجه برقم (4143).
(5) في س: "يضاعف".
(6) في ت، س، أ: "بعشر".
(7) في ت: "وروى".
(8) زيادة من ت، أ.
(9) ورواه الترمذي في السنن برقم (1984) من طريق على بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق بأطول منه، وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن إسحاق، وقد تكلم أهل الحديث في عبد الرحمن بن إسحاق هذا من قبل حفظه وهو كوفي". قلت: وله شواهد من حديث عبد الله بن عمرو وأبي مالك الأشعري وأبي معانق الأشعري، رضي الله عنهم.

مُوَسَّع عليه، فكذلك هم في الآخرة: هذا في الغُرفات في أعلى الدرجات، وهذا في الغَمرَات في أسفل الدركات. وأطيب الناس في الدنيا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أفلح مَنْ أسلم ورُزق كَفَافا، وقَنَّعه الله بما آتاه". رواه مسلم من حديث ابن عَمْرو. (1)
وقوله: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } أي: مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب، كما ثبت في الحديث (2) : يقول الله تعالى: أنْفق (3) أنْفق عليك" (4) . وفي الحديث: أن ملكين يَصيحان كل يوم، يقول أحدهما: "اللهم أعط مُمْسِكا تَلَفًا"، ويقول الآخر: "اللهم أعط منفقا خَلَفًا" (5) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا" (6) .
وقال (7) ابن أبي حاتم عن يزيد بن عبد العزيز الطلاس، حدثنا هُشَيْم عن الكوثر بن حكيم، عن مكحول قال: بلغني عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن بعدكم (8) زمان عضوض، يعض الموسر على ما في يده (9) حذار الإنفاق". ثم تلا هذه الآية: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينََ } (10)
وقال (11) الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا روح بن حاتم، حدثنا هُشَيم، عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال: بلغني عن حذيفة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض، يعض الموسر على ما في يديه حذار الإنفاق"، قال الله تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينََ } ، وَيَنْهَل شرار الخلق يبايعون كل مضطر، ألا إن بيع المضطرين حرام،[ألا إن بيع المضطرين حرام] (12) المسلم أخو المسلم. لا يظلمه ولا يخذله، إن كان عندك معروف، فَعُد به على أخيك، وإلا فلا تَزده هلاكا إلى هلاكه".
هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفي إسناده ضعف. (13)
وقال سفيان الثوري، عن أبي يونس الحسن بن يزيد قال: قال مجاهد: لا يتأولن أحدكم هذه
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1054).
(2) في ت: "في الصحيح".
(3) في أ: "ابن آدم أنفق".
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (4684) ومسلم في صحيحه برقم (993) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (1442) ومسلم في صحيحه برقم (1010) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(6) جاء عن جماعة من الصحابة، فرواه الطبراني في المعجم الكبير (1/340) من طريق قيس بن الربيع عن أبي حصين، عن يحيي بن وثاب، عن مسروق عن ابن مسعود، رضى الله عنه، وقيس بن الربيع ضعفوه. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (1/342)، وأبو يعلى في مسنده (10/429) وأبو نعيم في الحلية (2/280) عن هشام بن حسان عن محمد بن سيربن عن أبي هريرة، رضى الله عنه. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (1/359) من طريق أبي إسحاق عن مسروق عن بلال، رضي الله عنه، وفيه ابن زبالة وهو ضعيف.
(7) في ت: "وروي".
(8) في س: "بعدكم هذا زمان".
(9) في ت، س: "يديه".
(10) ذكره السيوطي في الدر (6/707) وقال: "أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه بسند ضعيف فذكره".
(11) في ت: "وروى".
(12) زيادة من ت، س.
(13) ذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (1/261) وعزاه لأبي يعلى في مسنده.

الآية: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهَ } : إذا كان عند أحدكم ما يقيمه فليقصد فيه، فإن الرزق مقسوم.

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)

{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) } .
يخبر تعالى أنه يقرع المشركين يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فيسأل الملائكة الذين كان المشركون يزعمون أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورة الملائكة ليقربوهم إلى الله زلفى، فيقول للملائكة: { أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ } ؟ أي: أنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم؟ كما قال في سورة الفرقان: { أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ } [الفرقان: 17] ، وكما يقول لعيسى: { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } [المائدة: 116]. وهكذا تقول الملائكة: { سُبْحَانَكَ } أي: تعاليتَ وتقدست عن أن يكون معك إله { أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ } أي: نحن عبيدك ونبرأ إليك من هؤلاء، { بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } يعنون: الشياطين؛ لأنهم هم الذين (1) يزينون لهم عبادة الأوثان ويضلونهم (2) ، { أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } ، كما قال تعالى: { إِنْ يَدْعُونَ (3) مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ (4) إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا } [النساء: 117].
قال الله تعالى: { فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا } أي: لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه اليوم من الأنداد والأوثان، التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكُرَبكم، اليوم لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا، { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } -وهم المشركون-{ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } أي: يقال لهم ذلك، تقريعا وتوبيخا.
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) } .
يخبر تعالى عن الكفار أنهم يستحقون منه العقوبة والأليم من العذاب؛ لأنهم كانوا إذا تتلى
__________
(1) في هـ: "الشياطين ثم الذين" والمثبت من ت، س.
(2) في س: "ويضلوهم".
(3) في س : "تدعون".
(4) في س : "تدعون".

قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)

عليهم آياته بينات يسمعونها غَضَّةً طرية من لسان رسوله (1) صلى الله عليه وسلم، { قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ } ، يعنون أن دين آبائهم هو الحق، وأن ما جاءهم به الرسول عندهم باطل -عليهم وعلى آبائهم لعائن الله-{ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى } يعنون: القرآن، { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ } . قال الله تعالى: { وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ } أي: ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن، وما أرسل إليهم نبيًا قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا يَوَدّون ذلك ويقولون: لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب، لكنا أهدى من غيرنا، فلما مَنَّ الله عليهم بذلك كذبوه وعاندوه وجحدوه. ثم قال: { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي: من الأمم، { وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ } قال ابن عباس: أي من القوة في الدنيا. وكذلك (2) قال قتادة، والسدّي، وابن زيد. كما قال تعالى: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [الأحقاف: 26]، { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً } [غافر: 82]، أي: وما دفع ذلك عنهم عذاب الله ولا رده، بل دمر الله عليهم لما كذبوا رسله؛ ولهذا قال: { فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي: فكيف كان نكالي وعقابي وانتصاري لرسلي (3) ؟
{ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) } .
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون: { إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } أي: إنما آمركم بواحدة، وهي: { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } أي: تقوموا قياما خالصًا لله، من غير هوى ولا عصبية، فيسأل بعضكم بعضا: هل بمحمد من جنون؟ فينصح بعضكم بعضا، { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } أي: ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه، ويتفكر في ذلك؛ ولهذا قال: { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } .
هذا معنى ما ذكره مجاهد، ومحمد بن كعب، والسُّدِّيّ، وقتادة، وغيرهم، وهذا هو المراد من الآية.
فأما الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "أعطيت ثلاثا لم يعطهن مَن قبلي ولا فخر: أحلت لي الغنائم، ولم تحل لمن قبلي، كانوا قبلي يجمعون غنائمهم فيحرقونها. وبُعثت إلى كل أحمر وأسود، وكان كل نبي يبعث
__________
(1) في ت: "رسول الله".
(2) في ت، س: "وكذا".
(3) في ت: "أى فكيف كان عقابي وانتصاري لرسلي".

قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)

إلى قومه، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، أتيمم بالصعيد، وأصلي حيث أدركتني الصلاة، قال الله: { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى } وأعنت بالرعب مسيرة شهر بين يدي" -فهو حديث ضعيف الإسناد، وتفسير الآية بالقيام في الصلاة في جماعة وفرادى بعيد، ولعله مقحم في الحديث من بعض الرواة، فإن أصله ثابت في الصحاح وغيرها (1) والله أعلم.
وقوله: { إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } : قال (2) البخاري عندها:
حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن خَازم، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرَّة، عن سعيد بن جُبَيْر (3) ، عن ابن عباس قال: صَعدَ النبي صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم، فقال: "يا صباحاه". فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: ما لك؟ فقال: "أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يُصَبّحكم أو يُمَسّيكم، أما كنتم تصدقوني؟" قالوا: بلى. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". فقال أبو لهب: تبا لك! ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [المسد]. (4)
وقد تقدم عند قوله: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } [ الشعراء : 214 ] .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا بشير بن المهاجر، حدثني عبد الله بن بريدة، (5) عن أبيه قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فنادى ثلاث مرات فقال: "أيها الناس، أتدرون ما مثلي ومثلكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "إنما مثلي ومثلكم مثلُ قوم خافوا عدوا يأتيهم، فبعثوا رجلا يتراءى لهم، فبينما هو كذلك أبصر العدو، فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه: أيها الناس، أوتيتم. أيها الناس، أوتيتم -ثلاث مرات".
وبهذا الإسناد (6) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة جميعًا، إن كادت لتسبقني". تفرد به الإمام أحمد في مسنده. (7)
{ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ (48) } .
__________
(1) سبق تخريج حديث جابر، رضي الله عنه، في الصحيحين عند تفسير الآية: 28 من هذه السورة.
(2) في ت: "روى".
(3) في ت: "بإسناده".
(4) صحيح البخاري برقم (4801).
(5) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن عبد الله بن زيد".
(6) في ت "وبإسناده".
(7) المسند (5/348).

قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)

{ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) } .
يقول تعالى آمرًا رسوله أن يقول للمشركين: { مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } أي: لا أريد منكم جُعلا ولا عَطاء على أداء رسالة الله إليكم، ونصحي إياكم، وأمركم بعبادة الله، { إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ } أي: إنما أطلب ثواب ذلك من عند الله { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي: عالم بجميع الأمور، بما أنا عليه من إخباري عنه بإرساله إياي إليكم، وما أنتم عليه.
وقوله: {

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ } ، كقوله تعالى: { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } [غافر: 15]. أي: يرسل الملك إلى مَنْ يشاء من عباده من أهل الأرض، وهو علام الغيوب، فلا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض.
وقوله: { قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } أي: جاء الحق من الله والشرع العظيم، وذهبَ الباطل وزهق واضمحل، كقوله: { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ [فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ (1) ] } [الأنبياء: 18]، ولهذا لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم الفتح، ووجد تلك الأصنام منصوبة حول الكعبة، جعل يَطعنُ الصنم (2) بسِيَة قَوْسِه، ويقرأ: { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } ، { قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } . رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وحده عند هذه الآية، كلهم من حديث الثوري، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن أبي مَعْمَر عبد الله بن سَخبَرَةَ، عن ابن مسعود، به (3) .
أي: لم يبق للباطل مقالة ولا رياسة ولا كلمة.
وزعم قتادة والسدي: أن المراد بالباطل ها هنا إبليس، إنه لا يخلق أحدا ولا يعيده، ولا يقدر على ذلك. وهذا وإن كان حقًا ولكن ليس هو المراد هاهنا (4) والله أعلم.
وقوله: { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } أي: الخير كله من عند الله، وفيما أنزله الله عز وجل من الوحي والحق المبين فيه الهدى والبيان والرشاد، ومَنْ ضل فإنما يضل من تلقاء نفسه، كما قال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، لما سئل عن تلك المسألة في المفوَضة: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه. (5)
وقوله: { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } أي: سميع لأقوال عباده، قريب مجيب دعوة الداعي إذا دعاه. وقد روى النسائي هاهنا حديث أبي موسى الذي في الصحيحين [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال] (6) : "إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا " (7) قريبا مجيبا". (8)
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت، س، أ: "الصنم منها".
(3) صحيح البخاري برقم (2478، 4287) وصحيح مسلم برقم (1781) وسنن الترمذي برقم (3138) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11428).
(4) في ت: "الآية"
(5) انظر الأثر في المسند (1/477).
(6) زيادة من ت، أ.
(7) في أ: "سميعا بصيرا".
(8) النسائي في السنن الكبرى برقم (11427) وصحيح البخاري برقم (4205) وصحيح مسلم برقم (2704).

وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

{ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) } .
يقول تعالى: ولو ترى -يا محمد-إذ فَزِع هؤلاء المكذبون (1) يوم القيامة، { فَلا فَوْتَ } أي: فلا مفر لهم، ولا وزر ولا ملجأ { وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ } أي: لم يكونوا يُمنعون في الهرب (2) بل أخذوا من أول وهلة.
قال الحسن البصري: حين خرجوا من قبورهم.
وقال مجاهد، وعطية العوفي، وقتادة: من تحت أقدامهم.
وعن ابن عباس والضحاك: يعني: عذابهم في الدنيا.
وقال عبد الرحمن بن زيد: يعني: قتلهم يوم بدر.
والصحيح: أن المراد بذلك يوم القيامة، وهو الطامة العظمى، وإن كان ما ذكر متصلا بذلك.
وحكى ابن جرير عن بعضهم قال: إن المراد بذلك جيش يخسف بهم بين مكة والمدينة في أيام بني العباس، ثم أورد في ذلك حديثا موضوعا بالكلية. ثم لم ينبه على ذلك، وهذا أمر عجيب غريب منه
{ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ } أي: يوم القيامة يقولون: آمنا بالله وبكتبه ورسله (3) ، كما قال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة: 12]؛ ولهذا قال تعالى: { وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } أي: وكيف لهم تعاطي (4) الإيمان وقد بعدوا عن محل قبوله منهم وصاروا إلى الدار الآخرة، وهي دار الجزاء لا دار الابتلاء، فلو كانوا آمنوا في الدنيا لكان ذلك نافعهم، ولكن بعد مصيرهم إلى الدار الآخرة لا سبيل لهم إلى قبول الإيمان، كما لا سبيل إلى حصول الشيء لمن يتناوله من بعيد.
قال مجاهد: { وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ } قال: التناول لذلك.
وقال الزهري: التناوش: تناولهم الإيمان وهم في الآخرة، وقد انقطعت عنهم الدنيا.
وقال الحسن البصري: أما إنهم طلبوا الأمر من حيث لا ينال، تعاطوا الإيمان من مكان بعيد.
وقال ابن عباس: طلبوا الرجعة إلى الدنيا والتوبة مما هم فيه، وليس بحين (5) رجعة ولا توبة. وكذا قال محمد بن كعب القرظي، رحمه الله.
وقوله: { وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ } أي: كيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة، وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا بالرسل؟
{ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } : قال مالك، عن زيد بن أسلم: { وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ } قال: بالظن.
__________
(1) في ت: "المكذبين".
(2) في ت: "لم يمكنوا أي يمنعوا عن الهرب"، وفي س، أ: "لم يمكنوا أن يمنعوا في الهرب"
(3) في ت، أ: "وبرسله".
(4) في ت، س، أ: "تعاطى عن".
(5) في ت، أ: "وليس هو حين".

قلت: كما قال تعالى: { رَجْمًا بِالْغَيْبِ } [الكهف: 22]، فتارة يقولون: شاعر. وتارة يقولون: كاهن. وتارة يقولون: ساحر. وتارة يقولون: مجنون. إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة، ويكذبون بالغيب (1) والنشور والمعاد، ويقولون: { إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [الجاثية: 32].
قال قتادة: يرجمون بالظن، لا بعث ولا جنة ولا نار.
وقوله: { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } : قال الحسن البصري، والضحاك، وغيرهما: يعني: الإيمان.
وقال السُّدِّي: { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } وهي: التوبة . وهذا اختيار ابن جرير، رحمه الله.
وقال مجاهد: { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } من هذه الدنيا، من مال وزهرة وأهل. وروي [ذلك] (2) عن ابن عباس وابن عمر والربيع بن أنس. وهو قول البخاري وجماعة. والصحيح: أنه لا منافاة بين القولين؛ فإنه قد حيل بينهم وبين شهواتهم في الدنيا وبين ما طلبوه في الآخرة، فمنعوا منه.
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا أثرًا غريبا [عجيبا] (3) جدًا، فلنذكره بطوله فإنه قال: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا بشر بن حجر السامي (4) ، حدثنا علي بن منصور الأنباري، عن الشَّرَقيّ ابن قُطَامي، عن سعيد بن طريف، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قول الله عز وجل: { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } إلى آخر الآية، قال: كان رجل من بني إسرائيل فاتحًا -أي فتح الله له مالا-فمات فورثه ابن له تافه -أي: فاسد-فكان يعمل في مال الله بمعاصي الله. فلما رأى ذلك إخوان أبيه أتوا الفتى فعذلوه ولاموه، فضجر الفتى فباع عقاره بصامت، ثم رحل فأتى عينا ثجاجَة فسرَح فيها ماله، وابتنى قصرًا. فبينما هو ذات يوم جالس إذ شمَلت عليه [ريح] (5) بامرأة من أحسن الناس وجهًا وأطيبهم أرَجا -أي: ريحًا-فقالت: من أنت يا عبد الله؟ فقال: أنا امرؤ من بني إسرائيل قالت: فلك هذا القصر، وهذا المال؟ قال: نعم. قالت: فهل لك من زوجة؟ قال: لا. قالت: فكيف يَهْنيك العيش ولا زوجة لك؟ قال: قد كان ذلك. فهل لك من بَعل؟ قالت: لا. قال: فهل لك إلى أن أتزوجك؟ قالت: إني امرأة منك على مسيرة ميل، فإذا كان غد فتزوّد زاد يوم وأتني، وإن رأيت في طريقك هولا فلا يَهُولنَّكَ. فلما كان من الغد تزود زاد يوم، وانطلق فانتهى إلى قصر، فقرع رتاجه، فخرج إليه شاب من أحسن الناس وجهًا وأطيبهم أرَجًا -أي: ريحًا-فقال: من أنت يا عبد الله؟ فقال: أنا الإسرائيلي. قال فما حاجتك؟ قال: دعتني صاحبة هذا القصر إلى نفسها. قال: صدقت، قال فهل رأيت في طريقك [هولا؟] (6) قال: نعم، ولولا أنها أخبرتني أن لا بأس عليّ، لهالني الذي رأيت؛ أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل، إذا أنا بكلبة فاتحة
__________
(1) في ت، س، أ: "بالبعث".
(2) زيادة من ت.
(3) زيادة من س، أ.
(4) في ت: "الشامي".
(5) زيادة من ت، س، والدر المنثور.
(6) زيادة من ت، س، والدر المنثور.

فاها، ففزعت، فَوَثَبت فإذا أنا من ورائها، وإذا جراؤها ينبحن في بطنها. فقال له الشاب: لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان، يقاعد الغلام المشيخة في مجلسهم ويَبُزّهم حديثهم.
قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل، إذا أنا بمائة عنز حُفَّل، وإذا فيها جَدْي يمصّها، فإذا أتى عليها وظن أنه لم يترك شيئًا، فتح فاه يلتمس الزيادة. فقال: لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان، ملك يجمع صامت الناس كلّهم، حتى إذا ظن أنه لم يترك شيئًا فتح فاه يلتمس الزيادة.
قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بشجر، فأعجبني غصن من شجرة منها ناضر، فأردت قطعة، فنادتني شجرة أخرى: "يا عبد الله، مني فخذ". حتى ناداني الشجر أجمع: "يا عبد الله، منا فخذ". قال: لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان، يقل الرجال ويكثر (1) النساء، حتى إن الرجل ليخطب المرأة فتدعوه العشر والعشرون إلى أنفسهن.
قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل قائم على عين، يغرف لكل إنسان من الماء، فإذا تَصَدعوا عنه صَبّ في جَرّته فلم تَعلَق جَرته من الماء بشيء. قال: لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان، القاص يعلم الناس العلم ثم يخالفهم إلى معاصي الله.
قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بعنز وإذا بقوم قد أخذوا بقوائمها، وإذا رجل قد أخذ بقرنيها، وإذا رجل قد أخذ بذَنَبها، وإذا رجل (2) قد ركبها، وإذا رجل يحلبها. فقال: أما العنز فهي الدنيا، والذين أخذوا بقوائمها يتساقطون من عيشها، وأما الذي قد أخذ بقرنيها فهو يعالج من عيشها ضيقًا، وأما الذي أخذ بذنبها فقد أدبرت عنه، وأما الذي ركبها (3) فقد تركها. وأما الذي يحلبها فَبخٍ [ بخٍ ] (4) ، ذهب ذلك (5) بها.
قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل، وإذا أنا برجل يمْتح على قَليب، كلما أخرج (6) دلوه صبَّه في الحوض، فانساب الماء راجعًا إلى القليب. قال: هذا رجل رَدّ الله [عليه] (7) صالح عمله، فلم يقبله.
قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل، إذا أنا برجل يبذُر بذرًا فيستحصد، فإذا حنطة طيبة. قال: هذا رجل قبل الله صالح عمله، وأزكاه (8) له.
قال: ثم أقبلت حتى [إذا] (9) انفرج بي السبيل، إذا أنا برجل مستلق على قفاه، قال: يا عبد الله، ادن مني فخذ بيدي وأقعدني، فوالله ما قعدت منذ خلقني الله فأخذت بيده، فقام يسعى حتى ما أراه. فقال له الفتى: هذا عمْر الأبعد نَفَد، أنا ملك الموت وأنا المرأة التي أتتك... (10) أمرني الله بقبض روح الأبعد في هذا المكان، ثم أصيره إلى نار جهنم قال: ففيه نزلت هذه: { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } الآية.
__________
(1) في ت: "وتكثر".
(2) في ت، س، أ: "راكب".
(3) في ت، س، أ: "الذي قد ركبها".
(4) زيادة من ت، س، أ، والدر المنثور.
(5) في ت، س، أ: "ذاك".
(6) في أ: "فلما أن خرج".
(7) زيادة من ت، س، أ.
(8) في أ: "وزكاه".
(9) زيادة من ت، س.
(10) في أ: "أتيتك".

