كتاب : في ظلال القرآن
المؤلف : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي

. هذا هو الحق الأول ، والحق الأصيل . . { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } بعد ذلك يقف السياق القرآني المشركين بالله ، أمام بأس الله ، في ذوات أنفسهم ، في أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم ، وهم عاجزون عن رده ، وهم لا يجدون كذلك إلهاً غير الله ، يرد عليهم أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم إن أخذها الله منهم :
{ قل : أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم ، من إله غير الله يأتيكم به؟ انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون } . .
وهو مشهد تصويري يجسم لهم عجزهم أمام بأس الله من جانب ، كما يصور لهم حقيقة ما يشركون به من دون الله في موقف الجد من جانب . . ولكن هذا المشهد يهزهم من الأعماق . . إن خالق الفطرة البشرية يعلم أنها تدرك ما في هذا المشهد التصويري من جد ، وما وراءه من حق . . أنها تدرك أن الله قادر على أن يفعل بها هذا . قادر على أن يأخذ الأسماع والأبصار ، وأن يختم على القلوب ، فلا تعود هذه الأجهزة تؤدي وظائفها . وأنه - إن فعل ذلك - فليس هناك من إله غيره يرد بأسه . .
وفي ظلال هذا المشهد ، الذي يبعث بالرجفة في القلوب والأوصال ، ويقرر في الوقت ذاته تفاهة عقيدة الشرك ، وضلال اتخاذ الأولياء من دون الله . . في ظلال هذا المشهد يعجب من أمر هؤلاء الذين يصرف لهم الآيات ، وينوعها ، ثم هم يميلون عنها كالبعير الذي يصدف أي يميل بخفه إلى الجانب الوحشي الخارجي من مرض يصيبه
{ انظر كيف نصرّف الآيات ، ثم هم يصدفون } . .
وهو تعجيب مصحوب بمشهد الصدوف المعروف عند العرب ، والذي يذكرهم بمشهد البعير المؤوف فيثير في النفس السخرية والاستخفاف والعزوف
وقبل أن يفيقوا من تأثير ذلك المشهد المتوقع يتلقاهم بتوقع جديد ، ليس على الله ببعيد ، يريهم فيه مصارعهم - وهم الظالمون : أي المشركون - وهو يرسم مصارع الظالمين حين يباغتهم عذاب الله أو يواجههم؛ وحين يأتيهم على غرة أو وهم مستيقظون :
{ قل : أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة ، هل يهلك إلا القوم الظالمون؟ } . .
إن عذاب الله يأتي في أية صورة وفي أية حالة . وسواء جاءهم العذاب بغتة وهم غارون لا يتوقعونه ، أو جاءهم جهرة وهم صاحون متأهبون . فإن الهلاك سيحل بالقوم الظالمين - أي المشركين كغالبية التعبير في القرآن الكريم - وسينالهم هم دون سواهم . ولن يدفعوه عن أنفسهم سواء جاءهم بغتة أو جهرة . فهم أضعف من أن يدفعوه ولو واجهوه ولن يدفعه عنهم أحد ممن يتولونهم من الشركاء . فكلهم من عبيدالله الضعفاء
وهو توقع يعرضه السياق عليهم ليتقوه ، ويتقوا أسبابه قبل أن يجيء . والله - سبحانه - يعلم أن عرض هذا التوقع في هذا المشهد يخاطب الكينونة البشرية خطاباً تعرفه في قرارتها ، وتعرف ما وراءه من حقيقة ترجف لها القلوب
وحين تبلغ الموجة أقصى مدها ، بعرض هذه المشاهد المتوالية ، والتعقيبات الموحية ، والإيقاعات التي تحمل الإنذار إلى أعماق السرائر .

. تختم ببيان وظيفة الرسل ، الذين تطالبهم أقوامهم بالخوارق ، وإن هم إلا مبلغين ، مبشرين ومنذرين ، ثم يكون بعد ذلك من أمر الناس ما يكون ، وفق ما يتخذونه لأنفسهم من مواقف يترتب عليها الجزاء الأخير :
{ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين . فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كذبوا بآياتنا يمسّهم العذاب بما كانوا يفسقون } . .
لقد كان هذا الدين يعد البشرية للرشد العقلي ، ويؤهلها لاستخدام هذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان استخداماً كاملاً في إدراك الحق الذي تنبث آياته في صفحات الوجود ، وفي أطوار الحياة ، وفي أسرار الخلق؛ والذي جاء هذا القرآن لكشفه وتجليته وتوجيه الإدراك البشري إليه . .
وكان هذا كله يقتضي الانتقال بالبشرية من عهد الخوارق الحسية؛ التي تلوي الأعناق وتجبر المنكرين على الإذعان ، أمام القهر بالخارقة المادية البادية للعيان إلى توجيه الإدراك البشري لملاحظة بدائع الصنعة الإلهية في الوجود كله . وهي في ذاتها خوارق معجزة . . ولكنها خوارق دائمة يقوم عليها كيان الوجود ، ويتألف منها قوامه وإلى مخاطبة هذا الإدراك بكتاب من عند الله باهر معجز في تعبيره ومعجز في منهجه ومعجز في الكيان الاجتماعي العضوي الحركي الذي يرمي إلى إنشائه على غير مثال . والذي لم يلحق به من بعده أي مثال
وقد اقتضى هذا الأمر تربية طويلة ، وتوجيهاً طويلاً ، حتى يألف الإدراك البشري هذا اللون من النقلة ، وهذا المدى من الرقي؛ وحتى يتجه الإنسان إلى قراءة سفر الوجود بإدراكه البشري ، في ظل التوجيه الرباني ، والضبط القرآني ، والتربية النبوية . . قراءة هذا السفر قراءة غيبية واقعية إيجابية في آن واحد ، بعيدة عن منهج التصورات الذهنية التجريدية التي كانت سائدة في قسم من الفلسفة الإغريقية واللاهوت المسيحي؛ وعن منهج التصورات الحسية المادية التي كانت سائدة في قسم من تلك الفلسفة وفي بعض الفلسفة الهندية والمصرية والبوذية والمجوسية كذلك ، مع الخروج من الحسية الساذجة التي كانت سائدة في العقائد الجاهلية العربية
وجانب من تلك التربية وهذا التوجيه يتمثل في بيان وظيفة الرسول ، وحقيقة دوره في الرسالة على النحو الذي تعرضه هاتان الآيتان - كما ستعرضه الموجة التالية في سياق السورة - فالرسول بشر ، يرسله الله ليبشر وينذر ، وهنا تنتهي وظيفته ، وتبدأ استجابة البشر ، ويمضي قدر الله ومشيئته من خلال هذه الاستجابة ، وينتهي الأمر بالجزاء الإلهي وفق هذه الاستجابة . . فمن آمن وعمل صالحاً يتمثل فيه الإيمان ، فلا خوف عليه مما سيأتي ولا هو يحزن على ما أسلف . فهناك المغفرة على ما أسلف ، والثواب على ما أصلح .

. ومن كذب بآيات الله التي جاءه بها الرسول ، والتي لفته إليها في صفحات هذا الوجود . يمسهم العذاب بسبب كفرهم ، الذي يعبر عنه هنا بقوله : { بما كانوا يفسقون } حيث يعبر القرآن غالباً عن الشرك والكفر بالظلم والفسق في معظم المواضع . .
تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض . وبيان محكم عن الرسول ووظيفته وحدود عمله في هذا الدين . . تصور يفرد الله سبحانه بالألوهية وخصائصها؛ ويرد إلى مشيئة الله وقدره الأمر كله ، ويجعل للإنسان - من خلال ذلك - حرية اتجاهه وتبعة هذا الاتجاه ، ويبين مصائر الطائعين لله والعصاة بياناً حاسماً؛ وينفي كل الأساطير والتصورات الغامضة عن طبيعة الرسول وعمله ، مما كان سائداً في الجاهليات . . وبذلك ينقل البشرية إلى عهد الرشد العقلي؛ دون أن يضرب بها في تيه الفلسفات الذهنية ، والجدل اللاهوتي ، الذي استنفذ طاقة الإدراك البشري أجيالاً بعد أجيال

قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)

هذه الموجة بقية في مواجهة المشركين بحقيقة الرسالة ، وطبيعة الرسول؛ بمناسبة طلبهم للخوارق - التي ذكرنا نماذج منها في الفقرة السابقة في هذا السياق - وبقية في تصحيح التصورات الجاهلية - والبشرية بصفة عامة - عن الرسالات والرسل؛ بعدما عبثت بهذه التصورات جاهليات العرب وغيرهم من الأمم حولهم؛ فابتعدت بها عن حقيقة الرسالة وحقيقة النبوة ، وحقيقة الوحي ، وحقيقة الرسول؛ ودخلت بها في خرافات وأساطير وأوهام وأضاليل؛ حتى اختلطت النبوة بالسحر والكهانة ، واختلط الوحي بالجن والجنون أيضاً وأصبح يطلب من النبي أن يتنبأ بالغيب؛ وأن يأتي بالخوارق؛ وأن يصنع ما عهد الناس أن يصنعه صاحب الجن والساحر . . ثم جاءت العقيدة الإسلامية لتقذف بالحق على الباطل فتدمغه فإذا هو زاهق ، ولترد إلى التصور الإيماني وضوحه وبساطته وصدقه وواقعيته ، ولتخلص صورة النبوة وصورة النبي من تلك الخرافات والأساطير والأوهام والأضاليل ، التي شاعت في الجاهليات كلها . وكان أقربها إلى مشركي العرب جاهليات أهل الكتاب من اليهود والنصارى على اختلاف الملل والنحل بينهم ، وكلها تشترك في تشويه صورة النبوة وصورة النبي أقبح تشويه
وبعد بيان حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول ، وتقديمها للناس مبرأة من كل ما علق بصورة النبوة وصورة النبي من أوهام وأضاليل . يقدم القرآن عقيدته للناس مجردة من كل إغراء خارج عن طبيعتها ، ومن كل زينة زائدة عن حقيقتها . . فالرسول الذي يقدمها للناس بشر ، لا يملك خزائن الله ، ولا يعلم الغيب ، ولا يقول لهم : إني ملك . . وهو لا يتلقى إلا من ربه ، ولا يتبع إلا ما يوحى إليه منه . والذين يقبلون دعوته هم أكرم البشر عند الله ، وعليه أن يلزمهم ، وأن يهش لهم ، وأن يبلغهم ما كتبه الله لهم على نفسه من الرحمة والمغفرة . كما أن عليه إنذار الذين تتحرك ضمائرهم من خشية الآخرة؛ ليصلوا إلى مرتبة التقوى ، وفي هذا وذلك تنحصر وظيفته ، كما أنه في « البشرية » وفي « تلقي الوحي » تنحصر حقيقته . فتصح في التصورات حقيقته ووظيفته جميعاً . . ثم إنه بهذا التصحيح ، وبهذا الإنذار ، تستبين سبيل المجرمين ، عند مفرق الطريق ، ويتضح الحق والباطل ، وينكشف الغموض والوهم حول طبيعة الرسول وحول حقيقة الرسالة ، كما ينكشف الغموض حول حقيقة الهدى وحقيقة الضلال ، وتتم المفاصلة بين المؤمنين وغير المؤمنين في نور وفي يقين .
وفي ثنايا الإفصاح عن هذه الحقائق يعرض السياق جوانب من حقيقة الألوهية ، وعلاقة الرسول بها ، وعلاقة الناس جميعاً - الطائعين منهم والعصاة - ويتحدث عن طبيعة الهدى وطبيعة الضلال عن هذه الحقيقة . فالهدى إليها بصر والضلال عنها عمى . والله كتب على نفسه الرحمة متمثلة في التوبة على عباده والمغفرة لما يرتكبونه من المعاصي في جهالة متى تأبوا منها وأصلحوا بعدها .

وهو يريد أن تستبين سبيل المجرمين ، فيؤمن من يؤمن عن بينة ، ويضل من يضل عن بينة ، ويتخذ الناس مواقفهم في وضوح لا تغشيه الأوهام والظنون . .
{ قل : لا أقول لكم : عندي خزائن الله ، ولا أعلم الغيب ، ولا أقول لكم : إني ملك . إن أتبع إلا ما يوحى إليّ قل : هل يستوي الأعمى والبصير؟ أفلا تتفكرون } . .
لقد كان المعاندون من قريش يطلبون أن يأتيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بآية من الخوارق يصدقونه بها - وهم كانوا كما أسلفنا يعلمون صدقه ولا يشكون فيه - وتارة كانوا يطلبون أن تكون هذه الآية تحويل الصفا والمروة ذهباً وتارة تكون إبعادهما عن مكة ليصبح مكانهما خصباً مخضراً بالزروع والثمار وتارة تكون إنباءهم بما سيقع لهم من أحداث مغيبة وتارة تكون طلب إنزال ملك عليه وتارة تكون طلب كتاب مكتوب في قرطاس يرونه يتنزل عليه من السماء . . إلى آخر هذه المطالب التي يوارون وراءها تعنتهم وعنادهم
ولكن هذه المطالب كلها إنما كانوا يصوغون فكرتها من تلك الأوهام والأساطير التي أحاطت بصورة النبوة وصورة النبي في الجاهليات من حولهم ، وأقربها إليهم أوهام أهل الكتاب وأساطيرهم حول النبوة ، بعدما انحرفوا عما جاءتهم به رسلهم من الحق الواضح في هذه الأمور . .
ولقد شاعت في الجاهليات المتنوعة صور من « النبوءات » الزائفة ، يدعيها « متنبئون » ويصدقها مخدوعون . . ومن بينها نبوءات السحر والكهانة والتنجيم والجنون حيث يدعي المتنبئون قدرتهم على العلم بالغيب ، والاتصال بالجن والأرواح ، وتسخير نواميس الطبيعة بالرقى والتعاويذ ، أو بالدعوات والصلوات ، أو بغيرها من الوسائل والأساليب . وتتفق كلها في الوهم والضلالة ، وتختلف بعد ذلك في النوع والشكل والمراسم والأساليب .
« فنبوءة السحر يغلب عليها أنها موكلة بالأرواح الخبيثة تسخرها للاطلاع على المجهول أو السيطرة على الحوادث والأشياء . ونبوءة الكهانة يغلب عليها أنها موكلة » بالأرباب « لا تطيع الكاهن ، ولكنها تلبي دعواته وصلواته وتفتح لها مغالق المجهول في يقظته أو منامه ، وترشده بالعلامات والأحلام ، ولا تلبي سائر الدعوات والصلوات ولكنهما - نبوءة السحر ونبوءة الكهانة - تخالفان نبوة الجذب والجنون المقدس . لأن الساحر والكاهن يدريان بما يطلبان ، ويريدان قصداً ما يطلبانه بالعزائم والصلوات ، ولكن المصاب بالجذب أو الجنون المقدس مغلوب على أمره ، ينطلق لسانه بالعبارات المبهمة وهو لا يعنيها ، ولعله لايعيها . ويكثر بين الأمم التي تشيع فيها نبوة الجذب أن يكون مع المجذوب مفسر يدعي العلم بمغزى كلامه ، ولحن رموزه وإشاراته . وقد كانوا في اليونان يسمون المجذوب » مانتي « » Manti « ويسمون المفسر : » بروفيت « » Prophet « أى المتكلم بالنيابة عن غيره . ومن هذه الكلمة نقل الأوربيون كلمة النبوة بجميع معانيها . وقلما يتفق الكهنة والمجذوبون ، إلا أن يكون الكاهن متولياً للتفسير والتعبير عن مقاصد المجذوب ، ومضامين رموزه وإشاراته .

ويحدث في أكثر الأحيان أن يختلفا ويتنازعا لأنهما مختلفان بوظيفتهما الاجتماعية مختلفان بطبيعة النشأة والبيئة . فالمجذوب ثائر لا يتقيد بالمراسم والأوضاع المصطلح عليها ، والكاهن محافظ يتلقى علمه الموروث في أكثر الأحيان من آبائه وأجداده . وتتوقف الكهانة على البيئة التي تنشأ فيها الهياكل والصوامع المقصودة في الأرجاء القريبة والبعيدة؛ ولا يتوقف الجذب على هذه البيئة ، لأنه قد يعتري صاحبه في البرية ، كما يعتريه في الحاضر المقصود من أطراف البلاد « .
» وقد كثر عدد الأنبياء في قبائل بني إسرائيل كثرة يفهم منها أنهم كانوا في أزمنتهم المتعاقبة يشبهون في العصور الحديثة أصحاب الأذكار ، ودراويش الطرق الصوفية ، لأنهم جاوزوا المئات في بعض العهود ، واصطنعوا من الرياضة في جماعاتهم ما يصطنعه هؤلاء الدراويش من التوسل إلى حالة الجذب تارة بتعذيب الجسد ، وتارة بالاستماع إلى آلات الطرب .
« جاء في كتاب صموئيل الأول :
أن شاول أرسل لأخذ داود رسلاً . . » فرأوا جماعة الأنبياء يتنبأون ، وشاول واقف بينهم رئيساً عليهم . فهبط روح الله على رسل شاول ، فتنبأوا هم أيضاً . وأرسل غيرهم فتنبأ هؤلاء . . . فخلع هو أيضاً ثيابه ، وتنبأ هو أيضاً أمام صموئيل ، وانتزع عارياً ذلك النهار كله وكل الليل « . .
» وجاء في كتاب صموئيل كذلك :
« . . . أنك تصادف زمرة من الأنبياء نازلين من الأكمة ، وأمامهم رباب ودف وناي وعود ، وهم يتنبأون ، فيحل عليهم روح الرب ، فتتنبأ معهم ، وتتحول إلى رجل آخر .
» وكانت النبوة صناعة وراثية يتلقاها الأبناء من الآباء كما جاء في سفر الملوك الثاني : « إذ قال بنو الأنبياء يا ليشع : هو ذا الموضع الذي نحن مقيمون فيه أمامك قد ضاق علينا ، فلنذهب إلى الأردن » .
« وكانت لهم خدمة تلحق بالجيش في بعض المواضع ، كما جاء في سفر الأيام الأول . حيث قيل : إن داود ورؤساء الجيش أفرزوا للخدمة بني أساف وغيرهم من المتنبئين بالعيدان والرباب والصنوج » . . .
وهكذا حفلت الجاهليات - ومنها الجاهليات التي انحرفت عن التصور الصحيح الذي جاءت به الرسالات السماوية - بمثل هذه التصورات الباطلة عن طبيعة النبوة وطبيعة النبي . وكان الناس ينتظرون ممن يدعي النبوة مثل هذه الأمور؛ ويطالبونه بالتنبؤ بالغيب تارة؛ وبالتأثير في النواميس الكونية عن طريق الكهانة أو طريق السحر تارة . . ومن هذا المعين كانت اقتراحات المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولتصحيح هذه الأوهام كلها جاءت التقريرات المكررة في القرآن الكريم عن طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول . . ومنها هذا التقرير :
{ قل : لا أقول لكم عندي خزائن الله ، ولا أعلم الغيب ، ولا أقول لكم : إني ملك . إن أتبع إلا ما يوحى إليِّ .

قل : هل يستوي الأعمى والبصير؟ أفلا تتفكرون؟ } . .
إنه - صلى الله عليه وسلم - يؤمر من ربه أن يقدم لهم نفسه بشراً مجرداً من كل الأوهام التي سادت الجاهليات عن طبيعة النبي والنبوة . وأن يقدم لهم كذلك هذه العقيدة بذاتها مجردة من كل إغراء . . لا ثراء . ولا ادعاء . . إنها عقيدة يحملها رسول ، لا يملك إلا هداية الله ، تنير له الطريق
ولا يتبع إلا وحي الله يعلمه ما لم يكن يعلم . . إنه لا يقعد على خزائن الله ، ليغدق منها على من يتبعه ، ولا يملك مفاتح الغيب ليدل أتباعه على ما هو كائن؛ ولا هو ملك كما يطلبون أن ينزل الله ملكاً . . إنما هو بشر رسول؛ وإنما هي هذه العقيدة وحدها ، في صورتها الناصعة الواضحة البسيطة . .
إنها العقيدة هتاف هذه الفطرة ، وقوام هذه الحياة ودليل الطريق إلى الآخرة ، وإلى الله . فهي مستغنية بذاتها عن كل زخرف . . من أرادها لذاتها فهو بها حقيق ، وهي عنده قيمة أكبر من كل قيمة . ومن أرادها سلعة في سوق المنافع ، فهو لا يدرك طبيعتها ، ولا يعرف قيمتها ، وهي لا تمنحه زاداً ، ولا غناء . .
لذلك كله يؤمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقدمها للناس هكذا ، عاطلة من كل زخرف ، لأنها غنية عن كل زخرف؛ وليعرف من يفيئون إلى ظلها أنهم لا يفيئون إلى خزائن مال ، ولا إلى وجاهة دنيا ، ولا إلى تميز على الناس بغير التقوى . إنما يفيئون إلى هداية الله وهي أكرم وأغنى .
{ قل : لا أقول لكم عندي خزائن الله ، ولا أعلم الغيب ، ولا أقول لكم : إني ملك إنْ أتبع إلا ما يوحى إليّ } . .
ثم ليعلموا أنهم حينئذ إنما يفيئون إلى النور والبصيرة ، ويخرجون من الظلام والعماء :
{ قل : هل يستوي الأعمى والبصير؟ أفلا تتفكرون؟ } . .
ثم . . إن اتباع الوحي وحده هداية وبصر ، والمتروك بغير هذا الهادي متروك أعمى . . هذا ما تقرره هذه الآية في وضوح وصرامة . . فما شأن العقل البشري في هذا المجال؟
سؤال جوابه في التصور الإسلامي واضح بسيط . . إن هذا العقل الذي وهبه الله للإنسان قادر على تلقي ذلك الوحي ، وإدراك مدلولاته . . وهذه وظيفته . . ثم هذه هي فرصته في النور والهداية؛ وفي الانضباط بهذا الضابط الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
فأما حين يستقل هذا العقل البشري بنفسه بعيداً عن الوحي ، فإنه يتعرض حينئذ للضلال والانحراف ، وسوء الرؤية ، ونقص الرؤية ، وسوء التقدير ، وسوء التدبير .
يتعرض لهذا كله بسبب طبيعة تركيبه ذاتها في رؤية الوجود أجزاء لا كلا واحداً . تجربة بعد تجربة ، وحادثة بعد حادثة ، وصورة بعد صورة . . حيث يتعذر عليه أن يرى الوجود جملة ، ليقيم على أساس هذه الرؤية الكاملة أحكاماً ، ويضع على أساسها نظاماً ، ملحوظاً فيه الشمول والتوازن .

. ومن ثم يظل - حين ينعزل عن منهج الله وهداه - يرتاد التجارب ، ويغير الأحكام ، ويبدل النظام ، ويضطرب بين الفعل وردود الفعل ، ويتخبط من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال . . وهو في ذلك كله يحطم كائنات بشرية عزيزة ، وأجهزة إنسانية كريمة . . ولو اتبع الوحي لكفى البشر هذا الشر كله؛ وجعل التجارب والتقلبات في « الأشياء » وفي « المادة » وفي « الأجهزة » وفي « الآلات » . . وهي مجاله الطبيعي الذي يمكن أن يستقل فيه . والخسارة في النهاية مواد وأشياء . لا أنفس وأرواح
ويتعرض لهذا كله - بعد طبيعة تركيبه - بسبب ما ركب في الكيان البشري من شهوات وأهواء ونزعات ، لا بد لها من ضابط ، يضمن أن تؤدي وظائفها في استمرار حياة البشرية وارتقائها ، ولا تتعدى هذا الحد المأمون فتؤدي إلى تدمير الحياة أو انتكاسها وهذا الضابط لا يمكن أن يكون هو العقل البشري وحده؛ فلا بد لهذا العقل الذي يضطرب تحت ضغط الأهواء والشهوات والنزعات - وهي شتى - من ضابط آخر يضبطه هو ذاته؛ ويحرسه بعد أن يضبطه من الخلل أيضاً ، ويرجع إليه هذا العقل بكل تجربة ، وكل حكم - في مجال الحياة البشرية - ليقّوم به تجربته وحكمه ، وليضبط به اتجاهه وحركته .
والذين يزعمون للعقل البشري درجة من الأصالة في الصواب كدرجة الوحي ، باعتبار أن كليهما - العقل والوحي - من صنع الله فلا بد أن يتطابقا . . هؤلاء إنما يستندون إلى تقريرات عن قيمة العقل قال بها بعض الفلاسفة من البشر ، ولم يقل بها الله سبحانه
والذين يرون أن هذا العقل يغني عن الوحي - حتى عند فرد واحد من البشر مهما بلغ عقله من الكبر - إنما يقولون في هذه القضية غير ما يقول الله . . فالله قد جعل حجته على الناس هي الوحي والرسالة ، ولم يجعل هذه الحجة هي عقلهم البشري ، ولا حتى فطرتهم التي فطرهم الله عليها من معرفة ربها الواحد والإيمان به . لأن الله سبحانه يعلم أن العقل وحده يضل ، وأن الفطرة وحدها تنحرف . وأنه لا عاصم لعقل ولا لفطرة ، إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي ، وهو النور والبصيرة .
والذين يزعمون أن الفلسفة تغني العقل عن الدين؛ أو أن العلم - وهو من منتجات العقل - يغني البشرية عن هدى الله؛ إنما يقولون قولاً لا سند له من الحقيقة ولا من الواقع كذلك . . فالواقع يشهد أن الحياة البشرية التي قامت أنظمتها على المذاهب الفلسفية أو على العلم ، هي أبأس حياة يشقى فيها « الإنسان » مهما فتحت عليه أبواب كل شيء؛ ومهما تضاعف الإنتاج والإيراد؛ ومهما تيسرت أسباب الحياة ووسائل الراحة فيها على أوسع نطاق . . وليس مقابل هذا أن تقوم الحياة على الجهل والتلقائية فالذين يضعون المسألة هكذا مغرضون فإن الإسلام منهج حياة يكفل للعقل البشري الضمانات التي تقيه عيوب تركيبه الذاتي ، وعيوب الضغوط التي تقع عليه من الأهواء والشهوات والنزعات .

ثم يقيم له الأسس ، ويضع له القواعد ، التي تكفل استقامته في انطلاقه للعلم والمعرفة والتجربة؛ كما تكفل له استقامة الحياة الواقعية التي يعيش في ظلها - وفق شريعة الله - فلا يضغط عليه الواقع لينحرف بتصوراته ومناهجه كذلك
والعقل بمصاحبة وحي الله وهداه بصير ، وبترك وحي الله وهداه أعمى ، واقتران الحديث عن تلقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الوحي وحده ، بالإشارة إلى العمى والبصر ، بالسؤال التحضيضي على التفكير :
{ إن أتبع إلا ما يوحى إليّ قل : هل يستوي الأعمى والبصير : أفلا تتفكرون؟ } . .
اقتران الإشارات وتتابعها على هذا النحو في السياق ، أمر ذو دلالة في التعبير القرآني . . فالتفكر مطلوب ، والحض عليه منهج قرآني؛ ولكنه التفكر المضبوط بضابط الوحي ، الذي يمضي معه مبصراً في النور؛ لا مطلق التفكر الذي يخبط في الظلام أعمى ، بلا دليل ولا هدى ولا كتاب منير . .
والعقل البشري حين يتحرك في إطار الوحي لا يتحرك في مجال ضيق ، إنما يتحرك في مجال واسع جداً . . يتحرك في مجال هو هذا الوجود كله ، الذي يحتوي عالم الشهادة وعالم الغيب أيضاً؛ كما يحتوي أغوار النفس ومجالي الأحداث ، ومجالات الحياة جميعاً . . فالوحي لا يكف العقل عن شيء إلا عن انحراف المنهج ، وسوء الرؤية والتواء الأهواء والشهوات وبعد ذلك يدفعه إلى الحركة والنشاط دفعاً . فهذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان . . العقل . . إنما وهبها له لتعمل وتنشط في حراسة الوحي والهدى الرباني . . فلا تضل إذن ولا تطغى . .
{ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون . ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ما عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء . فتطردهم فتكون من الظالمين . وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا : أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين؟ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل : سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة : أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ، ثم تاب من بعده وأصلح ، فأنه غفور رحيم } . .
إنها عزة هذه العقيدة ، واستعلاؤها على قيم الأرض الزائفة ، وتخلصها من الاعتبارات البشرية الصغيرة . .
لقد أُمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقدمها للناس دون زخرف ولا طلاء؛ ودون إطماع في شيء من قيم الأرض ولا إغراء . . كذلك أمر أن يوجه عنايته إلى من يرجى منهم الانتفاع بالدعوة ، وأن يؤوي إليه الذين يتلقونها مخلصين؛ ويتجهون بقلوبهم إلى الله وحده يريدون وجهه؛ وألا يقيم وزناً بعد ذلك لشيء من قيم المجتمع الجاهلي الزائفة؛ ولا لشيء من اعتبارات البشر الصغيرة :
{ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ، لعلهم يتقون } .

.
أنذر به هؤلاء الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ، حالة أن ليس من دونه ولي ينصرهم ولا شفيع يخلصهم . ذلك أنه ما من شفيع يشفع عند الله إلا بإذنه ، وهو لا يشفع يومئذ - بعد الإذن - إلا لمن ارتضى الله أن يتشفع عند الله فيهم . . فهؤلاء الذين تستشعر قلوبهم خوف ذلك اليوم الذي ليس فيه - من دون الله - ولي ولا شفيع ، أحق بالإنذار ، وأسمعُ له ، وأكثر انتفاعاً به . . لعلهم أن يتوقوا في حياتهم الدنيا وما يعرضهم لعذاب الله في الآخرة . فالإنذار بيان كاشف كما أنه مؤثر موحٍ . بيان يكشف لهم ما يتقونه ويحذرونه ، ومؤثر يدفع قلوبهم للتوقي والحذر؛ فلا يقعون فيما نهوا عنه بعدما تبين لهم :
{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } . .
لا تطرد هؤلاء الذين أخلصوا نفوسهم لله؛ فاتجهوا لعبادته ودعائه في الصباح والمساء؛ يريدون وجهه سبحانه ولا يبتغون إلا وجهه ورضاه . . وهي صورة للتجرد ، والحب ، والأدب . . فإن الواحد منهم لا يتوجه إلا إلى الله وحده بالعبادة والدعاء . وهو لا يبغي وجه الله ، إلا إذا تجرد . وهو لا يبغي وجه الله وحده حتى يكون قلبه قد أحب . وهو لا يفرد الله - سبحانه - بالدعاء والعبادة ابتغاء وجهه إلا ويكون قد تعلم الأدب ، وصار ربانياً يعيش لله وبالله . .
ولقد كان أصل القصة أن جماعة من « أشراف » العرب ، أنفوا أن يستجيبوا إلى دعوة الإسلام؛ لأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - يؤوي إليه الفقراء الضعاف ، من أمثال صهيب وبلال وعمار وخباب وسلمان وابن مسعود . . ومن إليهم . . وعليهم جباب تفوح منها رائحة العرق لفقرهم؛ ومكانتهم الاجتماعية لا تؤهلهم لأن يجلس معهم سادات قريش في مجلس واحد فطلب هؤلاء الكبراء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطردهم عنه . . فأبى . . فاقترحوا أن يخصص لهم مجلساً ويخصص للأشراف مجلساً آخر ، لا يكون فيه هؤلاء الفقراء الضعاف ، كي يظل للسادة امتيازهم واختصاصهم ومهابتهم في المجتمع الجاهلي فهمّ - صلى الله عليه وسلم - رغبة في إسلامهم أن يستجيب لهم في هذه . فجاءه أمر ربه :
{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } . .
روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص ، قال كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة نفر . فقال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - : اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا قال : وكنت أنا وابن مسعود ، ورجل من هذيل ، وبلال ، ورجلان لست أسميهما . . فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع .

فحدث نفسه . فأنزل الله عز وجل : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } . .
ولقد تقوّل أولئك الكبراء على هؤلاء الضعاف ، الذين يخصهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمجلسه وبعنايته؛ وطعنوا فيهم وعابوا ما هم فيه من فقر وضعف وما يسببه وجودهم في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نفور السادة وعدم إقبالهم على الإسلام . . فقضى الله سبحانه في هذه الدعوى بقضائه الفصل؛ ورد دعواهم من أساسها ودحضها دحضاً :
{ ما عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء ، فتطردهم فتكون من الظالمين } . .
فإن حسابهم على أنفسهم ، وحسابك على نفسك . وكونهم فقراء مقدر عليهم في الرزق هذا حسابهم عند الله ، لا شأن لك به . كذلك غناك وفقرك هو حسابك عند الله لا شأن لهم به . ولا دخل لهذه القيم في قضية الإيمان والمنزلة فيه . فإن أنت طردتهم من مجلسك بحساب الفقر والغنى كنت لا تزن بميزان الله ، ولا تقوّم بقيمه . . فكنت من الظالمين . . وحاشا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون من الظالمين
وبقي فقراء الجيوب أغنياء القلوب في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبقي ضعاف الجاه الأقوياء بالله في مكانهم الذي يؤهلهم له إيمانهم؛ والذي يستحقونه بدعائهم لله لا يبتغون إلا وجهه . واستقرت موازين الإسلام وقيمه على المنهج الذي قرره الله . .
عندئذ نفر المستكبرون المستنكفون يقولون : كيف يمكن أن يختص الله من بيننا بالخير هؤلاء الضعاف الفقراء؟ إنه لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقونا إليه؛ ولهدانا الله به قبل أن يهديهم فليس من المعقول أن يكون هؤلاء الضعاف الفقراء هم الذين يمنُّ الله عليهم من بيننا ويتركنا ونحن أصحاب المقام والجاه
وكانت هذه هي الفتنة التي قدرها الله لهؤلاء المتعالين بالمال والنسب؛ والذين لم يدركوا طبيعة هذا الدين؛ وطبيعة الدنيا الجديدة التي يطلع بها على البشرية ، مشرقة الآفاق ، مصعدة بهذه البشرية إلى تلك القمة السامقة؛ التي كانت يومذاك غريبة على العرب وعلى الدنيا كلها؛ وما تزال غريبة في ما يسمونه الديمقراطيات على اختلاف أشكالها وأسمائها
{ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا : أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا؟ } . .
ويرد السياق القرآني على هذا الاستفهام الاستنكاري الذي يطلقه الكبراء :
{ أليس الله بأعلم بالشاكرين } ؟
هذا الرد الحافل بالإيحاءات والإيماءات :
إذ يقرر ابتداء أن الهدى جزاء يجزي به الله من يعلم من أمرهم أنهم إذا هدوا سيشكرون هذه النعمة ، التي لا كفاء لها من شكر العبد ، ولكن الله يقبل منه جهده ويجزيه عليه هذا الجزاء الهائل الذي لا يعدله جزاء .
وإذ يقرر أن نعمة الإيمان لا تتعلق بقيمة من قيم الأرض الصغيرة التي تسود في الجاهليات البشرية .

إنما يختص الله بها من يعلم أنهم شاكرون عليها . لا يهم أن يكونوا من الموالي والضعاف والفقراء . فميزان الله لا مكان فيه لقيم الأرض الصغيرة التي تتعاظم الناس في الجاهليات
وإذ يقرر أن اعتراض المعترضين على فضل الله إنما ينشأ من الجهالة بحقائق الأشياء . وأن توزيع هذا الفضل على العباد قائم على علم الله الكامل بمن يستحقه من هؤلاء العباد . وما اعتراض المعترضين إلا جهل وسوء أدب في حق الله . .
ويمضي السياق يأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو رسول الله أن يبدأ أولئك الذين أسبغ عليهم فضل السبق بالإسلام؛ والذين يسخر منهم أولئك الكبراء الأشراف . . أن يبدأهم بالسلام . . وأن يبشرهم بما كتبه الله على نفسه من الرحمة؛ متمثلاً في مغفرته لمن عمل منهم سوءاً بجهالة ، ثم تاب من بعده وأصلح :
{ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل : سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ، ثم تاب من بعده وأصلح ، فأنه غفور رحيم } . .
وهو التكريم - بعد نعمة الإيمان واليسر في الحساب ، والرحمة في الجزاء ، حتى ليجعل الله - سبحانه - الرحمة كتاباً على نفسه للذين آمنوا بآياته؛ ويأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغهم ما كتبه ربهم على نفسه . وحتى لتبلغ الرحمة أن يشمل العفو والمغفرة الذنب كله ، متى تابوا من بعده وأصلحوا - إذ يفسر بعضهم الجهالة بأنها ملازمة لارتكاب الذنب؛ فما يذنب الإنسان إلا من جهالة؛ وعلى ذلك يكون النص شاملاً لكل سوء يعمله صاحبه؛ متى تاب من بعده وأصلح . ويؤيد هذا الفهم النصوص الأخرى التي تجعل التوبة من الذنب - أياً كان - والإصلاح بعده ، مستوجبة للمغفرة بما كتب الله على نفسه من الرحمة . . .
ونعود - قبل الانتهاء من استعراض هذه الفقرة من السورة - إلى بعض الآثار التي وردت عن ملابسات نزول هذه الآيات؛ وعن دلالة هذه الآثار مع النصوص القرآنية على حقيقة النقلة الهائلة التي كان هذا الدين ينقل إليها البشرية يومذاك؛ والتي ما تزال البشرية حتى اليوم دون القمة التي بلغتها يومها ثم تراجعت عنها جداً . .
قال أبو جعفر الطبري : حدثنا هناد بن السري ، حدثنا أبو زبيد ، عن أشعث ، عن كردوس الثعلبي ، عن ابن مسعود ، قال : مر الملأ من قريش بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ، ونحوهم من ضعفاء المسلمين . فقالوا : يا محمد ، رضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فنزلت هذه الآية : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } .

. { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } إلى آخر الآية .
وقال : حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن أبي سعيد الأزدي - وكان قارىء الأزد - عن أبي الكنود ، عن خباب في قول الله تعالى ذكره : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } . . إلى قوله : { فتكون من الظالمين } . . قال : « جاء الأقرع ابن حابس التميمي ، وعيينة بن حصن الفزاري ، فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - قاعداً مع بلال وصهيب وعمار وخباب ، في أناس من الضعفاء من المؤمنين . فلما رأوهم حقروهم . فأتوه فقالوا : إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك ، فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد؛ فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا؛ فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال : نعم قالوا : فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً . قال : فدعا بالصحيفة ، ودعا علياً ليكتب . قال : ونحن قعود في ناحية ، إذ نزل جبريل بهذه الآية : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء ، فتطردهم ، فتكون من الظالمين } . . ثم قال : { وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا : أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين؟ } . . ثم قال : { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل : سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة } . . فألقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيفة من يده؛ ثم دعانا فأتيناه وهو يقول : » سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة « . . فكنا نقعد معه ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا . فأنزل الله تعالى : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا } . . [ سورة الكهف : 28 ] قال : فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقعد معنا بعد ، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم
وكان - صلى الله عليه وسلم - بعدها إذا رآهم بدأهم بالسلام ، وقال : الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني ربي أن أبدأهم بالسلام » .
وفي صحيح مسلم : عن عائذ بن عمرو ، « أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال ، ونفر . فقالوا : والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها قال : فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره . فقال : يا أبا بكر ، لعلك أغضبتهم . لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك . فأتاهم أبو بكر فقال : يا إخوتاه ، أغضبتكم؟ قالوا : لا . يغفر الله لك يا أخي » .
نحن في حاجة إلى وقفة طويلة أمام هذه النصوص .

. والبشرية بجملتها في حاجة إلى هذه الوقفة كذلك . . إن هذه النصوص لا تمثل مجرد مبادىء وقيم ونظريات في « حقوق الإنسان » . . إنها أكبر من ذلك بكثير . . إنها تمثل شيئاً هائلاً تحقق في حياة البشرية فعلاً . . تمثل نقلة واسعة نقلها هذا الدين للبشرية بجملتها . . تمثل خطاً وضيئاً على الأفق بلغته هذه البشرية ذات يوم في حياتها الحقيقية . . ومهما يكن من تراجع البشرية عن هذا الخط الوضيء الذي صعدت إليه في خطو ثابت على حداء هذا الدين ، فإن هذا لا يقلل من عظمة تلك النقلة؛ ومن ضخامة هذا الشيء الذي تحقق يوماً؛ ومن أهمية هذا الخط الذي ارتسم بالفعل في حياة البشر الواقعية . . إن قيمة ارتسام هذا الخط وبلوغه ذات يوم . أن تحاول البشرية مرة ومرة ومرة الارتفاع إليه؛ ما دام أنها قد بلغته؛ فهو في طوقها إذن وفي وسعها . . والخط هناك على الأفق ، والبشرية هي البشرية؛ وهذا الدين هو هذا الدين . . فلا يبقى إلا العزم والثقة واليقين . .
وقيمة هذه النصوص أنها ترسم للبشرية اليوم ذلك الخط الصاعد بكل نقطه ومراحله . . من سفح الجاهلية الذي التقط الإسلام منه العرب ، إلى القمة السامقة التي بلغ بهم إليها ، وأطلعتهم في الأرض يأخذون بيد البشرية من ذلك السفح نفسه إلى تلك القمة التي بلغوها
فأما ذلك السفح الهابط الذي كان فيه العرب في جاهليتهم - وكانت في البشرية كلها - فهو يتمثل واضحاً في قوله : « الملأ » من قريش : « يا محمد ، رضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك » . . أو في احتقار الأقرع بن حابس التميمي ، وعيينة بن حصن الفزاري ، للسابقين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلال ، وصهيب ، وعمار ، وخباب ، وأمثالهم من الضعفاء؛ وقولهما للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلنا؛ فإن وفود العرب تأتيك ، فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد « . .
. . هنا تتبدى الجاهلية بوجهها الكالح وقيمها الهزيلة ، واعتباراتها الصغيرة . . عصبية النسب والجنس واعتبارات المال والطبقة . . وما إلى ذلك من اعتبارات . هؤلاء بعضهم ليسوا من العرب وبعضهم ليسوا من طبقة الأشراف وبعضهم ليسوا من ذوي الثراء . . ذات القيم التي تروج في كل جاهلية والتي لا ترتفع عليها جاهليات الأرض اليوم في نعراتها القومية والجنسية والطبقية
هذا هو سفح الجاهلية . . وعلى القمة السامقة الإسلام الذي لا يقيم وزناً لهذه القيم الهزيلة ولهذه الاعتبارات الصغيرة ، ولهذه النعرات السخيفة . . الإسلام الذي نزل من السماء ولم ينبت من الأرض . فالأرض كانت هي هذا السفح . . هذا السفح الذي لا يمكن أن ينبت هذه النبتة الغريبة الجديدة الكريمة .

