كتاب : في ظلال القرآن
المؤلف : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي

إنه يريد لها أن تخلص له؛ وأن تتخلص من كل رواسب الجاهلية ووشائجها؛ وأن تتجرد من كل سماتها القديمة ومن كل رغابها الدفينة؛ وأن تتعرى من كل رداء لبسته في الجاهلية ومن كل شعار اتخذته ، وأن ينفرد في حسها شعار الإسلام وحده لا يتلبس به شعار آخر ، وأن يتوحد المصدر الذي تتلقى منه لا يشاركه مصدر آخر .
ولما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به في نفوس العرب فكرة أخرى غير فكرة العقيدة؛ وشابت عقيدة جدهم إبراهيم شوائب من الشرك ، ومن عصبية الجنس ، إذ كان البيت يعتبر في ذلك الحين بيت العرب المقدس . . والله يريده أن يكون بيت الله المقدس ، لا يضاف إليه شعار آخر غير شعاره ، ولا يتلبس بسمة أخرى غير سمته .
لما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به هذه السمة الأخرى ، فقد صرف الله المسلمين عنه فترة ، ووجههم إلى بيت المقدس ، ليخلص مشاعرهم من ذلك التلبس القديم أولاً؛ ثم ليختبر طاعتهم وتسليمهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - ثانياً ، ويفرز الذين يتبعونه لأنه رسول الله ، والذين يتبعونه لأنه أبقى على البيت الحرام قبلة ، فاستراحت نفوسهم إلى هذا الإبقاء تحت تأثير شعورهم بجنسهم وقومهم ومقدساتهم القديمة .
إنها لفتة دقيقة شديدة الدقة . . إن العقيدة الإسلامية لا تطيق لها في القلب شريكاً؛ ولا تقبل شعاراً غير شعارها المفرد الصريح ; إنها لا تقبل راسباً من رواسب الجاهلية في أية صورة من الصور . جل أم صغر . وهذا هو إيحاء ذلك النص القرآني : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } . . والله - سبحانه - يعلم كل ما يكون قبل أن يكون . ولكنه يريد أن يظهر المكنون من الناس ، حتى يحاسبهم عليه ويأخذهم به فهو - لرحمته بهم - لا يحاسبهم على ما يعلمه من أمرهم ، بل على ما يصدر عنهم ويقع بالفعل منهم .
ولقد علم الله أن الانسلاخ من الرواسب الشعورية ، والتجرد من كل سمة وكل شعار له بالنفس عُلقة . . أمر شاق ، ومحاولة عسيرة . . إلا أن يبلغ الإيمان من القلب مبلغ الاستيلاء المطلق ، وإلا أن يعين الله هذا القلب في محاولته فيصله به ويهديه إليه :
{ وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } . .
فإذا كان الهدى فلا مشقة ولا عسر في أن تخلع النفس عنها تلك الشعارات ، وأن تنفض عنها تلك الرواسب؛ وأن تتجرد لله تسمع منه وتطيع حيثما وجهها الله تتجه وحيثما قادها رسول الله تقاد .
ثم يطمئن المسلمين على إيمانهم وعلى صلاتهم . إنهم ليسوا على ضلال وإن صلاتهم لم تضع ، فالله سبحانه لا يعنت العباد ، ولا يضيع عليهم عبادتهم التي توجهوا بها إليه؛ ولا يشق عليهم في تكليف يجاوز طاقتهم التي يضاعفها الإيمان ويقويها :
{ وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم } .

.
إنه يعرف طاقتهم المحدودة ، فلا يكلفهم فوق طاقتهم؛ وإنه يهدي المؤمنين ، ويمدهم بالعون من عنده لاجتياز الامتحان ، حين تصدق منهم النية ، وتصح العزيمة . وإذا كان البلاء مظهراً لحكمته ، فاجتياز البلاء فضل رحمته : { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } . .
بهذا يسكب في قلوب المسلمين الطمأنينة ويذهب عنها القلق ، ويفيض عليها الرضى والثقة واليقين . .
بعد ذلك يعلن استجابة الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في أمر القبلة؛ ويعلن عن هذه القبلة مع تحذير المسلمين من فتنة يهود ، وكشف العوامل الحقيقية الكامنة وراء حملاتهم ودسائسهم . . في صورة تكشف عن مدى الجهد الذي كان يبذل لإعداد تلك الجماعة المسلمة ووقايتها من البلبلة والفتنة :
{ قد نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره . وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ، وما الله بغافل عما يعملون . ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ، وما أنت بتابع قبلتهم ، وما بعضهم بتابع قبلة بعض . ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين . الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون . الحق من ربك فلا تكونن من الممترين . ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ، أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كل شيء قدير . ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام . وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون . ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، لئلا يكون للناس عليكم حجة . إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ، ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون } . .
وفي مطلع هذه الآيات نجد تعبيراً مصوراً لحالة النبي - صلى الله عليه وسلم - :
{ قد نرى تقلب وجهك في السماء } . .
وهو يشي بتلك الرغبة القوية في أن يوجهه ربه إلى قبلة غير القبلة التي كان عليها . بعدما كثر لجاج اليهود وحجاجهم؛ ووجدوا في اتجاه الجماعة المسلمة لقبلتهم وسيلة للتمويه والتضليل والبلبلة والتلبيس . . فكان - صلى الله عليه وسلم - يقلب وجهه في السماء ، ولا يصرح بدعاء ، تأدباً مع ربه ، وتحرجاً أن يقترح عليه شيئاً أو أن يقدم بين يديه شيئاً .
ولقد أجابه ربه إلى ما يرضيه . والتعبير عن هذه الاستجابة يشي بتلك الصلة الرحيمة الحانية الودود :
{ فلنولينك قبلة ترضاها } . .
ثم يعين له هذه القبلة التي علم - سبحانه - أنه يرضاها :
{ فول وجهك شطر المسجد الحرام } . .
قبلة له ولأمته من معه منها ومن يأتي من بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها :
{ وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } .

.
من كل اتجاه ، في أنحاء الأرض جميعاً قبلة واحدة تجمع هذه الأمة وتوحد بينها على اختلاف مواطنها ، واختلاف مواقعها من هذه القبلة ، واختلاف أجناسها وألسنتها وألوانها . . قبلة واحدة ، تتجه إليها الأمة الواحدة في مشارق الأرض ومغاربها . فتحس أنها جسم واحد ، وكيان واحد ، تتجه إلى هدف واحد ، وتسعى لتحقيق منهج واحد ، منهج ينبثق من كونها جميعاً تعبد إلهاً واحداً ، وتؤمن برسول واحد ، وتتجه إلى قبلة واحدة .
وهكذا وحد الله هذه الأمة . وحدها في إلهها ورسولها ودينها وقبلتها . وحدها على اختلاف المواطن والأجناس والألوان واللغات . ولم يجعل وحدتها تقوم على قاعدة من هذه القواعد كلها؛ ولكن تقوم على عقيدتها وقبلتها؛ ولو تفرقت في مواطنها وأجناسها وألوانها ولغاتها . . إنها الوحدة التي تليق ببني الإنسان؛ فالإنسان يجتمع على عقيدة القلب ، وقبلة العبادة ، إذا تجمع الحيوان على المرعى والكلأ والسياج والحظيرة
ثم . . ما شأن أهل الكتاب وهذه القبلة الجديدة؟
{ وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } . .
إنهم ليعلمون أن المسجد الحرام هو بيت الله الأول الذي رفع قواعده إبراهيم . جد هذه الأمة الوارثة وجد المسلمين أجمعين . وإنهم ليعلمون أن الأمر بالتوجه إليه حق من عند الله لا مرية فيه . .
ولكنهم مع هذا سيفعلون غير ما يوحيه هذا العلم الذي يعلمونه . فلا على المسلمين منهم؛ فالله هو الوكيل الكفيل برد مكرهم وكيدهم :
{ وما الله بغافل عما يعملون } . .
إنهم لن يقتنعوا بدليل ، لأن الذي ينقصهم ليس هو الدليل؛ إنما هو الإخلاص والتجرد من الهوى ، والاستعداد للتسليم بالحق حين يعلمونه :
{ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } . .
فهم في عناد يقوده الهوى ، وتؤرثه المصلحة ، ويحدوه الغرض . . وإن كثيراً من طيبي القلوب ليظنون أن الذي يصد اليهود والنصارى عن الإسلام أنهم لا يعرفونه ، أو لأنه لم يقدم إليهم في صورة مقنعة . . وهذا وهم إنهم لا يريدون الإسلام لأنهم يعرفونه يعرفونه فهم يخشونه على مصالحهم وعلى سلطانهم؛ ومن ثم يكيدون له ذلك الكيد الناصب الذي لا يفتر ، بشتى الطرق وشتى الوسائل . عن طريق مباشر وعن طرق أخرى غير مباشرة . يحاربونه وجهاً لوجه ، ويحاربونه من وراء ستار . ويحاربونه بأنفسهم ويستهوون من أهله من يحاربه لهم تحت أي ستار . . وهم دائماً عند قول الله تعالى لنبيه الكريم : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } .
وفي مواجهة هذا الإصرار من أهل الكتاب على الإعراض عن قبلة الإسلام ومنهجه الذي ترمز هذه القبلة له ، يقرر حقيقة شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وموقفه الطبيعي :
{ وما أنت بتابع قبلتهم } . .
ليس من شأنك أن تتبع قبلتهم أصلاً . واستخدام الجملة الاسمية المنفية هنا أبلغ في بيان الشأن الثابت الدائم للرسول - صلى الله عليه وسلم - تجاه هذا الأمر .

وفيه إيحاء قوي للجماعة المسلمة من ورائه . فلن تختار قبلة غير قبلة رسولها التي اختارها له ربه ورضيها له ليرضيه؛ ولن ترفع راية غير رايتها التي تنسبها إلى ربها؛ ولن تتبع منهجاً إلا المنهج الإلهي الذي ترمز له هذه القبلة المختارة . . هذا شأنها ما دامت مسلمة؛ فإذا لم تفعل فليست من الإسلام في شيء . . إنما هي دعوى . .
ويستطرد فيكشف عن حقيقة الموقف بين أهل الكتاب بعضهم وبعض؛ فهم ليسوا على وفاق ، لأن الأهواء تفرقهم :
{ وما بعضهم بتابع قبلة بعض } . .
والعداء بين اليهود والنصارى ، والعداء بين الفرق اليهودية المختلفة ، والعداء بين الفرق النصرانية المختلفة أشد عداء .
وما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا شأنه وهذا شأن أهل الكتاب ، وقد علم الحق في الأمر ، أن يتبع أهواءهم بعدما جاءه من العلم :
{ ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين } . .
ونقف لحظة أمام هذا الجد الصارم ، في هذا الخطاب الإلهي من الله سبحانه إلى نبيه الكريم الذي حدثه منذ لحظة ذلك الحديث الرفيق الودود . .
إن الأمر هنا يتعلق بالاستقامة على هدي الله وتوجيهه؛ ويتعلق بقاعدة التميز والتجرد إلا من طاعة الله ونهجه ومن ثم يجيء الخطاب فيه بهذا الحزم والجزم وبهذه المواجهة والتحذير . . { إنك إذاً لمن الظالمين } . .
إن الطريق واضح ، والصراط مستقيم . . فإما العلم الذي جاء من عند الله . وإما الهوى في كل ما عداه . وليس للمسلم أن يتلقى إلا من الله . وليس له أن يدع العلم المستيقن إلى الهوى المتقلب . وما ليس من عند الله فهو الهوى بلا تردد .
وإلى جانب هذا الإيحاء الدائم نلمح كذلك أنه كانت هناك حالة واقعة من بعض المسلمين ، في غمرة الدسائس اليهودية وحملة التضليل الماكرة تستدعي هذه الشدة في التحذير ، وهذا الجزم في التعبير .
وبعد هذه الوقفة العابرة نعود إلى السياق؛ فنجده لا يزال يقرر معرفة أهل الكتاب الجازمة بأن الحق في هذا الشأن وفي غيره هو ما جاء به القرآن ، وما أمر به الرسول . ولكنهم يكتمون الحق الذي يعلمونه ، للهوى الذي يضمرونه :
{ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } . .
ومعرفة الناس بأبنائهم هي قمة المعرفة ، وهي مثل يضرب في لغة العرب على اليقين الذي لا شبهة فيه . . فإذا كان أهل الكتاب على يقين من الحق الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنه هذا الذي جاء به في شأن القبلة ، وكان فريق منهم يكتمون الحق الذي يعلمونه علم اليقين . . فليس سبيل المؤمنين إذن أن يتأثروا بما يلقيه أهل الكتاب هؤلاء من أباطيل وأكاذيب .

وليس سبيل المؤمنين أن يأخذوا من هؤلاء الذين يستيقنون الحق ثم يكتمونه شيئاً في أمر دينهم ، الذي يأتيهم به رسولهم الصادق الأمين .
وهنا يوجه الخطاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا البيان بشأن أهل الكتاب :
{ الحق من ربك فلا تكونن من الممترين } . .
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما امترى يوماً ولا شك . وحينما قال له ربه في آية أخرى : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذي يقرأون الكتاب من قبلك } . قال : « لا أشك ولا أسأل » .
ولكن توجيه الخطاب هكذا إلى شخصه - صلى الله عليه وسلم - يحمل إيحاء قوياً إلى من وراءه من المسلمين . سواء منهم من كان في ذلك الحين يتأثر بأباطيل اليهود وأحابيلهم ، ومن يأتي بعدهم ممن تؤثر فيهم أباطيل اليهود وغير اليهود في أمر دينهم .
وما أجدرنا نحن اليوم أن نستمع إلى هذا التحذير؛ ونحن - في بلاهة منقطعة النظير - نروح نستفتي المستشرقين - من اليهود والنصارى والشيوعيين الكفار - في أمر ديننا ، ونتلقى عنهم تاريخنا ، ونأمنهم على القول في تراثنا ، ونسمع لما يدسونه من شكوك في دراساتهم لقرآننا وحديث نبينا ، وسيرة أوائلنا؛ ونرسل إليهم بعثات من طلابنا يتلقون عنهم علوم الإسلام ، ويتخرجون في جامعاتهم ، ثم يعودون الينا مدخولي العقل والضمير .
إن هذا القرآن قرآننا . قرآن الأمة المسلمة . وهو كتابها الخالد الذي يخاطبها فيه ربها بما تعمله وما تحذره . وأهل الكتاب هم أهل الكتاب ، والكفار هم الكفار ، والدين هو الدين
ونعود إلى السياق فنراه يصرف المسلمين عن الاستماع لأهل الكتاب والانشغال بتوجيهاتهم ، ويوحي إليهم بالاستقامة على طريقهم الخاص ووجهتهم الخاصة . فلكل فريق وجهته ، وليستبق المسلمون إلى الخير لا يشغلهم عنه شاغل ، ومصيرهم جميعاً إلى الله القادر على جمعهم وعلى مجازاتهم في نهاية المطاف :
{ ولكل وجهة هو موليها ، فاستبقوا الخيرات ، أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كل شيء قدير } . .
وبهذا يصرف الله المسلمين عن الإنشغال بما يبثه أهل الكتاب من دسائس وفتن وتأويلات وأقاويل . . يصرفهم إلى العمل والاستباق إلى الخيرات . مع تذكر أن مرجعهم إلى الله ، وأن الله قدير على كل شيء ، لا يعجزه أمر ، ولا يفوته شيء .
إنه الجد الذي تصغر إلى جواره الأقاويل والأباطيل . .
ثم يعود فيؤكد الأمر بالاتجاه إلى القبلة الجديدة المختارة مع تنويع التعقيب :
{ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك ، وما الله بغافل عما تعملون } . .
والأمر في هذه المرة يخلو من الحديث عن أهل الكتاب وموقفهم ، ويتضمن الاتجاه إلى المسجد الحرام حيثما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وحيثما كان ، مع توكيد أنه الحق من ربه .

ومع التحذير الخفي من الميل عن هذا الحق . التحذير الذي يتضمنه قوله : { وما الله بغافل عما تعملون } . . وهو الذي يشي بأنه كانت هناك حالة واقعة وراءه في قلوب بعض المسلمين تقتضي هذا التوكيد وهذا التحذير الشديد .
ثم توكيد للمرة الثالثة بمناسبة غرض آخر جديد ، وهو إبطال حجة أهل الكتاب ، وحجة غيرهم ممن كانوا يرون المسلمين يتوجهون إلى قبلة اليهود ، فيميلون إلى الاقتناع بما يذيعه اليهود من فضل دينهم على دين محمد ، وأصالة قبلتهم ومن ثم منهجهم . أو من مشركي العرب الذين كانوا يجدون في هذا التوجيه وسيلة لصد العرب الذين يقدسون مسجدهم وتنفيرهم من الإسلام الذي يتجه أهله شطر قبلة بني إسرائيل
{ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، لئلا يكون للناس عليكم حجة ، إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ، ولأتم نعمتي عليكم ، ولعلكم تهتدون } . .
وهو أمر للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يولي وجهه شطر المسجد من حيث خرج ، وإلى المسلمين أن يولوا وجوههم شطره حيثما كانوا وبيان لعلة هذا التوجيه :
{ لئلا يكون للناس عليكم حجة } . .
وتهوين لما بعد ذلك من أقاويل الظالمين الذين لا يقفون عند الحجة والنطق ، إنما ينساقون مع العناد واللجاج . فهؤلاء لا سبيل إلى إسكاتهم ، فسيظلون إذن في لجاجهم . فلا على المسلمين منهم :
{ فلا تخشوهم . . واخشوني } . .
فلا سلطان لهم عليكم ، ولا يملكون شيئاً من أمركم ، ولا ينبغي أن تحفلوهم فتميلوا عما جاءكم من عندي ، فأنا الذي استحق الخشية بما أملك من أمركم في الدنيا والآخرة . . ومع التهوين من شأن الذين ظلموا ، والتحذير من بأس الله ، يجيء التذكير بنعمة الله ، والإطماع في اتمامها على الأمة المسلمة ، حين تستجيب وتستقيم :
{ ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون } . . .
وهو تذكير موح ، وإطماع دافع ، وتلويح بفضل عظيم بعد فضل عظيم . .
ولقد كانت النعمة التي يذكرهم بها حاضرة بين أيديهم ، يدركونها في أنفسهم ، ويدركونها في حياتهم ، ويدركونها في مجتمعهم وموقفهم في الأرض ومكانهم في الوجود . .
كانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية بظلامها ورجسها وجهالتها ، ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى نور الإيمان وطهارته ومعرفته . فهم يجدون في أنفسهم أثر النعمة جديداً واضحاً عميقاً .
وكانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية قبائل متناحرة ، ذات أهداف صغيرة واهتمامات محدودة . ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى الوحدة تحت راية العقيدة ، وإلى القوة والمنعة ، وإلى الغايات الرفيعة والاهتمامات الكبيرة التي تتعلق بشأن البشرية كلها لا بشأن ثأر في قبيلة فهم يجدون أثر النعمة من حولهم كما وجدوه في أنفسهم .
وكانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية في مجتمع هابط دنس مشوش التصورات مضطرب القيم . . ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى مجتمع الإسلام النظيف الرفيع ، الواضح التصور والاعتقاد ، المستقيم القيم والموازين .

. فهم يجدون أثر النعمة في حياتهم العامة كما وجدوه في قلوبهم وفي مكانهم من الأمم حولهم .
فإذا قال الله لهم : { ولأتم نعمتي عليكم } . . كان في هذا القول تذكير موح ، وإطماع دافع وتلويح بفضل عظيم بعد فضل عظيم . .
ونجد في تكرار الأمر بشأن القبلة الجديدة معنى جديداً في كل مرة . . في المرة الأولى كان الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام استجابة لرغبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد تقلب وجهه في السماء وضراعته الصامتة إلى ربه . . وفي الثانية كان لإثبات أنه الحق من ربه يوافق الرغبة والضراعة . . وفي الثالثة كان لقطع حجة الناس ، والتهوين من شأن من لا يقف عند الحق والحجة . .
ولكننا - مع هذا - نلمح وراء التكرار أنه كانت هناك حالة واقعة في الصف الإسلامي تستدعي هذا التكرار ، وهذا التوكيد ، وهذا البيان ، وهذا التعليل ، مما يشي بضخامة حملة الأضاليل والأباطيل ، وأثرها في بعض القلوب والنفوس . هذا الأثر الذي كان يعالجه القرآن الكريم؛ ثم تبقى النصوص بعد ذلك على مدى الزمان تعالج مثل هذه الحالة في شتى صورها؛ في المعركة الدائبة التي لا تهدأ ولا تفتر ولا تلين
واستطراداً مع هذا الغرض نرى السياق يستطرد في تذكير المسلمين بنعمة الله عليهم ، بإرسال هذا النبي منهم إليهم ، استجابة لدعوة أبيهم إبراهيم ، سادن المسجد الحرام قبلة المسلمين؛ ويربطهم - سبحانه - به مباشرة في نهاية الحديث :
{ كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم ، يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ، ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون . فاذكروني اذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } . .
والذي يلفت النظر هنا ، أن الآية تعيد بالنص دعوة إبراهيم التي سبقت في السورة ، وهو يرفع القواعد من البيت هو وإسماعيل . دعوته أن يبعث الله في بنيه من جيرة البيت ، رسولاً منهم ، يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم . . ليذكر المسلمين أن بعثة هذا الرسول فيهم ، ووجودهم هم أنفسهم مسلمين ، هو الاستجابة المباشرة الكاملة لدعوة أبيهم إبراهيم . وفي هذا ما فيه من إيحاء عميق بأن أمرهم ليس مستحدثاً إنما هو قديم؛ وأن قبلتهم ليست طارئة إنما هي قبلة أبيهم إبراهيم ، وأن نعمة الله عليهم سابغة فهي نعمة الله التي وعدها خليله وعاهده عليها منذ ذلك التاريخ البعيد .
إن نعمة توجيهكم إلى قبلتكم ، وتمييزكم بشخصيتكم هي إحدى الآلاء المطردة فيكم ، سبقتها نعمة إرسال رسول منكم :
{ كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم } . .
فهو التكريم والفضل أن تكون الرسالة فيكم ، وأن يختار الرسول الأخير منكم ، وقد كانت يهود تستفتح به عليكم
{ يتلو عليكم آياتنا } . .
فما يتلو عليكم هو الحق . . والإيحاء الآخر هو الإشعار بعظمة التفضل في أن يخاطب الله العبيد بكلامه يتلوه عليهم رسوله . وهو تفضل يرتعش القلب إزاءه حين يتعمق حقيقته .

فمن هم هؤلاء الناس؟ من هم وما هم؟ حتى يخاطبهم الله سبحانه بكلماته ، ويتحدث إليهم بقوله ، ويمنحهم هذه الرعاية الجليلة؟ من هم وما هم لولا أن الله يتفضل؟ ولولا أن فضل الله يفيض؟ ولولا أنه - سبحانه - منذ البدء منحهم فضل النفخة من روحه ليكون فيهم ما يستأهل هذا الإنعام ، وما يستقبل هذا الإفضال؟
{ ويزكيكم } . .
ولولا الله ما زكي منهم من أحد ، ولا تطهر ولا ارتفع . ولكنه أرسل رسوله - صلى الله عليه وسلم - يطهرهم . يطهر أرواحهم من لوثة الشرك ودنس الجاهلية ، ورجس التصورات التي تثقل الروح الإنساني وتطمره . ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات فلا ترتكس أرواحهم في الحمأة . والذين لا يطهر الإسلام أرواحهم في جنبات الأرض كلها قديماً وحديثاً يرتكسون في مستنقع آسن وبيء من الشهوات والنزوات تزري بإنسانية الإنسان ، وترفع فوقه الحيوان المحكوم بالفطرة ، وهي أنظف كثيراً مما يهبط إليه الناس بدون الإيمان ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت والغش والسلب والنهب . . وهي كلها دنس يلوث الأرواح والمشاعر ، ويلطخ المجتمع والحياة . ويطهر حياتهم من الظلم والبغي وينشر العدل النظيف الصريح الذي لم تستمتع به البشرية كما استمتعت في ظل الإسلام وحكم الإسلام ومنهج الإسلام ويطهرهم من سائر اللوثات التي تلطخ وجه الجاهلية في كل مكان من حولهم ، وفي كل مجتمع لا يزكيه الإسلام بروحه ومنهجه النظيف الطهور . .
{ ويعلمكم الكتاب والحكمة } . .
وفيها شمول لما سبق من تلاوة الآيات وهي الكتاب؛ وبيان للمادة الأصيلة فيه ، وهي الحكمة ، والحكمة ثمرة التعليم بهذا الكتاب؛ وهي ملكة يتأتى معها وضع الأمور في مواضعها الصحيحة ، ووزن الأمور بموازينها الصحيحة ، وإدراك غايات الأوامر والتوجيهات . . وكذلك تحققت هذه الثمرة ناضجة لمن رباهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزكاهم بآيات الله .
{ ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } . .
وكان ذلك حقاً في واقع الجماعة المسلمة ، فقد التقطها الإسلام من البيئة العربية لا تعلم إلا أشياء قليلة متناثرة ، تصلح لحياة القبيلة في الصحراء ، أو في تلك المدن الصغيرة المنعزلة في باطن الصحراء . فجعل منها أمة تقود البشرية قيادة حكيمة راشدة ، خبيرة بصيرة عالمة . . وكان هذا القرآن - مع توجيهات الرسول المستمدة كذلك من القرآن - هو مادة التوجيه والتعليم . وكان مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يتلى فيه القرآن والتوجيهات المستمدة من القرآن - هو الجامعة الكبرى التي تخرج فيها ذلك الجيل الذي قاد البشرية تلك القيادة الحكيمة الراشدة : القيادة التي لم تعرف لها البشرية نظيراً من قبل ولا من بعد في تاريخ البشرية الطويل .
وما يزال هذا المنهج الذي خرّج ذلك الجيل وتلك القيادة على استعداد لتخريج أجيال وقيادات على مدار الزمان لو رجعت الأمة المسلمة إلى هذا المعين ولو آمنت حقا بهذا القرآن ولو جعلته منهجاً للحياة لا كلمات تغنى باللسان لتطريب الآذان
وفي آخر هذا الدرس يتفضل الله على المسلمين تفضلاً آخر ، وهو يدعوهم إلى شكره ويحذرهم من كفره .

يتفضل عليهم فيضمن لهم أن يذكرهم إذا هم ذكروه .
{ فاذكروني أذكركم ، واشكروا لي ولا تكفرون } . .
يا للتفضل الجليل الودود الله جل جلاله . يجعل ذكره لهؤلاء العبيد مكافئاً لذكرهم له في عالمهم الصغير . . إن العبيد حين يذكرون ربهم يذكرونه في هذه الأرض الصغيرة . . وهم أصغر من أرضهم الصغيرة والله حين يذكرهم يذكرهم في هذا الكون الكبير . . وهو الله العلي الكبير . . أي تفضل وأي كرم وأي فيض في السماحة والجود
{ فاذكروني اذكركم } .
إنه الفضل الذي لا يفيضه إلا الله الذي لا خازن لخزائنه ، ولا حاسب لعطاياه . الفضل الفائض من ذاته تعالى بلا سبب ولا موجب إلا أنه هكذا هو سبحانه فياض العطاء .
وفي الصحيح : يقول الله تعالى : « من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه » .
وفي الصحيح أيضاً : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله عز وجل : « يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة - أو قال في ملأ خير منه - وإن دنوت مني شبراً دنوت منك ذراعاً ، وإن دنوت مني ذراعاً دنوت منك باعا ، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة » إنه ذلك الفضل الذي لا يصفه لفظ ولا يعبر عن شكره الحق إلا سجود القلب . .
وذكر الله ليس لفظاً باللسان إنما هو انفعال القلب معه أو بدونه ، والشعور بالله ووجوده والتأثر بهذا الشعور تأثراً ينتهي إلى الطاعة في حده الأدنى ، وإلى رؤية الله وحده ولا شيء غيره لمن يهبه الله الوصول ويذيقه حلاوة اللقاء . .
{ واشكروا لي ولا تكفرون } . .
والشكر لله درجات ، تبدأ بالاعتراف بفضله والحياء من معصيته . وتنتهي بالتجرد لشكره والقصد إلى هذا الشكر في كل حركة بدن ، وفي كل لفظة لسان ، وفي كل خفقة قلب ، وفي كل خطرة جنان .
والنهي عن الكفر هنا إلماع إلى الغاية التي ينتهي إليها التقصير في الذكر والشكر؛ وتحذير من النقطة البعيدة التي ينتهي إليها هذا الخط التعيس والعياذ بالله
ومناسبة هذه التوجيهات والتحذيرات في موضوع القبلة واضحة . وهي النقطة التي تلتقي عندها القلوب لعبادة الله ، والتميز بالانتساب إليه ، والاختصاص بهذا الانتساب .
وهي كذلك واضحة في مجال التحذير من كيد يهود ودسها؛ وقد سبق أن الغاية الأخيرة لكل الجهود هي رد المؤمنين كفاراً . وسلبهم هذه النعمة التي أنعم الله بها عليهم . . نعمة الإيمان أكبر الآلاء التي ينعم الله بها على فرد أو جماعة من الناس . وهي بالقياس إلى العرب خاصة النعمة التي أنشأت لهم وجوداً ، وجعلت لهم دوراً في التاريخ ، وقرنت اسمهم برسالة يؤدونها للبشرية ، وكانوا بدونها ضائعين ، ولولاها لظلوا ضائعين ، وهم بدونها أبداً ضائعون .

فما لهم من فكرة يؤدون بها دوراً في الأرض غير الفكرة التي انبثقت منها؛ وما تنقاد البشرية لقوم لا يحملون فكرة تقود الحياة وتنميها . وفكرة الإسلام برنامج حياة كامل ، لا كلمة تقال باللسان بلا رصيد من العمل الإيجابي المصدق لهذه الكلمة الطيبة الكبيرة .
وتذكُّر هذه الحقيقة واجب على الأمة المسلمة ليذكره الله فلا ينساها . ومن نسيه الله فهو مغمور ضائع لا ذكر له في الأرض ، ولا ذكر له في الملأ الأعلى . ومن ذكر الله ذكره ، ورفع من وجوده وذكره في هذا الكون العريض .
ولقد ذكر المسلمون الله فذكرهم ، ورفع ذكرهم ، ومكنهم من القيادة الراشدة . ثم نسوه فنسيهم فإذا هم همل ضائع ، وذيل تافه ذليل . . والوسيلة قائمة . والله يدعوهم في قرآنه الكريم : { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } . .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

بعد تقرير القبلة ، وإفراد الأمة المسلمة بشخصيتها المميزة ، التي تتفق مع حقيقة تصورها المميزة كذلك . . كان أول توجيه لهذه الأمة ذات الشخصية الخاصة والكيان الخاص ، هذه الأمة الوسط الشهيدة على الناس . . كان أول توجيه لهذه الأمة هو الاستعانة بالصبر والصلاة على تكاليف هذا الدور العظيم . والاستعداد لبذل التضحيات التي يتطلبها هذا الدور من استشهاد الشهداء ، ونقص الأموال والأنفس والثمرات ، والخوف والجوع ، ومكابدة أهوال الجهاد لإقرار منهج الله في الأنفس ، وإقراره في الأرض بين الناس . وربط قلوب هذه الأمة بالله ، وتجردها له ، ورد الأمور كلها إليه . . كل أولئك في مقابل رضى الله ورحمته وهدايته ، وهي وحدها جزاء ضخم للقلب المؤمن ، الذي يدرك قيمة هذا الجزاء . .
{ يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة . إن الله مع الصابرين } . .
يتكرر ذكر الصبر في القرآن كثيراً؛ ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع؛ والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات؛ والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة الأعصاب ، مجندة القوى ، يقظة للمداخل والمخارج . . ولا بد من الصبر في هذا كله . . لا بد من الصبر على الطاعات ، والصبر عن المعاصي ، والصبر على جهاد المشاقين لله ، والصبر على الكيد بشتى صنوفه ، والصبر على بطء النصر ، والصبر على بعد الشقة ، والصبر على انتفاش الباطل ، والصبر على قلة الناصر ، والصبر على طول الطريق الشائك ، والصبر على التواء النفوس ، وضلال القلوب ، وثقلة العناد ، ومضاضة الإعراض . .
وحين يطول الأمد ، ويشق الجهد ، قد يضعف الصبر ، أو ينفد ، إذا لم يكن هناك زاد ومدد . ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر؛ فهي المعين الذي لا ينضب ، والزاد الذي لا ينفد . المعين الذي يجدد الطاقة ، والزاد الذي يزود القلب ، فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع . ثم يضيف إلى الصبر ، الرضى والبشاشة ، والطمأنينة ، والثقة ، واليقين .
إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى ، يستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة . حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة . حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع ، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة . حينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة في عمره المحدود ، ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئاً وقد أوشك المغيب ، ولم ينل شيئاً وشمس العمر تميل للغروب . حينما يجد الشر نافشاً والخير ضاوياً ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق . .
هنا تبدو قيمة الصلاة . . إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني والقوة الباقية . إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض . إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض .

إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير . إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة ، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود . . ومن هنا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في الشدة قال : « أرحنا بها يا بلال » ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء بالله .
إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة . والعبادة فيه ذات أسرار . ومن أسرارها أنها زاد الطريق . وأنها مدد الروح . وأنها جلاء القلب . وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر . . إن الله سبحانه حينما انتدب محمداً - صلى الله عليه وسلم - للدور الكبير الشاق الثقيل ، قال له :
{ يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً . نصفه أو انقص منه قليلاً . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً . . إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } فكان الإعداد للقول الثقيل ، والتكليف الشاق ، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن . . إنها العبادة التي تفتح القلب ، وتوثق الصلة ، وتيسر الأمر ، وتشرق بالنور ، وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان .
ومن ثم يوجه الله المؤمنين هنا وهم على أبواب المشقات العظام . . إلى الصبر وإلى الصلاة . .
ثم يجيء التعقيب بعد هذا التوجيه : { إن الله مع الصابرين } . .
معهم ، يؤيدهم ، ويثبتهم ، ويقويهم ، ويؤنسهم ، ولا يدعهم يقطعون الطريق وحدهم ، ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة ، وقوتهم الضعيفة ، إنما يمدهم حين ينفد زادهم ، ويجدد عزيمتهم حين تطول بهم الطريق . . وهو يناديهم في أول الآية ذلك النداء الحبيب : { يا أيها الذين آمنوا } . . ويختم النداء بذلك التشجيع العجيب :
{ إن الله مع الصابرين } .
والأحاديث في الصبر كثيرة نذكر بعضها لمناسبته للسياق القرآني هنا في إعداد الجماعة المسلمة لحمل عبئها والقيام بدورها :
عن خباب بن الأرثّ - رضي الله عنه - « قال شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة في ظل الكعبة . فقلنا : ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ، فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار ، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، ما يصده ذلك عن دينه . . والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله ، والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون » . وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : « كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء عليهم السلام ، ضربه قومه فأدموه ، وهو يمسح الدم عن وجهه ، وهو يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » وعن يحيى بن وثاب ، عن شيخ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :

« المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم » والآن والجماعة المسلمة في المدينة مقبلة على جهاد شاق لإقرار منهج الله في الأرض ، ولأداء دورها المقسوم لها في قدر الله ، ولتسلم الراية والسير بها في الطريق الشاق الطويل . . الآن يأخذ القرآن في تعبئتها تعبئة روحية ، وفي تقويم تصورها لما يجري في أثناء هذا الجهاد من جذب ودفع ، ومن تضحيات وآلام ، وفي إعطائها الموازين الصحيحة التي تقدر بها القيم في هذه المعركة الطويلة تقديراً صحيحاً :
{ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله : أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون } . .
إن هنالك قتلى سيخرون شهداء في معركة الحق . شهداء في سبيل الله . قتلى أعزاء أحباء . قتلى كراماً أزكياء - فالذين يخرجون في سبيل الله ، والذين يضحون بأرواحهم في معركة الحق ، هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس - هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتاً . إنهم أحياء . فلا يجوز أن يقال عنهم : أموات . لا يجوز أن يعتبروا أمواتاً في الحس والشعور ، ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان . إنهم أحياء بشهادة الله سبحانه . فهم لا بد أحياء .
إنهم قتلوا في ظاهر الأمر ، وحسبما ترى العين . ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة لا تقررهما هذه النظرة السطحية الظاهرة . . إن سمة الحياة الأولى هي الفاعلية والنمو والامتداد . وسمة الموت الأولى هي السلبية والخمود والانقطاع . . وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من أجله فاعلية مؤثرة ، والفكرة التي من أجلها قتلوا ترتوي بدمائهم وتمتد ، وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد . فهم ما يزالون عنصراً فعالاً دافعاً مؤثراً في تكييف الحياة وتوجيهها ، وهذه هي صفة الحياة الأولى . فهم أحياء أولاً بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس .
ثم هم أحياء عند ربهم - إما بهذا الاعتبار ، وإما باعتبار آخر لا ندري نحن كنهه . وحسبنا إخبار الله تعالى به : { أحياء ولكن لا تشعرون } لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود . ولكنهم أحياء .
أحياء . ومن ثم لا يغسلون كما يغسل الموتى ، ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها . فالغسل تطهير للجسد الميت وهم أطهار بما فيهم من حياة . وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر لأنهم بعد أحياء .
أحياء . فلا يشق قتلهم على الأهل والأحباء والأصدقاء . أحياء يشاركون في حياة الأهل والأحباء والأصدقاء . أحياء فلا يصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم ، ولا يتعاظمها الأمر ، ولا يهولنها عظم الفداء .
ثم هم بعد كونهم أحياء مكرمون عند الله ، مأجورون أكرم الأجر وأوفاه :
في صحيح مسلم : « إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش ، فاطلع عليهم ربك إطلاعة . فقال : ماذا تبغون؟ فقالوا : يا ربنا . وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا . فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا : نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى - لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جل جلاله : إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون » .

وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا ، وله ما على الأرض من شيء . إلا الشهيد ، ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات ، لما يرى من الكرامة . » ( أخرجه مالك والشيخان ) .
ولكن من هم هؤلاء الشهداء الأحياء؟ إنهم أولئك الذين يقتلون { في سبيل الله } . . في سبيل الله وحده ، دون شركة في شارة ولا هدف ولا غاية إلا الله . في سبيل هذا الحق الذي أنزله . في سبيل هذا المنهج الذي شرعه . في سبيل هذا الدين الذي اختاره . . في هذا السبيل وحده ، لا في أي سبيل آخر ، ولا تحت أي شعار آخر ، ولا شركة مع هدف أو شعار ، وفي هذا شدد القرآن وشدد الحديث ، حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر . . غير الله . .
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : « سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء . أي ذلك في سبيل الله؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » ( أخرجه مالك والشيخان )
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - « أن رجلاً قال : يا رسول الله : رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضاً من الدنيا؟ فقال : » لا أجر له « . فأعاد عليه ثلاثاً كل ذلك يقول : لا أجر له » ( أخرجه أبو داود ) .
وعنه - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيل الله . لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي . . فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة . والذي نفس محمد بيده ، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم ، لونه لون دم وريحه ريح مسك . والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل أبداً ولكن لا أجد سعة فأحملهم ، ولا يجدون سعة فيتبعوني ويشق عليهم أن يتخلفوا عني . والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ، ثم أغزو فأقتل ، ثم أغزو فأقتل »

( أخرجه مالك والشيخان ) .
فهؤلاء هم الشهداء . هؤلاء الذي يخرجون في سبيل الله ، لا يخرجهم إلا جهاد في سبيله ، وإيمان به ، وتصديق برسله .
ولقد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفتى فارسي يجاهد أن يذكر فارسيته ويعتز بجنسيته في مجال الجهاد : عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن أبيه ( وكان مولى من أهل فارس ) قال : « شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أحداً . فضربت رجلاً من المشركين ، فقلت : خذها وأنا الغلام الفارسي : فالتفت إليّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : هلا قلت وأنا الغلام الأنصاري؟ إن ابن أخت القوم منهم ، وإن مولى القوم منهم » ( أخرجه أبو داود ) .
فقد كره له صلى الله عليه وسلم أن يفخر بصفة غير صفة النصر للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يحارب تحت شارة إلا شارة النصر لهذا الدين . . وهذا هو الجهاد . وفيه وحده تكون الشهادة ، وتكون الحياة للشهداء .
ثم يمضي السياق في التعبئة لمواجهة الأحداث ، وفي تقويم التصور لحقيقة الأحداث :
{ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات . وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون } . .
ولا بد من تربية النفوس بالبلاء ، ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد ، وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات . . لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة ، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف . والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى . فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين . وكلما تألموا في سبيلها ، وكلما بذلوا من أجلها . . كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها . كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها . . إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم : لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيراً مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء ، ولا صبروا عليه . . وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها ، مقدرين لها ، مندفعين إليها . . وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجاً . .
ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى . فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة؛ وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد . والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون ، والران عن القلوب .

وأهم من هذا كله ، أو القاعدة لهذا كله . . الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها ، وتتوارى الأوهام وهي شتى ، ويخلو القلب إلى الله وحده . لا يجد سنداً إلا سنده . وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات ، وتتفتح البصيرة ، وينجلي الأفق على مد البصر . . لا شيء إلا الله . . لا قوة إلا قوته . . لا حول إلا حوله . . لا إرادة إلا إرادته . . لا ملجأ إلا إليه . . وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة التي يقوم عليها تصور صحيح . .
والنص القرآني هنا يصل بالنفس إلى هذه النقطة على الأفق :
{ وبشر الصابرين . الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون } . .
إنا لله . . كلنا . . كل ما فينا . . كل كياننا وذاتيتنا . . لله . . وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير . . التسليم . . التسليم المطلق . . تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجهاً لوجه بالحقيقة الوحيدة ، وبالتصور الصحيح .
هؤلاء هم الصابرون . . الذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل . .
وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل :
{ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ، وأولئك هم المهتدون } . .
صلوات من ربهم . . يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه . . وهو مقام كريم . . ورحمة . . وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون . .
وكل أمر من هذه هائل عظيم . .
وبعد . . فلا بد من وقفة أمام هذه الخاتمة في تلك التعبئة للصف الإسلامي . التعبئة في مواجهة المشقة والجهد ، والاستشهاد والقتل ، والجوع والخوف ، ونقص الأموال والأنفس والثمرات . التعبئة في هذه المعركة الطويلة الشاقة العظيمة التكاليف .
إن الله يضع هذا كله في كفة . ويضع في الكفة الأخرى أمراً واحداً . . صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون . . إنه لا يعدهم هنا نصراً ، ولا يعدهم هنا تمكيناً ولا يعدهم هنا مغانم ، ولا يعدهم هنا شيئاً إلا صلوات الله ورحمته وشهادته . . لقد كان الله يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها وأكبر من حياتها . فكان من ثم يجردها من كل غاية ، ومن كل هدف ومن كل رغبة من الرغبات البشرية - حتى الرغبة في انتصار العقيدة - كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته . . كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضى الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون . . هذا هو الهدف ، وهذه هي الغاية ، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها . . فأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم ، إنما هو لدعوة الله التي يحملونها .
إن لهم في صلوات الله ورحمته وشهادته جزاء . جزاء على التضحية بالأموال والأنفس والثمرات . وجزاء على الخوف والجوع والشدة وجزاء على القتل والشهادة . . إن الكفة ترجح بهذا العطاء فهو أثقل في الميزان من كل عطاء . أرجح من النصر وأرجح من التمكين وأرجح من شفاء غيظ الصدور . .
هذه هي التربية التي أخذ الله بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب ، وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين .

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

يستهدف هذا الدرس تصحيح عدد من القواعد التي يقوم عليها التصور الإيماني الصحيح؛ مع الاستمرار في مواجهة يهود المدينة الذين لا يكفون عن تلبيس الحق بالباطل في هذه القواعد؛ وكتمان الحق الذي يعلمونه في شأنها؛ وإيقاع البلبلة والاضطراب فيها . . ولكن السياق يتخذ في هذا الدرس أسلوب التعميم؛ وعرض القواعد العامة ، التي تشمل اليهود وغيرهم ممن يرصدون للدعوة . وكذلك يحذر المسلمين من المزالق التي تترصدهم في طريقهم بصفة عامة .
ومن ثم نجد بياناً في موضوع الطواف بالصفا والمروة ، بسبب ما كان يلابس هذا الموضوع من تقاليد الجاهلية . وهو بيان يتصل كذلك بمسألة الاتجاه إلى المسجد الحرام في الصلاة ، وإقرار شعائر الحج إلى هذا البيت .
لذلك يليه في السياق بيان في شأن أهل الكتاب الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى؛ وحملة عنيفة عليهم؛ مع فتح باب التوبة لمن يريد أن يتوب . فأما الذين يصرون على الكفر فيعدهم اللعنة الجامعة ، والعذاب الشديد الدائم .
ثم بيان لوحدانية الله ، وتوجيه إلى الآيات الكونية الشاهدة بهذه الحقيقة . وتنديد بمن يتخذون من دون الله أنداداً . وعرض مشهد من مشاهد القيامة للتابعين منهم والمتبوعين . يتبرأ بعضهم من بعض وهم يرون العذاب .
وبمناسبة ما كان يجادل فيه اليهود من الحلال والحرام في المطاعم والمشارب ، مما نزل به القرآن وبيانه عندهم فيما يكتمونه من التوراة . . تجيء دعوة إلى الناس كافة للاستمتاع بالطيبات التي أحلها الله؛ وتحذير من الشيطان الذي يأمرهم بالسوء والفحشاء . تليها دعوة خاصة للذين آمنوا للاستمتاع بما أحل الله لهم والامتناع عما حرم عليهم ، وبيان هذه المحرمات التي يجادل فيها اليهود ويماحلون وهم يعلمون .
ومن ثم حملة عنيفة على الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً . وتهديد رعيب بما ينتظرهم في الآخرة من إهمال وغضب واحتقار .
وفي نهاية الدرس يرد بيان عن حقيقة البر يتضمن قواعد الإيمان والعمل الصالح ، يصحح به التصور الإيماني؛ فليس هو شكليات ظاهرية ، وتقليباً للوجوه قبل المشرق والمغرب ، ولكنه شعور وعمل وارتباط بالله في الشعور والعمل . . وتبدو العلاقة بين هذا البيان والجدل الذي ثار حول القبلة واضحة .
وهكذا نجد السياق ما يزال في المعركة . . المعركة في داخل النفوس لتصحيح التصورات والموازين . والمعركة مع الكيد والدس والبلبلة التي يقوم بها أعداء المسلمين . .
{ إن الصفا والمروة من شعائر الله ، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما ، ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم } . .
هناك عدة روايات عن سبب نزول هذه الآية ، أقربها إلى المنطق النفسي المستفاد من طبيعة التصور الذي أنشأه الإسلام في نفوس المجموعة السابقة إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار .

. الرواية التي تقول : إن بعض المسلمين تحرجوا من الطواف بالصفا والمروة في الحج والعمرة ، بسبب أنهم كانوا يسعون بين هذين الجبلين في الجاهلية ، وأنه كان فوقهما صنمان هما أساف ونائلة . فكره المسلمون أن يطوفوا كما كانوا يطوفون في الجاهلية .
قال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن عاصم بن سليمان : قال سألت أنساً عن الصفا والمروة قال : كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية . فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما ، فأنزل الله عز وجل : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } . . وقال الشعبي : كان أساف على الصفا ، وكانت نائلة على المروة ، وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما فنزلت هذه الآية .
ولم يرد تحديد لتاريخ نزول هذه الآية . والأرجح أنها نزلت متأخرة عن الآيات الخاصة بتحويل القبلة . ومع أن مكة قد أصبحت دار حرب بالنسبة للمسلمين ، فإنه لا يبعد أن بعض المسلمين كانوا يتمكنون أفراداً من الحج ومن العمرة . وهؤلاء هم الذين تحرجوا من الطواف بين الصفا والمروة . . وكان هذا التحرج ثمرة التعليم الطويل ، ووضوح التصور الإيماني في نفوسهم ، هذا الوضوح الذي يجعلهم يتحرزون ويتوجسون من كل أمر كانوا يزاولونه في الجاهلية . إذ أصبحت نفوسهم من الحساسية في هذه الناحية بحيث تفزع من كل ما كان في الجاهلية ، وتتوجس أن يكون منهياً عنه في الإسلام . الأمر الذي ظهر بوضوح في مناسبات كثيرة . .
كانت الدعوة الجديدة قد هزت أرواحهم هزاً وتغلغلت فيها إلى الأعماق ، فأحدثت فيها انقلاباً نفسياً وشعورياً كاملاً ، حتى لينظرون بجفوة وتحرز إلى ماضيهم في الجاهلية؛ ويحسون أن هذا شطر من حياتهم قد انفصلوا عنه انفصالاً كاملاً فلم يعد منهم ، ولم يعودوا منه؛ وعاد دنساً ورجساً يتحرزون من الإلمام به
وإن المتابع لسيرة هذه الفترة الأخيرة في حياة القوم ليحس بقوة أثر هذه العقيدة العجيب في تلك النفوس . يحس التغير الكامل في تصورهم للحياة . حتى لكأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أمسك بهذه النفوس فهزها هزة نفضت عنها كل رواسبها ، وأعادت تأليف ذراتها على نسق جديد؛ كما تصنع الهزة الكهربية في تأليف ذرات الأجسام على نسق آخر غير الذي كان
وهذا هو الإسلام . . هذا هو : انسلاخاً كاملاً عن كل ما في الجاهلية ، وتحرجاً بالغاً من كل أمر من أمور الجاهلية ، وحذراً دائماً من كل شعور وكل حركة كانت النفس تأتيها في الجاهلية . حتى يخلص القلب للتصور الجديد بكل ما يقتضيه . . فلما أن تم هذا في نفوس الجماعة المسلمة أخذ الإسلام يقرر ما يريد الإبقاء عليه من الشعائر الأولى ، مما لا يرى فيه بأساً . ولكن يربطه بعروة الإسلام بعد أن نزعه وقطعه عن أصله الجاهلي . فإذا أتاه المسلم فلا يأتيه لأنه كان يفعله في الجاهلية؛ ولكن لأنه شعيرة جديدة من شعائر الإسلام ، تستمد أصلها من الإسلام .

وهنا نجد مثالا من هذا المنهج التربوي العميق . إذ يبدأ القرآن بتقرير أن الصفا والمروة من شعائر الله : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } . .
فإذا أطوف بهما مطوف ، فإنما يؤدي شعيرة من شعائر الله؛ وإنما يقصد بالطواف بينهما إلى الله . ولقد انقطع ما بين هذا الطواف الجديد وطواف الجاهلية الموروث؛ وتعلق الأمر بالله - سبحانه - لا بأساف ونائلة وغيرهما من أصنام الجاهلية
ومن ثم فلا حرج ولا تأثم . فالأمر غير الأمر ، والاتجاه غير الاتجاه :
{ فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } . .
وقد أقر الإسلام معظم شعائر الحج التي كان العرب يؤدونها ، ونفى كل ما يمت إلى الأوثان وإلى أوهام الجاهلية ، وربط الشعائر التي أقرها بالتصور الإسلامي الجديد ، بوصفها شعائر إبراهيم التي علمه ربه إياها ( وسيأتي تفصيل هذا عند الكلام على فريضة الحج في موضعه من سياق السورة ) . . فأما العمرة فكالحج في شعائرها فيما عدا الوقوف بعرفة دون توقيت بمواقيت الحج . وفي كلا الحج والعمرة جعل الطواف بين الصفا المروة من شعائرهما .
ثم يختم الآية بتحسين التطوع بالخير إطلاقاً :
{ ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم } . .
فيلمح إلى أن هذا الطواف من الخير ، وبذلك ينفي من النفوس كل حرج ، ويطيب القلوب بهذه الشعائر ، ويطمئنها على أن الله يعدها خيراً ، ويجازي عليها بالخير . وهو يعلم ما تنطوي عليه القلوب من نية وشعور .
ولا بد أن نقف لحظة أمام ذلك التعبير الموحي : { فإن الله شاكر . . . } . . إن المعنى المقصود أن الله يرضى عن ذلك الخير ويثيب عليه . ولكن كلمة { شاكر } تلقي ظلالاً ندية وراء هذا المعنى المجرد . تلقي ظلال الرضى الكامل ، حتى لكأنه الشكر من الرب للعبد . ومن ثم توحي بالأدب الواجب من العبد مع الرب . فإذا كان الرب يشكر لعبده الخير ، فماذا يصنع العبد ليوفي الرب حقه من الشكر والحمد؟؟ تلك ظلال التعبير القرآني التي تلمس الحس بكل ما فيها من الندى والرفق والجمال .
ومن بيان مشروعية الطواف بالصفا والمروة ينتقل السياق إلى الحملة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى ، وهم اليهود الذين سبق الحديث عنهم طويلا في سياق السورة . مما يوحي بأن دسائسهم لم تنقطع حول مسألة الاتجاه إلى المسجد الحرام وفرض الحج إليه أيضاً :
{ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون . إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم ، وأنا التواب الرحيم . إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار ، أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون } . .
ولقد كان أهل الكتاب يعرفون مما بين أيديهم من الكتاب مدى ما في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من حق ، ومدى ما في الأوامر التي يبلغها من صدق ، ومع هذا يكتمون هذا الذي بينه الله لهم في الكتاب .

فهم وأمثالهم في أي زمان ، ممن يكتمون الحق الذي أنزله الله ، لسبب من أسباب الكتمان الكثيرة ، ممن يراهم الناس في شتى الأزمنة وشتى الأمكنة ، يسكتون عن الحق وهم يعرفونه ، ويكتمون الأقوال التي تقرره وهم على يقين منها ، ويجتنبون آيات في كتاب الله لا يبرزونها بل يسكتون عنها ويخفونها لينحوا الحقيقة التي تحملها هذه الآيات ويخفوها بعيداً عن سمع الناس وحسهم ، لغرض من أغراض هذه الدنيا . . الأمر الذي نشهده في مواقف كثيرة ، وبصدد حقائق من حقائق هذا الدين كثيرة . . { أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } . .
كأنما تحولوا إلى ملعنة ، ينصب عليها اللعن من كل مصدر ، ويتوجه إليها - بعد الله - من كل لاعن
واللعن : الطرد في غضب وزجر ، وأولئك الخلق يلعنهم الله فيطردهم من رحمته ، ويطاردهم اللاعنون من كل صوب . فهم هكذا مطاردون من الله ومن عباده في كل مكان . .
{ إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا . فأولئك أتوب عليهم ، وأنا التواب الرحيم } . .
هؤلاء يفتح القرآن لهم هذه النافذة المضيئة - نافذة التوبة - يفتحها فتنسم نسمة الأمل في الصدور ، وتقود القلوب إلى مصدر النور ، فلا تيئس من رحمة الله ، ولا تقنط من عفوه . فمن شاء فليرجع إلى الحمى الآمن ، صادق النية . وآية صدق التوبة الإصلاح في العمل ، والتبيين في القول ، وإعلان الحق والاعتراف به والعمل بمقتضاه . ثم ليثق برحمة الله وقبوله للتوبة ، وهو يقول : { وأنا التواب الرحيم } وهو أصدق القائلين .
فأما الذين يصرون ولا يتوبون حتى تفلت الفرصة وتنتهي المهلة ، فأولئك ملاقون ما أوعد الله من قبل به ، بزيادة وتفصيل وتوكيد :
{ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار . أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون } . .
ذلك أنهم أغلقوا على أنفسهم ذلك الباب المفتوح ، وتركوا الفرصة تفلت ، والمهلة تنقضي ، وأصروا على الكتمان والكفر والضلال : { أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } . . فهي لعنة مطبقة لا ملجأ منها ولا صدر حنون
ولم يذكر السياق لهم عذاباً آخر غير هذه اللعنة المطبقة؛ بل عدها عذاباً لا يخفف عنهم ، ولا يؤجل موعده ولا يمهلون فيه ، وإنه لعذاب دونه كل عذاب . عذاب المطاردة والنبذ والجفوة . فلا يتلقاهم صدر فيه حنان ، ولا عين فيها قبول ، ولا لسان فيه تحية . إنهم ملعونون مطرودون منبوذون من العباد ومن رب العباد في الأرض وفي الملأ الأعلى على السواء . . وهذا هو العذاب الأليم المهين . .
بعد هذا يمضي السياق في إقامة التصور الإيماني على قاعدته الكبيرة . قاعدة التوحيد . ويعرض من مشاهد الكون ما يشهد بهذه الحقيقة شهادة لا تقبل الجدل .

ثم يندد بمن يتخذون من دون الله انداداً؛ ويصور موقفهم المتخاذل يوم يرون العذاب ، فيتبرأ بعضهم من بعض؛ فلا ينفعهم هذا التبرؤ ، ولا تفيدهم حسراتهم ولا تخرجهم من النار .
{ وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم . إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة ، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون . ومن الناس من يتخذ من دون الله انداداً يحبونهم كحب الله ، والذين آمنوا أشد حباً لله . ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً ، وأن الله شديد العذاب . إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ، ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب . وقال الذين اتبعوا : لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ، وما هم بخارجين من النار } . .
إن وحدة الألوهية هي القاعدة الكبيرة التي يقوم عليها التصور الإيماني . فلم يكن هناك جدل حول الاعتقاد بوجود إله - تختلف التصورات حول ذاته وحول صفاته وحول علاقاته بالخلق ولكنها لا تنفي وجوده - ولم يقع أن نسيت الفطرة هذه الحقيقة ، حقيقة وجود إله ، إلا في هذه الأيام الأخيرة حين نبتت نابتة منقطعة عن أصل الحياة ، منقطعة عن أصل الفطرة ، تنكر وجود الله . وهي نابتة شاذة لا جذور لها في أصل هذا الوجود؛ ومن ثم فمصيرها حتماً إلى الفناء والاندثار من هذا الوجود . هذا الوجود الذي لا يطيق تكوينه ، ولا تطيق فطرته بقاء هذا الصنف من الخلائق المقطوعة الجذور
لذلك اتجه السياق القرآني دائما إلى الحديث عن وحدة الألوهية ، بوصفها التصحيح الضروري للتصور ، والقاعدة الأساسية لإقامة هذا التصور . . ثم لإقامة سائر القواعد الأخلاقية والنظم الاجتماعية ، المنبثقة من هذا التصور . . تصور وحدة الألوهية في هذا الوجود :
{ وإلهكم إله واحد } . . { لا إله إلا هو } . . { الرحمن الرحيم } . .
ومن وحدانية الألوهية التي يؤكدها هذا التأكيد ، بشتى أساليب التوكيد ، يتوحد المعبود الذي يتجه إليه الخلق بالعبودية والطاعة؛ وتتوحد الجهة التي يتلقى منها الخلق قواعد الأخلاق والسلوك؛ ويتوحد المصدر الذي يتلقى منه الخلق أصول الشرائع والقوانين؛ ويتوحد المنهج الذي يصرف حياة الخلق في كل طريق .
وهنا والسياق يستهدف إعداد الأمة المسلمة لدورها العظيم في الأرض ، يعيد ذكر هذه الحقيقة التي تكرر ذكرها مرات ومرات في القرآن المكي ، والتي ظل القرآن يعمق جذورها ويمد في آفاقها حتى تشمل كل جوانب الحس والعقل ، وكل جوانب الحياة والوجود . . . يعيد ذكر هذه الحقيقة ليقيم على أساسها سائر التشريعات والتكاليف . . ثم يذكر من صفات الله هنا : { الرحمن الرحيم } .

. فمن رحمته السابغة العميقة الدائمة تنبثق كل التشريعات والتكاليف .
وهذا الكون كله شاهد بالوحدانية وبالرحمة في كل مجاليه :
{ إن في خلق السماوات والأرض ، واختلاف الليل النهار ، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة ، وتصريف الرياح ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض . . لآيات لقوم يعقلون } . .
وهذه الطريقة في تنبيه الحواس والمشاعر جديرة بأن تفتح العين والقلب على عجائب هذا الكون . العجائب التي تفقدنا الألفة جدتها وغرابتها وإيحاءاتها للقلب والحس ، وهي دعوة للإنسان أن يرتاد هذا الكون كالذي يراه أول مرة مفتوح العين ، متوفز الحس ، حي القلب . وكم في هذه المشاهد المكرورة من عجيب . وكم فيها من غريب وكم اختلجت العيون والقلوب وهي تطلع عليها أول مرة؛ ثم الفتها ففقدت هزة المفاجأة ، ودهشة المباغتة ، وروعة النظرة الأولى إلى هذا المهرجان العجيب .
تلك السماوات والأرض . . هذه الأبعاد الهائلة والأجرام الضخمة والآفاق المسحورة ، والعوالم المجهولة . . هذا التناسق في مواقعها وجريانها في ذلك الفضاء الهائل الذي يدير الرؤوس . . هذه الأسرار التي توصوص للنفس وتلتف في رداء المجهول . . هذه السماوات والأرض حتى دون أن يعرف الإنسان شيئاً عن حقيقة أبعادها وأحجامها وأسرارها التي يكشف الله للبشر عن بعضها حينما تنمو مداركهم وتسعفهم أبحاث العلوم . .
واختلاف الليل والنهار . . تعاقب النور والظلام . . توالي الإشراق والعتمة . ذلك الفجر وذلك الغروب . . كم اهتزت لها مشاعر ، وكم وجفت لها قلوب ، وكم كانت أعجوبة الأعاجيب . . ثم فقد الإنسان وهلتها وروعتها مع التكرار . إلا القلب المؤمن الذي تتجدد في حسه هذه المشاهد؛ ويظل أبداً يذكر يد الله فيها فيتلقاها في كل مرة بروعة الخلق الجديد .
والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس . . وأشهد ما أحسست ما في هذه اللفتة من عمق قدر ما أحسست ونقطة صغيرة في خضم المحيط تحملنا وتجري بنا ، والموج المتلاطم والزرقة المطلقة من حولنا . والفلك سابحة متناثرة هنا وهناك . ولا شيء إلا قدرة الله ، وإلا رعاية الله ، وإلا قانون الكون الذي جعله الله ، يحمل تلك النقطة الصغيرة على ثبج الأمواج وخضمها الرعيب
وما أنزل الله من السماء من ماء ، فأحيا به الأرض بعد موتها ، وبث فيها من كل دابة ، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض . . وكلها مشاهد لو أعاد الإنسان تأملها - كما يوحي القرآن للقلب المؤمن - بعين مفتوحة وقلب واع ، لارتجف كيانه من عظمة القدرة ورحمتها . . تلك الحياة التي تنبعث من الأرض حينما يجودها الماء . . هذه الحياة المجهولة الكنه ، اللطيفة الجوهر ، التي تدب في لطف ، ثم تتبدى جاهرة معلنة قوية . . هذه الحياة من أين جاءت؟ كانت كامنة في الحبة والنواة ولكن من أين جاءت إلى الحبة والنواة؟ أصلها؟ مصدرها الأول؟ إنه لا يجدي الهرب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على الفطرة .

. لقد حاول الملحدون تجاهل هذا السؤال الذي لا جواب عليه إلا وجود خالق قادر على إعطاء الحياة للموات . وحاولوا طويلاً أن يوهموا الناس أنهم في طريقهم إلى إنشاء الحياة - بلا حاجة إلى إله - ثم أخيراً إذا هم في أرض الإلحاد الجاحد الكافر ينتهون إلى نفض أيديهم والإقرار بما يكرهون : استحالة خلق الحياة وأعلم علماء روسيا الكافرة في موضوع الحياة هو الذي يقول هذا الآن ومن قبل راغ دارون صاحب نظرية النشوء والارتقاء من مواجهة هذا السؤال
ثم تلك الرياح المتحولة من وجهة إلى وجهة ، وذلك السحاب المحمول على هواء ، المسخر بين السماء والأرض ، الخاضع للناموس الذي أودعه الخالق هذا الوجود . . إنه لا يكفي أن تقول نظرية ما تقوله عن أسباب هبوب الريح ، وعن طريقة تكون السحاب . . إن السر الأعمق هو سر هذه الأسباب . . سر خلقة الكون بهذه الطبيعة وبهذه النسب وبهذه الأوضاع ، التي تسمح بنشأة الحياة ونموها وتوفير الأسباب الملائمة لها من رياح وسحاب ومطر وتربة . . سر هذه الموافقات التي يعد المعروف منها بالآلاف ، والتي لو اختلت واحدة منها ما نشأت الحياة أو ما سارت هذه السيرة . . سر التدبير الدقيق الذي يشي بالقصد والاختيار ، كما يشي بوحدة التصميم ورحمة التدبير . .
إن في ذلك { لآيات لقوم يعقلون } . .
نعم لو ألقى الإنسان عن عقله بلادة الألفة والغفلة ، فاستقبل مشاهد الكون بحس متجدد ، ونظرة مستطلعة ، وقلب نوّره الإيمان . ولو سار في هذا الكون كالرائد الذي يهبط إليه أول مرة . تلفت عينه كل ومضة ، وتلفت سمعه كل نأمة ، وتلفت حسه كل حركة ، وتهز كيانه تلك الأعاجيب التي ما تني تتوالى على الأبصار والقلوب والمشاعر . .
إن هذا هو ما يصنعه الإيمان . هذا التفتح . هذه الحساسية . هذا التقدير للجمال والتناسق والكمال . . إن الإيمان رؤية جديدة للكون ، وإدراك جديد للجمال ، وحياة على الأرض في مهرجان من صنع الله ، آناء الليل وأطراف النهار . .
ومع هذا فإن هناك من لا ينظر ولا يتعقل ، فيحيد عن التوحيد الذي يوحي به تصميم الوجود ، والنظر في وحدة الناموس الكوني العجيب :
{ ومن الناس من يتخذ من دون الله انداداً يحبونهم كحب الله } . .
من الناس من يتخذ من دون الله انداداً . . كانوا على عهد المخاطبين بهذا القرآن أحجاراً وأشجاراً ، أو نجوماً وكواكب ، أو ملائكة وشياطين . . وهم في كل عهد من عهود الجاهلية أشياء أو أشخاص أو شارات أو اعتبارات . . وكلها شرك خفي أو ظاهر ، إذا ذكرت إلى جانب اسم الله ، وإذا أشركها المرء في قلبه مع حب الله ، فكيف إذا نزع حب الله من قلبه وأفرد هذه الأنداد بالحب الذي لا يكون إلا لله؟
إن المؤمنين لا يحبون شيئاً حبهم لله .

لا أنفسهم ولا سواهم . لا أشخاصاً ولا اعتبارات ولا شارات ولا قيماً من قيم هذه الأرض التي يجري وراءها الناس :
{ والذين آمنوا أشد حباً لله } . .
أشد حباً لله ، حباً مطلقاً من كل موازنة ، ومن كل قيد . أشد حباً لله من كل حب يتجهون به إلى سواه .
والتعبير هنا بالحب تعبير جميل ، فوق أنه تعبير صادق . فالصلة بين المؤمن الحق وبين الله هي صلة الحب . صلة الوشيجة القلبية ، والتجاذب الروحي . صلة المودة والقربى . صلة الوجدان المشدود بعاطفة الحب المشرق الودود .
{ ولو يرى الذين ظلموا - إذ يرون العذاب - أن القوة لله جميعاً ، وأن الله شديد العذاب . إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ، ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب . وقال الذين اتبعوا : لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ، وما هم بخارجين من النار } . .
أولئك الذين اتخذوا من دون الله انداداً . فظلموا الحق ، وظلموا أنفسهم . . لو مدوا بأبصارهم إلى يوم يقفون بين يدي الله الواحد لو تطلعوا ببصائرهم إلى يوم يرون العذاب الذي ينتظر الظالمين لو يرون لرأوا { أن القوة لله جميعاً } فلا شركاء ولا أنداد . . { وأن الله شديد العذاب } .
لو يرون إذ تبرأ المتبوعون من التابعين . ورأوا العذاب . فتقطعت بينهم الأواصر والعلاقات والأسباب ، وانشغل كل بنفسه تابعاً كان أم متبوعاً . وسقطت الرياسات والقيادات التي كان المخدوعون يتبعونها ، وعجزت عن وقاية أنفسها فضلاً عن وقاية تابعيها . وظهرت حقيقة الألوهية الواحدة والقدرة الواحدة ، وكذب القيادات الضالة وضعفها وعجزها أمام الله وأمام العذاب .
{ وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا } . .
وتبدى الحنق والغيظ من التابعين المخدوعين في القيادات الضالة . وتمنوا لو يردون لهم الجميل لو يعودون إلى الأرض فيتبرأوا من تبعيتهم لتلك القيادات العاجزة الضعيفة في حقيقتها ، التي خدعتهم ثم تبرأت منهم أمام العذاب
إنه مشهد مؤثر : مشهد التبرؤ والتعادي والتخاصم بين التابعين والمتبوعين . بين المحبين والمحبوبين وهنا يجيء التعقيب الممض المؤلم :
{ كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار } . .
بعد هذا يمضي السياق يدعو الناس إلى التمتع بطيبات الحياة ، والبعد عن خبائثها ، محذراً من اتباع الشيطان ، الذي يأمرهم بالخبائث ، والادعاء على الله في التحليل والتحريم بغير إذن منه ولا تشريع؛ ويحذرهم من التقليد في شأن العقيدة بغير هدى من الله ، ويندد بالذين يدعون من دون الله ما لا يعقل ولا يسمع . . وبهذا يلتقي موضوع هذه الفقرة بموضوع الفقرة السابقة في السياق :
{ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين . إنما يأمركم بالسوء والفحشاء ، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون .

وإذا قيل لهم : اتبعوا ما أنزل الله قالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا . أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون } . .
لما بين الله - سبحانه - أنه الإله الواحد ، وأنه الخالق الواحد - في الفقرات السابقة - وأن الذين يتخذون من دون الله أنداداً سينالهم ما ينالهم . . شرع يبين هنا أنه الرازق لعباده ، وأنه هو الذي يشرع لهم الحلال والحرام وهذا فرع عن وحدانية الألوهية كما أسلفنا . فالجهة التي تخلق وترزق هي التي تشرع فتحرم وتحلل . وهكذا يرتبط التشريع بالعقيدة بلا فكاك .
وهنا يبيح الله للناس جميعاً أن يأكلوا مما رزقهم في الأرض حلالاً طيباً - إلا ما شرع لهم حرمته وهو المبين فيما بعد - وأن يتلقوا منه هو الأمر في الحل والحرمة ، وألا يتبعوا الشيطان في شيء من هذا ، لأنه عدوهم؛ ومن ثم فهو لا يأمرهم بخير ، إنما يأمرهم بالسوء من التصور والفعل؛ ويأمرهم بأن يحللوا ويحرموا من عند أنفسهم ، دون أمر من الله ، مع الزعم بأن هذا الذي يقولونه هو شريعة الله . . كما كان اليهود مثلاً يصنعون ، وكما كان مشركو قريش يدعون :
{ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين . إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } . .
وهذا الأمر بالإباحة والحل لما في الأرض - إلا المحظور القليل الذي ينص عليه القرآن نصاً - يمثل طلاقة هذه العقيدة ، وتجاوبها مع فطرة الكون وفطرة الناس . فالله خلق ما في الأرض للإنسان ، ومن ثم جعله له حلالاً ، لا يقيده إلا أمر خاص بالحظر ، وإلا تجاوز دائرة الاعتدال والقصد . ولكن الأمر في عمومه أمر طلاقة واستمتاع بطيبات الحياة ، واستجابة للفطرة بلا كزازة ولا حرج ولا تضييق . . كل أولئك بشرط واحد ، هو أن يتلقى الناس ما يحل لهم وما يحرم عليهم من الجهة التي ترزقهم هذا الرزق . لا من إيحاء الشيطان الذي لا يوحي بخير لأنه عدو للناس بين العداوة . لا يأمرهم إلا بالسوء وبالفحشاء ، وإلا بالتجديف على الله ، والإفتراء عليه ، دون تثبت ولا يقين
{ وإذا قيل لهم : اتبعوا ما أنزل الله قالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } . .
وسواء كان هؤلاء الذين تعنيهم الآية هم المشركون الذين تكرر منهم هذا القول كلما دعوا إلى الإسلام ، وإلى تلقي شرائعهم وشعائرهم منه ، وهجر ما ألفوه في الجاهلية مما لا يقره الإسلام . أو كانوا هم اليهود الذين كانوا يصرون على ما عندهم من مأثور آبائهم ويرفضون الاستجابة للدين الجديد جملة وتفصيلاً . . سواء كانوا هؤلاء أم هؤلاء فالآية تندد بتلقي شيء في أمر العقيدة من غير الله؛ وتندد بالتقليد في هذا الشأن والنقل بلا تعقل ولا إدراك :
{ أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } .

أولو كان الأمر كذلك ، يصرون على اتباع ما وجدوا عليه آباءهم؟ فأي جمود هذا وأي تقليد؟
ومن ثم يرسم لهم صورة زرية تليق بهذا التقليد وهذا الجمود ، صورة البهيمة السارحة التي لا تفقه ما يقال لها ، بل إذا صاح بها راعيها سمعت مجرد صوت لا تفقه ماذا يعني بل هم أضل من هذه البهيمة ، فالبهمية ترى وتسمع وتصيح ، وهم صم بكم عمي :
{ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء . صم بكم عمي فهم لا يعقلون }
صم بكم عمي . ولو كانت لهم آذان وألسنة وعيون . ما داموا لا ينتفعون بها ولا يهتدون . فكأنها لا تؤدي وظيفتها التي خلقت لها ، وكأنهم إذن لم توهب لهم آذان وألسنة وعيون .
وهذه منتهى الزراية بمن يعطل تفكيره ، ويغلق منافذ المعرفة والهداية ، ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة . .
وهنا يتجه بالحديث - خاصة - إلى الذين آمنوا . يبيح لهم الأكل من طيبات ما رزقهم . ويوجههم إلى شكر المنعم على نعمه . ويبين لهم ما حرم عليهم ، وهو غير الطيبات التي أباحها لهم . ويندد بالذين يجادلونهم في هذه الطيبات والمحرمات من اليهود . وهي عندهم في كتابهم :
{ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ، واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون . إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله . فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم . إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناَ قليلاً ، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم . أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق ، وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } . .
إن الله ينادي الذين آمنوا بالصفة التي تربطهم به سبحانه ، وتوحي إليهم أن يتلقوا منه الشرائع؛ وأن يأخذوا عنه الحلال والحرام . ويذكرهم بما رزقهم فهو وحده الرازق ، ويبيح لهم الطيبات مما رزقهم؛ فيشعرهم أنه لم يمنع عنهم طيباً من الطيبات ، وأنه إذا حرم عليهم شيئاً فلأنه غير طيب ، لا لأنه يريد أن يحرمهم ويضيق عليهم - وهو الذي أفاض عليهم الرزق ابتداء - ويوجههم للشكر إن كانوا يريدون أن يعبدوه وحده بلا شريك . فيوحي إليهم بأن الشكر عبادة وطاعة يرضاها الله من العباد . . كل أولئك في آية واحدة قليلة الكلمات :
{ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون } .

.
ثم يبين لهم المحرمات من المآكل نصاً وتحديداً باستعمال أداة القصر { إنما } . .
{ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله } . .
والميتة تأباها النفس السليمة وكذلك الدم . فضلاً على ما أثبته الطب - بعد فترة طويلة من تحريم القرآن والتوراة قبله بإذن الله - من تجمع الميكروبات والمواد الضارة في الميتة وفي الدم ، ولا ندري إن كان الطب الحديث قد استقصى ما فيهما من الأذى أم إن هناك أسباباً أخرى للتحريم لم يكشف عنها بعد للناس .
فأما الخنزير فيجادل فيه الآن قوم . . والخنزير بذاته منفر للطبع النظيف القويم . . ومع هذا فقد حرمه الله منذ ذلك الأمد الطويل ليكشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة ( الدودة الشريطية وبويضاتها المتكيسة ) . ويقول الآن قوم : إن وسائل الطهو الحديثة قد تقدمت ، فلم تعد هذه الديدان وبويضاتها مصدر خطر لأن إبادتها مضمونة بالحرارة العالية التي توافرها وسائل الطهو الحديثة . . وينسى هؤلاء الناس أن علمهم قد احتاج إلى قرون طويلة ليكشف آفة واحدة . فمن ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى في لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها؟ أفلا تستحق الشريعة التي سبقت هذا العلم البشري بعشرات القرون أن نثق بها ، وندع كلمة الفصل لها ، ونحرم ما حرمت ، ونحلل ما حللت ، وهي من لدن حكيم خبير
أما ما أهل به لغير الله . أي ما توجه به صاحبه لغير الله . فهو محرم ، لا لعلة فيه ، ولكن للتوجه به لغير الله . محرم لعلة روحية تنافي صحة التصور ، وسلامة القلب ، وطهارة الروح ، وخلوص الضمير ، ووحدة المتجه . . فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية على هذا المعنى المشترك للنجاسة . وهو ألصق بالعقيدة من سائر المحرمات قبله . وقد حرص الإسلام على أن يكون التوجه لله وحده بلا شريك . .
ومن هنا تتجلى علاقة التحليل والتحريم في هذه الآيات ، بالحديث عن وحدانية الله ورحمته كذلك في الآيات السابقة . فالصلة قوية ومباشرة بين الاعتقاد في إله واحد ، وبين التلقي عن أمر الله في التحليل والتحريم . . وفي سائر أمور التشريع . .
ومع هذا فالإسلام يحسب حساب الضرورات ، فيبيح فيها المحظورات ، ويحل فيها المحرمات بقدر ما تنتفي هذه الضرورات ، بغير تجاوز لها ولا تعد لحدودها :
{ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم } . .
وهو مبدأ عام ينصب هنا على هذه المحرمات . ولكنه بإطلاقه يصح أن يتناول سواها في سائر المقامات . فأيما ضرورة ملجئة يخشى منها على الحياة ، فلصاحبها أن يتفادى هذا الحرج بتناول المحظور في الحدود التي تدفع هذه الضرورة ولا زيادة . على أن هناك خلافاً فقهياً حول مواضع الضرورة . . هل فيها قياس؟ أم هي الضرورات التي نص عليها الله بأعيانها .

. وحول مقدار ما تدفع به الضرورة؟ هل هو أقل قدر من المحظور أم أكلة أو شربة كاملة . . ولا ندخل نحن في هذا الخلاف الفقهي . وحسبنا هذا البيان في ظلال القرآن .
ولقد جادل اليهود جدالاً كثيراً حول ما أحله القرآن وما حرمه فقد كانت هناك محرمات على اليهود خاصة وردت في سورة أخرى : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم } . بينما كانت هذه مباحة للمسلمين . ولعلهم جادلوا في هذا الحل . وكذلك روي أنهم جادلوا في المحرمات المذكورة هنا مع أنها محرمة عليهم في التوراة . . وكان الهدف دائما هو التشكيك في صحة الأوامر القرآنية وصدق الوحي بها من الله .
ومن ثم نجد هنا حملة قوية على الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب :
{ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ، ويشترون به ثمناً قليلاً ، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم ، أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة . فما أصبرهم على النار ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق ، وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } .
والتنديد بكتمان ما أنزل الله من الكتاب كان المقصود به أولاً أهل الكتاب . ولكن مدلول النص العام ينطبق على أهل كل ملة ، يكتمون الحق الذي يعلمونه ، ويشترون به ثمناً قليلاً . إما هو النفع الخاص الذي يحرصون عليه بكتمانهم للحق ، والمصالح الخاصة التي يتحرونها بهذا الكتمان ، ويخشون عليها من البيان . وإما هو الدنيا كلها - وهي ثمن قليل حين تقاس إلى ما يخسرونه من رضى الله ، ومن ثواب الآخرة .
وفي جو الطعام ما حرم منه وما حلل يقول القرآن عن هؤلاء :
{ ما يأكلون في بطونهم إلا النار } . .
تنسيقاً للمشهد في السياق . وكأنما هذا الذي يأكلونه من ثمن الكتمان والبهتان نار في بطونهم وكأنما هم يأكلون النار وإنها لحقيقة حين يصيرون إلى النار في الآخرة ، فإذا هي لهم لباس ، وإذا هي لهم طعام
وجزاء ما كتموا من آيات الله أن يهملهم الله يوم القيامة ، ويدعهم في مهانة وازدراء والتعبير القرآني عن هذا الإهمال وهذه المهانة وهذا الازدراء هو قوله :
{ لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم } . .
لتجسيم الإهمال في صورة قريبة لحس البشر وإدراكهم . . لا كلام ولا اهتمام ولا تطهير ولا غفران . . { ولهم عذاب أليم } . .
وتعبير آخر مصور موح :
{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة } . .
فكأنما هي صفقة يدفعون فيها الهدى ويقبضون الضلالة ويؤدون المغفرة ويأخذون فيها العذاب . . فما أخسرها من صفقة وأغباها ويا لسوء ما ابتاعوا وما اختاروا وإنها لحقيقة . فقد كان الهدى مبذولاً لهم فتركوه وأخذوا الضلالة .

وكانت المغفرة متاحة لهم فتركوها واختاروا العذاب . .
{ فما أصبرهم على النار } . .
فيا لطول صبرهم على النار ، التي اختاروها اختياراً ، وقصدوا إليها قصداً .
فيا للتهكم الساخر من طول صبرهم على النار
وإنه لجزاء مكافىء لشناعة الجريمة . جريمة كتمان الكتاب الذي أنزله الله ليعلن للناس . وليحقق في واقع الأرض ، وليكون شريعة ومنهاجاً . فمن كتمه فقد عطله عن العمل . وهو الحق الذي جاء للعمل :
{ ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق } . .
فمن فاء إليه فهو على الهدى ، وهو في وفاق مع الحق ، وفي وفاق مع المهتدين من الخلق ، وفي وفاق مع فطرة الكون وناموسه الأصيل .
{ وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } . .
شقاق مع الحق ، وشقاق مع ناموس الفطرة ، وشقاق فيما بينهم وبين أنفسهم . . ولقد كانوا كذلك ، وما يزالون . وتلحق بهم كل أمة تختلف في كتابها . فلا تأخذ به جملة ، وتمزقه تفاريق . . وعد الله الذي يتحقق على مدار الزمان واختلاف الأقوام . ونحن نرى مصداقه واقعاً في هذا العالم الذي نعيش فيه .
وأخيراً وفي آية واحدة يضع قواعد التصور الإيماني الصحيح ، وقواعد السلوك الإيماني الصحيح ، ويحدد صفة الصادقين المتقين :
{ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب؛ ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين؛ وآتى المال - على حبه - ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة؛ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس . . أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } . .
والراجح أن هناك صلة بين هذا البيان وبين تحويل القبلة وما ثار حوله من جدل طويل . ولقد سبق الكلام عن حكمة تحويل القبلة . فالآن يصل السياق إلى تقرير الحقيقة الكبرى حول هذه القضية وحول سائر القضايا الجدلية التي يثيرها اليهود حول شكليات الشعائر والعبادات ، وكثيراً ما كانوا يثيرون الجدل حول هذه الأمور .
إنه ليس القصد من تحويل القبلة ، ولا من شعائر العبادة على الإطلاق ، أن يولي الناس وجوهم قبل المشرق والمغرب . . نحو بيت المقدس أو نحو المسجد الحرام . . وليست غاية البر - وهو الخير جملة - هي تلك الشعائر الظاهرة . فهي في ذاتها - مجردة عما يصاحبها في القلب من المشاعر وفي الحياة من السلوك - لا تحقق البر ، ولا تنشىء الخير . . إنما البر تصور وشعور وأعمال وسلوك . تصور ينشئ أثره في ضمير الفرد والجماعة؛ وعمل ينشئ أثره في حياة الفرد والجماعة . ولا يغني عن هذه الحقيقة العميقة تولية الوجوه قبل المشرق والمغرب . . سواء في التوجه إلى القبلة هذه أم تلك؛ أو في التسليم من الصلاة يمينا وشمالاً ، أو في سائر الحركات الظاهرة التي يزاولها الناس في الشعائر .
{ ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين . . . الآية } .

ذلك هو البر الذي هو جماع الخير . . فماذا في تلك الصفات من قيم تجعل لها هذا الوزن في ميزان الله؟
ما قيمة الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين؟
إن الإيمان بالله هو نقطة التحول في حياة البشرية من العبودية لشتى القوى ، وشتى الأشياء ، وشتى الاعتبارات . . إلى عبودية واحدة لله تتحرر بها النفس من كل عبودية ، وترتفع بها إلى مقام المساواة مع سائر النفوس في الصف الواحد أمام المعبود الواحد؛ ثم ترتفع بها فوق كل شيء وكل اعتبار . . وهي نقطة التحول كذلك من الفوضى إلى النظام ، ومن التيه إلى القصد ، ومن التفكك إلى وحدة الاتجاه . فهذه البشرية دون إيمان بالله الواحد ، لا تعرف لها قصداً مستقيماً ولا غاية مطردة ، ولا تعرف لها نقطة ارتكاز تتجمع حولها في جد وفي مساواة ، كما يتجمع الوجود كله ، واضح النسب والارتباطات والأهداف والعلاقات . . والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالعدالة الإلهية المطلقة في الجزاء؛ وبأن حياة الإنسان على هذه الأرض ليست سدى ولا فوضى بغير ميزان . وبأن الخير لا يعدم جزاءه ولو بدا أنه في هذه الأرض لا يلقى الجزاء . . والإيمان بالملائكة طرف من الإيمان بالغيب الذي هو مفرق الطريق بين إدراك الإنسان وإدراك الحيوان ، وتصور الإنسان لهذا الوجود وتصور الحيوان . الإنسان الذي يؤمن بما وراء الحس والحيوان المقيد بحسه لا يتعداه . . والإيمان بالكتاب والنبيين هو الإيمان بالرسالات جميعاً وبالرسل أجمعين ، وهو الإيمان بوحدة البشرية ، ووحدة إلهها ، ووحدة دينها ، ووحدة منهجها الإلهي . . ولهذا الشعور قيمة في شعور المؤمن الوارث لتراث الرسل والرسالات .
وما قيمة إيتاء المال - على حبه والاعتزاز به - لذوي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب؟
إن قيمته هي الانعتاق من ربقة الحرص والشح والضعف والأثرة . انعتاق الروح من حب المال الذي يقبض الأيدي عن الإنفاق ، ويقبض النفوس عن الأريحية ، ويقبض الأرواح عن الانطلاق . فهي قيمة روحية يشير إليها ذلك النص على حب المال . وقيمة شعورية أن يبسط الإنسان يده وروحه فيما يحب من مال . لا في الرخيص منه ولا الخبيث . فيتحرر من عبودية المال ، هذه العبودية التي تستذل النفوس ، وتنكس الرؤوس . ويتحرر من الحرص . والحرص يذل اعناق الرجال . وهي قيمة إنسانية كبرى في حساب الإسلام ، الذي يحاول دائماً تحرير الإنسان من وساوس نفسه وحرصها وضعفها قبل أن يحاول تحريره من الخارج في محيط الجماعة وارتباطاتها ، يقيناً منه بأن عبيد أنفسهم هم عبيد الناس؛ وأن أحرار النفوس من الشهوات هم أحرار الرؤوس في المجتمعات . . ثم إنها بعد ذلك كله قيمة إنسانية في محيط الجماعة . . هذه الصلة لذوي القربى فيها تحقيق لمروءة النفس ، وكرامة الأسرة ، ووشائج القربى . والأسرة هي النواة الأولى للجماعة . ومن ثم هذه العناية بها وهذا التقديم . . وهي لليتامى تكافل بين الكبار والصغار في الجماعة ، وبين الأقوياء فيها والضعفاء؛ وتعويض لهؤلاء الصغار عن فقدان الحماية والرعاية الأبويتين؛ وحماية للأمة من تشرد صغارها ، وتعرضهم للفساد ، وللنقمة على المجتمع الذي لم يقدم لهم براً ولا رعاية .

. وهي للمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون - وهم مع ذلك ساكنون لا يسألون ضناً بماء وجوههم - احتفاظ لهم بكرامة نفوسهم ، وصيانة لهم من البوار ، وإشعار لهم بالتضامن والتكافل في محيط الجماعة المسلمة ، التي لا يهمل فيها فرد ، ولا يضيع فيها عضو . . وهي لابن السبيل - المنقطع عن ماله وأهله - واجب للنجدة في ساعة العسرة ، وانقطاع الطريق دون الأهل والمال والديار؛ وإشعار له بأن الإنسانية كلها أهل ، وبأن الأرض كلها وطن ، يلقى فيها أهلاً بأهل ، ومالاً بمال ، وصلة بصلة ، وقراراً بقرار . . وهي للسائلين إسعاف لعوزهم ، وكف لهم عن المسألة التي يكرهها الإسلام . وفي الإسلام لا يسأل من يجد الكفاية أو من يجد عملاً ، فهو مأمور من دينه أن يعمل ولا يسأل ، وأن يقنع ولا يسأل . فلا سائل إلا حيث يعييه العمل والمال . . وهي في الرقاب اعتاق وتحرير لمن أوقعه سوء عمله في الرق بحمل السيف في وجه الإسلام - حتى يسترد حريته وإنسانيته الكريمة . ويتحقق هذا النص إما بشراء الرقيق وعتقه ، وإما بإعطائه ما يؤدي به ما كاتب عليه سيده في نظير عتقه . والإسلام يعلن حرية الرقيق في اللحظة التي يطلب فيها الحرية ، ويطلب مكاتبته عليها - أي أداء مبلغ من المال في سبيلها ، ومنذ هذه اللحظة يصبح عمله بأجر يحسب له ، ويصبح مستحقاً في مصارف الزكاة ، ويصبح من البر كذلك إعطاؤه من النفقات غير الزكاة . . كل أولئك ليسارع في فك رقبته ، واسترداد حريته . .
وإقامة الصلاة؟ ما قيمتها في مجال البر الذي هو جماع الخير؟
إن إقامة الصلاة شيء غير التولي قبل المشرق والمغرب . إنها توجه الإنسان بكليته إلى ربه ، ظاهراً وباطناً جسماً وعقلاً وروحاً . إنها ليست مجرد حركات رياضية بالجسم . وليست مجرد توجه صوفي بالروح . فالصلاة الإسلامية تلخص فكرة الإسلام الأساسية عن الحياة . إن الإسلام يعترف بالإنسان جسماً وعقلاً وروحاً في كيان؛ ولا يفترض أن هناك تعارضاً بين نشاط هذه القوى المكونة في مجموعها للإنسان ، ولا يحاول أن يكبت الجسم لتنطلق الروح ، لأن هذا الكبت ليس ضرورياً لانطلاق الروح . ومن ثم يجعل عبادته الكبرى . . الصلاة . مظهراً لنشاط قواه الثلاث وتوجهها إلى خالقها جميعاً في ترابط واتساق . يجعلها قياماً وركوعاً وسجوداً تحقيقاً لحركة الجسد ، ويجعلها قراءة وتدبراً وتفكيراً في المعنى والمبنى تحقيقا لنشاط العقل؛ ويجعلها توجها واستسلاماً لله تحقيقا لنشاط الروح . . كلها في آن . . وإقامة الصلاة على هذا النحو تذكر بفكرة الإسلام كلها عن الحياة ، وتحقق فكرة الإسلام كلها عن الحياة . . في كل ركعة وفي كل صلاة .

وإيتاء الزكاة؟ . . إنه الوفاء بضريبة الإسلام الاجتماعية التي جعلها الله حقاً في أموال الأغنياء للفقراء ، بحكم أنه هو صاحب المال ، وهو الذي ملكه للفرد بعقد منه ، من شروطه إيتاء الزكاة . وهي مذكورة هنا بعد الحديث عن إيتاء المال - على حبه - لمن ذكرتهم الآية من قبل على الإطلاق؛ مما يشير إلى أن الإنفاق في تلك الوجوه ليس بديلا من الزكاة ، وليست الزكاة بديلة منه . . وإنما الزكاة ضريبة مفروضة ، والإنفاق تطوع طليق . . والبر لا يتم إلا بهذه وتلك . وكلتاهما من مقومات الإسلام . وما كان القرآن ليذكر الزكاة منفردة بعد الإنفاق إلا وهي فريضة خاصة لا يسقطها الإنفاق ، ولا تغني هي عن الإنفاق .
والوفاء بالعهد؟ إنه سمة الإسلام التي يحرص عليها ، ويكررها القرآن كثيراً؛ ويعدها آية الإيمان ، وآية الآدمية وآية الإحسان . وهي ضرورية لإيجاد جو من الثقة والطمأنينة في علاقات الأفراد وعلاقات الجماعات وعلاقات الأمم والدول . تقوم ابتداء على الوفاء بالعهد مع الله . وبغير هذه السمة يعيش كل فرد مفزعاً قلقاً لا يركن إلى وعد ، ولا يطمئن إلى عهد ، ولا يثق بإنسان ، ولقد بلغ الإسلام من الوفاء بالعهد لأصدقائه وخصومه على السواء قمة لم تصعد إليها البشرية في تاريخها كله ، ولم تصل إليها إلا على حداء الإسلام وهدي الإسلام .
والصبر في البأساء والضراء وحين البأس؟ . . إنها تربية للنفوس وإعداد ، كي لا تطير شعاعاً مع كل نازلة ، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة ، ولا تنهار جزعاً أمام الشدة . إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ويجعل الله بعد عسر يسراً . إنه الرجاء في الله والثقة بالله والاعتماد على الله . ولا بد لأمة تناط بها القوامة على البشرية ، والعدل في الأرض والصلاح ، أن تهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة . الصبر في البؤس والفقر . والصبر في المرض والضعف . والصبر في القلة والنقص . والصبر في الجهاد والحصار ، والصبر على كل حال . كي تنهض بواجبها الضخم ، وتؤدي دورها المرسوم ، في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال .
ويبرز السياق هذه الصفة . . صفة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس . . يبرزها بإعطاء كلمة { الصابرين } وصفاً في العبارة يدل على الاختصاص . فما قبلها من الصفات مرفوع أما هي فمنصوبة على الاختصاص بتقدير : « وأخص الصابرين » . . وهي لفتة خاصة لها وزنها في معرض صفات البر . . لفتة خاصة تبرز الصابرين وتميزهم ، وتخصص هذه السمة من بين سمات الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين وإيتاء المال - على حبه - وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد . . وهو مقام للصابرين عظيم ، وتقدير لصفة الصبر في ميزان الله ، يلفت الأنظار . .
وهكذا تجمع آية واحدة بين أصول الاعتقاد ، وتكاليف النفس والمال ، وتجعلها كلاً لا يتجزأ ، ووحدة لا تنفصم .

وتضع على هذا كله عنواناً واحداً هو « البر » أو هو « جماع الخير » أو هو « الإيمان » كما ورد في بعض الأثر . والحق أنها خلاصة كاملة للتصور الإسلامي ولمبادىء المنهج الإسلامي المتكامل لا يستقيم بدونها إسلام .
ومن ثم تعقب الآية على من هذه صفاتهم بأنهم :
{ أولئك الذين صدقوا ، وأولئك هم المتقون } . .
أولئك الذين صدقوا ربهم في إسلامهم . صدقوا في إيمانهم واعتقادهم ، وصدقوا في ترجمة هذا الإيمان والاعتقاد إلى مدلولاته الواقعة في الحياة .
وأولئك هم المتقون الذين يخشون ربهم ويتصلون به ، ويؤدون واجبهم له في حساسية وفي إشفاق . .
وننظر نحن من خلال هذه الآية إلى تلك الآفاق العالية التي يريد الله أن يرفع الناس إليها ، بمنهجه الرفيع القويم . . ثم ننظر إلى الناس وهم ينأون عن هذا المنهج ويتجنبونه ، ويحاربونه ، ويرصدون له العداوة ، ولكل من يدعوهم إليه . . ونقلب أيادينا في أسف ، ونقول ما قال الله سبحانه : يا حسرة على العباد
ثم ننظر نظرة أخرى فتنجلي هذه الحسرة ، على أمل في الله وثيق ، وعلى يقين في قوة هذا المنهج لا يتزعزع ، ونستشرف المستقبل فإذا على الأفق أمل . أمل وضيء منير . أن لا بد لهذه البشرية من أن تفيء - بعد العناء الطويل - إلى هذا المنهج الرفيع . وأن تتطلع إلى هذا الأفق الوضيء . . والله المستعان .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

يتضمن هذا الدرس جانباً من التنظيمات الاجتماعية للمجتمع المسلم الذي كان ينشأ في المدينة نشأته الأولى ، كما يتضمن جانباً من العبادات المفروضة . . هذه وتلك مجموعة متجاورة في قطاع واحد من قطاعات السورة . وهذه وتلك مشدودة برباط واحد إلى تقوى الله وخشيته ، حيث يتكرر ذكر التقوى في التعقيب على التنظيمات الاجتماعية والتكاليف التعبدية سواء بسواء . . وحيث تجيء كلها عقب آية البر التي استوعبت قواعد التصور الإيماني وقواعد السلوك العملي في نهاية الدرس السابق .
في هذا الدرس حديث عن القصاص في القتلى وتشريعاته . وفيه حديث عن الوصية عند الموت . . ثم حديث عن فريضة الصوم وشعيرة الدعاء وشعيرة الاعتكاف . . وفي النهاية حديث عن التقاضي في الأموال .
وفي التعقيب على القصاص ترد إشارة إلى التقوى : { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون } . .
وفي التعقيب على الوصية ترد الإشارة إلى التقوى كذلك : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت - أن ترك خيراً - الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين } . .
وفي التعقيب على الصيام ترد الإشارة إلى التقوى أيضاً : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } . .
ثم ترد نفس الإشارة بعد الحديث عن الاعتكاف في نهاية الحديث عن أحكام الصوم : { تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } . .
ولا تبعد التعقيبات القليلة الباقية في الدرس عن معنى التقوى ، واستجاشة الحساسية والشعور بالله في القلوب . فتجيء هذه التعقيبات : { ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } . . { فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } . . { إن الله سميع عليم } . . { إن الله غفور رحيم } . .
وهو اطراد يوجه النظر إلى حقيقة هذا الدين . . إنه وحدة لا تتجزأ . . تنظيماته الاجتماعية ، وقواعده التشريعية وشعائره التعبدية . . كلها منبثقة من العقيدة فيه؛ وكلها نابعة من التصور الكلي الذي تنشئه هذه العقيدة؛وكلها مشدودة برباط واحد إلى الله؛ وكلها تنتهي إلى غاية واحدة هي العبادة : عبادة الله الواحد . الله الذي خلق ، ورزق ، واستخلف الناس في هذا الملك ، خلافة مشروطة بشرط : أن يؤمنوا به وحده؛ وأن يتوجهوا بالعبادة إليه وحده؛ وأن يستمدوا تصورهم ونظمهم وشرائعهم منه وحده .
وهذا الدرس بمجموعة الموضوعات التي يحتويها ، والتعقيبات التي يتضمنها ، نموذج واضح لهذا الترابط المطلق في هذا الدين . .
{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى : الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى . فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان . ذلك تخفيف من ربكم ورحمة . فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم . ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون } . .
النداء للذين آمنوا . . بهذه الصفة التي تقتضي التلقي من الله ، الذي آمنوا به ، في تشريع القصاص .

وهو يناديهم لينبئهم أن الله فرض عليهم شريعة القصاص في القتلى ، بالتفصيل الذي جاء في الآية الأولى . وفي الآية الثانية يبين حكمة هذه الشريعة ، ويوقظ فيهم التعقل والتدبر لهذه الحكمة ، كما يستجيش في قلوبهم شعور التقوى؛ وهو صمام الأمن في مجال القتلى والقصاص .
وهذه الشريعة التي تبينها الآية : أنه عند القصاص للقتلى - في حالة العمد - بقتل الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى .
{ فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } . .
وهذا العفو يكون بقبول الدية من أولياء الدم بدلاً من قتل الجاني . ومتى قبل ولي الدم هذا ورضيه ، فيجب إذن أن يطلبه بالمعروف والرضى والمودة . ويجب على القاتل أو وليه أن يؤديه بإحسان وإجمال وإكمال . تحقيقاً لصفاء القلوب ، وشفاء لجراح النفوس ، وتقوية لأواصر الأخوة بين البقية الأحياء .
وقد امتن الله على الذين آمنوا بشريعة الدية هذه بما فيها من تخفيف ورحمة :
{ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } . .
ولم يكن هذا التشريع مباحاً لبني إسرائيل في التوراة . إنما شرع للأمة المسلمة استبقاء للأرواح عند التراضي والصفاء .
{ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } . .
وفوق العذاب الذي يتوعده به في الآخرة . . يتعين قتله ، ولا تقبل منه الدية . لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول ، نكث للعهد ، وإهدار للتراضي ، وإثارة للشحناء بعد صفاء القلوب ، ومتى قبل ولي الدم الدية ، فلا يجوز له أن يعود فينتقم ويعتدي .
ومن ثم ندرك سعة آفاق الإسلام؛ وبصره بحوافز النفس البشرية عند التشريع لها؛ ومعرفته بما فطرت عليه من النوازع . . إن الغضب للدم فطرة وطبيعة . فالإسلام يلبيها بتقرير شريعة القصاص . فالعدل الجازم هو الذي يكسر شرة النفوس ، ويفثأ حنق الصدور ، ويردع الجاني كذلك عن التمادي ، ولكن الإسلام في الوقت ذاته يحبب في العفو ، ويفتح له الطريق ، ويرسم له الحدود ، فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص دعوة إلى التسامي في حدود التطوع ، لا فرضاً يكبت فطرة الإنسان ويحملها ما لا تطيق .
وتذكر بعض الروايات أن هذه الآية منسوخة . نسختها آية المائدة التي نزلت بعدها وجعلت النفس بالنفس إطلاقاً : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس . . الآية } . . قال ابن كثير في التفسير : وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم . حدثنا أبو زرعة . حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير . حدثني عبد الله بن لهيعة . حدثني عطاء بن دينار . عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } - يعني إذا كان عمداً - الحر بالحر . . . وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية - قبل الإسلام بقليل . فكان بينهم قتل وجراحات ، حتى قتلوا العبيد والنساء ، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا .

فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال ، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم ، والمرأة منا الرجل منهم . . فنزل فيهم : { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } . . منسوخة نسختها : { النفس بالنفس } وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله : { النفس بالنفس } .
والذي يظهر لنا أن موضع هذه الآية غير موضع آية النفس بالنفس . . وأن لكل منهما مجالاً غير مجال الأخرى . وأن آية النفس بالنفس مجالها مجال الاعتداء الفردي من فرد معين ، على فرد معين أو من أفراد معينين على فرد أو أفراد معينين كذلك . فيؤخذ الجاني ما دام القتل عمداً . . فأما الآية التي نحن بصددها فمجالها مجال الاعتداء الجماعي - كحالة ذينك الحيين من العرب - حيث تعتدي أسرة على أسرة ، أو قبيلة على قبيلة ، أو جماعة على جماعة . فتصيب منها من الأحرار والعبيد والنساء . . فإذا أقيم ميزان القصاص كان الحر من هذه بالحر من تلك ، والعبد من هذه بالعبد من تلك ، والأنثى من هذه بالأنثى من تلك . وإلا فكيف يكون القصاص في مثل هذه الحالة التي يشترك فيها جماعة في الاعتداء على جماعة؟
وإذا صح هذا النظر لا يكون هناك نسخ لهذه الآية ، ولا تعارض في آيات القصاص .
ثم يكمل السياق الحديث عن فريضة القصاص بما يكشف عن حكمتها العميقة وأهدافها الأخيرة :
{ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون } . .
إنه ليس الانتقام ، وليس إرواء الأحقاد . إنما هو أجل من ذلك وأعلى . إنه للحياة ، وفي سبيل الحياة ، بل هو في ذاته حياة . . ثم إنه للتعقل والتدبر في حكمة الفريضة ، ولاستحياء القلوب واستجاشتها لتقوى الله . .
والحياة التي في القصاص تنبثق من كف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء . فالذي يوقن أنه يدفع حياته ثمناً لحياة من يقتل . . جدير به أن يتروى ويفكر ويتردد . كما تنبثق من شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل . شفائها من الحقد والرغبة في الثأر . الثأر الذي لم يكن يقف عند حد في القبائل العربية حتى لتدوم معاركه المتقطعة أربعين عاما كما في حرب البسوس المعروفة عندهم . وكما نرى نحن في واقع حياتنا اليوم ، حيث تسيل الحياة على مذابح الأحقاد العائلية جيلا بعد جيل ، ولا تكف عن المسيل . .
وفي القصاص حياة على معناها الأشمل الأعم . فالاعتداء على حياة فرد اعتداء على الحياة كلها ، واعتداء على كل إنسان حي ، يشترك مع القتيل في سمة الحياة . فإذا كف القصاص الجاني عن إزهاق حياة واحدة ، فقد كفه عن الاعتداء على الحياة كلها . وكان في هذا الكف حياة . حياة مطلقة . لا حياة فرد ولا حياة أسرة ، ولا حياة جماعة . . بل حياة . .
ثم - وهو الأهم والعامل المؤثر الأول في حفظ الحياة - استجاشة شعور التدبر لحكمة الله ، ولتقواه : { لعلكم تتقون } .

.
هذا هو الرباط الذي يعقل النفوس عن الاعتداء . الاعتداء بالقتل ابتداء ، والاعتداء في الثأر أخيراً . . التقوى . . حساسية القلب وشعروه بالخوف من الله؛ وتحرجه من غضبه وتطلبه لرضاه .
إنه بغير هذا الرباط لا تقوم شريعة ، ولا يفلح قانون ، ولا يتحرج متحرج ، ولا تكفي التنظيمات الخاوية من الروح والحساسية والخوف والطمع في قوة أكبر من قوة الإنسان
وهذا ما يفسر لنا ندرة عدد الجرائم التي أقيمت فيها الحدود على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الخلفاء ، ومعظمها كان مصحوباً باعتراف الجاني نفسه طائعاً مختاراً . . لقد كانت هنالك التقوى . . كانت هي الحارس اليقظ في داخل الضمائر ، وفي حنايا القلوب ، تكفها عن مواضع الحدود . . إلى جانب الشريعة النيرة البصيرة بخفايا الفطر ومكنونات القلوب . . وكان هناك ذلك التكامل بين التنظيمات والشرائع من ناحية والتوجيهات والعبادات من ناحية أخرى ، تتعاون جميعها على إنشاء مجتمع سليم التصور سليم الشعور . نظيف الحركة نظيف السلوك . لأنها تقيم محكمتها الأولى في داخل الضمير
« حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان ، وسقط الإنسان سقطة ، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون تحول هذا الإيمان نفساً لوامة عنيفة ووخزاً لاذعاً للضمير وخيالاً مروعاً ، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون ، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ، ويتحملها مطمئناً مرتاحاً ، تفادياً من سخط الله ، وعقوبة الآخرة » .
إنها التقوى . . إنها التقوى . .
ثم يجيء تشريع الوصية عند الموت . . والمناسبة في جوها وجو آيات القصاص حاضرة :
{ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت - إن ترك خيراً - الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين . فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه . إن الله سميع عليم . فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم } . .
وهذه كذلك كانت فريضة . الوصية للوالدين والأقربين . إن كان سيترك وراءه خيراً . وفسر الخير بأنه الثروة . واختلف في المقدار الذي تجب عنده الوصية . والأرجح أنها مسألة اعتبارية بحسب العرف . فقال بعضهم لا يترك خيراً من يترك أقل من ستين ديناراً ، وقيل ثمانين وقيل أربعمائة . وقيل ألف . . والمقدار الذي يعتبر ثروة تستحق الوصية لا شك يختلف من زمان إلى زمان ، ومن بيئة إلى بيئة .
وقد نزلت آيات المواريث بعد نزول آيات الوصية هذه . وحددت فيها أنصبة معينة للورثة ، وجعل الوالدان وارثين في جميع الحالات . ومن ثم لم تعد لهما وصية لأنه لا وصية لوارث . لقوله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث » . أما الأقربون فقد بقي النص بالقياس إليهم على عمومه . فمن ورثته آيات الميراث فلا وصية له؛ ومن لم يرث بقي نص الوصية هنا يشمله .

. وهذا هو رأي بعض الصحابة والتابعين نأخذ به .
وحكمة الوصية لغير الورثة تتضح في الحالات التي توجب فيها صلة القرابة البر ببعض الأقارب ، على حين لا تورثهم آيات الميراث لأن غيرهم يحجبهم . وهي لون من الوان التكافل العائلي العام في خارج حدود الوراثة . ومن ثم ذكر المعروف وذكر التقوى :
{ بالمعروف حقاً على المتقين } . .
فلا يظلم فيها الورثة ، ولا يهمل فيها غير الورثة؛ ويتحرى التقوى في قصد واعتدال ، وفي بر وإفضال . . ومع هذا فقد حددت السنة نسبة الوصية ، فحصرتها في الثلث لا تتعداه والربع أفضل . كي لا يضار الوارث بغير الوارث . وقام الأمر على التشريع وعلى التقوى ، كما هي طبيعة التنظيمات الاجتماعية التي يحققها الإسلام في تناسق وسلام .
فمن سمع الوصية فهو آثم إن بدلها بعد وفاة المورث ، وهذا من التبديل بريء :
{ فمن بدله بعدما سمعه ، فإنما إثمه على الذين يبدلونه . إن الله سميع عليم } . .
وهو - سبحانه - الشهيد بما سمع وعلم . الشهيد للمورث فلا يؤاخذ بما فعل من وراءه . والشهيد على من بدل فيؤاخذه بإثم التبديل والتغيير .
إلا حالة واحدة يجوز فيها للوصي أن يبدل من وصية الموصي . ذلك إذا عرف أن الموصي إنما يقصد بوصيته محاباة أحد ، أو النكاية بالوريث . فعندئذ لا حرج على من يتولى تنفيذ الوصية أن يعدل فيها بما يتلافى به ذلك الجنف ، وهو الحيف ، ويرد الأمر إلى العدل والنصف :
{ فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم } . .
والأمر موكول إلى مغفرة الله ورحمته لهذا ولذاك . ومشدود إلى مراعاة الله في كل حال ، فهي الضمان الأخير للعدل والإنصاف .
وهكذا نجد الأمر في الوصية مشدوداً إلى تلك العروة التي شد إليها من قبل أمر القصاص في القتلى . والتي يشد إليها كل أمر في التصور الإيماني وفي المجتمع الإسلامي على السواء .
ولقد كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمة التي يفرض عليه الجهاد في سبيل الله ، لتقرير منهجه في الأرض ، وللقوامة به على البشرية ، وللشهادة على الناس . فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة؛ ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد؛ كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها ، واحتمال ضغطها وثقلها ، إيثاراً لما عند الله من الرضى والمتاع .
وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك؛ والذي تتناثر على جوانبه الرغاب والشهوات؛ والذي تهتف بالسالكيه آلاف المغريات
وذلك كله إلى جانب ما يتكشف على مدار الزمان من آثار نافعة للصوم في وظائف الأبدان . ومع أنني لا أميل إلى تعليق الفرائض والتوجيهات الإلهية في العبادات - بصفة خاصة - بما يظهر للعين من فوائد حسية ، إذ الحكمة الأصيلة فيها هي إعداد هذا الكائن البشري لدوره على الأرض ، وتهيئته للكمال المقدر له في حياة الآخرة .

. مع هذا فإنني لا أحب أن أنفي ما تكشف عنه الملاحظة أو يكشف عنه العلم من فوائد لهذه الفرائض والتوجيهات وذلك ارتكاناً إلى الملحوظ والمفهوم من مراعاة التدبير الإلهي لكيان هذا الإنسان جملة في كل ما يُفرض عليه وما يوجه إليه . ولكن في غير تعليق لحكمة التكليف الإلهي بهذا الذي يكشف عنه العلم البشري . فمجال هذا العلم محدود لا يتسع ولا يرتقي إلى استيعاب حكمة الله في كل ما يروض به هذا الكائن البشري . أو كل ما يروض به هذا الكون بطبيعة الحال :
{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ، لعلكم تتقون ، أياماً معدودات ، فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر؛ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين؛ فمن تطوع خيراً فهو خير له؛ وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون . شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر . يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } . .
إن الله - سبحانه - يعلم أن التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون ودفع واستجاشة لتنهض به وتستجيب له؛ مهما يكن فيه من حكمة ونفع ، حتى تقتنع به وتراض عليه .
ومن ثم يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين ، المذكر لهم بحقيقتهم الأصيلة؛ ثم يقرر لهم - بعد ندائهم ذلك النداء - أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين ، وأن الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله :
{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } . .
وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم . . إنها التقوى . . فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة ، طاعة لله ، وإيثاراً لرضاه . والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية ، ولو تلك التي تهجس في البال ، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله ، ووزنها في ميزانه . فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم . وهذا الصوم أداة من أدواتها ، وطريق موصل إليها . ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفاً وضيئاً يتجهون إليه عن طريق الصيام . . { لعلكم تتقون } . .
ثم يثني بتقرير أن الصوم أيام معدودات ، فليس فريضة العمر وتكليف الدهر . ومع هذا فقد أعفي من أدائه المرضى حتى يصحوا ، والمسافرون حتى يقيموا ، تحقيقاً وتيسيراً :
{ أياماً معدودات . فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } .

.
وظاهر النص في المرض والسفر يطلق ولا يحدد . فأي مرض وأي سفر يسوغ الفطر ، على أن يقضي المريض حين يصح والمسافر حين يقيم . وهذا هو الأولى في فهم هذا النص القرآني المطلق ، والأقرب إلى المفهوم الإسلامي في رفع الحرج ومنع الضرر . فليست شدة المرض ولا مشقة السفر هي التي يتعلق بها الحكم إنما هي المرض والسفر إطلاقاً ، لإرادة اليسر بالناس لا العسر . ونحن لا ندري حكمة الله كلها في تعليقه بمطلق المرض ومطلق السفر؛ فقد تكون هناك اعتبارات أخرى يعلمها الله ويجهلها البشر في المرض والسفر؛ وقد تكون هناك مشقات أخرى لا تظهر للحظتها ، أو لا تظهر للتقدير البشري . . وما دام الله لم يكشف عن علة الحكم فنحن لا نتأولها؛ ولكن نطيع النصوص ولو خفيت علينا حكمتها . فوراءها قطعاً حكمة . وليس من الضروري أن نكون نحن ندركها .
يبقى أن القول بهذا يخشى أن يحمل المترخصين على شدة الترخص ، وأن تهمل العبادات المفروضة لأدنى سبب . مما جعل الفقهاء يتشددون ويشترطون . ولكن هذا - في اعتقادي - لا يبرر التقييد فيما أطلقه النص . فالدين لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات ، إنما يقودهم بالتقوى . وغاية هذه العبادة خاصة هي التقوى . والذي يفلت من أداء الفريضة تحت ستار الرخصة لا خير فيه منذ البدء ، لأن الغاية الأولى من أداء الفريضة لا تتحقق . وهذا الدين دين الله لا دين الناس . والله أعلم بتكامل هذا الدين ، بين مواضع الترخص ومواضع التشدد؛ وقد يكون وراء الرخصة في موضع من المصلحة ما لا يتحقق بدونها . بل لا بد أن يكون الأمر كذلك . ومن ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ المسلمون برخص الله التي رخصها لهم . وإذا حدث أن فسد الناس في جيل من الأجيال فإن إصلاحهم لا يتأتى من طريق التشدد في الأحكام؛ ولكن يتأتى من طريق إصلاح تربيتهم وقلوبهم واستحياء شعور التقوى في أرواحهم . وإذا صح التشدد في أحكام المعاملات عند فساد الناس كعلاج رادع ، وسد للذرائع ، فإن الأمر في الشعائر التعبدية يختلف ، إذ هي حساب بين العبد والرب ، لا تتعلق به مصالح العباد تعلقاً مباشراً كأحكام المعاملات التي يراعى فيها الظاهر . والظاهر في العبادات لا يجدي ما لم يقم على تقوى القلوب . وإذا وجدت التقوى لم يتفلت متفلت ، ولم يستخدم الرخصة إلا حيث يرتضيها قلبه ، ويراها هي الأولى ، ويحس أن طاعة الله في أن يأخذ بها في الحالة التي يواجهها ، أما تشديد الأحكام جملة في العبادات أو الميل إلى التضييق من إطلاق الرخص التي أطلقتها النصوص ، فقد ينشيء حرجاً لبعض المتحرجين . في الوقت الذي لا يجدي كثيراً في تقويم المتفلتين . . والأولى على كل حال أن نأخذ الأمور بالصورة التي أرادها الله في هذا الدين .

فهو أحكم منا وأعلم بما وراء رخصه وعزائمه من مصالح قريبة وبعيدة . . وهذا هو جماع القول في هذا المجال .
بقي أن نثبت هنا بعض ما روي من السنة في حالات متعددة من حالات السفر ، في بعضها كان التوجيه إلى الفطر وفي بعضها لم يقع نهي عن الصيام . . وهي بمجموعها تساعد على تصور ما كان عليه السلف الصالح من إدراك للأمر ، قبل أن تأخذ الأحكام شكل التقعيد الفقهي على أيدي الفقهاء المتأخرين . وصورة سلوك أولئك السلف - رضوان الله عليهم - أملأ بالحيوية ، وألصق بروح هذا الدين وطبيعته ، من البحوث الفقهية؛ ومن شأن الحياة معها وفي جوها أن تنشئ في القلب مذاقاً حياً لهذه العقيدة وخصائصها :
1- عن جابر - رضي الله عنه - قال : « خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح إلى مكة في رمضان ، فصام حتى بلغ » كراع الغميم « فصام الناس . ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس ، ثم شرب . فقيل له بعد ذلك : إن بعض الناس قد صام ، فقال : أولئك العصاة . أولئك العصاة » ( أخرجه مسلم والترمذي ) .
2- وعن أنس رضي الله عنه - قال « كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فمنا الصائم ومنا المفطر . فنزلنا منزلاً في يوم حار ، أكثرنا ظلاً صاحب الكساء ، ومنا من يتقي الشمس بيده . فسقط الصوام وقام المفطرون ، فضربوا الأبنية ، وسقوا الركاب ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب المفطرون اليوم بالأجر » ( أخرجه الشيخان والنسائي ) .
3- وعن جابر - رضي الله عنه - قال « كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر ، فرأى رجلاً قد اجتمع عليه الناس ، وقد ظلل عليه . فقال : ما له؟ فقالوا : رجل صائم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ليس من البر الصوم في السفر » ( أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والنسائي ) .
4- وعن عمرو بن أمية الضمري - رضي الله عنه - « قال قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر ، فقال : انتظر الغداء يا أبا أمية . قلت : يا رسول الله إني صائم . قال : إذاً أخبرك عن المسافر . إن الله تعالى وضع عنه الصيام ونصف الصلاة » ( أخرجه النسائي ) . .
5- وعن رجل من بني عبد الله بن كعب بن مالك اسمه أنس بن مالك . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « إن الله تعالى وضع شطر الصلاة عن المسافر وأرخص له في الإفطار وأرخص فيه للمرضع والحبلى إذا خافتا على ولديهما » . ( أخرجه أصحاب السنن ) .
6- وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت

« سأل حمزة بن عمرو الأسلمي - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصوم في السفر . ( وكان كثير الصيام ) فقال : إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر » ( أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي ) وفي رواية أخرى وكان جلداً على الصوم .
7- وعن أنس - رضي الله عنه - قال كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فمنا الصائم ومنا المفطر . فلا الصائم يعيب على المفطر ولا المفطر يعيب على الصائم « . . ( أخرجه مالك والشيخان وأبو داود ) .
8- وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان في حر شديد ، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر؛ وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن رواحة رضي الله عنه . . ( أخرجه الشيخان وأبو داود ) .
9- وعن محمد بن كعب قال : أتيت أنس بن مالك - رضي الله عنه في رمضان وهو يريد سفراً وقد رحلت له راحلته ، ولبس ثياب سفره ، فدعا بطعام فأكل . فقلت له : سنة؟ قال : نعم . ثم ركب . . ( أخرجه الترمذي ) .
10- وعن عبيد بن جبير قال كنت مع أبي بصرة الغفاري - صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه في سفينة من الفسطاط في رمضان . فدفع فقِّرب غداؤه ، فقال : اقترب . قلت : ألست ترى البيوت؟ قال أترغب عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فأكل وأكلت . . ( أخرجه أبو داود )
11- وعن منصور الكلبي : أن دحية بن خليفة - رضي الله عنه - خرج من قرية من دمشق إلى قدر قرية عقبة من الفساط ، وذلك ثلاثة أميال ، في رمضان . فأفطر وأفطر معه ناس كثير . وكره آخرون أن يفطروا . فلما رجع إلى قريته قال : والله لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن أن أراه . إن قوماً رغبوا عن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه . اللهم أقبضني إليك . . ( أخرجه أبو داود ) . .
فهذه الأحاديث في جملتها تشير إلى تقبل رخصة الإفطار في السفر في سماحة ويسر . وترجح الأخذ بها . ولا تشترط وقوع المشقة للأخذ بها كما يشير إلى ذلك الحديثان الأخيران بوجه خاص ، وإذا كان الحديث الثامن منها يشير إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده ظل مرة صائماً مع المشقة هو وعبد الله بن رواحة ، فقد كانت له - صلى الله عليه وسلم - خصوصيات في العبادة يعفي منها أصحابه . كنهيه لهم عن مواصلة الصوم وهو كان يواصل أحياناً . أي يصل اليوم باليوم بلا فطر .

فلما قالوا له في هذا ، قال : « إني لست مثلكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني » . ( أخرجه الشيخان ) وثابت من الحديث الأول أنه أفطر وقال عن الذين لم يفطروا : أولئك العصاة . أولئك العصاة . وهذا الحديث متأخر - في سنة الفتح - فهو أحدث من الأحاديث الأخرى . وأكثر دلالة على الاتجاه المختار . .
والصورة التي تنشأ في الحس من مجموع هذه الحالات . . أنه كانت هناك مراعاة لحالات واقعية ، تقتضي توجيهاً معيناً كما هو الشأن في الأحاديث التي تروى في الموضوع العام الواحد ، ونجد فيها توجيهات متنوعة - فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يربي وكان يواجه حالات حية . ولم يكن يواجهها بقوالب جامدة
ولكن الانطباع الأخير في الحس في أمر الصوم في السفر هو استحباب الفطر ، دون تقيد بحصول المشقة بالفعل . . أما المرض فلم أجد فيه شيئاً إلا أقوال الفقهاء ، والظاهر أنه مطلق في كل ما يثبت له وصف المرض ، بلا تحديد في نوعه وقدره ولا خوف شدته ، على وجوب القضاء يوماً بيوم في المرض والسفر ، من غير موالاة في أيام القضاء على الرأي الأرجح .
وقد استطردت هذا الاستطراد لا لأخوض في خلافات فقهية؛ ولكن لتقرير قاعدة في النظر إلى الشعائر التعبدية ، وارتباطها الوثيق بإنشاء حالة شعورية هي الغاية المقدمة منها . وهذه الحالة هي التي تحكم سلوك المتعبد؛ وعليها الاعتماد الأول في تربية ضميره ، وحسن أدائه للعبادة وحسن سلوكه في الحياة . . هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى أن نأخذ هذا الدين - كما أراده الله - بتكاليفه كلها ، طاعة وتقوى وأن نأخذه جملة بعزائمه ورخصه ، متكاملاً متناسقاً في طمأنينة إلى الله ، ويقين بحكمته ، وشعور بتقواه .
ثم نعود إلى استكمال السياق :
{ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ، فمن تطوع خيراً فهو خير له ، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون } . .
وفي أول الأمر كان تكليف الصوم شاقاً على المسلمين - وقد فرض في السنة الثانية من الهجرة قبيل فرض الجهاد - فجعل الله فيه رخصة لمن يستطيع الصوم بجهد - وهو مدلول يطيقونه - فالإطاقة الاحتمال بأقصى جهد - جعل الله هذه الرخصة ، وهي الفطر مع إطعام مسكين . . ثم حببهم في التطوع بإطعام المساكين إطلاقاً ، إما تطوعاً بغير الفدية ، وإما بالإكثار عن حد الفدية ، كأن يطعم اثنين أو ثلاثة أو أكثر بكل يوم من أيام الفطر في رمضان : { فمن تطوع خيراً فهو خير له } . . ثم حببهم في اختيار الصوم مع المشقة - في غير سفر ولا مرض - : { وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون } . . لما في الصوم من خير في هذه الحالة . يبدو منه لنا عنصر تربية الإرادة ، وتقوية الاحتمال ، وإيثار عبادة الله على الراحة . وكلها عناصر مطلوبة في التربية الإسلامية .

كما يبدو لنا منه ما في الصوم من مزايا صحية - لغير المريض - حتى ولو أحس الصائم بالجهد .
وعلى أية حال فقد كان هذا التوجيه تمهيداً لرفع هذه الرخصة عن الصحيح المقيم وإيجاب الصيام إطلاقاً . كما جاء فيما بعد . وقد بقيت للشيخ الكبير الذي يجهده الصوم ، ولا ترجى له حالة يكون فيها قادراً على القضاء . . فأخرج الإمام مالك أنه بلغه أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - كبر حتى كان لا يقدر على الصيام فكان يفتدي . . وقال ابن عباس : ليست منسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً . . وعن ابن أبي ليلى قال : دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل ، فقال : قال ابن عباس نزلت هذه الآية فنسخت الأولى إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكيناً وأفطر . فالنسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بالآية الآتية : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه . . . } .
وتحبيب آخر في أداء هذه الفريضة للصحيح المقيم . . إنها صوم رمضان : الشهر الذي أنزل فيه القرآن - إما بمعنى أن بدء نزوله كان في رمضان ، أو أن معظمه نزل في أشهر رمضان - والقرآن هو كتاب هذه الأمة الخالد ، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور ، فأنشأها هذه النشأة ، وبدلها من خوفها أمناً ، ومكن لها في الأرض ، ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة ، ولم تكن من قبل شيئاً . وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء . فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل فيه القرآن :
{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . . فمن شهد منكم الشهر فليصمه . ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } . .
وهذه هي الآية الموجبة الناسخة لرخصة الإفطار والفدية بالنسبة للصحيح المقيم - فيما عدا الشيخ والشيخة كما أسلفنا :
{ فمن شهد منكم الشهر فليصمه } . .
أي من حضر منكم الشهر غير مسافر . أو من رأى منكم هلال الشهر . والمستيقن من مشاهدة الهلال بأية وسيلة أخرى كالذي يشهده في إيجاب الصوم عليه عدة أيام رمضان .
ولما كان هذا نصاً عاماً فقد عاد ليستثني منه من كان مريضاً أو على سفر :
{ ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } . .
وتحبيب ثالث في أداء الفريضة ، وبيان لرحمة الله في التكليف وفي الرخصة سواء :
{ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } . .
وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها . فهي ميسرة لا عسر فيها . وهي توحي للقلب الذي يتذوقها ، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها؛ وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد .

سماحة تؤدى معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة وكأنما هي مسيل الماء الجاري ، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء . مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين .
وقد جعل الصوم للمسافر والمريض في أيام أخر ، لكي يتمكن المضطر من إكمال عدة أيام الشهر ، فلا يضيع عليه أجرها :
{ ولتكملوا العدة } .
والصوم على هذا نعمة تستحق التكبير والشكر :
{ ولتكبروا الله على ما هداكم . ولعلكم تشكرون } . .
فهذه غاية من غايات الفريضة . . أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم . وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام أكثر من كل فترة . وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية ، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها . وهم شاعرون بالهدى ملموساً محسوساً ليكبروا الله على هذه الهداية ، وليشكروه على هذه النعمة . ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة . كما قال لهم في مطلع الحديث عن الصيام : { لعلكم تتقون } . .
وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقّاً على الأبدان والنفوس . وتتجلى الغاية التربوية منه ، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه ، أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير .
وقبل أن يمضي السياق في بيان أحكام تفصيلية عن مواعيد الصيام ، وحدود المتاع فيه وحدود الإمساك . . نجد لفتة عجيبة إلى أعماق النفس وخفايا السريرة . نجد العوض الكامل الحبيب المرغوب عن مشقة الصوم ، والجزاء المعجل على الاستجابة لله . . نجد ذلك العوض وهذا الجزاء في القرب من الله ، وفي استجابته للدعاء . . تصوره ألفاظ رفافة شفافة تكاد تنير :
{ وإذا سألك عبادي عني ، فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان . فليستجيبوا لي ، وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } . .
فإني قريب . . أجيب دعوة الداع إذا دعان . . أية رقة؟ وأي انعطاف؟ وأية شفافية؟ وأي إيناس؟ وأين تقع مشقة الصوم ومشقة أي تكليف في ظل هذا الود ، وظل هذا القرب ، وظل هذا الإيناس؟
وفي كل لفظ في التعبير في الآية كلها تلك النداوة الحبيبة :
{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب . أجيب دعوة الداع إذا دعان } . .
إضافة العباد إليه ، والرد المباشر عليهم منه . . لم يقل : فقل لهم : إني قريب . . إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال . . قريب . . ولم يقل أسمع الدعاء . . إنما عجل بإجابة الدعاء : { أجيب دعوة الداع إذا دعان } . .
إنها آية عجيبة . . آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة ، والود المؤنس ، والرضى المطمئن ، والثقة واليقين . . ويعيش منها المؤمن في جناب رضيّ ، وقربى ندية ، وملاذ أمين وقرار مكين .
وفي ظل هذا الأنس الحبيب ، وهذا القرب الودود ، وهذه الاستجابة الوحية . . يوجه الله عباده إلى الاستجابة له ، والإيمان به ، لعل هذا أن يقودهم إلى الرشد والهداية والصلاح .
{ فليستجيبوا لي ، وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } . .
فالثمرة الأخيرة من الاستجابة والإيمان هي لهم كذلك .

. وهي الرشد والهدى والصلاح . فالله غني عن العالمين .
والرشد الذي ينشئه الإيمان وتنشئه الاستجابة لله هو الرشد . فالمنهج الإلهي الذي اختاره الله للبشر هو المنهج الوحيد الراشد القاصد؛ وما عداه جاهلية وسفه لا يرضاه راشد ، ولا ينتهي إلى رشاد . واستجابة الله للعباد مرجوة حين يستجيبون له هم ويرشدون . وعليهم أن يدعوه ولا يستعجلوه . فهو يقدر الاستجابة في وقتها بتقديره الحكيم .
أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن ميمون - بإسناده - عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « إن الله تعالى ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيراً فيردهما خائبين » .
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي - بإسناده - عن ابن ثوبان : ورواه عبد الله بن الإمام أحمد - بإسناده - عن عبادة بن الصامت : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة إلا آتاه الله إياها ، أو كف عنه من السوء مثلها ، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم » .
وفي الصحيحين : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « يستجاب لأحدكم ما لم يعجل . يقول دعوت فلم يستجب لي » .
وفي صحيح مسلم : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل قيل : يا رسول الله وما الاستعجال . قال : يقول : قد دعوت ، وقد دعوت ، فلم أر يستجاب لي ، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء » .
والصائم أقرب الدعاة استجابة ، كما روى الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده - بإسناده - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : « سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة . . » فكان عبد الله ابن عمر إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا . وروى ابن ماجه في سننه - بإسناده - عن عبد الله بن عمر كذلك قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد » وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة ، وتفتح لها أبواب السماء ، ويقول : بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين » .
ومن ثم جاء ذكر الدعاء في ثنايا الحديث عن الصيام .

ثم يمضي السياق يبين للذين آمنوا بعض أحكام الصيام . فيقرر لهم حل المباشرة للنساء في ليلة الصوم ما بين المغرب والفجر . وحل الطعام والشراب كذلك ، كما يبين لهم مواعيد الصوم من الفجر إلى الغروب ، وحكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد :
{ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ، هن لباس لكم وأنتم لباس لهن؛ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم؛ فالأن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، ثم أتموا الصيام إلى الليل ، ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد . تلك حدود الله فلا تقربوها . كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } .
وفي أول فرض الصوم كانت المباشرة والطعام والشراب تمتنع لو نام الصائم بعد إفطاره . فإذا صحا بعد نومه من الليل - ولو كان قبل الفجر - لم تحل له المباشرة ولم يحل له الطعام والشراب . وقد وقع أن بعضهم لم يجد طعاماً عند أهله وقت الإفطار ، فغلبه النوم ، ثم صحا فلم يحل له الطعام والشراب فواصل . ثم جهد في النهار التالي وبلغ أمره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما وقع أن بعضهم نام بعد الإفطار أو نامت امرأته ، ثم وجد في نفسه دفعة للمباشرة ففعل وبلغ أمره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبدت المشقة في أخذ المسلمين بهذا التكليف ، فردهم الله إلى اليسر وتجربتهم حاضرة في نفوسهم ، ليحسوا بقيمة اليسر وبمدى الرحمة والاستجابة . . ونزلت هذه الآية نزلت . تحل لهم المباشرة ما بين المغرب والفجر :
{ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } . .
والرفث مقدمات المباشرة ، أو المباشرة ذاتها ، وكلاهما مقصود هنا ومباح . . ولكن القرآن لا يمر على هذا المعنى دون لمسة حانية رفافة ، تمنح العلاقة الزوجية شفافية ورفقاً ونداوة ، وتنأى بها عن غلظ المعنى الحيواني وعرامته ، وتوقظ معنى الستر في تيسير هذه العلاقة :
{ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } . .
واللباس ساتر وواق . . وكذلك هذه الصلة بين الزوجين . تستر كلاًّ منهما وتقيه . والإسلام الذي يأخذ هذا الكائن الإنساني بواقعه كله ، ويرتضي تكوينه وفطرته كما هي ، ويأخذ بيده إلى معارج الارتفاع بكليته . . الإسلام وهذه نظرته يلبي دفعة اللحم والدم . وينسم عليها هذه النسمة اللطيفة ، ويدثرها بهذا الدثار اللطيف . . في آن . .
ويكشف لهم عن خبيئة مشاعرهم ، وهو يكشف لهم عن رحمته بالاستجابة لهواتف فطرتهم :
{ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم . فتاب عليكم وعفا عنكم } . .
وهذه الخيانة لأنفسهم التي يحدثهم عنها ، تتمثل في الهواتف الحبيسة ، والرغبات المكبوتة؛ أو تتمثل في الفعل ذاته ، وقد ورد أن بعضهم أتاه . . وفي كلتا الحالتين لقد تاب عليهم وعفا عنهم ، مذ ظهر ضعفهم وعلمه الله منهم .

. فأباح لهم ما كانوا يختانون فيه أنفسهم :
{ فالأن باشروهن } . .
ولكن هذه الإباحة لا تمضي دون أن تربط بالله ، ودون توجيه النفوس في هذا النشاط لله أيضاً :
{ وابتغوا ما كتب الله لكم } . .
ابتغوا هذا الذي كتبه الله لكم من المتعة بالنساء ، ومن المتعة بالذرية ، ثمرة المباشرة . فكلتاهما من أمر الله ، ومن المتاع الذي أعطاكم إياه ، ومن إباحتها وإتاحتها يباح لكم طلبها وابتغاؤها . وهي موصولة بالله فهي من عطاياه . ومن ورائها حكمة ، ولها في حسابه غاية . فليست إذن مجرد اندفاع حيواني موصول بالجسد ، منفصل عن ذلك الأفق الأعلى الذي يتجه إليه كل نشاط .
بهذا ترتبط المباشرة بين الزوجين بغاية أكبر منهما ، وأفق أرفع من الأرض ومن لحظة اللذة بينهما . وبهذا تنظف هذه العلاقة وترق وترقى . . ومن مراجعة مثل هذه الإيحاءات في التوجيه القرآني وفي التصور الإسلامي ندرك قيمة الجهد المثمر الحكيم الذي يبذل لترقية هذه البشرية وتطويرها ، في حدود فطرتها وطاقتها وطبيعة تكوينها . وهذا هو المنهج الإسلامي للتربية والاستعلاء والنماء . المنهج الخارج من يد الخالق . وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير .
وكما أباح المباشرة أباح الطعام والشراب في الفترة ذاتها :
{ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } . .
أي حتى ينتشر النور في الأفق وعلى قمم الجبال . وليس هو ظهور الخيط الأبيض في السماء وهو ما يسمى بالفجر الكاذب . وحسب الروايات التي وردت في تحديد وقت الإمساك نستطيع أن نقول : إنه قبل طلوع الشمس بقليل . وإننا نمسك الآن وفق المواعيد المعروفة في قطرنا هذا قبل أوان الإمساك الشرعي ببعض الوقت . . ربما زيادة في الاحتياط . .
قال ابن جرير - بإسناده - عن سمرة بن جندب : قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض ، حتى ينفجر الفجر أو يطلع الفجر » . ثم رواه من حديث شعبة وغيره عن سواد بن حنظلة عن سمرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ، ولكنه الفجر المستطير في الأفق » . والفجر المستطير في الأفق يسبق طلوع الشمس بوقت قليل . . وكان بلال - رضي الله عنه - يبكر في الأذان لتنبيه النائم ، وكان ابن أم مكتوم يؤذن متأخراً للإمساك وإلى هذا كانت الإشارة إلى أذان بلال . .
ثم يذكر حكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد . والاعتكاف - بمعنى الخلوة إلى الله في المساجد . وعدم دخول البيوت إلا لضرورة قضاء الحاجة ، أو ضرورة الطعام والشراب - يستحب في رمضان في الأيام الأخيرة . وكانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العشر الأواخر منه . . وهي فترة تجرد لله .

ومن ثم امتنعت فيها المباشرة تحقيقاً لهذا التجرد الكامل ، الذي تنسلخ فيه النفس من كل شيء ، ويخلص فيه القلب من كل شاغل :
{ ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } . .
سواء في ذلك فترة الإمساك وفترة الإفطار .
وفي النهاية يربط الأمر كله بالله على طريقة القرآن في توجيه كل نشاط وكل امتناع . كل أمر وكل نهي . كل حركة وكل سكون :
{ تلك حدود الله فلا تقربوها } . .
والنهي هنا عن القرب . . لتكون هناك منطقة أمان . فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه . والإنسان لا يملك نفسه في كل وقت ; فأحرى به ألا يعرض إرادته للامتحان بالقرب من المحظورات المشتهاة ، اعتماداً على أنه يمنع نفسه حين يريد . ولأن المجال هنا مجال حدود للملاذ والشهوات كان الأمر : { فلا تقربوها } . . والمقصود هو المواقعة لا القرب . ولكن هذا التحذير على هذا النحو له إيحاؤه في التحرج والتقوى :
{ كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } . .
وكذلك تلوح التقوى غاية يبين الله آياته للناس ليبلغوها ، وهي غاية كبيرة يدرك قيمتها الذين آمنوا ، المخاطبون بهذا القرآن في كل حين .
وفي ظل الصوم ، والامتناع عن المأكل والمشرب ، يرد تحذير من نوع آخر من الأكل : أكل أموال الناس بالباطل : عن طريق التقاضي بشأنها أمام الحكام اعتماداً على المغالطة في القرائن والأسانيد ، واللحن بالقول والحجة . حيث يقضي الحاكم بما يظهر له ، وتكون الحقيقة غير ما بدا له . ويجيء هذا التحذير عقب ذكر حدود الله ، والدعوة إلى تقواه ، ليظللها جو الخوف الرادع عن حرمات الله :
{ ولا تأكلو أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } .
ذكر ابن كثير في تفسير الآية : « قال علي بن أبي طلحة وعن ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال ، وليس عليه فيه بينة ، فيجحد المال ، ويخاصم إلى الحكام ، وهو يعرف أن الحق عليه ، وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام . وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير ، وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا : لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم . وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : » إنما أنا بشر ، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار . فليحملها أو ليذرها « .
وهكذا يتركهم لما يعلمونه من حقيقة دعواهم . فحكم الحاكم لا يحل حراماً ، ولا يحرم حلالاً . إنما هو ملزم في الظاهر . وإثمه على المحتال فيه .
وهكذا يربط الأمر في التقاضي وفي المال بتقوى الله . كما ربط في القصاص ، وفي الوصية وفي الصيام . فكلها قطاعات متناسقة في جسم المنهج الإلهي المتكامل . وكلها مشدودة إلى تلك العروة التي تربط قطاعات المنهج كله . . ومن ثم يصبح المنهج الإلهي وحدة واحدة . لا تتجزأ ولا تتفرق . ويصبح ترك جانب منه وإعمال جانب ، إيماناً ببعض الكتاب وكفراً ببعض . . فهو الكفر في النهاية . والعياذ بالله . .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

هذا الدرس - كسابقه - استطراد في بيان فرائض هذه الأمة وتكاليفها ، ونظم حياتها ، وأحكام شريعتها فيما بينها ، وشريعتها مع غيرها من الأمم حولها .
ويتضمن هذا الدرس بياناً عن الأهلة - جمع هلال - كما يتضمن تصحيحاً لعادة جاهلية وهي إتيان البيوت من ظهورها بدلاً من أبوابها في مناسبات معينة ، ثم بياناً عن أحكام القتال عامة ، وأحكام القتال في الأشهر الحرم ، وعند المسجد الحرام خاصة . وفي النهاية بياناً لشعائر الحج والعمرة كما أقرها الإسلام وهذبها ، وعدل فيها كل ما يمت إلى التصورات الجاهلية .
وهكذا نرى هنا - كما رأينا في الدرس السابق - أحكاماً تتعلق بالتصور والاعتقاد ، وأحكاماً تتعلق بالشعائر التعبدية ، وأحكاماً تتعلق بالقتال . . كلها تتجمع في نطاق واحد ، وكلها يعقب عليها تعقيبات تذكر بالله وتقواه .
في موضوع إتيان البيوت من ظهورها يجيء تعقيب يصحح معنى البر ، وأنه ليس في الحركة الظاهرة إنما هو في التقوى : { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ، ولكنَّ البر من اتقى ، وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون } . .
وفي القتال بصفة عامة يوجههم إلى عدم الاعتداء ، ويربط هذا بحب الله وكرهه . { إن الله لا يحب المعتدين } . .
وفي القتال في الشهر الحرام يعقب بتقوى الله : { واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين } . .
وفي الإنفاق يعقب بحب الله للمحسنين : { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } . .
وفي التعقيب على بعض شعائر الحج يقول : { واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب } . .
وفي التعقيب الآخر على بيان مواقيت الحج والنهي عن الرفث فيه والفسوق والجدال يقول : { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب } . .
وحتى في توجيه الناس لذكر الله بعد الحج يجيء التعقيب : { واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون } . .
وهكذا نجد هذه الأمور المتعددة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ، ناشئاً من طبيعة هذا الدين ، الذي لا تنفصل فيه الشعائر التعبدية ، عن المشاعر القلبية ، عن التشريعات التنظيمية ، ولا يستقيم إلا بأن يشمل أمور الدنيا وأمور الآخرة ، وشؤون القلب وشؤون العلاقات الاجتماعية والدولية ، وإلا أن يشرف على الحياة كلها ، فيصرفها وفق تصور واحد متكامل ، ومنهج واحد متناسق ، ونظام واحد شامل ، وأداة واحدة هي هذا النظام الخاص الذي يقوم على شريعة الله في كافة الشؤون .
وهناك ظاهرة في هذه السورة تطالعنا منذ هذا القطاع . تطالعنا في صورة مواقف يسأل فيها المسلمون نبيهم - صلى الله عليه وسلم - عن شؤون شتى ، هي الشؤون التي تصادفهم في حياتهم الجديدة ، ويريدون أن يعرفوا كيف يسلكون فيها وفق تصورهم الجديد ، ووفق نظامهم الجديد . وعن الظواهر التي تلفت حسهم الذي استيقظ تجاه الكون الذي يعيشون فيه . .
فهم يسألون عن الأهلة .

. ما شأنها؟ ما بال القمر يبدو هلالاً ، ثم يكبر حتى يستدير بدراً ، ثم يأخذ في التناقص حتى يرتد هلالاً ، ثم يختفي ليظهر هلالاً من جديد؟
ويسألون ماذا ينفقون؟ من أي نوع من مالهم ينفقون؟ وأي قدر وأية نسبة مما يملكون؟
ويسألون عن القتال في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام . هل يجوز؟
ويسألون عن الخمر والميسر ما حكمهما؟ وقد كانوا أهل خمر في الجاهلية وأهل ميسر
ويسألون عن المحيض؟ وعلاقتهم بنسائهم في فترته . ثم يسألون عن أشياء في أخص علاقاتهم بأزواجهم ، وأحيانا تسأل فيها الزوجات أنفسهن .
وقد وردت أسئلة أخرى في موضوعات متنوعة في سور أخرى من القرآن أيضاً . .
وهذه الأسئلة ذات دلالات شتى :
فهي أولاً دليل على تفتح وحيوية ونمو في صور الحياة وعلاقاتها ، وبروز أوضاع جديدة في المجتمع الذي جعل يأخذ شخصيته الخاصة ، ويتعلق به الأفراد تعلقاً وثيقاً؛ فلم يعودوا أولئك الأفراد المبعثرين ، ولا تلك القبائل المتناثرة . إنما عادوا أمة لها كيان ، ولها نظام ، ولها وضع يشد الجميع إليه؛ ويهم كل فرد فيه أن يعرف خطوطه وارتباطاته . . وهي حالة جديدة أنشأها الإسلام بتصوره ونظامه وقيادته على السواء . . حالة نمو اجتماعي وفكري وشعوري وإنساني بوجه عام .
وهي ثانياً دليل على يقظة الحس الديني ، وتغلغل العقيدة الجديدة وسيطرتها على النفوس ، مما يجعل كل أحد يتحرج أن يأتي أمراً في حياته اليومية قبل أن يستوثق من رأي العقيدة الجديدة فيه ، فلم تعد لهم مقررات سابقة في الحياة يرجعون إليها ، وقد انخلعت قلوبهم من كل مألوفاتهم في الجاهلية ، وفقدوا ثقتهم بها؛ ووقفوا ينتظرون التعليمات الجديدة في كل أمر من أمور الحياة . . وهذه الحالة الشعورية هي الحالة التي ينشئها الإيمان الحق . عندئذ تتجرد النفس من كل مقرراتها السابقة وكل مألوفاتها ، وتقف موقف الحذر من كل ما كانت تأتيه في جاهليتها ، وتقوم على قدم الاستعداد لتلقي كل توجيه من العقيدة الجديدة ، لتصوغ حياتها الجديدة على أساسها ، مبرأة من كل شائبة . فإذا تلقت من العقيدة الجديدة توجيهاً يقر بعض جزئيات من مألوفها القديم تلقته جديداً مرتبطاً بالتصور الجديد . إذ ليس من الحتم أن يبطل النظام الجديد ، كل جزئية في النظام القديم؛ ولكن من المهم أن ترتبط هذه الجزئيات بأصل التصور الجديد ، فتصبح جزءاً منه ، داخلاً في كيانه ، متناسقاً مع بقية أجزائه . . كما صنع الإسلام بشعائر الحج التي استبقاها . فقد أصبحت تنبثق من التصور الإسلامي ، وتقوم على قواعده ، وأنبتت علاقتها بالتصورات الجاهلية نهائياً .
والدلالة الثالثة تؤخذ من تاريخ هذه الفترة؛ وقيام اليهود في المدينة والمشركين في مكة بين الحين والحين بمحاولة التشكيك في قيمة النظم الإسلامية ، وانتهاز كل فرصة للقيام بحملة مضللة على بعض التصرفات والأحداث - كما وقع في سرية عبد الله بن جحش وما قيل من اشتباكها في قتال مع المشركين في الأشهر الحرم - مما كان يستدعي بروز بعض الاستفهامات والإجابة عليها ، بما يقطع الطريق على تلك المحاولات؛ ويسكب الطمأنينة واليقين في قلوب المسلمين .

. ومعنى هذه الدلالة أن القرآن كان دائماً في المعركة . سواء تلك المعركة الناشئة في القلوب بين تصورات الجاهلية وتصورات الإسلام؛ والمعركة الناشئة في الجو الخارجي بين الجماعة المسلمة وأعدائها الذين يتربصون بها من كل جانب .
هذه المعركة كتلك ما تزال قائمة . فالنفس البشرية هي النفس البشرية؛ وأعداء الأمة المسلمة هم أعداؤها . . والقرآن حاضر ولا نجاة للنفس البشرية ولا للأمة المسلمة إلا بإدخال هذا القرآن في المعركة ، ليخوضها حية كاملة كما خاضها أول مرة . . وما لم يستيقن المسلمون من هذه الحقيقة فلا فلاح لهم ولا نجاح
وأقل ما تنشئه هذه الحقيقة في النفس . . أن تقبل على هذا القرآن بهذا الفهم وهذا الإدراك وهذا التصور . أن تواجهه وهو يتحرك ويعمل وينشىء التصور الجديد ، ويقاوم تصورات الجاهلية ، ويدفع عن هذه الأمة ، ويقيها العثرات . لا كما يواجهه الناس اليوم نغمات حلوة ترتل ، وكلاما جميلا يتلى ، وينتهي الأمر . . إنه لأمر غير هذا نزل الله القرآن . . لقد نزله لينشىء حياة كاملة ، ويحركها ، ويقودها إلى شاطىء الأمان بين الأشواك والعثرات ، ومشقات الطريق؛ التي تتناثر فيها الشهوات كما تتناثر فيها العقبات . والله المستعان . .
والأن نواجه النصوص القرآنية في هذا الدرس بالتفصيل :
{ يسألونك عن الأهلة . قل هي مواقيت للناس والحج . وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ، ولكن البر من اتقى . وأتوا البيوت من أبوابها ، واتقوا الله لعلكم تفلحون } . .
تقول بعض الروايات : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل ذلك السؤال الذي أسلفناه عن الأهلة : ظهورها ونموها وتناقصها . . ما بالها تصنع هذا؟ وتقول بعض الروايات : إنهم قالوا : يا رسول الله لم خلقت الأهلة؟ وقد يكون هذا السؤال في صيغته الأخيرة أقرب إلى طبيعة الجواب . فقال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - :
{ قل : هي مواقيت للناس والحج } . .
مواقيت للناس في حلهم وإحرامهم ، وفي صومهم وفطرهم ، وفي نكاحهم وطلاقهم وعدتهم ، وفي معاملاتهم وتجاراتهم وديونهم . . وفي أمور دينهم وأمور دنياهم على سواء .
وسواء كان هذا الجواب ردا على السؤال الأول أو على السؤال الثاني ، فهو في كلتا الحالتين اتجه إلى واقع حياتهم العملي لا إلى مجرد العلم النظري؛ وحدثهم عن وظيفة الأهلة في واقعهم وفي حياتهم ولم يحدثهم عن الدورة الفلكية للقمر وكيف تتم وهي داخلة في مدلول السؤال : ما بال القمر يبدو هلالاً . . . إلخ . كذلك لم يحدثهم عن وظيفة القمر في المجموعة الشمسية أو في توازن حركة الأجرام السماوية . وهي داخلة في مضمون السؤال : لماذا خلق الله الأهلة؟ فما هو الإيحاء الذي ينشئه هذا الاتجاه في الإجابة؟
لقد كان القرآن بصدد إنشاء تصور خاص ، ونظام خاص ، ومجتمع خاص .