هذا أثر غريب (1) ، وفي صحته نظر، وتنزيل [هذه] (2) الآية عليه وفي حقه بمعنى أن الكفار كلهم يتوفون وأرواحهم متعلقة بالحياة الدنيا، كما جرى لهذا المغرور المفتون، ذهب يطلب مراده فجاءه الموت فجأة بغتة، وحيل بينه وبين ما يشتهي.
وقوله: { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ } أي: كما جرى للأمم الماضية المكذبة للرسل، لما جاءهم بأس الله تمنوا أن لو آمنوا فلم يقبل منهم، { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } [غافر: 84، 85].
وقوله: { إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ } أي: كانوا في الدنيا في شك وريبة، فلهذا لم يتقبل منهم الإيمان عند معاينة العذاب.
قال قتادة: إياكم والشك والريبة. فإن من مات على شك بُعِثَ عليه، ومن مات على يقين بعث عليه.
آخر تفسير سورة "سبأ" ولله الحمد والمنة.
__________
(1) الأثر ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/716) وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) زيادة من ت.

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)

تفسير سورة فاطر
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) } .
قال سفيان الثوري، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما [لصاحبه] : (1) أنا فطرتها، أنا بدأتها. فقال ابن عباس أيضًا: { فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } بديع السموات والأرض . (2)
وقال الضحاك: كل شيء في القرآن فاطر السموات والأرض فهو: خالق السموات والأرض.
وقوله: { جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا } أي: بينه وبين أنبيائه، { أُولِي أَجْنِحَةٍ } أي: يطيرون بها ليبلغوا ما أمروا به سريعًا { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } أي: منهم مَنْ له جناحان، ومنهم مَنْ له ثلاثة (3) ومنهم مَنْ له أربعة، ومنهم مَنْ له أكثر من ذلك، كما جاء في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل ليلة الإسراء وله ستمَائة جناح، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب؛ ولهذا قال: { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . قال السدي: يزيد في الأجنحة وخلقهم ما يشاء.
وقال الزهري، وابن جُرَيْج (4) في قوله: { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ } يعني: حسن الصوت. رواه عن الزهري البخاري في الأدب، وابن أبي حاتم في تفسيره.
وقرئ في الشاذ: "يَزِيدُ في الحلق"، بالحاء المهملة، والله أعلم.
{ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) } .
يخبر تعالى أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. قال (5) الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، حدثنا مغيرة، أخبرنا عامر، عن ورَّاد -مولى المغيرة بن شعبة-قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: اكتب لي بما سمعتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعاني المغيرة فكتبت إليه: إني سمعت (6) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة قال: "لا
__________
(1) زيادة من ت، س، أ.
(2) رواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (1682) من طريق يحيي بن سعيد عن سفيان به.
(3) في ت: "ثلاثة أجنحة".
(4) في ت: "جرير".
(5) في ت: "وروي".
(6) في أ: "سمعت من".

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)

إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ"، وسمعته ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال، وعن وأد البنات، وعقوق الأمهات، ومَنْع وهَات.
وأخرجاه من طرق عن وَرّاد، به . (1)
وثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: "سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ملء السماء (2) والأرض (3) وملء ما شئت من شيء بعد. اللهم، أهلَ الثناء والمجد. أحقّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد. اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجدّ" . (4)
وهذه الآية كقوله تعالى: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ } [يونس: 107] . ولهذا (5) نظائر كثيرة.
وقال الإمام مالك: كان أبو هريرة إذا مُطِروا يقول: مُطِرنا بِنَوْء الفتح، ثم يقرأ هذه الآية: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . ورواه ابن أبي حاتم، عن يونس عن ابن وهب، عنه . (6)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) } .
ينبه تعالى عباده ويرشدهم إلى الاستدلال على توحيده في إفراد العبادة له، كما أنه المستقل بالخلق والرزق فكذلك فَليفرد بالعبادة (7) ، ولا يشرك به غيره من الأصنام والأنداد والأوثان؛ ولهذا قال: { لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } (8) ، أي: فكيف تؤفكون (9) بعد هذا البيان، ووضوح هذا البرهان، وأنتم بعد هذا تعبدون الأنداد والأوثان؟
__________
(1) المسند (4/254) وصحيح البخاري برقم (844) وصحيح مسلم برقم (593).
(3) في ت، س، أ: "وملء الأرض".
(4) صحيح مسلم برقم (477).
(5) في ت: "ولهما"، وفي س: "ولها".
(6) الموطأ (1/ 192).
(7) في أ: "بالعبادة وحده".
(8) في س، أ: "يؤفكون".
(9) في س، أ: "يؤفكون".

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)

{ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) } .
يقول: وإن يكذبك -يا محمد-هؤلاء المشركون بالله ويخالفوك فيما جئتهم به من التوحيد، فلك فيمن سلف قبلك من الرسل أسوة، فإنهم كذلك جاؤوا قومهم بالبينات وأمروهم بالتوحيد

الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)

فكذبوهم وخالفوهم، { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } أي: وسنجزيهم على ذلك أوفر الجزاء .
ثم قال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي: المعاد كائن لا محالة، { فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي: العيشة الدنيئة (1) بالنسبة إلى ما أعد (2) الله لأوليائه وأتباع رسله من الخير العظيم فلا تَتَلَهَّوا (3) عن ذلك (4) الباقي بهذه الزهرة الفانية، { وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } وهو الشيطان. قاله ابن عباس. أي: لا يفتننكم الشيطان ويصرفنكم عن اتباع رسل الله وتصديق كلماته فإنه غرَّار كذاب أفاك. وهذه الآية كالآية التي في آخر لقمان: { فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [لقمان: 33] . قال مالك، عن زيد بن أسلم: هو الشيطان. كما قال: يقول المؤمنون للمنافقين يوم القيامة حين يضرب { بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [الحديد: 13 ، 14] .
ثم بين تعالى عداوة إبليس لابن آدم فقال: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } (5) أي: هو مبارز لكم بالعداوة، فعادوه أنتم أشد العداوة، وخالفوه وكذبوه فيما يغركم به، { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } أي: إنما يقصد أن يضلكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب السعير، فهذا هو العدو المبين. فنسأل الله القوي العزيز أن يجعلنا أعداء الشيطان (6) ، وأن يرزقنا اتباع كتابه، والاقتفاء بطريق رسوله، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير. وهذه كقوله: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا } [الكهف: 50].
[وقال بعض العلماء: وتحت هذا الخطاب نوع لطيف من العتاب كأنه يقول: إنما عاديت إبليس من أجل أبيكم ومن أجلكم، فكيف يحسن بكم أن توالوه؟ بل اللائق بكم أن تعادوه وتخالفوه ولا تطاوعوه] . (7)
{ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) } .
لما ذكر [الله] (8) تعالى أن أتباع إبليس مصيرهم إلى [عذاب] (9) السعير، ذكر بعد ذلك أن الذين كفروا لهم عذاب شديد (10) ؛ لأنهم أطاعوا الشيطان وعَصَوا الرحمن، وأن الذين آمنوا بالله
__________
(1) في أ: "المعيشة الدنية".
(2) في ت: "ما وعد".
(3) في أ: "فلا يلتهوا".
(4) في س: "ذاك".
(5) في س بعدها: "إنما يدعو حزبه".
(6) في ت: "للشياطين".
(7) زيادة من ت، أ.
(8) زيادة من ت.
(9) زيادة من ت، أ.
(10) في ت: "للذين كفروا عذا با شديدا".

ورسله { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } أي: لما كان منهم من ذنب، { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } على ما عملوه من خير.
ثم قال: { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا } يعني: كالكفار والفجار، يعملون أعمالا سيئة، وهم في ذلك يعتقدون ويحسون (1) أنهم يحسنون صنعًا، أي: أفمن كان هكذا قد أضله الله، ألك فيه حيلة؟ لا حيلة لك فيه، { فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } أي: بقدره كان ذلك، { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } أي: لا تأسف على ذلك فإن الله حكيم في قدره، إنما يضل من يضل (2) ويهدي من يهدي (3) ، لما له في ذلك من الحجة البالغة، والعلم التام؛ ولهذا قال: { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } .
وقال (4) ابن أبي حاتم عند هذه الآية: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عوف الحِمْصي، حدثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي عمرو السَّيباني -أو: ربيعة-عن عبد الله بن الديلمي قال: أتيت عبد الله بن عمرو، وهو في حائط بالطائف يقال له: الوهط، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من نوره يومئذ فقد اهتدى، ومن أخطأه منه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على ما علم الله عز وجل" . (5)
ثم قال: حدثنا يحيى بن عبدك القزويني، حدثنا حسان بن حسان البصري، حدثنا إبراهيم بن بشر (6) حدثنا يحيى بن معين (7) حدثنا إبراهيم القرشي، عن سعد بن شرحبيل (8) عن زيد بن أبي أوفى قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "الحمد لله الذي يهدي من (9) الضلالة، ويلبس الضلالة على من أحب" . (10)
وهذا أيضًا حديث غريب جدًّا.
__________
(1) في ت، س، أ: "يحسبون".
(2) في أ: "يشاء".
(3) في أ: "يشاء".
(4) في ت: "وروى".
(5) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1812) "موارد" والحاكم في المستدرك (1/30) من طريق الأوزاعي عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله الديلمي بنحوه، ورواه الترمذي في السنن برقم (2642) من طريق إسماعيل بن عياش عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن عبد الله الديلمي بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن".
(6) في هـ، ت، س، أ: "بشير"، والصواب ما أثبتناه.
(7) في هـ، ت، س، أ: "معن"، والصواب ما أثبتناه.
(8) في ت: "ثم روي بسنده".
(9) في ت، أ: "يهدي من يشاء من".
(10) ورواه البخاري في التاريخ الأوسط (1/250): حدثنا حسان بن حسان عن إبراهيم بن بشر عن يحيى بن معين المدني عن إبراهيم القرشي عن سعيد بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (5/220) من طريق عبد المؤمن بن عباد عن يزيد بن معن عن عبد الله بن شرحبيل عن رجل من قريش عن زيد بن أبي أوفى بأطول منه، ورواه ابن الأثير في أسد الغابة (2/126) من طريق شعيب بن يونس عن موسى بن صهيب عن يحيى بن زكريا عن عبد الله بن شرحبيل عن رجل من قريش عن زيد بن أبي أوفى، وقال البخاري بعدما أورده: "وهذا إسناد مجهول لا يتابع عليه، ولا يعرف سماع بعضهم من بعض، رواه بعضهم عن إسماعيل بن خالد عن عبد الله بن أبي أوفى، عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصل له".

وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)

{ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) } .
كثيرا ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها -كما في [أول] (1) سورة الحج -ينبه عباده أن يعتبروا بهذا على ذلك، فإن الأرض تكون ميتة هامدة لا نبات فيها، فإذا أرسل إليها (2) السحاب تحمل الماء وأنزله عليها، { اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [الحج: 5] ، كذلك الأجساد (3) ، إذا أراد الله سبحانه بعثها ونشورها، أنزل من تحت العرش مطرا يعم (4) الأرض جميعًا فتنبت الأجساد في قبورها كما ينبت (5) الحب في الأرض؛ ولهذا جاء في الصحيح: "كل ابن آدم يبلى إلا عَجْب الذَّنَب، منه خلق ومنه يركب"؛ ولهذا قال تعالى: { كَذَلِكَ النُّشُورُ } .
وتقدم في "الحج" (6) حديث أبي رَزِين: قلت: يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: "يا أبا رزين، أما مررت بوادي قومك محْلا (7) ثم مررت به يهتز خَضِرًا ؟" قلت: بلى. قال: "فكذلك يحيي الله الموتى".
وقوله: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } أي: مَنْ كان يحب أن يكون عزيزًا في الدنيا والآخرة، فليلزم طاعة الله، فإنه يحصل له مقصوده؛ لأن الله مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعها، كما قال تعالى: { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [النساء: 139] .
وقال تعالى: { وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [يونس: 65] ، وقال: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ } [المنافقون: 8] .
قال مجاهد: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ } بعبادة الأوثان، { فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } .
وقال قتادة: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } أي: فليتعزز بطاعة الله عز وجل.
وقيل: مَنْ كان يريد علْم العزة، لمن هي، { فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } ، حكاه ابن جرير.
وقوله: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } يعني: الذكر والتلاوة والدعاء. قاله غير واحد من السلف.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن إسماعيل الأحْمَسِيّ، أخبرني جعفر بن عَوْن، عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، عن عبد الله بن المخارق، عن أبيه المخارق بن سليم (8) قال:
__________
(1) زيادة من ت، س، أ.
(2) في ت: "عليها".
(3) في ت، س: "الأجسام".
(4) في أ: "فعم".
(5) في ت: "كما تنبت".
(6) عند الآيات: 12-16.
(7) في ت، س، أ: "ممحلا".
(8) في ت: "وروى ابن جرير بإسناده عن عبد الله بن أبي المخارق بن سليم".

قال لنا عبد الله -هو ابن مسعود-إذا حدثناكم حديثا أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله: إن العبد المسلم إذا قال: "سبحان الله وبحمده، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تبارك الله"، أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه، ثم صَعد بهن إلى السماء فلا يمُرّ بهن على جمْعٍ من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن، حتى يجيء بهن وجه الرحمن عز وجل، ثم قرأ عبد الله: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، أخبرنا سعيد الجُرَيْرِي (1) ، عن عبد الله بن شقيق قال (2) : قال كعب الأحبار: إن لـ "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" لدويا حول العرش كدويّ النحل، يُذَكِّرْنَ بصاحبهن، والعمل الصالح في الخزائن . (3)
وهذا إسناد صحيح إلى كعب الأحبار، رحمه الله، وقد روي مرفوعًا.
قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نُمَيْر، حدثنا موسى -يعني: ابن مسلم الطحان -عن عون بن عبد الله، عن أبيه -أو: عن أخيه (4) -عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذين يذكرون من جلال الله، من تسبيحه وتكبيره وتحميده وتهليله، يتعاطفن حول العرش، لهن دوي كدوي النحل، يذكرون بصاحبهن ألا يحب أحدكم ألا يزال له عند الله شيء يذكر به؟" . (5)
وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بشر بكر بن خلف، عن يحيى بن سعيد (6) القطان، عن موسى بن أبي [عيسى] (7) الطحان، عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبيه -أو: عن أخيه-عن النعمان بن بشير، به . (8)
وقوله: { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } : قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الكلم الطيب: ذكر الله، يصعد به إلى الله، عز وجل، والعمل الصالح: أداء فرائضه. ومن ذكر الله ولم يؤد فرائضه، رد كلامه على عمله ، فكان أولى به.
وكذا قال مجاهد: العمل الصالح يرفع الكلام الطيب. وكذا قال أبو العالية، وعكرمة، وإبراهيم النَّخعِيّ، والضحاك، والسُّدِّيّ، والربيع بن أنس، وشَهْر بن حَوْشَب، وغير واحد [من السلف] . (9)
وقال إياس بن معاوية القاضي: لولا العمل الصالح لم يرفع الكلام.
وقال الحسن، وقتادة: لا يقبل قولٌ إلا بعمل.
وقوله: { وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ } : قال مجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، وشَهْر بن حَوْشَب: هم المراؤون بأعمالهم، يعني: يمكرون بالناس، يوهمون أنهم في طاعة الله، وهم بُغَضَاء إلى الله
__________
(1) في أ: "سعيد بن الجريري".
(2) في ت: "وروى بإسناده".
(3) تفسير الطبري (22/80).
(4) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(5) المسند (4/268).
(6) في أ: "عيسى".
(7) زيادة من ت، س، وابن ماجه.
(8) سنن ابن ماجه برقم (3809) وقال البوصيري في الزوائد (3/193): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
(9) زيادة من ت.

عز وجل، يراؤون بأعمالهم، { وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } [النساء: 142] .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هم المشركون.
والصحيح أنها عامة، والمشركون داخلون بطريق الأولى، ولهذا قال: { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ } ، أي: يفسد ويبطل ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى، فإنه ما أسر عبد (1) سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله رداءها، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم، بل يُكشَف (2) لهم عن قريب، وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية.
وقوله: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } أي: ابتدأ خلق أبيكم آدم من تراب، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا } أي: ذكرًا وأنثى، لطفًا منه ورحمة أن جعل لكم أزواجًا من جنسكم، لتسكنوا إليها.
وقوله: { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ } أي: هو عالم بذلك، لا يخفى عليه من ذلك شيء، بل { مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام: 59] . وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ [وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ . عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ] الْمُتَعَالِ } [الرعد: 8، 9] . (3)
وقوله: { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ } أي: ما يعطى بعض النطف من العمر الطويل يعلمه، وهو عنده في الكتاب الأول، { وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } الضمير عائد على الجنس، لا على العين؛ لأن العين الطويل للعمر في الكتاب وفي علم الله لا ينقص من عمره، وإنما عاد الضمير على الجنس.
قال ابن جرير: وهذا كقولهم: "عندي ثوب ونصفه" أي: ونصف آخر.
وروي من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ، يقول: ليس أحد قضيت له طول عُمُر (4) وحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر وقد قضيت ذلك له، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت لا يزاد عليه، وليس أحد قَضَيْتُ له أنه قصير العمر والحياة ببالغ للعمر، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له، فذلك قوله: { وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ، يقول: كل ذلك في كتاب عنده.
وهكذا قال الضحاك بن مزاحم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه: { وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ } قال: ما لَفَظت الأرحام من الأولاد من غير تمام.
__________
(1) في أ: "أحد".
(2) في ت، س، أ: "ينكشف".
(3) زيادة من ت، س، أ، وفي هـ: "إلى قوله".
(4) في ت، س: "العمر".

وقال عبد الرحمن في تفسيرها: ألا ترى الناس، يعيش الإنسان مائة سنة، وآخر يموت حين يولد فهذا هذا.
وقال قتادة: والذي ينقص من عمره: فالذي يموت قبل ستين سنة.
وقال مجاهد: { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ } أي: في بطن أمه يكتب له ذلك، لم يخلق الخلق على عمر واحد، بل لهذا عمر، ولهذا عمر هو أنقص من عمره، وكل ذلك مكتوب لصاحبه، بالغ ما بلغ.
وقال بعضهم: بل معناه: { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ } أي: ما يكتب من الأجل { وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } ، وهو ذهابه قليلا قليلا الجميع معلوم عند الله سنة بعد سنة، وشهرًا بعد شهر، وجمعة بعد جمعة، ويومًا بعد يوم، وساعة بعد ساعة، الجميع مكتوب عند الله في كتاب.
نقله (1) ابن جرير عن أبي مالك، وإليه ذهب السُّدِّيّ، وعطاء الخراساني. واختار ابن جرير [القول] (2) الأول، وهو كما قال.
وقال النسائي عند تفسير هذه الآية الكريمة: حدثنا أحمد بن يحيى بن أبي زيد بن سليمان، سمعت ابن وهب يقول: حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ سرَّه أن يُبْسَط له في رزقه، ويُنْسَأ له في أجله (3) فليصل رَحِمَه".
وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود، من حديث يونس بن يزيد الأيلي، به (4) .
وقال (5) ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله أبو مسرح، حدثنا عثمان بن عطاء، عن مسلمة (6) بن عبد الله، عن عمه أبي مَشْجَعَة بن ربعي، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها العبد، فيدعون له من بعده، فيلحقه دعاؤهم في قبره، فذلك زيادة العمر" .
وقوله: { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أي: سهل عليه، يسير لديه علمه بذلك وبتفصيله في جميع مخلوقاته، فإن علمه شامل لجميع ذلك لا يخفى منه عليه شيء.
__________
(1) في أ: "رواه".
(2) زيادة من ت، أ.
(3) في ت، س، أ: "أثره".
(4) النسائي في السنن الكبرى برقم (11429) وصحيح البخاري برقم (2067) وصحيح مسلم برقم (2557) وسنن أبي داود برقم (1693).
(5) في ت: "وروى".
(6) في أ: "سلمة".

وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)

{ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) } .
يقول تعالى منبها على قدرته العظيمة في خلقه الأشياء المختلفة: وخلق البحرين العذب الزلال،

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

وهو هذه الأنهار السارحة بين الناس، من كبار وصغار، بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار، والعمران والبراري والقفار، وهي عذبة سائغ شرابها لمن أراد ذلك، { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } ، وهو البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار، وإنما تكون مالحة زُعَاقًا مُرَّة، ولهذا قال: { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } ، أي: مُرّ.
ثم قال: { وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا } يعني: السمك، { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } ، كما قال تعالى: { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 22، 23] .
وقوله: { وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ } (1) أي: تمخره وتشقه بحيزومها، وهو مقدمها المُسَنَّم الذي يشبه جؤجؤ الطير -وهو: صدره.
وقال مجاهد: تمخر الريح السفن، ولا يمخر الريح من السفن إلا العظام.
وقوله: { لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } أي: بأسفاركم بالتجارة، من قطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي تشكرون ربكم على تسخيره لكم هذا الخلق العظيم، وهو البحر، تتصرفون فيه كيف شئتم، وتذهبون أين أردتم، ولا يمتنع عليكم شيء منه، بل بقدرته قد سخر لكم ما في السموات وما في الأرض، الجميع من فضله ومن رحمته.
{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) } .
وهذا أيضًا من قدرته التامة وسلطانه العظيم، في تسخيره الليل بظلامه والنهار بضيائه، ويأخذ من طول هذا فيزيده في قصر هذا (2) فيعتدلان. ثم يأخذ من هذا في هذا، فيطول هذا ويقصر هذا، ثم يتقارضان صيفًا وشتاء، { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } أي: والنجوم السيارات، والثوابت الثاقبات بأضوائهن أجرام السموات، الجميع يسيرون بمقدار معين، وعلى منهاج مقنن محرر، تقديرًا من عزيز عليم.
{ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى } (3) أي: إلى يوم القيامة.
{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ } أي: الذي فعل هذا هو الرب العظيم، الذي لا إله غيره، { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } أي: من الأنداد والأصنام التي هي على صورة من تزعمون (4) من الملائكة المقربين، { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } .
__________
(1) في ت، س: "وترى الفلك مواخر فيه". ولعلهما أرادا الآية: 14 من سورة النحل.
(2) في ت، أ: "فيزيد في قصر هذا".
(3) في ت، س: "إلى أجل مسمى".
(4) في س: "يزعمون".

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)

قال ابن عباس ، ومجاهد، وعِكْرِمَة، وعطاء وعطية العَوْفي، والحسن، وقتادة وغيرهم: القطمير: هو اللفافة التي تكون على نواة التمرة، أي: لا يملكون من السموات والأرض شيئًا، ولا بمقدار هذا القطمير.
ثم قال: { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ } يعني: الآلهة التي تدعونها من دون الله لا يسمعون (1) دعاءكم (2) ؛ لأنها جماد لا أرواح فيها { وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } أي: لا يقدرون (3) على ما تطلبون منها، { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } ، أي: يتبرؤون منكم، كما قال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [الأحقاف: 5، 6] ، وقال: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [مريم: 81، 82] .
وقوله: { وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } أي: ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه، مثلُ خبير بها.
قال قتادة: يعني نفسه تبارك وتعالى، فإنه أخبر بالواقع لا محالة.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) } .
يخبر تعالى بغنائه عما سواه، وبافتقار المخلوقات كلها إليه، وتذللها بين يديه، فقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ } أي: هم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات، وهو الغني عنهم بالذات؛ ولهذا قال: { وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } أي: هو المنفرد (4) بالغنى وحده لا شريك له، وهو الحميد في جميع ما يفعله ويقوله، ويقدره ويشرعه.
وقوله: { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } أي: لو شاء لأذهبكم أيها الناس وأتى بقوم غيركم، وما هذا عليه بصعب ولا ممتنع؛ ولهذا قال: { وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } .
وقوله: { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي: يوم القيامة، { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا } أي: وإن تدع نفس مثقلة بأوزارها إلى أن تُسَاعَد على حمل ما عليها من الأوزار أو بعضه، { لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } ، أي: ولو كان قريبًا إليها، حتى ولو كان أباها أو ابنها، كل مشغول بنفسه وحاله، [كما قال تعالى: { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } ] [عبس: 34-37] . (5)
قال (6) عكرمة في قوله: { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا } الآية، قال: هو الجار يتعلق بجاره يوم
__________
(1) في ت، أ: "يسمعوا".
(2) في أ: "دعاءهم".
(3) في ت: "يقيمون".
(4) في ت، س: "المتفرد".
(5) زيادة من ت.
(6) في ت: "كما قال".

القيامة، فيقول: يا رب، سل هذا: لم كان يغلق بابه دوني. وإن الكافر ليتعلق بالمؤمن يوم القيامة، فيقول له: يا مؤمن، إن لي عندك يدًا، قد عرفت كيف كنت لك في الدنيا؟ وقد احتجت إليك اليوم، فلا يزال المؤمن يشفع له عند ربه حتى يرده إلى [منزل دون] (1) منزله (2) ، وهو في النار. وإن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة، فيقول: يا بني، أيّ والد كنتُ لك؟ فيثني خيرا، فيقول له: يا بني إني قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى. فيقول له ولده: يا أبت، ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل ما تتخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا، ثم يتعلق بزوجته فيقول: يا فلانة -أو: يا هذه-أي زوج كنت لك؟ فتثني خيرا، فيقول لها: إني أطلب إليك حسنة واحدة تَهَبِينَها لي، لعلي أنجو بها مما ترين. قال: فتقول: ما أيسر ما طلبت. ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا، إني أتخوف مثل الذي تتخوف، يقول الله: { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا } (3) الآية، ويقول الله: { لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا } [لقمان: 33] ، ويقول تعالى: { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } رواه ابن أبي حاتم رحمه الله، عن أبي عبد الله الطهراني (4) ، عن حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عِكْرِمة، به.
ثم قال: { إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } (5) أي: إنما يتعظ بما جئت به أولو البصائر والنهى، الخائفون من ربهم، الفاعلون ما أمرهم به، { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } أي: ومَنْ عمل صالحا فإنما يعود نفعه على نفسه، { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } أي: وإليه المرجع والمآب، وهو سريع الحساب، وسيجزي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرًّا فشر.
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) في ت: "في منزلة دون منزلته".
(3) زيادة من ت، س، أ.
(4) في أ: "الطبراني".
(5) في س: "ينذر".

وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)

{ وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) } .
يقول تعالى: كما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة، كالأعمى والبصير لا يستويان، بل بينهما فرق وبون كثير، وكما لا تستوي الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور، كذلك لا تستوي الأحياء ولا الأموات، وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين وهم الأحياء، وللكافرين وهم الأموات، كقوله تعالى: { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [الأنعام: 122] ،

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)

وقال تعالى: { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا } [هود: 24] فالمؤمن سميع بصير في نور يمشي، على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة، حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال والعيون، والكافر أعمى أصم، في ظلمات يمشي، لا خروج له منها، بل هو يتيه في غَيِّه وضلاله في الدنيا والآخرة، حتى يفضي به ذلك إلى الحرور والسموم والحميم، { وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ } [الواقعة: 43، 44] .
وقوله: { إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ } أي: يهديهم إلى سماع الحجة وقبولها والانقياد لها { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } أي: كما لا [يسمع و] (1) ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم، وهم كفار بالهداية والدعوة إليها، كذلك هؤلاء المشركون الذين كُتِب عليهم الشقاوة لا حيلةَ لك فيهم، ولا تستطيع هدايتهم.
{ إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ } أي: إنما عليك البلاغ والإنذار، والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } أي: بشيرًا للمؤمنين ونذيرًا للكافرين، { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } أي: وما من أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله إليهم النُّذر، وأزاح عنهم العلل، كما قال تعالى: { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [الرعد: 7] ، وكما قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } الآية [النحل:136] ، والآيات في هذا كثيرة.
وقوله تبارك وتعالى: { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } وهي: المعجزات الباهرات، والأدلة القاطعات، { وَبِالزُّبُرِ } وهي الكتب، { وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } أي: الواضح البين.
{ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: ومع هذا كله كَذّب أولئك رسلَهم فيما جاؤوهم به، فأخذتهم، أي: بالعقاب والنكال، { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي: فكيف رأيت (2) إنكاري عليهم عظيما شديدًا بليغا؟
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) }
يقول تعالى منبها على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشيء الواحد، وهو الماء الذي ينزله من السماء، يخرج به ثمرات مختلفا ألوانها، من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض، إلى غير ذلك من ألوان الثمار، كما هو المشاهد من تنوع ألوانها وطعومها وروائحها، كما قال تعالى في الآية الأخرى: { وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى (3) بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الرعد: 4] .
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) في ت: "رأيت كان".
(3) في ت، س: "تسقى".

وقوله تبارك وتعالى: { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا } أي: وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان، كما هو المشاهد أيضا من بيض وحمر، وفي بعضها طرائق -وهي: الجُدَد، جمع جُدّة-مختلفة الألوان أيضا.
قال ابن عباس، رضي الله عنهما: الجُدَد: الطرائق. وكذا قال أبو مالك، والحسن، وقتادة، والسدي . (1)
ومنها { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } ، قال عكرمة: الغرابيب: الجبال الطوال السود. وكذا قال أبو مالك، وعطاء الخراساني وقتادة.
وقال ابن جرير: والعرب إذا وصفوا الأسود بكثرة السواد، قالوا: أسود غربيب.
ولهذا قال بعض المفسرين في هذه الآية: هذا من المقدم والمؤخر في قوله تعالى: { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } أي: سود غرابيب. وفيما قاله نظر.
وقوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ } أي: [و] (2) كذلك الحيوانات من الأناسي والدواب -وهو: كل ما دب على قوائم-والأنعام، من باب عطف الخاص على العام. كذلك هي مختلفة أيضا، فالناس منهم بربر وحُبُوش وطُمَاطم في غاية السواد، وصقالبة وروم في غاية البياض، والعرب بين ذلك، والهنود دون ذلك؛ ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى: { وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ } [الروم: 22] . وكذلك الدواب والأنعام مختلفة الألوان، حتى في الجنس الواحد، بل النوع الواحد منهن مختلف الألوان، بل الحيوان الواحد يكون أبلق، فيه من هذا اللون وهذا اللون، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وقد قال (3) الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا الفضل بن سهل، حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح، حدثنا زياد بن عبد الله، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أيصبغ ربك؟ قال: "نعم صبغا لا يُنفَض، أحمر وأصفر وأبيض" . (4) ورُوي مرسلا وموقوفا، والله أعلم.
ولهذا قال تعالى بعد هذا: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } أي: إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى -كلما كانت المعرفة به أتمّ والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } قال: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير.
وقال ابن لَهِيعَة، عن ابن أبي عمرة، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس (5) قال: العالم بالرحمن (6) مَنْ لم يشرك به شيئا، وأحل حلاله، وحرم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله.
__________
(1) في ت: "وكذلك قال غيره".
(2) زيادة من ت، س، أ.
(3) في ت: "وقد روى".
(4) مسند البزار برقم (2944) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (5/128): "وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط".
(5) في ت: "وعنه".
(6) في أ: "بالرحمن من عباده".

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)

وقال سعيد بن جبير: الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل.
وقال الحسن البصري: العالم مَن خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغب الله فيه، وزهد فيما سَخط الله فيه، ثم تلا الحسن: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } .
وعن ابن مسعود، رضي الله عنه، أنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن (1) كثرة الخشية.
وقال أحمد بن صالح المصري، عن ابن وهب، عن مالك قال: إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب.
قال أحمد بن صالح المصري (2) : معناه: أن الخشية لا تدرك بكثرة الرواية، وأما العلم الذي فرض (3) الله، عز وجل، أن يتبع فإنما هو الكتاب والسنة، وما جاء عن الصحابة، رضي الله عنهم، ومن بعدهم من أئمة المسلمين، فهذا لا يدرك إلا بالرواية ويكون تأويل قوله: "نور" يريد به فهم العلم، ومعرفة معانيه.
وقال سفيان الثوري، عن أبي حيان [التميمي] (4) ، عن رجل قال: كان يقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله. فالعالم بالله وبأمر الله: الذي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض. والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله: الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض. والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله: الذي يعلم الحدود والفرائض، ولا يخشى الله عز وجل.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) } .
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه ويؤمنون به ويعملون بما فيه، من إقام الصلاة، والإنفاق مما رزقهم الله في الأوقات المشروعة ليلا ونهارا، سرا وعلانية، { يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ } أي: يرجون ثوابا عند الله لا بد من حصوله. كما قدمنا في أول التفسير عند فضائل القرآن أنه يقول لصاحبه: "إن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة" ؛ ولهذا قال تعالى: { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } أي: ليوفيهم ثواب ما فعلوه ويضاعفه لهم بزيادات لم تخطر لهم، { إِنَّهُ غَفُورٌ } أي: لذنوبهم، { شَكُورٌ } للقليل من أعمالهم.
قال قتادة: كان مُطَرف، رحمه الله، إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القراء.
__________
(1) في ت، س: "من".
(2) في ت: "المري".
(3) في ت، س: "فرضه".
(4) زيادة من ت، س، أ.

قال (1) الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حيوة، حدثنا سالم بن غيلان أنه سمع دَرَّاجا أبا السمح يحدث عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخُدْريّ، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى (2) إذا رضي عن العبد أثنى عليه سَبْعةَ (3) أصناف من الخير لم يعمله، وإذا سخط على العبد أثنى عليه سَبْعة (4) أصناف من الشر لم يعمله (5) ، غريب جدا.
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) في أ: "عز وجل".
(3) في ت، س، أ: "بسبعة".
(4) في ت، س، أ: "بسبعة".
(5) المسند (3/38) ودراج له مناكير وروايته عن أبي الهيثم ضعيفة.

وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)

{ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) } .
يقول تعالى: { وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } يا محمد من الكتاب، وهو القرآن { هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي: من الكتب المتقدمة يصدقها، كما شهدت (1) له بالتنويه (2) ، وأنه منزل من رب العالمين.
{ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } أي: هو خبير بهم، بصير بمن يستحق ما يفضله به على مَنْ سواه. ولهذا فضل الأنبياء والرسل على جميع البشر، وفضل النبيين بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، وجعل منزلة محمد صلى الله عليه وسلم فوق جميعهم، صلوات الله عليهم أجمعين.
{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) } .
يقول تعالى: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم، المصدق لما بين يديه من الكتب، الذين اصطفينا من عبادنا، وهم هذه الأمة، ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع (3) ، فقال: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } وهو: المفرط في فعل بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات. { وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ } وهو: المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات. { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } وهو: الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ [ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ] } (4) ، قال: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وَرَّثهم الله كل كتاب (5) أنزله، فظالمهم يُغْفَر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، وعبد الرحمن بن معاوية العُتْبِيّ قالا حدثنا أبو الطاهر بن السرح، حدثنا موسى بن عبد الرحمن الصنعاني، حدثني ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن (6) ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم: "شفاعتي لأهل الكبائر من
__________
(1) في ت، س، أ: "شهدت هي".
(2) في ت، أ: "بالنبوة".
(3) في ت: "أقسام".
(4) زيادة من ت، س.
(5) في ت: "ورثهم الله كتابا".
(6) في ت: "وروى القاسم الطبراني بسنده إلى".

أمتي". قال ابن عباس: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم . (1)
وهكذا (2) رُوي عن غير واحد من السلف: أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين، على ما فيه من عوج وتقصير.
وقال آخرون: بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة، ولا من المصطفين الوارثين الكتاب.
قال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو (3) ، عن ابن عباس، رضي الله عنهما : (4) { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } قال: هو الكافر. وكذا رَوَى عنه عكرمة، وبه قال عكرمة أيضا فيما رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } قال: هم أصحاب المشأمة.
وقال مالك عن زيد بن أسلم، والحسن، وقتادة: هو المنافق.
ثم قد قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: وهذه الأقسام الثلاثة كالأقسام الثلاثة المذكورة في أول سورة "الواقعة" وآخرها.
والصحيح: أن الظالم لنفسه من هذه الأمة وهذا اختيار ابن جرير كما هو ظاهر الآية، وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من طرق يشد بعضها بعضا، ونحن نورد منها ما تيسر:
الحديث الأول: قال (5) الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الوليد بن العيزار، أنه سمع رجلا من ثقيف يُحَدِّث عن رجل من كنانة، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } ، قال: "هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة" . هذا (6) حديث غريب من هذا الوجه وفي إسناده من لم يسمّ، وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث شعبة، به نحوه . (7)
ومعنى قوله: "بمنزلة واحدة" أي: في أنهم من هذه الأمة، وأنهم من أهل الجنة، وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة.
الحديث الثاني: قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا أنس بن عياض الليثي أبو ضَمْرة، عن موسى بن عقبة، عن [علي] (8) بن عبد الله الأزدي، عن أبي الدرداء، (9) رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } ، فأما الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك (10) يحاسبون حسابا يسيرا، وأما
__________
(1) المعجم الكبير (11/189) وابن جرير مدلس وقد عنعن.
(2) في ت، س: "وكذا".
(3) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
(4) في ت، س: "عنه".
(5) في ت: "رواه".
(6) في ت: "وهذا".
(7) المسند (3/78) وتفسير الطبري (22/90).
(8) زيادة من س، أ.
(9) في ت: "رواه الإمام أحمد بسنده عن أبي الدرداء".
(10) في أ: "فأولئك الذين".

الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم (1) برحمته، فهم الذين يقولون: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } (2) .
طريق أخرى: (3) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أسيد بن عاصم، حدثنا الحسين بن حفص، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن رجل، عن أبي ثابت، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } قال: "فأما الظالم لنفسه فيحبس حتى يصيبه الهم والحزن، ثم يدخل الجنة".
ورواه ابن جرير من حديث سفيان الثوري، عن الأعمش قال: ذكر أبو ثابت أنه دخل المسجد، فجلس إلى جنب أبي الدرداء، فقال: اللهم، آنس وحشتي، وارحم غربتي، ويسر لي جليسا صالحا. قال أبو الدرداء: لئن كنت صادقا لأنا أسعد بك منك، سأحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحدث به منذ سمعته منه، ذكر هذه الآية: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } ، فأما السابق بالخيرات فيدخلها بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا، وأما الظالم لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغم والحزن، وذلك قوله: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } (4) .
الحديث الثالث: قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس، حدثنا ابن مسعود، أخبرنا سهل بن عبد ربه (5) الرازي، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن ابن أبي ليلى، عن أخيه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى (6) ، عن أسامة بن زيد: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } الآية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلهم من هذه الأمة" . (7)
الحديث الرابع: قال (8) ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عَزيز، حدثنا سلامة، عن عَقِيل، عن ابن شهاب، عن عَوْف (9) بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمتي ثلاثة أثلات: فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة، وثلث يُمَحَّصون ويكشفون، ثم تأتي الملائكة فيقولون: وجدناهم يقولون: "لا إله إلا الله وحده". يقول الله عز وجل: صدقوا، لا إله إلا أنا، (10) أدخلوهم الجنة بقولهم: "لا إله إلا الله وحده" واحملوا خطاياهم على أهل النار، وهي التي قال الله تعالى: { وَلَيَحْمِلُنَّ (11) أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ } [العنكبوت: 13] ،وتصديقها في التي فيها ذكر الملائكة، قال الله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } فجعلهم ثلاثة أنواع (12) ، وهم أصناف كلهم، فمنهم ظالم
__________
(1) في ت، س، أ: "تلافاهم الله".
(2) المسند (5/198).
(3) في ت: "وروي من طريق أخرى".
(4) تفسير الطبري (22/90) ورواه الحاكم في المستدرك (2/426) ومن طريقه البيهقي في البعث برقم (62) من طريق الأعمش، به.
(5) في أ: "عبد الله".
(6) في ت: "رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني بإسناده".
(7) المعجم الكبير (1/167) وقد وقع في إسناده سقط، ورواه البيهقي في البعث برقم (64) من طريق محمد بن سعيد، عن عمرو بن أبي قيس، عن ابن أبي ليلى، عن أخيه عيسى، عن أبيه، عن أسامة بن زيد، به، ورواه أيضا برقم (63) من طريق حصين بن نمير عن ابن أبي ليلى، عن أخيه، عن أبيه، عن أسامة بن زيد، بنحوه.
(8) في ت: "رواه".
(9) في أ: "أنس".
(10) في س: "إلا الله".
(11) في س: "ولتحملن".
(12) في ت، س: "أفواج".