. الإسلام الذي يأتمر به - أول من يأتمر - محمد - صلى الله عليه وسلم - محمد رسول الله الذي يأتيه الوحي من السماء؛ والذي هو من قبل في الذؤابة من بني هاشم في الذروة من قريش . . والذي يأتمر به أبو بكر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؛ في شأن « هؤلاء الأعبد » . . نعم هؤلاء الأعبد الذين خلعوا عبودية كل أحد؛ وصاروا أعبداً لله وحده؛ فكان من أمرهم ما كان
وكما أن سفح الجاهلية الهابط يرتسم في كلمات الملأ من قريش ، وفي مشاعر الأقرع وعيينة . . فإن قمة الإسلام السامقة ترتسم في أمر الله العلي الكبير ، لرسوله - صلى الله عليه وسلم - :
{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه . ما عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين . وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا : أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين؟ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل : سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة : أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ، ثم تاب من بعده وأصلح ، فأنه غفور رحيم } . .
ويتمثل في سلوك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع « هؤلاء الأعبد » . . الذين أمره ربهم أن يبدأهم بالسلام وأن يصبر معهم فلا يقوم حتى يقوموا وهو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم - وهو بعد ذلك - رسول الله وخير خلق الله ، وأعظم من شرفت بهم الحياة
ثم يتمثل في نظرة « هؤلاء الأعبد » لمكانهم عند الله؛ ونظرتهم لسيوفهم واعتبارها « سيوف الله » ونظرتهم لأبي سفيان « شيخ قريش وسيدهم » بعد أن أخره في الصف المسلم كونه من الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح وذهبوا طلقاء عفو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقدّمهم هم في الصف كونهم من السابقين إلى الإسلام ، وهو في شدة الابتلاء . . فلما أن عاتبهم أبو بكر - رضي الله عنه - في أمر أبي سفيان ، حذره صاحبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون قد أغضب « هؤلاء الأعبد » فيكون قد أغضب الله - يا الله فما يملك أي تعليق أن يبلغ هذا المدى وما نملك إلا أن نتملاه - ويذهب أبو بكر - رضي الله عنه - يترضى « الأعبد » ليرضى الله : « يا إخوتاه . أغضبتكم »؟ فيقولون : « لا يا أخي . يغفر الله لك »
أي شيء هائل هذا الذي تحقق في حياة البشرية؟ أية نقلة واسعة هذه التي قد تمت في واقع الناس؟ أي تبدل في القيم والأوضاع ، وفي المشاعر والتصورات ، في آن؟ والأرض هي الأرض والبيئة هي البيئة ، والناس هم الناس ، والاقتصاد هو الاقتصاد .

. وكل شيء على ما كان ، إلا أن وحياً نزل من السماء ، على رجل من البشر ، فيه من الله سلطان . . يخاطب فطرة البشر من وراء الركام ، ويحدو للهابطين هنالك عند السفح ، فيستجيشهم الحداء - على طول الطريق - إلى القمة السامقة . . فوق . . فوق . . هنالك عند الإسلام
ثم تتراجع البشرية عن القمة السامقة؛ وتنحدر مرة أخرى إلى السفح . وتقوم - مرة أخرى - في نيويورك ، وواشنطن ، وشيكاغو . . وفي جوهانسبرج . . وفي غيرها من أرض « الحضارة » تلك العصبيات النتنة . عصبيات الجنس واللون ، وتقوم هنا وهناك عصبيات « وطنية » و « قومية » و « طبقية » لا تقل نتناً عن تلك العصبيات . .
ويبقى الإسلام هناك على القمة . . حيث ارتسم الخط الوضيء الذي بلغته البشرية . . يبقى الإسلام هناك - رحمة من الله بالبشرية - لعلها أن ترفع أقدامها من الوحل ، وترفع عينيها عن الحمأة . . وتتطلع مرة أخرى إلى الخط الوضيء؛ وتسمع مرة أخرى حداء هذا الدين؛ وتعرج مرة أخرى إلى القمة السامقة على حداء الإسلام . .
ونحن لا نملك - في حدود منهجنا في هذه الظلال - أن نستطرد إلى أبعد من هذه الإشارة . . لا نملك أن نقف هنا تلك « الوقفة الطويلة » التي ندعو البشرية كلها أن تقفها أمام هذه النصوص ودلالتها . لتحاول أن تستشرف المدى الهائل الذي يرتسم من خلالها في تاريخ البشرية؛ وهي تصعد على حداء الإسلام من سفح الجاهلية الهابط ، إلى تلك القمة السامقة البعيدة . . ثم تهبط مرة أخرى على عواء « الحضارة المادية » الخاوية من الروح والعقيدة . . ولتحاول كذلك أن تدرك إلى أين يملك الإسلام اليوم أن يقود خطاها مرة أخرى؛ بعد أن فشلت جميع التجارب ، وجميع المذاهب ، وجميع الأوضاع ، وجميع الأنظمة ، وجميع الأفكار؛ وجميع التصورات ، التي ابتدعها البشر لأنفسهم بعيداً عن منهج الله وهداه . . فشلت في أن ترتفع بالبشرية مرة أخرى إلى تلك القمة؛ وأن تضمن للإنسان حقوقه الكريمة في هذه الصورة الوضيئة؛ وأن تفيض على القلوب الطمأنينة - مع هذه النقلة الهائلة - وهي تنقل البشرية إليها بلا مذابح؛ وبلا اضطهادات؛ وبلا إجراءات استثنائية تقضي على الحريات الأساسية؛ وبلا رعب ، وبلا فزع ، وبلا تعذيب ، وبلا جوع ، وبلا فقر ، وبلا عرض واحد من أعراض النقلات التي يحاولها البشر في ظل الأنظمة البائسة التي يضعها البشر؛ ويتعبد فيها بعضهم بعضاً من دون الله . .
فحسبنا هذا القدر هنا . . وحسبنا الإيحاءات القوية العميقة التي تفيض بها النصوص ذاتها ، وتسكبها في القلوب المستنيرة .
{ وكذلك نفصل الآيات ، ولتستبين سبيل المجرمين } . .
ختام هذه الفقرة التي قدمت طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول في هذه النصاعة الواضحة .

كما قدمت هذه العقيدة عارية من كل زخرف؛ وفصلت الاعتبارات والقيم التي جاءت هذه العقيدة لتلغيها من حياة البشرية؛ والاعتبارات والقيم التي جاءت لتقررها . .
{ وكذلك نفصل الآيات } . .
بمثل هذا المنهج ، وبمثل هذه الطريقة ، وبمثل هذا البيان والتفصيل . . نفصل الآيات ، التي لا تدع في هذا الحق ريبة؛ ولا تدع في هذا الأمر غموضاً؛ ولا تبقى معها حاجة لطلب الخوارق؛ فالحق واضح ، والأمر بين ، بمثل ذلك المنهج الذي عرض السياق القرآني منه ذلك النموذج . .
على أن كل ما سبق في السورة من تفصيل لدلائل الهدى وموحيات الإيمان؛ ومن بيان للحقائق وتقرير للوقائع ، يعتبر داخلاً في مدلول قوله تعالى :
{ وكذلك نفصل الآيات } . .
أما ختام هذه الآية القصيرة :
{ ولتستبين سبيلُ المجرمين } . .
فهو شأن عجيب . . إنه يكشف عن خطة المنهج القرآني في العقيدة والحركة بهذه العقيدة إن هذا المنهج لا يُعنى ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب . إنما يعنى كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضالين المجرمين أيضاً . . إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين . وذلك كالخط الفاصل يرسم عند مفرق الطريق
إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله - سبحانه - ليتعامل مع النفوس البشرية . . ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر؛ والتأكيد من أن هذا باطل محض وشر خالص؛ وأن ذلك حق ممحض وخير خالص . . كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق؛ ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل . . وأنه يسلك سبيل المجرمين؛ الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدواً منهم { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين } . ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين ، أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون؛ عن ثقة ، وفي وضوح ، وعن يقين .
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح . واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات . ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم . فهما صفحتان ، متقابلتان وطريقان مفترقتان . . ولا بد من وضوح الألوان والخطوط . .
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . يجب إن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين؛ ووضع العنوان المميز للمؤمنين . والعنوان المميز للمجرمين ، في عالم الواقع لا في عالم النظريات . فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون . بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم ، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم . بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان ، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين .

.
وهذا التحديد كان قائماً ، وهذا الوضوح كان كاملاً ، يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية . فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه . وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين . . ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله - سبحانه - يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة - ومنها ذلك النموذج الأخير - لتستبين سبيل المجرمين
وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدّلتها وأفسدتها التحريفات البشرية . . حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة ، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك . . لا يجدي معها التلبيس
ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا . . إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين ، في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للاسلام ، يسيطر عليها دين الله ، وتحكم بشريعته . . ثم إذا هذه الأرض ، وإذا هذه الأقوام ، تهجر الإسلام حقيقة ، وتعلنه اسماً . وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقاداً وواقعاً . وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقاداً فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله . . وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه . وأن الله - وحده - هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله . وأن الله - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله . . وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد . كائناً ما كان اسمه ولقبه ونسبه . وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فهي أرض لم تدن بدين الله ، ولم تدخل في الإسلام بعد . .
وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين؛ وهم من سلالات المسلمين . وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام . . ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول . .
وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله ، ومدلول الإسلام في جانب؛ وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر . .
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين ، وطريق المشركين المجرمين؛ واختلاط الشارات والعناوين؛ والتباس الأسماء والصفات؛ والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة .

فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً . حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام . . تهمة تكفير « المسلمين » ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم ، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله
هذه هي المشقة الكبرى . . وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . . ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة . وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف؛ وألا تقعدهم عنها لومة لائم ، ولا صيحة صائح : انظروا إنهم يكفرون المسلمين
إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون إن الإسلام بيّن والكفر بين . . الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - فمن لم يشهدها على هذا النحو؛ ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو ، فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين . . المجرمين . .
{ وكذلك نفصّل الآيات ، ولتستبين سبيل المجرمين } . .
أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة؛ وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة؛ كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة ، ولا يعوّقها غبش ، ولا يميعها لبس . فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم « المسلمون » وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم « المجرمون » . . كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان . وأنهم وقومهم على مفرق الطريق ، وأنهم على ملة وقومهم على ملة . وأنهم في دين وقومهم في دين :
{ وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } . .
. . وصدق الله العظيم . .

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)

هذه الموجة عودة إلى « حقيقة الألوهية » بعد بيان « حقيقية الرسالة وحقيقة الرسول » في الموجة السابقة لها في السياق المتلاحم؛ وبعد استبانة سبيل المجرمين واستبانة سبيل المؤمنين - كما ذكرنا ذلك في نهاية الفقرة السابقة .
وحقيقة الألوهية في هذه الموجة تتجلى في مجالات شتى؛ نجملها هنا - قبل تفصيلها في استعراض النصوص القرآنية :
تتجلى في قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يجد في نفسه بينة من ربه ، هو منها على يقين ، لا يزعزعه تكذيب المكذبين . ومن ثم يخلص نفسه لربه ، ويفاصل قومه مفاصلة المستيقن من ضلالهم يقينه من هداه { قل : إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله . قل : لا أتبع أهواءكم ، قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين . قل : إني على بينة من ربي وكذبتم به . ما عندي ما تستعجلون به ، إن الحكم إلا لله ، يقص الحق وهو خير الفاصلين } . .
وتتجلى في حلم الله على المكذبين ، وعدم استجابته لاقتراحاتهم أن ينزل عليهم خارقة مادية حتى لا يعجل لهم بالعذاب عند تكذيبهم بها - كما جرت سنته تعالى - وهو قادر عليه . ولو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يملك هذا الذي يستعجلون به ، ما أمسكه عنهم ، ولضاقت بشريته بهم وبتكذيبهم . فإمهالهم هذا الإمهال هو مظهر من مظاهر حلم الله ورحمته ، كما أنها مجال تتجلى فيه ألوهيته : { قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم ، والله أعلم بالظالمين } . .
وتتجلى في علم الله بالغيب؛ وإحاطة هذالعلم بكل ما يقع في هذا الوجود؛ في صورة لا تكون إلا لله؛ ولا يصورها هكذا إلا الله : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما في البر والبحر ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } . .
وتتجلى في هيمنة الله على الناس وقهره للعباد في كل حالة من حالاتهم ، في النوم والصحو ، في الموت والحياة ، في الدنيا والآخرة : { وهو الذي يتوفاكم بالليل ، ويعلم ما جرحتم بالنهار ، ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ، ثم إليه مرجعكم ، ثم ينبئكم بما كنتم تعملون . وهو القاهر فوق عباده ، ويرسل عليكم حفظة ، حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا ، وهم لا يفرطون . ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق . ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين } .
وتتجلى في فطرة المكذبين أنفسهم ، حين يواجهون الهول؛ فلا يدعون إلا الله لرفعه عنهم . . ثم هم مع ذلك يشركون ، وينسون أن الله ، الذي يدعونه لكشف الضر ، قادر على أن يذيقهم ألوان العذاب فلا يدفعه عنهم أحد : { قل : من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية : لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين؟ قل : الله ينجيكم منها ومن كل كرب ، ثم أنتم تشركون .

قل : هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم ، أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض . انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون } .
{ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله . قل لا أتبع أهواءكم . قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين . . قل إني على بينة من ربي - وكذبتم به - ما عندي ما تستعجلون به . إن الحكم إلا لله يقص الحق ، وهو خير الفاصلين . قل : لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم ، والله أعلم بالظالمين } . .
تحتشد هذه الموجة بالمؤثرات الموحية ، التي تتمثل في شتى الإيقاعات التي تواجه القلب البشري بحقيقة الألوهية في شتى مجاليها . . ومن بين هذه المؤثرات العميقة ، ذلك الإيقاع المتكرر : « قل . . قل . . قل . . » خطاباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليبلغ عن ربه ، ما يوحيه إليه؛ وما لا يملك غيره؛ ولا يتبع غيره؛ ولا يستوحي غيره :
{ قل : إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله . قل : لا أتبع أهواءكم . قد ظللت إذاً ، وما أنا من المهتدين } . .
يأمر الله - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يواجه المشركين بأنه منهي من ربه عن عبادة الذين يدعونهم من دون الله ويتخذونهم أنداداً لله . . ذلك أنه منهي عن اتباع أهوائهم - وهم إنما يدعون الذين يدعون من دون الله عن هوى لا عن علم ، ولا عن حق - وأنه إن يتبع أهواءهم هذه يضل ولا يهتدي . فما تقوده أهواؤهم وما تقودهم إلا إلى الضلال .
يأمر الله - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يواجه المشركين هذه المواجهة ، وأن يفاصلهم هذه المفاصلة؛ كما أمره من قبل في السورة بمثل هذا وهو يقول : { أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل : لا أِشهد . قل : إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون } . .
ولقد كان المشركون يدعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يوافقهم على دينهم ، فيوافقوه على دينه وأن يسجد لآلهتم فيسجدوا لإلهه كأن ذلك يمكن أن يكون وكأن الشرك والإسلام يجتمعان في قلب وكأن العبودية لله يمكن أن تقوم مع العبودية لسواه وهو أمر لا يكون أبداً . فالله أغنى الشركاء عن الشرك . وهو يطلب من عباده أن يخلصوا له العبودية؛ ولا يقبل منهم عبوديتهم له إذا شابوها بشيء من العبودية لغيره . . في قليل أو كثير . .
ومع أن المقصود في الآية أن يواجههم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه منهي عن عبادة أيٍّ مما يدعون ويسمون من دون الله ، فإن التعبير ب { الذين } في قوله تعالى :
{ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله } .

.
يستوقف النظر . فكلمة الذين تطلق على العقلاء . ولو كان المقصود هي الأوثان ، والأصنام وما إليها لعبر ب « ما » بدل « الذين » . . فلا بد أن يكون المقصود بالذين نوعاً آخر - مع الأصنام والأوثان وما إليها - نوعاً من العقلاء الذين يعبر عنهم بالاسم الموصول : « الذين » فغلب العقلاء ، ووصف الجميع بوصف العقلاء . . وهذا الفهم يتفق مع الواقع من جهة؛ ومع المصطلحات الإسلامية في هذا المقام من جهة :
فمن جهة الواقع نجد أن المشركين ما كانوا يشركون بالله الأصنام والأوثان وحدها . ولكن كانوا يشركون معه الجن والملائكة والناس . . وهم ما كانوا يشركون الناس إلا في أن يجعلوا لهم حق التشريع للمجتمع وللأفراد . حيث يسنون لهم السنن ، ويضعون لهم التقاليد؛ ويحكمون بينهم في منازعاتهم وفق العرف والرأي . .
وهنا نصل إلى جهة المصطلحات الإسلامية . . فالإسلام يعتبر هذا شركاً؛ ويعتبر أن تحكيم الناس في أمور الناس تأليه لهم؛ وجعلهم أنداداً من دون الله . . وينهى الله عنه نهيه عن السجود للأصنام والأوثان؛ فكلاهما في عرف الإسلام سواء . . شرك بالله ، ودعوة أنداد من دون الله
ثم يجيء الإيقاع الثاني موصولاً بالإيقاع الأول ومتمماً له :
{ قل : إني على بينة من ربي؛ وكذبتم به ، ما عندي ما تستعجلون به . إن الحكم إلا لله ، يقص الحق ، وهو خير الفاصلين } . .
وهو أمر من الله - سبحانه - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجهر في مواجهة المشركين المكذبين بربهم - بما يجده في نفسه من اليقين الواضح الراسخ ، والدليل الداخلي البين ، والإحساس الوجداني العميق ، بربه . . ووجوده ، ووحدانيته ، ووحيه إليه . وهو الشعور الذي وجده الرسل من ربهم ، وعبروا عنه مثل هذا التعبير أو قريباً منه :
قالها نوح - عليه السلام - : { قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ، وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم؟ أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟ } وقالها صالح - عليه السلام - : { قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ، فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير } وقالها إبراهيم - عليه السلام - : { وحاجه قومه . قال : أتحاجوني في الله وقد هدان؟ } وقالها يعقوب - عليه السلام - لبنيه : { فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيراً . قال ألم أقل لكم : إني أعلم من الله ما لا تعلمون؟ } فهي حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب أوليائه؛ ممن يتجلى الله لهم في قلوبهم؛ فيجدونه - سبحانه - حاضراً فيها؛ ويجدون هذه الحقيقة بينة هنالك في أعماقهم تسكب في قلوبهم اليقين بها .

وهي الحقيقة التي يأمر الله نبيه أن يجهر بها في مواجهة المشركين المكذبين؛ الذين يطلبون منه الخوارق لتصديق ما جاءهم به من حقيقة ربه ، الحقيقة التي يجدها هو كاملة واضحة عميقة في قلبه :
{ قل إني على بينة من ربي ، وكذبتم به } . .
كذلك كانوا يطلبون أن ينزل عليهم خارقة أو ينزل بهم العذاب ، ليصدقوا أنه جاءهم من عند الله . . وكان يؤمر أن يعلن لهم حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول؛ وأن يفرق فرقاناً كاملاً بينها وبين حقيقة الألوهية؛ وأن يجهر بأنه لا يملك هذا الذي يستعجلونه؛ فالذي يملكه هو الله وحده؛ وهو ليس إلهاً ، إنما هو رسول :
{ ما عندي ما تستعجلون به ، إن الحكم إلا لله ، يقص الحق وهو خير الفاصلين } . .
إن إيقاع العذاب بهم بعد مجيء الخارقة وتكذيبهم بها حكم وقضاء؛ ولله وحده الحكم والقضاء . فهو وحده الذي يقص الحق ويخبر به؛ وهو وحده الذي يفصل في الأمر بين الداعي إلى الحق والمكذبين به . وليس هذا أو ذلك لأحد من خلقه .
وبذلك يجرد الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه من أن تكون له قدرة ، أو تدخل في شأن القضاء الذي ينزله الله بعباده . فهذا من شأن الألوهية وحدها وخصائصها ، وهو بشر يوحى إليه ، ليبلغ وينذر؛ لا لينزل قضاء ويفصل . وكما أن الله سبحانه هو الذي يقص الحق ويخبر به؛ فهو كذلك الذي يقضي في الأمر ويفصل فيه . . وليس بعد هذا تنزيه وتجريد لذات الله - سبحانه - وخصائصه ، عن ذوات العبيد . .
ثم يؤمر أن يلمس قلوبهم وعقولهم ويلفتها إلى دلالة قوية على أن هذا الأمر من عند الله ، ومتروك لمشيئة الله . فلو أن أمر الخوارق - بما فيها إنزال العذاب - في مقدوره - وهو بشر - ما استطاع أن يمسك نفسه عن الاستجابة لهم ، وهم يلحفون هذا الإلحاف . ولكن لأن الأمر بيد الله وحده ، فهو يحلم عليهم؛ فلا يجيئهم بخارقة يتبعها العذاب المدمر ، إن هم كذبوا بها كما فعل بمن قبلهم :
{ قل : لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم ، والله أعلم بالظالمين } . .
إن للطاقة البشرية حدوداً في الصبر والحلم والإمهال . وما يحلم على البشر ويمهلهم - على عصيانهم وتمردهم وتبجحهم - إلا الله الحليم القوي العظيم . .
وصدق الله العظيم . . فإن الإنسان ليرى من بعض الخلق ما يضيق به الصدر ، وتبلغ منه الروح الحلقوم . . ثم ينظر فيجد الله - سبحانه - يسعهم في ملكه ، ويطعمهم ، ويسقيهم ، ويغدق أحياناً عليهم ، ويفتح عليهم أبواب كل شيء . . وما يجد الإنسان إلا أن يقول قولة أبي بكر - رضي الله عنه - والمشركون يضربونه الضرب المبرح الغليظ ، حتى ما يعرف له أنف من عين : « رب ما أحلمك رب ما أحلمك » .

. فإنما هو حلم الله وحده . . وهو يستدرجهم من حيث لا يعلمون
{ والله أعلم بالظالمين } . .
فهو يمهلهم عن علم ، ويملي لهم عن حكمة ، ويحلم عليهم وهو قادر على أن يجيبهم إلى ما يقترحون ، ثم ينزل بهم العذاب الأليم . .
وبمناسبة علم الله - سبحانه - بالظالمين؛ واستطراداً في بيان حقيقة الألوهية؛ يجلي هذه الحقيقة في مجال ضخم عميق من مجالاتها الفريدة . . مجال الغيب المكنون ، وعلم الله المحيط بهذا الغيب إحاطته بكل شيء ، ويرسم صورة فريدة لهذا العلم؛ ويرسل سهاماً بعيدة المدى تشير إلى آماده وآفاقه من بعيد :
{ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما في البر والبحر ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ، ولا رطب ولا يابس ، إلا في كتاب مبين } . .
إنها صورة لعلم الله الشامل المحيط؛ الذي لا يند عنه شيء في الزمان ولا في المكان ، في الأرض ولا في السماء ، في البر ولا في البحر ، في جوف الأرض ولا في طباق الجو ، من حي وميت ويابس ورطب . .
ولكن أين هذا الذي نقوله نحن - بأسلوبنا البشري المعهود - من ذلك النسق القرآني العجيب؟ وأين هذا التعبير الإحصائي المجرد ، من ذلك التصوير العميق الموحي؟
إن الخيال البشري لينطلق وراء النص القصير يرتاد آفاق المعلوم والمجهول ، وعالم الغيب وعالم الشهود ، وهو يتبع ظلال علم الله في أرجاء الكون الفسيح ، ووراء حدود هذا الكون المشهود . . وإن الوجدان ليرتعش وهو يستقبل الصور والمشاهد من كل فج وواد . وهو يرتاد - أو يحاول أن يرتاد - أستار الغيوب المختومة في الماضي والحاضر والمستقبل؛ البعيدة الآماد والآفاق والأغوار . . مفاتحها كلها عند الله؛ لا يعلمها إلا هو . . ويجول في مجاهل البر وفي غيابات البحر ، المكشوفة كلها لعلم الله . ويتبع الأوراق الساقطة من أشجار الأرض ، لا يحصيها عد ، وعين الله على كل ورقة تسقط . هنا وهنا وهناك . ويلحظ كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض لا تغيب عن عين الله . ويرقب كل رطب وكل يابس في هذا الكون العريض ، لا يند منه شيء عن علم الله المحيط . .
إنها جولة تدير الرؤوس ، وتذهل العقول . جولة في آماد من الزمان ، وآفاق من المكان ، وأغوار من المنظور والمحجوب ، والمعلوم والمجهول . . جولة بعيدة موغلة مترامية الأطراف ، يعيا بتصور آمادها الخيال . . وهي ترسم هكذا دقيقة كاملة شاملة في بضع كلمات . .
ألا إنه الإعجاز
وننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز ، الناطق بمصدر هذا القرآن .
ننظر إليها من ناحية موضوعها ، فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر؛ فليس عليه طابع البشر . . إن الفكر البشري - حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع : موضوع شمول العلم وإحاطته - لا يرتاد هذه الآفاق .

. إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود . إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته . . فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر ، في كل أنحاء الأرض؟ إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء . لا يخطر على باله أن يتتبع ويحصي ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض . ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق؛ ويعبر عنه الخالق
وما اهتمام الفكر البشري بكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض؟ إن أقصى ما يحفل به بنو البشر هو الحب الذي يخبأونه هم في جوف الأرض ويرتقبون إنباته . . فأما تتبع كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض؛ فمما لا يخطر للبشر على بال أن يهتموا به ، ولا أن يلحظوا وجوده ، ولا أن يعبروا به عن العلم الشامل إنما الحب المخبوء في ظلمات الأرض شان يحصيه الخالق ، ويعبر عنه الخالق
وما اهتمام الفكر البشري بهذا الإطلاق : { ولا رطب ولا يابس } . . إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم . . فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل . فهذا ليس من المعهود في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق ، ويعبر عنه الخالق
ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة ، وكل حبة مخبوءة ، وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين ، وفي سجل محفوظ . . فما شأنهم بهذا ، وما فائدته لهم؟ وما احتفالهم بتسجيله؟ إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك ، الذي لا يند عنه شيء في ملكه . . الصغير كالكبير؛ والحقير كالجليل؛ والمخبوء كالظاهر؛ والمجهول كالمعلوم؛ والبعيد كالقريب . .
إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع . . مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعاً ، والحب المخبوء في أطواء الأرض جميعاً ، والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعاً . . إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري؛ وكذلك لا تلحظه العين البشرية؛ ولا تلم به النظرة البشرية . . إنه المشهد الذي يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده؛ المشرف على كل شيء ، المحيط بكل شيء . . الحافظ لكل شيء ، الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شيء . . الصغير كالكبير ، والحقير كالجليل ، والمخبوء كالظاهر ، والمجهول كالمعلوم ، والبعيد كالقريب . .
والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيداً حدود التصور البشري ، وحدود التعبير البشري أيضاً . ويعلمون - من تجربتهم البشرية - أن مثل هذا المشهد ، لا يخطر على القلب البشري؛ كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضاً . . والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله ، ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الاتجاه أصلاً
وهذه الآية وأمثالها في القرآن الكريم تكفي وحدها لمعرفة مصدر هذا الكتاب الكريم .

.
كذلك ننظر إليها من ناحية الإبداع الفني في التعبير ذاته ، فنرى آفاقاً من الجمال والتناسق لا تعرفها أعمال البشر ، على هذا المستوى السامق :
{ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } . . آماد وآفاق وأغوار في « المجهول » المطلق . في الزمان والمكان ، وفي الماضي والحاضر والمستقبل ، وفي أحداث الحياة وتصورات الوجدان . .
{ ويعلم ما في البر والبحر } . . آماد وآفاق وآغوار في « المنظور » ، على استواء وسعة وشمول . . تناسب في عالم الشهود المشهود تلك الآماد والآفاق والأغوار في عالم الغيب المحجوب .
{ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } . . حركة الموت والفناء؛ وحركة السقوط والانحدار ، من علو إلى سفل ، ومن حياة إلى اندثار .
{ ولا حبة في ظلمات الأرض } . . حركة البزوغ والنماء ، المنبثقة من الغور إلى السطح ، ومن كمون وسكون إلى اندفاع وانطلاق .
{ ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } . . التعميم الشامل ، الذي يشمل الحياة والموت ، والأزدهار والذبول؛ في كل حي على الإطلاق . .
فمن ذا الذي يبدع ذلك الاتجاه والانطلاق؟ ومن ذا الذي يبدع هذا التناسق والجمال؟ . . من ذا الذي يبدع هذا كله وذلك كله ، في مثل هذا النص القصير . . من؟ إلا الله
ثم نقف أمام قوله تعالى :
{ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } . .
نقف لنقول كلمة عن { الغيب } و { مفاتحه } واختصاص الله - سبحانه - « بالعلم » بها . . ذلك أن حقيقة الغيب من « مقومات التصور الإسلامي » الأساسية؛ لأنها من مقومات العقيدة الإسلامية الأساسية؛ ومن قواعد « الإيمان » الرئيسية . . وذلك أن كلمات « الغيب » و « الغيبية » تلاك في هذه الأيام كثيراً - بعد ظهور المذهب المادي - وتوضع في مقابل « العلم » و « العلمية » . . والقرآن الكريم يقرر أن هناك « غيباً » لا يعلم « مفاتحه » إلا الله . ويقرر أن ما أوتيه الإنسان من العلم قليل . . وهذا القليل إنما آتاه الله له بقدر ما يعلم هو - سبحانه - من طاقته ومن حاجته . وأن الناس لا يعلمون - فيما وراء العلم الذي أعطاهم الله إياه - إلا ظناً ، وأن الظن لا يغني من الحق شيئاً . . كما يقرر - سبحانه - أن الله قد خلق هذا الكون ، وجعل له سنناً لا تتبدل؛ وأنه علم الإنسان أن يبحث عن هذه السنن ويدرك بعضها؛ ويتعامل معها - في حدود طاقته وحاجته - وأنه سيكشف له من هذه السنن في الأنفس والآفاق ما يزيده يقيناً وتأكداً أن الذي جاءه من عند ربه هو الحق . . دون أن يخل هذا الكشف عن سنن الله التي لا تبديل لها ، بحقيقة « الغيب » المجهول للإنسان ، والذي سيظل كذلك مجهولاً ، ولا بحقيقة طلاقة مشيئة الله وحدوث كل شيء بقدر غيبي خاص من الله ، ينشىء هذا الحدث ويبرزه للوجود .

. في تناسق تام في العقيدة الإسلامية ، وفي تصور المسلم الناشىء من حقائق العقيدة . .
فهذه الحقائق بجملتها - على هذا النحو المتعدد الجوانب المتناسق المتكامل - تحتاج منا هنا - في الظلال - إلى كلمة نحاول بقدر الإمكان أن تكون مجملة ، وألا تخرج عن حدود المنهج الذي اتبعناه في الظلال أيضاً .
إن الله سبحانه يصف المؤمنين في مواضع كثيرة من القرآن بأنهم الذين يؤمنون بالغيب؛ فيجعل هذه الصفة قاعدة من قواعد الإيمان الأساسية :
{ ألم . ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين : الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ، ومما رزقناهم ينفقون ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون . أولئك على هدى من ربهم ، وأولئك هم المفلحون } [ البقرة : 1 -5 ] .
والإيمان بالله - سبحانه - هو إيمان بالغيب . فذات الله - سبحانه - غيب بالقياس إلى البشر؛ فإذا آمنوا به فإنما يؤمنون بغيب ، يجدون آثار فعله ، ولا يدركون ذاته ، ولا كيفيات أفعاله .
والإيمان بالآخرة كذلك ، هو إيمان بالغيب . فالساعة بالقياس إلى البشر غيب ، وما يكون فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب كله غيب يؤمن به المؤمن ، تصديقاً لخبر الله سبحانه .
والغيب الذي يتحقق الإيمان بالتصديق به يشمل حقائق أخرى يذكرها القرآن الكريم في وصف واقع المؤمنين وعقيدتهم الشاملة :
{ آمن الرسول بما إنزل إليه من ربه والمؤمنون . كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله . لا نفرق بين أحد من رسله . وقالوا : سمعنا وأطعنا . غفرانك ربنا ، وإليك المصير } [ البقرة : 285 ] .
فنجد في هذا النص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين كذلك ، كلٌّ آمن بالله - وهو غيب - وآمن بما أنزل الله على رسوله - وما أنزل الله على رسوله فيه جانب من إطلاعه - صلى الله عليه وسلم - على جانب من الغيب بالقدر الذي قدره الله - سبحانه - كما قال في الآية الأخرى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحداً إلا من ارتضى من رسول } [ الجن : 26 - 27 ] .
وآمن بالملائكة - وهي غيب - لا يعرف عنه البشر إلا ما يخبرهم به الله ، على قدر طاقتهم وحاجتهم .
ويبقى من الغيب الذي لا يقوم الإيمان إلا بالتصديق به : قدر الله - وهو غيب لا يعلمه الإنسان حتى يقع - كما جاء في حديث الإيمان : « . . . والقدر خيره وشره » . . ( اخرجه الشيخان ) .
على أن الغيب في هذا الوجود يحيط بالإنسان من كل جانب . . غيب في الماضي وغيب في الحاضر ، وغيب في المستقبل . . غيب في نفسه وفي كيانه ، وغيب في الكون كله من حوله . . غيب في نشأة هذا الكون وخط سيره ، وغيب في طبيعته وحركته .

. غيب في نشأة الحياة وخط سيرها ، وغيب في طبيعتها وحركتها . . غيب فيما يجهله الإنسان ، وغيب فيما يعرفه كذلك
ويسبح الإنسان في بحر من المجهول . . حتى ليجهل اللحظة ما يجري في كيانه هو ذاته فضلاً على ما يجري حوله في كيان الكون كله؛ وفضلاً عما يجري بعد اللحظة الحاضرة له وللكون كله من حوله : ولكل ذرة ، وكل كهرب من ذرة؛ وكل خلية وكل جزئي من خلية
إنه الغيب . . إنه المجهول . . والعقل البشري - تلك الذبالة القريبة المدى - إنما يسبح في بحر المجهول . فلا يقف إلا على جزر طافية هنا وهنالك يتخذ منها معالم في الخضم . ولولا عون الله له ، وتسخير هذا الكون ، وتعليمه هو بعض نواميسه ، ما استطاع شيئاً . . ولكنه لا يشكر . . { وقليل من عبادي الشكور } بل إنه في هذه الأيام ليتبجح بما كشف الله له من السنن ، وبما آتاه من العلم القليل . . يتبجح فيزعم أحياناً أن « الإنسان يقوم وحده » ولم يعد في حاجة إلى إله يعينه ويتبجح أحياناً فيزعم أن « العلم » يقابل « الغيب » وأن « العلمية » في التفكير والتنظيم تقابل « الغيبية » وأنه لا لقاء بين العلم والغيب؛ كما أنه لا لقاء بين العقلية العلمية والعقلية الغيبية
فلنلق نظرة على وقفة « العلم » أمام « الغيب » . . في بحوث وأقوال « العلماء » من بني البشر أنفسهم - بعد أن نقف أمام كلمة الفصل التي قالها العليم الخبير عن علم الإنسان القليل - { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } [ الإسراء : 85 ] { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } [ النجم : 29 ] وأن الغيب كله لله : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } . . . [ الأنعام : 59 ] وأن الذي يعلم الغيب هو الذي يرى : { أم عنده علم الغيب فهو يرى؟ } [ النجم : 35 ] . . . وهي ناطقة بذاتها عن مدلولاتها . .
فلنلق نظرة على وقفة « العلم » أمام « الغيب » في بحوث وأقوال العلماء من بني الإنسان لا لنصدق بها كلمة الفصل من الله سبحانه - فحاشا للمؤمن أن يصدق قول الله بقول البشر - ولكننا نقف هذه الوقفة لنحاكم الذين يلوكون كلمات العلم والغيب ، والعلمية والغيبية ، إلى ما يؤمنون هم به من قول البشر ليعلموا أن عليهم هم أن يحاولوا « الثقافة » و « المعرفة » ليعيشوا في زمانهم؛ ولا يكونوا متخلفين عن عقليته ومقررات تجاربه وليستيقنوا أن « الغيب » هو الحقيقة « العلمية » الوحيدة المستيقنة من وراء كل التجارب والبحوث والعلم الإنساني ذاته وأن « العلمية » في ضوء التجارب والنتائج الأخيرة مرادفة تماماً « للغيبية » . . أما الذي يقابل الغيبية حقاً فهو « الجهلية » الجهلية التي تعيش في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر - ربما - ولكنها لا تعيش في القرن العشرين
عالم معاصر - من أمريكا - يقول عن « الحقائق » التي يصل إليها « العلم » بجملتها :
« إن العلوم حقائق مختبرة؛ ولكنها مع ذلك تتأثر بخيال الإنسان وأوهامه ومدى بعده عن الدقة في ملاحظاته وأوصافه واستنتاجاته .

ونتائج العلوم مقبولة داخل هذه الحدود . فهي بذلك مقصورة على الميادين الكمية في الوصف والتنبؤ . وهي تبدأ بالاحتمالات ، وتنتهي بالاحتمالات كذلك . . وليس باليقين . . ونتائج العلوم بذلك تقريبية ، وعرضة للأخطاء المحتملة في القياس والمقارنات؛ ونتائجها اجتهادية ، وقابلة للتعديل بالإضافة والحذف ، وليست نهائية . وإننا لنرى أن العالِم عندما يصل إلى قانون أو نظرية يقول : إن هذا هو ما وصلنا إليه حتى الآن ، ويترك الباب مفتوحاً لما قد يستجد من التعديلات « .
وهذه الكلمة تلخص حقيقة جميع النتائج التي وصل إليها العلم ، والتي يمكن أن يصل إليها كذلك . فطالما أن » الإنسان « بوسائله المحدودة ، بل بوجوده المحدود بالقياس إلى الأزل والأبد هو الذي يحاول الوصول إلى هذه النتائج؛ فإنه من الحتم أن تكون مطبوعة بطابع هذا الإنسان ، ولها مثل خصائصه من كونها محدودة المدى؛ وقابلة للخطأ والصواب ، والتعديل والتبديل . .
على أن الوسيلة التي يصل بها الإنسان إلى أية نتيجة هي التجربة والقياس . فهو يجرب ، ثم يعمم النتيجة التي يصل إليها عن طريق القياس؛ والقياس - باعتراف العلم وأهله - وسيلة تؤدي إلى نتيجة ظنية؛ ولا يمكن أبداً أن تكون قطعية ولا نهائية . والوسيلة الأخرى - وهي التجربة والاستقصاء بمعنى تعميم التجربة على كل ما هو من جنس ما وقعت عليه التجارب في جميع الأزمنة وفي جميع الظروف - وسيلة غير مهيأة للإنسان . وهي إحدى الوسائل الموصلة إلى نتائج قطعية . ولا سبيل إلى نتيجة قطعية وحقيقة يقينية إلا عن طريق هدى الله الذي يبينه للناس . ومن ثم يبقى علم الإنسان فيما وراء ما قرره الله له ، علماً ظنياً لا يصل إلى مرتبة اليقين بحال
على أن » الغيب « ضارب حول الإنسان فيما وراء ما يصل إليه علمه الظني ذاك . . .
هذا الكون من حوله . . إنه ما يزال يضرب في الفروض والنظريات حول مصدره ونشأته وطبيعته وحول حركته ، وحول » الزمان « ما هو وحول » المكان « وارتباطه بالزمان وارتباط ما يجري في الكون بالزمان والمكان .
والحياة . ومصدرها . ونشأتها . وطبيعتها . وخط سيرها . والمؤثرات فيها . وارتباطها بهذا الوجود » المادي « إن كان هناك في الكون مادة على الإطلاق ذات طبيعة غير طبيعة » الفكر « وغير طبيعة الطاقة على العموم
» والإنسان « ما هو؟ ما الذي يميزه من المادة؟ وما الذي يميزه عن بقية الأحياء؟ وكيف جاء إلى هذه الأرض وكيف يتصرف؟ وما » العقل « الذي يتميز به ويتصرف؟ وما مصيره بعد الموت والإنحلال؟ .