. كان بصدد إنشاء أمة جديدة في الأرض ، ذات دور خاص في قيادة البشرية ، لتنشئ نموذجاً معيناً من المجتمعات غير مسبوق؛ ولتعيش حياة نموذجية خاصة غير مسبوقة؛ ولتقر قواعد هذه الحياة في الأرض؛ وتقود إليها الناس .
والإجابة « العلمية » عن هذا السؤال ربما كانت تمنح السائلين علماً نظرياً في الفلك؛ إذا هم استطاعوا ، بما كان لديهم من معلومات قليلة في ذلك الحين ، أن يستوعبوا هذا العلم ، ولقد كان ذلك مشكوكا فيه كل الشك ، لأن العلم النظري من هذا الطراز في حاجة إلى مقدمات طويلة ، كانت تعد بالقياس إلى عقلية العالم كله في ذلك الزمان معضلات .
من هنا عدل عن الإجابة التي لم تتهيأ لها البشرية ، ولا تفيدها كثيراً في المهمة الأولى التي جاء القرآن من أجلها . وليس مجالها على أية حال هو القرآن . إذ القرآن قد جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئية . ولم يجيء ليكون كتاب علم فلكي أو كيماوي أو طبي . . كما يحاول بعض المتحمسين له أن يلتمسوا فيه هذه العلوم ، أو كما يحاول بعض الطاعنين فيه أن يتلمسوا مخالفاته لهذه العلوم
إن كلتا المحاولتين دليل على سوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفته ومجال عمله . إن مجاله هو النفس الإنسانية والحياة الإنسانية . وإن وظيفته أن ينشئ تصوراً عاماً للوجود وارتباطه بخالقه ، ولوضع الإنسان في هذا الوجود وارتباطه بربه؛ وأن يقيم على أساس هذا التصور نظاما للحياة يسمح للإنسان أن يستخدم كل طاقاته . . ومن بينها طاقته العقلية ، التي تقوم هي بعد تنشئتها على استقامة ، وإطلاق المجال لها لتعمل - بالبحث العلمي - في الحدود المتاحة للإنسان - وبالتجريب والتطبيق ، وتصل إلى ما تصل إليه من نتائج ، ليست نهائية ولا مطلقة بطبيعة الحال .
إن مادة القرآن التي يعمل فيها هي الإنسان ذاته : تصوره واعتقاده ، ومشاعره ومفهوماته ، وسلوكه وأعماله ، وروابطه وعلاقاته . . أما العلوم المادية ، والإبداع في عالم المادة بشتى وسائله وصنوفه ، فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه وفروضه ونظرياته . بما أنها أساس خلافته في الأرض ، وبما أنه مهيأ لها بطبيعة تكوينه . . والقرآن يصحح له فطرته كي لا تنحرف ولا تفسد ، ويصحح له النظام الذي يعيش فيه كي يسمح له باستخدام طاقاته الموهوبة له؛ ويزوده بالتصور العام لطبيعة الكون وارتباطه بخالقه ، وتناسق تكوينه ، وطبيعة العلاقة القائمة بين أجزائه - وهو أي الإنسان أحد أجزائه - ثم يدع له أن يعمل في إدراك الجزئيات والانتفاع بها في خلافته . . ولا يعطيه تفصيلات لأن معرفة هذه التفصيلات جزء من عمله الذاتي .
وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن ، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه ، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها .

. كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه
إن القرآن كتاب كامل في موضوعه ، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها . . لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكشف هذه المعلومات وينتفع بها . . والبحث والتجريب والتطبيق من خواص العقل في الإنسان . والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه . بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره . كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه . وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصور والتفكير والشعور ، ويوجد المجتمع الذي يسمح له بالنشاط ، يتركه القرآن يبحث ويجرب ، ويخطىء ويصيب ، في مجال العلم والبحث والتجريب . وقد ضمن له موازين التصور والتدبر والتفكير الصحيح .
كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحياناً عن الكون في طريقه لإنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه ، وطبيعة التناسق بين أجزائه . . لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن ، بفروض العقل البشري ونظرياته ، ولا حتى بما يسميه « حقائق علمية » مما ينتهي إليه بطريق التجربة القاطعة في نظره .
إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة . أما ما يصل إليه البحث الإنساني - أياً كانت الأدوات المتاحة له - فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة؛ وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها . . فمن الخطأ المنهجي - بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته - أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية . وهي كل ما يصل إليه العلم البشري
هذا بالقياس إلى « الحقائق العلمية » . . والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى « علمية » . ومن هذه النظريات والفروض كل النظريات الفلكية؛ وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وأطواره؛ وكل النظريات الخاصة بنفس الإنسان وسلوكه . . وكل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها . . فهذه كلها ليست « حقائق علمية » حتى بالقياس الإنساني . وإنما هي نظريات وفروض . كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية . إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدراً أكبر من الظواهر ، أو يفسر تلك الظواهر تفسيراً أدق ومن ثم فهي قابلة دائماً للتغيير والتعديل والنقص والإضافة؛ بل قابلة لأن تنقلب رأساً على عقب ، بظهور أداة كشف جديدة ، أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة
وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة - أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا - تحتوي أولاً على خطأ منهجي أساسي . كما أنها تنطوي على معان ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم . .
الأولى : هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع . ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم .

أو الاستدلال له من العلم . على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه ، ونهائي في حقائقه . والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس ، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق ، لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته ، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة .
والثانية : سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته . وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتفق - بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية - مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي . حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله؛ بل يصادقه ويعرف بعض أسراره ، ويستخدم بعض نواميسه في خلافته . نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق ، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة
والثالثة : هي التأويل المستمر - مع التمحل والتكلف - لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر . وكل يوم يجد فيها جديد .
وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن ، كما أنه يحتوي على خطأ منهجي كما أسلفنا . .
ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات - ومن حقائق - عن الكون والحياة والإنسان في فهم القرآن . . كلا إن هذا ليس هو الذي عنينا بذلك البيان . ولقد قال الله سبحانه : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق وفي الأنفس من آيات الله . وأن نوسع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا .
فكيف؟ ودون أن نعلق النصوص القرآنية النهائية المطلقة بمدلولات ليست نهائية ولا مطلقة؟ هنا ينفع المثال :
يقول القرآن الكريم مثلاً : { وخلق كل شيء فقدره تقديراً } ثم تكشف الملاحظات العلمية أن هناك موافقات دقيقة وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون . . الأرض بهيئتها هذه وببعد الشمس عنها هذا البعد ، وبعد القمر عنها هذا البعد ، وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها ، وبسرعة حركتها هذه ، وبميل محورها هذا ، وبتكوين سطحها هذا . . وبآلاف من الخصائص . . هي التي تصلح للحياة وتوائمها . . فليس شيء من هذا كله فلتة عارضة ولا مصادفة غير مقصودة . . هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول : { وخلق كل شيء فقدره تقديراً } وتعميقه في تصورنا . . فلا بأس من تتبع مثل هذه الملاحظات لتوسيع هذا المدلول وتعميقه . . وهكذا . .
هذا جائز ومطلوب . . ولكن الذي لا يجوز ولا يصح علمياً ، هذه الأمثلة الأخرى :
يقول القرآن الكريم : { خلق الإنسان من سلالة من طين } ثم توجد نظرية في النشوء والارتقاء لوالاس ودارون تفترض أن الحياة بدأت خلية واحدة ، وأن هذه الخلية نشأت في الماء ، وأنها تطورت حتى انتهت إلى خلق الإنسان . . فنحمل نحن هذا النص القرآني ونلهث وراء النظرية . لنقول : هذا هو الذي عناه القرآن
لا .

. إن هذه النظرية أولاً ليست نهائية . فقد دخل عليها من التعديل في أقل من قرن من الزمان ما يكاد يغيرها نهائياً . وقد ظهر فيها من النقص المبني على معلومات ناقصة عن وحدات الوراثة التي تحتفظ لكل نوع بخصائصه ولا تسمح بانتقال نوع إلى نوع آخر ، ما يكاد يبطلها . وهي معرضة غدا للنقض والبطلان . . بينما الحقيقة القرآنية نهائية . وليس من الضروري أن يكون هذا معناها . فهي تثبت فقط أصل نشأة الإنسان ولا تذكر تفصيلات هذه النشأة . وهي نهائية في النقطة التي تستهدفها وهي أصل النشأة الإنسانية . . وكفى . . ولا زيادة . .
ويقول القرآن الكريم : { والشمس تجري لمستقر لها } فيثبت حقيقة نهائية عن الشمس وهي أنها تجري . . ويقول العلم : إن الشمس تجري بالنسبة لما حولها من النجوم بسرعة قدرت بنحو 12 ميلاً في الثانية . ولكنها في دورانها مع المجرة التي هي واحدة من نجومها تجري جميعاً بسرعة 170 ميلاً في الثانية . . ولكن هذه الملاحظات الفلكية ليست هي عين مدلول الآية القرآنية . إن هذه تعطينا حقيقة نسبية غير نهائية قابلة للتعديل أو البطلان . . أما الآية القرآنية فتعطينا حقيقة نهائية - في أن الشمس تجري - وكفى فلا نعلق هذه بتلك أبداً .
ويقول القرآن الكريم : { أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما } ثم تظهر نظرية تقول : إن الأرض كانت قطعة من الشمس فانفصلت عنها . . فنحمل النص القرآني ونلهث لندرك هذه النظرية العلمية . ونقول هذا ما تعنيه الآية القرآنية
لا . . ليس هذا هو الذي تعنيه فهذه نظرية ليست نهائية . وهناك عدة نظريات عن نشأة الأرض في مثل مستواها من ناحية الإثبات العلمي أما الحقيقة القرآنية فهي نهائية ومطلقة . وهي تحدد فقط أن الأرض فصلت عن السماء . . كيف؟ ما هي السماء التي فصلت عنها؟ هذا ما لا تتعرض له الآية . . ومن ثم لا يجوز أن يقال عن أي فرض من الفروض العلمية في هذا الموضوع : إنه المدلول النهائي المطابق للآية
وحسبنا هذا الاستطراد بهذه المناسبة ، فقد أردنا به إيضاح المنهج الصحيح في الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها ، دون تعليقها بنظرية خاصة أو بحقيقة علمية خاصة تعليق تطابق وتصديق . . وفرق بين هذا وذاك .
ثم نعود إلى النص القرآني :
{ وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها . ولكن البر من اتقى ، وأتوا البيوت من أبوابها ، واتقوا الله لعلكم تفلحون } . .
والارتباط بين شطري الآية يبدو أنه هو المناسبة بين أن الأهلة هي مواقيت للناس والحج ، وبين عادة جاهلية خاصة بالحج هي التي يشير إليها شطر الآية الثاني . . في الصحيحين - بإسناده - عن البراء - رضي الله عنه - قال : كان الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت ، فجاء رجل منهم فدخل من قبل بابه ، فكأنه عير بذلك .

فنزلت : { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها؛ ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها } . .
ورواه أبو داود عن شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال : كانت الأنصار إذا قدموا من سفرهم لم يدخل الرجل من قبل بابه . . فنزلت هذه الآية .
وسواء كانت هذه عادتهم في السفر بصفة عامة ، أو في الحج بصفة خاصة وهو الأظهر في السياق ، فقد كانوا يعتقدون أن هذا هو البر - أي الخير أو الإيمان - فجاء القرآن ليبطل هذا التصور الباطل ، وهذا العمل المتكلف الذي لا يستند إلى أصل ، ولا يؤدي إلى شيء . وجاء يصحح التصور الإيماني للبر . . فالبر هو التقوى . هو الشعور بالله ورقابته في السر والعلن . وليس شكلية من الشكليات التي لا ترمز إلى شيء من حقيقة الإيمان . ولا تعني أكثر من عادة جاهلية .
كذلك أمرهم بأن يأتوا البيوت من أبوابها . وكرر الإشارة إلى التقوى ، بوصفها سبيل الفلاح :
{ وأتوا البيوت من أبوابها ، واتقوا الله لعلكم تفلحون } . .
وبهذا ربط القلوب بحقيقة إيمانية أصيلة - هي التقوى - وربط هذه الحقيقة برجاء الفلاح المطلق في الدنيا والآخرة؛ وأبطل العادة الجاهلية الفارغة من الرصيد الإيماني ، ووجه المؤمنين إلى إدراك نعمة الله عليهم في الأهلة التي جعلها الله مواقيت للناس والحج . . كل ذلك في آية واحدة قصيرة . .
بعد ذلك يجيء بيان عن القتال بصفة عامة ، وعن القتال عند المسجد الحرام وفي الأشهر الحرم بصفة خاصة ، كما تجيء الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله ، وهي مرتبطة بالجهاد كل الارتباط :
{ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين ، واقتلوهم حيث ثقفتموهم ، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم . والفتنة أشد من القتل . ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ، فإن قاتلوكم فاقتلوهم ، كذلك جزاء الكافرين . فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم . وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله؛ فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين . الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص . فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين . وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } . .
ورد في بعض الروايات أن هذه الآيات هي أول ما نزل في القتال . نزل قبلها الإذن من الله للمؤمنين الذين يقاتلهم الكفار بأنهم ظلموا . وأحس المؤمنون بأن هذا الإذن هو مقدمة لفرض الجهاد عليهم ، وللتمكين لهم في الأرض ، كما وعدهم الله في آيات سورة الحج : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وإن الله على نصرهم لقدير . الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا : ربنا الله . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً . ولينصرن الله من ينصره ، إن الله لقوي عزيز ، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ولله عاقبة الأمور }

ومن ثم كانوا يعرفون لم أُذن لهم بأنهم ظلموا ، وأعطيت لهم إشارة الانتصاف من هذا الظلم ، بعد أن كانوا مكفوفين عن دفعه وهم في مكة ، وقيل لهم : { كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وكان هذا الكف لحكمة قدرها الله . . نستطيع أن نحدس بعض أسبابها على سبيل التقدير البشري الذي لا يحصى ولا يستقصى .
وأول ما نراه من أسباب هذا الكف ، أنه كان يراد أولا تطويع نفوس المؤمنين من العرب للصبر امتثالاً للأمر ، وخضوعا للقيادة ، وانتظاراً للإذن . وقد كانوا في الجاهلية شديدي الحماسة ، يستجيبون لأول ناعق ، ولا يصبرون على الضيم . . وبناء الأمة المسلمة التي تنهض بالدور العظيم الذي نيطت به هذه الأمة يقتضي ضبط هذه الصفات النفسية ، وتطويعها لقيادة تقدر وتدبر ، وتطاع فيما تقدر وتدبر ، حتى لو كانت هذه الطاعة على حساب الأعصاب التي تعودت الاندفاع والحماسة والخفة للهيجاء عند أول داع . . ومن ثم استطاع رجال من طراز عمر بن الخطاب في حميته ، وحمزة بن عبد المطلب في فتوته ، وأمثالهما من أشداء المؤمنين الأوائل أن يصبروا للضيم يصيب الفئة المسلمة؛ وأن يربطوا على أعصابهم في انتظار أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يخضعوا لأمر القيادة العليا وهي تقول لهم : { كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ومن ثم وقع التوازن بين الاندفاع والتروي ، والحماسة والتدبر ، والحمية والطاعة . . في هذه النفوس التي كانت تعد لأمر عظيم . .
والأمر الثاني الذي يلوح لنا من وراء الكف عن القتال في مكة . . هو أن البيئة العربية ، كانت بيئة نخوة ونجدة . وقد كان صبر المسلمين على الأذى ، وفيهم من يملك رد الصاع صاعين ، مما يثير النخوة ويحرك القلوب نحو الإسلام؛ وقد حدث بالفعل عندما أجمعت قريش على مقاطعة بني هاشم في شعب أبي طالب ، كي يتخلوا عن حماية الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه عندما اشتد الاضطهاد لبني هاشم ، ثارت نفوس نجدة ونخوةً ، ومزقت الصحيفة التي تعاهدوا فيها على المقاطعة . وانتهى هذا الحصار تحت تأثير هذا الشعور الذي كانت القيادة الإسلامية في مكة تراعيه في خطة الكف عن المقاومة ، فيما يبدو لنا من خلال دراسة السيرة كحركة .
ومما يتعلق بهذا الجانب أن القيادة الإسلامية لم تشأ أن تثير حرباً دموية داخل البيوت . فقد كان المسلمون حينذاك فروعاً من البيوت . وكانت هذه البيوت هي التي تؤذي أبناءها وتفتنهم عن دينهم؛ ولم تكن هناك سلطة موحدة هي التي تتولى الإيذاء العام . ولو أذن للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم يومذاك ، لكان معنى هذا الإذن أن تقوم معركة في كل بيت ، وأن يقع دم في كل أسرة .

. مما كان يجعل الإسلام - في نظر البيئة العربية - يبدو دعوة تفتت البيوت ، وتشعل النار فيها من داخلها . . فأما بعد الهجرة فقد انعزلت الجماعة المسلمة كوحدة مستقلة تواجه سلطة أخرى في مكة ، تجند الجيوش وتقود الحملات ضدها . . وهذا وضع متغير عما كان عليه الوضع الفردي في مكة بالنسبة لكل مسلم في داخل أسرته .
هذه بعض الأسباب التي تلوح للنظرة البشرية من وراء الحكمة في كف المسلمين في مكة عن دفع الفتنة والأذى . وقد يضاف إليها أن المسلمين إذ ذاك كانوا قلة ، وهم محصورون في مكة ، وقد يأتي القتل عليهم لو تعرضوا لقتال المشركين ، في صورة جماعة ذات قيادة حربية ظاهرة . فشاء الله أن يكثروا ، وأن يتحيزوا في قاعدة آمنة ، ثم أذن لهم بعد هذا في القتال . .
وعلى أية حال فقد سارت أحكام القتال بعد ذلك متدرجة وفق مقتضيات الحركة الإسلامية في الجزيرة ( ثم خارج الجزيرة ) . وهذه الآيات المبكرة في النزول قد تضمنت بعض الأحكام الموافقة لمقتضيات الموقف في بدء المناجزة بين المعسكرين الأساسيين . معسكر الإسلام ومعسكر الشرك . وهي في الوقت ذاته تمثل بعض الأحكام الثابتة في القتال بوجه عام ، ولم تعدل من ناحية المبدأ إلا تعديلاً يسيراً في سورة براءة .
ولعله يحسن أن نقول كلمة مجملة عن الجهاد في الإسلام ، تصلح أساساً لتفسير آيات القتال هنا ، وفي المواضع القرآنية الأخرى ، قبل مواجهة النصوص القرآنية في هذا الموضع بصفة خاصة :
لقد جاءت هذه العقيدة في صورتها الأخيرة التي جاء بها الإسلام؛ لتكون قاعدة للحياة البشرية في الأرض من بعدها ، ولتكون منهجاً عاماً للبشرية جميعها؛ ولتقوم الأمة المسلمة بقيادة البشرية في طريق الله وفق هذا المنهج ، المنبثق من التصور الكامل الشامل لغاية الوجود كله ولغاية الوجود الإنساني ، كما أوضحهما القرآن الكريم ، المنزل من عند الله قيادتها إلى هذا الخير الذي لا خير غيره في مناهج الجاهلية جميعاً ، ورفعها إلى هذا المستوى الذي لا تبلغه إلا في ظل هذا المنهج ، وتمتيعها بهذه النعمة التي لا تعدلها نعمة ، والتي تفقد البشرية كل نجاح وكل فلاح حين تحرم منها ، ولا يعتدي عليها معتد بأكثر من حرمانها من هذا الخير ، والحيلولة بينها وبين ما أراده لها خالقها من الرفعة والنظافة والسعادة والكمال .
ومن ثم كان من حق البشرية أن تبلغ إليها الدعوة إلى هذا المنهج الإلهي الشامل ، وألا تقف عقبة أو سلطة في وجه التبليغ بأي حال من الأحوال .
ثم كان من حق البشرية كذلك أن يترك الناس بعد وصول الدعوة إليهم أحراراً في اعتناق هذا الدين؛ لا تصدهم عن اعتناقه عقبة أو سلطة . فإذا أبى فريق منهم أن يعتنقه بعد البيان ، لم يكن له أن يصد الدعوة عن المضي في طريقها .

وكان عليه أن يعطي من العهود ما يكفل لها الحرية والاطمئنان؛ وما يضمن للجماعة المسلمة المضي في طريق التبليغ بلا عدوان . .
فإذا اعتنقها من هداهم الله إليها كان من حقهم ألا يفتنوا عنها بأي وسيلة من وسائل الفتنة . لا بالأذى ولا بالإغراء . ولا بإقامة أوضاع من شأنها صد الناس عن الهدى وتعويقهم عن الاستجابة . وكان من واجب الجماعة المسلمة أن تدفع عنهم بالقوة من يتعرض لهم بالأذى والفتنة . ضماناً لحرية العقيدة ، وكفالة لأمن الذين هداهم الله ، وإقراراً لمنهج الله في الحياة ، وحماية للبشرية من الحرمان من ذلك الخير العام .
وينشأ عن تلك الحقوق الثلاثة واجب آخر على الجماعة المسلمة؛ وهو أن تحطم كل قوة تعترض طريق الدعوة وإبلاغها للناس في حرية ، أو تهدد حرية اعتناق العقيدة وتفتن الناس عنها . وأن تظل تجاهد حتى تصبح الفتنة للمؤمنين بالله غير ممكنة لقوة في الأرض ، ويكون الدين لله . . لا بمعنى إكراه الناس على الإيمان . ولكن بمعنى استعلاء دين الله في الأرض ، بحيث لا يخشى أن يدخل فيه من يريد الدخول؛ ولا يخاف قوة في الأرض تصده عن دين الله أن يبلغه ، وأن يستجيب له ، وأن يبقى عليه . وبحيث لا يكون في الأرض وضع أو نظام يحجب نور الله وهداه عن أهله ويضلهم عن سبيل الله . بأية وسيلة وبأية أداة .
وفي حدود هذه المبادئ العامة كان الجهاد في الإسلام .
وكان لهذه الأهداف العليا وحدها ، غير متلبسة بأي هدف آخر ، ولا بأي شارة أخرى .
إنه الجهاد للعقيدة . لحمايتها من الحصار؛ وحمايتها من الفتنة؛ وحماية منهجها وشريعتها في الحياة؛ وإقرار رايتها في الأرض بحيث يرهبها من يهم بالاعتداء عليها قبل الاعتداء؛ وبحيث يلجأ إليها كل راغب فيها لا يخشى قوة أخرى في الأرض تتعرض له أو تمنعه أو تفتنه .
وهذا هو الجهاد الوحيد الذي يأمر به الإسلام ، ويقره ويثيب عليه؛ ويعتبر الذين يقتلون فيه شهداء؛ والذين يحتملون أعباءه أولياء .
وهذه الآيات من سورة البقرة في هذا الدرس كانت تواجه وضع الجماعة المسلمة في المدينة مع مشركي قريش الذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم ، وآذوهم في دينهم ، وفتنوهم في عقيدتهم ، وهي - مع هذا - تمثل قاعدة أحكام الجهاد في الإسلام :
وتبدأ الآيات بأمر المسلمين بقتال هؤلاء الذين قاتلوهم وما يزالون يقاتلونهم ، وبقتال من يقاتلهم في أي وقت وفي أي مكان ، ولكن دون اعتداء :
{ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين } . .
وفي أول آية من آيات القتال نجد التحديد الحاسم لهدف القتال ، والراية التي تخاض تحتها المعركة في وضوح وجلاء :
{ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } . .
إنه القتال لله ، لا لأي هدف آخر من الأهداف التي عرفتها البشرية في حروبها الطويلة .

القتال في سبيل الله . لا في سبيل الأمجاد والاستعلاء في الأرض ، ولا في سبيل المغانم والمكاسب؛ ولا في سبيل الأسواق والخامات؛ ولا في سبيل تسويد طبقة على طبقة أو جنس على جنس . . إنما هو القتال لتلك الأهداف المحددة التي من أجلها شرع الجهاد في الإسلام ، القتال لإعلاء كلمة الله في الأرض ، وإقرار منهجه في الحياة ، وحماية المؤمنين به أن يفتنوا عن دينهم ، أو أن يجرفهم الضلال والفساد ، وما عدا هذه فهي حرب غير مشروعة في حكم الإسلام ، وليس لمن يخوضها أجر عند الله ولا مقام .
ومع تحديد الهدف ، تحديد المدى . .
{ ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } . .
والعدوان يكون بتجاوز المحاربين المعتدين إلى غير المحاربين من الآمنين المسالمين الذين لا يشكلون خطراً على الدعوة الإسلامية ولا على الجماعة المسلمة ، كالنساء والأطفال والشيوخ والعباد المنقطعين للعبادة من أهل كل ملة ودين . . كما يكون بتجاوز آداب القتال التي شرعها الإسلام ، ووضع بها حداً للشناعات التي عرفتها حروب الجاهليات الغابرة والحاضرة على السواء . . تلك الشناعات التي ينفر منها حس الإسلام ، وتأباها تقوى الإسلام .
وهذه طائفة من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووصايا أصحابه ، تكشف عن طبيعة هذه الآداب ، التي عرفتها البشرية أول مرة على يد الإسلام :
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : « وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان » . ( أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي ) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه » . ( أخرجه الشيخان ) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : « بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن وجدتم فلاناً وفلاناً ( رجلين من قريش ) فأحرقوهما بالنار فلما أردنا الخروج قال : كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً ، وإن النار لا يعذب بها إلا الله تعالى فإن وجدتموهما فاقتلوهما » . ( أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي ) .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أعفّ الناس قِتلهً أهل الإيمان » . ( أخرجه أبو داود ) .
وعن عبد الله بن يزيد الأنصاري - رضي الله عنه - قال : « نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النُّهْبَى والمثلة » . ( أخرجه البخاري ) .
وعن ابن يعلى قال غزونا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فأتى بأربعة أعلاج من العدو ، فأمر بهم فقتلوا صبراً بالنبل . فبلغ ذلك أبا أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - فقال :

« سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن قتل الصبر . فوالذي نفسي بيده ، لو كانت دجاجة ما صَبَرْتُهَا . فبلغ ذلك عبد الرحمن ، فأعتق أربع رقاب » . ( أخرجه أبو داود ) .
وعن الحارث بن مسلم بن الحارث عن أبيه - رضي الله عنه - « قال بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية؛ فلما بلغنا المغار استحثثت فرسي فسبقت أصحابي؛ فتلقاني أهل الحي بالرنين . فقلت لهم : قولوا : لا إله إلا الله تُحَرَزُوا . فقالوها . فلامني أصحابي ، وقالوا حرمتنا الغنيمة فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبروه بالذي صنعت . فدعاني فحسن لي ما صنعت . ثم قال لي : إن الله تعالى قد كتب لك بكل إنسان منهم كذا وكذا من الأجر » . ( أخرجه أبو داود )
وعن بريدة قال : « كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ، وبمن معه من المسلمين خيراً . ثم قال له : اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً » . ( أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي ) .
وروى مالك عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال في وصيته لجنده : « ستجدون قوماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له ، ولا تقتلن امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً » . .
فهذه هي الحرب التي يخوضها الإسلام؛ وهذه هي آدابه فيها؛ وهذه هي أهدافه منها . . وهي تنبثق من ذلك التوجيه القرآني الجليل :
{ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين } . .
وقد كان المسلمون يعلمون أنهم لا ينصرون بعددهم - فعددهم قليل - ولا ينصرون بعدتهم وعتادهم - فما معهم منه أقل مما مع أعدائهم - إنما هم ينصرون بإيمانهم وطاعتهم وعون الله لهم . فإذا هم تخلوا عن توجيه الله لهم وتوجيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد تخلوا عن سبب النصر الوحيد الذي يرتكنون إليه . ومن ثم كانت تلك الآداب مرعية حتى مع أعدائهم الذين فتنوهم ومثلوا ببعضهم أشنع التمثيل . . ولما فار الغضب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر بحرق فلان وفلان ( رجلين من قريش ) عاد فنهى عن حرقهما ، لأنه لا يحرق بالنار إلا الله .
ثم يمعن السياق في توكيد القتال لهؤلاء الذين قاتلوا المسلمين وفتنوهم في دينهم ، وأخرجوهم من ديارهم ، والمضي في القتال حتى يقتلوهم على أية حالة ، وفي أي مكان وجدوهم . باستثناء المسجد الحرام . إلا أن يبدأ الكفار فيه بالقتال . وإلا أن يدخلوا في دين الله فتكف أيدي المسلمين عنهم ، مهما كانوا قد آذوهم من قبل وقاتلوهم وفتنوهم :
{ واقتلوهم حيث ثقفتموهم ، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم - والفتنة أشد من القتل .

ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه . فإن قاتلوكم فاقتلوهم . كذلك جزاء الكافرين . فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم } . .
إن الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية . ومن ثم فهي أشد من القتل . أشد من قتل النفس وإزهاق الروح وإعدام الحياة . ويستوي أن تكون هذه الفتنة بالتهديد والأذى الفعلي ، أو بإقامة أوضاع فاسدة من شأنها أن تضل الناس وتفسدهم وتبعدهم عن منهج الله ، وتزين لهم الكفر به أو الإعراض عنه . وأقرب الأمثلة على هذا هو النظام الشيوعي الذي يحرم تعليم الدين ويبيح تعليم الإلحاد ، ويسن تشريعات تبيح المحرمات كالزنا والخمر ، ويحسنها للناس بوسائل التوجيه؛ بينما يقبح لهم اتباع الفضائل المشروعة في منهج الله . ويجعل من هذه الأوضاع فروضاً حتمية لا يملك الناس التفلت منها .
وهذه النظرة الإسلامية لحرية العقيدة ، وإعطاؤها هذه القيمة الكبرى في حياة البشرية . . هي التي تتفق مع طبيعة الإسلام ، ونظرته إلى غاية الوجود الإنساني . فغاية الوجود الإنساني هي العبادة ( ويدخل في نطاقها كل نشاط خير يتجه به صاحبه إلى الله ) . وأكرم ما في الإنسان حرية الاعتقاد . فالذي يسلبه هذه الحرية ، ويفتنه عن دينه فتنة مباشرة أو بالواسطة ، يجني عليه ما لا يجني عليه قاتل حياته . ومن ثم يدفعه بالقتل . . لذلك لم يقل : وقاتلوهم . إنما قال : { واقتلوهم } . . { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } . . أي حيث وجدتموهم . في أية حالة كانوا عليها؛ وبأية وسيلة تملكونها - مع مراعاة أدب الإسلام في عدم المثلة أو الحرق بالنار .
ولا قتال عند المسجد الحرام ، الذي كتب الله له الأمن ، وجعل جواره آمناً استجابة لدعوة خليله إبراهيم ( عليه السلام ) وجعله مثابة يثوب إليها الناس فينالون فيه الأمن والحرمة والسلام . . لا قتال عند المسجد الحرام إلا للكافرين الذين لا يرعون حرمته ، فيبدأون بقتال المسلمين عنده . وعند ذلك يقاتلهم المسلمون ولا يكفون عنهم حتى يقتلوهم . . فذلك هو الجزاء اللائق بالكافرين ، الذين يفتنون الناس عن دينهم ، ولا يرعون حرمة للمسجد الحرام ، الذي عاشوا في جواره آمنين .
{ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم } . .
والانتهاء الذي يستأهل غفران الله ورحمته ، هو الانتهاء عن الكفر ، لا مجرد الانتهاء عن قتال المسلمين أو فتنتهم عن الدين . فالانتهاء عن قتال المسلمين وفتنتهم قصاراه أن يهادنهم المسلمون . ولكنه لا يؤهل لمغفرة الله ورحمته . فالتلويح بالمغفرة والرحمة هنا يقصد به إطماع الكفار في الإيمان ، لينالوا المغفرة والرحمة بعد الكفر والعدوان .
وما أعظم الإسلام ، وهو يلوح للكفار بالمغفرة والرحمة ، ويسقط عنهم القصاص والدية بمجرد دخولهم في الصف المسلم ، الذي قتلوا منه وفتنوا ، وفعلوا بأهله الأفاعيل
وغاية القتال هي ضمانة ألا يفتن الناس عن دين الله ، وألا يصرفوا عنه بالقوة أو ما يشبهها كقوة الوضع الذي يعيشون فيه بوجه عام ، وتسلط عليهم فيه المغريات والمضللات والمفسدات .

وذلك بأن يعز دين الله ويقوى جانبه ، ويهابه أعداؤه ، فلا يجرؤوا على التعرض للناس بالأذى والفتنة ، ولا يخشى أحد يريد الإيمان أن تصده عنه قوة أو أن تلحق به الأذى والفتنة . . والجماعة المسلمة مكلفة إذن أن تظل تقاتل حتى تقضي على هذه القوى المعتدية الظالمة؛ وحتى تصبح الغلبة لدين الله والمنعة :
{ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله . فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } . .
وإذا كان النص - عند نزوله - يواجه قوة المشركين في شبه الجزيرة ، وهي التي كانت تفتن الناس ، وتمنع أن يكون الدين لله ، فإن النص عام الدلالة ، مستمر التوجيه . والجهاد ماض إلى يوم القيامة . ففي كل يوم تقوم قوة ظالمة تصد الناس عن الدين ، وتحول بينهم وبين سماع الدعوة إلى الله ، والاستجابة لها عند الاقتناع ، والاحتفاظ بها في أمان . والجماعة المسلمة مكلفة في كل حين أن تحطم هذه القوة الظالمة؛ وتطلق الناس أحراراً من قهرها ، يستمعون ويختارون ويهتدون إلى الله .
وهذا التكرار في الحديث عن منع الفتنة ، بعد تفظيعها واعتبارها أشد من القتل . . هذا التكرار يوحي بأهمية الأمر في اعتبار الإسلام؛ وينشىء مبدأ عظيماً يعني في حقيقته ميلاداً جديداً للإنسان على يد الإسلام . ميلاداً تتقرر فيه قيمة الإنسان بقيمة عقيدته ، وتوضع حياته في كفة وعقيدته في كفة ، فترجح كفة العقيدة . كذلك يتقرر في هذا المبدأ من هم أعداء « الإنسان » . . إنهم أولئك الذين يفتنون مؤمناً عن دينه ، ويؤذون مسلماً بسبب إسلامه . أولئك الذين يحرمون البشرية أكبر عنصر للخير ويحولون بينها وبين منهج الله . . وهؤلاء على الجماعة المسلمة أن تقاتلهم ، وأن تقتلهم حيث وجدتهم { حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } . .
وهذا المبدأ العظيم الذي سنه الإسلام في أوائل ما نزل من القرآن عن القتال ما يزال قائماً . وما تزال العقيدة تواجه من يعتدون عليها وعلى أهلها في شتى الصور . . وما يزال الأذي والفتنة تلم بالمؤمنين أفراداً وجماعات وشعوباً كاملة في بعض الأحيان . . وكل من يتعرض للفتنة في دينه والأذى في عقيدته في أية صورة من الصور ، وفي أي شكل من الأشكال ، مفروض عليه أن يقاتل وأن يقتل؛ وأن يحقق المبدأ العظيم الذي سنه الإسلام ، فكان ميلاداً جديداً للإنسان . .
فإذا انتهى الظالمون عن ظلمهم؛ وكفوا عن الحيلولة بين الناس وربهم؛ فلا عدوان عليهم - أي لا مناجزة لهم - لأن الجهاد إنما يوجه إلى الظلم والظالمين :
{ فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } .
ويسمى دفع الظالمين ومناجزتهم عدواناً من باب المشاكلة اللفظية . وإلا فهو العدل والقسط ودفع العدوان عن المظلومين .

ثم يبين حكم القتال في الأشهر الحرم كما بين حكمه عند المسجد الحرام :
{ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص . فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، واتقوا الله ، واعلموا أن الله مع المتقين } . .
فالذي ينتهك حرمة الشهر الحرام جزاؤه أن يحرم الضمانات التي يكفلها له الشهر الحرام . وقد جعل الله البيت الحرام واحة للأمن والسلام في المكان؛ كما جعل الأشهر الحرم واحة للأمن والسلام في الزمان . تصان فيها الدماء . والحرمات والأموال ، ولا يمس فيها حي بسوء . فمن أبى أن يستظل بهذه الواحة وأراد أن يحرم المسلمين منها ، فجزاؤه أن يحرم هو منها . والذي ينتهك الحرمات لا تصان حرماته ، فالحرمات قصاص . . ومع هذا فإن إباحة الرد والقصاص للمسلمين توضع في حدود لا يعتدونها . فما تباح هذه المقدسات إلا للضرورة وبقدرها :
{ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } . .
بلا تجاوز ولا مغالاة . . والمسلمون موكولون في هذا إلى تقواهم . وقد كانوا يعلمون - كما تقدم - أنهم إنما ينصرون بعون الله . فيذكرهم هنا بأن الله مع المتقين . بعد أمرهم بالتقوى . . وفي هذا الضمان كل الضمان . .
والجهاد كما يحتاج للرجال يحتاج للمال . ولقد كان المجاهد المسلم يجهز نفسه بعدة القتال ، ومركب القتال ، وزاد القتال . . لم تكن هناك رواتب يتناولها القادة والجند . إنما كان هناك تطوع بالنفس وتطوع بالمال . وهذا ما تصنعه العقيدة حين تقوم عليها النظم . إنها لا تحتاج حينئذ أن تنفق لتحمي نفسها من أهلها أو من أعدائها ، إنما يتقدم الجند ويتقدم القادة متطوعين ينفقون هم عليها
ولكن كثيراً من فقراء المسلمين الراغبين في الجهاد ، والذود عن منهج الله وراية العقيدة ، لم يكونوا يجدون ما يزودون به أنفسهم ، ولا ما يتجهزون به من عدة الحرب ومركب الحرب . وكانوا يجيئون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلبون أن يحملهم إلى ميدان المعركة البعيد ، الذي لا يبلغ على الأقدام . فإذا لم يجد ما يحملهم عليه { تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون } كما حكى عنهم القرآن الكريم .
من أجل هذا كثرت التوجيهات القرآنية والنبوية إلى الإنفاق في سبيل الله . الإنفاق لتجهيز الغزاة . وصاحبت الدعوة إلى الجهاد دعوة إلى الإنفاق في معظم المواضع . .
وهنا يعد عدم الإنفاق تهلكة ينهى عنها المسلمون :
{ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } . .
والإمساك عن الإنفاق في سبيل الله تهلكة للنفس بالشح ، وتهلكة للجماعة بالعجز والضعف . وبخاصة في نظام يقوم على التطوع ، كما كان يقوم الإسلام .
ثم يرتقي بهم من مرتبة الجهاد والإنفاق إلى مرتبة الإحسان :
{ وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } . .
ومرتبة الإحسان هي عليا المراتب في الإسلام . وهي كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم :

« أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » .
وحين تصل النفس إلى هذه المرتبة ، فإنها تفعل الطاعات كلها ، وتنتهي عن المعاصي كلها ، وتراقب الله في الصغيرة والكبيرة ، وفي السر والعلن على السواء .
وهذا هو التعقيب الذي ينهي آيات القتال والإنفاق ، فيكل النفس في أمر الجهاد إلى الإحسان . أعلى مراتب الإيمان . .
بعد ذلك يجيء الحديث عن الحج والعمرة وشعائرهما . والتسلسل في السياق واضح بين الحديث عن الأهلة وأنها مواقيت للناس والحج؛ والحديث عن القتال في الأشهر الحرم وعن المسجد الحرام ; والحديث عن الحج والعمرة وشعائرهما في نهاية الدرس نفسه .
{ وأتموا الحج والعمرة لله . فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي . ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله . فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك . فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي . فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ، تلك عشرة كاملة ، ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام . واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب . . الحج أشهر معلومات ، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج . وما تفعلوا من خير يعلمه الله ، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ، واتقون يا أولي الألباب . . ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم . فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ، واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين . ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله ، إن الله غفور رحيم . . فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً . فمن الناس من يقول : ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق . ومنهم من يقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة . وقنا عذاب النار . أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب . . واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ، واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون } . .
وليس لدينا تاريخ محدد لنزول آيات الحج هذه إلا رواية تذكر أن قوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } نزلت في الحديبية سنة ست من الهجرة . كذلك ليس لدينا تاريخ مقطوع به لفرضية الحج في الإسلام . سواء على الرأي الذي يقول بأنه فرض بآية : { وأتموا الحج والعمرة لله } . . أو بآية { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } . الواردة في سورة آل عمران . فهذه كتلك ليس لدينا عن وقت نزولها رواية قطعية الثبوت . وقد ذكر الإمام ابن قيم الجوزية في كتاب : « زاد المعاد » أن الحج فرض في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة؛ ارتكاناً منه إلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حج حجة الوداع في السنة العاشرة؛ وأنه أدى الفريضة عقب فرضها إما في السنة التاسعة أو العاشرة .