لنفسه، فهذا الذي يكشف ويمحص". غريب جدا . (1)
أثر عن ابن مسعود: قال ابن جرير: حدثني ابن حميد، حدثنا الحكيم بن بشير، عن عمرو بن قيس، عن عبد الله بن عيسى، عن يزيد بن الحارث، عن شَقِيق أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول: ما هؤلاء؟ -وهو أعلم تبارك وتعالى-فتقول الملائكة: هؤلاء جاءوا بذنوب عظام، إلا أنهم لم يشركوا بك فيقول الرب عز وجل: أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي: وتلا عبد الله هذه الآية: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ] } (2) الآية.
أثر آخر: قال أبو داود الطيالسي، عن الصلت بن دينار أبو شُعيب (3) ، عن عقبة بن صُهْبَان الهُنَائي قال: سألت عائشة، رضي الله عنها، عن قول الله: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } الآية، فقالت لي: يا بني، هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحياة والرزق، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم. قال: فجعلت نفسها معنا . (4)
وهذا منها، رضي الله عنها، من باب الهَضْم والتواضع، وإلا فهي من أكبر السابقين بالخيرات؛ لأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.
وقال عبد الله بن المبارك، رحمه الله: قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه: في قوله تعالى: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } قال: هي لأهل بدونا، ومقتصدنا أهل حضرنا، وسابقنا أهل الجهاد. رواه ابن أبي حاتم.
وقال عَوْف الأعرابي: حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: حدثنا كعب الأحبار قال: إن الظالم لنفسه من هذه الأمة، والمقتصد والسابق بالخيرات كلهم في الجنة، ألم تر أن الله تعالى قال: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } إلى قوله: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ } قال: فهؤلاء أهل النار.
[و] (5) رواه ابن جرير من طرق، عن عوف، به. ثم قال:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، أخبرنا حميد، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث، عن أبيه أن ابن عباس سأل كعبا (6) عن قوله: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } إلى قوله: { بِإِذْنِ اللَّهِ } قال: تماسَّت مناكبهم ورَب كعب (7) ، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم.
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (18/80) من طريق محمد بن عزيز، به، وقال الهيثمي في المجمع (7/96): "فيه سلامة بن روح وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات".
(2) زيادة من أ.
(3) في هـ، س: "دينار بن الأشعث" ، وفي أ: "عن الأشعث"، والمثبت من مسند الطيالسي.
(4) مسند الطيالسي برقم (1489).
(5) زيادة من ت.
(6) في ت: "ثم روي عن ابن عباس أنه سأل كعبا".
(7) في أ: "الكعبة".

ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا الحكم بن بشير، حدثنا عمرو بن قيس، عن أبي إسحاق السَّبِيعي في هذه الآية: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } الآية، قال أبو إسحاق: أما ما سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج.
ثم قال: حدثنا ابن حميد، حدثنا الحكم، حدثنا عمرو، عن (1) محمد بن الحنفية قال: إنها أمة مرحومة، الظالم مغفور له، والمقتصد في الجنان عند الله، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله.
ورواه الثوري، عن إسماعيل بن سَمِيع، عن رجل، عن محمد بن الحنفية، بنحوه.
وقال أبو الجارود: سألت محمد بن علي -يعني: الباقر-عن قوله: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } فقال: هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا.
فهذا ما تيسر من إيراد الأحاديث والآثار المتعلقة بهذا المقام. وإذا تقرر هذا فإن الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة من هذه الأمة، فالعلماء أغبط الناس بهذه النعمة، وأولى الناس بهذه الرحمة، فإنهم كما قال الإمام أحمد، رحمه الله:
حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا عاصم بن رجاء بن حَيْوَة (2) ، عن قيس بن كثير قال: قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء -وهو بدمشق-فقال: ما أقدمك أيْ أخي؟ قال: حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أما قدمت لتجارة؟ قال: لا. قال: أما قدمت لحاجة؟ قال: لا؟ قال: أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال: نعم. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقا يطلب فيه (3) علمًا، سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، (4) وإنه ليستغفر للعالم مَنْ في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر".
وأخرجه (5) أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث كثير بن قيس -ومنهم من يقول: قيس بن كثير-عن أبي الدرداء (6) . وقد ذكرنا طرقه واختلاف الرواة فيه في شرح "كتاب العلم" من "صحيح البخاري"، ولله الحمد والمنة.
وقد تقدم في أول "سورة طه" حديث ثعلبة بن الحكم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى يوم القيامة للعلماء: إني لم أضع علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد [أن] (7) أغفر لكم، على ما كان منكم، ولا أبالي" . (8)
__________
(1) في ت: "وعن".
(2) في ت: "كما روى الإمام أحمد رحمه الله بإسناده".
(3) في س: "فيها".
(4) في أ: "العلم رضا بما يصنع".
(5) في ت: "رواه".
(6) المسند (5/196) وسنن أبي داود برقم (3641) وسنن الترمذي برقم (2682) وسنن ابن ماجه برقم (223).
(7) زيادة من ت، س، أ.
(8) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية (2) من سورة طه.

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)

{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) } .
يخبر تعالى أن مأوى هؤلاء المصطفين من عباده، الذين أورثوا الكتاب المنزل من رب العالمين يوم القيامة { جَنَّاتُ عَدْنٍ } أي: جنات الإقامة يدخلونها يوم معادهم وقدومهم على ربهم، عز وجل، { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا } ، كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تبلغ الحلية (1) من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" . (2)
{ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } ولهذا كان محظورا عليهم في الدنيا، فأباحه الله لهم في الدار الآخرة، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". وقال: "[لا تشربوا في آنية الذهب والفضة] (3) هي لهم في الدنيا ولكم (4) في الآخرة".
وقال (5) ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن سواد السَّرْحي، أخبرنا ابن وهب، عن ابن لَهِيعَة، عن عقيل بن خالد، عن الحسن، عن أبي هريرة، رضي الله عنه؛ أن أبا أمامة حدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم، وذكر حلي أهل الجنة فقال: "مسورون بالذهب والفضة، مُكَلَّلة بالدّر، وعليهم أكاليل من دُرّ وياقوت متواصلة، وعليهم تاج كتاج الملوك، شباب جُرْدٌ مُردٌ مكحَّلُون" . (6)
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } وهو الخوف من المحذور، أزاحه عنا، وأراحنا مما كنا نتخوفه، ونحذره من هموم الدنيا والآخرة.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس على أهل "لا إله إلا الله" وحشة في قبورهم ولا في منشرهم، وكأني بأهل "لا إله إلا الله" ينفضون التراب عن رؤوسهم، ويقولون: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } رواه ابن أبي حاتم من حديثه . (7)
وقال (8) الطبراني: حدثنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا يحيى بن موسى (9) المروزي، حدثنا سليمان بن عبد الله بن وهب الكوفي، عن عبد العزيز بن حكيم، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على أهل "لا إله إلا الله" وحشة في الموت ولا في قبورهم ولا في النشور . (10) وكأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب، يقولون: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } (11)
__________
(1) في ت: "الحليلة"، وفي أ: "الحلة".
(2) صحيح مسلم برقم (246).
(3) زيادة من ت، أ.
(4) في س: "ولنا".
(5) في ت: "وروى".
(6) ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (267) من طريق علي بن الحسن عن عمرو بن سواد، به. والحسن البصري لم يسمع من أبي هريرة.
(7) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4531) "مجمع البحرين" وابن عدي في الكامل (4/271) من طريق يحيى الحماني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، به. وقال ابن عدي في ترجمة عبد الرحمن بن زيد: "أحاديثه غير محفوظة". وقال المنذري في الترغيب (2/416): "في متنه نكارة".
(8) في ت: وروى.
(9) في هـ، ت، س، أ: "موسى بن يحيى" والصواب ما أثبتناه من الإكمال وتخريج الكشاف للزيلعي.
(10) في س: "منشرهم".
(11) قال الهيثمي في المجمع (10/333): "رواه الطبراني وفيه جماعة لم أعرفهم". ورواه ابن عدي في الكامل (2/65) والبيهقي في البعث برقم (88) من طريق الحسن عن بهلول بن عبيد عن سلمة بن كهيل عن ابن عمر بنحوه، وقال البيهقي: "هذا مرسل عن سلمة بن كهيل وابن عمر، وبهلول تفرد به وليس بالقوي".

وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)

قال ابن عباس، وغيره: غَفَر لهم الكثير (1) من السيئات، وشكر لهم اليسير من الحسنات.
{ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ } : يقولون: الذي أعطانا هذه المنزلة، وهذا المقام من فضله وَمَنِّه (2) ورحمته، لم تكن أعمالنا تساوي ذلك. كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي الله برحمة منه وفضل" . (3)
{ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } أي: لا يمسنا فيها عناء ولا إعياء.
والنصَب واللغوب: كل منهما يستعمل في التعب، وكأن المراد ينفي هذا وهذا عنهم أنهم لا تعب على أبدانهم ولا أرواحهم (4) ، والله أعلم. فمن ذلك أنهم كانوا يُدْئبُون أنفسهم في العبادة في الدنيا، فسقط عنهم التكليف بدخولها، وصاروا في راحة دائمة مستمرة، قال الله تعالى: { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ } [الحاقة: 24] .
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) } .
لما ذكر تعالى حال السعداء، شرع في بيان مآل الأشقياء، فقال: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا } ، كما قال تعالى: { لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا } [طه: 74] . وثبت في صحيح مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أما أهل النار الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون" . (5) قال [الله] (6) تعالى: { وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } [الزخرف: 77] . فهم في حالهم ذلك يرون موتهم راحة لهم، ولكن لا سبيل إلى ذلك، قال الله تعالى: { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } ، كما قال تعالى: { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [الزخرف: 74 ، 75] ، وقال { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [الإسراء: 97]{ فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا } [النبأ: 30] .
ثم قال: { كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } أي: هذا جزاء كل من كفر بربه وكذب بالحق.
وقوله: { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } أي: ينادون فيها، يجأرون إلى الله، عز وجل بأصواتهم: { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } أي: يسألون الرجعة إلى الدنيا، ليعملوا غير عملهم
__________
(1) في أ: "الكبير".
(2) في س: "ومنته".
(3) صحيح البخاري برقم (5673) وصحيح مسلم برقم (2816).
(4) في ت، أ: "ولا على أرواحهم".
(5) صحيح مسلم برقم (185).
(6) زيادة من ت، س.

الأول، وقد علم الرب، جل جلاله، أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا، لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون. فلهذا لا يجيبهم إلى سؤالهم، كما قال تعالى مخبرا عنهم في قولهم: { فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا } [غافر: 11، 12] ، أي: لا يجيبكم إلى ذلك لأنكم كنتم كذلك، ولو رددتم لعدّتم إلى ما نهيتم عنه؛ ولهذا قال هاهنا: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } أي: أوما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟
وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد هاهنا فروي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال: مقدار سبع عشرة سنة.
وقال قتادة : اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نُعَيَّر (1) بطول العمر، قد نزلت هذه الآية: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } ، وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة ، وكذا قال أبو غالب الشيباني.
وقال عبد الله بن المبارك، عن مَعْمَر، عن رجل، عن وهب بن مُنَبِّه في قوله: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } قال: عشرين (2) سنة.
وقال هشيم، عن منصور، عن زاذان، عن الحسن في قوله: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } قال: أربعين سنة.
وقال هُشَيْم [أيضا] (3) ، عن مجاهد، عن الشعبي، عن مسروق أنه كان يقول: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة، فليأخذ حذره من الله عز وجل.
وهذه رواية عن ابن عباس فيما قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس يقول: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } أربعون سنة.
هكذا رواه من هذا الوجه، عن ابن عباس. وهذا القول هو اختيار ابن جرير. ثم رواه من طريق الثوري وعبد الله بن إدريس، كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خثيم (4) ، عن مجاهد (5) ، عن ابن عباس قال: العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } ستون سنة.
فهذه الرواية أصح عن ابن عباس، وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضًا، لما ثبت في ذلك من الحديث -كما سنورده-لا كما زعمه ابن جرير، من أن الحديث لم يصح؛ لأن في إسناده مَنْ يجب التثبت في أمره.
وقد روى (6) أصبغ بن نُباتة، عن علي، رضي الله عنه، أنه قال: العمر الذي عَيَّرهم الله به في قوله تعالى: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } ستون سنة.
__________
(1) في أ: "نغتر".
(2) في ت، س، أ: "عشرون".
(3) زيادة من س.
(4) في أ: "خيثم".
(5) في ت: "وفي رواية أخرى".
(6) في ت: "فروى".

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا دُحَيْم، حدثنا ابن أبي فُدَيْك، حدثني إبراهيم بن الفضل المخزومي، عن ابن أبي حُسَين المكي؛ أنه حدثه عن عَطاء -هو ابن أبي رباح-عن (1) ابن عباس رضي الله عنهما (2) ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله فيه: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِير } .
وكذا رواه ابن جرير، عن علي بن شعيب، عن محمد بن إسماعيل (3) بن أبي فُدَيك، به. وكذا رواه الطبراني من طريق ابن أبي فديك، به (4) . وهذا الحديث فيه نظر؛ لحال إبراهيم بن الفضل، والله أعلم.
حديث آخر: قال (5) الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن رَجُل من بني غفَار، عن سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله إليه، لقد أعذر الله إليه" . (6)
وهكذا رواه الإمام البخاري في "كتاب الرقاق" من صحيحه: حدثنا عبد السلام بن مُطَهَّر، عن عُمَر بن علي، عن مَعْن بن محمد الغفَاري، عن سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعذر الله عز وجل إلى امرئ أخَّر عمره حتى بَلَّغَه ستين سنة". ثم قال البخاري: تابعه أبو حازم وابن عَجْلان، عن سعيد المَقْبُرِيّ . (7)
فأما أبو حازم فقال ابن جرير: حدثنا أبو صالح الفَزَاريّ، حدثنا محمد بن سَوَّار، أخبرنا يعقوب بن عبد الرحمن بن عبد القاريّ الإسكندريّ، حدثنا أبو حازم، عن سعيد المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "[من عَمَّرَه] (8) الله ستين سنة، فقد أعذر إليه في العمر".
وقد رواه الإمام أحمد والنسائي في الرقاق جميعا عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن به . (9)
ورواه البزار قال: حدثنا هشام بن يونس، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة". يعني: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } (10) .
وأما متابعة "ابن عجلان" فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو السفر يحيى بن محمد بن عبد الملك بن قرعة بسامراء، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني محمد بن
__________
(1) في ت: "فقال ابن أبي حاتم بإسناده إلى".
(2) في ت، س: "عنه".
(3) في جميع النسخ: "عن إسماعيل، والمثبت من الطبري".
(4) تفسير الطبري (22/93) والمعجم الكبير للطبراني (11/177) وقال الهيثمي في المجمع (7/97): "وفيه إبراهيم بن الفضل المخزومي وهو ضعيف".
(5) في ت: "وروى".
(6) المسند (2/275).
(7) صحيح البخاري برقم (6419).
(8) زيادة من ت، والطبري.
(9) تفسير الطبري (22/93) والمسند (2/417) والنسائي في السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف للمزي (9/472).
(10) ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي (3/155) من طريق سليمان بن حرب، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، وربما لم يقل: عن سهل، فذكر نحوه دون الآية، والمحفوظ عن أبي هريرة، رضي الله عنه.

عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله، عز وجل، إليه في العمر". وكذا رواه الإمام أحمد عن أبي عبد الرحمن هو المقرئ (1) ، به . (2) ورواه أحمد أيضًا عن خلف عن أبي مَعْشَر، عن سعيد المَقْبُرِيّ.
طريق أخرى عن أبي هريرة: قال ابن جرير: حدثني أحمد بن الفرج أبو عُتْبَة (3) الحِمْصِي، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، حدثنا المطرف بن مازن الكناني، حدثني مَعْمَر بن راشد قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن الغفَاري يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أعذر الله عز وجل، إلى صاحب الستين سنة والسبعين" . (4)
فقد صح هذا الحديث من هذه الطرق، فلو لم يكن (5) إلا الطريق التي ارتضاها أبو عبد الله البخاري شيخ هذه الصناعة لكفت. وقول ابن جرير:(إن في رجاله بعض من يجب التثبت في أمره)، لا يلتفت إليه مع تصحيح البخاري، والله أعلم.
وذكر بعضهم أن العمر الطبيعي عند الأطباء مائة وعشرون سنة، فالإنسان لا يزال في ازدياد إلى كمال الستين، ثم يشرع بعد هذا في النقص والهرم، كما قال الشاعر:
إذَا بَلَغَ الفتَى ستينَ عَاما ... فقد ذَهَبَ المَسَرَّةُ والفَتَاءُ (6)
ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله إلى عباده به، ويزيح به عنهم العلل، كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة، كما ورد بذلك الحديث، قال الحسن بن عرفة، رحمه الله:
حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم مَن يجوز ذلك".
وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعا في كتاب الزهد، عن الحسن بن عرفة، به. ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه (7) .
وهذا عَجَب من الترمذي، فإنه قد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا من وجه آخر وطريق أخرى، عن أبي هريرة حيث قال:
حدثنا سليمان (8) بن عمر، عن محمد بن ربيعة، عن كامل أبي العلاء، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك".
وقد رواه الترمذي في "كتاب الزهد" أيضا، عن إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن محمد بن ربيعة، به . (9) ثم قال: هذا حديث حسن غريب، من حديث أبي صالح عن أبي هريرة، وقد
__________
(1) في أ: "المقبري".
(2) المسند (2/320).
(3) في أ: "أبو عيينة".
(4) تفسير الطبري (22/93).
(5) في س: "لم تكن".
(6) البيت نسبه أبو عبيدة للربيع بن ضبع الفزاري مستفادا من حاشية طبعة الشعب.
(7) سنن الترمذي برقم (3550) وسنن ابن ماجه برقم (4236).
(8) في أ: "سليم".
(9) سنن الترمذي برقم (2331).

روي من غير وجه عنه. هذا نصه بحروفه في الموضعين، والله أعلم.
وقال (1) الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو موسى الأنصاري، حدثنا ابن أبي فُدَيْك، حدثني إبراهيم بن الفضل -مولى بني مخزوم-عن المَقْبُريّ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُعْتَرك المنايا ما بين الستين إلى السبعين".
وبه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقل أمتي أبناء سبعين". إسناده ضعيف . (2)
حديث آخر في معنى ذلك: قال (3) الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:
حدثنا إبراهيم بن هانئ، حدثنا إبراهيم بن مهدي، حدثنا عثمان بن مطر، عن أبي مالك، عن رِبْعِي عن حذيفة أنه قال: يا رسول الله، أنبئنا بأعمار أمتك. قال: "ما بين الخمسين إلى الستين" قالوا: يا رسول الله، فأبناء السبعين؟ قال: "قَلّ مَنْ يبلغها من أمتي، رحم الله أبناء السبعين، ورحم الله أبناء الثمانين".
ثم قال البزار: لا يروى بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد، وعثمان بن مطر من أهل البصرة ليس بقوي . (4)
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثا وستين سنة. وقيل: ستين. وقيل: خمسًا وستين سنة. والمشهور الأول، والله أعلم.
وقوله: { وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ } : روي عن ابن عباس، وعِكْرِمَة، وأبي جعفر الباقر، وقتادة، وسفيان بن عُيَيْنَة أنهم قالوا: يعني: الشيب.
وقال السُّدِّيّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني به الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن زيد: { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى } [النجم: 56] . وهذا هو الصحيح عن قتادة، فيما رواه شيبان، عنه أنه قال: احتج عليهم بالعمر والرسل.
وهذا اختيار ابن جرير، وهو الأظهر؛ لقوله تعالى: { وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [الزخرف: 77 ، 78] ، أي: لقد بينا لكم الحق على ألسنة الرسل، فأبيتم وخالفتم، وقال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [الإسراء: 15] ، وقال تبارك وتعالى: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ } [الملك: 8، 9] .
وقوله: { فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } أي: فذوقوا عذابَ النار جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعماركم، فما لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال والأغلال.
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) مسند أبي يعلى (11/422، 423) وفيه إبراهيم بن الفضل وهو متروك.
(3) في ت: "وروى".
(4) مسند البزار برقم (3586) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (10/206): "وفيه عثمان بن مطر وهو ضعيف".

إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)

{ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) }

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)

{ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا (39) } .
يخبر تعالى بعلمه غيب السموات والأرض، وأنه يعلم ما تكنه السرائر وتنطوي عليه الضمائر، وسيجازي كل عامل بعمله.
ثم قال: { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ } أي: يخلف قوم لآخرين قبلهم، وجيل لجيل قبلهم، كما قال: { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } [النمل:62]{ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي: فإنما يعود وبال ذلك (1) على نفسه (2) دون غيره، { وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا } أي: كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله، وكلما استمروا فيه خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، بخلاف المؤمنين فإنهم كلما طال عمر أحدهم وحَسُن عمله، ارتفعت درجته ومنزلته في الجنة، وزاد أجره وأحبه خالقه وبارئه رب العالمين، [فسبحان المقدر المدبر رب العالمين] . (3)
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) } .
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: { أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي: من الأصنام والأنداد، { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ } أي: ليس لهم شيء من ذلك، ما يملكون من قطمير.
وقوله: { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ } أي: أم أنزلنا عليهم كتابا بما يقولون من الشرك والكفر؟ ليس الأمر كذلك، { بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا } أي: بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم، وهي غرور وباطل وزور.
ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره، وما جعل فيهما من القوة الماسكة لهما، فقال: { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا } أي: أن تضطربا عن أماكنهما، كما قال: { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ } [الحج: 65] ، وقال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ } [الروم: 25]{ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ } أي: لا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو، وهو مع ذلك حليم غفور، أي: يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه، وهو يحلم (4) فيؤخر وينظر ويؤجل ولا يَعْجَل، ويستر آخرين ويغفر؛ ولهذا قال: { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } .
__________
(1) في ت، س، أ: "وبال كفره ذلك".
(2) في ت: "وعليه".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت، أ: "يحلم عنهم".

وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا بل منكرًا، فقال: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثني هشام بن يوسف، عن أمية بن شبل، عن الحكم بن أبان، عن عِكْرِمَة، عن (1) أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى، عليه السلام (2) على المنبر قال: "وقع في نفس موسى عليه السلام: هل ينام الله عز وجل فأرسل الله إليه ملكا، فأرقه ثلاثا (3) ، وأعطاه قارورتين، في كل يد قارورة، وأمره أن (4) يحتفظ بهما. قال: فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما (5) عن الأخرى، حتى نام نومه، فاصطفقت يداه فَتَكَسَّرت القارورتان. قال: ضرب الله له مثلا إن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض" . (6)
والظاهر أن هذا الحديث ليس بمرفوع، بل من الإسرائيليات المنكرة فإن موسى عليه السلام أجَلّ من أن يُجَوّز على الله سبحانه وتعالى النوم، وقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز بأنه: { الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } [البقرة:255] . وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القِسْطَ ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" . (7)
وقد قال أبو جعفر بن جرير (8) : حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله -هو ابن مسعود-فقال: من أين جئت؟ قال: من الشام. قال: مَنْ لقيت؟ قال: لقيت كعبًا. قال: ما حدثك كعب؟ قال: حدثني أن السموات تدور على مِنْكَب مَلَك. قال: أفصدقته أو كذبته؟ قال: ما صدقته ولا كذبته. قال: لوددت أنك افتديت مَن رحلتك إليه براحلتك ورَحْلِها، كَذَب كعب. إن الله تعالى يقول: { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ } (9) .
وهذا إسناد صحيح إلى كعب وإلى ابن مسعود. ثم رواه ابن جرير عن ابن حميد، عن جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: ذهب جُنْدب البَجَلي إلى كعب بالشام، فذكر نحوه . (10) وقد رأيت في مصنف الفقيه (11) يحيى بن إبراهيم بن مُزَين الطليطلي، سماه "سير الفقهاء" ، أورد هذا الأثر عن محمد بن عيسى بن الطَّبَّاع، عن وَكِيع، عن الأعمش، به. ثم قال: وأخبرنا زونان -يعني: عبد الملك بن الحسن-عن ابن وهب، عن مالك أنه قال: السماء لا تدور. واحتج بهذه الآية، وبحديث: "إن بالمغرب بابا للتوبة لا يزال مفتوحا حتى تطلع الشمس منه".
__________
(1) في ت: "بسنده إلى أبي هريرة".
(2) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(3) في ت: "ثلثا".
(4) في ت: "بأن".
(5) في س: "أحدهما".
(6) ورواه أبو يعلى في مسنده (12/21) من طريق إسحاق بن إبراهيم، به، وسبق أيضا تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية: 255 من سورة البقرة.
(7) صحيح مسلم برقم (179) وليس في صحيح البخاري، فإن الحافظ ذكره عند تفسير الآية: 255 من سورة البقرة فقال: "وفي الصحيح هكذا بالإفراد".
(8) في ت: "وروى ابن جرير".
(9) تفسير الطبري (22/94).
(10) تفسير الطبري (22/95).
(11) في س، أ: "للفقيه".

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)

قلت: وهذا الحديث في الصحيح، (1) والله أعلم.
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الأرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا (43) } .
يخبر تعالى عن قريش والعرب أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم، قبل إرسال الرسول إليهم: { لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ } أي: من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل. قاله الضحاك وغيره، كقوله تعالى: { أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا } [الأنعام: 156 ، 157] ، (2) وكقوله تعالى: { وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الصافات: 167-170] .
قال الله تعالى: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ } -وهو: محمد صلى الله عليه وسلم-بما أنزل معه من الكتاب العظيم، وهو القرآن المبين، { مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا } ، أي: ما ازدادوا (3) إلا كفرًا إلى كفرهم، ثم بين ذلك بقوله: { اسْتِكْبَارًا فِي الأرْضِ } أي: استكبروا عن اتباع آيات الله، { وَمَكْرَ السَّيِّئِ } أي: ومكروا بالناس في صدِّهم إياهم عن سبيل الله، { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ } [أي: وما يعود وبال ذلك إلا عليهم (4) أنفسهم دون غيرهم.
قال (5) ابن أبي حاتم: ذكر علي بن الحسين، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن أبي زكريا الكوفي عن رجل حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياك ومكر السيئ، فإنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله] (6) ، ولهم من الله طالب" ، (7) ، وقد قال محمد بن كعب القُرَظِي: ثلاث من فعلهن لم ينجُ حتى ينزل به من مكر أو بغي أو نكث، وتصديقها في كتاب الله: { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ } . { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } [يونس: 23] ، { فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } [الفتح: 10] .
وقوله: { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ } يعني: عقوبة الله لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره (8) ، { فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا } أي (9) لا تغير ولا تبدل، بل هي جارية كذلك في كل
__________
(1) لم أعثر على الحديث في الصحيحين، وهو في سنن الترمذي برقم (3536) وصحيح ابن خزيمة برقم (193) والمسند للإمام أحمد (4/240) ما يوافق ذلك من حديث صفوان بن عسال، رضي الله عنه، ولفظه عند ابن خزيمة: "إن بالمغرب بابا مفتوحا للتوبة مسيرته سبعون سنة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها" نحوه.
(2) في ت: "أو يقولوا".
(3) في ت: "ما زادوهم".
(4) في ت: "على".
(5) في ت: "روى".
(6) زيادة من ت، س، أ.
(7) وهذا مرسل ولم أجد مَنْ أخرجه غير ابن أبي حاتم، وقد روى ابن المبارك في الزهد برقم (725) عن الزهري مرسلا نحوه.
(8) في ت: "على تكذيبهم أمره ومخالفتهم رسله".
(9) في ت: "يعني".

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)

مكذب، { وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا } أي: { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ } [الرعد: 11] ، ولا يكشف ذلك عنهم، ويحوله عنهم أحد.
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) } .

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)

{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45) } .
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به من الرسالة: سيروا في الأرض، فانظروا كيف كان عاقبة الذين كذبوا الرسل؟ كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها، فَخُلِيَتْ منهم منازلهم، وسلبوا ما كانوا فيه من النَّعَم بعد كمال القوة، وكثرة العدد والعُدَد، وكثرة الأموال والأولاد، فما أغنى ذلك شيئا، ولا دفع (1) عنهم من عذاب الله من شيء، لما جاء أمر ربك لأنه تعالى لا يعجزه شيء، إذا أراد كونه في السموات والأرض؟ { إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا } أي: عليم بجميع الكائنات، قدير على مجموعها.
ثم قال تعالى: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } أي: لو آخذهم (2) بجميع ذنوبهم، لأهلك جميع أهل الأرض، وما يملكونه من دواب وأرزاق.
قال (3) ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنان، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: كاد الجَعْلُ أن يعذب في جُحْره بذنب ابن آدم، ثم قرأ: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } .
وقال سعيد بن جُبَيْر، والسُّدِّيّ في قوله: { مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } أي: لما سقاهم المطر، فماتت جميع الدواب.
{ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي: ولكن يُنْظرهُم إلى يوم القيامة، فيحاسبهم يومئذ، ويوفي كل عامل بعمله، فيجازي بالثواب أهلَ الطاعة، وبالعقاب أهل المعصية؛ ولهذا قال تعالى: { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا } .
آخر تفسير سورة "فاطر" ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في ت، س: "ولا يدفع".
(2) في ت، أ: "يؤاخذهم".
(3) في ت: "روى".

تفسير سورة يس
[وهي] (1) مكية.
قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا قتيبة وسفيان بن وَكِيع، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرُّؤاسي، عن الحسن بن صالح، عن هارون أبي محمد، عن مقاتل بن حيان، عن قتادة (2) ، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء قلبا، وقلب القرآن يس. ومَنْ قرأ يس كَتَبَ الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات".
ثم قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حُميد بن عبد الرحمن. وهارون أبو محمد شيخ مجهول. وفي الباب عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ولا يصح لضعف إسناده، وعن أبي هريرة منظور فيه . (3)
أما حديث الصديق فرواه الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأصول. (4) وأما حديث أبي هريرة فقال (5) أبو بكر البزار: حدثنا عبد الرحمن بن الفضل، حدثنا زيد -هو ابن الحباب-حدثنا حُميد -هو المكي، مولى آل علقمة-عن عطاء -هو ابن أبي رباح-عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء قلبا، وقلب القرآن يس".
ثم قال: لا نعلم رواه إلا زيد، عن حميد . (6)
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا حجاج بن محمد، عن هشام بن زياد، عن الحسن قال: سمعت أبا هريرة يقول (7) : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ يس في ليلة أصبح مغفورًا له. ومن قرأ: "حم" التي فيها الدخان أصبح مغفورًا له". إسناد (8) جيد . (9)
وقال (10) ابن حبان في صحيحه: حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم -مولى ثقيف-حدثنا الوليد بن شجاع بن الوليد السكوني، حدثنا أبي، حدثنا زياد بن خَيْثَمة، حدثنا محمد بن جُحَادة،
__________
(1) زيادة من ت، س، أ.
(2) في ت: " روى أبو عيسى الترمذي بإسناده".
(3) سنن الترمذي برقم (2887) وقال ابن أبي حاتم في العلل (2/56) بعد ما ذكر الحديث: "قال أبي: مقاتل هذا هو مقاتل بن سليمان رأيت هذا الحديث في أول كتاب وضعه مقاتل وهو حديث باطل لا أصل له. قلت لأبي: مقاتل أدرك قتادة؟ قال: وأكبر من قتادة أبو الزبير".
(4) نوادر الأصول ص (335) ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم (217) والبيهقي في شعب الإيمان برقم (2465) وابن الجوزي في الموضوعات (1/247) من طرق عن إسماعيل بن أبي أويس عن محمد بن عبد الرحمن الجدعاني عن سليمان بن مرقاع عن هلال بن الصلت عن أبي بكر، رضي الله عنه. وقال ابن الجوزى: "هذا الحديث من جميع طرقه باطل لا أصل له".
(5) في ت: "وروى".
(6) مسند البزار برقم (2304) "كشف الأستار".
(7) في ت: "وروى الحافظ أبو يعلى عن أبي هريرة قال".
(8) في ت: "إسناده".
(9) مسند أبي يعلى (11/93) وفي إسناده هشام بن زياد ضعفه الأئمة، وقال ابن حبان: "كان ممن يروى الموضوعات عن الثقات، والمقلوبات عن الأثبات حتى يسبق إلى قلب المستمع أنه كان المعتمد لها، لا يجوز الاحتجاج به". والحسن لم يسمع من أبي هريرة، وانظر التعليق على أبي يعلى عند قوله: "سمعت".
(10) في ت، أ: "وروى".

عن الحسن، عن جُنْدَب بن (1) عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله، غفر له" . (2)
وقد قال (3) الإمام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا معتمر، عن أبيه، عن رجل، عن أبيه، عن معقل بن يَسَار، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البقرة سِنام القرآن وذِرْوَته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا، واستخرجت { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [البقرة: 255] من تحت العرش فوصلت بها -أو: فوصلت بسورة البقرة-ويس قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة، إلا غفر له، واقرؤوها على موتاكم".
وكذا رواه النسائي في "اليوم والليلة" عن محمد بن عبد الأعلى، عن معتمر بن سليمان، به (4) .
ثم قال الإمام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا ابن المبارك، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان -وليس بالنهدي-عن أبيه، عن مَعْقِل بن يَسَار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوها على موتاكم" -يعني: يس.
ورواه أبو داود، والنسائي في "اليوم والليلة" وابن ماجه من حديث عبد الله بن المبارك، به (5) إلا أن في رواية النسائي: عن أبي عثمان، عن معقل بن يسار.
ولهذا قال بعض العلماء: من خصائص هذه السورة: أنها لا تقرأ عند أمر عسير إلا يسره الله. وكأن قراءتها عند الميت لتنزل الرحمة والبركة، وليسهل (6) عليه خروج الروح، والله أعلم.
قال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان قال: كان المشيخة يقولون: إذا قرئت -يعني يس-عند الميت خُفِّف عنه بها . (7)
وقال (8) البزار: حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال: قال النبي (9) صلى الله عليه وسلم: "لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي" -يعني: يس . (10)
__________
(1) في أ: "عن".
(2) صحيح ابن حبان برقم (665) "موارد" والحسن لم يسمع من جندب، قاله أبو حاتم.
(3) في ت: "وروى".
(4) المسند (5/26) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10914) وقد أعله ابن القطان كما في التلخيص لابن حجر (2/104) بثلاث علل: الاضطراب في الإسناد، وبالوقف، وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه. ثم نقل عن الدارقطنى قوله: "هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن، ولا يصحح في الباب حديث".
(5) المسند (5/26) وسنن أبي داود برقم (3121) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10913) وسنن ابن ماجه برقم (1448).
(6) في ت، س: "ولتسهل".
(7) المسند (4/105).
(8) في ت: "وروي".
(9) في ت: "رسول الله".
(10) مسند البزار برقم (2305) "كشف الأستار".

يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)

بسم الله الرحمن الرحيم
{ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) } .
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول "سورة البقرة" ، ورُوي عن ابن عباس وعِكْرِمَة، والضحاك، والحسن وسفيان بن عُيَيْنَة (1) أن "يس" بمعنى: يا إنسان.
وقال سعيد بن جبير: هو كذلك في لغة الحبشة.
وقال مالك، عن زيد بن أسلم: هو اسم من أسماء الله تعالى.
{ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } أي: المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
{ إِنَّكَ } يا محمد { لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي: على منهج ودين قويم، وشرع مستقيم.
{ تَنزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } أي: هذا الصراط والمنهج والدين الذي جئت به مُنزل من رب العزة، الرحيم بعباده المؤمنين، كما قال تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ } [الشورى:52 ، 53].
وقوله تعالى: { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } يعني بهم: العرب؛ فإنه ما أتاهم من نذير من قبله. وذكرهم وحدهم لا ينفي مَنْ عداهم [كما زعمه بعض النصارى] (2) ، كما أن ذكر بعض الأفراد لا ينفي العموم. وقد تقدم ذكر الآيات والأحاديث المتواترة في عموم بعثته، صلوات الله وسلامه عليه، عند قوله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [الأعراف: 158] .
قوله: { لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ } : قال ابن جرير: لقد وجب العذاب على أكثرهم بأن [الله قد] (3) حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون، { فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } بالله، ولا يصدقون رسله.
{ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) }
يقول تعالى: إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جُعل في عنقه غل، فجَمَع يديه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسُه، فصار مقمَحا؛ ولهذا قال: { فَهُمْ مُقْمَحُونَ } والمقمح: هو الرافع رأسه، كما قالت أم زَرْع في كلامها: "وأشرب فأتقمَّح" أي:
__________
(1) في ت: "وعكرمة وغيرهما".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ت، س.

أشرب فأروى، وأرفع رأسي تهنيئا وتَرَوّيا. واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين، وإن كانتا مرادتين، كما قال الشاعر (1) :
فَمَا أدْري إذَا يَمَّمْتُ أرْضًا ... أريد الخَيْرَ أيّهما يَليني ...
أالْخَيْرُ الذي أنَا أبْتَغيه ... أم الشَّرّ الذي لا يَأتَليني ...
فاكتفى بذكر الخير عن ذكر الشر لَمّا دل السياق والكلام عليه، (2) وكذا هذا، لما كان الغُلّ إنما يعرف فيما جَمَع اليدين مع العنق، اكتفى بذكر العنق عن اليدين.
قال العوفي، عن ابن عباس في قوله: { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ } قال: هو كقول الله (3) تعالى: { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } [الإسراء:29] يعني بذلك: أن أيديهم موثقة (4) إلى أعناقهم، لا يستطيعون أن يبسطوها بخير.
وقال مجاهد: { فَهُمْ مُقْمَحُونَ } قال: رافعو (5) رؤوسهم، وأيديهم موضوعة على أفواههم، فهم مغلولون عن كل خير.
وقوله: { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا } : قال مجاهد: عن الحق، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا } قال مجاهد: عن الحق، فهم يترددون. وقال قتادة: في الضلالات.
وقوله: { فَأَغْشَيْنَاهُمْ } أي: أغشينا أبصارهم عن الحق، { فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } أي: لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه.
قال ابن جرير: وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ: "فأعشيناهم" بالعين المهملة، من العشا وهو داء في العين.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: جعل الله هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان، فهم لا يخلصون إليه، وقرأ: { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس: 96 ، 97] ثم قال: من منعه الله لا يستطيع.
وقال عكرمة: قال أبو جهل: لئن رأيتُ محمدًا لأفعلن ولأفعلن، فأنزلت: { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا } إلى قوله: { [فَهُمْ ] لا يُبْصِرُونَ } (6) ، قال: وكانوا يقولون: هذا محمد. فيقول: أين هو أين هو؟ لا يبصره. رواه ابن جرير.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب قال: قال أبو جهل وهم جلوس: إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه (7) كنتم ملوكا، فإذا متم (8) بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم جِنَانٌ خير من جنان الأرْدُن وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح، ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تُعَذَّبون بها. وخرج [عليهم] (9) رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، وفي يده حفنة من تراب، وقد أخذ الله على أعينهم دونه، فجعل يَذُرّها على رؤوسهم، ويقرأ: { يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ }
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (22/98).
(2) في ت: "لما دل عليه السياق".
(3) في ت: "كقوله".
(4) في ت: "موثوقة".
(5) في ت، س: "رافعى".
(6) زيادة من ت، أ.
(7) في ت: " بايعتموه".
(8) في ت: "أنتم".
(9) زيادة من أ.