.
بل هذا الكيان الإنساني ذاته ، ما الذي يجري في داخله من تحليل وتركيب في كل لحظة؟ وكيف يجري؟ . .
إنها كلها ميادين للغيب ، يقف العلم على حافاتها ، ولا يكاد يقتحهما ، حتى على سبيل الظن والترجيح . وإن هي إلا فروض واحتمالات
ولندع ما لا يشغل العلم به نفسه - إلا قليلاً في هذا القرن - من حقيقة الألوهية ، وحقيقة العوالم الأخرى من ملائكة وجن وخلق لا يعلمه إلا الله . ومن حقيقة الموت ، وحقيقة الآخرة . وحقيقة الحساب والجزاء . . لندع هذا كله لحظة ففي « الغيب » القريب ، الكفاية ، ومن هذا الغيب يقف العلم وقفة التسليم ، الذي لا يخرج عنه إلا من يؤثرون المراء على « العلم » والتبجح على الإخلاص
ونضرب بعض الأمثال . .
1 - في قاعدة بناء الكون وسلوكه :
الذرة - فيما يقول العلم الحديث - قاعدة بناء الكون . وليست هي أصغر وحدة في بناء هذا العالم . فهي مؤلفة من بروتونات ( طاقة كهربية موجبة ) والكترونات ( طاقة كهربية سالبة ) ونيوترونات ( طاقة محايدة مكونة من طاقة كهربائية موجبة وطاقة كهربائية سالبة متعادلتين ساكنتين ) وحين تحطم الذرة تتحرر الكهارب ( الإلكترونات ) ولكنها لا تسلك في المعمل سلوكاً حتمياً موحداً . فهي تسلك مرة كأنها أمواج ضوئية ومرة كأنها قذائف . ولا يمكن تحديد سلوكها المقبل مقدماً . وإنما هي تخضع لقانون آخر - غير الحتمية - هو قانون الاحتمالات . وكذلك تسلك الذرة نفسها ، والمجموعة المحدودة من الذرات ( في صورة جزيئات ) هذا السلوك .
يقول سير جيمس جيننر - الإنجليزي - الأستاذ في الطبيعيات والرياضيات :
« لقد كان العلم القديم يقرر تقرير الواثق ، أن الطبيعة لا تستطيع أن تسلك إلا طريقاً واحداً : وهو الطريق الذي رسم من قبل ، لتسير فيه من بداية الزمن إلى نهايته ، وفي تسلسل مستمر بين علة ومعلول ، وألا مناص من أن الحالة ( أ ) تتبعها الحالة ( ب ) أما العلم الحديث فكل ما يستطيع أن يقوله حتى الآن هو : أن الحالة ( أ ) يحتمل أن تتبعها ( ب ) أو ( ج ) أو ( د ) أو غيرها من الحالات الأخرى التي يخطئها الحصر . نعم إن في استطاعته أن يقول : إن حدوث الحالة ( ب ) أكثر أحتمالاً من حدوث الحالة ( ج ) وإن الحالة ( ج ) أكثر احتمالاً من الحالة ( د ) . . وهكذا . بل إن في مقدوره أن يحدد درجة احتمال كل حالة من الحالات ( ب ) و ( ج ) و ( د ) بعضها بالنسبة إلى بعض . ولكنه لا يستطيع أن يتنبأ عن يقين : أي الحالات تتبع الأخرى . لأنه يتحدث دائماً عما يحتمل . أما ما يجب أن يحدث فأمره موكول إلى الأقدار - مهما تكن حقيقة هذه الأقدار » .

فمإذا يكون « الغيب » وماذا يكون قدر الله المغيب عن علم الإنسان ، إن لم يكن هو هذا الذي تنتهي إليه تجارب العلم الإنساني ، وتقف على عتباته في صلب الكون وذراته؟
ويضرب مثلاً لذلك إشعاع ذرات الراديوم ، وتحولها إلى رصاص وهليوم . . وهي خاضعة تماماً لقدر مجهول ، وغيب مستور ، يقف دونه علم الإنسان :
« ولنضرب لذلك مثلاً مادياً يزيده وضوحاً : من المعروف أن ذرات الراديوم وغيره من المواد ذات النشاط الإشعاعي ، تتفكك بمجرد مرور الزمن عليها ، وتخلف وراءها ذرات من الرصاص والهليوم . ولهذا فإن كتلة من الراديوم ينقص حجمها باستمرار ، ويحل مكانها رصاص وهليوم . والقانون العام الذي يتحكم في معدل التناقص غريب غاية الغرابة . ذلك أن كمية من الراديوم تنقص بنفس الطريقة التي ينقص بها عدد من السكان ، إذا لم تجد عليهم مواليد ، وكانت نسبة تعرض كل منهم للوفاة واحدة بغض النظر عن السن؛ أو أنها تنقص كما ينقص عدد أفراد كتيبة من الجند معرضين لنيران ترسل عليهم اعتباطاً ، ومن غير أن يكون أحدهم مقصوداً لذاته . ومجمل القول إنه ليس لكبر السن أثر ما في ذرة الراديوم الواحدة . فإنها لا تموت لأنها قد استوفت حظها من الحياة ، بل لأن المنية قد أصابتها خبط عشواء .
» ولنوضح هذه الحقيقة بمثل مادي فنقول : إذا فرض أن بحجرتنا ألفين من ذرات الراديوم . فإن العلم لا يستطيع أن يقول : كم منها يبقى حياً بعد عام . بل كل ما يستطيعه هو أن يذكر فقط الاحتمالات التي ترجح بقاء 2000 أو 1999 أو 1998 ، وهكذا . وأكثر الأمور احتمالاً في الواقع هو أن يكون العدد 1999 ، أي أن أرجح الاحتمالات هو أن ذرة واحدة لا أكثر من الألفي ذرة ، هي التي تتحلل في العام التالي .
« ولسنا ندري بأية طريقة تختار تلك الذرة المعينة من بين هذه الألفي ذرة . وقد نشعر في بادىء الأمر بميل إلى افتراض أن هذه الذرة ستكون هي التي تتعرض للاصطدام أكثر من غيرها ، أو التي تقع في أشد الأمكنة حرارة ، أو التي يصادفها غير هذا أو ذاك من الأسباب في العام التالي . ولكن هذا كله غير صحيح ، لأنه إذا كان في استطاعة الصدمات أو الحرارة أن تفكك ذرة واحدة ، فإن في استطاعتها أيضاً أن تفكك ال 1999 ذرة الباقية ، ويكون في استطاعتنا أن نعجل بتفكيك الراديوم بمجرد ضغطه أو تسخينه؛ ولكن كل عالم من علماء الطبيعة يقرر أن ذلك مستحيل؛ بل هو يعتقد على الأرجح أن الموت يصيب في كل عام ذرة واحدة من كل 2000 من ذرات الراديوم ، ويضطرها إلى أن تتفكك . وهذه هي نظرية » التفكك التلقائي « التي وضعها » رذرفورد « و » سدي « في عام 1903 .

فكيف إذن يكون القدر الغيبي إن لم يكن هو هذا الذي تتشعع به الذرات على غير اختيار منها ولا من أحد . وعلى غير علم منها ولا من أحد؟
إن الرجل الذي يقول هذا الكلام ، لا يريد أن يثبت به القدر الإلهي المغيب عن الناس . بل إنه ليحاول جاهداً أن يهرب من ضغط النتائج التي ينتهي إليها العلم البشري ذاته . ولكن حقيقة الغيب تفرض نفسها عليه فرضاً على النحو الذي نراه
2 - وكما تفرض حقيقة « الغيب » نفسها على قاعدة بناء الكون وحركته ، فهي كذلك تفرض نفسها على قاعدة انبثاق الحياة وحركتها بنفس القوة في النتائج التي ينتهي إليها العلم البشري .
يقول عالم الأحياء والنبات « رسل تشارلز إرنست » الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا :
« لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات؛ فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين ، أو من الفيروس ، أو من تجمع بعض الجزئيات البروتينية الكبيرة . وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات . ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية ، قد باءت بفشل وخذلان ذريعين . ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزيئات عن طريق المصادفة ، يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية . وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة ، فهذا شأنه وحده ولكنه إذ يفعل ذلك ، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازاً وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله ، الذين خلق الأشياء ودبرها .
» إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها . وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق . ولذلك فإنني أؤمن بوجود الله إيماناً راسخاً « .
والذي يهمنا هنا من هذه الشهادة هو أن سر الحياة ونشأتها غيب من غيب الله ، كنشأة الكون وحركته؛ وأن ليس لدى البشر عن ذلك إلا الاحتمالات . وصدق الله العظيم : { ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم } 3 - ونخطو خطوة واسعة لنصل إلى الإنسان . . إن الدفقة الواحدة من ماء الرجل تحتوي على نحو ستين مليوناً من الحيوانات المنوية . . كلها تدخل في سباق لتلحق بالبويضة في رحم المرآة . . ولا يعلم أحد من الذي يسبق فهو غيب ، أو هو قدر غيبي لا علم للبشر به - بما فيهم الرجل والمرأة صاحبا الدور في هذا الأمر - ثم يصل السابق من بين ستين مليوناً ويلتحم مع البويضة ليكوّنا معاً خلية واحدة ملقحة هي التي ينتج منها الجنين .

ولما كانت كل كروموسومات البويضة مؤنثة ، بينما كروموسومات الحيوان المنوي بعضها مذكر وبعضها مؤنث؛ فإن غلبة عدد كروموسومات التذكير أو كروموسومات التأنيث في الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة ، هو الذي يقرر مصير الجنين - ذكراً أو أنثى - وهذا خاضع لقدر الله الغيبي لا علم به ولا دخل للبشر - بما فيهم أبوا الجنين أنفسهما : { الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد . وكل شيء عنده بمقدار . عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال } [ الرعد : 8 - 9 ] { لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور . أو يزوجهم ذكراناً وإناثا ويجعل من يشاء عقيماً ، إنه عليم قدير } [ الشورى : 49 - 50 ] { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك ، لا إله إلا هو فأنى تصرفون؟ } [ الزمر : 6 ] .
هذا هو « الغيب » الذي يقف أمامه « العلم » البشري؛ ويواجهه في القرن العشرين . . بينما الذين يعيشون على فتات القرون الماضية يزعمون أن « الغيبية » تنافي « العلمية » . وأن المجتمع الذي يريد أن يعيش بعقلية علمية ينبغي له أن يتخلص من العقلية الغيبية ذلك بينما العلم البشري ذاته . . علم القرن العشرين . . يقول : إن كل ما يصل إليه من النتائج هو « الاحتمالات » وإن الحقيقة المستيقنة الوحيدة هي أن هنالك « غيباً » لا شك فيه
على أننا قبل أن نغادر هذه الوقفة المجملة أمام حقيقة الغيب ، ينبغي أن نقول كلمة عن طبيعة « الغيب » في العقيدة الإسلامية ، وفي التصور الإسلامي ، وفي العقلية الإسلامية .
إن القرآن الكريم - وهو المصدر الأساسي للعقيدة الإسلامية التي تنشىء التصور الإسلامي والعقلية الإسلامية - يقرر أن هناك عالماً للغيب وعالماً للشهادة . فليس كل ما يحيط بالإنسان غيباً ، وليس كل ما يتعامل معه من قوى الكون مجهولاً . .
إن هنالك سنناً ثابتة لهذا الكون؛ يملك « الإنسان » أن يعرف منها القدر اللازم له ، حسب طاقته وحسب حاجته ، للقيام بالخلافة في هذه الأرض . وقد أودعه الله القدرة على معرفة هذا القدر من السنن الكونية؛ وعلى تسخير قوى الكون وفق هذه السنن للنهوض بالخلافة ، وتعمير الأرض ، وترقية الحياة ، والانتفاع بأقواتها وأرزاقها وطاقاتها . .
وإلى جانب هذه السنن الثابتة - في عمومها - مشيئة الله الطليقة؛ لا تقيدها هذه السنن وإن كانت من عملها . وهناك قدر الله الذي يُنفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها . فهي ليست آلية بحتة ، فالقدر هو المسيطر على كل حركة فيها؛ وإن جرت وفق السنة التي أودعها الله إياها .

وهذا القدَر الذي يُنفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها « غيب » لا يعلمه أحد علم يقين؛ وأقصى ما يصل إليه الناس هو الظنون و « الاحتمالات » . . وهذا ما يعترف به العلم البشري أيضاً . .
وإن ملايين الملايين من العمليات لتتم في كيان الإنسان في اللحظة الواحدة؛ وكلها « غيب » بالقياس إليه ، وهي تجري في كيانه ومثلها ملايين ملايين العمليات التي تتم في الكون من حوله؛ وهو لا يعلمها
وإن الغيب ليحيط بماضيه وماضي الكون . وحاضره وحاضر الكون . ومستقبله ومستقبل الكون . . وذلك مع وجود السنن الثابتة ، التي يعرف بعضها ، وينتفع بها انتفاعاً علمياً منظماً في النهوض بعبء الخلافة .
وإن « الإنسان » ليجيء إلى هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد قدومه وإنه ليذهب عن هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد رحيله . . وكذلك كل شيء حي . . ومهما تعلم ومهما عرف ، فإن هذا لن يغير من هذا الواقع شيئاً
إن العقلية الإسلامية عقلية « غيبية علمية » لأن « الغيبية » هي « العلمية » بشهادة « العلم » والواقع . . أما التنكر للغيب فهو « الجهلية » التي يتعالم أصحابها وهم بهذه الجهالة
وإن العقلية الإسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب المكنون الذي لا يعلم مفاتحه إلا الله؛ وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل ، والتي تمكن معرفة الجوانب اللازمة منها لحياة الإنسان في الأرض ، والتعامل معها على قواعد ثابته . . فلا يفوت المسلم « العلم » البشري في مجاله ، ولا يفوته كذلك إدراك الحقيقة الواقعة؛ وهي أن هنالك غيباً لا يُطلع الله عليه أحداً ، إلا من شاء بالقدر الذي يشاء . .
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها « الفرد » فيتجاوز مرتبة « الحيوان » الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه ، إلى مرتبة « الإنسان » الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدود الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس - وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ، ولحقيقة وجوده الذاتي ، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود؛ وفي إحساسه بالكون ، وما وراء الكون من قدرة وتدبير . كما أنها بعيدة الآثر في حياته على الأرض . فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه؛ ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود؛ وأن وراء الكون . . ظاهره وخافيه . . حقيقة أكبر من الكون ، هي التي صدر عنها ، واستمد من وجودها وجوده . . حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ، ولا تحيط بها العقول .

. . . « لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة . ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان - كجماعة الماديين في كل زمان - يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى . . إلى عالم البهيمة ، الذي لا وجود فيه لغير المحسوس ويسمون هذا » تقدمية « وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها . فجعل صفتهم المميزة هي صفة : { الذين يؤمنون بالغيب } . . والحمد لله على نعمائه؛ والنكسة للمنتكسين والمرتكسين » .
والذين يتحدثون عن « الغيبية » و « العلمية » يتحدثون كذلك عن « الحتمية التاريخية » كأن كل المستقبل مستيقن و « العلم » في هذا الزمان يقول : إن هناك « احتمالات » وليست هنالك « حتميات »
ولقد كان ماركس من المتنبئين « بالحتميات » ولكن أين نبوءات ماركس اليوم؟
لقد تنبأ بحتمية قيام الشيوعية في انجلترا ، نتيجة بلوغها قمة الرقي الصناعي ومن ثم قمة الرأسمالية في جانب والفقر العمالي في جانب آخر . . فإذا الشيوعية تقوم في أكثر الشعوب تخلفاً صناعياً . . في روسيا والصين وما إليها . . ولا تقوم قط في البلاد الصناعية الراقية
ولقد تنبأ لينين وبعده ستالين بحتمية الحرب بين العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي . وها هو ذا خليفتهما « خروشوف » يحمل راية « التعايش السلمي »
ولا نمضي طويلاً مع هذه « الحتميات » التنبؤية فهي لا تستحق جدية المناقشة
إن هنالك حقيقة واحدة مستيقنة هي حقيقة الغيب ، وكل ما عداها احتمالات . وإن هنالك حتمية واحدة هي وقوع ما يقضي به الله ويجري به قدره . وقدر الله غيب لا يعلمه إلا هو . وإن هنالك - مع هذا وذلك - سنناً للكون ثابتة ، يملك الإنسان أن يتعرف إليها ، ويستعين بها في خلافة الأرض ، مع ترك الباب مفتوحاً لقدر الله النافذ؛ وغيب الله المجهول . . وهذا قوام الأمر كله . . { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } ومن علم الله الشامل بمفاتح الغيب ، وبما يجري في جنبات الكون ، ينتقل السياق إلى مجال من مجالات هذا العلم الشامل ، في ذوات البشر ، ومجال كذلك من مجالات الهيمنة الإلهية ، بعد العلم المحيط :
{ وهو الذي يتوفاكم بالليل ، ويعلم ما جرحتم بالنهار ، ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ، ثم إليه مرجعكم ، ثم ينبئكم بما كنتم تعملون } . .
بضع كلمات أخرى ، كالتي رسمت آفاق الغيب وآماده وأغواره ، وأشارت إلى مدى العلم الإلهي وشموله في الآية السابقة . . بضع كلمات أخرى تضم حياة البشرية كلها في قبضة الله - سبحانه - وفي علمه وقدره وتدبيره . . صحوهم ومنامهم . . موتهم وبعثهم . حشرهم وحسابهم . . ولكن على « طريقة القرآن » المعجزة في الإحياء والتشخيص ، وفي لمس المشاعر واستجاشتها ، مع كل صورة وكل مشهد وكل حركة يرسمها تعبيره العجيب .

{ وهو الذي يتوفاكم بالليل } . .
فهي الوفاة إذن حين يأخذهم النعاس؛ هي الوفاة في صورة من صورها بما يعتري الحواس من غفلة ، وما يعتري الحس من سهوة ، وما يعتري العقل من سكون ، وما يعتري الوعي من سبات - أي انقطاع - وهو السر الذي لا يعلم البشر كيف يحدث؛ وإن عرفوا ظواهره وآثاره؛ وهو « الغيب » في صورة من صوره الكثيرة المحيطة بالإنسان . . وهؤلاء هم البشر مجردين من كل حول وطول - حتى من الوعي - ها هم أولاء في سبات وانقطاع عن الحياة . ها هم أولاء في قبضة الله - كما هم دائماً في الحقيقة - لا يردهم إلى الصحو والحياة الكاملة إلا إرادة الله . . فما أضعف البشر في قبضة الله
{ ويعلم ما جرحتم بالنهار } . .
فما تتحرك جوارحهم لأخذ أو ترك ، إلا وعند الله علم بما كسبت من خير أو شر . . وهؤلاء هم البشر مراقبين في الحركات والسكنات؛ لا يند عن علم الله منهم شيء ، مما تكسبه جوارحهم بعد الصحو بالنهار
{ ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى } . .
أي يوقظكم في النهار من سباتكم وانقطاعكم؛ لتتم آجالكم التي قضاها الله . . وهؤلاء هم البشر داخل المجال الذي قدره الله . لا مهرب لهم منه ، ولا منتهى لهم سواه
{ ثم إليه مرجعكم } . .
فهي الأوبة إلى الراعي بعد انقضاء المراح
{ ثم ينبئكم بما كنتم تعملون } . .
فهو عرض السجل الذي وعى ما كان ، وهو العدل الدقيق الذي لا يظلم في الجزاء .
وهكذا تشمل الأية الواحدة ، ذات الكلمات المعدودة ، ذلك الشريط الحافل بالصور والمشاهد ، والمقررات والحقائق ، والإيحاءات والظلال . . فمن ذا الذي يملك أن يصنع ذلك؟ وكيف تكون الآيات الخوارق ، إن لم تكن هي هذه؟ التي يغفل عنها المكذبون ، ويطلبون الخوارق المادية وما يتبعها من العذاب الأليم
ولمسة أخرى من حقيقة الألوهية . . لمسة القوة القاهرة فوق العباد . والرقابة الدائمة التي لا تغفل . والقدر الجاري الذي لا يتقدم ولا يتأخر ، والمصير المحتوم الذي لا مفر منه ولا مهرب . والحساب الأخير الذي لا يني ولا يمهل . . وكله من الغيب الذي يلف البشر ويحيط بالناس :
{ وهو القاهر فوق عباده ، ويرسل عليكم حفظة ، حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون . ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ، ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين } . .
{ وهو القاهر فوق عباده } . .
فهو صاحب السلطان القاهر؛ وهم تحت سيطرته وقهره . هم ضعاف في قبضة هذا السلطان؛ لا قوة لهم ولا ناصر . هم عباد . والقهر فوقهم . وهم خاضعون له مقهورون . .
وهذه هي العبودية المطلقة للألوهية القاهرة . . وهذه هي الحقيقة التي ينطق بها واقع الناس - مهما ترك لهم من الحرية ليتصرفوا ، ومن العلم ليعرفوا ، ومن القدرة ليقوموا بالخلافة - إن كل نفس من أنفاسهم بقدر؛ وكل حركة في كيانهم خاضعة لسلطان الله بما أودعه في كيانهم من ناموس لا يملكون أن يخالفوه .

وإن كان هذا الناموس يجري في كل مرة بقدر خاص حتى في النفس والحركة
{ ويرسل عليكم حفظة } . .
لا يذكر النص هنا ما نوعهم . . وفي مواضع أخرى أنهم ملائكة يحصون على كل إنسان كل ما يصدر عنه . . أما هنا فالمقصود الظاهر هو إلقاء ظل الرقابة المباشرة على كل نفس . ظل الشعور بأن النفس غير منفردة لحظة واحدة ، وغير متروكة لذاتها لحظة واحدة . فهناك حفيظ عليها رقيب يحصي كل حركة وكل نأمة؛ ويحفظ ما يصدر عنها لا يند عنه شيء . . وهذا التصور كفيل بأن ينتفض له الكيان البشري؛ وتستيقظ فيه كل خالجة وكل جارحة . .
{ حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون } . .
الظل نفسه ، في صورة أخرى . . فكل نفس معدودة الأنفاس ، متروكة لأجل لا تعلمه - فهو بالنسبة لها غيب لا سبيل إلى كشفه - بينما هو مرسوم محدد في علم الله ، لا يتقدم ولا يتأخر . وكل نفس موكل بأنفاسها وأجلها حفيظ قريب مباشر حاضر ، لا يغفو ولا يغفل ولا يهمل - فهو حفيظ من الحفظة - وهو رسول من الملائكة - فإذا جاءت اللحظة المرسومة الموعودة - والنفس غافلة مشغولة - أدى الحفيظ مهمته ، وقام الرسول برسالته . . وهذا التصور كفيل كذلك بأن يرتعش له الكيان البشري؛ وهو يحس بالقدر الغيبي يحيط به؛ ويعرف أنه في كل لحظة قد يُقبض ، وفي كل نفس قد يحين الأجل المحتوم .
{ ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق } . .
مولاهم الحق من دون الآلهة المدعاة . . مولاهم الذي أنشأهم ، والذي أطلقهم للحياة ما شاء . . في رقابته التي لا تغفل ولا تفرط . . ثم ردهم إليه عندما شاء؛ ليقضي فيهم بحكمه بلا معقب :
{ ألا له الحكم ، وهو أسرع الحاسبين } . .
فهو وحده يحكم ، وهو وحده يحاسب . وهو لا يبطىء في الحكم ، ولا يمهل في الجزاء . . ولذكر السرعة هنا وقعه في القلب البشري . فهو ليس متروكاً ولو إلى مهلة في الحساب
وتصور المسلم للأمر على هذا النحو الذي توحي به أصول عقيدته في الحياة والموت والبعث والحساب ، كفيل بأن ينزع كل تردد في إفراد الله سبحانه بالحكم - في هذه الأرض - في أمر العباد . .
إن الحساب والجزاء والحكم في الآخرة ، إنما يقوم على عمل الناس في الدنيا؛ ولا يحاسب الناس على ما اجترحوا في الدنيا إلا أن تكون هناك شريعة من الله تعين لهم ما يحل وما يحرم ، مما يحاسبون يوم القيامة على أساسه؛ وتوحد الحاكمية في الدنيا والآخرة على هذا الأساس . .
فأما حين يحكم الناس في الأرض بشريعة غير شريعة الله؛ فعلام يحاسبون في الآخرة؟ أيحاسبون وفق شريعة الأرض البشرية التي كانوا يحكمون بها؛ ويتحاكمون إليها؟ أم يحاسبون وفق شريعة الله السماوية التي لم يكونوا يحكمون بها؛ ولا يتحاكمون إليها؟
إنه لا بد أن يستيقن الناس أن الله محاسبهم على أساس شريعته هو لا شريعة العباد .

وأنهم إن لم ينظموا حياتهم ، ويقيموا معاملاتهم - كما يقيمون شعائرهم وعباداتهم - وفق شريعة الله في الدنيا ، فإن هذا سيكون أول ما يحاسبون عليه بين يدي الله . وأنهم يومئذ سيحاسبون على أنهم لم يتخذوا الله - سبحانه - إلهاً في الأرض؛ ولكنهم اتخذوا من دونه أرباباً متفرقة . وأنهم محاسبون إذن على الكفر بألوهية الله - أو الشرك به باتباعهم شريعته في جانب العبادات والشعائر ، واتباعهم شريعة غيره في النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ، وفي المعاملات والارتباطات - والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . .
ثم يحاكمهم إلى فطرتهم التي تعرف حقيقة الألوهية؛ وتلتجىء إلى إلهها الحق في ساعة الشدة؛ ويرسم لهم هذه الفطرة أمام الهول والكرب؛ وكيف يخالفون عنها في اليسر والرخاء . . في مشهد قصير سريع ، ولكنه واضح حاسم ، وموح مؤثر .
إن الهول والكرب الذي ترتعد له الفرائص ليس مؤجلاً دائماً إلى يوم الحشر والحساب . فهم يصادفون الهول في ظلمات البر والبحر . فلا يتوجهون عند الكرب إلا لله؛ ولا ينجيهم من الكرب إلا الله . . ولكنهم يعودون إلى ما كانوا فيه من الشرك عند اليسر والرخاء :
{ قل : من ينجيكم من ظلمات البر والبحر ، تدعونه تضرعاً وخفية : لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين . قل : الله ينجيكم منها ومن كل كرب ، ثم أنتم تشركون } . .
إن تصور الخطر ، وتذكر الهول ، قد يردان النفوس الجامحة ، ويرققان القلوب الغليظة ، ويذكران النفس لحظات الضعف والإنابة؛ كما يذكرانها رحمة الفرج ونعمة النجاة :
{ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية : لئن أنجانا من هذه لنكون من الشاكرين } . .
إنها تجربة يعرفها كل من وقع في ضيقة ، أو رأى المكروبين في لحظة الضيق . . وظلمات البر والبحر كثيرة . وليس من الضروري أن يكون الليل لتتحقق الظلمات . فالمتاهة ظلام ، والخطر ظلام ، والغيب الذي ينتظر الخلق في البر والبحر حجاب . . وحيثما وقع الناس في ظلمة من ظلمات البر والبحر لم يجدوا في أنفسهم إلا الله يدعونه متضرعين أو يناجونه صامتين . . إن الفطرة تتعرى حينئذ من الركام؛ فتواجه الحقيقة الكامنة في أعماقها . . حقيقة الألوهية الواحدة . . وتتجه إلى الله الحق بلا شريك؛ لأنها تدرك حينئذ سخافة فكرة الشرك ، وتدرك انعدام الشريك ويبذل المكروبون الوعود :
{ لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين } . .
والله - سبحانه - يقول لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ليذكرهم بحقيقة الأمر :
{ قل : الله ينجيكم منها ومن كل كرب } . فليس هنالك غيره يستجيب ، ويقدر على دفع الكروب .

. ثم ليذكرهم بتصرفهم المنكر العجيب :
{ ثم أنتم تشركون } . .
وهنا يواجههم ببأس الله الذي قد يأخذهم بعد النجاة فما هي مرة وتنتهي ، ثم يفلتون من القبضة كما يتصورون :
{ قل : هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم ، أو من تحت أرجلكم ، أو يلبسكم شيعاً ، ويذيق بعضكم بأس بعض . انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون } . .
وتصور العذاب الغامر من فوق ، أو النابع من تحت ، أشد وقعاً في النفس من تصوره آتياً عن يمين أو شمال . فالوهم قد يخيل للإنسان أنه قد يقدر على دفع العذاب من يمين أو شمال أما العذاب الذي يصب عليه من فوق ، أو يأخذه من تحت ، فهو عذاب غامر قاهر مزلزل ، لا مقاومة له ولا ثبات معه والتعبير الموحي يتضمن هذا المؤثر القوي في حس الإنسان ووهمه ، وهو يقرر حقيقة قدرة الله على أخذ العباد بالعذاب من حيث شاء وكيف شاء .
ويضيف إلى ألوان العذاب الداخلة في قدرة الله؛ والتي قد يأخذ العباد بها متى شاء؛ لوناً آخر بطيئاً طويلاً؛ لا ينهي أمرهم كله في لحظة؛ ولكنه يصاحبهم ويساكنهم ويعايشهم بالليل والنهار :
{ أو يلبسكم شيعاً ، ويذيق بعضكم بأس بعض } . .
وهي صورة من العذاب المقيم الطويل المديد؛ الذي يذوقونه بأيديهم ، ويجرعونه لأنفسهم؛ إذ يجعلهم شيعاً وأحزاباً ، متداخلة لا يتميز بعضها عن بعض ، ولا يفاصل بعضها بعضاً ، فهي أبداً في جدال وصراع ، وفي خصومة ونزاع ، وفي بلاء يصبه هذا الفريق على ذاك . .
ولقد عرفت البشرية في فترات كثيرة من تاريخها ذلك اللون من العذاب ، كلما انحرفت عن منهج الله؛ وتركت لأهواء البشر ونزواتهم وشهواتهم وجهالتهم وضعفهم وقصورهم . . تصريف الحياة وفق تلك الأهواء والنزوات والشهوات والجهالة والضعف والقصور . وكلما تخبط الناس وهم يضعون أنظمة للحياة وأوضاعاً وشرائع وقوانين وقيماً وموازين من عند أنفسهم؛ يتعبد بها الناس بعضهم بعضاً؛ ويريد بعضهم أن يخضع لأنظمته وأوضاعه وشرائعه وقوانينه البعض الآخر ، والبعض الآخر يأبى ويعارض ، وأولئك يبطشون بمن يأبى ويعارض . وتتصارع رغباتهم وشهواتهم وأطماعهم وتصوراتهم . فيذوق بعضهم بأس بعض ، ويحقد بعضهم على بعض ، وينكر بعضهم بعضاً ، لأنهم لا يفيئون جميعاً إلى ميزان واحد؛ يضعه لهم المعبود الذي يعنو له كل العبيد ، حيث لا يجد أحدهم في نفسه استكباراً عن الخضوع له ، ولا يحس في نفسه صغاراً حين يخضع له .
إن الفتنة الكبرى في الأرض هي أن يقوم من بين العباد من يدعي حق الألوهية عليهم ، ثم يزاول هذا الحق فعلاً إنها الفتنة التي تجعل الناس شيعاً ملتبسة؛ لأنهم من ناحية المظهر يبدون أمة واحدة أو مجتمعاً واحداً ، ولكن من ناحية الحقيقة يكون بعضهم عبيداً لبعض؛ ويكون بعضهم في يده السلطة التي يبطش بها - لأنها غير مقيدة بشريعة من الله - ويكون بعضهم في نفسه الحقد والتربص .

. ويذوق الذين يتربصون والذين يبطشون بعضهم بأس بعض وهم شيع؛ ولكنها ليست متميزة ولا منفصلة ولا مفاصِلة
والأرض كلها تعيش اليوم في هذا العذاب البطيء المديد
وهذا يقودنا إلى موقف العصبة المسلمة في الأرض . وضرورة مسارعتها بالتميز من الجاهلية المحيطة - بها والجاهلية كل وضع وكل حكم وكل مجتمع لا تحكمه شريعة الله وحدها ، ولا يفرد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية - وضرورة مفاصلتها للجاهلية من حولها؛ باعتبار نفسها أمة متميزة من قومها الذي يؤثرون البقاء في الجاهلية ، والتقيد بأوضاعها وشرائعها وأحكامها وموازينها وقيمها .
إنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها هذا العذاب : { أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } . . إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقيدياً وشعورياً ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها - حتى يأذن الله لها بقيام « دار إسلام » تعتصم بها - وإلا أن تشعر شعوراً كاملاً بأنها هي « الأمة المسلمة » وأن ما حولها ومن حولها ، ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه ، جاهلية وأهل جاهلية . وأن تفاصل قومها على العقيدة والمنهج؛ وأن تطلب بعد ذلك من الله أن يفتح بينها وبين قومها بالحق وهو خير الفاتحين .
فإذا لم تفاصل هذه المفاصلة ، ولم تتميز هذا التميز ، حق عليها وعيد الله هذا . وهو أن تظل شيعة من الشيع في المجتمع ، شيعة تتلبس بغيرها من الشيع ، ولا تتبين نفسها ، ولا يتبينها الناس مما حولها . وعندئذ يصيبها ذلك العذاب المقيم المديد؛ دون أن يدركها فتح الله الموعود
إن موقف التميز والمفاصلة قد يكلف العصبة المسلمة تضحيات ومشقات . . غير أن هذه التضحيات والمشقات لن تكون أشد ولا أكبر من الآلام والعذاب الذي يصيبها نتيجة التباس موقفها وعدم تميزه ، ونتيجة اندغامها وتميعها في قومها والمجتمع الجاهلي من حولها . .
ومراجعة تاريخ الدعوة إلى الله على أيدي جميع رسل الله ، يعطينا اليقين الجازم بأن فتح الله ونصره ، وتحقيق وعده بغلبة رسله والذين آمنوا معهم . . لم يقع في مرة واحدة ، قبل تميز العصبة المسلمة ومفاصلتها لقومها على العقيدة وعلى منهج الحياة - أي الدين - وانفصالها بعقيدتها ودينها عن عقيدة الجاهلية ودينها - أي نظام حياتها - وأن هذه كانت هي نقطة الفصل ومفرق الطريق في الدعوات جميعاً .
وطريق هذه الدعوة واحد . ولن يكون في شأنها إلا ما كان على عهود رسل الله جميعاً ، صلوات الله عليهم وسلامه :
{ انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون } . .
والله نسأل أن يجعلنا ممن يصرف الله لهم الآيات فيفقهون . .

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)

إنها جولة لتقرير المفاصلة التي انتهت بها الموجة السابقة؛ فقوم النبي - صلى الله عليه وسلم - هم الذين كذبوا بما جاءهم به - وهو الحق - ومن ثم انفصل ما بينه وبين قومه وانبتَّ؛ وأُمر أن يفاصلهم فيعلن إليهم أنه ليس عليهم بوكيل ، وأنه يتركهم لمصيرهم الذي لا بد آتٍ ، وأمر أن يعرض عنهم فلا يجالسهم متى رآهم يخوضون في الدين ، ويتخذونه لعباً ولهواً ، ولا يوقرونه التوقير الواجب للدين ، وأمر - مع ذلك - أن يذكرهم ويحذرهم ويبلغهم وينذرهم ، ولكن على أنه وإياهم - وهم قومه - فريقان مختلفان ، وأمتان متميزتان . . فلا قوم ولا جنس ولا عشيرة ولا أهل في الإسلام . . إنما هو الدين الذي يربط ما بين الناس أو يفصم . . وإنما هي العقيدة التي تجمع بين الناس أو تفرق . وحين يوجد أساس الدين توجد تلك الروابط الأخرى . وحين تنفصم هذه العروة تفصم الروابط والصلات .
وهذه هي الخلاصة المجملة لهذه الموجة من السياق .
{ وكذب به قومك - وهو الحق - قل : لست عليكم بوكيل . لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون } . .
والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيه ، ويعطي المؤمنين من ورائه ، الثقة التي تملأ القلب بالطمأنينة . الثقة بالحق - ولو كذب به قومه وأصروا على التكذيب - فما هم بالحكم في هذا الأمر ، إنما كلمة الفصل فيه لله سبحانه . وهو يقرر أنه الحق . وأن لا قيمة ولا وزن لتكذيب القوم
ثم يأمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبرأ من قومه وينفض منهم يده ، وأن يعلنهم بهذه المفاصلة ، ويعلمهم أنه لا يملك لهم شيئاً؛ وأنه ليس حارساً عليهم ولا موكلاً بهم بعد البلاغ ، ولا مكلفاً أن يهدي قلوبهم - فليس هذا من شأن الرسول - ومتى أبلغهم ما معه من الحق ، فقد انتهى بينه وبينهم الأمر؛ وأنه يخلي بينهم وبين المصير الذي لا بد أن ينتهي إليه أمرهم . فإن لكل نبأ مستقراً ينتهي إليه ويستقر عنده . وعندئذ يعلمون ما سيكون
{ لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون } . .
وفي هذا الإجمال من التهديد ما يزلزل القلوب . .
إنها الطمأنينة الواثقة بالحق؛ الواثقة بنهاية الباطل مهما تبجح ، الواثقة بأخذ الله للمكذبين في الأجل المرسوم ، الواثقة من أن كل نبأ إلى مستقر؛ وكل حاضر إلى مصير .
وما أحوج أصحاب الدعوة إلى الله - في مواجهة التكذيب من قومهم ، والجفوة من عشيرتهم ، والغربة في أهلهم ، والأذى والشدة والتعب واللأواء . . ما أحوجهم إلى هذه الطمأنينة الواثقة التي يسكبها القرآن الكريم في القلوب
فإذا أنهى إليهم هذا البلاغ ، وإذا واجه تكذيبهم بهذه المفاصلة . . فإنه - صلى الله عليه وسلم - مأمور بعد ذلك ألا يجالسهم - حتى للبلاغ والتذكير - إذا رآهم يخوضون في آيات الله بغير توقير؛ ويتحدثون عن الدين بغير ما ينبغي للدين من الجد والمهابة؛ ويجعلون الدين موضعاً للعب واللهو؛ بالقول أو بالفعل؛ حتى لا تكون مجالسته لهم - وهم على مثل هذه الحال - موافقة ضمنية على ما هم فيه؛ أو قلة غيرة على الدين الذي لا يغار المسلم على حرمة كما يغار عليه .

فإذا أنساه الشيطان فجلس معهم ، ثم تذكر ، قام من فوره وفارق مجلسهم :
{ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره . وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } . .
ولقد كان هذا الأمر للرسول - صلى الله عليه وسلم - ويمكن في حدود النص أن يكون أمراً لمن وراءه من المسلمين . . كان هذا الأمر في مكة . حيث كان عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقف عند حدود الدعوة . وحيث كان غير مأمور بقتال للحكمة التي أرادها الله في هذه الفترة . وحيث كان الاتجاه واضحاً لعدم الاصطدام بالمشركين ما أمكن . . فكان هذا الأمر بألا يجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجالس المشركين؛ متى رآهم يخوضون في آيات الله ويذكرون دينه بغير توقير ، والمسارعة إلى ترك هذه المجالس - لو أنساه الشيطان - بمجرد أن يتذكر أمر الله ونهيه . وكان المسلمون كذلك مأمورين بهذا الأمر كما تقول بعض الروايات . . والقوم الظالمون ، المقصود بهم هنا القوم المشركون . كما هو التعبير الغالب في القرآن الكريم . .
فأما بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة ، فكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - شأن آخر مع المشركين . وكان الجهاد والقتال حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله . حيث لا يجترىء أحد على الخوض في آيات الله
ثم يكرر السياق المفاصلة بين المؤمنين والمشركين ، كما قررها من قبل بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين . ويقرر اختلاف التبعة واختلاف المصير :
{ وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ، ولكن ذكرى لعلهم يتقون } . .
فليست هنالك تبعة مشتركة بين المتقين والمشركين . فهما أمتان مختلفتان - وإن اتحدتا في الجنس والقوم فهذه لا وزن لها في ميزان الله ، ولا في اعتبار الإسلام . . إنما المتقون أمة ، والظالمون ( أي المشركون ) أمة ، وليس على المتقين شيء من تبعة الظالمين وحسابهم . ولكنهم إنما يقومون بتذكيرهم رجاء أن يتقوا مثلهم ، وينضموا إليهم . . وإلا فلا مشاركة في شيء ، إذا لم تكن مشاركة في عقيدة
هذا دين الله وقوله . . ولمن شاء أن يقول غيره . ولكن ليعلم أنه يخرج من دين الله كله إذ يقول ما يقول
ويستمر السياق في تقرير هذه المفاصلة؛ وفي بيان الحدود التي تكون فيها المعاملة :
{ وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرّتهم الحياة الدنيا ، وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ، وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها .

أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا ، لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } . .
ونقف من الآية أمام عدة أمور :
أولها : أن الرسول صلى الله عليه وسلم - وينسحب الأمر على كل مسلم - مأمور أن يهمل شأن الذين يتخذون دينهم لعباً ولهواً . . وهذا يتم بالقول كما يتم بالفعل . . فالذي لا يجعل لدينه وقاره واحترامه باتخاذه قاعدة حياته اعتقاداً وعبادة ، وخلقاً وسلوكاً ، وشريعة وقانوناً ، إنما يتخذ دينه لعباً ولهواً . . والذي يتحدث عن مبادئ هذا الدين وشرائعه فيصفها أوصافاً تدعو إلى اللعب واللهو . كالذين يتحدثون عن « الغيب » - وهو أصل من أصول العقيدة - حديث الاستهزاء . والذين يتحدثون عن « الزكاة » وهي ركن من أركان الدين حديث الاستصغار . والذين يتحدثون عن الحياء والخلق والعفة - وهي من مبادىء هذا الدين - بوصفها من أخلاق المجتمعات الزراعية ، أو الإقطاعية ، أو « البرجوازية » الزائلة والذين يتحدثون عن قواعد الحياة الزوجية المقررة في الإسلام حديث إنكار أو استنكار . والذين يصفون الضمانات التي جعلها الله للمرأة لتحفظ عفتها بأنها « أغلال » . . وقبل كل شيء وبعد كل شيء . . الذين ينكرون حاكمية الله المطلقة في حياة الناس الواقعية : السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية . . ويقولون : إن للبشر أن يزاولوا هذا الاختصاص دون التقيد بشريعة الله . . أولئك جميعاً من المعنيين في هذه الآيات بأنهم يتخذون دينهم لعباً ولهواً . وبأن المسلم مأمور بمفاصلتهم ومقاطعتهم إلا للذكرى . وبأنهم الظالمون - أي المشركون - والكافرون الذين أبسلوا بما كسبوا ، فلهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون . .
وثانيها : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وينسحب الأمر على كل مسلم - مأمور بعد إهمال شأن هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا - أن يقوم بتذكيرهم وتخويفهم من أن ترتهن نفوسهم بما كسبوا ، وأن يلاقوا الله ليس لهم من دونه ولي ينصرهم ، ولا شفيع يشفع لهم؛ كما أنه لا يقبل منهم فدية لتطلق نفوسهم بعد ارتهانها بما كسبت .
وللتعبير القرآني جماله وعمقه وهو يقول :
{ وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ، وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها } . .
فكل نفس على حدة تبسل ( أي ترتهن وتؤخذ ) بما كسبت ، حالة أن ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ، ولا يقبل منها عدل تفتدى به وتفك الربقة
فأما أولئك الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا فهؤلاء قد ارتهنوا بما كسبوا؛ وحق عليهم ما سبق في الآية؛ وكتب عليهم هذا المصير :
{ أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا ، لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } .

.
لقد أخذوا بما فعلوا؛ وهذا جزاؤهم : شراب ساخن يشوي الحلوق والبطون؛ وعذاب أليم بسبب كفرهم ، الذي دل عليه استهزاؤهم بدينهم . .
وثالثها : قول الله تعالى في المشركين : { الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } . .
فهل هو دينهم؟ . .
إن النص ينطبق على من دخل في الإسلام ، ثم اتخذ دينه هذا لعباً ولهواً . . وقد وجد هذا الصنف من الناس وعرف باسم المنافقين . . ولكن هذا كان في المدينة . .
فهل هو ينطبق على المشركين الذين لم يدخلوا في الإسلام؟ إن الإسلام هو الدين . . هو دين البشرية جميعاً . . سواء من آمن به ومن لم يؤمن . . فالذي رفضه إنما رفض دينه . . باعتبار أنه الدين الوحيد الذي يعده الله ديناً ويقبله من الناس بعد بعثة خاتم النبيين .
ولهذه الإضافة دلالتها في قوله :
{ وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } . .
فهي - والله أعلم - إشارة إلى هذا المعنى الذي أسلفناه ، من اعتبار الإسلام ديناً للبشرية كافة . فمن اتخذه لعباً ولهواً ، فإنما يتخذ دينه كذلك . . ولو كان من المشركين . .
ولا نزال نجدنا في حاجة إلى تقرير من هم المشركون؟ إنهم الذين يشركون بالله أحداً في خصائص الألوهية . سواء في الاعتقاد بألوهية أحد مع الله . أو بتقديم الشعائر التعبدية لأحد مع الله . أو بقبول الحاكمية والشريعة من أحد مع الله . ومن باب أولى من يدعون لأنفسهم واحدة من هذه ، مهما تسمَّوا بأسماء المسلمين فلنكن من أمر ديننا على يقين
ورابعها : حدود مجالسة الظالمين - أي المشركين - والذين يتخذون دينهم لعباً ولهواً . . وقد سبق القول بأنها لمجرد التذكير والتحذير . فليست لشيء وراء ذلك - متى سمع الخوض في آيات الله؛ أو ظهر اتخاذها لعباً ولهواً بالعمل بأية صورة مما ذكرنا أو مثلها . .
وقد جاء في قول القرطبي في كتابه : الجامع لأحكام القرآن بصدد هذه الآية :
« في هذه الآية ردٌّ من كتاب الله عز وجل ، على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم ، لهم أن يخالطوا الفاسقين ، ويصوّبوا آراءهم تَقيةً . . »
ونحن نقول : إن المخالطة بقصد الموعظة والتذكير وتصحيح الفاسد والمنحرف من آراء الفاسقين تبيحها الآية في الحدود التي بينتها . أما مخالطة الفاسقين والسكوت عما يبدونه من فاسد القول والفعل من باب التقية فهو المحظور . لأنه - في ظاهره - إقرار للباطل ، وشهادة ضد الحق . وفيه تلبيس على الناس ، ومهانة لدين الله وللقائمين على دين الله . وفي هذه الحالة يكون النهي والمفارقة .
كذلك روى القرطبي في كتابه هذه الأقوال :
« قال ابن خويز منداد : من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر - مؤمناً كان أو كافراً - قال : وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ، ودخول كنائسهم والبيع ، ومجالسة الكفار وأهل البدع؛ وألا تعتقد مودتهم ، ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم .

وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي : اسمع مني كلمة . فأعرض عنه ، وقال : ولا نصف كلمة . ومثله عن أيوب السختياني . وقال الفضيل بن عياض : من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله ، وأخرج الإسلام من قلبه ، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها؛ ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة ، وإذا علم الله من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له . وروى أبو عبدالله الحاكم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : « قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام » .
فهذا كله في صاحب البدعة وهو على دين الله . . وكله لا يبلغ مدى من يدعي خصائص الألوهية بمزاولته للحاكمية؛ ومن يقره على هذا الادعاء . . فليس هذا بدعة مبتدع؛ ولكنه كفر كافر ، أو شرك مشرك . مما لم يتعرض له السلف لأنه لم يكن في زمانهم . فمنذ أن قام الإسلام في الأرض لم يبلغ من أحد أن يدعي هذه الدعوى ، وهو يزعم الإسلام . ولم يقع شيء من ذلك إلا بعد الحملة الفرنسية التي خرج بعدها الناس من إطار الإسلام - إلا من عصم الله - وكذلك لم يعد في قول هؤلاء السلف ما ينطبق على هذا الذي كان فقد تجاوز كل ما تحدثوا عنه بمثل هذه الأحكام . .

قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)

هذا الإيقاع القوي بحقيقة الألوهية وخصائصها؛ وباستنكار الشرك والعودة إليه بعد الهدى؛ وبمشهد الذي يرجع القهقرى مرتداً عن دين الله؛ وحيرته في التيه بلا اتجاه؛ وبتقرير أن هدى الله وحده هو الهدى . . هذا الإيقاع يختم برنة عالية عميقة مدوية . عن سلطان الله المطلق ، في الأمر والخلق؛ وعن انكشاف هذا السلطان وتفرده بالظهور - حتى للمنكرين المطموسين - { يوم ينفخ في الصور } ويبعث من في القبور؛ ويستيقن من لم يكن يستيقن أن الملك لله وحده ، وأن إليه المصير :
{ قل : أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ، ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، كالذي استهوته الشياطين في الأرض ، حيران ، له أصحاب يدعونه إلى الهدى . ائتنا . قل : إن هدى الله هو الهدى ، وأمرنا لنسلم لرب العالمين . وأن أقيموا الصلاة واتقوه } . .
{ قل } . . الإيقاع القوي المتكرر في السورة؛ الذي يوحي بأن هذا الأمر لله وحده ، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما هو منذر ومبلغ؛ والذي يوحي بجلال هذا الأمر وعلويته ورهبته؛ وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما هو مأمور به من ربه .
{ قل : أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا؟ } . .
قل لهم يا محمد ما هم عليه من دعوة غير الله والاستعانة به وإسلام مقادهم لهؤلاء الذين يدعونهم من دونه ، وهم لا يملكون نفعاً ولا ضراً . سواء كان ما يدعونه وثناً أو صنماً ، حجراً أو شجراً ، روحاً أم ملكاً ، شيطاناً أم إنساناً . . . فكلهم سواء في أنهم لا ينفعون شيئاً ولا يضرون . فهم أعجز من النفع والضر . وكل حركة إنما تجري بقدر من الله . فما لم يأذن به الله لا يكون ، ولا يكون إلا قدره وما جرى به قضاؤه من الأمور . .
قل لهم مستنكراً دعوة غير الله ، وعبادة غير الله ، والاستعانة بغير الله ، والخضوع لغير الله . وسخف هذا التصرف وهذا الاتجاه . . وسواء كان ذلك رداً على ما كان يقترحه المشركون على النبي - صلى الله عليه وسلم - من مشاركتهم عبادة آلهتهم ليشاركوه عبادة ربه أو كان ذلك استنكاراً مبتدأ لما عليه المشركون ، وإعلاناً للمفارقة والمفاصلة فيه من جانب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . . فإن المؤدى في النهاية واحد؛ وهو استنكار هذا السخف الذي يرفضه العقل البشري ذاته متى عرض له في النور؛ بعيداً عن الموروثات الراسبة ، وبعيداً كذلك عن العرف السائد في البيئة
ولتجسيم السخف وتضخيم الاستنكار يعرض هذه المعتقدات في ضوء ما هدى الله المسلمين إليه من عبادته وحده ، واتخاذه وحده إلهاً ، والدينونة له وحده بلا شريك :
{ قل : أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا؟ } .

.
فهو ارتداد على الأعقاب؛ ورجوع إلى الوراء؛ بعد التقدم والارتقاء . .
ثم هذا المشهد الشاخص المتحرك الموحي المثير :
{ كالذي استهوته الشياطين في الأرض . . حيران . . له أصحاب يدعونه إلى الهدى : ائتنا } . .
إنه مشهد حي شاخص متحرك للضلالة والحيرة التي تنتاب من يشرك بعد التوحيد ، ومن يتوزع قلبه بين الإله الواحد ، والآلهة المتعددة من العبيد ويتفرق إحساسه بين الهدى والضلال ، فيذهب في التيه . . إنه مشهد ذلك المخلوق التعيس : { الذي استهوته الشياطين في الأرض } - ولفظ الاستهواء لفظ مصور بذاته لمدلوله - ويا ليته يتبع هذا الاستهواء في اتجاهه ، فيكون له اتجاه صاحب القصد الموحد - ولو في طريق الضلال - ولكن هناك ، من الجانب الآخر ، أصحاب له مهتدون ، يدعونه إلى الهدى ، وينادونه { ائتنا } - وهو بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء { حيران } لا يدري أين يتجه ، ولا أي الفريقين يجيب
إنه العذاب النفسي يرتسم ويتحرك ، حتى ليكاد يحس ويلمس من خلال التعبير
ولقد كنت أتصور هذا المشهد وما يفيض به من عذاب الحيرة والتأرجح والقلقلة كلما قرآت هذا النص . . ولكن مجرد تصور . . حتى رأيت حالات حقيقية ، يتمثل فيها هذا الموقف ، ويفيض منها هذا العذاب . . حالات ناس عرفوا دين الله وذاقوه - أياً كانت درجة هذه المعرفة وهذا التذوق - ثم ارتدوا عنه إلى عبادة الآلهة الزائفة ، تحت قهر الخوف والطمع . . ثم إذا هم في مثل هذا البؤس المرير . . وعندئذ عرفت ماذا تعني هذه الحالة ، وماذا يعني هذا التعبير
وبينما ظل المشهد الحي الشاخص المتحرك الموحي ، يغمر النفس بالوجل من هذا المصير التعيس . . يأتي التقرير الحاسم بالاتجاه الثابت المستقيم :
{ قل : إن هدى الله هو الهدى ، وأمرنا لنسلم لرب العالمين ، وأن أقيموا الصلاة واتقوه } . .
إنه التقرير الحاسم في الظرف النفسي المناسب ، فالنفس التي ترتسم لها صورة الحيرة الطاغية ، والعذاب المرير من هذه الحيرة التي لا تستقر على قرار ، تكون أقرب ما تكون إلى استقبال القرار الحاسم بالراحة والتسليم . .
ثم إنه الحق في ذلك التقرير الحاسم :
{ قل : إن هدى الله هو الهدى } . .
هو وحده الهدى - كما يفيد التركيب البياني للجملة - وإنه لكذلك عن يقين . .
وإن البشرية لتخبط في التيه ، كلما تركت هذا الهدى ، أو انحرفت عن شيء منه واستبدلت به شيئاً من تصوراتها هي ومقولاتها ، وأنظمتها وأوضاعها ، وشرائعها وقوانينها ، وقيمها وموازينها ، بغير « علم » ولا « هدى » ولا « كتاب منير » . .
إن « الإنسان » موهوب من الله القدرة على تعرف بعض نواميس الكون وبعض طاقاته وقواه ، للانتفاع بها في الخلافة في الأرض ، وترقية هذه الحياة . . ولكن هذا الإنسان ذاته غير موهوب من الله القدرة على استكناه الحقائق المطلقة في هذا الكون ، ولا على الإحاطة بأسرار الغيوب التي تلفه من كل جانب ، ومنها غيب عقله هو وروحه ، بل غيب وظائف جسمه والأسباب الكامنة وراء هذه الوظائف ، والتي تدفعها للعمل هكذا ، وبهذا الانتظام ، وفي هذا الاتجاه .

ومن ثم يحتاج هذا « الإنسان » إلى هدى الله في كل ما يختص بكينونته وحياته من عقيدة وخلق ، وموازين وقيم ، وأنظمة وأوضاع ، وشرائع وقوانين تحكم هذه الكينونة وتنظم لها واقع الحياة . .
وكلما فاء هذا « الإنسان » إلى هدى الله اهتدى . لأن هدى الله هو الهدى . وكلما بعد كلية عنه ، أو انحرف بعض الانحراف واستبدل به شيئاً من عنده ضل . لأن ما ليس من هدى الله فهو ضلال . . إذ ليس هنالك نوع ثالث { فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ } .
ولقد ذاقت البشرية من ويلات هذا الضلال - وما تزال كلها تذوق - ما هو « حتمي » في تاريخ البشرية حين تنحرف عن هدى الله . . فهذه هي « الحتمية التاريخية » الوحيدة المستيقنة لأنها من أمر الله ، ومن خبر الله ، لا تلك الحتميات المدعاة والذي يريد أن يتملى شقاء البشرية في انحرافها عن هدى الله ، لا يحتاج أن ينقب ، فهو حوله في كل أرض تراه الأعين وتلمسه الأيدي ، ويصرخ منه العقلاء في كل مكان .
ومن ثم يستطرد السياق في الآية ليقرر ضرورة الاستسلام لله وحده ، وعبادته وحده ، ومخافته وتقواه :
{ وأمرنا لنسلم لرب العالمين ، وأن أقيموا الصلاة واتقوه } . .
قل يا محمد وأعلن أن هدى الله هو الهدى؛ وأننا - من ثم - أمرنا أن نسلم لرب العالمين . فهو وحده الذي يستسلم له العالمون . فالعوالم كلها مستسلمة له ، فماذا الذي يجعل الإنسان وحده - من بين العالمين - يشذ عن الاستسلام لهذه الربوبية الشاملة التي تستسلم لها العوالم في السماوات والأرضين؟
إن ذكر الربوبية للعالمين هنا له موضعه . . إنه يقرر الحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها وهي استسلام الوجود كله ، وما فيه من عوالم مشهودة ومغيبة ، للنواميس التي وضعها الله لها؛ وهي لا تملك الخروج عليها ، والإنسان - من ناحية تركيبه العضوي - يستسلم كذلك لهذه النواميس كرهاً ، ولا يملك الخروج عليها . . فلا يبقى إلا أن يستسلم في الجانب الذي ترك له الخيار فيه ليبتلى فيه ، وهو جانب الاختيار . . اختيار الهدى أو الضلال . . ولو استسلم فيه استسلام كيانه العضوي ، لاستقام أمره ، وتناسق تكوينه وسلوكه ، وجسمه وروحه ، ودنياه وآخرته . .
وفي إعلان الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين معه ، أنهم أمروا بالاستسلام فاستسلموا ، إيحاء مؤثر لمن يفتح الله قلبه للتلقي والاستجابة على مدى الزمان .
وبعد إعلان الاستسلام لرب العالمين تجيء التكاليف التعبدية والشعورية :
{ وأن أقيموا الصلاة واتقوه } .
فالأصل هو الاستسلام لربوبية رب العالمين ، وسلطانه وتربيته وتقويمه . ثم تجيء العبادات الشعائرية؛ وتجيء الرياضات النفسية .

. لتقوم على قاعدة الاستسلام . . فإنها لا تقوم إلا إذا رسخت هذه القاعدة ليقوم عليها البناء .
وفي الإيقاع الأخير في الفقرة يحشد السياق المؤثرات من الحقائق الأساسية في العقيدة : حقيقة الحشر . وحقيقة الخلق . وحقيقة السلطان . وحقيقة العلم بالغيب والشهادة . وحقيقة الحكمة والخبرة . . من خصائص الألوهية ، التي هي الموضوع الرئيسي في هذه السورة :
{ وهو الذي إليه تحشرون . وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق . ويوم يقول : كن فيكون . قوله الحق ، وله الملك يوم ينفخ في الصور ، عالم الغيب والشهادة ، وهو الحكيم الخبير } . .
{ وهو الذي إليه تحشرون } . .
إن الاستسلام لرب العالمين ضرورة وواجب . . فهو الذي إليه تحشر الخلائق . . فأولى لهم أن يقدموا بين يدي الحشر - الحتمي - ما ينجيهم؛ وأولى لهم أن يستسلموا اليوم له استسلام العالمين؛ قبل أن يقفوا أمامه مسؤولين . . وكذلك يصبح تصور هذه الحقيقة - حقيقة الحشر - موحياً بالاستسلام في المبدأ ، ما دام أنه لا مفر من الاستسلام في المصير
{ وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق } . .
وهذه حقيقة أخرى تحشد كمؤثر آخر . . فالله الذي يؤمرون بالاستسلام له هو الذي خلق السماوات والأرض - والذي يخلق يملك ويحكم ويقضي ويتصرف - ولقد خلق السماوات والأرض « بالحق » . فالحق قوام هذا الخلق . . وفضلاً عما يقرره هذا النص من نفي الأوهام التي عرفتها الفلسفة عن هذا الكون - وبخاصة الأفلاطونية والمثالية - من أن هذا العالم المحسوس وهم لا وجود له على الحقيقة - فضلاً على تصحيح مثل هذه التصورات ، فإن النص يوحي بأن الحق أصيل في بنية هذا الكون ، وفي مآلاته كذلك . فالحق الذي يلوذ به الناس يستند إلى الحق الكامن في فطرة الوجود وطبيعته ، فيؤلف قوة هائلة ، لا يقف لها الباطل ، الذي لا جذور له في بنية الكون ، وإنما هو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار . وكالزبد يذهب جفاء ، إذ لا أصالة له في بناء الكون . . كالحق . . . وهذه حقيقة ضخمة ، ومؤثر كذلك عميق . .
إن المؤمن الذي يشعر أن الحق الذي معه - هو شخصياً وفي حدود ذاته - إنما يتصل بالحق الكبير في كيان هذا الوجود . وفي الآية الأخرى : { ذلك بأن الله هو الحق } فيتصل الحق الكبير الذي في الوجود بالحق المطلق في الله سبحانه . . إن المؤمن الذي يشعر بهذه الحقيقة على هذا النحو الهائل ، لا يرى في الباطل - مهما تضخم وانتفخ وطغى وتجبر وقدر على الأذى المقدر - إلا فقاعة طارئة على هذا الوجود؛ لا جذور لها ولا مدد؛ تنفثىء من قريب ، وتذهب كأن لم تكن في هذا الوجود .
كما أن غير المؤمن يرتجف حسه أمام تصور هذه الحقيقة . وقد يستسلم ويثوب
{ ويوم يقول : كن فيكون } . .
فهو السلطان القادر ، وهي المشيئة الطليقة ، في الخلق والإبداع والتغيير والتبديل .

. وعرض هذه الحقيقة - فضلاً على أنه من عمليات البناء للعقيدة في قلوب المؤمنين - هو كذلك مؤثر موح في نفوس الذين يُدعون إلى الاستسلام لله رب العالمين الخالق بالحق . . الذي يقول : كن فيكون .
{ قوله الحق } . .
سواء في القول الذي يكون به الخلق : { كن فيكون } . أو في القول الذي يأمر به بالاستسلام له وحده . أو في القول الذي يشرع به للناس حين يستسلمون . أو في القول الذي يخبر به عن الماضي والحاضر والمستقبل . وعن الخلق والنشأة والحشر والجزاء .
قوله الحق في هذا كله . . فأولى أن يستسلم له وحده من يشركون به ما لا ينفع ولا يضر من خلقه . ومن يتبعون قول غيره كذلك وتفسيره للوجود وتشريعه للحياة . في أي اتجاه .
{ وله الملك يوم ينفخ في الصور } . .
ففي هذا اليوم يوم الحشر . . يوم ينفخ في الصور ( هو القرن المجوف كالبوق ) وهو اليوم الذي يكون فيه البعث والنشر؛ بكيفية غيبية لا يعلمها البشر ، فهي من غيب الله الذي احتفظ به . والصور كذلك غيب من ناحية ماهيته وحقيقته ، ومن ناحية كيفية استجابة الموتى له ، والروايات المأثورة؛ تقول : هو بوق من نور ينفخ فيه ملك ، فيسمع من في القبور ، حيث يهبون للنشور - وهذه هي النفخة الثانية - أما الأولى فيصعق لها من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله كما جاء في آية الزمر : { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض - إلا من شاء الله - ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } وهذه الأوصاف للصور ولآثار النفخة فيه تعطينا - عن يقين - أنه على غير ما يمكن أن يكون البشر قد عهدوه في هذه الأرض أو تصوروه . . وهو من ثم غيب من غيب الله . . نعلمه بقدر ما أعطانا الله من وصفه وأثره ، ولا نتجاوز هذا القدر الذي لا أمان في تجاوزه ، ولا يقين . إنما هي الظنون
في هذا اليوم الذي ينفخ فيه في الصور يبرز - حتى للمنكرين - ويظهر - حتى للمطموسين - أن الملك لله وحده ، وأنه لا سلطان إلا سلطانه ، ولا إرادة إلا إرادته . . فأولى لمن يأبون الاستسلام له في الدنيا طائعين أن يستسلموا قبل أن يستسلموا لسلطانه المطلق يوم ينفخ في الصور .
{ عالم الغيب والشهادة } . .
الذي يعلم ذلك الغيب المحجوب ، كما يعلم هذا الكون المشهود . والذي لا تخفى عليه خافية من أمر العباد ، ولا يند عنه شأن من شؤونهم . . فأولى لهم أن يسلموا له ويعبدوه ويتقوه . وهكذا تذكر هذه الحقيقة لذاتها ، وتتخذ مؤثراً موحياً في مواجهة المكذبين والمعارضين .
{ وهو الحكيم الخبير } . .
يصرف أمور الكون الذي خلقه ، وأمور العباد الذين يملكهم في الدنيا والآخرة بالحكمة والخبرة . . فأولى أن يستسلموا لتوجيهه وشرعه ، ويسعدوا بآثار حكمته وخبرته . ويفيئوا إلى هداه وحده . ويخرجوا من التيه ، ومن الحيرة ، إلى ظلال الحكمة والخبرة ، وإلى كنف الهدى والبصيرة . .
وهكذا تتخذ هذه الحقيقة مؤثراً موحياً للعقول والقلوب . .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

هذا الدرس بطوله لحمة واحدة؛ يتناول موضوعاً متصل الفقرات . . إنه يعالج الموضوع الأساسي في السورة - وهو بناء العقيدة على قاعدة من التعريف الشامل بحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، وما بينهما من ارتباطات - ولكنه يعالجه في أسلوب آخر غير ما جرى به السياق منذ أول السورة . . يعالجه في أسلوب القصص والتعقيب عليه . . مع استصحاب المؤثرات الموحية التي تزخر بها السورة؛ ومنها مشهد الاحتضار الكامل السمات؛ وذلك كله في نفس طويل رتيب يتوسط الموجات المتلاحقة التي تحدثنا عنها في تقديم السورة . .
والدرس - في جملته - يعرض موكب الإيمان الموصول منذ نوح - عليه السلام ، إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي مطلع هذا الموكب يستعرض حقيقة الألوهية - كما تتجلى في فطرة عبد من عباد الله الصالحين - إبراهيم عليه السلام - ويرسم مشهداً رائعاً حقاً للفطرة السليمة ، وهي تبحث عن إلهها الحق ، الذي تجده في أعماقها ، بينما هي تصطدم في الخارج بانحرافات الجاهلية وتصوراتها . إلى أن يخلص لها تصور حق ، يطابق ما ارتسم في أعماقها عن إلهها الحق . ويقوم على ما تجده في أطوائها من برهان داخلي هو أقوى وأثبت من المشهود المحسوس ذلك حين يحكي السياق عن إبراهيم عليه السلام بعد اهتدائه إلى ربه الحق ، واطمئنانه إلى ما وجده في قلبه منه : { وحاجه قومه . قال : أتحاجوني في الله وقد هدان؟ ولا أخاف ما تشركون به ، إلا أن يشاء ربي شيئاً ، وسع ربي كل شيء علماً ، أفلا تتذكرون؟ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً؟ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟ } .
ثم يمضي السياق مع موكب الإيمان الموصول؛ يقوده الرهط الكريم من رسل الله على توالي العصور؛ حيث يبدو شرك المشركين وتكذيب المكذبين لغواً لا وزن له ، يتناثر على جانبي الموكب الجليل ، الماضي في طريقه الموصول . وحيث يلتحم آخره مع أوله؛ فيؤلف الأمة الواحدة ، يقتدي آخرها بالهدى الذي اهتدى به أولها ، دون اعتبار لزمان أو مكان؛ ودون اعتبار لجنس أو قوم ، ودون اعتبار لنسب أو لون . . فالحبل الموصول بين الجميع هو هذا الدين الواحد الذي يحمله ذلك الرهط الكريم .
إنه مشهد رائع كذلك؛ يبدو من خلال قول الله تعالى لرسوله الكريم بعد استعراض الموكب العظيم : { ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون . أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة . فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين . أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده . قل : لا أسألكم عليه أجراً ، إن هو إلا ذكرى للعالمين } .

.
وبعد استعراض هذا الموكب الجليل يجيء التنديد بمن يزعمون أن الله لم يرسل رسلاً ، ولم ينزل على بشر كتاباً . . إنهم لم يقدروا الله حق قدره . فما قدر الله حق قدره من يقول : إنه - سبحانه - تارك الناس لأنفسهم وعقولهم وما يتعاورها من الأهواء والشهوات والضعف والقصور . فما يليق هذا بألوهية الله وربوبيته ، وعلمه وحكمته وعدله ورحمته . . إنما اقتضت رحمة الله وعلمه ورحمته وعدله أن يرسل إلى عباده رسلاً ، وأن ينزل على بعض الرسل كتباً ، ليحاولوا جميعاً هداية البشرية إلى بارئها ، واستنقاذ فطرتها من الركام الذي يرين عليها ، ويغلق منافذها ، ويعطل أجهزة الالتقاط والاستجابة فيها . . ويضرب مثلاً الكتاب الذي أنزل على موسى . وهذا الكتاب الذي يصدق ما بين يديه من الكتب جميعاً . .
وينتهي الدرس الطويل المتلاحم الفقرات باستنكار الافتراء ممن يفتري على الله ، وادعاء من يزعم أنه يوحى إليه من الله ، وادعاء القدرة على تنزيل مثل ما أنزل الله . . وهي الدعاوى التي كان يدعيها بعض من يواجهون الدعوة الإسلامية ، وفيهم من ادعى الوحي وفيهم من ادعى النبوة .
وفي الختام يجيء مشهد الاحتضار المكروب للمشركين :
{ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ، والملائكة باسطو أيديهم : أخرجوا أنفسكم ، اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون . ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ، وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم ، وضل عنكم ما كنتم تزعمون } . .
وهو مشهد كئيب مكروب رعيب؛ يجلله الهوان ويصاحبه التنديد والتأنيب . جزاء الاستكبار والإعراض والافتراء والتكذيب . .
{ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر : أتتخذ أصناماً آلهة؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين . . وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، وليكون من الموقنين . . فلما جن عليه الليل رأى كوكباً . قال : هذا ربي ، فلما أفل قال : لا أحب الآفلين . فلما رأى القمر بازغاً قال : هذا ربي ، فلما أفل قال : لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين . فلما رأى الشمس بازغة قال : هذا ربي ، هذا أكبر ، فلما أفلت قال : يا قوم إني بريء مما تشركون . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً ، وما أنا من المشركين } . .
إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يرسمه السياق القرآني في هذه الآيات . . مشهد الفطرة وهي - للوهلة الأولى - تنكر تصورات الجاهلية في الأصنام وتستنكرها . وهي تنطلق بعد إذ نفضت عنها هذه الخرافة في شوق عميق دافق تبحث عن إلهها الحق ، الذي تجده في ضميرها ، ولكنها لا تتبينه في وعيها وإدراكها . وهي تتعلق في لهفتها المكنونة بكل ما يلوح أنه يمكن أن يكون هو هذا الإله حتى إذا اختبرته وجدته زائفاً ، ولم تجد فيه المطابقة لما هو مكنون فيها من حقيقة الإله وصفته .

. ثم وهي تجد الحقيقة تشرق فيها وتتجلى لها . وهي تنطلق بالفرحة الكبرى ، والامتلاء الجياش ، بهذه الحقيقة ، وهي تعلن في جيشان اللقيا عن يقينها الذي وجدته من مطابقة الحقيقة التي انتهت إليها بوعيها للحقيقة التي كانت كامنة من قبل فيها . . إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يتجلى في قلب إبراهيم - عليه السلام - والسياق يعرض التجربة الكبرى التي اجتازها في هذه الآيات القصار . . إنها قصة الفطرة مع الحق والباطل . وقصة العقيدة كذلك يصدع بها المؤمن ولا يخشى فيها لومة لائم؛ ولا يجامل على حسابها أباً ولا أسرة ولا عشيرة ولا قوماً . . كما وقف إبراهيم من أبيه وقومه هذه الوقفة الصلبة الحاسمة الصريحة :
{ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر : أتتخذ أصناماً آلهة؟ أني أراك وقومك في ضلال مبين } . .
إنها الفطرة تنطق على لسان إبراهيم . إنه لم يهتد بعد بوعيه وإدراكه - إلى إلهه - ولكن فطرته السليمة تنكر ابتداء أن تكون هذه الأصنام التي يعبدها قومه آلهة - وقوم إبراهيم من الكلدانيين بالعراق كانوا يعبدون الأصنام كما كانوا يعبدون الكواكب والنجوم - فالإله الذي يعبد ، والذي يتوجه إليه العباد في السراء والضراء ، والذي خلق الناس والأحياء . . هذا الإله في فطرة إبراهيم لا يمكن أن يكون صنماً من حجر ، أو وثناً من خشب . . وإذا لم تكن هذه الأصنام هي التي تخلق وترزق وتسمع وتستجيب - وهذا ظاهر من حالها للعيان - فما هي بالتي تستحق أن تعبد؛ وما هي بالتي تتخذ آلهة حتى على سبيل أن تتخذ واسطة بين الإله الحق والعباد
وإذن فهو الضلال البين تحسه فطرة إبراهيم - عليه السلام - للوهلة الأولى . وهي النموذج الكامل للفطرة التي فطر الله الناس عليها . . ثم هي النموذج الكامل للفطرة وهي تواجه الضلال البين ، فتنكره وتستنكره ، وتجهر بكلمة الحق وتصدع ، حينما يكون الأمر هو أمر العقيدة :
{ أتتخذ أصناماً آلهة؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين } . .
كلمة يقولها إبراهيم - عليه السلام - لأبيه . وهو الأواه الحليم الرضي الخلق السمح اللين . كما ترد أوصافه في القرآن الكريم . ولكنها العقيدة هنا . والعقيدة فوق روابط الأبوة والبنوة ، وفوق مشاعر الحلم والسماحة . وإبراهيم هو القدوة التي أمر الله المسلمين من بنيه أن يتأسوا بها . والقصة تعرض لتكون أسوة ومثالاً . .
وكذلك استحق إبراهيم - عليه السلام - بصفاء فطرته وخلوصها للحق أن يكشف الله لبصيرته عن الأسرار الكامنة في الكون ، والدلائل الموحية بالهدى في الوجود :
{ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، وليكون من الموقنين } . .
بمثل هذه الفطرة السليمة ، وهذه البصيرة المفتوحة؛ وعلى هذا النحو من الخلوص للحق ، ومن إنكار الباطل في قوة . . نري إبراهيم حقيقة هذا الملك . . ملك السماوات والأرض . . ونطلعه على الأسرار المكنونة في صميم الكون ، ونكشف له عن الآيات المبثوثة في صحائف الوجود ، ونصل بين قلبه وفطرته وموحيات الإيمان ودلائل الهدى في هذا الكون العجيب .

لينتقل من درجة الإنكار على عبادة الآلهة الزائفة ، إلى درجة اليقين الواعي بالإله الحق . .
وهذا هو طريق الفطرة البديهي العميق . . وعي لا يطمسه الركام . وبصر يلحظ ما في الكون من عجائب صنع الله . وتدبر يتبع المشاهد حتى تنطق له بسرها المكنون . . وهداية من الله جزاء على الجهاد فيه . .
وكذلك سار إبراهيم - عليه السلام - وفي هذا الطريق وجد الله . . وجده في إدراكه ووعيه ، بعد أن كان يجده فحسب في فطرته وضميره . . ووجد حقيقة الألوهية في الوعي والإدراك مطابقة لما استكن منها في الفطرة والضمير .
فلنتابع الرحلة الشائقة مع فطرة إبراهيم الصادقة . . إنها رحلة هائلة وإن كانت تبدو هينة ميسرة رحلة من نقطة الإيمان الفطري إلى نقطة الإيمان الوعي الإيمان الذي يقوم عليه التكليف بالفرائض والشرائع؛ والذي لا يكل الله - سبحانه - جمهرة الناس فيه إلى عقولهم وحدها ، فيبينه لهم في رسالات الرسل ، ويجعل الرسالة - لا الفطرة ولا العقل البشري - هي حجته عليهم ، وهي مناط الحساب والجزاء ، عدلاً منه ورحمة ، وخبرة بحقيقة الإنسان وعلماً . .
فأما إبراهيم - عليه السلام - فهو إبراهيم خليل الرحمن وأبو المسلمين . .
{ فلما جن عليه الليل رأى كوكباً . قال : هذا ربي ، فلما أفل قال : لا أحب الآفلين } . .
إنها صورة لنفس إبراهيم ، وقد ساورها الشك - بل الإنكار الجازم - لما يعبد أبوه وقومه من الأصنام . وقد باتت قضية العقيدة هي التي تشغل باله ، وتزحم عالمه . . صورة يزيدها التعبير شخوصا بقوله : { فلما جن عليه الليل } . . كأنما الليل يحتويه وحده ، وكأنما يعزله عن الناس حوله ، ليعيش مع نفسه وخواطره وتأملاته ، ومع همه الجديد الذي يشغل باله ويزحم خاطره :
{ فلما جن عليه الليل رأى كوكباً ، قال : هذا ربي } . .
وكان قومه يعبدون الكواكب والنجوم - كما أسلفنا - فلما أن يئس من أن يكون إلهه الحق - الذي يجده في فطرته في صورة غير مدركة ولا واعية - صنماً من تلك الأصنام ، فلعله رجا أن يجده في شيء مما يتوجه إليه قومه بالعبادة
وما كانت هذه أول مرة يعرف فيها إبراهيم أن قومه يتجهون بالعبادة إلى الكواكب والنجوم . وما كانت هذه أول مرة يرى فيها إبراهيم كوكباً . . ولكن الكوكب - الليلة - ينطق له بما لم ينطق من قبل ، ويوحي إلى خاطره بما يتفق مع الهم الذي يشغل باله ، ويزحم عليه عالمه :
{ قال : هذا ربي } . .
فهو بنوره وبزوغه وارتفاعه أقرب - من الأصنام - إلى أن يكون رباً . . ولكن لا إنه يكذب ظنه : { فلما أفل قال : لا أحب الآفلين } . .
إنه يغيب . . يغيب عن هذه الخلائق .

فمن ذا يرعاها إذن ومن ذا يدبر أمرها . . إذا كان الرب يغيب؟ لا ، إنه ليس رباً ، فالرب لا يغيب
إنه منطق الفطرة البديهي القريب . . لا يستشير القضايا المنطقية والفروض الجدلية ، إنما ينطلق مباشرة في يسر وجزم . لأن الكينونة البشرية كلها تنطق به في يقين عميق . .
{ لا أحب الآفلين } . .
فالصلة بين الفطرة وإلهها هي صلة الحب؛ والآصرة هي آصرة القلب . . وفطرة إبراهيم « لا تحب » الآفلين ، ولا تتخذ منهم إلهاً . إن الإله الذي تحبه الفطرة . . لا يغيب . .
{ فلما رأى القمر بازغاً قال : هذا ربي . فلما أفل قال : لئن لم يهدني ربي لآكونن من القوم الضالين } . .
إن التجربة تتكرر . وكأن إبراهيم لم ير القمر قط؛ ولم يعرف أن أهله وقومه يعبدونه فهو الليلة في نظره جديد :
{ قال : هذا ربي } . .
بنوره الذي ينسكب في الوجود؛ وتفرده في السماء بنوره الحبيب . . ولكنه يغيب . . والرب - كما يعرفه إبراهيم بفطرته وقلبه - لا يغيب
هنا يحس إبراهيم أنه في حاجة إلى العون من ربه الحق الذي يجده في ضميره وفطرته ، ربه الذي يحبه ، ولكنه بعد لم يجده في إدراكه ووعيه . . ويحس أنه ضال مضيع إن لم يدركه ربه بهدايته . إن لم يمد إليه يده . ويكشف له عن طريقه :
{ قال : لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } . .
{ فلما رأى الشمس بازغة قال : هذا ربي . هذا أكبر . فلما أفلت قال : يا قوم إني بريء مما تشركون . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً ، وما أنا من المشركين } .
إنها التجربة الثالثة مع أضخم الأجرام المنظورة وأشدها ضوءاً وحرارة . . الشمس . . والشمس تطلع كل يوم وتغيب . ولكنها اليوم تبدو لعيني إبراهيم كأنها خلق جديد . إنه اليوم يرى الأشياء بكيانه المتطلع إلى إله يطمئن به ويطمئن إليه؛ ويستقر على قرار ثابت بعد الحيرة المقلقة والجهد الطويل :
{ قال : هذا ربي . هذا أكبر } .
ولكنها كذلك تغيب . .
هنا يقع التماس ، وتنطلق الشرارة ، ويتم الاتصال بين الفطرة الصادقة والله الحق ، ويغمر النور القلب ويفيض على الكون الظاهر وعلى العقل والوعي . . هنا يجد إبراهيم إلهه . . يجده في وعيه وإدراكه كما هو في فطرته وضميره . . هنا يقع التطابق بين الإحساس الفطري المكنون والتصور العقلي الواضح . .
وهنا يجد إبراهيم إلهه . ولكنه لا يجده في كوكب يلمع ، ولا في قمر يطلع ، ولا في شمس تسطع . . ولا يجده فيما تبصر العين ، ولا فيما يحسه الحس . . إنه يجده في قلبه وفطرته ، وفي عقله ووعيه ، وفي الوجود كله من حوله . . إنه يجده خالقاً لكل ما تراه العين ، ويحسه الحس ، وتدركه العقول .
وعندئذ يجد في نفسه المفاصلة الكاملة بينه وبين قومه في كل ما يعبدون من آلهة زائفة؛ ويبرأ في حسم لا مواربة فيه من وجهتهم ومنهجهم وما هم عليه من الشرك - وهم لم يكونوا يجحدون الله البتة ، ولكنهم كانوا يشركون هذه الأرباب الزائفة - وإبراهيم يتجه إلى الله وحده بلا شريك :
{ قال : يا قوم إني بريء مما تشركون .

إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين } . .
فهو الاتجاه إلى فاطر السماوات والأرض . الاتجاه الحنيف الذي لا ينحرف إلى الشرك . وهي الكلمة الفاصلة ، واليقين الجازم ، والاتجاه الأخير . . فلا تردد بعد ذلك ولا حيرة فيما تجلى للعقل من تصور مطابق للحقيقة التي في الضمير . .
ومرة أخرى نشهد ذلك المشهد الرائع الباهر . . مشهد العقيدة وقد استعلنت في النفس ، واستولت على القلب ، بعدما وضحت وضوحها الكامل وانجلى عنها الغبش . . نشهدها وقد ملأت الكيان الإنساني ، فلم يعد وراءها شيء . وقد سكبت فيه الطمأنينة الواثقة بربه الذي وجده في قلبه وعقله وفي الوجود من حوله . . وهو مشهد يتجلى بكل روعته وبهائه في الفقرة التالية في السياق .
لقد انتهى إبراهيم إلى رؤية الله - سبحانه - في ضميره وعقله وفي الوجود من حوله . وقد اطمأن قلبه واستراح باله . وقد أحس بيد الله تأخذ بيده وتقود خطاه في الطريق . . والآن يجيء قومه ليجادلوه فيما انتهى إليه من يقين؛ وفيما انشرح له صدره من توحيد؛ وليخوفوه آلهتهم التي تنكر لها أن تنزل به سوءاً . . وهو يواجههم في يقينه الجازم؛ وفي إيمانه الراسخ؛ وفي رؤيته الباطنة والظاهرة لربه الحق الذي هداه :
{ وحاجه قومه ، قال : أتحاجوني في الله وقد هدان؟ ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً ، وسع ربي كل شيء علماً . أفلا تتذكرون؟ وكيف أخاف ما أشركتم ، ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً؟ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟ } . .
إن الفطرة حين تنحرف تضل؛ ثم تتمادى في ضلالها ، وتتسع الزاوية ويبعد الخط عن نقطة الابتداء ، حتى ليصعب عليها أن تثوب . . وهؤلاء قوم إبراهيم - عليه السلام - يعبدون أصناماً وكواكب ونجوماً . فلا يتفكرون ولا يتدبرون هذه الرحلة الهائلة التي تمت في نفس إبراهيم . ولم يكن هذا داعياً لهم لمجرد التفكر والتدبر . بل جاءوا يجادلونه ويحاجونه . وهم على هذا الوهن الظاهر في تصوراتهم وفي ضلال مبين .
ولكن إبراهيم المؤمن الذي وجد الله في قلبه وعقله وفي الوجود كله من حوله ، يواجههم مستنكراً في طمأنينة ويقين :
{ قال : أتحاجوني في الله وقد هدانِ؟ } . .
أتجادلونني في الله وقد وجدته يأخذ بيدي ، ويفتح بصيرتي ، ويهديني إليه ، ويعرفني به . . لقد أخذ بيدي وقادني فهو موجود - وهذا هو في نفسي دليل الوجود - لقد رأيته في ضميري وفي وعيي ، كما رأيته في الكون من حولي . فما جدالكم في أمر أنا أجده في نفسي ولا أطلب عليه الدليل . فهدايته لي إليه هي الدليل؟
{ ولا أخاف ما تشركون به } .

.
وكيف يخاف من وجد الله؟ وماذا يخاف ومن ذا يخاف؟ وكل قوة - غير قوة الله - هزيلة وكل سلطان - غير سلطان الله - لا يُخاف؟
ولكن إبراهيم في عمق إيمانه ، واستسلام وجدانه ، لا يريد أن يجزم بشيء إلا مرتكناً إلى مشيئة الله الطليقة ، وإلى علم الله الشامل :
{ إلا أن يشاء ربي شيئاً . وسع ربي كل شيء علماً } .
فهو يكل إلى مشيئة الله حمايته ورعايته؛ ويعلن أنه لا يخاف من آلهتهم شيئاً ، لأنه يركن إلى حماية الله ورعايته . ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما شاءه الله ، ووسعه علمه الذي يسع كل شيء . .
{ وكيف أخاف ما أشركتم ، ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا؟ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟ } .
إنه منطق المؤمن الواثق المدرك لحقائق هذا الوجود . إنه إن كان أحد قميناً بالخوف فليس هو إبراهيم - وليس هو المؤمن الذي يضع يده في يد الله ويمضي في الطريق - وكيف يخاف آلهة عاجزة - كائنة ما كانت هذه الآلهة ، والتي تتبدى أحياناً في صورة جبارين في الأرض بطاشين؛ وهم أمام قدرة الله مهزولون مضعوفون - كيف يخاف إبراهيم هذه الآلهة الزائفة العاجزة ، ولا يخافون هم أنهم أشركوا بالله ما لم يجعل له سلطاناً ولا قوة من الأشياء والأحياء؟ وأي الفريقين أحق بالأمن؟ الذي يؤمن به ويكفر بالشركاء؟ أم الذي يشرك بالله ما لا سلطان له ولا قوة؟ أي الفريقين أحق بالأمن ، لو كان لهم شيء من العلم والفهم؟
هنا يتنزل الجواب من الملأ الأعلى؛ ويقضي الله بحكمه في هذه القضية :
{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } . .
الذين آمنوا وأخلصوا أنفسهم لله ، لا يخلطون بهذا الإيمان شركاً في عبادة ولا طاعة ولا اتجاه . هؤلاء لهم الأمن ، وهؤلاء هم المهتدون . .
{ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ، نرفع درجات من نشاء . . }
ولقد كانت هذه هي الحجة التي ألهمها الله إبراهيم ليدحض بها حجتهم التي جاءوا بها يجادلونه . ولقد كشف لهم عن وهن ما هم عليه من تصورهم أن هذه الآلهة تملك أن تسيء إليه . . وواضح أنهم ما كانوا يجحدون وجود الله؛ ولا أنه هو صاحب القوة والسلطان في الكون ، ولكنهم كانوا يشركون به هذه الآلهة . فلما واجههم إبراهيم ، بأن من كان يخلص نفسه لله لا يخاف من دونه ، فأما من يشرك بالله فهو أحق بالمخافة . . لما واجههم بهذه الحجة التي آتاها الله له وألهمه إياها ، سقطت حجتهم ، وعلت حجته ، وارتفع إبراهيم على قومه عقيدة وحجة ومنزلة . . وهكذا يرفع الله من يشاء درجات . متصرفاً في هذا بحكمته وعلمه :
{ إن ربك حكيم عليم } . .
وقبل أن نغادر هذه الفقرة نحب أن نستمتع بنفحة من نفحات الحياة في عصر صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا القرآن يتنزل عليهم غضاً؛ وتشربه نفوسهم؛ وتعيش به وله؛ وتتعامل به وتتعايش بمدلولاته وإيحاءاته ومقتضياته ، في جد وفي وعي وفي التزام عجيب ، تأخذنا روعته وتبهرنا جديته؛ وندرك منه كيف كان هذا الرهط الفريد من الناس ، وكيف صنع الله بهذا الرهط ما صنع من الخوارق ، في ربع قرن من الزمان :
روى ابن جرير - بإسناده -

« عن عبدالله بن إدريس ، قال : لما نزلت هذه الآية : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقالوا : أينا لم يظلم نفسه؟ قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس كما تظنون . وإنما هو ما قال لقمان لابنه : { لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم »
وروى كذلك - بإسناده - عن ابن المسيب ، أن عمر بن الخطاب قرأ : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } فلما قرأها فزع . فأتى أبيّ بن كعب . فقال : يا أبا المنذر ، قرأت آية من كتاب الله . من يَسلم؟ فقال : ما هي؟ . . فقرأها عليه . . فأينا لا يظلم نفسه؟ فقال : غفر الله لك أما سمعت الله تعالى ذكره يقول : { إن الشرك لظلم عظيم } إنما هو : ولم يلبسوا إيمانهم بشرك .
وروى - بإسناده - عن أبي الأشعر العبدي عن أبيه ، أن زيد بن صوحان سأل سلمان ، فقال : يا أبا عبدالله ، آية من كتاب الله قد بلغت مني كل مبلغ : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } فقال سلمان : هو الشرك بالله تعالى ذكره . فقال زيد : ما يسرني بها أني لم أسمعها منك ، وأن لي مثل كل شيء أمسيت أملكه .
فهذه الآثار الثلاثة تصور لنا كيف كان حس هذا الرهط الكريم بهذا القرآن الكريم . كيف كانت جدية وقعه في نفوسهم . كيف كانوا يتلقونه وهم يشعرون أنه أوامر مباشرة للتنفيذ وتقريرات حاسمة للطاعة ، وأحكام نهائية للنفاذ . وكيف كانوا يفزعون حين يظنون أن هناك مفارقة بين طاقتهم المحدودة ومستوى التكليف المطلوب . وكيف كانوا يجزعون أن يؤاخذوا بأي درجة من درجات التقصير ، والتفاوت بين عملهم وبين مستوى التكليف . حتى يأتيهم من الله ورسوله التيسير .
إنه مشهد كذلك رائع باهر . . مشهد هذه النفوس التي حملت هذا الدين . . وكانت ستاراً لقدر الله؛ ومنفذاً لمشيئته في واقع الحياة . .
بعد ذلك يعرض السياق موكب الإيمان الجليل ، يقوده ذلك الرهط الكريم من الرسل : من نوح إلى إبراهيم إلى خاتم النبيين - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - يعرض السياق هذا الموكب ممتداً موصولاً - وبخاصة منذ إبراهيم وبنيه من النبيين - ولا يراعي التسلسل التاريخي في هذا العرض - كما يلاحظ في مواضع أخرى - لأن المقصود هنا هو الموكب بجملته ، لا تسلسله التاريخي :
{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب - كلاً هدينا - ونوحاً هدينا من قبل - ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون .

. وكذلك نجزى المحسنين . . وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس . . كل من الصالحين . وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا . . وكلاً فضلنا على العالمين . . ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم . . واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم . . ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون . أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة . فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين . أولئك الذين هدى الله ، فبهداهم اقتده ، قل : لا أسألكم عليه أجراً . إن هو إلا ذكرى للعالمين } . .
وفي الآيات ذكر لسبعة عشر نبياً رسولاً - غير نوح وإبراهيم - وإشارة إلى آخرين من { آبائهم وذرياتهم وإخوانهم } . . والتعقيبات على هذا الموكب : { وكذلك نجزي المحسنين } . . { وكلاً فضلنا على العالمين } . . { واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم } . . وكلها تعقيبات تقرر إحسان هذا الرهط الكريم واصطفاءه من الله ، وهدايته إلى الطريق المستقيم .
وذكر هذا الرهط على هذا النحو ، واستعراض هذا الموكب في هذه الصورة ، كله تمهيد للتقريرات التي تليه :
{ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } . .
وهذا تقرير لينابيع الهدى في هذه الأرض . فهدى الله للبشر يتمثل فيما جاءت به الرسل . وينحصر المستيقن منه ، والذي يجب اتباعه ، في هذا المصدر الواحد ، الذي يقرر الله - سبحانه - أنه هو هدى الله؛ وأنه هو الذي يهدي إليه من يختار من عباده . . ولو أن هؤلاء العباد المهديين حادوا عن توحيد الله ، وتوحيد المصدر الذي يستمدون منه هداه ، وأشركوا بالله في الاعتقاد أو العبادة أو التلقي ، فإن مصيرهم أن يحبط عنهم عملهم : أي ان يذهب ضياعاً ، ويهلك كما تهلك الدابة التي ترعى نبتاً مسموماً فتنتفخ ثم تموت . . وهذا هو الأصل اللغوي للحبوط
{ أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة . فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } . .
وهذا هو التقرير الثاني . . فقرر في الأول مصدر الهدى ، وقصره على هدى الله الذي جاءت به الرسل . وقرر في الثاني أن الرسل الذين ذكرهم والذين أشار إليهم ، هم الذين آتاهم الله الكتاب والحكمة والسلطان والنبوة - « والحكم » يجيء بمعنى الحكمة كما يجيء بمعنى السلطان كذلك - وكلا المعنيين محتمل في الآية . فهؤلاء الرسل أنزل الله على بعضهم الكتاب كالتوراة مع موسى ، والزبور مع داود ، والإنجيل مع عيسى . وبعضهم آتاه الله الحكم كداود وسليمان - وكلهم أوتي السلطان على معنى أن ما معه من الدين هو حكم الله ، وأن الدين الذي جاءوا به يحمل سلطان الله على النفوس وعلى الأمور .

فما أرسل الله الرسل إلا ليطاعوا ، وما أنزل الكتاب إلا ليحكم بين الناس بالقسط ، كما جاء في الآيات الأخرى . وكلهم أوتي الحكمة وأوتي النبوة . . وأولئك هم الذين وكلهم الله بدينه ، يحملونه إلى الناس ، ويقومون عليه ، ويؤمنون به ويحفظونه . . فإذا كفر بالكتاب والحكم والنبوة مشركو العرب : { هؤلاء } فإن دين الله غني عنهم؛ وهؤلاء الرهط الكرام والمؤمنون بهم هم حسب هذا الدين . . إنها حقيقة قديمة امتدت شجرتها ، وموكب موصول تماسكت حلقاته؛ ودعوة واحدة حملها رسول بعد رسول؛ وآمن بها ويؤمن من يقسم الله له الهداية؛ بما يعلمه من استحقاقه للهداية . . وهو تقرير يسكب الطمأنينة في قلب المؤمن ، وفي قلوب العصبة المسلمة - أياً كان عددها - إن هذه العصبة ليست وحدها . ليست مقطوعة من شجرة إنها فرع منبثق من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وحلقة في موكب جليل موصول ، موصولة أسبابه بالله وهداه . . إن المؤمن الفرد ، في أي أرض وفي أي جيل ، قوي قوي ، وكبير كبير ، إنه من تلك الشجرة المتينة السامقة الضاربة الجذور في أعماق الفطرة البشرية وفي أعماق التاريخ الإنساني ، وعضو من ذلك الموكب الكريم الموصول بالله وهداه منذ أقدم العصور .
{ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده . قل : لا أسألكم عليه أجراً . إن هو إلا ذكرى للعالمين } . .
وهو التقرير الثالث . . فهؤلاء الرهط الكرام الذين يقودون موكب الإيمان ، هم الذين هداهم الله . وهداهم الذي جاءهم من الله فيه القدوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن به . فهذا الهدى وحده هو الذي يسير عليه . وهذا الهدى وحده هو الذي يحتكم إليه ، وهذا الهدى وحده هو الذي يدعو إليه ويبشر به . . قائلاً لمن يدعوهم :
{ لا أسألكم عليه أجراً } . . { إن هو إلا ذكرى للعالمين } . . للعالمين . . لا يختص به قوم ولا جنس ولا قريب ولا بعيد . . إنه هدى الله لتذكير البشر كافة . ومن ثم فلا أجر عليه يتقاضاه . وإنما أجره على الله
ثم يمضي السياق يندد بمنكري النبوات والرسالات ، ويصمهم بأنهم لا يقدرون الله قدره ، ولا يعرفون حكمة الله ورحمته وعدله . ويقرر أن الرسالة الأخيرة إنما تجري على سنة الرسالات قبلها؛ وأن الكتاب الأخير مصدق لما بين يديه من الكتب . . مما يتفق مع ظل الموكب الذي سبق عرضه ويتناسق :
{ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء . قل : من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس - تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً - وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم؟ قل : الله . ثم ذرهم في خوضهم يلعبون . وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ، ولتنذر أم القرى ومن حولها ، والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ، وهم على صلاتهم يحافظون } .

.
لقد كان المشركون في معرض العناد واللجاج يقولون : إن الله لم يرسل رسولاً من البشر؛ ولم ينزل كتاباً يوحي به إلى بشر . بينما كان إلى جوارهم في الجزيرة أهل الكتاب من اليهود؛ ولم يكونوا ينكرون عليهم أنهم أهل كتاب ، ولا أن الله أنزل التوارة على موسى - عليه السلام - إنما هم كانوا يقولون ذلك القول في زحمة العناد واللجاج ، ليكذبوا برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - لذلك يواجههم القرآن الكريم بالتنديد بقولتهم : ما أنزل الله على بشر من شيء؛ كما يواجههم بالكتاب الذي جاء به موسى من قبل :
{ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء } . .
وهذا القول الذي كان يقوله مشركو مكة في جاهليتهم ، يقوله أمثالهم في كل زمان؛ ومنهم الذين يقولونه الآن؛ ممن يزعمون أن الأديان من صنع البشر؛ وأنها تطورت وترقت بتطور البشر وترقيهم . لا يفرقون في هذا بين ديانات هي من تصورات البشر أنفسهم ، كالوثنيات كلها قديماً وحديثاً ، ترتقي وتنحط بارتقاء أصحابها وانحطاطهم ، ولكنها تظل خارج دين الله كله . وبين ديانات جاء بها الرسل من عند الله ، وهي ثابتة على أصولها الأولى؛ جاء بها كل رسول؛ فتقبلتها فئة وعتت عنها فئة؛ ثم وقع الانحراف عنها والتحريف فيها ، فعاد الناس إلى جاهليتهم في انتظار رسول جديد ، بذات الدين الواحد الموصول .
وهذا القول يقوله - قديماً أو حديثاً - من لا يقدر الله حق قدره؛ ومن لا يعرف كرم الله وفضله ، ورحمته وعدله . . إنهم يقولون : إن الله لا يرسل من البشر رسولا ولو شاء لأنزل ملائكة كما كان العرب يقولون . أو يقولون : إن خالق هذا الكون الهائل لا يمكن أن يعني بالإنسان « الضئيل » في هذه الذرة الفلكية التي اسمها الأرض بحيث يرسل له الرسل؛ وينزل على الرسل الكتب لهداية هذا المخلوق الصغير في هذا الكوكب الصغير وذلك كما يقول بعض الفلاسفة في القديم والحديث أو يقولون : إنه ليس هناك من إله ولا من وحي ولا من رسل . . إنما هي أوهام الناس أو خداع بعضهم لبعض باسم الدين كما يقول الماديون الملحدون
وكله جهل بقدر الله - سبحانه - فالله الكريم العظيم العادل الرحيم ، العليم الحكيم . . . لا يدع هذا الكائن الإنساني وحده ، وهو خلقه ، وهو يعلم سره وجهره ، وطاقاته وقواه ، ونقصه وضعفه ، وحاجته إلى الموازين القسط التي يرجع إليها بتصوراته وأفكاره ، وأقواله وأعماله ، وأوضاعه ونظامه ، ليرى إن كانت صواباً وصلاحاً ، أو كانت خطأ وفساداً . . ويعلم - سبحانه - أن العقل الذي أعطاه له ، يتعرض لضغوط كثيرة من شهواته ونزواته ومطامعه ورغباته ، فضلاً على أنه موكل بطاقات الأرض التي له عليها سلطان بسبب تسخيرها له من الله ، وليس موكلاً بتصور الوجود تصوراً مطلقاً ، ولا بصياغة الأسس الثابتة للحياة .

فهذا مجال العقيدة التي تأتي له من الله؛ فتنشىء له تصوراً سليماً للوجود والحياة . . ومن ثم لا يكله الله إلى هذا العقل وحده ، ولا يكله كذلك إلى ما أودع فطرته من معرفة لدنية بربها الحق ، وشوق إليه ، ولياذ به في الشدائد . . فهذه الفطرة قد تفسد كذلك بسبب ما يقع عليها من ضغوط داخلية وخارجية ، وبسبب الإغواء والاستهواء الذي يقوم به شياطين الجن والإنس ، بكل ما يملكون من أجهزة التوجيه والتأثير . . إنما يكل الله الناس إلى وحيه ورسله وهداه وكتبه ، ليرد فطرتهم إلى استقامتها وصفائها ، وليرد عقولهم إلى صحتها وسلامتها ، وليجلو عنهم غاشية التضليل من داخل أنفسهم ومن خارجها . . وهذا هو الذي يليق بكرم الله وفضله ، ورحمته وعدله ، وحكمته وعلمه . . فما كان ليخلق البشر ، ثم يتركهم سدى . . ثم يحاسبهم يوم القيامة ولم يبعث فيهم رسولاً : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } فتقدير الله حق قدره يقتضي الاعتقاد بأنه أرسل إلى عباده رسلا يستنقذون فطرتهم من الركام ، ويساعدون عقولهم على الخلاص من الضغوط ، والانطلاق للنظر الخالص والتدبر العميق . وأنه أوحى إلى هؤلاء الرسل منهج الدعوة إلى الله ، وأنزل على بعضهم كتباً تبقى بعدهم في قومهم إلى حين - ككتب موسى وداود وعيسى - أو تبقى إلى آخر الزمان كهذا القرآن .
ولما كانت رسالة موسى معروفة بين العرب في الجزيرة ، وكان أهل الكتاب معروفين هناك ، فقد أمر الله رسوله أن يواجه المشركين المنكرين لأصل الرسالة والوحي؛ بتلك الحقيقة :
{ قل : من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس - تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً - وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } . .
وقد عرضنا في تقديم السورة للقول بأن هذه الآية مدنية ، وأن المخاطبين بها هم اليهود . ثم ذكرنا هناك ما اختاره ابن جرير الطبري من القراءة الأخرى { يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً } . . وأن المخاطبين بها هم المشركون ، وهذا خبر عن اليهود بما كان واقعاً منهم من جعل التوراة في صحائف يتلاعبون بها ، فيبدون منها للناس ما يتفق مع خطتهم في التضليل والخداع ، والتلاعب بالأحكام والفرائض؛ ويخفون ما لا يتفق مع هذه الخطة من صحائف التوراة مما كان العرب يعلمون بعضه وما أخبرهم الله به في هذا القرآن من فعل اليهود . . فهذا خبر عن اليهود معترض في سياق الآية لا خطاباً لهم . . والآية على هذا مكية لا مدنية . . ونحن نختار ما اختاره ابن جرير .
فقل لهم يا محمد : من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس ، مما يجعله اليهود صحائف يخفون بعضها ويظهرون بعضها قضاء للباناتهم من وراء هذا التلاعب الكريه كذلك واجههم بأن الله علمهم بما يقص عليهم من الحقائق والأخبار ما لم يكونوا يعلمون؛ فكان حقاً عليهم أن يشكروا فضل الله؛ ولا ينكروا أصله بإنكار أن الله نزل هذا العلم على رسوله وأوحى به إليه .

ولم يترك لهم أن يجيبوا على ذلك السؤال . إنما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحسم القول معهم في هذا الشأن؛ وألا يجعله مجالاً لجدل لا يثيره إلا اللجاج :
{ قل : الله . ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } . .
قل : الله أنزله . . ثم لا تحفل جدالهم ولجاجهم ومراءهم ، ودعهم يخوضون لاهين لاعبين . وفي هذا من التهديد ، قدر ما فيه من الاستهانة ، قدر ما فيه من الحق والجد؛ فحين يبلغ العبث أن يقول الناس مثل ذلك الكلام ، يحسن احترام القول وحسم الجدل وتوفير الكلام
ويمضي السياق يحكي شيئاً عن الكتاب الجديد ، الذي ينكر الجاحدون أن يكون الله نزله . فإذا هو حلقة مسبوقة جاءت قبلها حلقات ، فليس بدعاً من الكتب التي ينزلها الله على من يشاء من رسله الكرام :
{ وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ، ولتنذر أم القرى ومن حولها . والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ، وهم على صلاتهم يحافظون } . .
إنها سنة من سنن الله أن يرسل الرسل ، وأن ينزل الله عليهم الكتب . وهذا الكتاب الجديد ، الذي ينكرون تنزيله ، هو كتاب مبارك . . وصدق الله . . فإنه والله لمبارك . .
مبارك بكل معاني البركة . . إنه مبارك في أصله . باركه الله وهو ينزله من عنده . ومبارك في محله الذي علم الله أنه له أهل . . قلب محمد الطاهر الكريم الكبير . . ومبارك في حجمه ومحتواه . فإن هو إلا صفحات قلائل بالنسبة لضخام الكتب التي يكتبها البشر؛ ولكنه يحوي من المدلولات والإيحاءات والمؤثرات والتوجيهات في كل فقرة منه ما لا تحتويه عشرات من هذه الكتب الضخام ، في أضعاف أضعاف حيزه وحجمه وإن الذي مارس فن القول عند نفسه وعند غيره من بني البشر؛ وعالج قضية التعبير بالألفاظ عن المدلولات ، ليدرك أكثر مما يدرك الذين لا يزاولون فن القول ولا يعالجون قضايا التعبير ، أن هذا النسق القرآني مبارك من هذه الناحية . وأن هنالك استحالة في أن يعبر البشر في مثل هذا الحيز - ولا في أضعاف أضعافه - عن كل ما يحمله التعبير القرآني من مدلولات ومفهومات وموحيات ومؤثرات وأن الآية الواحدة تؤدي من المعاني وتقرر من الحقائق ما يجعل الاستشهاد بها على فنون شتى من أوجه التقرير والتوجيه شيئاً متفرداً لا نظير له في كلام البشر . . وإنه لمبارك في أثره . وهو يخاطب الفطرة والكينونة البشرية بجملتها خطاباً مباشراً عجيباً لطيف المدخل؛ ويواجهها من كل منفذ وكل درب وكل ركن؛ فيفعل فيها ما لا يفعله قول قائل . ذلك أن به من الله سلطاناً . وليس في قول القائلين من سلطان
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في تصوير بركة هذا الكتاب .

وما نحن ببالغين لو مضينا شيئاً أكثر من شهادة الله له بأنه « مبارك » ففيها فصل الخطاب
{ مصدق الذي بين يديه } . .
فهو يصدّق ما بين يديه من الكتب التي نزلت من عندالله - في صورتها التي لم تحرف لا فيما حرفته المجامع وقالت : إنه من عندالله - هو يصدقها لأنها جاءت بالحق الذي جاء به في أصول العقيدة . أما الشرائع فقد جعل لكل أمة شرعة ومنهاجاً ، في حدود العقيدة الكبرى في الله .
والذين يكتبون عن الإسلام فيقولون : إنه أول دين جاء بالعقيدة الكاملة في توحيد الله؛ أو جاء بالعقيدة الكاملة في حقيقة الرسالة والرسول؛ أو جاء بالعقيدة الكاملة في الآخرة والحساب والجزاء . . وهم يقصدون الثناء على الإسلام . . هؤلاء لا يقرآون القرآن ولو قرأوه لسمعوا الله تعالى يقرر أن جميع رسله - صلوات الله عليهم وسلامه - جاءوا بالتوحيد المطلق الخالص الذي لا ظل فيه للشرك في صورة من صوره . . وأنهم جميعاً أخبروا الناس بحقيقة الرسول ، وبشريته وأنه لا يملك لهم ولا لنفسه ضراً ولا نفعاً ، ولا يعلم غيباً ، ولا يبسط أو يقبض رزقاً . . وأنهم جميعاً أنذروا قومهم بالآخرة وما فيها من حساب وجزاء . . وأن سائر حقائق العقيدة الإسلامية الأساسية جاء بها كل رسول . . وصدق الكتاب الأخير ما جاءت به الكتب قبله . . إنما تلك الأقوال أثر من آثار الثقافة الأوربية . التي تزعم أن أصول العقيدة - بما فيها العقائد السماوية - قد تطورت وترقت ، بتطور الأقوام وترقيها وما يمكن أن يدافع عن الإسلام بهدم أصوله التي يقررها القرآن فليحذر الكتاب والقارئون هذا المزلق الخطير
فأما حكمة إنزال هذا الكتاب ، فلكي ينذر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة - أم القرى - وما حولها :
{ ولتنذر أم القرى ومن حولها } . .
وسميت مكة أم القرى ، لأنها تضم بيت الله الذي هو أول بيت وضع للناس ليعبدوا الله فيه وحده بلا شريك؛ وجعله مثابة أمن للناس وللأحياء جميعاً؛ ومنه خرجت الدعوة العامة لأهل الأرض؛ ولم تكن دعوة عامة من قبل؛ وإليه يحج المؤمنون بهذه الدعوة ، ليعودوا إلى البيت الذي خرجت منه الدعوة
وليس المقصود ، كما يتصيد أعداء الإسلام من المستشرقين ، أن تقصر الدعوة على أهل مكة ومن حولها . فهم يقتطعون هذه الآية من القرآن كله ، ليزعموا أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ما كان يقصد في أول الأمر أن يوجه دعوته إلا إلى أهل مكة وبعض المدن حولها . وأنه إنما تحول من هذا المجال الضيق الذي ما كان خياله يطمح في أول الأمر إلى أوسع منه؛ فتوسع في الجزيرة كلها ، ثم همَّ أن يتخطاها . . لمصادفات لم يكن في أول الأمر على علم بها وذلك بعد هجرته إلى المدينة ، وقيام دولته بها .

. وكذبوا . . ففي القرآن المكي ، وفي أوائل الدعوة ، قال الله سبحانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] . . { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً } [ سبأ : 28 ] ولعل الدعوة يومذاك كانت محصورة في شعاب مكة يحيط بها الكرب والابتلاء
{ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ، وهم على صلاتهم يحافظون } . .
فالذين يؤمنون بأن هناك آخرة وحساباً وجزاء ، يؤمنون بأن الله لا بد مرسل للناس رسولاً يوحي إليه؛ ولا يجدون في نفوسهم مشقة في التصديق به؛ بل إنهم ليجدون داعياً يدعوهم إلى هذا التصديق . كما أنهم لإيمانهم بالآخرة وبهذا الكتاب يحافظون على صلاتهم ، ليكونوا على صلة دائمة وثيقة بالله؛ وليقوموا بطاعته ممثلة في الصلاة . . فهي طبيعة نفس . . متى صدقت بالآخرة واستيقنتها ، صدقت بهذا الكتاب وتنزيله ، وحرصت على الصلة بالله وطاعته . . وملاحظة نماذج النفوس البشرية تصدق في الواقع هذا الكلام الصادق بذاته .
ويختم هذه الجولة المتلاحقة الأشواط بمشهد حي شاخص متحرك مكروب رعيب . . مشهد الظالمين . . ( أي المشركين ) الذين يفترون على الله الكذب ، أو يدعون أنهم أوحي إليهم ادعاء لا حقيقة له . أو يزعمون أنهم مستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن . . مشهد هؤلاء الظالمين - الذين لا يقاس إلى ظلمهم هذا ظلم - وهم في غمرات الموت ، والملائكة باسطو أيديهم إليهم بالعذاب ، ويطلبون أرواحهم . والتأنيب يجبه وجوههم ، وقد تركوا كل شيء وراءهم وضل عنهم شركاؤهم .
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ، أو قال : أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء ، ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله؟ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ، والملائكة باسطو أيديهم : أخرجوا أنفسكم . اليوم تجزون عذاب الهون ، بما كنتم تقولون على الله غير الحق ، وكنتم عن آياته تستكبرون . ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ، وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم ، وضل عنكم ما كنتم تزعمون } . .
وقد ورد عن قتادة وابن عباس - رضي الله عنهم - أن الآية نزلت في مسيلمة الكذاب وسجاح بنت الحارث زوجته والأسود العنسي؛ وهم الذين تنبأوا في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وادعوا أن الله أوحى إليهم . أما الذي قال سأنزل مثلما أنزل الله - أو قال أوحي إلي كذلك - « ففي رواية عن ابن عباس أنه عبدالله بن سعد بن أبي سرح ، وكان أسلم وكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لما نزلت الآية التي في » المؤمنون « : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأملاها عليه . فلما انتهى إلى قوله : { ثم أنشأناه خلقاً آخر } عجب عبدالله في تفصيل خلق الإنسان فقال : » تبارك الله أحسن الخالقين « . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » هكذا أنزلت عليّ «

. فشك عبدالله حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقاً لقد أوحى إلي كما أوحى إليه ، ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال فارتد عن الإسلام ، ولحق بالمشركين . فذلك قوله : { ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله } . . ( رواه الكلبي عن ابن عباس ) . .
والمشهد الذي يرسمه السياق في جزاء هؤلاء الظالمين ( أي المشركين ) مشهد مفزع مرعب مكروب مرهوب . الظالمون في غمرات الموت وسكراته - ولفظ غمرات يلقي ظله المكروب - والملائكة يبسطون إليهم أيديهم بالعذاب ، وهم يطلبون أرواحهم للخروج وهم يتابعونهم بالتأنيب :
{ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم : أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق ، وكنتم عن آياته تستكبرون } . .
وجزاء الاستكبار العذاب المهين ، وجزاء الكذب على الله هذا التأنيب الفاضح . . وكله مما يضفي على المشهد ظلالاً مكروبة ، تأخذ بالخناق من الهول والكآبة والضيق
ثم في النهاية ، ذلك التوبيخ والتأنيب من الله تعالى ، الذي كذبوا عليه ، وها هم أولاء بين يديه ، يواجههم في موقف الكربة والضيق :
{ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة }
فما معكم إلا ذواتكم مجردة؛ ومفردة كذلك . تلقون ربكم أفراداً لا جماعة . كما خلقكم أول مرة أفراداً ، ينزل أحدكم من بطن أمه فرداً عريان أجرد غلبان
ولقد ند عنكم كل شيء ، وتفرق عنكم كل أحد؛ وما عدتم تقدرون على شيء مما ملككم الله إياه؛
{ وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } . .
تركتم كل شيء من مال وزينة ، وأولاد ومتاع ، وجاه وسلطان . . كله هناك متروك وراءكم ، ليس معكم شيء منه ، ولا تقدرون منه على قليل أو كثير
{ وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } . .
هؤلاء الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم في الشدائد ، وكنتم تشركونهم في حياتكم وأموالكم ، وتقولون : إنهم سيكونون عند الله شفعاءكم كالذي كانوا يقولون : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } سواء كانوا ناساً من البشر كهاناً أو ذوي سلطان؛ أو كانوا تماثيل من الحجر ، أو أوثاناً ، أو جناً أو ملائكة ، أو كواكب أو غيرها مما يرمزون به إلى الآلهة الزائفة ، ويجعلون له شركاً في حياتهم وأموالهم وأولادهم كما سيجيء في السورة .
فأين؟ أين ذهب الشركاء والشفعاء؟
{ لقد تقطع بينكم } . .
تقطع كل شيء . كل ما كان موصولاً . كل سبب وكل حبل
{ وضل عنكم ما كنتم تزعمون } . .
وغاب عنكم كل ما كنتم تدّعونه من شتى الدعاوى . ومنها أولئك الشركاء ، وما لهم من شفاعة عند الله أو تأثير في عالم الأسباب
إنه المشهد الذي يهز القلب البشري هزاً عنيفاً . وهو يشخص ويتحرك؛ ويلقي ظلاله على النفس ، ويسكب إيحاءاته في القلب ، ظلاله الرعيبة المكروبة ، وإيحاءاته العنيفة المرهوبة . .
إنه القرآن . . إنه القرآن . .

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

نحن في حاجة إلى أن نستحضر هنا كل ما قلناه من وصف هذه السورة عند التعريف بها . . في حاجة لأن نستحضر ما قلناه عن تدافع الموجات المتلاحقة في المجرى المتدفق؛ وعن الروعة الباهرة ، التي يصل إليها التعبير والتصوير والإيقاع من سياقها :
« وهذه السورة تعالج موضوعها الأساسي بصورة فريدة . . إنها في كل لمحة منها ، وفي كل موقف ، وفي كل مشهد ، تمثل » الروعة الباهرة « . . الروعة التي تبده النفس ، وتشده الحس ، وتبهر النفس أيضاً ، وهو يلاحق مشاهدها وإيقاعها وموحياتها مبهوراً
. . . » وهي تشبه في سياقها المتدافع بهذه المشاهد والمواقف والموحيات والإيقاعات والصور والظلال ، مجرى النهر المتدافع بالأمواج المتلاحقة . لا تكاد الموجة تصل إلى قرارها ، حتى تجد الموجة التالية ملاحقة لها ، ومتشابكة معها ، في المجرى المتصل المتدفق .
« وهي في كل موجة من هذه الموجات المتدافعة المتلاحقة المتشابكة ، تبلغ حد الروعة الباهرة التي وصفنا . . مع تناسق منهج العرض في شتى المشاهد . . وتأخذ على النفس أقطارها بالروعة الباهرة ، وبالحيوية الدافقة ، وبالإيقاع التصويري والتعبيري والموسيقي ، وبالتجمع والاحتشاد ، ومواجهة النفس من كل درب ومن كل نافذة » . .
. . . الخ . . . الخ . . .
إن هذه السمات كلها تتجلى في هذا الدرس ، على أتمها وأوفاها . . إن القارىء يحس كأنما المشاهد تنبثق انبثاقاً هي ومدلولاتها في التماع ولألاء . وهي تتدافع في انبثاقها أمام الحس ، كما تتدافع إيقاعات التعبير اللفظي عنها لتتناسق معها . والمشاهد والتعبير يتوافيان كذلك مع المدلولات التي يعبران عنها ، ويهدفان إليها
إن كل مشهد من هذه المشاهد كأنما هو انبثاقة لامعة رائعة تجيء من المجهول وتتجلى للحواس والقلب والعقل في بهاء أخاذ . .
والعبارة ذاتها كأنما هي انبثاقة كذلك وإيقاع العبارة يتناسق في بهاء مع المشهد ومع المدلول . يتناسق معه في قوة الانبثاق ، وفي شدة اللألاء .
وتتدفق المدلولات والمشاهد والعبارات في موجات متلاحقة ، يتابعها الحس في بهر وما يكاد يصل مع الموجة إلى قرارها حتى يجد نفسه مندفعاً مرة أخرى مع موجة جديدة . . كالذي حاولنا أن نصف به السورة في مطالعها من قبل
وصفحة الوجود بجملتها مفتوحة . والمشاهد تتوالى - وكدت أقول : تتواثب - من هنا ومن هناك في الصفحة الفسيحة الأرجاء . .
والجمال هو السمة البارزة هنا . . الجمال الذي يبلغ حد الروعة الباهرة . . المشاهد منتقاة وملتقطة من الزاوية الجمالية . والعبارات كذلك في بنائها اللفظي الإيقاعي ، وفي دلالتها . والمدلولات أيضاً - على كل ما تزخر به الحقيقة الأصيلة في هذه العقيدة - تتناول هذه الحقيقة من الزاوية الجمالية . . فتبدو الحقيقة ذاتها وكأنما تتلألأ في بهاء
ومما يوحي بالسمت الجمالي السابغ ذلك التوجيه الرباني إلى تملي الجمال في ازدهار الحياة وازدهائها : { انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه } .

. فهو التوجيه المباشر إلى الجمال الباهر . . للنظر والتملي والاستمتاع الواعي .
ثم ينتهي هذا الجمال إلى ذروته التي تروع وتبهر في ختام الاستعراض الكوني الحي ، حين يصل إلى ما وراء هذا الكون الجميل البهيج الرائع . . إلى بديع السماوات والأرض الذي أودع الوجود كل هذه البدائع . . فيتحدث عنه - سبحانه - حديثاً لا تنقل روعته إلا العبارة القرآنية بذاتها : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير } . .
وبعد ، فنحن - في هذا الدرس - أمام كتاب الكون المفتوح ، الذي يمر به الغافلون في كل لحظة . فلا يقفون أمام خوارقه وآياته ، ويمر به المطموسون فلا تتفتح عيونهم على عجائبه وبدائعه . . وها هو ذا النسق القرآني العجيب يرتاد بنا هذا الوجود ، كأنما نهبط إليه اللحظة ، فيقفنا أمام معالمه العجيبة ، ويفتح أعيننا على مشاهده الباهرة ، ويثير تطلعنا إلى بدائعه التي يمر عليها الغافلون غافلين
ها هو ذا يقفنا أمام الخارقة المعجزة التي تقع في كل لحظة من الليل والنهار . . خارقة انبثاق الحياة النابضة من هذا الموات الهامد . . لا ندري كيف انبثقت ، ولا ندري من أين جاءت - إلا أنها جاءت من عند الله وانبثقت بقدر من الله . لا يقدر بشر على إدراك كنهها بله ابتداعها
وها هو ذا يقف بنا أمام دورة الفلك العجيبة . . الدورة الهائلة الدائبة الدقيقة . . وهي خارقة لا يعدلها شيء مما يطلبه الناس من الخوارق . . وهي تتم في كل يوم وليلة . بل تتم في كل ثانية ولحظة . .
وها هو ذا يقف بنا أمام نشأة الحياة البشرية . . من نفس واحدة . . وأمام تكاثرها بتلك الطريقة .
وها هو ذا يقف بنا أمام نشأة الحياة في النبات . . وأمام مشاهد الأمطار الهاطلة ، والزروع النامية ، والثمار اليانعة . وهي حشد من الحيوات والمشاهد ، ومجال للتأمل والريادة . لو نشاهدها بالحس المتوفز والقلب المتفتح .
وها هو ذا الوجود كله ، جديداً كأنما نراه أول مرة . حياً يعاطفنا ونعاطفه ، متحركاً تدب الحركة في أوصاله ، عجيباً يشده الحواس والمشاعر . ناطقاً بذاته عن خالقه . دالاً بآياته على تفرده وقدرته . .
وعندئذ يبدو الشرك بالله - والسياق يواجه الشرك والمشركين بهذا الاستعراض - غريباً غريباً على فطرة هذا الوجود وطبيعته . وشائهاً شائهاً في ضمير من يشاهد هذا الوجود الحافل بدلائل الهدى ويتأمله . وتسقط حجة الشرك والمشركين ، في مواجهة هذا الإيمان الغامر في مجالي الوجود العجيب . .
والمنهج القرآني - في خطاب الكينونة البشرية بحقيقة الألوهية؛ وفي بيانه لموقف العبودية منها؛ يجعل حقيقة الخلق والإنشاء للكون ، وحقيقة الخلق والإنشاء للحياة ، وحقيقة كفالة الحياة بالرزق الذي ييسره لها الله في ملكه ، وحقيقة السلطان الذي يخلق ويرزق ويتصرف في عالم الأسباب بلا شريك . . يجعل من هذه الحقائق مؤثراً موحياً . وبرهاناً قوياً على ضرورة ما يدعو إليه البشر : من العبودية لله وحده ، وإخلاص الاعتقاد والعبادة والطاعة والخضوع له وحده .