. ولكن هذا لا يصلح سنداً . فقد تكون هناك اعتبارات أخرى هي التي جعلت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يؤخر حجه إلى السنة العاشرة . وبخاصة إذا لاحظنا أنه أرسل أبا بكر - رضي الله عنه - أميراً على الحج في السنة التاسعة . وقد ورد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من غزوة تبوك هم بالحج؛ ثم تذكر أن المشركين يحضرون موسم الحج على عادتهم ، وأن بعضهم يطوفون بالبيت عراة ، فكره مخالطتهم . . ثم نزلت براءة ، فأرسل - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - يبلغ مطلع براءة للناس ، وينهي بها عهود المشركين ، ويعلن يوم النحر إذا اجتمع الناس بمنى : « أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . ومن كان له عهد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو إلى مدته » . . ومن ثم لم يحج - صلى الله عليه وسلم - حتى تطهر البيت من المشركين ومن العرايا . .
وهناك ما يستأنس به على أن فريضة الحج وشعائره قد أقرها الإسلام قبل هذا . وقد ورد أن الفريضة كتبت في مكة قبل الهجرة . ولكن هذا القول قد لا يجد سنداً قوياً .
إلا أن آيات سورة الحج المكية - على الأرجح - ذكرت معظم شعائر الحج ، بوصفها الشعائر التي أمر الله إبراهيم بها . وقد ورد فيها : { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً ، وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ، وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق . ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير . ثم ليقضوا تفثهم ، وليوفوا نذورهم ، وليطوفوا بالبيت العتيق } { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ، لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ، ثم محلها إلى البيت العتيق } { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صوافّ . فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها ، وأطعموا القانع والمعتر . كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون . لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ، ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم ، وبشر المحسنين } وقد ذكر في هذه الآيات أو أشير إلى الهدي والنحر والطواف والإحلال من الإحرام وذكر اسم الله . وهي شعائر الحج الأساسية . وكان الخطاب موجهاً إلى الأمة المسلمة موصولة بسيرة أبيهم إبراهيم .

مما يشير إلى فرضية الحج في وقت مبكر ، باعتباره شعيرة إبراهيم الذي إليه ينتسب المسلمون . فإذا كانت قد وجدت عقبات من الصراع بين المسلمين والمشركين - وهم سدنة الكعبة إذ ذاك - جعلت أداء الفريضة متعذراً بعض الوقت ، فذلك اعتبار آخر . وقد رجحنا في أوائل هذا الجزء أن بعض المسلمين كانوا يؤدون الفريضة أفراداً في وقت مبكر؛ بعد تحويل القبلة في السنة الثانية من الهجرة .
وعلى أية حال فحسبنا هذا عن تاريخ فرض الحج ، لنواجه الآيات الواردة هنا عن شعائره ، وعن التوجيهات الكثيرة في ثناياها .
{ وأتموا الحج والعمرة لله - فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي - ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله . فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك . فإذا أمنتم : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي . فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم - تلك عشرة كاملة . ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب } . .
وأول ما يلاحظ في بناء الآية هو تلك الدقة التعبيرية في معرض التشريع ، وتقسيم الفقرات في الآية لتستقل كل فقرة ببيان الحكم الذي تستهدفه . ومجيء الاستدراكات على كل حكم قبل الانتقال إلى الحكم التالي . . ثم ربط هذا كله في النهاية بالتقوى ومخافة الله . .
والفقرة الأولى في الآية تتضمن الأمر بإتمام أعمال الحج والعمرة إطلاقاً متى بدأ الحاج أو المعتمر فأهلّ بعمرة أو بحج أو بهما معاً؛ وتجريد التوجه بهما لله :
{ وأتموا الحج والعمرة لله } . .
وقد فهم بعض المفسرين من هذا الأمر أنه إنشاء لفريضة الحج . وفهم بعضهم أنه الأمر بإتمامه متى بدىء - وهذا هو الأظهر - فالعمرة ليست فريضة عند الجميع ومع هذا ورد الأمر هنا بإتمامها كالحج . مما يدل على أن المقصود هو الأمر بالإتمام لا إنشاء الفريضة بهذا النص . ويؤخذ من هذا الأمر كذلك أن العمرة - ولو أنها ابتداء ليست واجبة - إلا أنه متى أهل بها المعتمر فإن إتمامها يصبح واجباً . والعمرة كالحج في شعائرها ما عدا الوقوف بعرفة . والأشهر أنها تؤدى على مدار العام . وليست موقوتة بأشهر معلومات كالحج .
ويستدرك من هذا الأمر العام بإتمام الحج والعمرة حالة الإحصار . من عدو يمنع الحاج والمعتمر من إكمال الشعائر - وهذا متفق عليه - أو من مرض ونحوه يمنع من إتمام أعمال الحج والعمرة - واختلفوا في تفسير الإحصار بالمرض والراجح صحته - :
{ فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } . .
وفي هذه الحالة ينحر الحاج أو المعتمر ما تيسر له من الهدي ويحل من إحرامه في موضعه الذي بلغه . ولو كان لم يصل بعد إلى المسجد الحرام ولم يفعل من شعائر الحج والعمرة إلا الإحرام عند الميقات ( وهو المكان الذي يهل منه الحاج أو المعتمر بالحج أو العمرة أو بهما معاً ، ويترك لبس المخيط من الثياب ، ويحرم عليه حلق شعره أو تقصيره أو قص أظافره كما يحرم عليه صيد البر وأكله .

. . )
وهذا ما حدث في الحديبية عندما حال المشركون بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المسلمين دون الوصول إلى المسجد الحرام ، سنة ست من الهجرة؛ ثم عقدوا معه صلح الحديبية ، على أن يعتمر في العام القادم . فقد ورد أن هذه الآية نزلت؛ وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر المسلمين الذين معه أن ينحروا في الموضع الذي بلغوا إليه ويحلوا من إحرامهم فتلبثوا في تنفيذ الأمر ، وشق على نفوسهم أن يحلوا قبل أن يبلغ الهدي محله - أي مكانه الذي ينحر فيه عادة - حتى نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - هديه أمامهم وأحل من إحرامه . . ففعلوا . .
وما استيسر من الهدي ، أي ما تيسر ، والهدي من النعم ، وهي الإبل والبقر والغنم والمعز ، ويجوز أن يشترك عدد من الحجاج في بدنة أي ناقة أو بقرة ، كما اشترك كل سبعة في بدنة في عمرة الحديبية ، فيكون هذا هو ما استيسر؛ ويجوز أن يهدي الواحد واحدة من الضأن أو المعز فتجزىء .
والحكمة من هذا الاستدراك في حالة الإحصار بالعدو كما وقع في عام الحديبية ، أو الإحصار بالمرض ، هي التيسير ، فالغرض الأول من الشعائر هو استجاشة مشاعر التقوى والقرب من الله ، والقيام بالطاعات المفروضة . فإذا تم هذا ، ثم وقف العدو أو المرض أو ما يشبهه في الطريق فلا يحرم الحاج أو المعتمر أجر حجته أو عمرته . ويعتبر كأنه قد أتم . فينحر ما معه من الهدى ويحل . وهذا التيسير هو الذي يتفق مع روح الإسلام وغاية الشعائر وهدف العبادة .
وبعد هذا الاستدراك من الأمر الأول العام ، يعود السياق فينشىء حكماً جديداً عاماً من أحكام الحج والعمرة .
{ ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } . .
وهذا في حالة الإتمام وعدم وجود الإحصار . فلا يجوز حلق الرؤوس - وهو إشارة إلى الإحلال من الإحرام بالحج أو العمرة أو منهما معاً - إلا بعد أن يبلغ الهدي محله . وهو مكان نحره . بعد الوقوف بعرفة ، والإفاضة منها . والنحر يكون في منى في اليوم العاشر من ذي الحجة ، وعندئذ يحل المحرم . أما قبل بلوغ الهدي محله فلا حلق ولا تقصير ولا إحلال .
واستدراكاً من هذا الحكم العام يجيء هذا الاستثناء :
{ فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } . .
ففي حالة ما إذا كان هناك مرض يقتضي حلق الرأس ، أو كان به أذى من الهوام التي تتكون في الشعر حين يطول ولا يمشط ، فالإسلام دين اليسر والواقع يبيح للمحرم أن يحلق شعره ، - قبل أن يبلغ الهدي الذي ساقه عند الإحرام محله ، وقبل أن يكمل أفعال الحج - وذلك في مقابل فدية : صيام ثلاثة أيام ، أو صدقة بإطعام ستة مساكين ، أو ذبح شاة والتصدق بها .

وهذا التحديد لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قال البخاري - بإسناده إلى كعب بن عجرة - قال : « حملت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي . فقال : ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا . أما تجد شاة؟ قلت : لا . قال : صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع من طعام ، وأحلق رأسك » .
ثم يعود إلى حكم جديد عام في الحج والعمرة :
{ فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } . .
أي فإذا لم تحصروا ، وتمكنتم من أداء الشعائر ، فمن أراد التمتع بالعمرة إلى الحج فلينحر ما استيسر من الهدي . . وتفصيل هذا الحكم : أن المسلم قد يخرج للعمرة فيهل محرماً عند الميقات . حتى إذا فرغ من العمرة - وهي تتم بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة - أحرم للحج وانتظر أيامه . وهذا إذا كان في أشهر الحج ، وهي شوال وذو القعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة . . هذه صورة من صور التمتع بالحج إلى العمرة . والصورة الثانية هي أن يحرم من الميقات بعمرة وحج معاً . فإذا قضى مناسك العمرة انتظر حتى يأتي موعد الحج . وهذه هي الصورة الثانية للتمتع - وفي أي من الحالتين على المعتمر المتمتع أن ينحر ما استيسر من الهدي بعد العمرة ليحل منها؛ ويتمتع بالإحلال ما بين قضائه للعمرة وقضائه للحج . وما استيسر يشمل المستطاع من الأنعام سواء الإبل والبقر أو الغنم والمعز .
فإذا لم يجد ما استيسر من الهدي فهناك فدية :
{ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم . تلك عشرة كاملة } . .
والأولى أن يصوم الأيام الثلاثة الأولى قبل الوقوف بعرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة . أما الأيام السبعة الباقية فيصومها بعد عودته من الحج إلى بلده . . { تلك عشرة كاملة } . . ينص عليها نصاً للتوكيد وزيادة البيان . . ولعل حكمة الهدي أو الصوم هي استمرار صلة القلب بالله ، فيما بين العمرة والحج ، فلا يكون الإحلال بينهما مخرجاً للشعور عن جو الحج ، وجو الرقابة ، وجو التحرج ، الذي يلازم القلوب في هذه الفريضة . .
ولما كان أهل الحرم عماره المقيمين فيه لا عمرة لهم . . إنما هو الحج وحده . . لم يكن لهم تمتع ، ولا إحلال بين العمرة والحج . ومن ثم فليس عليهم فدية ولا صوم بطبيعة الحال :
{ ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } .

.
وعند هذا المقطع من بيان أحكام الحج والعمرة يقف السياق ليعقب تعقيباً قرآنياً ، يشد به القلوب إلى الله وتقواه :
{ واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب } . .
وهذه الأحكام ضمان القيام بها هو هذه التقوى ، وهي مخافة الله ، وخشية عقابه . والإحرام بصاحبه تحرج . فإذا أباح لهم الإحلال فترة أقام تقوى الله وخشيته في الضمير ، تستجيش فيه هذا التحرج ، وتقوم بالحراسة في انتباه
ثم يمضي في بيان أحكام الحج خاصة؛ فيبين مواعيده ، وآدابه ، وينتهي في هذا المقطع الجديد إلى التقوى كما انتهى إليها في المقطع الأول سواء :
{ الحج أشهر معلومات . فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج . وما تفعلوا من خير يعلمه الله . وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ، واتقون يا أولي الألباب } . .
وظاهر النص أن للحج وقتاً معلوماً ، وأن وقته أشهر معلومات . . هي شوال وذو القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجة . . وعلى هذا لا يصح الإحرام بالحج إلا في هذه الأشهر المعلومات وإن كان بعض المذاهب يعتبر الإحرام به صحيحاً على مدار السنة ، ويخصص هذه الأشهر المعلومات لأداء شعائر الحج في مواعيدها المعروفة . وقد ذهب إلى هذا الرأي الأئمة : مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل . وهو مروي عن إبراهيم النخعي والثوري والليث بن سعد وذهب إلى الرأي الأول الإمام الشافعي وهو مروي عن بن عباس وجابر وعطاء وطاووس ومجاهد . وهو الأظهر .
فمن فرض الحج في هذه الأشهر المعلومات - أي أوجب على نفسه إتمامه بالإحرام - { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } . . والرفث هنا ذكر الجماع ودواعيه إما إطلاقاً وإما في حضرة النساء . والجدال : المناقشة والمشادة حتى يغضب الرجل صاحبه . والفسوق : إتيان المعاصي كبرت أم صغرت . . والنهي عنها ينتهي إلى ترك كل ما ينافي حالة التحرج والتجرد لله في هذه الفترة ، والارتفاع على دواعي الأرض ، والرياضة الروحية على التعلق بالله دون سواه ، والتأدب الواجب في بيته الحرام لمن قصد إليه متجرداً حتى من مخيط الثياب
وبعد النهي عن فعل القبيح يحبب إليهم فعل الجميل :
{ وما تفعلوا من خير يعلمه الله } . .
ويكفي في حس المؤمن أن يتذكر أن الله يعلم ما يفعله من خير ويطلع عليه ، ليكون هذا حافزا على فعل الخير ، ليراه الله منه ويعلمه . . وهذا وحده جزاء . . قبل الجزاء . .
ثم يدعوهم إلى التزود في رحلة الحج . . زاد الجسد وزاد الروح . . فقد ورد أن جماعة من أهل اليمن كانوا يخرجون من ديارهم للحج ليس معهم زاد ، يقولون : نحج بيت الله ولا يطعمنا وهذا القول - فوق مخالفته لطبيعة الإسلام التي تأمر باتخاذ العدة الواقعية في الوقت الذي يتوجه فيه القلب إلى الله ويعتمد عليه كل الاعتماد - يحمل كذلك رائحة عدم التحرج في جانب الحديث عن الله ، ورائحة الامتنان على الله بأنهم يحجون بيته فعليه أن يطعمهم ومن ثم جاء التوجيه إلى الزاد بنوعيه ، مع الإيحاء بالتقوى في تعبير عام دائم الإيحاء :
{ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى .

واتقون يا أولي الألباب } . .
والتقوى زاد القلوب والأرواح . منه تقتات . وبه تتقوى وترف وتشرق . وعليه تستند في الوصول والنجاة . وأولوا الألباب هم أول من يدرك التوجيه إلى التقوى ، وخير من ينتفع بهذا الزاد .
ثم يمضي في بيان أحكام الحج وشعائره ، فيبين حكم مزاولة التجارة أو العمل بأجر بالنسبة للحاج . وحكم الإفاضة ومكانها . وما يجب من الذكر والاستغفار بعدها :
{ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم . فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ، واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين . ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله ، إن الله غفور رحيم } . .
قال البخاري - بإسناده - عن ابن عباس . قال كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية . فتأثموا أن يتجروا في الموسم . فنزلت : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } في مواسم الحج .
وروى أبو داود - بإسناده من طريق آخر - إلى ابن عباس . قال : كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج ، يقولون : أيام ذكر . فأنزل الله : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } . .
وفي رواية عن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر : إنا نُكري . فهل لنا من حج؟ قال : أليس تطوفون بالبيت ، وتأتون بالمعروف ، وترمون الجمار ، وتحلقون رؤوسكم؟ قال : قلنا : بلى . فقال ابن عمر : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } .
وفي رواية عن أبي صالح مولى عمر ( رواها ابن جرير ) قال : قلت : يا أمير المؤمنين . كنتم تتجرون في الحج؟ قال : وهل كانت معايشهم إلا في الحج؟
وهذا التحرج الذي تذكره الروايتان الأوليان من التجارة ، والتحرج الذي تذكره الرواية الثالثة عن الكراء أو العمل بأجر في الحج . . هو طرف من ذلك التحرج الذي أنشأه الإسلام في النفوس من كل ما كان سائغاً في الجاهلية ، وانتظار رأي الإسلام فيه قبل الإقدام عليه . وهي الحالة التي تحدثنا عنها في أوائل هذا الجزء ، عند الكلام عن التحرج من الطواف بالصفا والمروة .
وقد نزلت إباحة البيع والشراء والكراء في الحج ، وسماها القرآن ابتغاء من فضل الله :
{ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } . .
ليشعر من يزاولها أنه يبتغي من فضل الله حين يتجر وحين يعمل بأجر وحين يطلب أسباب الرزق : إنه لا يرزق نفسه بعمله .

إنما هو يطلب من فضل الله ، فيعطيه الله . فأحرى ألا ينسى هذه الحقيقة؛ وهي أنه يبتغي من فضل الله ، وأنه ينال من هذا الفضل حين يكسب وحين يقبض وحين يحصل على رزقه من وراء الأسباب التي يتخذها للارتزاق . ومتى استقر هذا الإحساس في قلبه ، وهو يبتغي الرزق ، فهو إذن في حالة عبادة لله ، لا تتنافى مع عبادة الحج ، في الاتجاه إلى الله . . ومتى ضمن الإسلام هذه المشاعر في قلب المؤمن أطلقه يعمل وينشط كما يشاء . . وكل حركة منه عبادة في هذا المقام .
لهذا يجعل الحديث عن طلب الرزق جزءاً من آية تتحدث عن بقية شعائر الحج ، فتذكر الإفاضة والذكر عند المشعر الحرام :
{ فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام . واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين } . .
والوقوف بعرفة عمدة أفعال الحج . . روى أصحاب السنن بإسناد صحيح عن الثوري عن بكير ، عن عطاء ، عن عبد الرحمن بن معمر الديلمي . قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « الحج عرفات - ثلاثاً - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك . وأيام منى ثلاثة . فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه » .
ووقت الوقوف بعرفة من الزوال ( الظهر ) يوم عرفة - وهو اليوم التاسع من ذي الحجة - إلى طلوع الفجر من يوم النحر . . وهناك قول ذهب إليه الإمام أحمد ، وهو أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة . استناداً إلى حديث رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي . عن الشعبي عن عروة بن مضرس بن حارثة بن لام الطائي قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت : يا رسول الله إني جئت من جبل طيء . أكللت راحلتي وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه . فهل لي من حج؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من شهد صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه » .
وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للوقوف هذا الوقت - على أي القولين - ومد وقت الوقوف بعرفة إلى فجر يوم النحر - وهو العاشر من ذي الحجة - ليخالف هدي المشركين في وقوفهم بها . . روى ابن مردويه والحاكم في المستدرك كلاهما من حديث عبد الرحمن بن المبارك العيشي - بإسناده - عن المسور ابن مخرمة قال : « خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بعرفات . فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد - وكان إذا خطب خطبة قال أما بعد - فإن هذا اليوم الحج الأكبر . ألا وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس ، إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها ، وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس ، مخالفاً هدينا هدي أهل الشرك » .

والذي ورد عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه دفع بعد غروب شمس يوم عرفة ، وقد جاء في حديث جابر بن عبد الله - في صحيح مسلم - « فلم يزل واقفاً - يعني بعرفة - حتى غربت الشمس وبدت الصفرة قليلاً ، حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه ، ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شنق للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : أيها الناس ، السكينة السكينة كلما اتى جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد . حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً . ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام . فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس » .
وهذا الذي فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي تشير إليه الآية :
{ فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام . واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين } . .
والمشعر الحرام هو المزدلفة . والقرآن هنا يأمر بذكر الله عنده بعد الإفاضة من عرفات . ثم يذكر المسلمين بأن هذا الذكر من هداية الله لهم؛ وهو مظهر الشكر على هذه الهداية . ويذكرهم بما كان من أمرهم قبل أن يهديهم :
{ وإن كنتم من قبله لمن الضالين } . .
والجماعة المسلمة الأولى كانت تدرك حق الإدراك مدى وعمق هذه الحقيقة في حياتها . . لقد كانت قريبة عهد بما كان العرب فيه من ضلال . . ضلال في التصور ، مظهره عبادة الأصنام والجن والملائكة ، ونسبة بنوة الملائكة إلى الله ، ونسبة الصهر إلى الله مع الجن . . إلى آخر هذه التصورات السخيفة المتهافتة المضطربة ، التي كانت تنشئ بدورها اضطراباً في العبادات والشعائر والسلوك : من تحريم بعض الأنعام ظهورها أو لحومها بلا مبرر إلا تصور علاقات بينها وبين شتى الآلهة . ومن نذر بعض أولادهم للآلهة وإشراك الجن فيها . ومن عادات جاهلية شتى لا سند لها إلا هذا الركام من التصورات الاعتقادية المضطربة . . وضلال في الحياة الاجتماعية والأخلاقية . . تمثله تلك الفوارق الطبقية التي تشير الآية التالية في السياق : { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } . إلى إزالتها كما سيجيء . وتمثله تلك الحروب والمشاحنات القبلية التي لم تكن تجعل من العرب أمة يحسب لها حساب في العالم الدولي .

وتمثله تلك الفوضى الخلقية في العلاقات الجنسية ، والعلاقات الزوجية ، وعلاقات الأسرة بصفة عامة . وتمثله تلك المظالم التي يزاولها الأقوياء ضد الضعاف في المجتمع بلا ميزان ثابت يفيء إليه الجميع . . وتمثلها حياة العرب بصفة عامة ووضعهم الإنساني المتخلف الذي لم يرفعهم منه إلا الإسلام .
وحين كانوا يسمعون :
{ واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين } . .
كانت ولا شك تتواكب على خيالهم وذاكرتهم ومشاعرهم صور حياتهم الضالة الزرية الهابطة التي كانت تطبع تاريخهم كله؛ ثم يتلفتون على أنفسهم ليروا مكانهم الجديد الذي رفعهم إليه الإسلام ، والذي هداهم الله إليه بهذا الدين ، فيدركون عمق هذه الحقيقة وأصالتها في وجودهم كله بلا جدال . .
وهذه الحقيقة ما تزال قائمة بالقياس إلى المسلمين من كل أمة ومن كل جيل . . من هم بغير الإسلام؟ وما هم بغير هذه العقيدة؟ إنهم حين يهتدون إلى الإسلام ، وحين يصبح المنهج الإسلامي حقيقة في حياتهم ينتقلون من طور وضيع صغير ضال مضطرب إلى طور آخر رفيع عظيم مهتد مستقيم . ولا يدركون هذه النقلة إلا حين يصبحون مسلمين حقاً ، أي حين يقيمون حياتهم كلها على النهج الإسلامي . . وإن البشرية كلها لتتيه في جاهلية عمياء ما لم تهتد إلى هذا النهج المهتدي . . لا يدرك هذه الحقيقة إلا من يعيش في الجاهلية البشرية التي تعج بها الأرض في كل مكان ، ثم يحيا بعد ذلك بالتصور الإسلامي الرفيع للحياة ، ويدرك حقيقة المنهج الإسلامي الشامخة على كل ما حولها من مقاذر ومستنقعات وأوحال
وحين يطل الإنسان من قمة التصور الإسلامي ، والمنهج الإسلامي على البشرية كلها في جميع تصوراتها ، وجميع مناهجها ، وجميع نظمها - بما في ذلك تصورات أكبر فلاسفتها قديماً وحديثاً ، ومذاهب أكبر مفكريها قديماً وحديثاً - حين يطل الإنسان من تلك القمة الشامخة يدركه العجب من انشغال هذه البشرية بما هي فيه من عبث ، ومن عنت ، ومن شقوة ، ومن ضآلة ، ومن اضطراب لا يصنعه بنفسه عاقل يدعي - فيما يدعي - أنه لم يعد في حاجة إلى إله أو لم يعد على الأقل - كما يزعم - في حاجة لاتباع شريعة إله ومنهج إله
فهذا هو الذي يذكر الله به المسلمين ، وهو يمتن عليهم بنعمته الكبرى :
{ واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين } . .
والحج هو مؤتمر المسلمين الجامع ، الذي يتلاقون فيه مجردين من كل آصرة سوى آصرة الإسلام ، متجردين من كل سمة إلا سمة الإسلام ، عرايا من كل شيء إلا من ثوب غير مخيط يستر العورة ، ولا يميز فرداً عن فرد ، ولا قبيلة عن قبيلة ، ولا جنساً عن جنس . . إن عقدة الإسلام هي وحدها العقدة ، ونسب الإسلام هو وحده النسب ، وصبغة الإسلام هي وحدها الصبغة .

وقد كانت قريش في الجاهلية تسمي نفسها « الحمس » جمع أحمس ، ويتخذون لأنفسهم امتيازات تفرقهم عن سائر العرب . ومن هذه الامتيازات أنهم لا يقفون مع سائر الناس في عرفات ، ولا يفيضون - أي يرجعون - من حيث يفيض الناس . فجاءهم هذا الأمر ليردهم إلى المساواة التي أرادها الإسلام ، وإلى الاندماج الذي يلغي هذه الفوارق المصطنعة بين الناس :
{ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، واستغفروا الله ، إن الله غفور رحيم } . .
قال البخاري : حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت : « كان قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الحمس ، وسائر العرب يقفون بعرفات . فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي عرفات ، ثم يقف بها ، ثم يفيض منها . فذلك قوله : من حيث أفاض الناس » . .
قفوا معهم حيث وقفوا ، وانصرفوا معهم حيث انصرفوا . . إن الإسلام لا يعرف نسباً ، ولا يعرف طبقة . إن الناس كلهم أمة واحدة . سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى . ولقد كلفهم الإسلام أن يتجردوا في الحج من كل ما يميزهم من الثياب ، ليلتقوا في بيت الله إخوانا متساوين . فلا يتجردوا من الثياب ، ليتخايلوا بالأنساب . . ودعوا عنكم عصبية الجاهلية ، وادخلوا في صبغة الإسلام . . واستغفروا الله . . استغفروه من تلك الكبرة الجاهلية . واستغفروه من كل ما مس الحج من مخالفات ولو يسيرة هجست في النفس ، أو نطق بها اللسان . مما نهى عنه من الرفث والفسوق والجدال .
وهكذا يقيم الإسلام سلوك المسلمين في الحج ، على أساس من التصور الذي هدى البشرية إليه . أساس المساواة ، وأساس الأمة الواحدة التي لا تفرقها طبقة ، ولا يفرقها جنس ، ولا تفرقها لغة ، ولا تفرقها سمة من سمات الأرض جميعاً . . وهكذا يردهم إلى استغفار الله من كل ما يخالف عن هذا التصور النظيف الرفيع . .
{ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً . فمن الناس من يقول : ربنا آتنا في الدنيا ، وماله في الآخرة من خلاق . ومنهم من يقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار . أولئك لهم نصيب مما كسبوا ، والله سريع الحساب } . .
ولقد سبق أنهم كانوا يأتون أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز . . وهذه الأسواق لم تكن أسواق بيع وشراء فحسب؛ إنما كانت كذلك أسواق كلام ومفاخرات بالآباء ، ومعاظمات بالأنساب . . ذلك حين لم يكن للعرب من الإهتمامات الكبيرة ما يشغلهم عن هذه المفاخرات والمعاظمات لم تكن لهم رسالة إنسانية بعد ينفقون فيها طاقة القول وطاقة العمل . فرسالتهم الإنسانية الوحيدة هي التي ناطهم بها الإسلام . فأما قبل الإسلام وبدون الإسلام فلا رسالة لهم في الأرض ، ولا ذكر لهم في السماء . . ومن ثم كانوا ينفقون أيام عكاظ ومجنة وذي المجاز في تلك الاهتمامات الفارغة .

في المفاخرة بالأنساب وفي التعاظم بالآباء . . فأما الآن وقد أصبحت لهم بالإسلام رسالة ضخمة ، وأنشأ لهم الإسلام تصوراً جديداً ، بعد أن أنشأهم نشأة جديدة . . أما الآن فيوجههم القرآن لما هو خير ، يوجههم إلى ذكر الله بعد قضاء مناسك الحج ، بدلاً من ذكر الآباء :
{ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً } . .
وقوله لهم : { كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً } . . لا يفيد أن يذكروا الآباء مع الله ، ولكنه يحمل طابع التنديد ، ويوحي بالتوجيه إلى الأجدر والأولى . . يقول لهم : إنكم تذكرون آباءكم حيث لا يجوز أن تذكروا إلا الله . فاستبدلوا هذا بذاك . بل كونوا أشد ذكراً لله وأنتم خرجتم إليه متجردين من الثياب ، فتجردوا كذلك من الأنساب . . ويقول لهم : إن ذكر الله هو الذي يرفع العباد حقاً وليس هو التفاخر بالآباء . فالميزان الجديد للقيم البشرية هو ميزان التقوى . ميزان الاتصال بالله وذكره وتقواه .
ثم يزن لهم بهذا الميزان ، ويريهم مقادير الناس ومآلاتهم بهذا الميزان :
{ فمن الناس من يقول : ربنا آتنا في الدنيا ، وما له في الآخرة من خلاق ، ومنهم من يقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . . أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب } . .
إن هناك فريقين . فريقاً همه الدنيا ، فهو حريص عليها ، مشغول بها . وقد كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف في الحج فيقولون : اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولادٍ حسن ، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً . . وورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الآية نزلت في هذا الفريق من الناس . . ولكن مدلول الآية أعم وأدوم . . فهذا نموذج من الناس مكرور في الأجيال والبقاع . النموذج الذي همه الدنيا وحدها . يذكرها حتى حين يتوجه إلى الله بالدعاء؛ لأنها هي التي تشغله ، وتملأ فراغ نفسه ، وتحيط عالمه وتغلقه عليه . . هؤلاء قد يعطيهم الله نصيبهم في الدنيا - إذا قدر العطاء - ولا نصيب لهم في الآخرة على الإطلاق
وفريقا أفسح أفقاً ، وأكبر نفساً ، لأنه موصول بالله ، يريد الحسنة في الدنيا ولكنه لا ينسى نصيبه في الآخرة فهو يقول :
{ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } . .
إنهم يطلبون من الله الحسنة في الدارين . ولا يحددون نوع الحسنة - بل يدعون اختيارها لله ، والله يختار لهم ما يراه حسنة وهم باختياره لهم راضون . . وهؤلاء لهم نصيب مضمون لا يبطئ عليهم . فالله سريع الحساب .
إن هذا التعليم الإلهي يحدد : لمن يكون الاتجاه . ويقرر أنه من اتجه إلى الله وأسلم له أمره ، وترك لله الخيرة ، ورضي بما يختاره له الله ، فلن تفوته حسنات الدنيا ولا حسنات الآخرة . ومن جعل همه الدنيا فقد خسر في الآخرة كل نصيب .

والأول رابح حتى بالحساب الظاهر . وهو في ميزان الله أربح وأرجح . وقد تضمن دعاؤه خير الدارين في اعتدال ، وفي استقامة على التصور الهادئ المتزن الذي ينشئه الإسلام .
إن الإسلام لا يريد من المؤمنين أن يدعوا أمر الدنيا . فهم خلقوا للخلافة في هذه الدنيا . ولكنه يريد منهم أن يتجهوا إلى الله في أمرها؛ وألا يضيقوا من آفاقهم ، فيجعلوا من الدنيا سوراً يحصرهم فيها . . إنه يريد أن يطلق « الإنسان » من أسوار هذه الأرض الصغيرة؛ فيعمل فيها وهو أكبر منها؛ ويزاول الخلافة وهو متصل بالأفق الأعلى . . ومن ثم تبدو الاهتمامات القاصرة على هذه الأرض ضئيلة هزيلة وحدها حين ينظر إليها الإنسان من قمة التصور الإسلامي . .
ثم تنتهي أيام الحج وشعائره ومناسكه بالتوجيه إلى ذكر الله ، وإلى تقواه :
{ واذكروا الله في أيام معدودات . فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى . واتقوا الله ، واعلموا أنكم إليه تحشرون } . .
أيام الذكر هي في الأرجح يوم عرفة ويوم النحر والتشريق بعده . . قال ابن عباس : الأيام المعدودات أيام التشريق . . وقال عكرمة : { واذكروا الله في أيام معدودات } يعني التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات : الله أكبر . الله أكبر . وفي الحديث المتقدم عن عبد الرحمن بن معمر الديلمي : « وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه » . وأيام عرفة والنحر والتشريق . كلها صالحة للذكر . اليومين الأولين منها أو اليومين الأخيرين . بشرط التقوى :
ذلك { لمن اتقى } . .
ثم يذكرهم بمشهد الحشر بمناسبة مشهد الحج؛ وهو يستجيش في قلوبهم مشاعر التقوى أمام ذلك المشهد المخيف :
{ واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون } . .
وهكذا نجد في هذه الآيات كيف جعل الإسلام الحج فريضة إسلامية؛ وكيف خلعها من جذورها الجاهلية؛ وربطها بعروة الإسلام؛ وشدها إلى محوره؛ وظللها بالتصورات الإسلامية؛ ونقاها من الشوائب والرواسب . . وهذه هي طريقة الإسلام في كل ما رأى أن يستبقيه من عادة أو شعيرة . . إنها لم تعد هي التي كانت في الجاهلية؛ إنما عادت قطعة جديدة متناسقة في الثوب الجديد . . إنها لم تعد تقليداً عربياً إنما عادت عبادة إسلامية . فالإسلام ، والإسلام وحده ، هو الذي يبقى وهو الذي يُرعى . .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

في ثنايا التوجيهات والتشريعات القرآنية - التي يتألف من مجموعها ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية - يجد الناظر في هذه التوجيهات كذلك منهجاً للتربية ، قائماً على الخبرة المطلقة بالنفس الإنسانية ، ومساربها الظاهرة والخفية؛ يأخذ هذه النفس من جميع أقطارها ، كما يتضمن رسم نماذج من نفوس البشر ، واضحة الخصائص جاهرة السمات ، حتى ليخيل للإنسان وهو يتصفح هذه الخصائص والسمات ، أنه يرى ذوات بعينها ، تدب في الأرض ، وتتحرك بين الناس ، ويكاد يضع يده عليها ، وهو يصيح : هذه هي بعينها التي عناها القرآن
وفي هذا الدرس نجد الملامح الواضحة لنموذجين من نماذج البشر : الأول نموذج المرائي الشرير ، الذلق اللسان . الذي يجعل شخصه محور الحياة كلها . والذي يعجبك مظهره ويسوؤك مخبره . فإذا دعي إلى الصلاح وتقوى الله لم يرجع إلى الحق؛ ولم يحاول إصلاح نفسه؛ بل أخذته العزة بالإثم ، واستنكف أن يوجه إلى الحق والخير . . ومضى في طريقه يهلك الحرث والنسل والثاني نموذج المؤمن الصادق الذي يبذل نفسه كلها لمرضاة الله لا يستبقي منها بقية ، ولا يحسب لذاته حساباً في سعيه وعمله ، لأنه يفنى في الله ، ويتوجه بكليته إليه .
وعقب عرض هذين النموذجين نسمع هتافاً بالذين آمنوا ليستسلموا بكليتهم لله ، دون ما تردد ، ودون ما تلفت ، ودون ما تجربة لله بطلب الخوارق والمعجزات ، كالذي فعلته بنو إسرائيل حين بدلت نعمة الله عليها وكفرتها . . ويسمى هذا الاستسلام دخولاً في السلم . فيفتح بهذه الكلمة باباً واسعاً للتصور الحقيقي الكامل لحقيقة الإيمان بدين الله ، والسير على منهجه في الحياة ( كما سنفصل هذا عند مواجهة النص القرآني بإذن الله ) .
وفي مواجهة نعمة الإيمان الكبرى ، وحقيقة السلام التي تنشر ظلالها على الذين آمنوا . . يعرض سوء تصور الكفار لحقيقة الأمر ، وسخريتهم من الذين آمنوا بسبب ذلك التصور الضال . ويقرر إلى جانب ذلك حقيقة القيم في ميزان الله : { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } . .
يلي هذا تلخيص لقصة اختلاف الناس . وبيان للميزان الذي يجب أن يفيئوا إليه ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه . وتقرير لوظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين { الناس فيما اختلفوا فيه } . .
ويتطرق من هذا إلى ما ينتظر القائمين على هذا الميزان من مشاق الطريق؛ ويخاطب الجماعة المسلمة فيكشف لها عما ينتظرها في طريقها الشائك من البأساء والضراء والجهد الذي لقيته كل جماعة نيطت بها هذه الأمانة من قبل . كي تعد نفسها لتكاليف الأمانة التي لا مفر منها ولا محيص عنها . وكي تقبل عليها راضية النفس ، مستقرة الضمير؛ تتوقع نصر الله كلما غام الأفق ، وبدا أن الفجر بعيد
وهكذا نرى أطرافاً من المنهج الرباني في تربية الجماعة المسلمة وإعدادها ، تنحو أنحاء منوعة من الإيقاعات المؤثرة ، تتخلل التوجيهات والتشريعات التي يتألف من مجموعها ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية .

{ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ، ويشهد الله على ما في قلبه ، وهو ألد الخصام . وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ، والله لا يحب الفساد . وإذا قيل له : اتق الله أخذته العزة بالإثم ، فحسبه جهنم ولبئس المهاد . . ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، والله رؤوف بالعباد } . .
هذه اللمسات العجيبة من الريشة المبدعة في رسم ملامح النفوس ، تشي بذاتها بأن مصدر هذا القول المعجز ليس مصدراً بشرياً على الإطلاق . فاللمسات البشرية لا تستوعب - في لمسات سريعة كهذه - أعمق خصائص النماذج الإنسانية ، بهذا الوضوح ، وبهذا الشمول .
إن كل كلمة أشبه بخط من خطوط الريشة في رسم الملامح وتحديد السمات . . وسرعان ما ينتفض النموذج المرسوم كائناً حياً ، مميز الشخصية . حتى لتكاد تشير بأصبعك إليه ، وتفرزه من ملايين الأشخاص ، وتقول : هذا هو الذي أراد إليه القرآن . . إنها عملية خلق أشبه بعملية الخلق التي تخرج كل لحظة من يد الباريء في عالم الأحياء
هذا المخلوق الذي يتحدث ، فيصور لك نفسه خلاصة من الخير ، ومن الإخلاص ، ومن التجرد ، ومن الحب ، ومن الترفع ، ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر والسعادة والطهارة على الناس . . هذا الذي يعجبك حديثه . تعجبك ذلاقة لسانه ، وتعجبك نبرة صوته ، ويعجبك حديثه عن الخير والبر والصلاح . . { ويشهد الله على ما في قلبه } . . زيادة في التأثير والإيحاء ، وتوكيداً للتجرد والإخلاص ، وإظهاراً للتقوى وخشية الله . . { وهو ألد الخصام } تزدحم نفسه باللدد والخصومة ، فلا ظل فيها للود والسماحة ، ولا موضع فيها للحب والخير ، ولا مكان فيها للتجمل والإيثار .
هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه ، ويتنافر مظهره ومخبره . . . هذا الذي يتقن الكذب والتمويه والدهان . . حتى إذا جاء دور العمل ظهر المخبوء ، وانكشف المستور ، وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد والفساد :
{ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ، ويهلك الحرث والنسل ، والله لا يحب الفساد } . .
وإذا انصرف إلى العمل ، كانت وجهته الشر والفساد ، في قسوة وجفوة ولدد ، تتمثل في إهلاك كل حي من الحرث الذي هو موضع الزرع والإنبات والإثمار ، ومن النسل الذي هو امتداد الحياة بالإنسال . . وإهلاك الحياة على هذا النحو كناية عما يعتمل في كيان هذا المخلوق النكد من الحقد والشر والغدر والفساد . . مما كان يستره بذلاقة اللسان ، ونعومة الدهان ، والتظاهر بالخير والبر والسماحة والصلاح . . { والله لا يحب الفساد } . . ولا يحب المفسدين الذين ينشئون في الأرض الفساد . . والله لا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس؛ ولا يجوز عليه الدهان والطلاء الذي قد يجوز على الناس في الحياة الدنيا ، فلا يعجبه من هذا الصنف النكد ما يعجب الناس الذين تخدعهم الظواهر وتخفى عليهم السرائر .

ويمضي السياق يوضح معالم الصورة ببعض اللمسات :
{ وإذا قيل له : اتق الله أخذته العزة بالإثم . فحسبه جهنم ولبئس المهاد } . .
إذا تولى فقصد إلى الإفساد في الأرض؛ وأهلك الحرث والنسل؛ ونشر الخراب والدمار؛ وأخرج ما يعتمل في صدره من الحقد والضغن والشر والفساد . إذا فعل هذا كله ثم قيل له : { اتق الله } . . تذكيراً له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه . . أنكر أن يقال له هذا القول؛ واستكبر أن يوجه إلى التقوى؛ وتعاظم أن يؤخذ عليه خطأ وأن يوجه إلى صواب . وأخذته العزة لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير ولكن { بالإثم } . . فاستعز بالإجرام والذنب والخطيئة ، ورفع رأسه في وجه الحق الذي يذكر به ، وأمام الله بلا حياء منه؛ وهو الذي كان يشهد الله على ما في قلبه ; ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء
إنها لمسة تكمل ملامح الصورة ، وتزيد في قسماتها وتمييزها بذاتها . . وتدع هذا النموذج حياً يتحرك . تقول في غير تردد : هذا هو . هذا هو الذي عناه القرآن وأنت تراه أمامك ماثلا في الأرض الآن وفي كل آن
وفي مواجهة هذا الاعتزاز بالإثم؛ واللدد في الخصومة؛ والقسوة في الفساد؛ والفجور في الإفساد . . في مواجهة هذا كله يجبهه السياق باللطمة اللائقة بهذه الجبلة النكدة :
{ فحسبه جهنم ولبئس المهاد } . .
حسبه ففيها الكفاية جهنم التي وقودها الناس والحجارة . جهنم التي يكبكب فيها الغاوون وجنود إبليس أجمعون . جهنم الحطمة التي تطلع على الأفئدة . جهنم التي لا تبقي ولا تذر . جهنم التي تكاد تميز من الغيظ حسبه جهنم { ولبئس المهاد } ويا للسخرية القاصمة في ذكر { المهاد } هنا . . ويا لبؤس من كان مهاده جهنم بعد الاعتزاز والنفخة والكبرياء
. . . ذلك نموذج من الناس . يقابله نموذج آخر على الطرف الآخر من القياس :
{ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله . والله رؤوف بالعباد } . .
ويشري هنا معناها يبيع . فهو يبيع نفسه كلها لله؛ ويسلمها كلها لا يستبقي منها بقية ، ولا يرجو من وراء أدائها وبيعها غاية إلا مرضاة الله . ليس له فيها شيء ، وليس له من ورائها شيء . بيعة كاملة لا تردد فها ولا تلفت ولا تحصيل ثمن ، ولا استبقاء بقية لغير الله . . والتعبير يحتمل معنى آخر يؤدي إلى نفس الغاية . . يحتمل أن يشتري نفسه بكل أعراض الحياة الدنيا ، ليعتقها ويقدمها خالصة لله ، لا يتعلق بها حق آخر إلا حق مولاه . فهو يضحي كل أعراض الحياة الدنيا ويخلص بنفسه مجردة لله . وقد ذكرت الروايات سبباً لنزول هذه الآية يتفق مع هذا التأويل الأخير :
قال ابن كثير في التفسير : قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة : نزلت في صهيب بن سنان الرومي . وذلك أنه لما أسلم بمكة ، وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله ، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل؛ فتخلص منهم ، وأعطاهم ماله؛ فأنزل الله فيه هذه الآية؛ فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة ، فقالوا له : ربح البيع .

فقال : وأنتم . فلا أخسر الله تجارتكم . وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية . . « ويروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : ربح البيع صهيب » . قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن عبد الله بن مردويه ، حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا جعفر بن سليمان الضبي ، حدثنا عوف ، عن أبي عثمان النهدي ، « عن صهيب ، قال : لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت لي قريش : يا صهيب . قدمت إلينا ولا مال لك؛ وتخرج أنت ومالك؟ والله لا يكون ذلك أبداً . فقلت لهم : أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا : نعم فدفعت إليهم مالي ، فخلوا عني ، فخرجت حتى قدمت المدينة ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : » ربح صهيب ربح صهيب « . . مرتين . . »
وسواء كانت الآية نزلت في هذا الحادث ، أو أنها كانت تنطبق عليه ، فهي أبعد مدى من مجرد حادث ومن مجرد فرد . وهي ترسم صورة نفس ، وتحدد ملامح نموذج من الناس؛ ترى نظائره في البشرية هنا وهناك .
والصورة الأولى تنطبق على كل منافق مراء ذلق اللسان؛ فظ القلب ، شرير الطبع ، شديد الخصومة ، مفسود الفطرة . . والصورة الثانية تنطبق على كل مؤمن خالص الإيمان ، متجرد لله ، مرخص لأعراض الحياة . . وهذا وذلك نموذجان معهودان في الناس؛ ترسمهما الريشة المبدعة بهذا الإعجاز؛ وتقيمهما أمام الأنظار يتأمل الناس فيهما معجزة القرآن ، ومعجزة خلق الإنسان بهذا التفاوت بين النفاق والإيمان . ويتعلم منهما الناس ألا ينخدعوا بمعسول القول ، وطلاوة الدهان؛ وأن يبحثوا عن الحقيقة وراء الكلمة المزوقة ، والنبرة المتصنعة ، والنفاق والرياء والزواق كما يتعلمون منهما كيف تكون القيم في ميزان الإيمان .
وفي ظلال هاتين اللوحتين المشخصتين لنموذج النفاق الفاجر ، ونموذج الإيمان الخالص . يهتف بالجماعة المسلمة ، باسم الإيمان الذي تعرف به ، للدخول في السلم كافة ، والحذر من اتباع خطوات الشيطان ، مع التحذير من الزلل بعد البيان .
{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين . فإن زللتم ، من بعد ما جاءتكم البينات ، فاعلموا أن الله عزيز حكيم } . .
إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان . بهذا الوصف المحبب إليهم ، والذي يميزهم ويفردهم ، ويصلهم بالله الذي يدعوهم . . دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة . .
وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله ، في ذوات أنفسهم ، وفي الصغير والكبير من أمرهم . أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور ، ومن نية أو عمل ، ومن رغبة أو رهبة ، لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضاه .

استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية . الاستسلام لليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد؛ وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير ، في الدنيا والآخرة سواء .
وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن . وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية . . وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا؛ ليخلصوا ويتجردوا؛ وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم ، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم ، في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت .
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام . عالم كله ثقة واطمئنان ، وكله رضى واستقرار . لا حيرة ولا قلق ، ولا شرود ولا ضلال . سلام مع النفس والضمير . سلام مع العقل والمنطق . سلام مع الناس والأحياء . سلام مع الوجود كله ومع كل موجود . سلام يرف في حنايا السريرة . وسلام يظلل الحياة والمجتمع . سلام في الأرض وسلام في السماء .
وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه ، ونصاعة هذا التصور وبساطته . .
إنه إله واحد . يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه؛ فلا تتفرق به السبل ، ولا تتعدد به القبل؛ ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك - كما كان في الوثنية والجاهلية - إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح .
وهو إله قوي قادر عزيز قاهر . . فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود . وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح . ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئاً ، وهو يعبد الله القوي القادر العزيز القاهر . ولم يعد يخشى فوت شيء . ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء .
وهو إله عادل حكيم ، فقوته وقدرته ضمان من الظلم ، وضمان من الهوى ، وضمان من البخس . وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات . ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد ، ينال فيه العدل والرعاية والأمان .
وهو رب رحيم ودود . منعم وهاب . غافر الذنب وقابل التوب . يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء . فالمسلم في كنفه آمن آنس ، سالم غانم ، مرحوم إذا ضعف ، مغفور له متى تاب . .
وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام؛ فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه ، وما يطمئن روحه ، وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام . .
كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب .

وبين الخالق والكون . وبين الكون والإنسان . . فالله خلق هذا الكون بالحق؛ وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة . وهذا الإنسان مخلوق قصداً ، وغير متروك سدى ، ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده ، ومسخر له ما في الأرض جميعاً . وهو كريم على الله ، وهو خليفته في أرضه . والله معينه على هذه الخلافة . والكون من حوله صديق مأنوس ، تتجاوب روحه مع روحه ، حين يتجه كلاهما إلى الله ربه . وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به . وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجود الكبير ، الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان والذي يؤلفون كلهم هذا المهرجان
والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة ، وهي توحي إليه أن له أجراً حين يرويها من عطش ، وحين يعينها على النماء ، وحين يزيل من طريقها العقبات . . هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة . عقيدة تسكب في روحه السلام؛ وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود؛ ويشيع من حوله الأمن والرفق ، والحب والسلام .
والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه؛ ونفي القلق والسخط والقنوط . . إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض؛ والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة . . إن الحساب الختامي هناك؛ والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب . فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه . ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس ، فسوف يوفاه بميزان الله . ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد ، فالعدل لا بد واقع . وما الله يريد ظلماً للعباد .
والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات . بلا تحرج ولا حياء فهناك الآخرة فيها عطاء ، وفيها غناء ، وفيها عوض عما يفوت . وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة؛ وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين؛ وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود
ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة ، وأنه مخلوق ليعبد الله . . من شأنها - ولا شك - أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء . ترفع شعوره وضميره ، وترفع نشاطه وعمله ، وتنظف وسائله وأدواته . فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله؛ وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه؛ وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج الله فيها . فأولى به ألا يغدر ولا يفجر؛ وأولى به ألا يغش ولا يخدع؛ وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر؛ وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة .

وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل ، وألا يعتسف الطريق ، وألا يركب الصعب من الأمور . فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة . . ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع ، وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق . فهو يعبد في كل خطوة؛ وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة ، وهو يرتقي صعداً إلى الله في كل نشاط وفي كل مجال .
وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر الله ، في طاعة الله ، لتحقيق إرادة الله . . وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار؛ والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق؛ وبلا قنوط من عون الله ومدده؛ وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء . . ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء الله وأعداءه . فهو إنما يقاتل لله ، وفي سبيل الله ، ولإعلاء كلمة الله؛ ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة .
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة الله مع هذا الكون كله . قانونه قانونه ، ووجهته وجهته . فلا صدام ولا خصام ، ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة . وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته ، وتهتدي بالنور الذي يهتدي به ، وتتجه إلى الله وهو معها يتجه إلى الله .
والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة . لا تتجاوز الطاقة؛ ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه؛ ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء؛ ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء . . ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه . يحمل منها ما يطيق حمله ، ويمضي في الطريق إلى الله في طمأنينة وروح وسلام .
والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني ، في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة ، والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال . . كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام .
هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق . هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره . ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب ، تختلف درجة صفائه ، ولكنه يظل في جملته خيراً من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر ، وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية
هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة - آصرة العقيدة - حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان ، واللغات والألوان ، وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان . .
هذا المجتمع الذي يسمع الله يقول له : { إنما المؤمنون إخوة } والذي يرى صورته في قول النبي الكريم : « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » .

هذا المجتمع الذي من آدابه : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } { ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور } { ادفع بالتي هي أحسن - فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب . بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان . ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } { ولا يغتب بعضكم بعضاً . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم } هذا المجتمع الذي من ضماناته : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا } { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } و « كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله » .
ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة؛ ولا يتبجح فيه الإغراء ، ولا تروج فيه الفتنة ، ولا ينتشر فيه التبرج ، ولا تتلفت فيه الأعين على العورات ، ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات ، ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديماً وحديثاً . . هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة ، والذي يسمع الله - سبحانه - يقول : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون } { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر؛ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً ، وأولئك هم الفاسقون } { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ، ذلك أزكى لهم ، إن الله خبير بما يصنعون . وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ، وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن ، أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن ، أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن ، أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء . ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } والذي يخاطب فيه نساء النبي - أطهر نساء الأرض في أطهر بيت في أطهر بيئة في أطهر زمان :

{ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن . فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً . وقرن في بيوتكن ، ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله . إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها ، ويأمن الزوج على زوجته ، ويأمن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم ، ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم . حيث لا تقع العيون على المفاتن ، ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم . فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب . . بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن ، ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان
وأخيراً إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملاً ورزقاً ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم ، ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة ، والذي يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لو مات فيهم جائع؛ حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية .
والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع ، بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع . فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة ، ولا يتسور على أحد بيته ، ولا يتجسس على أحد فيه متجسس ، ولا يذهب فيه دم هدراً والقصاص حاضر؛ ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهباً والحدود حاضرة .
المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون . كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة الله لا بإرادة حاكم ، و لا هوى حاشية ولا قرابة كبير .
وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية ، الذي لا يخضع البشر فيه للبشر . إنما يخضعون حاكمين ومحكومين لله ولشريعته؛ وينفذون حاكمين ومحكومين حكم الله وشريعته . فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام الله رب العالمين وأحكم الحاكمين ، في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين . .
هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة . ليسلموا أنفسهم كلها لله؛ فلا يعود لهم منها شيء ، ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ؛ إنما تعود كلها لله في طواعية وفي انقياد وفي تسليم . .
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان ، في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام ، أو التي عرفته ثم تنكرت له ، وارتدت إلى الجاهلية ، تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان . . هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري ، وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين .
وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو « السويد » .

حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام . وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقداً والعلاج المجاني في المستشفيات . وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان ، مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت . . وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب . .
ولكن ماذا؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان بالله؟
إنه شعب مهدد بالانقراض ، فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات؛ ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة . والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب . . ثم الانتحار . . والحال كهذا في أمريكا . . والحال أشنع من هذا في روسيا . .
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة . فلا يذوق طعم السلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة ، ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار :
{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة . . ولا تتبعوا خطوات الشيطان . إنه لكم عدو مبين } . .
ولما دعا الله الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة . . حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان . فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان . إما الدخول في السلم كافة ، وإما اتباع خطوات الشيطان . إما هدى وأما ضلال . إما إسلام وإما جاهلية إما طريق الله وإما طريق الشيطان وإما هدى الله وإما غواية الشيطان . . وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه ، فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات .
إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحداً منها ، أو يخلط واحدا منها بواحد . . كلا إنه من لا يدخل في السلم بكليته ، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته ، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر . . إن هذا في سبيل الشيطان ، سائر على خطوات الشيطان . .
ليس هنالك حل وسط ، ولا منهج بين بين ، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك إنما هناك حق وباطل . هدى وضلال . إسلام وجاهلية . منهج الله أو غواية الشيطان . والله يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة؛ ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان . ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم ، ويستثير مخاوفهم بتذكيرهم بعداوة الشيطان لهم ، تلك العداوة الواضحة البينة ، التي لا ينساها إلا غافل . والغفلة لا تكون مع الإيمان .
ثم يخوفهم عاقبة الزلل بعد البيان :
{ فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم } .

.
وتذكيرهم بأن الله { عزيز } يحمل التلويح بالقوة والقدرة والغلبة ، وأنهم يتعرضون لقوة الله حين يخالفون عن توجيهه . . وتذكيرهم بأنه { حكيم } . فيه إيحاء بأن ما اختاره لهم هو الخير ، وما نهاهم عنه هو الشر ، وأنهم يتعرضون للخسارة حين لا يتبعون أمره ولا ينتهون عما نهاهم عنه . . فالتعقيب بشطريه يحمل معنى التهديد والتحذير في هذا المقام . .
بعد ذلك يتخذ السياق أسلوباً جديداً في التحذير من عاقبة الانحراف عن الدخول في السلم واتباع خطوات الشيطان . فيتحدث بصيغة الغيبة بدلاً من صيغة الخطاب :
{ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة؟ وقضي الأمر ، وإلى الله ترجع الأمور } . .
وهو سؤال استنكاري عن علة انتظار المترددين المتلكئين الذين لا يدخلون في السلم كافة . ما الذي يقعد بهم عن الاستجابة؟ ماذا ينتظرون؟ وماذا يرتقبون؟ تراهم سيظلون هكذا في موقفهم حتى يأتيهم الله - سبحانه - في ظلل من الغمام وتأتيهم الملائكة؟ وبتعبير آخر : هل ينتظرون ويتلكأون حتى يأتيهم اليوم الرعيب الموعود ، الذي قال الله سبحانه : إنه سيأتي فيه في ظلل من الغمام ، ويأتي الملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً؟
وفجأة - وبينما نحن أمام السؤال الاستنكاري الذي يحمل طابع التهديد الرعيب - نجد أن اليوم قد جاء ، وأن كل شيء قد انتهى ، وأن القوم أمام المفاجأة التي كان يلوح لهم بها ويخوفهم إياها :
{ وقضي الأمر } . .
وطوي الزمان ، وأفلتت الفرصة ، وعزت النجاة ، ووقفوا وجهاً لوجه أمام الله؛ الذي ترجع إليه وحده الأمور :
{ وإلى الله ترجع الأمور } . .
إنها طريقة القرآن العجيبة ، التي تفرده وتميزه من سائر القول . الطريقة التي تحيي المشهد وتستحضره في التو واللحظة ، وتقف القلوب إزاءه وقفة من يرى ويسمع ويعاني ما فيه
فإلى متى يتخلف المتخلفون عن الدخول في السلم؛ وهذا الفزع الأكبر ينتظرهم؟ بل هذا الفزع الأكبر يدهمهم والسلم منهم قريب . السلم في الدنيا والسلم في الآخرة يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً . يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً . يوم يقضي الأمر . . وقد قضي الأمر { وإلى الله ترجع الأمور } . .
هنا يلتفت السياق لفتة أخرى . فيخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - يكلفه أن يسأل بني إسرائيل - وهم نموذج التلكؤ في الاستجابة كما وصفتهم هذه السورة من قبل - : كم آتاهم الله من آية بينة ثم لم يستجيبوا وكيف بدلوا نعمة الله ، نعمة الإيمان والسلم ، من بعد ما جاءتهم :
{ سل بني إسرائيل : كم آتيناهم من آية بينة ، ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب } . .
والعودة هنا إلى بني إسرائيل عودة طبيعية ، فهنا تحذير من موقف بنو إسرائيل فيه أصلاء موقف التلكؤ دون الاستجابة؛ وموقف النشوز وعدم الدخول في السلم كافة؛ وموقف التعنت وسؤال الخوارق ، ثم الاستمرار في العناد والجحود .

. وهذه هي مزالق الطريق التي يحذر الله الجماعة المسلمة منها ، كي تنجو من عاقبة بني إسرائيل المنكودة .
{ سل بني إسرائيل : كم آتيناهم من آية بينة } . .
والسؤال هنا قد لا يكون مقصوراً على حقيقته . إنما هو أسلوب من أساليب البيان ، للتذكير بكثرة الآيات التي آتاها الله بني إسرائيل ، والخوارق التي أجراها لهم . . إما بسؤال منهم وتعنت ، وإما ابتداء من عند الله لحكمة حاضرة . . ثم ما كان منهم - على الرغم من كثرة الخوارق - من تردد وتلكؤ وتعنت ونكوص عن السلم الذي يظلل كنف الإيمان .
ثم يجيء التعقيب عاماً :
{ ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب } . .
ونعمة الله المشار إليها هنا هي نعمة السلم . أو نعمة الإيمان . فهما مترادفان . والتحذير من تبديلها يجد مصداقه أولاً في حال بني إسرائيل ، وحرمانهم من السلم والطمأنينة والاستقرار ، منذ أن بدلوا نعمة الله ، وأبوا الطاعة الراضية ، والاستسلام لتوجيه الله . وكانوا دائماً في موقف الشاك المتردد ، الذي يظل يطلب الدليل من الخارقة في كل خطوة وكل حركة؛ ثم لا يؤمن بالمعجزة ، ولا يطمئن لنور الله وهداه ، والتهديد بشدة عقاب الله يجد مصداقه أولاً في حال بني إسرائيل ، ويجد مصداقه أخيراً فيما ينتظر المبدلين للنعمة المتبطرين عليها في كل زمان .
وما بدلت البشرية هذه النعمة إلا أصابها العقاب الشديد في حياتها على الأرض قبل عقاب الآخرة . وها هي ذي البشرية المنكودة الطالع في أنحاء الأرض كلها تعاني العقاب الشديد؛ وتجد الشقوة النكدة؛ وتعاني القلق والحيرة؛ ويأكل بعضها بعضاً؛ ويأكل الفرد منها نفسه وأعصابه ، ويطاردها وتطارده بالأشباح المطلقة ، وبالخواء القاتل الذي يحاول المتحضرون أن يملأوه تارة بالمسكرات والمخدرات ، وتارة بالحركات الحائرة التي يخيل إليك معها أنهم هاربون تطاردهم الأشباح
ونظرة إلى صورهم في الأوضاع العجيبة المتكلفة التي يظهرون بها : من مائلة برأسها ، إلى كاشفة عن صدرها ، إلى رافعة ذيلها ، إلى مبتدعة قبعة غريبة على هيئة حيوان إلى واضع رباط عنق رسم عليه تيتل أو فيل إلى لابس قميص تربعت عليه صورة أسد أو دب
ونظرة إلى رقصاتهم المجنونة ، وأغانيهم المحمومة ، وأوضاعهم المتكلفة وأزيائهم الصارخة في بعض الحفلات والمناسبات؛ ومحاولة لفت النظر بالشذوذ الصارخ ، أو ترضية المزاج بالتميز الفاضح . .
ونظرة إلى التنقل السريع المحموم بين الأهواء والأزواج والصداقات والأزياء بين فصل وفصل ، لا بل بين الصباح والمساء
كل أولئك يكشف عن الحيرة القاتلة التي لا طمأنينة فيها ولا سلام . ويكشف عن حالة الملل الجاثم التي يفرون منها ، وعن حالة « الهروب » من أنفسهم الخاوية وأرواحهم الموحشة ، كالذي تطارده الجنة والأشباح .

وإن هو إلا عقاب الله ، لمن يحيد عن منهجه ، ولا يستمع لدعوته : { يا أيها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافة } . .
وإن الإيمان الواثق لنعمة الله على عباده ، لا يبدلها مبدل حتى يحيق به ذلك العقاب . . والعياذ بالله . .
وفي ظل هذا التحذير من التلكؤ في الاستجابة ، والتبديل بعد النعمة ، يذكر حال الذين كفروا وحال الذين آمنوا؛ ويكشف عن الفرق بين ميزان الذين كفروا وميزان الذين آمنوا للقيم والأحوال والأشخاص :
{ زين للذين كفروا الحياة الدنيا ، ويسخرون من الذين آمنوا ، والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ، والله يرزق من يشاء بغير حساب } . .
لقد زينت للذين كفروا هذه الحياة الدنيا؛ بأعراضها الزهيدة ، واهتماماتها الصغيرة . زينت لهم فوقفوا عندها لا يتجاوزونها؛ ولا يمدون بأبصارهم إلى شيء وراءها؛ ولا يعرفون قيماً أخرى غير قيمها . والذي يقف عند حدود هذه الحياة الدنيا لا يمكن أن يسمو تصوره إلى تلك الاهتمامات الرفيعة التي يحفل بها المؤمن ، ويمد إليها بصره في آفاقها البعيدة . . إن المؤمن قد يحتقر أعراض الحياة كلها؛ لا لأنه أصغر منها همة أو أضعف منها طاقة ، ولا لأنه سلبي لا ينمي الحياة ولا يرقيها . . ولكن لأنه ينظر إليها من عل - مع قيامه بالخلافة فيها ، وإنشائه للعمران والحضارة ، وعنايته بالنماء والإكثار - فينشد من حياته ما هو أكبر من هذه الأعراض وأغلى . ينشد منها أن يقر في الأرض منهجاً ، وأن يقود البشرية إلى ما هو أرفع وأكمل ، وأن يركز راية الله فوق هامات الأرض والناس ، ليتطلع إليها البشر في مكانها الرفيع ، وليمدوا بأبصارهم وراء الواقع الزهيد المحدود ، الذي يحيا له من لم يهبه الإيمان رفعة الهدف ، وضخامة الاهتمام ، وشمول النظرة .
وينظر الصغار الغارقون في وحل الأرض ، المستعبدون لأهداف الأرض . . ينظرون للذين آمنوا ، فيرونهم يتركون لهم وحلهم وسفسافهم ، ومتاعهم الزهيد؛ ليحاولوا آمالاً كباراً لا تخصهم وحدهم ، ولكن تخص البشرية كلها؛ ولا تتعلق بأشخاصهم إنما تتعلق بعقيدتهم؛ ويرونهم يعانون فيها المشقات؛ ويقاسون فيها المتاعب؛ ويحرمون أنفسهم اللذائذ التي يعدها الصغار خلاصة الحياة وأعلى أهدافها المرموقة . . ينظر الصغار المطموسون إلى الذين آمنوا - في هذه الحال - فلا يدركون سر اهتماماتهم العليا . عندئذ يسخرون منهم . يسخرون من حالهم ، ويسخرون من تصوراتهم ، ويسخرون من طريقهم الذي يسيرون فيه
{ زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا . . . } . .
ولكن هذا الميزان الذي يزن الكافرون به القيم ليس هو الميزان . . إنه ميزان الأرض . ميزان الكفر . ميزان الجاهلية . . أما الميزان الحق فهو في يد الله سبحانه . والله يبلغ الذين آمنوا حقيقة وزنهم في ميزانه :
{ والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } . .
هذا هو ميزان الحق في يد الله . فليعلم الذين آمنوا قيمتهم الحقيقية في هذا الميزان . وليمضوا في طريقهم لا يحفلون سفاهة السفهاء ، وسخرية الساخرين ، وقيم الكافرين .

. إنهم فوقهم يوم القيامة . فوقهم عند الحساب الختامي الأخير . فوقهم في حقيقة الأمر بشهادة الله أحكم الحاكمين .
والله يدخر لهم ما هو خير ، وما هو أوسع من الرزق . يهبهم إياه حيث يختار؛ في الدنيا أو في الآخرة ، أو في الدارين وفق ما يرى أنه لهم خير :
{ والله يرزق من يشاء بغير حساب } . .
وهو المانح الوهاب يمنح من يشاء ، ويفيض على من يشاء لا خازن لعطائه ولا بوّاب وهو قد يعطي الكافرين زينة الحياة الدنيا لحكمة منه ، وليس لهم فيما أعطوا فضل . وهو يعطي المختارين من عباده ما يشاء في الدنيا أو في الآخرة . . فالعطاء كله من عنده . واختياره للأخيار هو الأبقى والأعلى . .
وستظل الحياة أبداَ تعرف هذين النموذجين من الناس . . تعرف المؤمنين الذين يتلقون قيمهم وموازينهم وتصوراتهم من يد الله؛ فيرفعهم هذا التلقي عن سفساف الحياة وأعراض الأرض ، واهتمامات الصغار؛ وبذلك يحققون إنسانيتهم؛ ويصبحون سادة للحياة ، لا عبيداً للحياة . . كما تعرف الحياة ذلك الصنف الآخر : الذين زينت لهم الحياة الدنيا ، واستعبدتهم أعراضها وقيمها؛ وشدتهم ضروراتهم وأوهاقهم إلى الطين فلصقوا به لا يرتفعون
وسيظل المؤمنون ينظرون من عل إلى أولئك الهابطين؛ مهما أوتوا من المتاع والأعراض . على حين يعتقد الهابطون أنهم هم الموهوبون ، وأن المؤمنين هم المحرومون؛ فيشفقون عليهم تارة ويسخرون منهم تارة . وهم أحق بالرثاء والإشفاق . .
وعلى ذكر الموازين والقيم؛ وظن الذين كفروا بالذين آمنوا؛ وحقيقة مكان هؤلاء ووزنهم عند الله . . ينتقل السياق إلى قصة الاختلاف بين الناس في التصورات والعقائد ، والموازين والقيم؛ وينتهي بتقرير الأصل الذي ينبغي أن يرجع إليه المختلفون؛ وإلى الميزان الأخير الذي يحكم فيما هم فيه مختلفون :
{ كان الناس أمة واحدة؛ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين؛ وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه - وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم - فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه؛ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } . .
هذه هي القصة . . كان الناس أمة واحدة . على نهج واحد ، وتصور واحد . وقد تكون هذه إشارة إلى حالة المجموعة البشرية الأولى الصغيرة من أسرة آدم وحواء وذراريهم ، قبل اختلاف التصورات والاعتقادات . فالقرآن يقرر أن الناس من أصل واحد . وهم أبناء الأسرة الأولى : أسرة آدم وحواء . وقد شاء الله أن يجعل البشر جميعاً نتاج أسرة واحدة صغيرة ، ليقرر مبدأ الأسرة في حياتهم ، وليجعلها هي اللبنة الأولى . وقد غبر عليهم عهد كانوا فيه في مستوى واحد واتجاه واحد وتصور واحد في نطاق الأسرة الأولى . حتى نمت وتعددت وكثر أفرادها ، وتفرقوا في المكان ، وتطورت معايشهم؛ وبرزت فيهم الاستعدادات المكنونة المختلفة ، التي فطرهم الله عليها لحكمة يعلمها ، ويعلم ما وراءها من خير للحياة في التنوع في الاستعدادات والطاقات والاتجاهات .

عندئذ اختلفت التصورات وتباينت وجهات النظر ، وتعددت المناهج ، وتنوعت المعتقدات . . وعندئذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . .
{ وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } . .
وهنا تتبين تلك الحقيقة الكبرى . . إن من طبيعة الناس أن يختلفوا؛ لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم؛ يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض . . إن هذه الخلافة تحتاج إلى وظائف متنوعة ، واستعدادات شتى من ألوان متعددة؛ كي تتكامل جميعها وتتناسق ، وتؤدي دورها الكلي في الخلافة والعمارة ، وفق التصميم الكلي المقدر في علم الله . فلا بد إذن من تنوع في المواهب يقابل تنوع تلك الوظائف؛ ولا بد من اختلاف في الاستعدادات يقابل ذلك الاختلاف في الحاجات . . « ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك - ولذلك خلقهم » . .
هذا الاختلاف في الاستعدادات والوظائف ينشئ بدوره اختلافاً في التصورات والاهتمامات والمناهج والطرائق . . ولكن الله يحب أن تبقى هذه الاختلافات المطلوبة الواقعة داخل إطار واسع عريض يسعها جميعاً حين تصلح وتستقيم . . هذا الإطار هو إطار التصور الإيماني الصحيح . الذي ينفسح حتى يضم جوانحه على شتى الاستعدادات وشتى المواهب وشتى الطاقات؛ فلا يقتلها ولا يكبحها؛ ولكن ينظمها وينسقها ويدفعها في طريق الصلاح .
ومن ثم لم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه المختلفون؛ وحكم عدل يرجع إليه المختصمون؛ وقول فصل ينتهي عنده الجدل ، ويثوب الجميع منه إلى اليقين :
{ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتاب بالحق ، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } .
ولا بد أن نقف عند قوله تعالى { بالحق } . . فهو القول الفصل بأن الحق هو ما جاء به الكتاب؛ وأن هذا الحق قد أنزل ليكون هو الحكم العدل ، والقول الفصل ، فيما عداه من أقوال الناس وتصوراتهم ومناهجهم وقيمهم وموازينهم . . لا حق غيره . ولا حكم معه . ولا قول بعده . وبغير هذا الحق الواحد الذي لا يتعدد؛ وبغير تحكيمه في كل ما يختلف فيه الناس؛ وبغير الانتهاء إلى حكمه بلا مماحكة ولا اعتراض . . بغير هذا كله لا يستقيم أمر هذه الحياة؛ ولا ينتهي الناس من الخلاف والفرقة؛ ولا يقوم على الأرض السلام؛ ولا يدخل الناس في السلم بحال .
ولهذه الحقيقة قيمتها الكبرى في تحديد الجهة التي يتلقى منها الناس تصوراتهم وشرائعهم؛ والتي ينتهون إليها في كل ما يشجر بينهم من خلاف في شتى صور الخلاف . . إنها جهة واحدة لا تتعدد هي التي أنزلت هذا الكتاب بالحق؛ وهو مصدر واحد لا يتعدد هو هذا الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . .
وهو كتاب واحد في حقيقته ، جاء به الرسل جميعاً . فهو كتاب واحد في أصله ، وهي ملة واحدة في عمومها ، وهو تصور واحد في قاعدته : إله واحد ، ورب واحد ، ومعبود واحد ، ومشرّع واحد لبني الإنسان .