حتى انتهى إلى قوله: { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } ، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته، وباتوا رُصَدَاء على بابه، حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار، فقال: ما لكم؟ قالوا: ننتظر محمدًا. قال قد خرج عليكم، فما بقي منكم من رجل إلا [قد] (1) وضع على رأسه ترابا، ثم ذهب لحاجته. فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب. قال: وقد بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم قول أبي (2) جهل فقال: "وأنا أقول ذلك: إن لهم مني لذبحا، وإنه أحدهم".
وقوله: { وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي: قد ختم الله عليهم بالضلالة، فما يفيد فيهم الإنذار ولا يتأثرون به.
وقد تقدم نظيرها في أول سورة البقرة، (3) وكما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس:96 ، 97] .
{ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } أي: إنما ينتفع بإنذارك المؤمنون الذين يتبعون الذكر، وهو القرآن العظيم، { وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ } أي: حيث لا يراه أحد إلا الله، يعلم أن الله مطلع عليه، وعالم بما يفعله، { فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ } أي: لذنوبه، { وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } أي: كبير واسع حسن جميل، كما قال: { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [الملك: 12] .
ثم قال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى } أي: يوم القيامة، وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب مَنْ يشاء من الكفار الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة، فيهديهم بعد ذلك إلى الحق، كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب: { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [الحديد: 17] .
وقوله: { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا } أي: من الأعمال.
وفي قوله: { وَآثَارَهُمْ } قولان:
أحدهما: نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك أيضًا، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، كقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل (4) بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومَنْ سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزرُ مَنْ عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا".
رواه مسلم، من رواية شعبة، عن عون بن أبي جُحَيْفة، عن المنذر بن جرير، عن أبيه جرير بن عبد الله البجلي، رضي الله عنه، وفيه قصة مُجْتَابِي النَّمَّار المُضريَّين . (5) ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه، عن يحيى بن سليمان الجعفي، عن أبي المحياة يحيى بن يَعْلَى، عن عبد الملك بن عمير، عن جرير بن عبد الله، فذكر الحديث بطوله، ثم تلا هذه الآية: { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } .
وقد رواه مسلم من رواية أبي عَوَانة، عن عبد الملك بن عمير، عن المنذر بن جرير، عن أبيه، فذكره . (6)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت: "قول أبا" وهو خطأ.
(3) عند تفسير الآية السادسة.
(4) في أ: "يعمل".
(5) صحيح مسلم برقم (1017).
(6) صحيح مسلم برقم (1017).

وهكذا الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: من علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده" . (1)
وقال سفيان الثوري، عن أبي سعيد قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله: (2) { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } قال: ما أورثوا من الضلالة.
وقال ابن لَهِيعَة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير في قوله: { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } يعني: ما أثروا. يقول: ما سنوا من سنة، فعمل (3) بها قوم من بعد موتهم، فإن كان خيرًا فله مثل أجورهم، لا ينقص من أجر مَنْ عمله شيئا، وإن كانت شرًّا فعليه مثل أوزارهم، ولا ينقص من أوزار من عمله شيئًا. ذكرهما ابن أبي حاتم.
وهذا القول هو اختيار البَغَوِيّ . (4)
والقول الثاني: أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية.
قال ابن أبي نَجِيح وغيره، عن مجاهد: { مَا قَدَّمُوا } : أعمالهم. { وَآثَارَهُمْ } قال: خطاهم بأرجلهم. وكذا قال الحسن وقتادة: { وَآثَارَهُمْ } يعني: خطاهم. قال قتادة: لو كان الله تعالى (5) مُغفلا شيئًا من شأنك يا بن آدم، أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله، حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله أو من معصيته، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله، فليفعل.
وقد وَرَدَت في هذا المعنى أحاديث:
الحديث الأول: قال (6) الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا الجُرَيْري، عن أبي نَضْرَة، عن جابر بن عبد الله قال: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: "إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد". قالوا: نعم، يا رسول الله، قد أردنا ذلك. فقال: "يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم".
وهكذا رواه مسلم، من حديث سعيد الجريري وكَهْمس بن الحسن، كلاهما عن أبي نضرة -واسمه: المنذر بن مالك بن قطْعَة العَبْدِي-عن جابر. (7)
الحديث الثاني: قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الوزير الواسطي، حدثنا إسحاق الأزرق، عن سفيان الثوري، عن أبي سفيان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سلَمة في ناحية من المدينة، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد، فنزلت: { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ }
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1631).
(2) في ت: "وعن مجاهد في قوله".
(3) في أ: "يعمل".
(4) معالم التنزيل للبغوي (7/9).
(5) في ت، س، أ: "عز وجل".
(6) في ت: "رواه".
(7) المسند (3/332) وصحيح مسلم برقم (665).

فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إن آثاركم تُكْتبُ". فلم ينتقلوا.
انفرد بإخراجه الترمذي (1) عند تفسير هذه الآية الكريمة، عن محمد بن الوزير، به . (2) ثم قال: "حسن غريب من حديث الثوري" . (3)
ورواه ابن جرير، عن سليمان بن عمر بن خالد الرقي، عن ابن المبارك، عن سفيان الثوري، عن طريف -وهو ابن شهاب أبو سفيان السعدي-عن أبي نضرة، به . (4)
وقد رُوِيَ من غير طريق الثوري، فقال الحافظ أبو بكر البزار:
حدثنا عباد بن زياد الساجي، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا شعبة، عن سعيد الجُرَيري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: إن بني سَلَمة شَكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد، فنزلت: { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } ، فأقاموا في مكانهم.
وحدثنا ابن المثنى (5) ، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
وفيه غرابة من حيث ذكْرُ نزول هذه الآية، والسورة بكمالها مكية، فالله أعلم.
الحديث الثالث: قال ابن جرير:
حدثنا نصر بن علي الجَهْضَمِي، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا إسرائيل، عن سِمَاك، عن عِكْرِمَة، عن (6) ابن عباس قال: كانت منازل الأنصار متباعدة من المسجد، فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد، فنزلت: { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } فقالوا: نثبت مكاننا. هكذا رواه وليس فيه شيء مرفوع . (7)
ورواه الطبراني عن عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، عن محمد بن يوسف الفريابي، عن إسرائيل، عن سِمَاك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد، فأرادوا أن يتحولوا إلى المسجد، فنزلت: { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } فثبتوا في منازلهم . (8)
الحديث الرابع: قال (9) الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثني حُيَيّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال: توفي رجل بالمدينة، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "يا ليته مات في غير مولده". فقال رجل من الناس ولم يا رسول الله؟ فقال رسول الله (10) صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل إذا توفي في غير مولده، قِيس له من مولده إلى منقطع أثره
__________
(1) في أ: "مسلم".
(2) سنن الترمذي برقم (3226).
(3) في ت: "أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب".
(4) تفسير الطبري (22/100).
(5) في س، أ: "وحدثناه محمد بن المثني".
(6) في ت: "رواه ابن جرير بإسناده إلى".
(7) تفسير الطبري (22/100).
(8) المعجم الكبير (12/8) وشيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم ضعيف.
(9) في ت: "رواه".
(10) في ت، س: "النبي".

في الجنة".
ورواه النسائي عن يونس بن عبد الأعلى، وابن ماجه عن حرملة، كلاهما عن ابن وهب، عن حيي بن (1) عبد الله، به . (2)
وقال (3) ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا أبو تُمَيْلَةَ، حدثنا الحسين، عن ثابت قال: مشيت مع أنس فأسرعت المشي، فأخذ بيدي فمشينا رويدًا، فلما قضينا الصلاة قال أنس: مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي، فقال: يا أنس، أما شَعَرْتَ أن الآثار تكتب؟ أما شَعَرْتَ أن الآثار تكتب؟ (4) .
وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك (5) بطريق الأولى والأحرى، فإنه إذا كانت هذه الآثار تُكتَب، فلأن تُكْتَبَ تلك التي فيها قُدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى، والله أعلم.
وقوله: { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } أي: جميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ، والإمام المبين هاهنا هو أم الكتاب. قاله مجاهد، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وكذا في قوله تعالى: { يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [الإسراء: 71] أي: بكتاب أعمالهم الشاهد عليهم بما عملوه من خير و شر، كما قال تعالى: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } [الزمر: 69] ، وقال تعالى: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف: 49] .
__________
(1) في أ: "عن".
(2) المسند (2/177) وسنن النسائي (4/7) وسنن ابن ماجه برقم (1614).
(3) في ت: "وروى".
(4) تفسير الطبري (22/100).
(5) في أ: "ذاك".

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)

{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) } .
يقول تعالى: واضرب -يا محمد-لقومك الذين كذبوك { مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ } .
قال ابن إسحاق -فيما بلغه عن ابن عباس، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه-: إنها مدينة أنطاكية، وكان بها ملك يقال له: أنطيخس بن أنطيخس بن أنطيخس، وكان يعبد الأصنام، فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل، وهم: صادق وصدوق وشلوم، (1) فكذبهم.
__________
(1) في ت: "وشكوم".

قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)

وهكذا رُوي عن بُرَيدة بن الحُصَيب، وعِكْرِمَة، وقتادة، والزهري: أنها أنطاكية.
وقد استشكل بعض الأئمة كونَها أنطاكية، بما سنذكره بعد تمام القصة، إن شاء الله تعالى.
وقوله: { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا } أي: بادروهما بالتكذيب، { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } أي: قويناهما (1) وشددنا أزرهما برسول ثالث.
قال ابن جُرَيْج، عن وهب بن سليمان، عن شعيب الجبائي قال: كان اسم الرسولين الأولين شمعون ويوحنا، واسم الثالث بولص، والقرية أنطاكية.
{ فَقَالُوا } أي: لأهل تلك القرية: { إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ } أي: من ربكم الذي خلقكم، نأمركم بعبادته وحده لا شريك له. قاله أبو العالية.
وزعم قتادة بن دعامة: أنهم كانوا رسل المسيح، عليه السلام، إلى أهل أنطاكية. { قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا } أي: فكيف أوحيَ إليكم وأنتم بشر ونحن بشر، فلم لا أوحيَ إلينا مثلكم؟ ولو كنتم رسلا لكنتم ملائكة. وهذه شبه (2) كثير من الأمم المكذبة، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [التغابن: 6] ، فاستعجبوا (3) من ذلك وأنكروه. وقوله: { قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } [إبراهيم: 10] . وقوله حكاية عنهم في قوله: { وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ } [المؤمنون: 34] ، { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا } ؟ [الإسراء: 94] . ولهذا قال هؤلاء: { مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } أي: أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين: الله يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كَذَبة عليه لانتقم منا أشد الانتقام، ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار، كقوله تعالى: { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [العنكبوت: 52] . (4)
{ وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } يقولون إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم، فإذا أطعتم كانت لكم السعادة في الدنيا والآخرة، وإن لم تجيبوا فستعلمون غِبَّ ذلك ،والله أعلم.
{ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) }
فعند ذلك قال لهم أهل القرية: { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } أي: لم نرَ على وجوهكم خيرًا في عيشنا.
وقال قتادة: يقولون إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم.
وقال مجاهد: يقولون: لم يدخل مثلكم إلى قرية إلا عذب أهلها.
{ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ } : قال قتادة: بالحجارة. وقال مجاهد: بالشتم.
__________
(1) في ت: "قويناهما بثالث".
(2) في ت، س: "شبهة".
(3) في ت، س: "أي استعجبوا".
(4) في ت، س، أ، هـ: "يعلم ما في السموات وما في الأرض" والصواب ما أثبتناه.

وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)

{ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: عقوبة شديدة. فقالت لهم رسلهم: { طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } أي: مردود عليكم، كقوله تعالى في قوم فرعون: { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } [الأعراف: 131] ، وقال قوم صالح: (1) { اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ } [النمل: 47] . وقال قتادة، ووهب بن منبه: أي أعمالكم معكم. وقال تعالى: { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } [النساء: 78] .
وقوله: { أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ } أي: من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له، قابلتمونا بهذا الكلام، وتوعدتمونا وتهددتمونا؟ بل أنتم قوم مسرفون.
وقال قتادة: أي إن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا، بل أنتم قوم مسرفون.
{ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) } .
قال ابن إسحاق -فيما بلغه عن ابن عباس وكعب الأحبار ووهب بن منبه-: إن أهل القرية هَمّوا بقتل رسلهم فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى، أي: لينصرهم من قومه -قالوا: وهو حبيب، وكان يعمل الجرير -وهو (2) الحبال-وكان رجلا سقيما (3) قد أسرع فيه الجذام، وكان كثير الصدقة، يتصدق بنصف كسبه، مستقيم النظرة . (4)
وقال ابن إسحاق عن رجل سماه، عن الحكم، عن مِقْسَم -أو: عن مجاهد-عن ابن عباس قال: [كان] (5) اسم صاحب يس حبيب، وكان الجذام قد أسرع فيه.
وقال الثوري، عن عاصم الأحول، عن أبي مجْلَز: كان اسمه حبيب بن مري.
وقال شبيب بن بشر، (6) عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس [أيضا] (7) قال: اسم صاحب يس حبيب النجار، فقتله قومه.
وقال السدي: كان قَصَّارا. وقال عمر بن الحكم: كان إسكافا. وقال قتادة: كان يتعبد في غار هناك.
{ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ } : يحض قومه على اتباع الرسل الذين أتوهم، { اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا } أي: على إبلاغ الرسالة، { وَهُمْ مُهْتَدُونَ } فيما يدعونكم إليه، من عبادة الله وحده لا شريك له.
__________
(1) في ت، س: "لوط" وفي أ: "شعيب".
(2) في ت، س، أ: "يعنى".
(3) في أ: "مستقيما".
(4) في أ: "الفطرة".
(5) زيادة من ت، س.
(6) في أ: "بشير".
(7) زيادة من ت.

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)

{ وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي } أي: وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني وحده لا شريك له، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي: يوم المعاد، فيجازيكم على أعمالكم، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
{ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً } ؟ استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع، { إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ } أي: هذه الآلهة التي تعبدونها من دونه لا يملكون من الأمر شيئا. فإن الله لو أرادني بسوء، { فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ } [يونس : 107] وهذه الأصنام لا تملك دفع ذلك ولا منعه، ولا ينقذونني مما أنا فيه، { إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي: إن اتخذتها آلهة من دون الله.
وقوله: { إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } : قال ابن إسحاق -فيما بلغه عن ابن عباس وكعب ووهب-يقول لقومه: { إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ } الذي كفرتم به، { فَاسْمَعُونِ } أي: فاسمعوا قولي.
ويحتمل أن يكون خطابه للرسل بقوله: { إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ } أي: الذي أرسلكم، { فَاسْمَعُونِ } أي: فاشهدوا لي بذلك عنده. وقد حكاه ابن جرير فقال: وقال آخرون: بل خاطب بذلك الرسل، وقال لهم: اسمعوا قولي، لتشهدوا لي بما أقول لكم عند ربي، إني [قد] (1) آمنت بربكم واتبعتكم . (2)
وهذا [القول] (3) الذي حكاه هؤلاء أظهر في المعنى، والله أعلم.
قال ابن إسحاق -فيما بلغه عن ابن عباس وكعب ووهب-: فلما قال ذلك وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه.
وقال قتادة: جعلوا يرجمونه بالحجارة، وهو يقول: "اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون". فلم يزالوا به حتى أقعصوه وهو يقول كذلك، فقتلوه، رحمه الله.
{ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) }
__________
(1) زيادة من ت.
(2) تفسير الطبري (22/104).
(3) زيادة من ت.

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)

{ وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) } .
قال محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن ابن مسعود: إنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرج قُصْبُه من دبره وقال الله له: { ادْخُلِ الْجَنَّةَ } ، فدخلها فهو يرزق منها، قد أذهب الله عنه سُقْم الدنيا وحزنها ونَصَبها.
وقال مجاهد: قيل لحبيب النجار: ادخل الجنة. وذلك أنه قُتل فوجبت له (1) ، فلما رأى الثواب { قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ } .
قال قتادة: لا تلقى المؤمن إلا ناصحا، لا تلقاه غاشا؛ لَمَّا عاين [ما عاين] (2) من كرامة الله
__________
(1) في ت، س، أ: "له الجنة".
(2) زيادة من ت، أ.

{ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } . تمنى على الله أن يعلم قومه ما عاين من كرامة الله [له]، (1) وما هجم عليه.
وقال ابن عباس: نصح قومه في حياته بقوله: { يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ } [يس: 20] ، وبعد مماته في قوله: { يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } رواه ابن أبي حاتم.
وقال سفيان الثوري، عن عاصم الأحول، عن أبي مِجْلَز: { بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } بإيماني بربي وتصديقي المرسلين.
ومقصوده أنهم لو اطلعوا على ما حصل من هذا الثواب والجزاء والنعيم المقيم، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل، فرحمه الله ورضي عنه، فلقد كان حريصا على هداية قومه.
قال (2) ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عبيد الله، حدثنا ابن جابر -وهو محمد-عن (3) عبد الملك -يعني: ابن عمير-قال: قال عروة بن مسعود الثقفي للنبي صلى الله عليه وسلم: ابعثني إلى قومي أدعوهم إلى الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أخاف أن يقتلوك". فقال: لو وجدوني نائما ما أيقظوني. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انطلق". فانطلق فمر على اللات والعزى، فقال: لأصبحَنَّك غدًا بما يسوءك. فغضبت ثقيف، فقال: يا معشر ثقيف، إن اللات لا لات، وإن العُزى لا عُزى، أسلموا تسلموا. يا معشر الأحلاف، إن العزى لا عزى، وإن اللات لا لات، أسلموا تسلموا. قال ذلك ثلاث مرات، فرماه رجل فأصاب أكْحَله فقتله، فبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هذا مثله كمثل صاحب يس، { قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } (4)
وقال محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن مَعْمَر بن حَزْم: أنه حدث عن كعب الأحبار: أنه ذكر له حبيب بن زيد بن عاصم -أخو بني مازن بن النجار-الذي كان مسيلمة الكذاب قَطَّعه باليمامة، حين جعل يسأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول: نعم. ثم يقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فيقول له مسيلمة: أتسمع هذا ولا تسمع ذاك؟ فيقول: نعم. فجعل يُقَطِّعه عضوا عضوا، كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه. فقال كعب حين قيل له: اسمه حبيب، وكان والله صاحب يس اسمه حبيب . (5)
وقوله: { وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ } : يخبر تعالى أنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه، غضبًا منه تعالى عليهم؛ لأنهم كذبوا رسله، وقتلوا وليه. ويذكر تعالى: أنه ما أنزل عليهم، وما احتاج في إهلاكه إياهم إلى إنزال جند من الملائكة عليهم، بل الأمر كان أيسر من ذلك. قاله ابن مسعود، فيما رواه ابن إسحاق، عن بعض أصحابه، عنه أنه قال في قوله: { وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ } أي: ما كاثرناهم بالجموع الأمر
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت: "روى".
(3) في أ: "بن".
(4) ورواه الحاكم في المستدرك (3/615) والطبراني في المعجم الكبير (17/148) من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، بنحوه. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (17/148) من طريق موسى بن عقبة، عن الزهري، بنحوه. وقال الهيثمى في المجمع (9/386) : "وكلاهما مرسل، وإسنادهما حسن".
(5) رواه الطبري في تفسيره (22/103).