. وكذلك يجيء في السياق - بعد استعراض صفحة الوجود؛ وانكشاف حقيقة الخلق والإنشاء والرزق والكفالة والسلطان - الدعوة إلى عبادة الله وحده ، أي إلى إفراده سبحانه بالألوهية وخصائصها ، في حياة العباد كلها؛ وجعل الحاكمية والتحاكم إليه وحده في شؤون الحياة كافة ، واستنكار ادعاء الألوهية أو إحدى خصائصها .
وكذلك نجد في هذا الدرس قوله تعالى : { ذلكم الله ربكم ، لا إله إلا هو ، خالق كل شيء فاعبدوه ، وهو على كل شيء وكيل } . . نموذجاً للمنهج القرآني في ربط العبادة الخالصة ، بإفراد الألوهية لله وحده ، مع تقرير أنه - سبحانه - { خالق كل شيء } . . { وهو على كل شيء وكيل } . .
وفي نهاية الدرس - وبعد عرض هذه الآيات في صفحة الوجود كله - يكشف عن تفاهة طلب الخوارق ، كما يكشف عن طبيعة المكذبين المعاندة ، التي لا تتخلف عن الإيمان لنقص في الآيات والدلائل؛ ولكن لطبع فيها مطموس وإلا فهذه الآيات تزحم الوجود .
{ إن الله فالق الحب والنوى ، يخرج الحي من الميت ، ومخرج الميت من الحي . ذلكم الله فأنى تؤفكون؟ } . .
إنها المعجزة التي لا يدري سرها أحد؛ فضلاً على أن يملك صنعها أحد معجزة الحياة نشأة وحركة . . وفي كل لحظة تنفلق الحبة الساكنة عن نبتة نامية ، وتنفلق النواة الهامدة عن شجرة صاعدة . والحياة الكامنة في الحبة والنواة ، النامية في النبتة والشجرة ، سر مكنون ، لا يعلم حقيقته إلا الله؛ ولا يعلم مصدره إلا الله . . وتقف البشرية بعد كل ما رأت من ظواهر الحياة وأشكالها ، وبعد كل ما درست من خصائصها وأطوارها . . تقف أمام السر المغيب كما وقف الإنسان الأول ، تدرك الوظيفة والمظهر ، وتجهل المصدر والجوهر ، والحياة ماضية في طريقها . والمعجزة تقع في كل لحظة
ومنذ البدء أخرج الله الحي من الميت . فقد كان هذا الكون - أو على الأقل كانت هذه الأرض - ولم يكن هناك حياة . . ثم كانت الحياة . . أخرجها الله من الموات . . كيف؟ لا ندري وهي منذ ذلك الحين تخرج من الميت؛ فتتحول الذرات الميتة في كل لحظة - عن طريق الأحياء - إلى مواد عضوية حية تدخل في كيان الأجسام الحية؛ وتتحول - وأصلها ذرات ميتة - إلى خلايا حية . . والعكس كذلك . . ففي كل لحظة تتحول خلايا حية إلى ذرات ميتة؛ إلى أن يتحول الكائن الحي كله ذات يوم إلى ذرات ميتة
{ يخرج الحي من الميت ، ومخرج الميت من الحي } . .
ولا يقدر إلا الله أن يصنع ذلك . . لا يقدر إلا الله أن ينشىء الحياة منذ البدء من الموات . ولا يقدر إلا الله أن يجهز الكائن الحي بالقدرة على إحالة الذرات الميتة إلى خلايا حية . ولا يقدر إلا الله على تحويل الخلايا الحية مرة أخرى إلى ذرات ميتة .

. في دورة لم يعلم أحد يقيناً بعد متى بدأت ، ولا كيف تتم . . وإن هي إلا فروض ونظريات واحتمالات
لقد عجزت كل محاولة لتفسير ظاهرة الحياة ، على غير أساس أنها من خلق الله . . ومنذ أن شرد الناس من الكنيسة في أوربا . . { كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة } وهم يحاولون تفسير نشأة الكون وتفسير نشأة الحياة ، بدون التجاء إلى الاعتراف بوجود الله . . ولكن هذه المحاولات كلها فشلت جميعاً . . ولم تبق منها في القرن العشرين إلا مماحكات تدل على العناد ، ولا تدل على الإخلاص
وأقوال بعض « علمائهم » الذين عجزوا عن تفسير وجود الحياة إلا بالاعتراف بالله ، تصور حقيقة موقف « علمهم » نفسه من هذه القضية . ونحن نسوقها لمن لا يزالون عندنا يقتاتون على فتات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من موائد الأوربيين ، عازفين عن هذا الدين ، لأنه يثبت « الغيب » وهم « علميون » لا « غيبيون » . .
ونختار لهم هؤلاء العلماء من « أمريكا »
يقول « فرانك أللن » . ( ماجستير ودكتوراه من جامعة كورنل وأستاذ الطبيعة الحيوية بجامعة مانيتوبا بكندا ) في مقال : نشأة العالم هل هو مصادفة أو قصد؟ من كتاب : « الله يتجلى في عصر العلم » . . ترجمة الدكتور : الدمرداش عبد المجيد سرحان .
. . « فإذا لم تكن الحياة قد نشأت بحكمة وتصميم سابق ، فلا بد أن تكون قد نشأت عن طريق المصادفة فما هي تلك المصادفة إذن حتى نتدبرها ونرى كيف تخلق الحياة؟
» إن نظريات المصادفة والاحتمال لها الآن من الأسس الرياضية السليمة ما يجعلها تطبق على نطاق واسع حيثما انعدم الحكم الصحيح المطلق . وتضع هذه النظريات أمامنا الحكم الأقرب إلى الصواب - مع تقدير احتمال الخطأ في هذا الحكم - ولقد تقدمت دراسة نظرية المصادفة والاحتمال من الوجهة الرياضية تقدماً كبيراً ، حتى أصبحنا قادرين على التنبؤ بحدوث بعض الظواهر ، التي نقول : إنها تحدث بالمصادفة ، والتي لا نستطيع أن نفسر ظهورها بطريقة أخرى ( مثل قذف الزهر في لعبة النرد ) . وقد صرنا بفضل تقدم هذه الدراسات قادرين على التمييز بين ما يمكن أن يحدث بطريق المصادفة ، وما يستحيل حدوثه بهذه الطريقة ، وأن نحسب احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر في مدى معين من الزمان . . ولننظر الآن إلى الدور الذي تستطيع أن تلعبه المصادفة في نشأة الحياة :
« إن البروتينات من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية . وهي تتكون من خمسة عناصر؛ هي : الكربون ، والأدروجين ، والنيتروجين ، والأكسجين ، والكبريت . . ويبلغ عدد الذرات في الجزيء الواحد 40 . 000 ذرة . ولما كان عدد العناصر الكيموية في الطبيعة 92 عنصراً ، موزعة كلها توزيعاً عشوائياً ، فإن احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة ، لكي تكون جزئياً من جزيئات البروتين ، يمكن حسابه لمعرفة كمية المادة التي ينبغي أن تخلط خلطاً مستمراً لكي تؤلف هذا الجزيء؛ ثم لمعرفة طول الفترة الزمنية اللازمة لكي يحدث هذا الاجتماع بين ذرات الجزيء الواحد .

« وقد قام العالم الرياضي السويسري تشارلز يوجين جاي بحساب هذه العوامل جميعاً ، فوجد أن الفرصة لا تتهيأ عن طريق المصادفة لتكوين جزيء بروتيني واحد ، إلا بنسبة 1 إلى 10 ، أي بنسبة 1 إلى رقم عشرة مضروباً في نفسه160 مرة . وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات . . وينبغي أن تكون كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة بحيث ينتج جزيء واحد أكثر مما يتسع له كل هذا الكون بملايين المرات . . ويتطلب تكوين هذا الجزيء على سطح الأرض وحدها - عن طريق المصادفة - بلايين لا تحصى من السنوات ، قدرها العالم السويسري بأنها عشرة مضروبة في نفسها 243 مرة من السنين ( 10 سنة ) » .
« إن البروتينات تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية . فكيف تتألف ذرات هذه الجزيئات؟ إنها إذا تآلفت بطريقة أخرى ، غير التي تتآلف بها ، تصير غير صالحة للحياة . بل تصير في بعض الأحيان سموماً . وقد حسب العالم الانجليزي : ج . ب . سيثر J . رضي الله عن . Seather الطرق التي يمكن أن تتآلف بها الذرات في أحد الجزيئات البسيطة من البروتينات ، فوجد أن عددها يبلغ الملايين ( 10 ) . وعلى ذلك فإنه من المحال عقلاً أن تتآلف كل هذه المصادفات لكي تبني جزيئاً بروتينياً واحداً » .
« ولكن البروتينات ليست إلا مواد كيماوية عديمة الحياة ، ولا تدب فيها الحياة إلا عندما يحل فيها ذلك السر العجيب ، الذي لا ندري من كنهه شيئاً ، إنه العقل اللانهائي . وهو الله وحده ، الذي استطاع أن يدرك ببالغ حكمته ، أن مثل هذا الجزيء البروتيني يصلح لأن يكون مستقراً للحياة ، فبناه وصوره ، وأغدق عليه سر الحياة » . .
ويقول إيرفنج وليام ( دكتوراه من جامعة إيوى وأخصائي في وراثة النباتات وأستاذ العلوم الطبيعية بجامعة ميتشجان ) في مقال : « المادية وحدها لا تكفي » من الكتاب نفسه :
« إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها والتي لا يحصيها عد ، وهي التي تتكون منها جميع المواد . كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا - بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكوّن الحياة . ولا شك أن النظرية التي تدعي أن جميع صور الحياة الراقية قد وصلت إلى حالتها الراهنة من الرقي بسبب حدوث بعض الطفرات العشوائية والتجمعات والهجائن . . نقول : إن هذه النظرية لا يمكن الأخذ بها إلا عن طريق التسليم . فهي لا تقوم على أساس المنطق والإقناع »
ويقول : « ألبرت ماكومب ونشستر » ( متخصص في علم الأحياء دكتوراه من جامعة تكساس .

أستاذ علم الأحياء بجامعة بايلور . . . ) في مقال : « العلوم تدعم إيماني بالله » من الكتاب نفسه :
« . . . وقد اشتغلت بدراسة علم الأحياء . وهو من الميادين العلمية الفسيحة التي تهتم بدراسة الحياة . وليس بين مخلوقات الله أروع من الأحياء التي تسكن هذا الكون » .
« انظر إلى نبات برسيم ضئيل . وقد نما على أحد جوانب الطريق . فهل تستطيع أن تجد له نظيراً في روعته بين جميع ما صنعه الإنسان من تلك العدد والآلات الرائعة؟ إنه آله حية تقوم بصورة دائبة لا تنقطع آناء الليل وأطراف النهار ، بآلاف من التفاعلات الكيموية والطبيعية؛ ويتم كل ذلك تحت سيطرة البروتوبلازم - وهو المادة التي تدخل في تركيب جميع الكائنات الحية » .
« فمن أين جاءت هذه الآلة الحية المعقدة؟ إن الله لم يصنعها هكذا وحدها ، ولكنه خلق الحياة ، وجعلها قادرة على صيانة نفسها ، وعلى الاستمرار من جيل إلى جيل . مع الاحتفاظ بكل الخواص والمميزات التي تعيننا على التمييز بين نبات وآخر . . إن دراسة التكاثر في الأحياء تعتبر أروع دراسات علم الأحياء ، وأكثرها إظهاراً لقدرة الله . . إن الخلية التناسلية التي ينتج عنها النبات الجديد ، تبلغ من الصغر درجة كبرى بحيث يصعب مشاهدتها إلا باستخدام المجهر المكبر . ومن العجيب أن كل صفة من صفات النبات : كل عرق ، وكل شعيرة ، وكل فرع على ساق ، وكل جذر أو ورقة ، يتم تكوينها تحت إشراف مهندسين قد بلغوا من دقة الحجم مبلغاً كبيراً ، فاستطاعوا العيش داخل الخلية التي ينشأ منها النبات . . تلك الفئة من المهندسين هي فئة الكروموسومات ( ناقلات الوراثة ) » .
وفي هذا القدر كفاية لنعود إلى الجمال المشرق في سياق القرآن : { ذلكم الله } . .
مبدع هذه المعجزة المتكررة المغيبة السر . . هو الله . . وهو ربكم الذي يستحق أن تدينوا له وحده . . بالعبودية والخضوع والاتباع .
{ فأنى تؤفكون؟ } . .
فكيف تصرفون عن هذا الحق الواضح للعقول والقلوب والعيون
إن معجزة انبثاق الحياة من الموات يجيء ذكرها كثيراً في القرآن الكريم - كما يجيء ذكر خلق الكون ابتداء - في معرض التوجيه إلى حقيقة الألوهية ، وآثارها الدالة على وحدة الخالق ، لينتهي منها إلى ضرورة وحدة المعبود ، الذي يدين له العباد؛ بالاعتقاد في ألوهيته وحده ، والطاعة لربوبيته وحده ، والتقدم إليه وحده بالشعائر التعبدية ، والتلقي منه وحده في منهج الحياة كله ، والدينونة لشريعته كذلك وحدها . .
وهذه الدلائل لا تذكر في القرآن الكريم في صورة قضايا لاهوتية أو نظريات فلسفية إن هذا الدين أكثر جدية من أن ينفق طاقة البشر في قضايا لاهوتية ونظريات فلسفية . إنما يهدف إلى تقويم تصور البشر - بإعطائهم العقيدة الصحيحة - لينتهي إلى تقويم حياة البشر الباطنة والظاهرة .
وذلك لا يكون أبداً إلا بردهم إلى عبادة الله وحده وإخراجهم من عبادة العباد .

وإلا أن تكون الدينونة في الحياة الدنيا ، وفي شئون الحياة اليومية لله وحده ، وإلا أن يخرج الناس من سلطان المتسلطين ، الذين يدعون حق الألوهية ، فيزاولون الحاكمية في حياة البشر ، ويصبحون آلهة زائفة وأرباباً كثيرة؛ فتفسد الحياة ، حين يستعبد الناس فيها لغير الله
ومن هنا نرى التعقيب على معجزة الحياة :
{ ذلكم الله فأنى تؤفكون } . .
ذلكم الله الذي يستحق الربوبية فيكم . . والرب هو المربي والموجه والسيد والحاكم . .
ومن ثم يجب ألا يكون الرب إلا الله . .
{ فالق الإصباح ، وجعل الليل سكناً ، والشمس والقمر حسباناً . ذلك تقدير العزيز العليم } . .
إن فالق الحب والنوى هو فالق الإصباح أيضاً ، وهو الذي جعل الليل للسكون ، وجعل الشمس والقمر محسوبة حركاتهما مقدرة دوراتهما . . مقدراً ذلك كله بقدرته التي تهيمن على كل شيء ، وبعلمه الذي يحيط بكل شيء .
وانفلاق الإصباح من الظلام حركة تشبه في شكلها انفلاق الحبة والنواة . وانبثاق النور في تلك الحركة ، كانبثاق البرعم في هذه الحركة . . وبينهما من مشابه الحركة والحيوية والبهاء والجمال سمات مشتركة ، ملحوظة في التعبير عن الحقائق المشتركة في طبيعتهما وحقيقتهما كذلك . .
وبين انفلاق الحب والنوى وانفلاق الإصباح وسكون الليل صلة أخرى . . إن الإصباح والإمساء ، والحركة والسكون ، في هذا الكون - أو في هذه الأرض - ذات علاقة مباشرة بالنبات والحياة .
إن كون الأرض تدور دورتها هذه حول نفسها أمام الشمس؛ وكون القمر بهذا الحجم وبهذا البعد من الأرض؛ وكون الشمس كذلك بهذا الحجم وهذا البعد وهذه الدرجة من الحرارة . . هي تقديرات من « العزيز » ذي السلطان القادر « العليم » ذي العلم الشامل . . ولولا هذه التقديرات ما انبثقت الحياة في الأرض على هذا النحو ، ولما انبثق النبت والشجر ، من الحب والنوى . .
إنه كون مقدر بحساب دقيق . ومقدر فيه حساب الحياة ، ودرجة هذه الحياة ، ونوع هذه الحياة . . كون لا مجال للمصادفة العابرة فيه - وحتى ما يسمونه المصادفة خاضع لقانون ومقدر بحساب . .
والذين يقولون : إن هذه الحياة فلتة عابرة في الكون . وأن الكون لا يحفلها . بل يبدو أنه يعاديها . وأن ضآلة الكوكب الذي قام عليه هذا النوع من الحياة توحي بهذا كله . بل يقول بعضهم : إن هذه الضآلة توحي بأنه لو كان للكون إله ما عنى نفسه بهذه الحياة . . . إلى آخر ذلك اللغو ، الذي يسمونه أحياناً « علماً » ويسمونه أحيانا « فلسفة » وهو لا يستأهل حتى مناقشته
إن هؤلاء إنما يحكمون أهواء مستقرة في نفوسهم؛ ولا يحكمون حتى نتائج علمهم التي تفرض نفسها عليهم ويقرأ لهم الإنسان فيجد كأنما هم هاربون من مواجهة حقيقة قرروا سلفاً ألا يواجهوها . . إنهم هاربون من الله الذي تواجههم دلائل وجوده ووحدانيته وقدرته المطلقة في كل اتجاه وكلما سلكوا طريقاً يهربون بها من مواجهة هذه الحقيقة وجدوا الله في نهايتها ، فعادوا في ذعر إلى سكة أخرى .

ليواجهوا الله - سبحانه - في نهايتها كذلك
إنهم مساكين بائسون لقد فروا ذات يوم من الكنيسة وإلهها الذي تستذل به الرقاب . . فروا { كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة } ثم ما زالوا في فرارهم التقليدي حتى أوائل هذا القرن . . دون أن يتلفتوا وراءهم ليروا إن كانت الكنيسة ما تزال تتابعهم . أم انقطعت منها - كما انقطعت منهم - الأنفاس .
إنهم مساكين بائسون لأن نتائج علومهم ذاتها تواجههم اليوم أيضاً . . فإلى أين الفرار؟ . .
يقول « فرانك أللن » العالم الطبيعي الذي اقتطفنا فقرات من مقاله في الفقرة السابقة عن نشأة الحياة :
« إن ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صوراً عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية . فالأرض كرة معلقة في الفضاء تدور حول نفسها ، فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار ، وهي تسبح حول الشمس مرة في كل عام ، فيكون في ذلك تتابع الفصول ، الذي يؤدي بدوره إلى زيادة مساحة الجزء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا ، ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية أكثر مما لو كانت ساكنة . ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغازات اللازمة للحياة ، ويمتد حولها إلى ارتفاع كبير ( يزيد على 500 ميل ) » .
« ويبلغ هذا الغلاف الغازي من الكثافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة يومياً إلينا ، منقضة بسرعة ثلاثين ميلاً في الثانية . والغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة ، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات ، حيث يمكن أن يتكاثف مطر يحيي الأرض بعد موتها . والمطر مصدر الماء العذب ، ولولاه لأصبحت الأرض صحراء جرداء خالية من كل أثر للحياة . ومن هنا نرى أن الجو والمحيطات الموجودة على سطح الأرض تمثل عجلة التوازن في الطبيعة » . .
إن الأدلة « العلمية » تتكاثر في وجوههم وتتجمع لتعلن عجز المصادفة عجزاً كاملاً عن تعليل نشأة الحياة ، بما يلزم لهذه النشأة - وللنمو والبقاء والتنوع بعدها - من موافقات لا تحصى في تصميم الكون . . منها هذه الموافقات التي ذكرها العالم الطبيعي السابق ، ووراءها من نوعها كثير . فلا يبقى إلا تقدير العزيز العليم . الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . والذي خلق كل شيء فقدره تقديراً . .
{ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر . قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون } . .
تتمة لمشهد الفلك الدائر بشمسه وقمره ونجومه . تتمة لعرض المشهد الكوني الهائل الرائع مرتبطاً بحياة البشر ومصالحهم واهتماماتهم :
{ لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } . .
ومتاهات البر والبحر ظلمات يهتدي فيها البشر بالنجوم . . كانوا كذلك وما يزالون .

. تختلف وسائل الاهتداء بالنجوم ويتسع مداها بالكشوف العلمية والتجارب المنوعة . . وتبقى القاعدة ثابتة : قاعدة الاهتداء بهذه الأجرام في ظلمات البر والبحر . . سواء في ذلك الظلمات الحسية أو ظلمات التصور والفكر . ويبقى النص القرآني الجامع يخاطب البشرية في مدارجها الأولى بهذه الحقيقة ، فتجد مصداقها في واقع حياتها الذي تزاوله . ويخاطبها بها وقد فتح عليها ما أراد أن يفتح من الأسرار في الأنفس والآفاق . فتجدها كذلك مصداق قوله في واقع حياتها الذي تزاوله . .
وتبقى مزية المنهج القرآني في مخاطبة الفطرة بالحقائق الكونية ، لا في صورة « نظرية » ولكن في صورة « واقعية » . . صورة تتجلى من ورائها يد المبدع ، وتقديره ، ورحمته ، وتدبيره . صورة مؤثرة في العقل والقلب ، موحية للبصيرة والوعي ، دافعة إلى التدبر والتذكر ، وإلى استخدام العلم والمعرفة للوصول إلى الحقيقة الكبرى المتناسقة . . لذلك يعقب على آية النجوم التي جعلها الله للناس ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر هذا التعقيب الموحي :
{ قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون } . .
فالاهتداء بالنجوم في ظلمات البر والبحر يحتاج إلى علم بمسالكها ودوراتها ومواقعها ومداراتها . . كما يحتاج إلى قوم يعلمون دلالة هذا كله على الصانع العزيز الحكيم . . فالاهتداء - كما قلنا - هو الاهتداء في الظلمات الحسية الواقعية ، وفي ظلمات العقل والضمير . . والذين يستخدمون النجوم للاهتداء الحسي ، ثم لا يصلون ما بين دلالتها ومبدعها ، هم قوم لم يهتدوا بها تلك الهداية الكبرى؛ وهم الذين يقطعون بين الكون وخالقه ، وبين آيات هذا الكون ودلالتها على المبدع العظيم . .
{ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة ، فمستقر ومستودع . قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون } . .
إنها اللمسة المباشرة في هذه المرة . . اللمسة في ذات النفس البشرية . النفس البشرية الواحدة الموحدة الكنه والحقيقة في الذكر والأنثى . تبدأ الحياة فيها خطوتها الأولى للتكاثر بالخلية الملقحة . فنفسٌ هي مستودع لهذه الخلية في صلب الرجل ، ونفس هي مستقر لها في رحم الأنثى . . ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار . فإذا أجناس وألوان؛ وإذا شيات ولغات؛ وإذا شعوب وقبائل؛ وإذا النماذج التي لا تحصى ، والأنماط التي ما تزال تتنوع ما دامت الحياة .
{ قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون } . .
فالفقه هنا ضروري لإدراك صنع الله في هذه النفس الواحدة ، التي تنبثق منها النماذج والأنماط . ولإدراك الموافقات العجيبة الكامنة وراء اتخاذ التلاقح وسيلة للإكثار وتوفير الأعداد المناسبة دائماً من الذكور والإناث - في عالم الإنسان - لتتم عملية التزاوج التي قدر الله أن تكون هي وسيلة الإخصاب والإكثار . ووسيلة تنشئة الأطفال في ظروف تحفظ « إنسانيتهم » وتجعلهم أكفاء للحياة « الإنسانية »
ولا نملك هنا في الظلال أن نبعد في عرض هذه المسألة بكل تفصيلاتها لجلاء هذه الموافقات - فهي في حاجة إلى بحث متخصص - ولكننا نذكر فقط كيفية نشأة النطفة ذكراً أو أنثى وكيف يتم عن طريق التوزيع الغيبي الرباني إنتاج القدر الكافي من الذكور ومن الإنات دائماً لكي تتوافر الأعداد المناسبة لبقاء الحياة وامتدادها .

.
ولقد ذكرنا من قبل عند تفسير قوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } أن الذي يقرر صيرورة البويضة الملقحة ذكراً أو أنثى ، هو أن يجري قدر الله بأن يكون عدد كروموسومات الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة يرجح كروموسومات التذكير على كروموسومات التأنيث أو العكس ، وأن جريان القدر بهذا أو ذاك غيب من غيب الله . لا سلطان لأحد عليه إلا الله . .
هذا القدَر الذي يجريه الله في كل مرة ، فيهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور ، يحافظ على توازن دائم في الأرض كلها بين عدد من يجري بهم ليكونوا إناثاً ، وعدد من يجري بهم ليكونوا ذكوراً . فلا يقع اختلال - على مستوى البشرية كلها - في هذا التوازن . الذي عن طريقه يتم الإخصاب والإكثار ، وتتم به حياة زوجية مستقرة في الوقت ذاته . . ذلك أن الإخصاب والإكثار وحده قد يتم بأقل عدد من الذكور . . ولكن الله قدر في الحياة الإنسانية أن هذا ليس هو غاية الالتقاء بين الذكر والأنثى؛ إنما الغاية - التي تميز الإنسان من الحيوان - هي استقرار الحياة الزوجية بين ذكر وأنثى . . لما وراء هذا الاستقرار من أهداف لا تتم إلا به . وأهمها استقرار الذرية في كنف أبوين في محيط أسرة ، ليتم إعداد هذه الذرية لدورها « الإنساني » الخاص - فوق إعدادها لتحصيل القوت وحماية النفس كالحيوان - والدور « الإنساني » الخاص يحتاج إلى الاستقرار بين أبوين في أسرة فترة أطول جداً مما تحتاج إليه طفولة الحيوان
وهذه الموازنة الدائمة تكفي وحدها لتكون آية على تدبير الخالق وحكمته وتقديره . . ولكن لقوم يفقهون :
{ قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون } . .
أما المطموسون المحجوبون . . وفي أولهم أصحاب « العلمية » الذين يسخرون من « الغيبية » . فإنهم يمرون على هذه الآيات كلها مطموسين محجوبين : { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } ثم يمضي السياق إلى مشاهد الحياة المتفتحة في جنبات الأرض . تراها الأعين ، وتستجليها الحواس ، وتتدبرها القلوب . وترى فيها بدائع صنع الله . . والسياق يعرضها - كما هي في صفحة الكون - ويلفت إليها النظر في شتى أطوارها ، وشتى أشكالها ، وشتى أنواعها؛ ويلمس الوجدان بما فيها من حياة نامية ، ودلالة على القدرة التي تبدع الحياة؛ كما يوجه القلب إلى استجلاء جمالها والاستمتاع بهذا الجمال :
{ وهو الذي أنزل من السماء ماء ، فأخرجنا به نبات كل شيء . فأخرجنا منه خضراً نخرج منه حباً متراكباً . ومن النخل من طلعها قنوان دانية . وجنات من أعناب والزيتون والرمان ، مشتبهاً وغير متشابه . انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه .

إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } . .
والماء كثيراً ما يذكر في القرآن في صدد ذكر الحياة والإنبات .
{ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء } . .
ودور الماء الظاهر في إنبات كل شيء دور واضح يعلمه البدائي والمتحضر ، ويعرفه الجاهل والعالم . . ولكن دور الماء في الحقيقة أخطر وأبعد مدى من هذا الظاهر الذي يخاطب به القرآن الناس عامة . فقد شارك الماء ابتداء - بتقدير الله - في جعل تربة الأرض السطحية صالحة للإنبات ( إذا صحت النظريات التي تفترض أن سطح الأرض كان في فترة ملتهباً ، ثم صلباً لا توجد فيه التربة التي تنبت الزرع . ثم تم ذلك بتعاون الماء والعوامل الجوية على تحويلها إلى تربة لينة ) ثم ظل الماء يشارك في إخصاب هذه التربة ، وذلك بإسقاط ( النتروجين - الأزوت ) من الجو كلما أبرق فاستخلصت الشرارة الكهربائية ، التي تقع في الجو ، النتروجين الصالح للذوبان في الماء ويسقط مع المطر ، ليعيد الخصوبة إلى الأرض . . وهو السماد الذي قلد الإنسان القوانين الكونية في صنعه ، فأصبح يصنعه الآن بنفس الطريقة وهو المادة التي يخلو وجه الأرض من النبات لو نفدت من التربة
{ فأخرجنا منه خضراً نخرج منه حباً متراكباً . ومن النخل من طلعها قنوان دانية . وجنات من أعناب . والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه } . .
وكل نبت يبدأ أخضر . واللفظ { خضراً } أرق ظلاً ، وأعمق ألفة من لفظ « أخضر » . . هذا النبت الخضر { يخرج منه حباً متراكباً } . . كالسنابل وأمثالها . { ومن النخل من طلعها قنوان دانية } . . وقنوان جمع قنو وهو الفرع الصغير . وفي النخلة هو العذق الذي يحمل الثمر . ولفظة { قنوان } ووصفها { دانية } يشتركان في إلقاء ظل لطيف أليف . وظل المشهد كله ظل وديع حبيب . . { وجنات من أعناب } . . { والزيتون والرمان } . هذا النبات كله بفصائله وسلالاته - { مشتبهاً وغير متشابه } - { انظروا إلى ثمرة إذا أثمر وينعه } . . انظروا بالحس البصير ، والقلب اليقظ . . انظروا إليه في ازدهاره ، وازدهائه ، عند كمال نضجه . انظروا إليه واستمتعوا بجماله . . لا يقول هنا ، كلوا من ثمره إذا أثمر ، ولكن يقول : { انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه } لأن المجال هنا مجال جمال ومتاع ، كما أنه مجال تدبر في آيات الله ، وبدائع صنعته في مجالي الحياة .
{ إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } . .
فالإيمان هو الذي يفتح القلب ، وينير البصيرة ، وينبه أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة ، ويصل الكائن الإنساني بالوجود ، ويدعو الوجدان إلى الإيمان بالله خالق الجميع . . وإلا فإن هناك قلوباً مغلقة ، وبصائر مطموسة ، وفطراً منتكسة ، تمر بهذا الإبداع كله ، وبهذه الآيات كلها ، فلا تحس بها ولا تستجيب . . { إنما يستجيب الذين يسمعون } ، وإنما يدرك هذه الآيات الذين يؤمنون
وعندما يبلغ السياق إلى هذا المقطع؛ وقد عرض على القلب البشري صفحة الوجود الحافلة بدلائل وجود الله ، ووحدانيته ، وقدرته ، وتدبيره ، وقد غمر الوجدان بتلك الظلال الكونية الموحية ، وقد وصل الضمير بقلب الوجود النابض في كل حي ، الناطق ببديع صنع الخلاق .

. عندما يبلغ إلى هذا المقطع يعرض شرك المشركين ، فإذا هو غريب غريب في هذا الجو المؤمن الموصول بمبدع الوجود . ويعرض أوهام المشركين فإذا هي سخف تشمئز منه القلوب والعقول . وسرعان ما يعقب عليها بالاستنكار . والجو كله مهيأ للاستنكار :
{ وجعلوا لله شركاء الجن - وخلقهم - وخرقوا له بنين وبنات بغير علم . سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض ، أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة؟ وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم } . .
وقد كان بعض مشركي العرب يعبدون الجن . . وهم لا يعرفون من هم الجن ولكنها أوهام الوثنية والنفس متى انحرفت عن التوحيد المطلق قيد شبر انساقت في انحرافها إلى أي مدى؛ وانفرجت المسافة بينها وبين نقطة الانحراف التي بدأت صغيرة لا تكاد تلحظ وهؤلاء المشركون كانوا على دين إسماعيل . . دين التوحيد الذي جاء به إبراهيم عليه السلام في هذه المنطقة . . ولكنهم انحرفوا عن هذا التوحيد . . ولا بد أن يكون الانحراف قد بدأ يسيراً . . ثم انتهى إلى مثل هذا الانحراف الشنيع . . الذي يبلغ أن يجعل الجن شركاء لله . . وهم من خلقه سبحانه :
{ وجعلوا لله شركاء الجن - وخلقهم - }
ولقد عرفت الوثنيات المتعددة في الجاهليات المتنوعة أن هناك كائنات شريرة - تشبه فكرة الشياطين - وخافوا هذه الكائنات - سواء كانت أرواحاً شريرة أو ذوات شريرة - وقدموا لها القرابين اتقاء لشرها؛ ثم عبدوها
والوثنية العربية واحدة من هذه الوثنيات التي وجدت فيها هذه التصورات الفاسدة ، في صورة عبادة للجن ، واتخاذهم شركاء لله . . سبحانه . .
والسياق القرآني يواجههم بسخف هذا الاعتقاد . . يواجههم بكلمة واحدة :
{ وخلقهم } . .
وهي لفظة واحدة ، ولكنها تكفي للسخرية من هذا التصور فإذا كان الله سبحانه هو الذي { خلقهم } فكيف يكونون شركاء له في الألوهية والربوبية؟
ولم تكن تلك وحدها دعواهم . فأوهام الوثنية متى انطلقت لا تقف عند حد من الانحراف . بل كانوا يزعمون له سبحانه بنين وبنات :
{ وخرقوا له بنين وبنات بغير علم } .
و { خرقوا } أي : اختلقوا . . وفي لفظها جرس خاص وظل خاص؛ يرسم مشهد الطلوع بالفرية التي تخرق وتشق
خرقوا له بنين : عند اليهود : عزير . وعند النصارى : المسيح : وخرقوا له بنات . عند المشركين : الملائكة . وقد زعموا أنهم إناث . . ولا يدري أحد طبعاً لماذا هم إناث فالادعاءات كلها لا تقوم على أساس من علم . . فكلها { بغير علم } . .
{ سبحانه وتعالى عما يصفون } . .
ثم يواجه فريتهم هذه وتصوراتهم بالحقيقة الإلهية ، ويناقشهم في هذه التصورات بما يكشف عما فيها من هلهلة :
{ بديع السماوات والأرض . أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة . وخلق كل شيء ، وهو بكل شيء عليم } .

.
إن الذي يبدع هذا الوجود إبداعاً من العدم ما تكون حاجته إلى الخلف؟ والخلف إنما هو امتداد الفانين ، وعون الضعفاء ، ولذة من لا يبدعون
ثم هم يعرفون قاعدة التكاثر . . أن يكون للكائن صاحبة أنثى من جنسه . . فكيف يكون لله ولد - وليست له صاحبة - وهو - سبحانه - مفرد أحد ، ليس كمثله شيء . فأنى يكون النسل بلا تزاوج؟
وهي حقيقة ، ولكنها تواجه مستواهم التصوري؛ وتخاطبهم بالأمثلة القريبة من حياتهم ومشاهداتهم
ويتكىء السياق - في مواجهتهم - على حقيقة « الخلق » لنفي كل ظل للشرك . فالمخلوق لا يكون أبداً شريكاً للخالق . وحقيقة الخالق غير حقيقة المخلوق : كما يواجههم بعلم الله المطلق الذي لا تقابله منهم إلاّ أوهام وظنون :
{ وخلق كل شيء } . .
{ وهو بكل شيء عليم } . .
وكما واجههم السياق القرآني بحقيقة أن الله « خلق كل شيء » ، ليرتب عليها تهافت تصوراتهم بأن لله - سبحانه - بنين وبنات ، أو أن له شركاء الجن - وهو خلقهم - فإنه يتكىء على هذه الحقيقة مرة أخرى . لتقرير أن الذي يعبد ويخضع له ويطاع ، ويعترف له بالدينونة وحده هو خالق كل شيء ، فلا إله إذن غيره ، ولا رب إذن سواه :
{ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو . خالق كل شيء؛ فاعبدوه ، وهو على كل شيء وكيل } . .
إن تفرد الله سبحانه بالخلق ، يفرده سبحانه بالملك ، والمتفرد بالخلق والملك يتفرد كذلك بالرزق . فهو خالق خلقه ومالكهم ، فهو كذلك يرزقهم من ملكه الذي ليس لأحد شرك فيه . فكل ما يقتاته الخلق وكل ما يستمتعون به فإنما هو من هذا الملك الخالص لله . . فإذا تقررت هذه الحقائق . . الخلق والملك والرزق . . تقرر معها - ضرورةً وحتماً - أن تكون الربوبية له سبحانه . فتكون له وحده خصائص الربوبية - وهي القوامة والتوجيه والسلطان الذي يُخضع له ويطاع ، والنظام الذي يتجمع عليه العباد - وتكون له وحده العبادة بكل مدلولاتها . ومنها الطاعة والخضوع والاستسلام .
ولم يكن العرب - في جاهليتهم - ينكرون أن الله هو خالق هذا الكون ، وخالق الناس ، ورازقهم كذلك من ملكه ، الذي ليس وراءه ملك تقتات منه العباد . . وكذلك لم تكن الجاهليات الأخرى تنكر هذه الحقائق - على قلة من الفلاسفة الماديين من الإغريق - ولم تكن هنالك هذه المذاهب المادية التي تنتشر اليوم بشكل أوسع مما عرف أيام الإغريق . . لذلك لم يكن الإسلام يواجه في الجاهلية العربية إلا الانحراف في التوجه بالشعائر التعبدية لآلهة - مع الله - على سبيل الزلفى والقربى من الله - وإلا الانحراف في تلقي الشرائع والتقاليد التي تحكم حياة الناس . . أي أنه لم يكن يواجه الإلحاد في وجود الله - سبحانه - كما يقول اليوم « ناس » أو كما يتبجحون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير
والحق أن هؤلاء الذين يجادلون في وجود الله اليوم قلة .

وسيظلون قلة . إنما الانحراف الأساسي هو ذاته الذي كان في الجاهلية . وهو تلقي الشرائع في شؤون الحياة من غير الله . . وهذا هو الشرك التقليدي الأساسي الذي قامت عليه الجاهلية العربية ، وكل الجاهليات أيضاً
والقلة الشاذة التي تجادل في وجود الله اليوم لا تعتمد على « العلم » وإن كانت هذه دعواها . فالعلم البشري ذاته لا يملك أن يقرر هذا الإلحاد ولا يجد عليه دليلاً لا من هذا العلم ولا من طبيعة الكون . . إنما هي لوثة سببها الأول الشرود من الكنيسة وإلهها الذي كانت تستذل به الرقاب من غير أصل من الدين . . ثم نقص في التكوين الفطري لهؤلاء المجادلين ، ينشأ عنه تعطل في الوظائف الأساسية للكينونة البشرية . . كما يقع للأمساخ من المخلوقات . .
ومع أن حقيقة الخلق والتقدير فيه - كحقيقة انبثاق الحياة أيضاً - لم تكن تساق في القرآن لإثبات وجود الله - إذ كان الجدال في وجوده تعالى سخفاً لا يستحق من جدية القرآن العناية به - إنما كانت تساق لرد الناس إلى الرشاد ، كي ينفذوا في حياتهم ما تقتضيه تلك الحقيقة من ضرورة إفراد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والحاكمية في حياتهم كلها؛ وعبادته وحده بلا شريك . .
مع هذا فإن حقيقة الخلق والتقدير فيه - كحقيقة انبثاق الحياة أيضاً - تقذف في وجوه الذين يجادلون في الله - سبحانه - بالحجة الدامغة التي لا يملكون بإزائها إلا المراء . وإلا التبجح الذي يصل إلى حد الاستهتار في كثير من الأحيان
« جوليان هاكسلي » مؤلف كتاب : « الإنسان يقوم وحده » وكتاب « الإنسان في العالم الحديث » من هؤلاء المتبجحين المستهترين؛ وهو يقذف بالمقررات التي لا سند لها إلا هواه وهو يقول في كتاب « الإنسان في العالم الحديث »؛ في فصل : « الدين كمسألة موضوعية » ذلك الكلام
« ولقد أوصلنا تقدم العلوم والمنطق وعلم النفس إلى طور أصبح فيه الإله فرضاً عديم الفائدة ، وطردته العلوم الطبيعية من عقولنا ، حتى اختفى كحاكم مدبر للكون ، وأصبح مجرد » أول سبب « أو أساساً عاماً غامضاً » .
و « ول ديورانت » مؤلف كتاب « مباهج الفلسفة » يقول : إن الفلسفة تبحث عن الله ، ولكنه ليس « إله اللاهوتيين الذين يتصورونه خارج عالم الطبيعة . بل إله الفلاسفة؛ وهو قانون العالم وهيكله ، وحياته ومشيئته » . . وهو كلام لا تستطيع إمساكه ولكنه كلام يقال
ونحن لا نحاكم هؤلاء الخابطين في الظلام إلى قرآننا ، ولا نحاكمهم كذلك إلى عقولنا المنضبطة بهدى هذا القرآن . إنما نكلهم إلى أندادهم من « العلماء » وإلى العلم البشري الذي يواجه هذه القضية بشيء من الجد والتعقل .