. ثم تختلف التفصيلات بعد ذلك وفق حاجات الأمم والأجيال؛ ووفق أطوار الحياة والارتباطات؛ حتى تكون الصورة الأخيرة التي جاء بها الإسلام ، وأطلق الحياة تنمو في محيطها الواسع الشامل بلا عوائق . بقيادة الله ومنهجه وشريعته الحية المتجددة في حدود ذلك المحيط الشامل الكبير .
وهذا الذي يقرره القرآن في أمر الكتاب هو النظرية الإسلامية الصحيحة في خط سير الأديان والعقائد . . كل نبي جاء بهذا الدين الواحد في أصله ، يقوم على القاعدة الأصيلة : قاعدة التوحيد المطلق . . ثم يقع الانحراف عقب كل رسالة ، وتتراكم الخرافات والأساطير ، حتى يبعد الناس نهائياً عن ذلك الأصل الكبير ، وهنا تجيء رسالة جديدة تجدد العقيدة الأصيلة ، وتنفي ما علق بها من الانحرافات ، وتراعي أحوال الأمة وأطوارها في التفصيلات . . وهذه النظرية أولى بالإتباع من نظريات الباحثين في تطور العقائد من غير المسلمين ، والتي كثيرا ما يتأثر بها باحثون مسلمون ، وهم لا يشعرون ، فيقيمون بحوثهم على أساس التطور في أصل العقيدة وقاعدة التصور ، كما يقول المستشرقون وأمثالهم من الباحثين الغربيين الجاهليين
وهذا الثبات في أصل التصور الإيماني ، هو الذي يتفق مع وظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق ، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، في كل زمان ، ومع كل رسول ، منذ أقدم الأزمان .
ولم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه الناس ، وأن يكون هناك قول فصل ينتهون إليه . ولم يكن بد كذلك أن يكون هذا الميزان من صنع مصدر آخر غير المصدر الإنساني ، وأن يكون هذا القول قول حاكم عدل لا يتأثر بالهوى الإنساني ، ولا يتأثر بالقصور الإنساني ، ولا يتأثر بالجهل الإنساني
وإقامة ذلك الميزان الثابت تقتضي علماً غير محدود . علم ما كان وما هو كائن وما سيكون . علمه كله لا مقيداً بقيود الزمان التي تفصل الوجود الواحد إلى ماض وحاضر ومستقبل ، وإلى مستيقن ومظنون ومجهول ، وإلى حاضر مشهود ومغيب مخبوء . . ولا مقيداً بقيود المكان التي تفصل الوجود الواحد إلى قريب وبعيد ، ومنظور ومحجوب ، ومحسوس وغير محسوس . . في حاجة إلى إله يعلم ما خلق ، ويعلم من خلق . . ويعلم ما يصلح وما يصلح حال الجميع .
وإقامة ذلك الميزان في حاجة كذلك إلى استعلاء على الحاجة ، واستعلاء على النقص ، واستعلاء على الفناء ، واستعلاء على الفوت ، واستعلاء على الطمع ، واستعلاء على الرغبة والرهبة . . واستعلاء على الكون كله بما فيه ومن فيه . . في حاجة إلى إله ، لا أرب له ، ولا هوى ، ولا لذة ، ولا ضعف في ذاته - سبحانه - ولا قصور
أما العقل البشري فبحسبه أن يواجه الأحوال المتطورة ، والظروف المتغيرة ، والحاجات المتجددة؛ ثم يوائم بينها وبين الإنسان في لحظة عابرة وظرف موقوت . على أن يكون هناك الميزان الثابت الذي يفيء إليه ، فيدرك خطأه وصوابه ، وغيه ورشاده ، وحقه وباطله ، من ذلك الميزان الثابت .

. وبهذا وحده تستقيم الحياة . ويطمئن الناس إلى أن الذي يسوسهم في النهاية إله
إن الكتاب لم ينزل بالحق ليمحو فوارق الاستعدادات والمواهب والطرائق والوسائل . إنما جاء ليحتكم الناس إليه . . وإليه وحده . . حين يختلفون . .
ومن شأن هذه الحقيقة أن تنشىء حقيقة أخرى تقوم على أساسها نظرة الإسلام التاريخية :
إن الإسلام يضع { الكتاب } الذي أنزله الله { بالحق } ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . . يضع هذا الكتاب قاعدة للحياة البشرية . ثم تمضي الحياة . فإما اتفقت مع هذه القاعدة ، وظلت قائمة عليها ، فهذا هو الحق . وإما خرجت عنها وقامت على قواعد أخرى ، فهذا هو الباطل . . هذا هو الباطل ولو ارتضاه الناس جميعاً . في فترة من فترات التاريخ . فالناس ليسوا هم الحكم في الحق والباطل . وليس الذي يقرره الناس هو الحق ، وليس الذي يقرره الناس هو الدين . إن نظرة الإسلام تقوم ابتداء على أساس أن فعل الناس لشيء ، وقولهم لشيء ، وإقامة حياتهم على شيء . . لا تحيل هذا الشيء حقاً إذا كان مخالفاً للكتاب؛ ولا تجعله أصلاً من أصول الدين؛ ولا تجعله التفسير الواقعي لهذا الدين؛ ولا تبرره لأن أجيالاً متعاقبة قامت عليه . .
وهذه الحقيقة ذات أهمية كبرى في عزل أصول الدين عما يدخله عليها الناس وفي التاريخ الإسلامي مثلاً وقع انحراف ، وظل ينمو وينمو . . فلا يقال : إن هذا الانحراف متى وقع وقامت عليه حياة الناس فهو إذن الصورة الواقعية للإسلام كلا إن الإسلام يظل بريئاً من هذا الواقع التاريخي . ويظل هذا الذي وقع خطأ وانحرافاً لا يصلح حجة ولا سابقة؛ ومن واجب من يريد استئناف حياة إسلامية أن يلغيه ويبطله ، وأن يعود إلى الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . .
ولقد جاء الكتاب . . ومع ذلك كان الهوى يغلب الناس من هناك ومن هناك؛ وكانت المطامع والرغائب والمخاوف والضلالات تبعد الناس عن قبول حكم الكتاب ، والرجوع إلى الحق الذي يردهم إليه :
{ وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات . . بغياً بينهم } . .
فالبغي . . بغي الحسد . وبغي الطمع . وبغي الحرص . وبغي الهوى . . هو الذي قاد الناس إلى المضي في الاختلاف على أصل التصور والمنهج؛ والمضي في التفرق واللجاج والعناد .
وهذه حقيقة . . فما يختلف اثنان على أصل الحق الواضح في هذا الكتاب ، القوي الصادع المشرق المنير . . ما يختلف اثنان على هذا الأصل إلا وفي نفس أحدهما بغي وهوى ، أو في نفسيهما جميعاً . . فأما حين يكون هناك إيمان فلا بد من التقاء واتفاق :
{ فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } . .
هداهم بما في نفوسهم من صفاء ، وبما في أرواحهم من تجرد ، وبما في قلوبهم من رغبة في الوصول إلى الحق .

وما أيسر الوصول حينئذ والاستقامة :
{ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } . .
هو هذا الصراط الذي يكشف عنه ذلك الكتاب . وهو هذا المنهج الذي يقوم على الحق ويستقيم على الحق . ولا تتقاذفه الأهواء والشهوات ، ولا تتلاعب به الرغاب والنزوات . .
والله يختار من عباده لهذا الصراط المستقيم من يشاء ، ممن يعلم منهم الاستعداد للهدى والاستقامة على الصراط؛ أولئك يدخلون في السلم ، وأولئك هم الأعلون ، ولو حسب الذين لا يزنون بميزان الله أنهم محرومون ، ولو سخروا منهم كما يسخر الكافرون من المؤمنين
وتنتهي هذه التوجيهات التي تستهدف إنشاء تصور إيماني كامل ناصع في قلوب الجماعة المسلمة . . تنتهي بالتوجه إلى المؤمنين الذين كانوا يعانون في واقعهم مشقة الاختلاف بينهم وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب ، وما كان يجره هذا الخلاف من حروب ومتاعب وويلات . . يتوجه إليهم بأن هذه هي سنة الله القديمة ، في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة ، وليكونوا لها أهلاً : أن يدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم؛ وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر؛ وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة؛ حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم ، لم تزعزعهم شدة ، ولم ترهبهم قوة ، ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتنة . . استحقوا نصر الله ، لأنهم يومئذ أمناء على دين الله ، مأمونون على ما ائتمنوا عليه ، صالحون لصيانته والذود عنه . واستحقوا الجنة لأن أرواحهم قد تحررت من الخوف وتحررت من الذل ، وتحررت من الحرص على الحياة أو على الدعة والرخاء . فهي عندئذ أقرب ما تكون إلى عالم الجنة ، وارفع ما تكون عن عالم الطين :
{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه : متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب } . .
هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى ، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها ، وإلى سنته - سبحانه - في تربية عباده المختارين ، الذين يكل إليهم رايته ، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته . وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم . .
وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة . . إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه . من الرسول الموصول بالله ، والمؤمنين الذين آمنوا بالله . إن سؤالهم : { متى نصر الله؟ } ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة . ولن تكون إلا محنة فوق الوصف ، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب ، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب : { متى نصر الله؟ } . .
وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة . . عندئذ تتم كلمة الله ، ويجيء النصر من الله : { ألا إن نصر الله قريب } . .
إنه مدخر لمن يستحقونه . ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية . الذين يثبتون على البأساء والضراء . الذين يصمدون للزلزلة .

الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة . الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله ، وعندما يشاء الله . وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها ، فهم يتطلعون فحسب إلى { نصر الله } ، لا إلى أي حل آخر ، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله . ولا نصر إلا من عند الله .
بهذا يدخل المؤمنون الجنة ، مستحقين لها ، جديرين بها ، بعد الجهاد والامتحان ، والصبر والثبات ، والتجرد لله وحده ، والشعور به وحده ، وإغفال كل ما سواه وكل من سواه .
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة ، ويرفعها على ذواتها ، ويطهرها في بوتقة الألم ، فيصفو عنصرها ويضيء ، ويهب العقيدة عمقاً وقوة وحيوية ، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها . وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجاً كما وقع ، وكما يقع في كل قضية حق ، يلقى أصحابها ما يلقون في أول الطريق ، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم ، وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين . .
على أنه - حتى إذا لم يقع هذا - يقع ما هو أعظم منه في حقيقته . يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها ، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة ، والحرص على الحياة نفسها في النهاية . . وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها ، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء . كسب يرجح جميع الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون ، والمؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته .
وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف . . وهذا هو الطريق . .
هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى ، وللجماعة المسلمة في كل جيل .
هذا هو الطريق : إيمان وجهاد . . ومحنة وابتلاء . وصبر وثبات . . وتوجه إلى الله وحده . ثم يجيء النصر . ثم يجيء النعيم . .

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

الظاهرة البارزة في هذا القطاع من السورة ، هي ظاهرة الأسئلة عن أحكام . . وهي كما قلنا عند الكلام عن قوله تعالى : يسألونك عن الأهلة . . في هذا الجزء . . ظاهرة توحي بيقظة العقيدة واستيلائها على نفوس الجماعة المسلمة إذ ذاك ، ورغبة المؤمنين في معرفة حكم العقيدة في كل شأن من شؤون حياتهم اليومية ، كي يطابقوا بين تصرفهم وحكم العقيدة . . وهذه آية المسلم : أن يتحرى حكم الإسلام في الصغيرة والكبيرة من شؤون حياته ، فلا يقدم على عمل حتى يستيقن من حكم الإسلام فيه . فما أقره الإسلام كان هو دستوره وقانونه؛ وما لم يقره كان ممنوعاً عليه حراماً . وهذه الحساسية هي آية الإيمان بهذه العقيدة .
كذلك كانت تثار بعض الأسئلة بسبب الحملات الكيدية التي يشنها اليهود والمنافقون ، والمشركون كذلك حول بعض التصرفات؛ مما يدفع بعض المسلمين ليسأل عنها ، إما ليستيقن من حقيقتها وحكمتها ، وإما تأثراً بتلك الحملات والدعايات المسمومة . فكان القرآن يتنزل فيها بالقول الفصل؛ فيثوب المسلمون فيها إلى اليقين؛ وتبطل الدسائس ، وتموت الفتن ، ويرتد كيد الكائدين إلى نحورهم . .
وهذا يصور جانباً من المعركة التي كان القرآن يخوضها تارة في نفوس المسلمين ، وتارة في صف المسلمين ، ضد الكائدين والمحاربين
وفي هذا الدرس جملة من هذه الأسئلة : سؤال عن الإنفاق . مواضعه ومقاديره ونوع المال الذي تكون فيه النفقة . وسؤال عن القتال في الشهر الحرام . وسؤال عن الخمر والميسر . وسؤال عن اليتامى . . وبواعث هذه الأسئلة تمثل الأسباب التي ذكرناها من قبل . وسنعرضها بالتفصيل عند استعراض النصوص .
{ يسألونك ماذا ينفقون؟ قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل . وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم } . .
لقد وردت آيات كثيرة في الإنفاق سابقة على هذا السؤال . فالإنفاق في مثل الظروف التي نشأ فيها الإسلام ضرورة لقيام الجماعة المسلمة في وجه تلك الصعاب والمشاق والحرب التي كانت تواجهها وتكتنفها؛ ثم هو ضرورة من ناحية أخرى : من ناحية التضامن والتكافل بين أفراد الجماعة؛ وإزالة الفوارق الشعورية بحيث لا يحس أحد إلا أنه عضو في ذلك الجسد ، لا يحتجن دونه شيئاً ، ولا يحتجز عنه شيئاً ، وهو أمر له قيمته الكبرى في قيام الجماعة شعورياً ، إذا كان سد الحاجة له قيمته في قيامها عملياً .
وهنا يسأل بعض المسلمين : { ماذا ينفقون؟ } . .
وهو سؤال عن نوع ما ينفقون . . فجاءهم الجواب يبين صفة الإنفاق؛ ويحدد كذلك أولى مصارفه وأقربها : { قل : ما أنفقتم من خير } . .
ولهذا التعبير إيحاءان : الأول إن الذي ينفق خير . . خير للمعطي وخير للآخذ وخير للجماعة وخير في ذاته فهو عمل طيب ، وتقدمة طيبة ، وشيء طيب . . والإيحاء الثاني أن يتحرى المنفق أفضل ما عنده فينفق منه؛ وخير ما لديه فيشارك الآخرين فيه .

فالإنفاق تطهير للقلب وتزكية للنفس ، ثم منفعة للآخرين وعون . وتحري الطيب والنزول عنه للآخرين هو الذي يحقق للقلب الطهارة ، وللنفس التزكية ، وللإيثار معناه الكريم .
على أن هذا الإيحاء ليس إلزاماً ، فالإلزام - كما ورد في آية أخرى - أن ينفق المنفق من الوسط ، لا أردأ ما عنده ولا أغلى ما عنده . ولكن الإيحاء هنا يعالج تطويع النفس لبذل ما هو خير ، والتحبيب فيه ، على طريقة القرآن الكريم في تربية النفوس ، وإعداد القلوب . .
أما طريق الإنفاق ومصرفه فيجيء بعد تقرير نوعه :
{ فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } . .
وهو يربط بين طوائف من الناس . بعضهم تربطه بالمنفق رابطة العصب ، وبعضهم رابطة الرحم ، وبعضهم رابطة الرحمة ، وبعضهم رابطة الإنسانية الكبرى في إطار العقيدة . . وكلهم يتجاوزون في الآية الواحدة : الوالدون . والأقربون . واليتامى والمساكين وابن السبيل . وكلهم يتضامنون في رباط التكافل الاجتماعي الوثيق بين بني الإنسان في إطار العقيدة المتين .
ولكن هذا الترتيب في الآية وفي الآيات الأخرى ، والذي تزيده بعض الأحاديث النبوية تحديداً ووضوحاً كالذي جاء في صحيح مسلم عن جابر « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل : ابدأ بنفسك فتصدق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا . . . » .
هذا الترتيب يشي بمنهج الإسلام الحكيم البسيط في تربية النفس الإنسانية وقيادتها . . إنه يأخذ الإنسان كما هو ، بفطرته وميوله الطبيعية واستعداداته؛ ثم يسير به من حيث هو كائن ، ومن حيث هو واقف يسير به خطوة خطوة ، صعداً في المرتقى العالي : على هينة وفي يسر؛ فيصعد وهو مستريح ، هو يلبي فطرته وميوله واستعداداته ، وهو ينمي الحياة معه ويرقيها . لا يحس بالجهد والرهق ، ولا يكبل بالسلاسل والأغلال ليجر في المرتقى ولا تكبت طاقاته وميوله الفطرية ليحلق ويرف ولا يعتسف به الطريق اعتسافاً ، ولا يطير به طيراناً من فوق الآكام إنما يصعدها به صعوداً هيناً ليناً وقدماه على الأرض وبصره معلق بالسماء ، وقلبه يتطلع إلى الأفق الأعلى ، وروحه موصولة بالله في علاه .
ولقد علم الله أن الإنسان يحب ذاته؛ فأمره أولاً بكفايتها قبل أن يأمره بالإنفاق على من سواها؛ وأباح له الطيبات من الرزق وحثه على تمتيع ذاته بها في غير ترف ولا مخيلة . فالصدقة لا تبدأ إلا بعد الكفاية . والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول : « خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول » . وعن جابر - رضي الله عنه - قال « جاء رجل بمثل بيضة من ذهب ، فقال : يا رسول الله . أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها . فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك فأعرض عنه . فأتاه من قبل ركنه الأيسر فقال مثل ذلك ، فأعرض عنه . ثم أتاه من خلفه فقال مثل ذلك ، فأخذها - صلى الله عليه وسلم - فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته . وقال : يأتي أحدكم بما يملك فيقول : هذه صدقة . ثم يقعد يتكفف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى » .

ولقد علم الله أن الإنسان يحب - أول ما يحب - أفراد أسرته الأقربين . . عياله . . ووالديه . فسار به خطوة في الإنفاق وراء ذاته إلى هؤلاء الذين يحبهم؛ ليعطيهم من ماله وهو راض؛ فيرضي ميله الفطري الذي لا ضير منه ، بل فيه حكمة وخير؛ وفي الوقت ذاته يعول ويكفل ناساً هم أقرباؤه الأدنون ، نعم ، ولكنهم فريق من الأمة ، إن لم يعطوا احتاجوا . وأخذهم من القريب أكرم لهم من أخذهم من البعيد . وفيه في الوقت ذاته إشاعة للحب والسلام في المحضن الأول؛ وتوثيق لروابط الأسرة التي شاء الله أن تكون اللبنة الأولى في بناء الإنسانية الكبير .
ولقد علم الله أن الإنسان يمد حبه وحميته بعد ذلك إلى أهله كافة - بدرجاتهم منه وصلتهم به - ولا ضير في هذا . فهم أفراد من جسم الأمة وأعضاء في المجتمع . فسار به خطوة أخرى في الإنفاق وراء أهله الأقربين ، تساير عواطفه وميوله الفطرية ، وتقضي حاجة هؤلاء ، وتقوّي أواصر الأسرة البعيدة ، وتضمن وحدة قوية من وحدات الجماعة المسلمة ، مترابطة العرى وثيقة الصلات .
وعندما يفيض ما في يده عن هؤلاء وهؤلاء - بعد ذاته - فإن الإسلام يأخذ بيده لينفق على طوائف من المجموع البشري ، يثيرون بضعفهم أو حرج موقفهم عاطفة النخوة وعاطفة الرحمة وعاطفة المشاركة . . وفي أولهم اليتامى الصغار الضعاف؛ ثم المساكين الذين لا يجدون ما ينفقون ، ولكنهم يسكتون فلا يسألون الناس كرامة وتجملاً؛ ثم أبناء السبيل الذين قد يكون لهم مال ، ولكنهم انقطعوا عنه ، وحالت بينهم وبينه الحوائل - وقد كانوا كثيرين في الجماعة المسلمة هاجروا من مكة تاركين وراءهم كل شيء - وهؤلاء جميعاً أعضاء في المجتمع؛ والإسلام يقود الواجدين إلى الإنفاق عليهم ، يقودهم بمشاعرهم الطيبة الطبيعية التي يستجيشها ويزكيها . فيبلغ إلى أهدافه كلها في هوادة ولين . يبلغ أولاً إلى تزكية نفوس المنفقين . فقد أنفقت طيبة بما أعطت ، راضية بما بذلت ، متجهة إلى الله في غير ضيق ولا تبرم . ويبلغ ثانياً إلى إعطاء هؤلاء المحتاجين وكفالتهم . ويبلغ ثالثاً إلى حشد النفوس كلها متضامنة متكافلة ، في غير ما تضرر ولا تبرم . . قيادة لطيفة مريحة بالغة ما تريد ، محققة كل الخير بلا اعتساف ولا افتعال ولا تشديد
ثم يربط هذا كله بالأفق الأعلى ، فيستجيش في القلب صلته بالله فيما يعطي ، وفيما يفعل ، وفيما يضمر من نية أو شعور :
{ وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم } .

.
عليم به ، وعليم بباعثه ، وعليم بالنية المصاحبة له . . وهو إذن لا يضيع . فهو في حساب الله الذي لا يضيع عنده شيء ، والذي لا يبخس الناس شيئاً ولا يظلمهم ، والذي لا يجوز عليه كذلك الرياء والتمويه . .
بهذا يصل بالقلوب إلى الأفق الأعلى ، وإلى درجة الصفاء والتجرد والخلوص لله . . في رفق وفي هوادة ، وفي غير معسفة ولا اصطناع . . وهذا هو المنهج التربوي الذي يضعه العليم الخبير . ويقيم عليه النظام الذي يأخذ بيد الإنسان ، كما هو ، ويبدأ به من حيث هو؛ ثم ينتهي به إلى آماد وآفاق لا تصل إليها البشرية قط بغير هذه الوسيلة ، ولم تبلغ إليها قط إلا حين سارت على هذا المنهج ، في هذا الطريق .
وعلى هذا المنهج ذاته ، يجري الأمر في فريضة الجهاد ، التي تأتي تالية في السياق للحديث عن الإنفاق :
{ كتب عليكم القتال وهو كره لكم . وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم؛ وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم . والله يعلم وأنتم لا تعلمون } . .
إن القتال في سبيل الله فريضة شاقة . ولكنها فريضة واجبة الأداء . واجبة الأداء لأن فيها خيراً كثيراً للفرد المسلم ، وللجماعة المسلمة ، وللبشرية كلها . وللحق والخير والصلاح .
والإسلام يحسب حساب الفطرة؛ فلا ينكر مشقة هذه الفريضة ، ولا يهون من أمرها . ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها . فالإسلام لا يماري في الفطرة ، ولا يصادمها ، ولا يحرم عليها المشاعر الفطرية التي ليس إلى إنكارها من سبيل . . ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر ، ويسلط عليه نوراً جديداً إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق؛ ولكن وراءه حكمة تهون مشقته ، وتسيغ مرارته ، وتحقق به خيراً مخبوءاً قد لا يراه النظر الإنساني القصير . . عندئذ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على الأمر؛ ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها . نافذة تهب منها ريح رخية عندما تحيط الكروب بالنفس وتشق عليها الأمور . . إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيراً . ووراء المحبوب شراً . إن العليم بالغايات البعيدة ، المطلع على العواقب المستورة ، هو الذي يعلم وحده . حيث لا يعلم الناس شيئاً من الحقيقة .
وعندما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية تهون المشقة ، وتتفتح منافذ الرجاء ، ويستروح القلب في الهاجرة ، ويجنح إلى الطاعة والأداء في يقين وفي رضاء .
هكذا يواجه الإسلام الفطرة ، لا منكراً عليها ما يطوف من المشاعر الطبيعية ، ولا مريداً لها على الأمر الصعب بمجرد التكليف . ولكن مربياً لها على الطاعة ، ومفسحاً لها في الرجاء . لتبذل الذي هو أدنى في سبيل الذي هو خير؛ ولترتفع على ذاتها متطوعة لا مجبرة ، ولتحس بالعطف الإلهي الذي يعرف مواضع ضعفها ، ويعترف بمشقة ما كتب عليها ، ويعذرها ويقدرها؛ ويحدو لها بالتسامي والتطلع والرجاء .

وهكذا يربي الإسلام الفطرة ، فلا تمل التكليف ، ولا تجزع عند الصدمة الأولى ، ولا تخور عند المشقة البادية ، ولا تخجل وتتهاوى عند انكشاف ضعفها أمام الشدة . ولكن تثبت وهي تعلم أن الله يعذرها ويمدها بعونه ويقويها . وتصمم على المضي في وجه المحنة ، فقد يكمن فيها الخير بعد الضر ، واليسر بعد العسر ، والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء . ولا تتهالك على ما تحب وتلتذ . فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة وقد يكون المكروه مختبئاً خلف المحبوب . وقد يكون الهلاك متربصاً وراء المطمع البراق .
إنه منهج في التربية عجيب . منهج عميق بسيط . منهج يعرف طريقه إلى مسارب النفس الإنسانية وحناياها ودروبها الكثيرة . بالحق وبالصدق . لا بالإيحاء الكاذب ، والتمويه الخادع . . فهو حق أن تكره النفس الإنسانية القاصرة الضعيفة أمراً ويكون فيه الخير كل الخير . وهو حق كذلك أن تحب النفس أمراً وتتهالك عليه . وفيه الشر كل الشر . وهو الحق كل الحق أن الله يعلم والناس لا يعلمون وماذا يعلم الناس من أمر العواقب؟ وماذا يعلم الناس مما وراء الستر المسدل؟ وماذا يعلم الناس من الحقائق التي لا تخضع للهوى والجهل والقصور؟
إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالماً آخر غير العالم المحدود الذي تبصره عيناه . وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون ، وتقلب الأمور ، وترتب العواقب على غير ما كان يظنه ويتمناه . وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيعاً في يد القدر ، يعمل ويرجو ويطمع ويخاف ، ولكن يرد الأمر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل ، وهو راض قرير . . إنه الدخول في السلم من بابه الواسع . . فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله . . وأن الخير في طاعة الله دون محاولة منها أن تجرب ربها وأن تطلب منه البرهان إن الإذعان الواثق والرجاء الهادئ والسعي المطمئن . . هي أبواب السلم الذي يدعو الله عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة . . وهو يقودهم إليه بهذا المنهج العجيب العميق البسيط . في يسر وفي هوادة وفي رخاء . يقودهم بهذا المنهج إلى السلم حتى وهو يكلفهم فريضة القتال . فالسلم الحقيقي هو سلم الروح والضمير حتى في ساحة القتال .
وإن هذا الإيحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني ، لا يقف عند حد القتال ، فالقتال ليس إلا مثلاً لما تكرهه النفس ، ويكون من ورائه الخير . . إن هذا الإيحاء ينطلق في حياة المؤمن كلها . ويلقي ظلاله على أحداث الحياة جميعها . . إن الإنسان لا يدري أين يكون الخير وأين يكون الشر . . لقد كان المؤمنون الذين خرجوا يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها ، ويرجون أن تكون الفئة التي وعدهم الله إياها هي فئة العير والتجارة .

لا فئة الحامية المقاتلة من قريش . ولكن الله جعل القافلة تفلت ، ولقاهم المقاتلة من قريش وكان النصر الذي دوّى في الجزيرة العربية ورفع راية الإسلام . فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الذي أراده الله للمسلمين وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم؟ والله يعلم والناس لا يعلمون
ولقد نسي فتى موسى ما كانا قد أعداه لطعامهما - وهو الحوت - فتسرب في البحر عند الصخرة . { فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً . قال : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً . . قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصاً . فوجدا عبداً من عبادنا . . . } وكان هذا هو الذي خرج له موسى . ولو لم يقع حادث الحوت ما ارتدا . ولفاتهما ما خرجا لأجله في الرحلة كلها
وكل إنسان - في تجاربه الخاصة - يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائها الخير العميم . ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم . وكم من مطلوب كاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته؛ ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذاً من الله أن فوت عليه هذا المطلوب في حينه . وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثاً يكاد يتقطع لفظاعتها . ثم ينظر بعد فترة فإذا هي تنشئ له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل .
إن الإنسان لا يعلم . والله وحده يعلم . فماذا على الإنسان لو يستسلم؟
إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية . لتؤمن وتسلم وتستسلم في أمر الغيب المخبوء ، بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف . .
ومن قيادة الجماعة إلى السلم كانت الفتوى التالية في أمر القتال في الشهر الحرام :
{ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه؟ قل : قتال فيه كبير . وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام؛ وإخراج أهله منه أكبر عند الله؛ والفتنة أكبر من القتل ، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ، ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة . وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم } . .
وقد جاء في روايات متعددة أنها نزلت في سرية عبد الله بن جحش - رضي الله عنه - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعثه مع ثمانية من المهاجرين ليس فيهم أحد من الأنصار ومعه كتاب مغلق وكلفه ألا يفتحه حتى يمضي ليلتين . فلما فتحه وجد به : « إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بطن نخلة - بين مكة والطائف - ترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم . . ولا تكرهن أحداً على المسير معك من أصحابك »

- وكان هذا قبل غزوة بدر الكبرى . فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال : سمعاً وطاعة . ثم قال لأصحابه : قد أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أمضي إلى بطن نخلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منها بخبر . وقد نهى أن استكره أحداً منكم . فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع ، فأنا ماض لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف أحد منهم . فسلك الطريق على الحجاز حتى إذا كان ببعض الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - رضي الله عنهما - فتخلفا عن رهط عبد الله بن جحش ليبحثا عن البعير ومضى الستة الباقون . حتى إذا كانت السرية ببطن نخلة مرت عير لقريش تحمل تجارة ، فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون ، فقتلت السرية عمراً ابن الحضرمي وأسرت اثنين وفر الرابع وغنمت العير . وكانت تحسب أنها في اليوم الأخير من جمادى الآخرة . فإذا هي في اليوم الأول من رجب - وقد دخلت الأشهر الحرم - التي تعظمها العرب . وقد عظمها الإسلام وأقر حرمتها . . فلما قدمت السرية بالعير والأسيرين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام » . فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً . فلما قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سقط في أيدي القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا؛ وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا . وقالت قريش : قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم ، وأخذوا فيه الأموال ، وأسروا فيه الرجال . وقالت اليهود تفاءلوا بذلك على محمد . . عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله . . عمرو عمرت الحرب . والحضرمي : حضرت الحرب . وواقد بن عبد الله : وقدت الحرب .
وانطلقت الدعاية المضللة على هذا النحو بشتى الأساليب الماكرة التي تروج في البيئة العربية ، وتظهر محمداً وأصحابه بمظهر المعتدي الذي يدوس مقدسات العرب ، وينكر مقدساته هو كذلك عند بروز المصلحة حتى نزلت هذه النصوص القرآنية . فقطعت كل قول . وفصلت في الموقف بالحق . فقبض الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأسيرين والغنيمة .
{ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه؟ قل قتال فيه كبير } . .
نزلت تقرر حرمة الشهر الحرام ، وتقرر أن القتال فيه كبيرة نعم ولكن :
{ وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله . والفتنة أكبر من القتل } . .
إن المسلمين لم يبدأوا القتال ، ولم يبدأوا العدوان .

إنما هم المشركون . هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله ، والكفر به وبالمسجد الحرام ، لقد صنعوا كل كبيرة لصد الناس عن سبيل الله . ولقد كفروا بالله وجعلوا الناس يكفرون . ولقد كفروا بالمسجد الحرام . انتهكوا حرمته؛ فآذوا المسلمين فيه ، وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر عاماً قبل الهجرة . وأخرجوا أهله منه وهو الحرم الذي جعله الله آمناً ، فلم يأخذوا بحرمته ولم يحترموا قدسيته . .
وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام . . وفتنة الناس عن دينهم أكبر عند الله من القتل . وقد ارتكب المشركون هاتين الكبيرتين فسقطت حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام وحرمة الشهر الحرام . ووضح موقف المسلمين في دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات؛ الذين يتخذون منها ستاراً حين يريدون ، وينتهكون قداستها حين يريدون وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم ، لأنهم عادون باغون أشرار ، لا يرقبون حرمة ، ولا يتحرجون أمام قداسة . وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة
لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل . وكان التلويح بحرمة الشهر الحرام مجرد ستار يحتمون خلفه ، لتشويه موقف الجماعة المسلمة ، وإظهارها بمظهر المعتدي . . وهم المعتدون ابتداء . وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء .
إن الإسلام منهج واقعي للحياة . لا يقوم على مثاليات خيالية جامدة في قوالب نظرية . إنه يواجه الحياة البشرية - كما هي - بعوائقها وجواذبها وملابساتها الواقعية . يواجهها ليقودها قيادة واقعية إلى السير وإلى الارتقاء في آن واحد . يواجهها بحلول عملية تكافىء واقعياتها ، ولا ترفرف في خيال حالم ، ورؤى مجنحة : لا تجدي على واقع الحياة شيئاً
هؤلاء قوم طغاة بغاة معتدون . لا يقيمون للمقدسات وزناً ، ولا يتحرجون أمام الحرمات ، ويدوسون كل ما تواضع المجتمع على احترامه من خلق ودين وعقيدة . يقفون دون الحق فيصدون الناس عنه ، ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء ، ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام . . ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام ، ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات ، ويرفعون أصواتهم : انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام
فكيف يواجههم الإسلام؟ يواجههم بحلول مثالية نظرية طائرة؟ إنه إن يفعل يجرد المسلمين الأخيار من السلاح ، بينما خصومهم البغاة الأشرار يستخدمون كل سلاح ، ولا يتورعون عن سلاح . . كلا إن الإسلام لا يصنع هذا ، لأنه يريد مواجهة الواقع ، لدفعه ورفعه . يريد أن يزيل البغي والشر ، وأن يقلم أظافر الباطل والضلال . ويريد أن يسلم الأرض للقوة الخيرة ، ويسلم القيادة للجماعة الطيبة . ومن ثم لا يجعل الحرمات متاريس يقف خلفها المفسدون البغاة الطغاة ليرموا الطيبين الصالحين البناة ، وهم في مأمن من رد الهجمات ومن نبل الرماة
إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات ، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه .

ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات ، ويؤذون الطيبين ، ويقتلون الصالحين ، ويفتنون المؤمنين ، ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان
وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد . . إنه يحرم الغيبة . . ولكن لا غيبة لفاسق . . فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه . وهو يحرم الجهر بالسوء من القول . ولكنه يستثني { إلا من ظلم } . . فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول ، لأنه حق . ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم الذي لا يستحقه
ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدنى إلا مستوى الأشرار البغاة . ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ووسائلهم الخسيسة . . إنه فقط يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيديهم ، وإلى قتالهم وقتلهم ، وإلى تطهير جو الحياة منهم . . هكذا جهرة وفي وضح النهار . .
وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المؤمنة المستقيمة ، وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات . . حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة كما أرادها الله .
هذا هو الإسلام . . صريحاً واضحاً قوياً دامغاً ، لا يلف ولا يدور؛ ولا يدع الفرصة كذلك لمن يريد أن يلف من حوله وأن يدور .
وهذا هو القرآن يقف المسلمين على أرض صلبة ، لا تتأرجح فيها أقدامهم ، وهم يمضون في سبيل الله ، لتطهير الأرض من الشر والفساد ، ولا يدع ضمائرهم قلقة متحرجة تأكلها الهواجس وتؤذيها الوساوس . . هذا شر وفساد وبغي وباطل . . فلا حرمة له إذن ، ولا يجوز أن يتترس بالحرمات ، ليضرب من ورائها الحرمات وعلى المسلمين أن يمضوا في طريقهم في يقين وثقة؛ في سلام مع ضمائرهم ، وفي سلام من الله . .
ويمضي السياق بعد بيان هذه الحقيقة ، وتمكين هذه القاعدة ، وإقرار قلوب المسلمين وأقدامهم . . يمضي فيكشف لهم عن عمق الشر في نفوس أعدائهم ، وأصالة العدوان في نيتهم وخطتهم :
{ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } . .
وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر؛ وعلى فتنة المسلمين عن دينهم؛ بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم . وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل . . إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين؛ ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم . فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل ، ويرهبه كل باغ ، ويكرهه كل مفسد . إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج ، ومن منهج قويم ، ومن نظام سليم . . إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد . ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون . ومن ثم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه ، ويردوهم كفاراً في صورة من صور الكفر الكثيرة .

ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم ، وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين ، وتتبع هذا المنهج ، وتعيش بهذا النظام .
وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته ، ولكن الهدف يظل ثابتاً . . أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا . وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحاً غيره ، وكلما كلت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها . . والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام ، وينبهها إلى الخطر؛ ويدعوها إلى الصبر على الكيد ، والصبر على الحرب ، وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة؛ والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر :
{ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر ، فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيه خالدون } . .
والحبوط مأخوذ من حبطت الناقة إذا رعت مرعى خبيثاً فانتفخت ثم نفقت . . والقرآن يعبر بهذا عن حبوط العمل ، فيتطابق المدلول الحسي والمدلول المعنوي . . يتطابق تضخم العمل الباطل وانتفاخ مظهره ، وهلاكه في النهاية وبواره . . مع تضخم حجم الناقة وانتفاخها ثم هلاكها في النهاية بهذا الانتفاخ
ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وعرفه؛ تحت مطارق الأذى والفتنة - مهما بلغت - هذا مصيره الذي قرره الله له . . حبوط العمل في الدنيا والآخرة . ثم ملازمة العذاب في النار خلوداً .
إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه ، لا يمكن أن يرتد عنه ارتداداً حقيقياً أبداً . إلا إذا فسد فساداً لا صلاح له . وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة . فالله رحيم . رخص للمسلم - حين يتجاوز العذاب طاقته - أن يقي نفسه بالتظاهر ، مع بقاء قلبه ثابتاً على الإسلام مطمئناً بالإيمان . ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي ، وفي الارتداد الحقيقي ، بحيث يموت وهو كافر . . والعياذ بالله . .
وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان . . ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه ، ويرتد عن إيمانه وإسلامه ، ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه . . وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله . والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به ، ويصبرون على الأذى في سبيله . فهو معوضهم خيراً : إحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة .
وهناك رحمته التي يرجوها من يؤذون في سبيله؛ لا ييئس منها مؤمن عامر القلب بالإيمان :
{ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله ، والله غفور رحيم } . .
ورجاء المؤمن في رحمة الله لا يخيبه الله أبداً . . ولقد سمع أولئك النفر المخلص من المؤمنين المهاجرين هذا الوعد الحق ، فجاهدوا وصبروا ، حتى حقق الله لهم وعده بالنصر أو الشهادة . وكلاهما خير . وكلاهما رحمة . وفازوا بمغفرة الله ورحمته : { والله غفور رحيم } . .
وهو هو طريق المؤمنين .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36