كان أيسر علينا من ذلك، { إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } قال: فأهلك الله ذلك الملك، وأهلك أهل أنطاكية، فبادوا عن وجه الأرض، فلم يبق (1) منهم باقية.
وقيل: { وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ } أي: وما كنا ننزل الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم، بل نبعث عليهم عذابًا يدمرهم.
وقيل: المعنى في قوله: { وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ } أي: من رسالة أخرى إليهم. قاله مجاهد وقتادة. قال قتادة: فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله، { إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } .
قال ابن جرير: والأول أصح؛ لأن الرسالة لا تسمى جندًا.
قال المفسرون: بعث الله إليهم جبريل، عليه السلام، فأخذ بعضادتي باب بلدهم، ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون عن آخرهم، لم يبق فيهم روح تتردد في جسد.
وقد تقدم عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عند المسيح، عليه السلام، كما نص عليه قتادة وغيره، وهو الذي لم يذكر عن (2) واحد من متأخري المفسرين غيره، وفي ذلك نظر من وجوه:
أحدها: أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله، عز وجل، لا من جهة المسيح، كما قال تعالى: { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ } إلى أن قالوا: { رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [يس: 14-17] . ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح، عليه السلام، والله أعلم. ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم: { مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا } [يس:15] .
الثاني: أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح؛ ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتَاركة، وهن القدس لأنها بلد المسيح، وأنطاكية لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها، والإسكندرية لأن فيها (3) اصطلحوا على اتخاذ البتاركة والمطارنة والأساقفة والقساوسة (4) والشمامسة والرهابين. ثم رومية لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأطَّدَه. ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البترك من رومية إليها، كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم كسعيد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين، فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت، فأهل هذه القرية قد ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله (5) ، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم (6) ، فالله أعلم.
الثالث: أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغير واحد من السلف: أن الله تعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين، ذكروه عند قوله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى } [القصص: 43] . فعلى هذا يتعين أن هذه القرية
__________
(1) في س: "تبق".
(2) في أ: "غير"
(3) في ت، س: "منها".
(4) في ت، س: "القساقسة".
(5) في ت: "رسلهم".
(6) في ت، س: "أخذتهم".

يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)

المذكورة في القرآن [العظيم] (1) قرية أخرى غير أنطاكية، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا. أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة، فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك، والله، سبحانه وتعالى، أعلم.
فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التُّسْتري، حدثنا الحسين بن أبي السري العسقلاني، حدثنا حُسَين الأشقر، حدثنا ابن عُيَيْنة، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن (2) ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السُّبَّق ثلاثة: فالسابق إلى موسى يوشع بن نون، والسابق إلى عيسى صاحب يس، والسابق إلى محمد علي بن أبي طالب" ، (3) فإنه حديث منكر، لا يعرف إلا من طريق (4) حسين الأشقر، وهو شيعي متروك، [والله أعلم] . (5)
{ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) }
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ } أي: يا ويل العباد.
وقال قتادة: { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ } : أي يا حسرة العباد على أنفسها، على ما ضيعت من أمر الله، فرطت في جنب الله. قال: وفي بعض القراءة: "يا حسرة (6) العباد على أنفسها".
ومعنى هذا: يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب، كيف كذبوا رسل الله، وخالفوا أمر الله، فإنهم كانوا في الدار الدنيا المكذبون منهم.
{ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي: يكذبونه ويستهزئون به، ويجحدون ما أرسل به من الحق.
ثم قال تعالى: { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ } أي: ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل، كيف لم تكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة، ولم يكن الأمر كما زعم كثير من جهلتهم وفَجَرتهم من (7) قولهم: { إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا } [المؤمنون: 37] ، وهم القائلون بالدور من الدهرية، وهم الذين يعتقدون جهلا منهم أنهم يعودون إلى الدنيا كما كانوا فيها، فرد الله تعالى عليهم باطلهم، فقال: { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ } .
وقوله: { وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ } أي: وإن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت: "رواه الحافظ الطبراني بإسناده إلى".
(3) المعجم الكبير (11/93) ورواه ابن مردويه في تفسيره، والعقيلي في الضعفاء كما في تخريج الكشاف للزيلعي (3/162) من طريق حسين الأشقر، به، وأعله العقيلي بحسين الأشعري كما ذكر الحافظ ابن كثير هنا وقال: "إنه شيعي متروك ولا يعرف هذا إلا من جهته، وهو حديث منكر".
(4) في أ: "حديث".
(5) زيادة من ت، س.
(6) في ت، س، أ: "حسرة على".
(7) في أ: "مثل".

وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)

للحساب يوم القيام بين يدي الله، عز وجل، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها، ومعنى هذه كقوله تعالى: { وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } [هود: 111] .
وقد اختلف القراء في أداء هذا الحرف؛ فمنهم مَنْ قرأ: "وَإن كل لَمَا" بالتخفيف، فعنده أن "إن" للإثبات، ومنهم مَنْ شدد "لَمَّا"، وجعل "إن" نافية، و "لمَّا" بمعنى "إلا" تقديره: وما كل إلا جميع لدينا محضرون، ومعنى القراءتين واحد، والله أعلم.
{ وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) } .
يقول تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمُ } أي: دلالة لهم على وجود الصانع وقدرته التامة وإحيائه الموتى { الأرْضُ الْمَيْتَةُ } أي: إذا كانت ميتة هامدة لا شيء فيها من النبات، فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج؛ ولهذا قال: { أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } أي: جعلناه رزقا لهم ولأنعامهم، { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ } أي: جعلنا فيها أنهارًا سارحة في أمكنة، يحتاجون إليها ليأكلوا من ثمره. لما امتن على خلقه بإيجاد الزروع لهم عَطَف بذكر الثمار وتنوعها وأصنافها.
وقوله: { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } أي: وما ذاك كله إلا من رحمة الله بهم، لا بسعيهم ولا كدهم، ولا بحولهم وقوتهم. قاله ابن عباس وقتادة؛ ولهذا قال: { أَفَلا يَشْكُرُونَ } ؟ أي: فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى؟ واختار ابن جرير -بل جزم به، ولم يحك غيره إلا احتمالا-أن "ما" في قوله: { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } بمعنى: "الذي"، تقديره: ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم، أي: غرسوه ونصبوه، قال: وهي كذلك في قراءة ابن مسعود { لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ } .
ثم قال: { سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ } أي: من زروع وثمار ونبات. { وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ } فجعلهم ذكرًا وأنثى، { وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ } أي: من مخلوقات شتى لا يعرفونها، كما قال تعالى: { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الذاريات: 49] .
{ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) }
يقول تعالى: ومن الدلالة لهم على قدرته تعالى العظيمة خلق الليل والنهار، هذا بظلامه وهذا

بضيائه، وجعلهما يتعاقبان، يجيء هذا فيذهب هذا، ويذهب هذا فيجيء هذا، كما قال: { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } [الأعراف: 54] ؛ ولهذا قال عز وجل هاهنا: { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ } أي: نصرمه منه فيذهب، فيقبل الليل؛ ولهذا قال: { فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ } كما جاء في الحديث: "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم" . (1)
هذا هو الظاهر من الآية، وزعم قتادة أنها كقوله تعالى: { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } [الحج : 61] وقد ضعف ابن جرير قولَ قتادة هاهنا، وقال: إنما معنى الإيلاج: الأخذ من هذا في هذا، وليس هذا مرادًا في هذه الآية. وهذا الذي قاله ابن جرير حق.
وقوله: { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } ، في معنى قوله: { لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } قولان:
أحدهما: أن المراد: مستقرها المكاني، وهو تحت العرش مما يلي الأرض في ذلك الجانب، وهي أينما كانت فهي تحت العرش وجميع المخلوقات؛ لأنه سقفها، وليس بكرة كما يزعمه كثير من أرباب الهيئة، وإنما هو قبة ذات قوائم تحمله الملائكة، وهو فوق العالم مما يلي رؤوس الناس، فالشمس إذا كانت في قبة الفلك وقت الظهيرة تكون أقرب ما تكون من العرش، فإذا استدارت في فلكها الرابع إلى مقابلة هذا المقام، وهو وقت نصف الليل، صارت أبعد ما تكون من العرش، فحينئذ تسجد وتستأذن في الطلوع، كما جاءت بذلك الأحاديث.
قال البخاري: حدثنا أبو نُعَيْم، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم [التيمي]، (2) عن أبيه، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس، فقال: "يا أبا ذر، أتدري أين تغربُ الشمس؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله: { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } .
حدثنا عبد الله بن الزبير الحُميديّ، حدثنا وَكِيع عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } ، قال: "مستقرها تحت العرش" . (3)
كذا أورده هاهنا. وقد أخرجه في أماكن متعددة (4) ، ورواه بقية الجماعة إلا ابن ماجه، من طرق، عن الأعمش، به. (5)
وقال (6) الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد حين وجبت الشمس، فقال: "يا أبا ذر، أتدري أين تذهب الشمس؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (1954) ومسلم في صحيحه برقم (1100) من حديث عمر رضي الله عنه.
(2) زيادة من ت، س، أ.
(3) صحيح البخاري برقم (4802، 4803).
(4) صحيح البخاري برقم (3199، 7424، 7433).
(5) صحيح مسلم برقم (159) وسنن أبي داود برقم (4002) وسنن الترمذي برقم (3227) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11430).
(6) في ت: "وروى".

ربها عز وجل، فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها، وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت. فترجع إلى مطلعها، وذلك مستقرها، ثم قرأ: { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } (1)
وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: "أتدري أين هذا؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، ويقال لها: ارجعي من حيث جئت. فتطلع من مغربها، فذلك قوله: { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } (2) .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر، عن عبد الله بن عمرو قال في قوله: { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } ، قال: إن الشمس تطلع فتردها ذنوب بني آدم، حتى إذا غربت سلَّمت وسجدت واستأذنت فيؤذن لها، حتى إذا كان يوم غربت فسلمت وسجدت، واستأذنت فلا يؤذن لها، فتقول: إن المسير بعيد وإني إلا يؤذن لي لا أبلغ، فتحبس ما شاء الله أن تحبس، ثم يقال لها: "اطلعي من حيث غربت". قال: "فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفسًا إيمانها، لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرًا" . (3)
وقيل: المراد بقوله: { لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } هو انتهاء سيرها وهو غاية ارتفاعها في السماء في الصيف وهو أوجها، ثم غاية انخفاضها في الشتاء وهو الحضيض.
والقول الثاني: أن المراد بمستقرها هو: منتهى سيرها، وهو يوم القيامة، يبطل سيرها وتسكن حركتها وتكور، وينتهي هذا العالم إلى غايته، وهذا هو مستقرها الزماني.
قال قتادة: { لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } أي: لوقتها ولأجل لا تعدوه.
وقيل: المراد: أنها لا تزال تنتقل في مطالعها الصيفية إلى مدة لا تزيد عليها، يروى هذا عن عبد الله بن عمرو.
وقرأ ابن مسعود، وابن عباس: "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لا مُسْتَقَرَّ لَهَا" أي: لا قرار لها ولا سكون، بل هي سائرة ليلا ونهارًا، لا تفتر ولا تقف. كما قال تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ } [إبراهيم: 33] أي: لا يفتران ولا يقفان إلى يوم القيامة.
{ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ } أي: الذي لا يخالَف ولا يُمانَع، { الْعَلِيم } بجميع الحركات والسكنات، وقد قدر ذلك وقَنَّنَه على منوال لا اختلاف فيه ولا تعاكس، كما قال تعالى: { فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [الأنعام: 96] . وهكذا ختم آية (4) حم السجدة" بقوله: { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [فصلت: 12] . ثم قال: { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } أي: جعلناه يسير سيرًا آخر يستدل به على مضي الشهور، كما أن
__________
(1) المسند (5/152).
(2) في ت: "واسالنا"
(3) تفسير عبد الرزاق (2/115) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (628) من طريق عبد الرزاق.
(4) في ت: "ختم آخر آية".

الشمس يعرف بها الليل والنهار، كما قال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } [البقرة: 189] ، وقال { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } الآية [يونس: 5] ، وقال: { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا } [الإسراء: 12] ، فجعل الشمس لها ضوء يخصها، والقمر (1) له نور يخصه، وفاوت بين سير هذه وهذا، فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره على ضوء واحد، ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفًا وشتاء، يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار، وجعل سلطانها بالنهار، فهي كوكب نهاري. وأما القمر، فقدره منازل، يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلا قليل النور، ثم يزداد نورًا في الليلة الثانية، ويرتفع (2) منزلة، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء، وإن كان مقتبسًا من الشمس، حتى يتكامل نوره (3) في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر، حتى يصير كالعرجون القديم.
قال ابن عباس: وهو أصل العِذْق.
وقال مجاهد: العرجون القديم: أي العذق اليابس.
يعني ابن عباس: أصل العنقود من الرطب إذا عتق ويبس وانحنى، وكذا قال غيرهما. ثم بعد هذا يبديه الله جديدًا في أول الشهر الآخر، والعرب تسمي كل ثلاث (4) ليال من الشهر باسم باعتبار القمر، فيسمون الثلاث الأول "غُرَر" واللواتي بعدها "نفل"، واللواتي بعدها "تُسع"؛ لأن أخراهن التاسعة، واللواتي بعدها "عُشَر"؛ لأن أولاهن العاشرة، واللواتي بعدها "البيض"؛ لأن ضوء القمر فيهن إلى آخرهن، واللواتي بعدهن "دُرَع" جمع دَرْعاء؛ لأن أولهن سُود (5) ؛ لتأخر القمر في أولهن، ومنه الشاة الدرعاء وهي التي رأسها أسود. وبعدهن ثلاث "ظُلم" ثم ثلاث "حَنَادس"، وثلاث "دآدئ" (6) وثلاث "مَحاق"؛ لانمحاق القمر أواخر الشهر فيهن. وكان أبو عُبيد (7) ينكر التُّسع والعشَر. كذا قال في كتاب "غريب المصنف".
وقوله: { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ } : قال مجاهد: لكل منهما حد لا يعدوه ولا يقصر دونه، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا، وإذا ذهب سلطان هذا جاء سلطان هذا.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن الحسن في قوله: { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ } قال: ذلك ليلة الهلال.
وروى ابن أبي حاتم هاهنا عن عبد الله بن المبارك أنه قال: إن للريح جناحًا، وإن القمر يأوي إلى غلاف من الماء.
وقال الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي (8) صالح: لا يدرك هذا ضوء هذا، ولا هذا ضوء هذا . (9)
__________
(1) في س: "وللقمر".
(2) في ت: "فترتفع".
(3) في أ: "ضوؤه".
(4) في ت: "ثلاثه" وهو خطأ.
(5) في ت، أ: "أسود".
(6) في أ: "درارى".
(7) في أ: "أبو عبيدة".
(8) في ت، س: "أبو".
(9) في س: "لا يدرك هذا ضر هذا ولا هذا ضر هذا".

وقال عكرمة في قوله (1) { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ } : يعني: أن لكل منهما سلطانا، فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل.
وقوله: { وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } : يقول: لا ينبغي إذا كان الليلُ أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار، فسلطان الشمس بالنهار، وسلطان القمر بالليل.
وقال الضحاك: لا يذهب الليل من هاهنا حتى يجيء النهار من هاهنا. وأومأ بيده إلى المشرق.
وقال مجاهد: { وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } يطلبان حثيثين، ينسلخ أحدهما من الآخر.
والمعنى في هذا: أنه لا فترة بين الليل والنهار، بل كل منهما يعقب الآخر بلا مهلة ولا تراخ؛ لأنهما مسخران دائبين يتطالبان طلبا حثِيثًا.
وقوله: { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } يعني: الليل والنهار، والشمس والقمر، كلهم يسبحون، أي: يدورون في فلك السماء. قاله ابن عباس، وعِكْرِمة، والضحاك، والحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني . (2)
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: في فلك بين السماء والأرض. رواه ابن أبي حاتم، وهو غريب جدًّا، بل منكر.
قال ابن عباس وغير واحد من السلف: في فَلْكَةٍ كفَلْكَة المغْزَل.
وقال مجاهد: الفَلَك كحديد الرَّحَى، أو كفلكة المغزل، لا يدور المغزل إلا بها، ولا تدور إلا به.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت: "قاله ابن عباس وغيره".

وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)

{ وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) }
يقول تعالى: ودلالة لهم أيضًا على قدرته تعالى: تسخيره البحر ليحمل (1) السفن، فمن ذلك -بل أوله-سفينة نوح، عليه السلام، التي أنجاه الله تعالى فيها بمن معه من المؤمنين، الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم غيرهم؛ ولهذا قال: { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } أي: آباءهم، { فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } أي: في السفينة [الموقرة] (2) المملوءة من الأمتعة والحيوانات، التي أمره الله أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين.
قال ابن عباس: المشحون: المُوقَر. وكذا قال سعيد بن جبير، والشعبي، وقتادة، [والضحاك] (3) والسدي.
وقال الضحاك، وقتادة، وابن زيد: وهي سفينة نوح، عليه السلام.
وقوله: { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } : قال العَوْفي، عن ابن عباس: يعني بذلك: الإبل، فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبونها. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، والحسن، وقتادة -في رواية-عبد الله بن شَداد، وغيرهم . (4)
وقال السدي -في رواية-: هي الأنعام.
__________
(1) في أ: "ليحمل فيه".
(2) زيادة من ت، أ.
(3) زيادة من أ.
(4) في ت: "عكرمة وغيره".

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)

وقال ابن جرير: حدثنا الفضل بن الصباح، حدثنا محمد بن فضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جُبَير (1) ، عن ابن عباس قال: تدرون ما { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } ؟ قلنا: لا. قال: هي السفن، جعلت من بعد سفينة نوح على مثلها.
وكذا قال [غير واحد و] (2) أبو مالك، والضحاك، وقتادة، وأبو صالح، والسدي أيضًا: المراد بقوله: (3) { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } : أي السفن.
ويُقَوِّي هذا المذهب في المعنى قوله تعالى: { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [الحاقة:11 ، 12] .
وقوله: { وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ } يعني: الذين في السفن، { فَلا صَرِيخَ لَهُمْ } أي: فلا مغيث لهم مما هم فيه، { وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ } أي: مما أصابهم. { إِلا رَحْمَةً مِنَّا } وهذا استثناء منقطع، تقديره: ولكن برحمتنا نسيركم في البر والبحر، ونُسَلِّمكم إلى أجل مسمى؛ ولهذا قال: { وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } أي: إلى وقت معلوم عند الله.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) }
يقول تعالى مخبرًا عن تمادي المشركين في غيهم وضلالهم، وعدم اكتراثهم بذنوبهم التي أسلفوها، وما هم يستقبلون بين أيديهم يوم القيامة: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } قال مجاهد: من الذنوب. وقال غيره بالعكس، { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي: لعل الله باتقائكم ذلك يرحمكم ويؤمنكم من عذابه. وتقدير كلامه: أنهم لا يجيبون إلى ذلك ويعرضون عنه. واكتفى عن ذلك بقوله: { وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ } أي: على التوحيد وصدق الرسل { إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } أي: لا يتأملونها ولا ينتفعون (4) بها.
وقوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } أي: وإذا أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج من المسلمين { قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا } أي: عن الذين آمنوا من الفقراء، أي: قالوا لمن أمرهم من المؤمنين بالإنفاق محاجين لهم فيما أمروهم به: { أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } أي: وهؤلاء الذين أمرتمونا بالإنفاق عليهم، لو شاء الله لأغناهم ولأطعمهم من رزقه، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم، { إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي: في أمركم لنا بذلك.
قال ابن جرير: ويحتمل أن يكون من قول الله للكفار حين ناظروا المسلمين (5) وردوا عليهم، فقال لهم: { إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } (6) ، وفي هذا نظر.
__________
(1) في ت: "وروى ابن جرير بإسناده".
(2) زيادة من ت.
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "ولا يشعرون".
(5) في أ: "المؤمنين".
(6) تفسير الطبري (23/9).

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)

{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) }
يخبر تعالى عن استبعاد الكفرة لقيام الساعة في قولهم: { مَتَى هَذَا الْوَعْدُ [ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ] } ؟ (1) { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا } [الشورى: 18] ، قال الله تعالى: { مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } أي: ما ينتظرون (2) إلا صيحة واحدة، وهذه -والله أعلم-نفخة الفزع، ينفخ في الصور نفخة الفزع، والناس في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم، فبينما هم كذلك إذ أمر الله تعالى إسرافيل فنفخ في الصور نفخة يُطَوِّلُها ويَمُدُّها، فلا يبقى أحد على وجه الأرض إلا أصغى ليتًا، ورفع ليتًا -وهي (3) صفحة العنق-يتسمع الصوت من قبل السماء. ثم يساق الموجودون من الناس إلى محشر القيامة بالنار، تحيط بهم من جوانبهم؛ ولهذا قال: { فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } أي: على ما يملكونه، الأمر أهم من ذلك، { وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } .
وقد وردت هاهنا آثار وأحاديث ذكرناها في موضع آخر (4) ثم يكون (5) بعد هذا نفخة الصعق، التي تموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحي القيوم، ثم بعد ذلك نفخة البعث.
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) }
هذه هي النفخة الثالثة (6) ، وهي نفخة البعث والنشور للقيام من الأجداث والقبور؛ ولهذا قال: { فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ } والنَّسلان هو: المشي السريع، كما قال تعالى: { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [المعارج: 43] .
{ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا } ؟ يعنون: [من] (7) قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها، فلما عاينوا ما كذبوه في محشرهم { قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا } ، وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم؛ لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد.
وقال أُبَيّ بن كعب، ومجاهد، والحسن، وقتادة: ينامون نومة قبل البعث.
قال قتادة: وذلك بين النفختين.
فلذلك يقولون: { مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا } ، فإذا قالوا ذلك أجابهم المؤمنون -قاله غير واحد من
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ: "ما ينظرون".
(3) في أ: "وهو".
(4) عند تفسير الآية: 73 من سورة الأنعام.
(5) في ت، س، أ: "ثم يكون".
(6) في ت: "الثانية".
(7) زيادة من ت.

السلف-: { هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } . وقال الحسن: إنما يجيبهم بذلك الملائكة.
ولا منافاة إذ الجمع ممكن، والله أعلم.
وقال عبد الرحمن بن زيد: الجميع من قول الكفار: { يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } .
نقله ابن جرير، واختار الأول، وهو أصح، (1) وذلك كقوله تعالى في الصافات: { وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [الصافات:20 ، 21 ] ، وقال [الله] (2) تعالى: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [الروم:55 ، 56 ] .
وقوله: { إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ } ، كقوله: { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } [النازعات:13 ، 14 ] . وقال تعالى: { وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل: 77] ، (3) وقال: { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا } [الإسراء: 52] .
أي: إنما نأمرهم أمرًا واحدًا، فإذا الجميع محضرون، { فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا } أي: من عملها، { وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
__________
(1) في أ: "وهو صحيح".
(2) زيادة من أ.
(3) في ت: "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر أو هو أقرب" وهو خطأ.

إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)

{ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) }
يخبر تعالى عن أهل الجنة: أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العَرَصات فنزلوا في روضات الجنات: أنهم { فِي شُغُلٍ [ فَاكِهُونَ } أي: في شغل] (1) عن غيرهم، بما هم فيه من النعيم المقيم، والفوز العظيم.
قال الحسن البصري: وإسماعيل بن أبي خالد: { فِي شُغُلٍ } عما فيه أهل النار من العذاب.
وقال مجاهد: { فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } أي: في نعيم معجبون، أي: به. وكذا قال قتادة.
وقال ابن عباس: { فَاكِهُونَ } أي فرحون.
قال عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المُسَيّب، وعِكْرِمَة، والحسن، وقتادة، والأعمش، وسليمان التيمي، والأوزاعي في قوله: { إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } قالوا: شغلهم افتضاض الأبكار.
__________
(1) زيادة من ت، أ.

وقال ابن عباس -في رواية عنه (1) -: { فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } أي بسماع الأوتار.
وقال أبو حاتم: لعله غلط من المستمع، وإنما هو افتضاض الأبكار.
وقوله: { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ } قال مجاهد: وحلائلهم { فِي ظِلالٍ } أي: في ظلال الأشجار { عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ } .
قال ابن عباس، ومجاهد وعكرمة، ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، والسُّدِّيّ، وخُصَيْف (2) : { الأرَائِكِ } هي السرر تحت الحجال.
قلت: نظيره في الدنيا هذه التخوت (3) تحت البشاخين، والله أعلم.
وقوله: { لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ } أي: من جميع أنواعها، { وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ } أي: مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي، حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار، حدثنا محمد بن مهاجر، عن الضحاك المَعَافري، عن سليمان (4) بن موسى، حدثني كُرَيْب؛ أنه سمع أسامة بن زيد يقول (5) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا هل مُشَمِّر إلى الجنة؟ فإن الجنة لا خَطر لها هي -ورب الكعبة-نور كلها يتلألأ وريحانة تهتز، وقصر مَشيد، ونهر مُطَّرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد، في دار سلامة، وفاكهة خضرة وحَبْرَة ونعمة، ومحلة عالية بَهيَّة". قالوا: نعم يا رسول الله، نحن المشمرون لها. قال: "قولوا: إن شاء الله". قال القوم: إن شاء الله.
وكذا رواه ابن ماجه في "كتاب الزهد" من سننه، من حديث الوليد بن مسلم، عن محمد بن مُهَاجر، به . (6)
وقوله: { سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } قال ابن جريج: قال ابن عباس في قوله: { سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } فإن الله نفسه سلام على أهل الجنة.
وهذا الذي قاله ابن عباس كقوله تعالى: { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } [الأحزاب : 44]
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا ، وفي إسناده نظر، فإنه قال: حدثنا موسى بن يوسف، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا أبو عاصم العَبَّاداني، حدثنا الفضل الرَّقاشيّ، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة. فذلك قوله: { سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } . قال: "فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم".
__________
(1) في ت: "وفي رواية عن ابن عباس".
(2) في ت: "ومحمد بن كعب وغيرهم".
(3) في أ: "النحوت".
(4) في أ: "سليم".
(5) في ت: "روى ابن أبي حاتم عن أسامة بن زيد قال".
(6) سنن ابن ماجه برقم (4332) وقال البوصيري في الزوائد (3/325) : "هذا إسناد فيه مقال، الضحاك المعافري ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي في طبقات التهذيب: مجهول وسليمان الأموى مختلف فيه وباقي رجال الإسناد ثقات".

وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)

ورواه ابن ماجه في "كتاب السنة" من سننه (1) ، عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، (2) به.
وقال (3) ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، حدثنا حَرْمَلة، عن سليمان بن حُمَيد قال: سمعت محمد بن كعب القُرَظِي يحدّث عن عمر بن عبد العزيز قال: إذا فرغ الله من أهل الجنة والنار، أقبل في ظُلَل من الغمام والملائكة، قال: فيسلم على أهل الجنة، فيردون عليه السلام -قال القرظي: وهذا في كتاب الله { سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } -فيقول: سلوني. فيقولون: ماذا نسألك أيْ ربّ؟ قال: بلى سلوني. قالوا: نسألك -أيْ رب-رضاك. قال: رضائي أحلكم دار كرامتي. قالوا: يا رب، فما الذي نسألك، فوعزتك وجلالك وارتفاع مكانك، لو قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم ولأسقيناهم ولألبسناهم ولأخدمناهم، لا ينقصنا ذلك شيئًا. قال: إن لديَّ مزيدًا. قال فيفعل ذلك بهم في درجهم، حتى يستوي في مجلسه. قال: ثم تأتيهم التحف من الله، عز وجل، تحملها إليهم الملائكة. ثم ذكر نحوه.
وهذا أثر غريب، أورده ابن جرير من طرق. (4)
{ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) } .
يقول تعالى مخبرًا عمّا يؤول إليه حال الكفار يوم القيامة من أمره لهم أن يمتازوا، بمعنى: (5) يتميزون عن المؤمنين في موقفهم، كقوله تعالى: { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } [يونس:28] ، وقال تعالى: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [الروم: 14] ، { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [الروم: 43] أي: يصيرون صدْعَين فرقتين، { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [الصافات: 22 ، 23] .
وقوله تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } : هذا تقريع من الله للكفرة من بني آدم، الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو لهم مبين، وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم؛ ولهذا قال: { وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } أي: قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان، وأمرتكم بعبادتي، وهذا هو الصراط المستقيم، فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به؛ ولهذا قال: { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا } ، يقال: "جِبِلا" بكسر الجيم، وتشديد اللام. ويقال: "جُبُلا" بضم الجيم والباء، وتخفيف اللام. ومنهم من يسكن الباء. والمراد
__________
(1) في ت: "رواه ابن ماجه في سننه".
(2) سنن ابن ماجه برقم (184) وقال البوصيري في الزوائد (1/86): "هذا إسناد ضعيف لضعف الفضل بن عيسى بن أبان القرشي".
(3) في ت: "وروى".
(4) تفسير الطبري (23/15).
(5) في ت: "يعنى".

هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)

بذلك الخلق الكثير، قاله مجاهد، والسُّدِّيّ، وقتادة، وسفيان بن عيينة.
وقوله: { أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } ؟ أي: أفما (1) كان لكم عقل في مخالفة ربكم فيما أمركم به من عبادته (2) وحده لا شريك له، وعُدُولُكم إلى اتباع الشيطان؟!
قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع، عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي، (3) عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة أمر الله جهنم فيخرج منها عُنق ساطع مظلم، يقول: (4) { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } امتازوا اليوم أيها المجرمون. فيتميز الناس ويجثون، وهي التي يقول الله تعالى: { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (5) } [الجاثية: 28] .
{ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) }
يقال للكفرة من بني آدم يوم القيامة، وقد برزَت الجحيم لهم تقريعًا وتوبيخًا: { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } أي: هذه التي حذرتكم الرسل فكذبتموهم، { اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } ، كما قال تعالى: { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ } [الطور: 13-15] .
وقوله تعالى: { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } : هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة، حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم بما عملت.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا مِنْجَاب بن الحارث التميمي، حدثنا أبو عامر الأسدي، حدثنا سفيان، عن عبيد المُكتب، عن الفُضَيْل بن عمرو، عن الشعبي، (6) عن أنس بن مالك قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: " أتدرون مم أضحك؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: "من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: رب (7) ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى. فيقول: لا أجيز علي إلا شاهدًا من نفسي.
__________
(1) في ت، س: "أما".
(2) في ت، س: "عبادة الله".
(3) في ت: "وروى ابن جرير بإسناده".
(4) في ت، س، أ: "ثم يقول".
(5) تفسير الطبري (23/16).
(6) في ت: "روى النسائي ومسلم".
(7) في ت، س: "يارب".

فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حَسيبًا، وبالكرام الكاتبين (1) شهودا. فيختم على فيه، ويُقال لأركانه: انطقي. فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعدًا لَكُنَّ وسُحقًا، فعنكنَّ كنتُ أناضل".
وقد رواه مسلم والنسائي، كلاهما عن أبي بكر بن أبي النضر، عن أبي النضر، عن عُبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي، عن سفيان -هو الثوري-به. (2) ثم قال النسائي: [لا أعلم (3) أحدًا روى هذا الحديث عن سفيان غير الأشجعي، وهو حديث غريب، والله تعالى أعلم.
كذا قال، وقد تقدم من رواية أبي عامر عبد الملك بن عمرو الأسدي -وهو العَقَدِيّ-عن سفيان.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن بَهز (4) بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تُدْعَون مُفَدَّمة (5) أفواهكم بالفِدَام، فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكتفه". رواه النسائي] (6) عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، به . (7)
وقال سفيان بن عيينة، عن سُهَيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القيامة الطويل، قال فيه: "ثم يلقى (8) الثالث فيقول: ما أنت؟ فيقول: أنا عبدك، آمنت بك وبنبيك وبكتابك، وصمت وصليت وتصدقت -ويثني بخير ما استطاع-قال: فيقال له: ألا نبعث عليك شاهدنا (9) ؟ قال: فيفكر في نفسه، من الذي يشهد عليه، فيُختَم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي. فتنطق (10) فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، وذلك المنافق، وذلك ليعذر من نفسه. وذلك الذي سخط الله عليه".
ورواه مسلم وأبو داود، من حديث سفيان بن عيينة، به بطوله . (11)
ثم قال ابن أبي حاتم، رحمه الله: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا ضَمْضَم بن زُرْعَة عن شُرَيْح بن عبيد، (12) عن عقبة بن عامر؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يُختَم على الأفواه، فَخذُه من الرِّجل اليسرى". (13) .
ورواه ابن جرير عن محمد بن عوف، عن عبد الله بن المبارك، عن إسماعيل بن عياش، به مثله . (14)
وقد جَوَّد إسناده الإمام أحمد، رحمه الله، فقال: حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ضَمْضَم بن زُرْعَة، عن شُرَيْح بن عُبَيد الحضرمي، عمن حَدَّثه عن عقبة بن عامر؛ أنه
__________
(1) في ت: "الكاتبين عليك".
(2) صحيح مسلم برقم (2969) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11653).
(3) في س: "ما أعلم".
(4) في ت، س: "يزيد"، وفي أ: "زيد".
(5) في س: "مفدما".
(6) زيادة من ت، س، والسنن الكبرى.
(7) النسائي في السنن الكبرى برقم (11469).
(8) في ت: "يأتي".
(9) في ت، أ: "شاهدا".
(10) في ت، س: "قال فتنطق".
(11) صحيح مسلم برقم (2968) وسنن أبي داود برقم (4730).
(12) في ت: "وروى الإمام أحمد".
(13) في ت: "الشمال".
(14) تفسير الطبري (23/17).

سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يُختَم على الأفواه، فَخذه من الرجل الشمال". (1)
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، حدثنا يونس بن عُبَيد، عن حُمَيد بن هلال قال: قال أبو بردة: قال أبو موسى (2) هو الأشعري، رضي الله عنه-: يُدعى المؤمن للحساب يوم القيامة، فَيَعْرضُ عليه (3) رَبُّه عملَه فيما بينه وبينه، فيعترف (4) فيقول: نعم أيْ رب، عملتُ عملتُ عملت. قال: فيغفر الله له ذنوبه، ويستره منها. قال: فما على الأرض خَليقة ترى (5) من تلك الذنوب شيئًا، وتبدو حسناته، فَوَدَّ أن الناس كلهم يرونها، ويُدعى الكافر والمنافق للحساب، فَيَعرضُ رَبُّه عليه عمله، فيجحد وفيقول: أي رب، وعزتك لقد كتب علي هذا الملك ما لم أعمل. فيقول له الملك: أما عملت كذا، في يوم كذا، في مكان كذا؟ فيقول: لا وعزتك أيْ رب ما عملتُه. فإذا فعل ذلك خُتِم على فيه. قال أبو موسى الأشعري: فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ (6) اليمنى، ثم تلا { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (7) .
وقوله: { وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ } : قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في تفسيرها: يقول: ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى، فكيف يهتدون؟ وقال مرة (8) : أعميناهم.
وقال الحسن البصري: لو شاء الله لطمس على أعينهم، فجعلهم عُميًا يترددون.
وقال السدي: لو شِئْنا أعمينا أبصارهم.
وقال مجاهد، وأبو صالح، وقتادة، والسدي: { فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ } يعني: الطريق.
وقال ابن زيد: يعني بالصراط هاهنا: الحق، { فَأَنَّى يُبْصِرُونَ } وقد طمسنا على أعينهم؟
وقال العوفي، عن ابن عباس: { فَأَنَّى يُبْصِرُونَ } ]يقول] (9) : لا يبصرون الحق.
وقوله: { وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِم } قال العوفي عن ابن عباس: أهلكناهم.
وقال السدي: يعني: لَغَيَّرْنَا خَلْقَهم.
وقال أبو صالح: لجعلناهم حجارة.
وقال الحسن البصري، وقتادة: لأقعدهم على أرجلهم.
ولهذا قال تعالى: { فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا } أي: إلى أمام، { وَلا يَرْجِعُونَ } أي: إلى وراء، بل يلزمون حالا واحدًا، لا يتقدمون ولا يتأخرون.
__________
(1) المسند (4/151) وقال الهيثمي في المجمع (1/351) : "إسناده جبد".
(2) في ت: "وروى ابن جرير بإسناده عن أبي موسى.
(3) في ت، أ: "على".
(4) في ت: "فيعرف".
(5) في ت: "يرى".
(6) في ت، س: "لفخده".
(7) تفسير الطبرى (23/17).
(8) في أ: "غيره".
(9) زيادة من أ.

وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)

{ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) }
يخبر تعالى عن ابن (1) آدم أنه كلما طال عمره ردّ إلى الضعف بعد القوة والعجز بعد النشاط، كما قال تعالى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } [الروم: 54] . وقال: { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } [الحج: 5] .
والمراد من هذا -والله أعلم-الإخبارُ عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال، لا دار دوام واستقرار؛ ولهذا قال: { أَفَلا يَعْقِلُونَ } أي: يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم ثم صيرورتهم إلى [نفس] (2) الشَّبيبَة، ثم إلى الشيخوخة؛ ليعلموا أنهم خُلقوا لدار أخرى، لا زوال لها ولا انتقال منها، ولا محيد عنها، وهي الدار الآخرة.
وقوله: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } : يقول تعالى مخبرًا عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم (3) : أنه ما علمه الشعر، { وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } أي: وما هو في طبعه، فلا يحسنه ولا يحبه، ولا تقتضيه جِبِلَّته؛ ولهذا وَرَدَ أنه، عليه الصلاة والسلام، كان لا يحفظ بيتًا على وزنٍ منتظم، بل إن أنشده زَحَّفه أو لم يتمه.
وقال أبو زُرْعة الرازي: حُدِّثت عن إسماعيل بن مجالد، عن أبيه، عن الشعبي أنه قال: ما وَلَد عبد المطلب ذكرًا ولا أنثى إلا يقول الشِّعر، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكره ابن عساكر في ترجمة "عتبة بن أبي لهب" الذي أكله السَّبُع بالزرقاء . (4)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن (5) -هو البصري-قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت:
كَفَى بالإسْلام والشيْب للمرْء نَاهيًا
فقال أبو بكر: يا رسول الله:
كَفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا ...
قال أبو بكر، أو عمر: أشهد أنك رسول الله، يقول الله: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } (6) .
وهكذا روى البيهقي في الدلائل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: للعباس بن مرداس السلمي: "أنت القائل:
أتجعل نَهبي ونَهْب العُبَيد بين الأقرع وعيينة".
فقال: إنما هو: "بين عيينة والأقرع" فقال: "الكل سواء". (7)
__________
(1) في أ: "بنى".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "صلوات الله وسلامه عليه.
(4) لم أجد ترجمته فيما بين يدي من تاريخ دمشق، ولا في المختصر لابن منظور.
(5) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن الحسن".
(6) ورواه ابن سعد في الطبقات (1/382) من طريق عارم عن حماد بن زيد عن على بن زيد عن الحسن به مرسلاً.
(7) دلائل النبوة للبيهقي (5/181).

يعني: في المعنى، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد ذكر السهيلي في "الروض الأنف" لهذا التقديم والتأخير الذي وقع في كلامه، عليه السلام، في هذا البيت مناسبة أغرب فيها، حاصلها شَرَفُ الأقرع بن حابس على عُيَيْنَة بن بدر الفزاري؛ لأنه ارتد أيام الصديق، بخلاف ذاك، والله أعلم.
وهكذا روى الأموي في مغازيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمشي بين القتلى يوم بدر، وهو يقول: "نُفلق هَامًا.................................." .
فيقول الصديق، رضي الله عنه، متمما للبيت:
..... مِنْ رجَال أعزَّةٍ ... عَلَيْنَا وَهُم كَانُوا أعَقَّ وَأظلما ...
وهذا لبعض شعراء العرب في قصيدة له، وهي في الحماسة . (1)
وقال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيْم، حدثنا مغيرة، عن (2) الشعبي، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر، تمثل فيه ببيت طَرَفَة:
ويَأْتِيكَ بالأخْبار مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ
وهكذا رواه النسائي في "اليوم والليلة" من طريق إبراهيم بن مهاجر، عن الشعبي، (3) عنها. ورواه الترمذي والنسائي أيضًا من حديث المقدام بن شُرَيْح بن هانئ، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها، كذلك. ثم قال (4) الترمذي. هذا حديث حسن صحيح . (5)
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أسامة، عن زائدة، عن سِمَاك، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل من الأشعار:
وَيَأتيكَ بالأخْبَار مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ ...
ثم قال: رواه (6) غير زائدة، عن سِمَاك، عن عِكرمة، عن عائشة. (7)
وهذا في شعر طرفة بن العبد، في معلقته المشهورة، وهذا المذكور [هو عجز بيت] (8) منها، أوله:
سَتُبْدي لكَ الأيامُ مَا كُنْتَ جَاهلا ... وَيَأتيك بالأخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ ...
وَيَأتيكَ بالأخْبَار مَنْ لَمْ تَبِع لهُ ... بَتَاتا ولم تَضرب له وَقْتَ مَوْعِدِ (9)
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الحافظ، حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن
__________
(1) الحماسة لأبي تمام (1/107).
(2) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده إلى".
(3) المسند (6/31) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10834).
(4) في ت: "وقال".
(5) سنن الترمذي برقم (2848) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10835) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
(6) في س: "ورواه".
(7) رواه ابن سعد في الطبقات (1/383) من طريق الوليد بن أبي ثور عن سماك عن عكرمة قال: سئلت عائشة فذكره نحوه.
(8) زيادة من أ.
(9) انظر ديوان طَرَفَةَ بن العبد ص (66).

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49