.
يقول جون كليفلاند كوتران : ( من علماء الكيمياء والرياضة . دكتوراه من جامعة كورنيل . رئيس قسم العلوم الطبيعية بجامعة دولث ) . من مقال : « النتيجة الحتمية » من كتاب : « الله يتجلى في عصر العلم » :
« فهل يتصور عاقل ، أو يفكر ، أو يعتقد ، أن المادة المجردة من العقل والحكمة قد أوجدت نفسها بنفسها بمحض المصادفة؟ أو أنها هي التي أوجدت هذا النظام وتلك القوانين ، ثم فرضته على نفسها؟ لا شك أن الجواب سوف يكون سلبياً . بل إن المادة عندما تتحول إلى طاقة أو تتحول الطاقة إلى مادة ، فإن كل ذلك يتم طبقاً لقوانين معينة . والمادة الناتجة تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها المادة التي وجدت قبلها » .
« وتدلنا الكيميا على أن بعض المواد في سبيل الزوال أو الفناء؛ ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة والآخر بسرعة ضئيلة . وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية . ومعنى ذلك أيضاً أنها ليست أزلية . إذ أن لها بداية . وتدل الشواهد من الكيميا وغيرها من العلوم على أن بداية المادة لم تكن بطيئة أو تدريجية ، بل وجدت بصورة فجائية . وتستطيع العلوم أن تحدد لنا الوقت الذي نشأت فيه هذه المواد . وعلى ذلك فإن هذا العالم المادي لا بد أن يكون مخلوقاً . وهو منذ أن خلق يخضع لقوانين وسنن كونية محددة ، ليس لعنصر المصادفة بينها مكان » .
« فإذا كان هذا العالم المادي عاجزاً عن أن يخلق نفسه ، أو يحدد القوانين التي يخضع لها ، فلا بد أن يكون الخلق قد تم بقدرة كائن غير مادي . وتدل الشواهد جميعاً على أن هذا الخالق لا بد أن يكون متصفاً بالعقل والحكمة . إلا أن العقل لا يستطيع أن يعمل في العالم المادي - كما في ممارسة الطب والعلاج السيكلوجي - دون أن يكون هنالك إرادة . ولا بد لمن يتصف بالإرادة أن يكون موجوداً وجوداً ذاتياً . . وعلى ذلك فإن النتيجة المنطقية الحتمية التي يفرضها علينا العقل ليست مقصورة على أن لهذا الكون خالقاً فحسب ، بل لا بد أن يكون هذا الخالق حكيماً عليماً قادراً على كل شيء ، حتى يستطيع أن يخلق هذا الكون وينظمه ويدبره؛ ولا بد أن يكون هذا الخالق دائم الوجود ، تتجلى آياته في كل مكان . وعلى ذلك فإنه لا مفر من التسليم بوجود الله ، خالق هذا الكون وموجهه - كما أشرنا إلى ذلك في بداية المقال » .
« إن التقدم الذي أحرزته العلوم منذ أيام لورد كيلفن يجعلنا نؤكد بصورة لم يسبق لها مثيل ، ما قاله من قبل ، من أننا إذا فكرنا تفكيراً عميقاً ، فإن العلوم سوف تضطرنا إلى الإيمان بالله } .

.
ويقول فرانك أللن عالم الطبيعة البيولوجية في مقال « نشأة العالم هل هو مصادفة أو قصد » من الكتاب نفسه :
« كثيرا ما يقال : إن هذا الكون المادي لا يحتاج إلى خالق . ولكننا إذا سلمنا بأن هذا الكون موجود ، فكيف نفسر وجوده؟ . . هنالك أربعة احتمالات للإجابة على هذا السؤال : فإما أن يكون هذا الكون مجرد وهم وخيال - وهو ما يتعارض مع القضية التي سلمنا بها حول وجوده - وإما أن يكون هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم . وإما أن يكون أزلياً ليس لنشأته بداية . وإما أن يكون له خالق » .
أما الاحتمال الأول فلا يقيم أمامنا مشكلة سوى مشكلة الشعور والإحساس ، فهو يعني أن إحساسنا بهذا الكون وإدراكنا لما يحدث فيه لا يعدو أن يكون وهماً من الأوهام ، ليس له ظل من الحقيقة . ولقد عاد إلى هذا الرأي في العلوم الطبيعية أخيراً سير جيمس جينز ، الذي يرى أن هذا الكون ليس له وجود فعلي ، وأنه مجرد صورة في أذهاننا . وتبعاً لهذا الرأي نستطيع أن نقول : إننا نعيش في عالم من الأوهام فمثلاً هذه القطارات التي نركبها ونلمسها ليست إلا خيالات؛ وبها ركاب وهميون ، وتعبر أنهاراً لا وجود لها ، وتسير فوق جسور غير مادية . . الخ . وهو رأي وهمي لا يحتاج إلى مناقشة أو جدال
« أما الرأي الثاني القائل بأن هذا العالم ، بما فيه من مادة وطاقة ، قد نشأ هكذا وحده من العدم ، فهو لا يقل عن سابقه سخفاً وحماقة؛ ولا يستحق هو أيضاً أن يكون موضعاً للنظر أو المناقشة » .
« والرأي الثالث الذي يذهب إلى أن هذا الكون أزلي ليس لنشأته بداية ، إنما يشترك مع الرأي الذي ينادي بوجود خالق لهذا الكون - وذلك في عنصر واحد هو الأزلية - وإذن فنحن إما أن ننسب صفة الأزلية إلى عالم ميت ، وإما أن ننسبها إلى إله حي يخلق ، وليس هنالك صعوبة فكرية في الأخذ بأحد هذين الاحتمالين أكثر مما في الآخر . ولكن قوانين » الديناميكا الحرارية « تدل على أن مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجياً . وأنها سائرة حتماً إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض ، هي الصفر المطلق؛ ويومئذ تنعدم الطاقة ، وتستحيل الحياة . ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقات عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق ، بمضي الوقت . أما الشمس المستعرة ، والنجوم المتوهجة ، والأرض الغنية بأنواع الحياة ، فكلها دليل واضح على أن أصل الكون أو أساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة ، فهو إذن حدث من الأحداث . . ومعنى ذلك أنه لا بد لأصل الكون من خالق أزلي ، ليس له بداية ، عليم محيط بكل شيء ، قوي ليس لقدرته حدود ، ولا بد أن يكون هذا الكون من صنع يديه » .

.
الله - سبحانه خالق كل شيء . لا إله إلا هو . .
هذه هي القاعدة التي يقيم عليها السياق القرآني هنا وجوب عبادة الله وحده . ووجوب ربوبيته وحده - بكل مدلولات الربوبية من الحكم والتربية والتوجيه والقوامة :
{ ذلكم الله ربكم . لا إله إلا هو : خالق كل شيء . فاعبدوه . وهو على كل شيء وكيل } . .
فهي القوامة لا على البشر وحدهم ، ولكن على كل شيء كذلك . . بما أنه هو خالق كل شيء . . وهذا هو المقصود من تقرير تلك القاعدة ، التي لم يكن المشركون - في جاهليتهم - يجحدونها . ولكنهم ما كانوا يسلمون بمقتضاها . وهو : الخضوع والطاعة لحاكمية الله وحده والدينونة لسلطانه بلا شريك . .
ثم تعبير عن صفة الله سبحانه ، يغشى الجوانح والحنايا بظلال ما أحسب أن لغة البشر تملك لها وصفاً ، فلندعها تلقي ظلالها في شفافية ولين؛ وترسم المشهد الذي يغلف فيه ما يهول ويروع من صفة الله ، بما يطمئن ويروح ، ويشف شفافية النور :
{ لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير } . .
إن الذين كانوا يطلبون في سذاجة أن يروا الله ، كالذين يطلبون في سماجة دليلاً مادياً على الله هؤلاء وهؤلاء لا يدركون ماذا يقولون
إن أبصار البشر وحواسهم وإدراكهم الذهني كذلك . . كلها إنما خلقت لهم ليزاولوا بها التعامل مع هذا الكون ، والقيام بالخلافة في الأرض . . وإدراك آثار الوجود الإلهي في صفحات هذا الوجود المخلوق . . فأما ذات الله - سبحانه - فهم لم يوهبوا القدرة على إدراكها . لأنه لا طاقة للحادث الفاني أن يرى الأزلي الأبدي . فضلاً على أن هذه الرؤية لا تلزم لهم في خلافة الأرض . وهي الوظيفة التي هم معانون عليها وموهوبون ما يلزم لها . .
وقد يفهم الإنسان سذاجة الأولين . ولكنه لا يملك أن يفهم سماجة الآخرين إن هؤلاء يتحدثون عن « الذرة » وعن « الكهرب » وعن « البروتون » وعن « النيوترون » . . وواحد منهم لم ير ذرة ولا كهرباً ولا بروتوناً ولا نيوترونا في حياته قط . فلم يوجد بعد الجهاز المكبر الذي يضبط هذه الكائنات . . ولكنها مسلمة من هؤلاء ، كفرض ، ومصداق هذا الفرض أن يقدروا آثاراً معينة تقع لوجود هذه الكائنات . فإذا وقعت هذه الآثار ( جزموا ) بوجود الكائنات التي أحدثتها بينما قصارى ما تصل إليه هذه التجربة هو « احتمال » وجود هذه الكائنات على الصفة التي افترضوها . . ولكنهم حين يقال لهم عن وجود الله - سبحانه - عن طريق آثار هذا الوجود التي تفرض نفسها فرضاً على العقول يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، ويطلبون دليلاً مادياً تراه الأعين . . كأن هذا الوجود بجملته ، وكأن هذه الحياة بأعاجيبها لا تكفي لتكون هذا الدليل
وكذلك يعقب السياق القرآني على ما عرضه من آيات في صفحة الوجود وفي مكنونات النفوس .

وعلى تقريره عن ذات الله سبحانه بأنه :
{ لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير } .
يعقب السياق على هذا الوصف الذي لا تملك لغة البشر أن تشرحه أو تصفه . . بقوله :
{ قد جاءكم بصائر من ربكم ، فمن أبصر فلنفسه ، ومن عمي فعليها ، وما أنا عليكم بحفيظ } . .
فهذا الذي جاء من عند الله . . بصائر . . والبصائر تهتدي وتهدي . . وهذا بذاته . . بصائر . . تهدي . فمن أبصر فلنفسه فإنما يجد الهدى والنور . وليس وراء ذلك إلا العمى . فما يبقى على الضلال بعد هذه الآيات والبصائر إلا أعمى . . معطل الحواس . مغلق المشاعر . مطموس الضمير . .
ويوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن براءته من أمرهم ومغبته :
{ وما أنا عليكم بحفيظ } . .
ولا يفوتنا أن نلمح التناسق في الجو والظلال والعبارة بين قوله في الآية السابقة : في صفة الله سبحانه : { لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير } . . وبين قوله في الآية اللاحقة : { قد جاءكم بصائر من ربكم ، فمن أبصر فلنفسه ، ومن عمي فعليها } . . واستخدام الأبصار والبصائر ، والبصر والعمى ، في السياق المتناسق المتناغم . .
بعد ذلك يلتفت السياق إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيتحدث عن تصريف الآيات على هذا المستوى ، الذي لا يتناسب مع أمية النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيئته؛ والذي يدل بذاته على مصدره الرباني - لمن تتفتح بصيرته - ولكن المشركين ما كانوا يريدون الاقتناع بالآيات . ومن ثم كانوا يقولون : إن محمداً درس هذه القضايا العقيدية والكونية مع أحد أهل الكتاب وما دروا أن أهل الكتاب ما كانوا يعلمون شيئاً على هذا المستوى الذي يحدثهم محمد فيه؛ وما كان أهل الأرض جميعاً - وما يزالون - يبلغون شيئاً من هذا المستوى السامق على كل ما عرف البشر وما يعرفون . ومن ثم يوجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى اتباع ما أوحي إليه والإعراض عن المشركين :
{ وكذلك نصرف الآيات ، وليقولوا : درست ، ولنبينه لقوم يعلمون . اتبع ما أوحي إليك من ربك ، لاإله إلا هو ، وأعرض عن المشركين . ولو شاء الله ما أشركوا . وما جعلناك عليهم حفيظاً ، وما أنت عليهم بوكيل } . .
إن الله يصرف آياته على هذا المستوى الذي لا عهد للعرب به؛ لأنه ليس نابعاً من بيئتهم - كما أنه ليس نابعاً من البيئة البشرية على العموم - فينتهي هذا التصريف إلى نتيجتين متقابلتين في البيئة :
فأما الذين لا يريدون الهدى ، ولا يرغبون في العلم ، ولا يجاهدون ليبلغوا الحقيقة . . فهؤلاء سيحاولون أن يجدوا تعليلاً لهذا المستوى الذي يخاطبهم به محمد - وهو منهم - وسيختلقون ما يعلمون أنه لم يقع .

فما كان شيء من حياة محمد خافياً عليهم قبل الرسالة ولا بعدها . . ولكنهم يقولون : درست هذا يا محمد مع أهل الكتاب وتعلمته منهم وما كان أحد من أهل الكتاب يعلم شيئاً على هذا المستوى . . وهذه كتب أهل الكتاب التي كانت بين أيديهم يومذاك ما تزال بين أيدينا . والمسافة شاسعة شاسعة بين هذا الذي في أيديهم وهذا القرآن الكريم . . إن ما بين أيديهم إن هو إلا روايات لا ضابط لها عن تاريخ الأنبياء والملوك مشوبة بأساطير وخرافات من صنع أشخاص مجهولين - هذا فيما يختص بالعهد القديم - فأما العهد الجديد - وهو الأناجيل - فما يزيد كذلك على أن يكون روايات رواها تلاميذ المسيح - عليه السلام- بعد عشرات السنين؛ وتداولتها المجامع بالتحريف والتبديل والتعديل على ممر السنين . وحتى المواعظ الخلقية والتوجيهات الروحية لم تسلم من التحريف والإضافة والنسيان . . وهذا هو الذي كان بين أيدي أهل الكتاب حينذاك ، وما يزال . . فأين هذا كله من القرآن الكريم؟ ولكن المشركين - في جاهليتهم - كانوا يقولون هذا؛ وأعجب العجب أن جاهليين في هذا العصر من « المستشرقين » و « المتمسلمين » يقولون هذا القول فيسمى الآن « علماً » و « بحثاً » و « تحقيقاً » لا يبلغه إلا المستشرقون
فأما الذين « يعلمون » حقاً ، فإن تصريف الآيات على هذا النحو يؤدي إلى بيان الحق لهم فيعرفونه :
{ ولنبينه لقوم يعلمون } . .
ثم تقع المفاصلة بين قوم مبصرين يعلمون ، وقوم عمي لا يعلمون
ويصدر الأمر العلوي للنبي الكريم ، وقد صرف الله الآيات ، فافترق الناس في مواجهتها فريقين . . يصدر الأمر العلوي للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع ما أوحي إليه ، وأن يعرض عن المشركين ، فلا يحفلهم ولا يحفل ما يقولون من قول متهافت ، ولا يشغل باله بتكذيبهم وعنادهم ولجاجهم . فإنما سبيله أن يتبع ما أوحي إليه من ربه؛ فيصوغ حياته كلها على أساسه؛ ويصوغ نفوس أتباعه كذلك . ولا عليه من المشركين؛ فإنما هو يتبع وحي الله ، الذي لا إله إلا هو ، فماذا عليه من العبيد؟
{ اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو ، وأعرض عن المشركين } . .
ولو شاء الله أن يلزمهم الهدى لألزمهم ، ولو شاء أن يخلقهم ابتداء لا يعرفون إلا الهدى كالملائكة لخلقهم . ولكنه سبحانه خلق الإنسان بهذا الاستعداد للهدى وللضلال ، وتركه يختار طريقه ويلقى جزاء الاختيار - في حدود المشيئة المطلقة التي لا يقع في الكون إلا ما تجري به ، ولكنها لا ترغم إنساناً على الهدى أو الضلال - وخلقه على هذا النحو لحكمة يعلمها؛ وليؤدي دوره في هذا الوجود كما قدره الله له . باستعداداته هذه وتصرفاته :
{ ولو شاء الله ما أشركوا } .

.
وليس الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسؤولاً عن عملهم ، وهو لم يوكل بقلوبهم فالوكيل عليها هو الله :
{ وما جعلناك عليهم حفيظاً ، وما أنت عليهم بوكيل } . .
وهذا التوجيه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدد المجال الذي يتناوله اهتمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعمله . كما يحدد هذا المجال لخلفائه وأصحاب الدعوة إلى دينه في كل أرض وفي كل جيل . .
إن صاحب الدعوة لا يجوز أن يعلق قلبه وأمله وعمله بالمعرضين عن الدعوة ، المعاندين ، الذين لا تتفتح قلوبهم لدلائل الهدى وموحيات الإيمان . . إنما يجب أن يفرغ قلبه ، وأن يوجه أمله وعمله للذين سمعوا واستجابوا . فهؤلاء في حاجة إلى بناء كيانهم كله على القاعدة التي دخلوا الدين عليها . . قاعدة العقيدة . . وفي حاجة لإنشاء تصور لهم كامل عميق عن الوجود والحياة على أساس هذه العقيدة . وفي حاجة إلى بناء أخلاقهم وسلوكهم؛ وبناء مجتمعهم الصغير على هذا الأساس نفسه . وهذا كله يحتاج إلى الجهد . ويستحق الجهد . فأما الواقفون على الشق الآخر ، فجزاؤهم الإهمال والإعراض بعد الدعوة والبلاغ . . وحين ينمو الحق في ذاته فإن الله يجري سنته ، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق . . إن على الحق أن يوجد ومتى وجد الحق في صورته الصادقة الكاملة ، فإن شأن الباطل هين ، وعمره كذلك قريب
ومع أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عن المشركين ، فقد وجه المؤمنين إلى أن يكون هذا الإعراض في أدب ، وفي وقار ، وفي ترفع ، يليق بالمؤمنين . . لقد أمروا ألا يسبوا آلهة المشركين مخافة أن يحمل هذا أولئك المشركين على سب الله سبحانه - وهم لا يعلمون جلال قدره وعظيم مقامه - فيكون سب المؤمنين لآلهتهم المهينة الحقيرة ذريعة لسب الله الجليل العظيم :
{ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم . كذلك زينا لكل أمة عملهم . ثم إلى ربهم مرجعهم ، فينبئهم بما كانوا يعملون } .
إن الطبيعة التي خلق الله الناس بها ، أن كل من عمل عملاً ، فإنه يستحسنه ، ويدافع عنه فإن كان يعمل الصالحات استحسنها ودافع عنها . وإن كان يعمل السيئات استحسنها ودافع عنها . وإن كان على الهدى رآه حسناً ، وإن كان على الضلال رآه حسناً كذلك فهذه طبيعة في الإنسان . . وهؤلاء يدعون من دون الله شركاء . . مع علمهم وتسليمهم بأن الله هو الخالق الرازق . . ولكن إذا سب المسلمون آلهتهم هؤلاء اندفعوا وعدوا عما يعتقدونه من ألوهية الله ، دفاعاً عما زين لهم من عبادتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وتقاليدهم . . فليدعهم المؤمنون لما هم فيه :
{ ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } . .
وهو أدب يليق بالمؤمن ، المطمئن لدينه ، الواثق من الحق الذي هو عليه . الهادىء القلب ، الذي لا يدخل فيما لا طائل وراءه من الأمور .

فإن سب آلهتهم لا يؤدي بهم إلى الهدى ولا يزيدهم إلا عناداً . فما للمؤمنين وهذا الذي لا جدوى وراءه . وإنما قد يجرهم إلى سماع ما يكرهون . من سب المشركين لربهم الجليل العظيم؟
وأخيراً يختم هذا الدرس ، الذي استعرض فيه صفحة الوجود الحافلة بالآيات والخوارق ، في كل لحظة من ليل أو نهار . . يختمه بأن هؤلاء المشركين يقسمون بالله جهد أيمانهم أن لو جاءتهم آية - أي خارقة مادية كخوارق الرسل السابقة - ليؤمنن بها الأمر الذي جعل بعض المسلمين حين سمعوا أيمانهم يقترحون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل ربه هذه الآية التي يطلبون . . ويجيء الرد الحاسم على المؤمنين ، ببيان طبيعة التكذيب في هؤلاء المكذبين :
{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها . قل : إنما الآيات عند الله . وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون؟ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ، كما لم يؤمنوا به أول مرة ، ونذرهم في طغيانهم يعمهون . ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ، وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا - إلا أن يشاء الله - ولكن أكثرهم يجهلون } . .
إن القلب الذي لا يؤمن بآيات الله المبثوثة في هذا الوجود - بعد توجيهه إليها على هذا النحو العجيب الذي تكفل به هذا الكتاب العجيب - ولا توحي آيات الله المبثوثة في الأنفس والآفاق إليه أن يبادر إلى ربه ، ويثوب إلى كنفه . . إن هذالقلب هو قلب مقلوب . . والذي عاق هؤلاء عن الإيمان في أول الأمر ، ما الذي يُدري المسلمين الذين يقترحون إجابة طلبهم ، أن يعوقهم عن الإيمان بعد ظهور الخارقة؟ إن الله هو الذي يعلم حقيقة هذه القلوب . . وهو يذر المكذبين في طغيانهم يعمهون ، لأنه يعلم منهم أنهم يستحقون جزاء التكذيب؛ كما يعلم عنهم أنهم لا يستجيبون . . لا يستجيبون ولو نزل إليهم الملائكة كما يقترحون ولو بعث لهم الموتى يكلمونهم - كما اقترحوا كذلك - ولو حشر الله عليهم كل شيء في هذا الوجود يواجههم ويدعوهم إلى الإيمان . . إنهم لا يؤمنون - إلا أن يشاء الله - والله سبحانه لا يشاء ، لأنهم هم لا يجاهدون في الله ليهديهم الله إليه . . وهذه هي الحقيقة التي يجهلها أكثر الناس عن طبائع القلوب . .
إنه ليس الذي ينقص الذين يلجون في الضلال أنه لا توجد أمامهم دلائل وبراهين . . إنما الذي ينقصهم آفة في القلب ، وعطل في الفطرة ، وانطماس في الضمير . .
وإن الهدى جزاء لا يستحقه إلا الذين يتجهون إليه ، والذين يجاهدون فيه . .

وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)

الآية الأولى تكملة لفقرة سابقة في السياق - في نهاية الجزء السابع - ومتعلقة بما كان يقترحه مشركو العرب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخوارق التي يريدون أن يأتي لهم بها فيصدقوه وما كان من حلفهم بالله حلفا مكررا مؤكدا أن لو جاءتهم هذه الآيات التي يطلبون إنهم ليؤمنون مما جعل بعض المسلمين أنفسهم يشتهون أن لو يجيبهم الله إلى ما يطلبون ويقترحون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل ربه هذه الآيات التي يقترحها المقترحون
والفقرة كلها جاءت هكذا :
{ وأقسموا بالله جهد أَيمانهم : لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها . قل : إنما الآيات عند الله . وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون؟ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم - كما لم يؤمنوا به أول مرة - ونذرهم في طغيانهم يعمهون . . ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ، وكلمهم الموتى ، وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ، ما كانوا ليؤمنوا - إلا أن يشاء الله - ولكن أكثرهم يجهلون } . .
ولقد سبق الحديث عن هذه الآيات في نهاية الجزء السابع . فالآن نتحدث عن الحقائق العامة التي تتناولها هذه النصوص؛ والتي لم نتعرض لها هناك في تفسيرها :
والحقيقة الأولى : هي أن الإيمان أو الكفر . والهدى أو الضلال . . . لا تتعلق بالبراهين والأدلة على الحق . فالحق هو برهان ذاته . وله من السلطان على القلب البشري ما يجعله يقبله ويطمئن إليه ويرضخ له . . ولكنها المعوقات الأخرى هي التي تحول بين القلب والحق ، وهذه المعوقات يقول الله - سبحانه - للمؤمنين بشأنها :
{ وما يشعركم أنها إذا جاءت ( أي الآيات والخوارق ) لا يؤمنون؟ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ، ونذرهم في طغيانهم يعمهون } . .
فما وقع لهم في أول مرة ومنعهم من الهدى ، يمكن أن يتكرر وقوعه كذلك - بعد نزول الآية - فيمنعهم من الهدى كرة أخرى . .
إن موحيات الإيمان كامنة في القلب ذاته؛ وفي الحق كذلك بذاته؛ وليست متعلقة بعوامل خارجية . . فيجب أن تتجه المحاولة إذن إلى ذلك القلب لعلاجه من آفاته ومن معوقاته . .
والحقيقة الثانية : هي أن مشيئة الله هي المرجع الأخير في أمر الهدى والضلال . فقد اقتضت هذه المشيئة أن تبتلي البشر بقدر من حرية الاختيار والتوجه في الابتداء؛ وجعل هذا القدر موضع ابتلاء للبشر وامتحان . فمن استخدمه في الاتجاه القلبي إلى الهدى والتطلع إليه والرغبة فيه - وإن كان لا يعلم حينئذ أين هو - فقد اقتضت مشيئة الله أن يأخذ بيده ويعينه ويهديه إلى سبيله . ومن استخدمه في الرغبة عن الهدى والصدود عن دلائله وموحياته ، فقد اقتضت مشيئة الله أن يضله وأن يبعده عن الطريق وأن يدعه يتخبط في الظلمات .

. وإرادة الله وقدره محيطان بالبشر في كل حالة ، ومرد الأمر كله إليه في النهاية .
وهذه الحقيقة يشير إليها السياق في قوله تعالى :
{ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم - كما لم يؤمنوا به أول مرة - ونذرهم في طغيانهم يعمهون } وفي قوله : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى ، وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ، ما كانوا ليؤمنوا - إلا أن يشاء الله - ولكن أكثرهم يجهلون } . .
كما يشير إليها في آية سابقة على هذه الفقرة في سياق السورة قوله تعالى :
{ اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين . ولو شاء الله ما أشركوا . وما جعلناك عليهم حفيظاً ، وما أنت عليهم بوكيل } كما تتكرر الإشارة إليها في الآية التالية لهذه الفقرة .
{ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً - ولو شاء ربك ما فعلوه - فذرهم وما يفترون . . . } . .
فالأمر كله مرهون بمشيئة الله ، هو الذي شاء ألا يهديهم لأنهم لم يأخذوا بأسلوب الهدى؛ وهو الذي شاء أن يدع لهم هذا القدر من الاختيار على سبيل الابتلاء؛ وهو الذي يهديهم إذا جاهدوا للهدى؛ وهو الذي يضلهم إذا اختاروا الضلال . . بلا تعارض - في التصور الإسلامي - بين طلاقة المشيئة الإلهية وهذا المجال الذي ترك للبشر لابتلائهم فيه بهذا القدر من الاختيار .
والحقيقة الثالثة : هي أن الطائعين والعصاة في قبضة الله سواء ، وتحت قهره وسلطانه سواء . فهم لا يملكون جميعاً أن يحدثوا شيئاً إلا بقدر الله وفق مشيئته التي جرت بتلك السنن في تصريف أمر العباد . . ولكن المؤمنين يطابقون - في القدر المتروك لهم للاختيار - بين الخضوع القهري المفروض عليهم لسلطان الله في ذوات أنفسهم وفي حركة خلاياهم وفي طبائع تكوينهم العضوي النفسي؛ وبين الخضوع الاختياري الذي يلتزمونه بأنفسهم بناء على المعرفة والهدى والاختيار . وبذلك يعيشون في سلام مع أنفسهم ذاتها ، لأن الجانب القهري فيها والجانب الاختياري يتبعان ناموسا واحدا وسلطانا واحدا وحكومة واحدة فأما الآخرون فهم مقهورون على اتباع ناموس الله الفطري الذي يقهرهم ولا يملكون أن يخرجوا منه في تكوينهم الجسمي وحاجاتهم الفطرية ، بينما في الجانب الذي ترك لهم الاختيار فيه هم ناشزون على سلطان الله الممثل في منهجه وشرعه . أشقياء بهذا الفصام في شخصيتهم وهم بعد هذا كله في قبضة الله لا يعجزونه في شيء ، ولا يحدثون شيئاً إلا بقدره
وهذه الحقيقة الثالثة ذات أهمية خاصة في القضايا التي يعرضها الشطر الباقي في السورة . فهي تتكرر في مواضع متعددة في صور متنوعة ، ذلك أن هذا الشطر كله - كما بينا من قبل - يواجه قضية الألوهية وسلطانها في حياة البشر وشريعتهم التي يعيشون بها .

. ومن ثم يتكئ السياق على تقرير أن السلطان كله لله . حتى في كيان العصاة الناشزين عن منهج الله وشرعه ، وأنهم لا يؤذون أولياء الله إلا بما شاء الله . فهم أعجز من أن يكون لهم في ذواتهم سلطان ، فكيف يكون لهم على المؤمنين سلطان إنما هي مشيئة الله يكون بها ما يشاء في الطائعين والعصاة سواء .
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى :
{ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ، وكلمهم الموتى ، وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ، ما كانوا ليؤمنوا - إلا أن يشاء الله - ولكن أكثرهم يجهلون } .
( يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - يا محمد آيس من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام ، القائلين لك : { لئن جئتنا بآية لنؤمنن لك } فإننا لو نزلنا إليهم الملائكة حتى يروها عيانا وكلمهم الموتى بإحيائنا إياهم حجة لك ، ودلالة على نبوتك ، وأخبروهم أنك محق فيما تقول ، وأن ما جئتهم به حق من عند الله؛ وحشرنا عليهم كل شيء فجعلناهم لك قبلا . ما آمنوا ولا صدقوك ولا اتبعوك - إلا أن يشاء الله ذلك لمن شاء منهم - { ولكن أكثرهم يجهلون } . . يقول : ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أن ذلك كذلك . يحسبون أن الإيمان إليهم ، والكفر بأيديهم ، متى شاءوا آمنوا ، ومتى شاءوا كفروا . وليس ذلك كذلك ، ذلك بيدي . لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته ، ولا يكفر إلا من خذلته عن الرشد فأضللته ) .
وهذا الأصل الذي يقرره ابن جرير هنا هو الصحيح . ولكنه يحتاج إلى زيادة الإيضاح - التي أسلفناها - باستلهام مجموعة النصوص القرآنية عن الهدى والضلالة ومشيئة الله وجهد الإنسان . . إن الإيمان حدثٌ والضلال حدث . وما يقع في هذا الوجود حدث إلا بقدر من الله ينشئه :
{ إنا كل شيء خلقناه بقدر } فأما السنة التي يجري على أساسها ذلك القدر بوقوع إيمان فلان وضلال فلان ، فهي التي تبينها مجموعة النصوص . وهي أن الإنسان مبتلى بقدر من الاختيار في الاتجاه . فإذا اتجه إلى الهدى وجاهد فيه هداه الله ووقع هداه وتحقق بقدر من الله . وإذا اتجه إلى الضلال وكره الهدى أضله الله . ووقع ضلاله وتحقق بقدر من الله . . وهو على الحالين في قبضة الله وسلطانه . وحياته تجري بقدر الله وفق مشيئته الطليقة ، وسنته التي وضعتها مشيئته الطليقة .
بعد ذلك تجيء آيتان في سياق السورة؛ هما من ناحية تكملة للمعاني والحقائق التي تستهدفها الفقرة السابقة التي انتهينا من الحديث عنها . ومن ناحية هما تمهيد للقضايا العقيدية المتعلقة بالسلطان والشريعة والحاكمية . وهي القضايا التي تستغرق ما تبقى من السورة . .
الآيتان :
{ وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً - ولو شاء ربك ما فعلوه - فذرهم وما يفترون .

ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وليرضوه ، وليقترفوا ما هم مقترفون } .
. . كذلك . . كالذي قدرناه من أن أولئك المشركين الذين يعلقون إيمانهم بمجيء الخوارق ، ويعرضون عن دلائل الهدى وموحياته في الكون والنفس ، لا يقع منهم الإيمان ولو جاءتهم كل آية . .
كذلك الذي قدرناه في شأن هؤلاء ، قدرنا أن يكون لكل نبي عدوهم شياطين الإنس والجن . وقدرنا أن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليخدعوهم به ويغروهم بحرب الرسل وحرب الهدى . وقدرنا أن تصغي إلى هذا الزخرف أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ، ويرضوه ، ويقترفوا ما يقترفونه من العداوة للرسل وللحق؛ ومن الضلال والفساد في الأرض . .
كل ذلك إنما جرى بقدر الله؛ وفق مشيئته . ولو شاء ربك ما فعلوه . ولمضت مشيئته بغير هذا كله؛ ولجرى قدره بغير هذا الذي كان . فليس شيء من هذا كله بالمصادفة . وليس شيء من هذا كله بسلطان من البشر كذلك أو قدرة
فإذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض من المعركة الناشبة التي لا تهدأ بين الرسل والحق الذي معهم ، وبين شياطين الإنس والجن وباطلهم وزخرفهم وغرورهم . . إذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض إنما يجري بمشيئة الله ويتحقق بقدر الله ، فإن المسلم ينبغي أن يتجه إذن إلى تدبر حكمة الله من وراء ما يجري في الأرض ، بعد أن يدرك طبيعة هذا الذي يجري والقدرة التي وراءه . .
{ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا ، شياطين الإنس والجن ، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً } . .
بإرادتنا وتقديرنا ، جعلنا لكل نبي عدوا . . هذا العدو هو شياطين الإنس والجن . . والشيطنة وهي التمرد والغواية والتمحض للشر صفة تلحق الإنس كما تلحق الجن . وكما أن الذي يتمرد من الجن ويتمحض للشر والغواية يسمى شيطاناً؛ فكذلك الذي يتمرد من الإنس ويتمحض للشر والغواية . . وقد يوصف بهذه الصفة الحيوان أيضا إذا شرس وتمرد واستشرى أذاه وقد ورد : « الكلب الأسود شيطان » .
هؤلاء الشياطين - من الإنس والجن - الذين قدر الله أن يكونوا عدوا لكل نبي ، يخدع بعضهم بعضا بالقول المزخرف ، الذي يوحيه بعضهم إلى بعض - ومن معاني الوحي التأثير الداخلي الذي ينتقل به الأثر من كائن إلى كائن آخر - ويغر بعضهم بعضا ، ويحرض بعضهم بعضاً على التمرد والغواية والشر والمعصية . .
وشياطين الإنس أمرهم معروف ومشهود لنا في هذه الأرض ، ونماذجهم ونماذج عدائهم لكل نبي ، وللحق الذي معه ، وللمؤمنين به ، معروفة يملك أن يراها الناس في كل زمان .
فأما شياطين الجن - والجن كله - فهم غيب من غيب الله ، لا نعرف عنه إلا ما يخبرنا به مَن عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو . . ومن ناحية مبدأ وجود خلائق أخرى في هذا الكون غير الإنسان وغير الأنواع والأجناس المعروفة في الأرض من الأحياء .

. نقول من ناحية المبدأ نحن نؤمن بقول الله عنها ، ونصدق بخبره في الحدود التي قررها . فأما أولئك الذين يتترسون « بالعلم » لينكروا ما يقرره الله في هذا الشأن ، فلا ندري علام يرتكنون؟ إن علمهم البشري لا يزعم أنه أحاط بكل أجناس الأحياء ، في هذا الكوكب الأرضي كما أن علمهم هذا لا « يعلم » ماذا في الأجرام الأخرى وكل ما يمكن أن « يفترضه » أن نوع الحياة الموجود في الأرض يمكن أولا يمكن أن يوجد في بعض الكواكب والنجوم . . وهذا لا يمكن أن ينفي - حتى لو تأكدت الفروض - أن أنواعاً أخرى من الحياة وأجناساً أخرى من الأحياء يمكن أن تعمر جوانب أخرى في الكون لا يعلم هذا « العلم » عنها شيئاً فمن التحكم والتبجح أن ينفي أحد باسم « العلم » وجود هذه العوالم الحية الأخرى .
وأما من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن؛ والذي يتشيطن بعضه ويتمحض للشر والغواية - كإبليس وذريته - كما يتشيطن بعض الإنس . . من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن ، نحن لا نعلم عنه إلا ما جاءنا الخبر الصادق به عن الله - سبحانه - وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونحن نعرف أن هذا الخلق مخلوق من مارج من نار . وأنه مزود بالقدرة على الحياة في الأرض وفي باطن الأرض وفي خارج الأرض أيضاً . وأنه يملك الحركة في هذه المجالات بأسرع مما يملك البشر . وأن منه الصالحين المؤمنين ، ومنه الشياطين المتمردين . وأنه يرى بني آدم وبنو آدم لا يرونه - في هيئته الأصلية - وكم من خلائق ترى الإنسان ولا يراها الإنسان وأن الشياطين منه مسلطون على بني الإنسان يغوونهم ويضلونهم ، وهم قادرون على الوسوسة لهم والإيحاء بطريقة لا نعلمها . وأن هؤلاء الشياطين لا سلطان لهم على المؤمنين الذاكرين . وأن الشيطان مع المؤمن إذا ذكر الله خنس وتوارى ، وإذا غفل برز فوسوس له وأن المؤمن أقوى بالذكر من كيد الشيطان الضعيف . وأن عالم الجن يحشر مع عالم الإنس؛ ويحاسب؛ ويجازى بالجنة وبالنار كالجنس الإنساني . وأن الجن حين يقاسون إلى الملائكة يبدون خلقاً ضعيفاً لا حول له ولا قوة
وفي هذه الآية نعرف أن الله سبحانه قد جعل لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن . .
ولقد كان الله - سبحانه - قادراً - لو شاء - ألا يفعلوا شيئاً من هذا . . ألا يتمردوا؛ وألا يتمحضوا للشر؛ وألا يعادوا الأنبياء؛ وألا يؤذوا المؤمنين؛ وألا يضلوا الناس عن سبيل الله . . كان الله سبحانه قادرا أن يقهرهم قهراً على الهدى؛ أو أن يهديهم لو توجهوا للهدى؛ أو أن يعجزهم عن التصدي للأنبياء والحق والمؤمنين به .

. ولكنه سبحانه ترك لهم هذا القدر من الاختيار . وأذن لهم أن تمتد أيديهم بالأذى لأولياء الله - بالقدر الذي تقضي به مشيئته ويجري به قدره - وقدر أن يبتلي أولياءه بأذى أعدائه؛ كما يبتلي أعداءه بهذا القدر من الاختيار والقدرة الذي أعطاهم إياه . فما يملك هؤلاء أن يوقعوا بأولياء الله من الأذى إلا ما قدره الله :
{ ولو شاء الله ما فعلوه } فما الذي يخلص لنا من هذه التقريرات؟
* يخلص لنا ابتداء : أن الذين يقفون بالعداوة لكل نبي؛ ويقفون بالأذى لأتباع الأنبياء . . هم « شياطين » . شياطين من الإنس ومن الجن . . وأنهم يؤدون جميعاً - شياطين الإنس والجن - وظيفة واحدة وأن بعضهم يخدع بعضاً ويضله كذلك مع قيامهم جميعاً بوظيفة التمرد والغواية وعداء أولياء الله . .
* ويخلص لنا ثانياً : أن هؤلاء الشياطين لا يفعلون شيئاً من هذا كله ، ولا يقدرون على شيء من عداء الأنبياء وإيذاء أتباعهم بقدرة ذاتية فيهم . إنما هم في قبضة الله . وهو يبتلي بهم أولياءه لأمر يريده . من تمحيص هؤلاء الأولياء ، وتطهير قلوبهم ، وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء . فإذا اجتازوا الامتحان بقوة كف الله عنهم الابتلاء . وكف عنهم هؤلاء الأعداء . وعجز هؤلاء الأعداء أن يمدوا إليهم أيديهم بالأذى وراء ما قدر الله . وآب أعداء الله بالضعف والخذلان؛ وبأوزارهم كاملة يحملونها على ظهورهم :
{ ولو شاء الله ما فعلوه } * ويخلص لنا ثالثا : أن حكمة الله الخالصة هي التي اقتضت أن يترك لشياطين الإنس والجن أن يتشيطنوا - فهو إنما يبتليهم في القدر الذي تركه لهم من الاختيار والقدرة - وأن يدعهم يؤذون أولياءه فترة من الزمان - فهو إنما يبتلي أولياءه كذلك لينظروا : أيصبرون؟ أيثبتون على ما معهم من الحق بينما الباطل ينتفش عليهم ويستطيل؟ أيخلصون من حظ أنفسهم في أنفسهم ويبيعونها بيعة واحدة لله ، على السراء وعلى الضراء سواء . وفي المنشط والمكره سواء؟ وإلا فقد كان الله قادراً على ألا يكون شيء من هذا الذي كان
* ويخلص لنا رابعا : هوان الشياطين من الإنس والجن ، وهوان كيدهم وأذاهم . فما يستطيلون بقوة ذاتية لهم؛ وما يملكون أن يتجاوزوا ما أذن الله به على أيديهم . . والمؤمن الذي يعلم أن ربه هو الذي يقدر ، وهو الذي يأذن ، خليق أن يستهين بأعدائه من الشياطين؛ مهما تبلغ قوتهم الظاهرة وسلطانهم المدَّعى . ومن هنا هذا التوجيه العلوي لرسول الله الكريم :
{ فذرهم وما يفترون } . .
دعهم وافتراءهم . فأنا من ورائهم قادر على أخذهم ، مدخر لهم جزاءهم . .
* وهناك حكمة أخرى غير ابتلاء الشياطين ، وابتلاء المؤمنين . . لقد قدر الله أن يكون هذا العداء ، وأن يكون هذا الإيحاء ، وأن يكون هذا الغرور بالقول والخداع . . لحكمة أخرى :
{ ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وليرضوه ، وليقترفوا ما هم مقترفون } أي لتستمع إلى ذلك الخداع والإيحاء قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة .

. فهؤلاء يحصرون همهم كله في الدنيا . وهم يرون الشياطين في هذه الدنيا يقفون بالمرصاد لكل نبي . وينالون بالأذى أتباع كل نبي ، ويزين بعضهم لبعض القول والفعل . فيخضعون للشياطين ، معجبين بزخرفهم الباطل ، معجبين بسلطانهم الخادع . ثم يكسبون ما يكسبون من الإثم والشر والمعصية والفساد . في ظل ذلك الإيحاء ، وبسبب هذا الإصغاء . .
وهذا أمر أراده الله كذلك جرى به قدره . لما وراءه من التمحيص والتجربة . ولما فيه من إعطاء كل أحد فرصته ليعمل لما هو ميسر له؛ ويستحق جزاءه بالعدل والقسطاس .
ثم لتصلح الحياة بالدفع؛ ويتميز الحق بالمفاصلة؛ ويتمحض الخير بالصبر؛ ويحمل الشياطين أوزارهم كاملة يوم القيامة . . وليجري الأمر كله وفق مشيئة الله . . أمر أعدائه وأمر أوليائه على السواء . . إنها مشيئة الله ، والله يفعل ما يشاء .
والمشهد الذي يرسمه القرآن الكريم للمعركة بين شياطين الإنس والجن من ناحية ، وكل نبي وأتباعه من ناحية أخرى؛ ومشيئة الله المهيمنة وقدره النافذ من ناحية ثالثة . . هذا المشهد بكل جوانبه جدير بأن نقف أمامه وقفة قصيرة :
إنها معركة تتجمع فيها قوى الشر في هذا الكون . . شياطين الإنس والجن . . تتجمع في تعاون وتناسق لإمضاء خطة مقررة . . هي عداء الحق الممثل في رسالات الأنبياء وحربه . . خطة مقررة فيها وسائلها . . { يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً } . . يمد بعضهم بعضاً بوسائل الخداع والغواية؛ وفي الوقت ذاته يغوي بعضهم بعضا وهي ظاهرة ملحوظة في كل تجمع للشر في حرب الحق وأهله . . إن الشياطين يتعاونون فيما بينهم؛ ويعين بعضهم بعضاً على الضلال أيضاً إنهم لا يهدون بعضهم البعض إلى الحق أبداً . ولكن يزين بعضهم لبعض عداء الحق وحربه والمضي في المعركة معه طويلاً
ولكن هذا الكيد كله ليس طلقياً . . إنه محاط به بمشيئة الله وقدره . . لا يقدر الشياطين على شيء منه إلا بالقدر الذي يشاؤه الله وينفذه بقدره . ومن هنا يبدو هذا الكيد - على ضخامته وتجمع قوى الشر العالمية كلها عليه - مقيداً مغلولاً إنه لا ينطلق كما يشاء بلا قيد ولا ضابط . ولا يصيب من يشاء بلا معقب ولا مراجع - كما يحب الطغاة أن يلقوا في روع من يعبدونهم من البشر ، ليعلقوا قلوبهم بمشيئتهم وإرادتهم . . كلا إن إرادتهم مقيدة بمشيئة الله . وقدرتهم محدودة بقَدر الله . وما يضرون أولياء الله بشيء إلا بما أراده الله - في حدود الابتلاء - ومرد الأمر كله إلى الله .
ومشهد التجمع على خطة مقررة من الشياطين جدير بأن يسترعي وعي أصحاب الحق ليعرفوا طبيعة الخطة ووسائلها . . ومشهد إحاطة مشيئة الله وقدره بخطة الشياطين وتدبيرهم جدير كذلك بأن يملأ قلوب أصحاب الحق بالثقة والطمأنينة واليقين ، وأن يعلق قلوبهم وأبصارهم بالقدرة القاهرة والقدر النافذ ، وبالسلطان الحق الأصيل في هذا الوجود ، وأن يطلق وجدانهم من التعلق بما يريده أو لا يريده الشياطين وأن يمضوا في طريقهم يبنون الحق في واقع الخلق ، بعد بنائه في قلوبهم هم وفي حياتهم . أما عداوة الشياطين ، وكيد الشياطين ، فليدعوهما للمشيئة المحيطة والقدر النافذ .
{ ولو شاء ربك ما فعلوه . فذرهم وما يفترون } . .

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)

الآن نجيء إلى القضية التي تعالجها بقية السورة؛ والتي كان التمهيد لها مطرداً في سياق السورة كله؛ وآخر هذا التمهيد ما ساقه من قضايا العقيدة الكبيرة؛ ومن واقع المعركة العقيدية الطويلة في الآيتين السابقتين . ومن تقرير سلطان الله المطلق فيما يقع من المعركة بين شياطين الإنس والجن وكل نبي . ومن قواعد الهدى والضلال وسنة الله التي يجري وفقها الضلال والهدى . . . إلى آخر ما استعرضناه في الصفحات السابقة .
الآن نجيء إلى القضية التي جعلت هذه المقدمات كلها قاعدة لها . . قضية الحل والحرمة فيما ذكر اسم الله عليه وما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح . . وهي تأخذ أهميتها من ناحية تقرير المبدأ الإسلامي الأول : مبدأ حق الحاكمية المطلقة لله وحده؛ وتجريد البشر من ادعاء هذا الحق أو مزاولته في أية صورة من الصور . . وحين تكون القضية هي قضية هذا المبدأ فإن الصغيرة تكون كالكبيرة في تحقيق هذا المبدأ أو نقضه . . ولا يهم أن يكون الأمر أمر ذبيحة يؤكل منها أو لا يؤكل؛ أو أن يكون أمر دولة تقام أو نظام مجتمع يوضع . فهذه كتلك من ناحية المبدأ . وهذه كتلك تعني الاعتراف بألوهية الله وحده؛ أو تعني رفض هذه الألوهية .
والمنهج القرآني يتكئ كثيرا جدا على هذا المبدأ لتقريره في كل مناسبة . ولا يمل تكراره حيثما جاءت مناسبته أمام كل تشريع للصغير وللكبير من الأمور . . ذلك أن هذا المبدأ هو العقيدة ، وهو الدين ، وهو الإسلام؛ وليس وراءه من هذا الدين كله إلا التطبيقات والتفريعات .
وسنجد في هذا المقطع من السورة - كما سنجد في بقيتها إلى ختامها - أن تقرير هذا المبدأ يكرر في صور شتى؛ بمناسبة عرض شرائع الجاهلية وتقاليدها؛ ويتضح ارتباط هذه الشرائع والتقاليد بالشرك والاستكبار عن الإسلام؛ وانبثاقها من نقطة إقامة ألوهية أخرى غير ألوهية الله ، ومن ثم يسلط عليها القرآن هذه الحملات العنيفة ، المنوعة الأساليب ، ويربطها هذا الربط بأصل الاعتقاد وأصل الإيمان والإسلام .
إن السياق يبدأ بتقرير جهة الحاكمية في أمر العباد كله - تمهيدا لتقرير جهة الحاكمية في التحليل والتحريم في الذبائح ، الأمر الذي يزاول فيه المشركون حق الحاكمية افتراء على الله واعتداء على سلطانه - ويمهد لهذا الأمر تمهيداً طويلا كما نلحظ من سياق الآيات في هذا الموضع :
{ أفغير الله أبتغي حكما ، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً ، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ، فلا تكونن من الممترين . وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته ، وهو السميع العليم . وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون .

إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله ، وهو أعلم بالمهتدين } .
هذا التمهيد كله يجيء قبل أن يدخل في الموضوع الواقع الحاضر الذي يمهد له هذا التمهيد ، ثم يربطه ربطاً مباشرا بقضية الإيمان أو الكفر :
{ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه . . إن كنتم بآياته مؤمنين . . وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وقد فصل لكم ما حرم عليكم - إلا ما اضطررتم إليه } .
وقبل أن ينتهي من عرض قضية التحليل والتحريم - بعد ذلك التمهيد كله - يفصل بين فقرتين بتوجيهات وتعقيبات أخرى ، تحوي مؤثرات قوية من الأمر والنهي والبيان والوعيد :
{ وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم . إن ربك هو أعلم بالمعتدين . وذروا ظاهر الإثم وباطنه . إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون } . .
ثم يستأنف الحديث في قضية التحليل والتحريم؛ فيربطها مباشرة بقضية الإسلام والشرك :
{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه - وإنه لفسق - وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم . . وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } . .
ثم يمضي بعد ذلك شوطاً آخر في الحديث عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان . . شوطاً كأنه تعقيب على أمر التحليل والتحريم .
ومن هذا التتابع ، وهذا الربط ، وهذا التوكيد ، تتمثل طبيعة نظرة الإسلام لقضية التشريع والحاكمية ، في شؤون الحياة اليومية . .
{ أفغير الله ابتغي حكما ، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ، فلا تكونن من الممترين } . .
إنه سؤال على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للاستنكار . استنكار أن يبتغي حكما غير الله في شأن من الشؤون على الإطلاق . وتقرير لجهة الحاكمية في الأمر كله ، وإفرادها بهذا الحق الذي لا جدال فيه . ونفي أن يكون هناك أحد غير الله يجوز أن يتجه إليه طالبا حكمه في أمر الحياة كله .
{ أفغير الله أبتغي حكما؟ } . .
ثم . . تفصيل لهذا الإنكار ، وللملابسات التي تجعل تحكيم غير الله شيئاً مستنكراً غريباً . . إن الله لم يترك شيئاً غامضاً؛ ولم يجعل العباد محتاجين إلى مصدر آخر ، يحكمونه في ما يعرض لهم من مشكلات الحياة :
{ وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً } . .
لقد نزل هذا الكتاب ليحكم بالعدل بين الناس فيما اختلفوا فيه ، ولتتمثل فيه حاكمية الله وألوهيته . ثم لقد نزل هذا الكتاب مفصلا ، محتويا على المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحياة جملة . كما أنه تضمن أحكاماً تفصيلية في المسائل التي يريد الله تثبيتها في المجتمع الإنساني مهما اختلفت مستوياته الاقتصادية والعلمية والواقعية جملة . . وبهذا وذلك كان في هذا الكتاب غناء عن تحكيم غير الله في شأن من شؤون الحياة . . هذا ما يقرره الله - سبحانه - عن كتابه . فمن شاء أن يقول : إن البشرية في طور من أطوارها لا تجد في هذا الكتاب حاجتها فليقل .

. ولكن ليقل معه . . إنه - والعياذ بالله - كافر بهذا الدين ، مكذب بقول رب العالمين
ثم إن هناك مِن حولهم ملابسة أخرى تجعل ابتغاء غير الله حكما في شأن من الشؤون أمراً مستنكرا غريبا . . إن الذين أوتوا الكتاب من قبل يعلمون أن هذا الكتاب منزل من عند الله ، وهم أعرف بالكتاب لأنهم من أهل الكتاب :
{ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } . .
ولقد كانت هذه ملابسة حاضرة في مكة وفي الجزيرة ، يخاطب الله بها المشركين . . سواء أقر أهل الكتاب بها وجهروا - كما وقع من بعضهم مّمن شرح الله صدره للإسلام - أو كتموها وجحدوها - كما وقع من بعضهم - فالأمر في الحالين واحد؛ وهو إخبار الله سبحانه - وخبره هو الصدق - أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربه بالحق . . فالحق محتواه؛ كما أن الحق متلبس بتنزيله من الله . .
وما يزال أهل الكتاب يعلمون أن هذا الكتاب منزل من الله بالحق . وما يزالون يعلمون أن قوة هذا الدين إنما تنبثق من هذا الحق الذي يتلبس به ، ومن هذا الحق الذي يحتويه . وما يزالون - من أجل علمهم بهذا كله - يحاربون هذا الدين ، ويحاربون هذا الكتاب ، حرباً لا تهدأ . . وأشد هذه الحرب وأنكاها ، هو تحويل الحاكمية عن شريعة هذا الكتاب؛ إلى شرائع كتب أخرى من صنع البشر . وجعل غير الله حكما ، حتى لا تقوم لكتاب الله قائمة ، ولا يصبح لدين الله وجود . وإقامة ألوهيات أخرى في البلاد التي كانت الألوهية فيها لله وحده؛ يوم كانت تحكمها شريعة الله التي في كتابه؛ ولا تشاركها شريعة أخرى ، ولا يوجد إلى جوار كتاب الله كتب أخرى ، تستمد منها أوضاع المجتمع ، وأصول التشريعات ، ويرجع إليها ويستشهد بفقراتها كما يستشهد المسلم بكتاب الله وآياته وأهل الكتاب - من صليبيين وصهيونيين - من وراء هذا كله؛ ومن وراء كل وضع وكل حكم يقام لمثل هذه الأهداف الخبيثة
وحين يقرر السياق أن هذا الكتاب أنزله الله مفصلا؛ وأن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من الله بالحق ، يلتفت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن وراءه من المؤمنين به؛ يهون عليه وعليهم شأن التكذيب والجدل الذي يجدونه من المشركين؛ وشأن الكتمان والجحود الذي يجدونه من بعض أهل الكتاب :
{ فلا تكونن من الممترين } .
وما شك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا امترى . ولقد ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - عندما نزل الله عليه : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك . لقد جاءك الحق من ربك ، فلا تكونن من الممترين } قال : « لا أشك ، ولا أسأل » .

ولكن هذا التوجيه وأمثاله؛ وهذا التثبيت على الحق ونظائره؛ تدل على ضخامة ما كان يلقاه - صلى الله عليه وسلم - والجماعة المسلمة معه من الكيد والعنت والتكذيب والجحود؛ ورحمة الله - سبحانه - به وبهم بهذا التوجيه والتثبيت . .
ويمضي السياق في هذا الاتجاه؛ يقرر أن كلمة الله الفاصلة قد تمت؛ وأنه لا مبدل لها بفعل الخلق ، بالغاً ما بلغ كيدهم :
{ وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ، لا مبدل لكلماته ، وهو السميع العليم } . .
لقد تمت كلمة الله - سبحانه - صدقا - فيما قال وقرر - وعدلا - فيما شرع وحكم - فلم يبق بعد ذلك قول لقائل في عقيدة أو تصور أو أصل أو مبدأ أو قيمة أو ميزان . ولم يبق بعد ذلك قول لقائل في شريعة أو حكم ، أو عادة أو تقليد . . ولا معقب لحكمه ولا مجير عليه . .
{ وهو السميع العليم } . .
الذي يسمع ما يقوله عباده ، ويعلم ما وراءه ، كما يعلم ما يصلح لهم ، وما يصلحهم .
وإلى جانب تقرير أن { الحق } هو ما تضمنه الكتاب الذي أنزله الله ، يقرر أن ما يقرره البشر وما يرونه إن هو إلا اتباع الظن الذي لا يقين فيه؛ واتباعه لا ينتهي إلا إلى الضلال . وأن البشر لا يقولون الحق ولا يشيرون به إلا إذا أخذوه من ذلك المصدر الوحيد المستيقن؛ ويحذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يطيع الناس في شيء يشيرون به عليه من عند أنفسهم؛ مهما بلغت كثرتهم؛ فالجاهلية هي الجاهلية مهما كثر أتباعها الضالون :
{ وإِن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله . إن يتبعون إلا الظن ، وإن هم إلا يخرصون } . .
ولقد كان أكثر من في الأرض - كما هو الحال اليوم بالضبط - من أهل الجاهلية . . لم يكونوا يجعلون الله هو الحكم في أمرهم كله ، ولم يكونوا يجعلون شريعة الله التي في كتابه هي قانونهم كله . ولم يكونوا يستمدون تصوراتهم وأفكارهم ، ومناهج تفكيرهم ومناهج حياتهم من هدى الله وتوجيهه . . ومن ثم كانوا - كما هو الحال اليوم - في ضلالة الجاهلية؛ لا يملكون أن يشيروا برأي ولا بقول ولا بحكم يستند على الحق ويستمد منه؛ ولا يقودون من يطيعهم ويتبعهم إلا إلى الضلال . . كانوا - كما هم اليوم - يتركون العلم المستيقن ويتبعون الظن والحدس . . والظن والحدس لا ينتهيان إلا إلى الضلال . . وكذلك حذر الله رسوله من طاعتهم واتباعهم كي لا يضلوا عن سبيل الله . . هكذا على وجه الإجمال . وإن كانت المناسبة الحاضرة حينذاك كانت هي مناسبة تحريم بعض الذبائح وتحليل بعضها كما سيجيء في السياق . .
ثم قرر أن الذي يحكم على العباد بأن هذا مهتد وهذا ضال هو الله وحده . لأن الله وحده هو الذي يعلم حقيقة العباد ، وهو الذي يقرر ما هو الهدى وما هو الضلال :
{ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } .

.
فلا بد من قاعدة للحكم على عقائد الناس وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم ونشاطهم وأعمالهم . لا بد من قاعدة لتقرير ما هو الحق وما هو الباطل في هذا كله - كي لا يكون الأمر في هذه المقومات هو أمر هوى الناس المتقلب واصطلاحهم الذي لا يقوم على علم مستيقن . . ثم لا بد من جهة تضع الموازين لهذه المقومات ، ويتلقى منها الناس حكمها على العباد والقيم سواء .
والله - سبحانه - يقرر هنا أنه هو - وحده - صاحب الحق في وضع هذا الميزان . وصاحب الحق في وزن الناس به ، وتقرير من هو المهتدي ، ومن هو الضال .
إنه ليس « المجتمع » هو الذي يصدر هذه الأحكام وفق اصطلاحاته المتقلبة . . ليس المجتمع الذي تتغير أشكاله ومقوماته المادية ، فتتغير قيمه وأحكامه . . حيث تكون قيم وأخلاق للمجتمع الزراعي ، وقيم وأخلاق أخرى للمجتمع الصناعي . وحيث تكون هناك قيم وأخلاق للمجتمع الرأسمالي البرجوازي ، وقيم وأخلاق أخرى للمجتمع الاشتراكي أو الشيوعي . . ثم تختلف موازين الناس وموازين الأعمال وفق مصطلح هذه المجتمعات
الإسلام لا يعرف هذا الأصل ولا يقره . . الإسلام يعين قيماً ذاتية له يقررها الله - سبحانه - وهذه القيم تثبت مع تغير « أشكال » المجتمعات . . والمجتمع الذي يخرج عليها له اسمه في الاصطلاح الإسلامي . . إنه مجتمع غير إسلامي . . مجتمع جاهلي . . مجتمع مشرك بالله ، لأنه يدع لغير الله - من البشر - أن يصطلح على غير ما قرره الله من القيم والموازين والتصورات والأخلاق ، والأنظمة والأوضاع . . وهذا هو التقسيم الوحيد الذي يعرفه الإسلام للمجتمعات وللقيم وللأخلاق . . إسلامي وغير إسلامي . . إسلامي وجاهلي . . بغض النظر عن الصور والأشكال
بعد هذا التمهيد التقريري الطويل تجيء قضية الذبائح ، مبنية على القاعدة الأساسية التي أقامها ذلك التمهيد التقريري الطويل :
{ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه . . إن كنتم بآياته مؤمنين . . وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وقد فصل لكم ما حرم عليكم - إلا ما اضطررتم إليه - وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم ، إن ربك هو أعلم بالمعتدين . وذروا ظاهر الإثم وباطنه ، إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كان يقترفون . ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه - وإنه لفسق - وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } . .
وقبل أن ندخل في تفصيل هذه الأحكام من الناحية الفقهية ، يهمنا أن نبرز المبادئ الأساسية الاعتقادية التي تقررها .
إنه يأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه . والذكر يقرر الوجهة ويحدد الاتجاه . ويعلق إيمان الناس بطاعة هذا الأمر الصادر إليهم من الله :
{ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه .

. إن كنتم بآياته مؤمنين } . .
ثم يسألهم : وما لهم في الامتناع من الأكل مما ذكر اسم الله عليه ، وقد جعله الله لهم حلالا؟ وقد بين لهم الحرام الذي لا يأكلونه إلا اضطراراً؟ فانتهى بهذا البيان كل قول في حله وحرمته؛ وفي الأكل منه أو تركه؟
{ وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه؟ } . .
ولما كانت هذه النصوص تواجه قضية حاضرة إذ ذاك في البيئة ، حيث كان المشركون يمتنعون من ذبائح أحلها الله؛ ويحلون ذبائح حرمها الله - ويزعمون أن هذا هو شرع الله - فإن السياق يفصل في أمر هؤلاء المشترعين المفترين على الله ، فيقرر أنهم إنما يشرعون بأهوائهم بغير علم ولا اتباع ، ويضلون الناس بما يشرعونه لهم من عند أنفسهم ، ويعتدون على ألوهية الله وحاكميته بمزاولتهم لخصائص الألوهية وهم عبيد :
{ وإن كثراً ليضلون بأهوائهم بغير علم . . إن ربك هو أعلم بالمعتدين } . .
ويأمرهم بأن يتركوا الإثم كله - ظاهره وخافيه - ومنه هذا الذي يزاولونه من إضلال الناس بالهوى وبغير علم؛ وحملهم على شرائع ليست من عند الله ، وافتراء أنها شريعة الله ويحذرهم مغبة هذا الإثم الذي يقترفونه :
{ وذروا ظاهر الإثم وباطنه . إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون } . .
ثم ينهى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح التي كانوا يذكرون عليها أسماء آلهتهم؛ أو ينحرونها للميسر ويستقسمونها بالأزلام؛ أو من الميتة التي كانوا يجادلون المسلمين في تحريمها ، يزعمون أن الله ذبحها فكيف يأكل المسلمون مما ذبحوا بأيديهم ، ولا يأكلون مما ذبح الله؟ وهو تصور من تصورات الجاهلية التي لا حد لسخفها وتهافتها في جميع الجاهليات وهذا ما كانت الشياطين - من الإنس والجن - توسوس به لأوليائها ليجادلوا المسلمين فيه من أمر هذه الذبائح مما تشير إليه الآيات :
{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه - وإنه لفسق - وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم . . وإن أطعتموهم إنكم لمشركون . . } . .
وأمام هذا التقرير الأخير نقف ، لنتدبر هذا الحسم وهذه الصراحة في شأن الحاكمية والطاعة والاتباع في هذا الدين . .
إن النص القرآني لقاطع في أن طاعة المسلم لأحد من البشر في جزئية من جزئيات التشريع التي لا تستمد من شريعة الله ، ولا تعتمد على الاعتراف له وحده بالحاكمية . . أن طاعة المسلم في هذه الجزئية تخرجه من الإسلام لله ، إلى الشرك بالله .
وفي هذا يقول ابن كثير :
« وقوله تعالى : { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } . . أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه ، إلى قول غيره ، فقدمتم عليه غيره . . فهذا هو الشرك . . كقوله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } الآية . وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال : يا رسول الله ماعبدوهم .

فقال : « بلى إنهم أحلوا لهم الحرام ، وحرموا عليهم الحلال . فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم » .
كذلك روى ابن كثير عن السدي في قوله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله . . . } الآية قوله : ( استنصحوا الرجال ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم . ولهذا قال تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً } أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام ، وما حلله فهو الحلال ، وما شرعه اتبع ، وما حكم به نفذ ) . .
فهذا قول السدي وذاك قول ابن كثير . . وكلاهما يقرر في حسم وصرامة ووضوح - مستمدة من حسم النص القرآني وصرامته ووضوحه ، ومن حسم التفسير النبوي للقرآن ، وصرامته ووضوحه كذلك - أن من أطاع بشراً في شريعة من عند نفسه ، ولو في جزئية صغيرة ، فإنما هو مشرك . وإن كان في الأصل مسلما ثم فعلها فإنما خرج بها من الإسلام إلى الشرك أيضاً . . مهما بقي بعد ذلك يقول : أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه . بينما هو يتلقى من غير الله ، ويطيع غير الله .
وحين ننظر إلى وجه الأرض اليوم - في ضوء هذه التقريرات الحاسمة - فإننا نرى الجاهلية والشرك - ولا شيء غير الجاهلية والشرك - إلا من عصم الله ، فأنكر على الأرباب الأرضية ما تدعيه من خصائص الألوهية؛ ولم يقبل منها شرعا ولا حكما . . . إلا في حدود الإكراه . .
فأما الحكم الفقهي المستفاد من قوله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق . . } فيما يتعلق بحل الذبائح وحرمتها عند التسمية وعدم التسمية فقد لخصها ابن كثير في التفسير في هذه الفقرات قال :
« استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها ، وإن كان الذابح مسلماً » . .
« وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
» فمنهم من قال : لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة . وسواء متروك التسمية عمدا أو سهوا . وهو مروي عن ابن عمر ، ونافع مولاه ، وعامر الشعبي ، ومحمد بن سيرين . وهو رواية عن الإمام مالك ، ورواية عن أحمد بن حنبل ، نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين . وهو اختيار أبي ثور ، وداود الظاهري . واختار ذلك أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي من متأخري الشافعية في كتابه الأربعين ، واحتجوا لمذهبهم بهذه الآية ، وبقوله في آية الصيد : { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } ثم قد أكد ذلك بقوله : { وإنه لفسق } والضمير قيل : عائد على الأكل ، وقيل : عائد على الذبح لغير الله . وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد ، كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة : « إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك »

وهما في الصحيحين . وحديث رافع بن خديج : « ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه » وهو في الصحيحين أيضاً . .
« والمذهب الثاني في المسألة : أنه لا يشترط التسمية ، بل هي مستحبة ، فإن تركها عمداً أو نسياناً لا يضر . وهذا مذهب الإمام الشافعي ، رحمه الله ، وجميع أصحابه . ورواية عن الإمام أحمد نقلها عنه حنبل . وهو رواية عن الإمام مالك ، ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه . وحكي عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وعطاء بن أبي رباح . والله أعلم . وحمل الشافعي الآية الكريمة : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق } على ما ذبح لغير الله كقوله تعالى : { أو فسقا أهل لغير الله به } وقال ابن جريج عن عطاء : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } . . قال : ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان ، وينهى عن ذبائح المجوس . . وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي قوي . .
» وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أنبأنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الآية : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } قال : هي الميتة . وقد استدل لهذا المذهب بما رواه أبو داود في المراسيل من حديث ثور بن يزيد عن الصلت السدوسيّ مولى سويد بن ميمون أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ذبيحة المسلم حلال ، ذكر اسم الله أو لم يذكر . إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله » . وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال : « إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل . فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله » .
« المذهب الثالث : إن ترك البسملة على الذبيحة نسيانا لم يضر ، وإن تركها عمدا لم تحل . . هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل ، وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه . وإسحاق بن راهويه . وهو محكي عن علي ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، وطاووس ، والحسن البصري ، وأبي مالك ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وجعفر بن محمد ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن . . . »
« قال ابن جرير : وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية : هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم : لم ينسخ منها شيء ، وهي محكمة فيما عينت به . وعلى هذا قول مجاهد وعامة أهل العلم . وروي عن الحسن البصري وعكرمة ما حدثنا به ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن عكرمة والحسن البصري ، قالا : قال الله : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين } وقال : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق } فنسخ ، واستثنى من ذلك فقال :

{ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم } وقال ابن أبي حاتم : قرأ عليَّ العباس بن الوليد بن يزيد ، حدثنا محمد بن شعيب ، أخبرني النعمان - يعني ابن المنذر - عن مكحول قال : أنزل الله في القرآن : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } . ثم نسخها الرب ورحم المسلمين فقال : { اليوم أحل لكم الطيبات ، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } فنسخها بذلك ، وأحل طعام أهل الكتاب . ثم قال ابن جرير : والصواب : أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب وبين تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه . . وهذا الذي قاله صحيح ، ومن أطلق من السلف النسخ هنا ، فإنما أراد التخصيص ، والله سبحانه وتعالى أعلم « . . . انتهى .
بعد ذلك يجيء شوط كامل عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان ، وعن قدرة الله في أن يجعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها . وعن الكبر الذي يحيك في نفوس هؤلاء المجرمين الأكابر . ويمنعهم من الإسلام . ويختم الشوط بالتصوير الرائع الصادق لحالة الإيمان التي يشرح الله لها الصدر ، وحالة الكفر التي يجعل الصدر فيها ضيقاً حرجا مكروب الأنفاس . . فيتصل هذا الشوط كله بموضوع التحريم والتحليل في الذبائح اتصال الأصل القاعدي بالفرع التطبيقي؛ ويدل على عمق هذا الفرع وشدة علاقته بالأصل الكبير :
{ أو من كان ميتا فأحييناه ، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؟ كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون . وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون . وإذا جاءتهم آية قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله . الله أعلم حيث يجعل رسالته ، سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون . فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء ، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } .
إن هذه الآيات في تصوير طبيعة الهدى وطبيعة الإيمان إنما تعبر تعبيرا حقيقيا واقعيا عن حقيقة واقعية كذلك . إن ما يبدو فيها من تشبيه ومجاز إنما هو لتجسيم هذه الحقيقة في الصورة الموحية المؤثرة؛ ولكن العبارة في ذاتها حقيقية .
إن نوع الحقيقة التي تعبر هذه الآيات عنها هو الذي يقتضي هذه الإيقاعات التصويرية . فهي حقيقة ، نعم . ولكنها حقيقة روحية وفكرية . حقيقة تذاق بالتجربة . ولا تملك العبارة إلا أن تستحضر مذاق التجربة ولكن لمن ذاقها فعلا
إن هذه العقيدة تنشئ في القلب حياة بعد الموت ، وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات . حياة يعيد بها تذوق كل شيء ، وتصور كل شيء ، وتقدير كل شيء بحس آخر لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة .

ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعته وفي مجاله جديداً كما لم يبد من قبل قط لذلك القلب الذي نّوره الإيمان .
هذه التجربة لا تنقلها الألفاظ . يعرفها فقط من ذاقها . . والعبارة القرآنية هي أقوى عبارة تحمل حقيقة هذه التجربة . لأنها تصورها بألوان من جنسها ومن طبيعتها .
إن الكفر انقطاع عن الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية ، التي لا تفنى ولا تغيض ولا تغيب . فهو موت . . وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الوجود كله . . فهو موت . . وانطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية . . فهو موت . .
والإيمان اتصال ، واستمداد ، واستجابة . . فهو حياة . .
إن الكفر حجاب للروح عن الاستشراف والاطلاع . . فهو ظلمة . . وختم على الجوارح والمشاعر . . فهو ظلمة . . وتيه في التيه وضلال . . فهو ظلمة . .
وإن الإيمان تفتح ورؤية ، وإدراك واستقامة . . فهو نور بكل مقومات النور . .
إن الكفر انكماش وتحجر . . فهو ضيق . . وشرود عن الطريق الفطري الميسر . . فهو عسر . . وحرمان من الاطمئنان إلى الكنف الآمن . . فهو قلق . .
وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة وظل ممدود . .
وما الكافر؟ إن هو إلا نبته ضالة لا وشائج لها في تربة هذا الوجود ولا جذور . . إن هو إلا فرد منقطع الصلة بخالق الوجود ، فهو منقطع الصلة بالوجود . لا تربطه به إلا روابط هزيلة من وجوده الفردي المحدود . في أضيق الحدود . في الحدود التي تعيش فيها البهيمة . حدود الحس وما يدركه الحس من ظاهر هذا الوجود
إن الصلة بالله ، والصلة في الله ، لتصل الفرد الفاني بالأزل القديم والأبد الخالد . ثم تصله بالكون الحادث والحياة الظاهرة . . ثم تصله بموكب الإيمان والأمة الواحدة الضاربة في جذور الزمان . الموصولة على مدار الزمان . . فهو في ثراء من الوشائج ، وفي ثراء من الروابط . وفي ثراء من « الوجود » الزاخر الممتد اللاحب ، الذي لا يقف عند عمره الفردي المحدود .
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور ، فتتكشف له حقائق هذا الدين ، ومنهجه في العمل والحركة ، تكشفا عجيبا . . إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يجده الإنسان في قلبه حين يجد هذا النور . . مشهد التناسق الشامل العجيب في طبيعة هذا الدين وحقائقه . ومشهد التكامل الجميل الدقيق في منهجه للعمل وطريقته . إن هذا الدين لا يعود مجموعة معتقدات وعبادات وشرائع وتوجيهات . . إنما يبدو « تصميما » واحدا متداخلا متراكبا متناسقا . . متعاشقا يبدو حيا يتجاوب مع الفطرة وتتجاوب معه في ألفة عميقة وفي صداقة وثيقة ، وفي حب ودود
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور؛ فتتكشف له حقائق الوجود ، وحقائق الحياة ، وحقائق الناس ، وحقائق الأحداث التي تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس . . تتكشف له في مشهد كذلك رائع باهر . . مشهد السُّنَّة الدقيقة التي تتوالى مقدماتها ونتائجها في نظام محكم ولكنه فطري ميسر . . ومشهد المشيئة القادرة من وراء السنة الجارية تدفع بالسنة لتعمل وهي من ورائها محيطة طليقة .

. ومشهد الناس والأحداث وهم في نطاق النواميس وهي في هذا النطاق أيضاً .
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فيجد الوضوح في كل شأن وفي كل أمر وفي كل حدث . . يجد الوضوح في نفسه وفي نواياه وخواطره وخطته وحركِته . ويجد الوضوح فيما يجري حوله سواء من سنة الله النافذة ، أو من أعمال الناس ونواياهم وخططهم المستترة والظاهرة ويجد تفسير الأحداث والتاريخ في نفسه وعقله وفي الواقع من حوله ، كأنه يقرأ من كتاب
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور ، فيجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه ويجد الراحة في باله وحاله ومآله ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها ، وفي استقبال الأحداث واستدبارها ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي كل حين
وهكذا يصور التعبير القرآني الفريد تلك الحقيقة بإيقاعاته الموحية :
{ أومن كان ميتا فأحييناه ، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ، كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؟ } .
كذلك كان المسلمون قبل هذا الدين . قبل أن ينفخ الإيمان في أرواحهم فيحييها ، ويطلق فيها هذه الطاقة الضخمة من الحيوية والحركة والتطلع والاستشراف . . كانت قلوبهم مواتا . وكانت أرواحهم ظلاما . . ثم إذا قلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز ، وإذا أرواحهم يشرق فيها النور فتضيء ، ويفيض منها النور فتمشي به في الناس تهدي الضال ، وتلتقط الشارد ، وتطمئن الخائف ، وتحرر المستعبد ، وتكشف معالم الطريق للبشر وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد . الإنسان المتحرر المستنير؛ الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد
أفمن نفخ الله في روحه الحياة ، وأفاض على قلبه النور . . كمن حاله أنه في الظلمات ، لا مخرج له منها؟
إنهما عالمان مختلفان شتان بينهما شتان فما الذي يمسك بمن في الظلمات والنور حوله يفيض؟
{ كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون } . .
هذا هو السر . . إن هناك تزيينا للكفر والظلمة والموت والذي ينشئ هذا التزيين ابتداء هو مشيئة الله التي أودعت فطرة هذا الكائن الإنساني الاستعداد المزدوج لحب النور وحب الظلمة ، تبتليه بالاختيار للظلمة أو النور . فإذا اختار الظلمة زينت له؛ ولج في الضلال حتى لا يخرج من الظلمة ولا يعود ، ثم إن هناك شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً . ، ويزينون للكافرين ما يعملون . . والقلب الذي ينقطع عن الحياة والإيمان والنور ، يسمع في الظلمة للوسوسة؛ ولا يرى ولا يحس ولا يميز الهدى من الضلال في ذلك الظلام العميق . . وكذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون . .
وبنفس الطريقة ، ولنفس الأسباب ، وعلى هذه القاعدة جعل الله في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها . . ليتم الابتلاء ، وينفذ القدر؛ وتتحقق الحكمة؛ ويمضي كل فيما هو ميسر له ، وينال كل جزاءه في نهاية المطاف :
{ وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون } .

إنها سنة جارية أن ينتدب في كل قرية - وهي المدينة الكبيرة والعاصمة - نفر من أكابر المجرمين فيها ، يقفون موقف العداء من دين الله . ذلك أن دين الله يبدأ من نقطة تجريد هؤلاء الأكابر من السلطان الذي يستطيلون به على الناس ، ومن الربوبية التي يتعبدون بها الناس ، ومن الحاكمية التي يستذلون بها الرقاب ، ويرد هذا كله إلى الله وحده . . رب الناس . . ملك الناس . . إله الناس .
إنها سنة من أصل الفطرة . . أن يرسل الله رسله بالحق . . بهذا الحق الذي يجرد مدعي الألوهية من الألوهية والربوبية والحاكمية . فيجهر هؤلاء بالعداوة لدين الله ورسل الله . ثم يمكرون مكرهم في القرى ، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً . ويتعاونون مع شياطين الجن في المعركة مع الحق والهدى ، وفي نشر الباطل والضلال ، واستخفاف الناس بهذا الكيد الظاهر والخافي . .
إنها سنة جارية . ومعركة محتومة . لأنها تقوم على أساس التناقض الكامل بين القاعدة الأولى في دين الله - وهي رد الحاكمية كلها لله - وبين أطماع المجرمين في القرى . بل بين وجودهم أصلا . .
معركة لا مفر للنبي أن يخوضها ، فهولا يملك أن يتقيها ، ولا مفر للمؤمنين بالنبي أن يخوضوها وأن يمضوا إلى النهاية فيها . . والله سبحانه يطمئن أولياءه . . إن كيد أكابر المجرمين - مهما ضخم واستطال - لا يحيق إلا بهم في نهاية المطاف . إن المؤمنين لا يخوضون المعركة وحدهم فالله وليهم فيها ، وهو حسبهم ، وهو يرد على الكائدين كيدهم :
{ وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون } .
فليطمئن المؤمنون
ثم يكشف السياق القرآني عن طبيعة الكبر في نفوس أعداء رسل الله ودينه . . الكبر الذي يمنعهم من الإسلام؛ خيفة أن يرجعوا عباداً لله كسائر العباد ، فهم يطلبون امتيازاً ذاتيا يحفظ لهم خصوصيتهم بين الأتباع . ويكبر عليهم أن يؤمنوا للنبي فيسلموا له ، وقد تعودوا أن يكونوا في مقام الربوبية للأتباع ، وأن يشرعوا لهم فيقبلوا منهم التشريع ، وأن يأمروهم فيجدوا منهم الطاعة والخضوع . . من أجل ذلك يقولون قولتهم المنكرة الغبية كذلك : لن نؤمن حتى تؤتى مثلما أوتي رسل الله :
{ وإذا جاءتهم آية قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثلما أوتي رسل الله } .
وقد قال الوليد بن المغيرة : لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك ، لأني أكبر منك سنا ، وأكثر منك مالا وقال أبو جهل : والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً ، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه
وواضح أن الكبر النفسي ، وما اعتاده الأكابر من الخصوصية بين الأتباع ، ومظهر هذه الخصوصية الأول هو الأمر منهم والطاعة والاتباع من الأتباع . . واضح أن هذا من أسباب تزيين الكفر في نفوسهم ، ووقوفهم من الرسل والدين موقف العداء .
ويرد الله على قولتهم المنكرة الغبية .

. أولا بتقرير أن أمر اختيار الرسل للرسالة موكول إلى علمه المحيط بمن يليق بهذا الأمر الكوني الخطير . . ويرد عليهم ثانيا بالتهديد والتحقير وسوء المصير :
{ الله أعلم حيث يجعل رسالته . سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون } . .
إن الرسالة أمر هائل خطير . أمر كوني تتصل فيه الإرادة الأَزلية الأبديه بحركة عبد من العبيد . ويتصل فيه الملأ الأعلى بعالم الإنسان المحدود . وتتصل فيه السماء بالأرض ، والدنيا بالآخرة ، ويتمثل فيه الحق الكلي ، في قلب بشر ، وفي واقع ناس ، وفي حركة تاريخ . وتتجرد فيها كينونة بشرية من حظ ذاتها لتخلص لله كاملة ، لا خلوص النية والعمل وحده . ولكن كذلك خلوص المحل الذي يملؤه هذا الأمر الخطير . فذات الرسول - صلى الله عليه وسلم - تصبح موصولة بهذا الحق ومصدره صلة مباشرة كاملة . وهي لا تتصل هذه الصلة إلى أن تكون من ناحية عنصرها الذاتي صالحة للتلقي المباشر الكامل بل عوائق ولا سدود . .
والله وحده - سبحانه - هو الذي يعلم أين يضع رسالته ، ويختار لها الذات التي تنتدب من بين ألوف الملايين ، ويقال لصاحبها : أنت منتدب لهذا الأمر الهائل الخطير .
والذين يتطلعون إلى مقام الرسالة؛ أو يطلبون أن يؤتوا مثل ما أوتي الرسول . . هم أولا من طبيعة لا تصلح أساساً لهذا الأمر . فهم يتخذون من ذواتهم محوراً للوجود الكوني والرسل من طبيعة أخرى ، طبيعة من يتلقى الرسالة مستسلما ، ويهب لها نفسه ، وينسى فيها ذاته ، ويؤتاها من غير تطلع ولا ارتقاب : { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب ، إلا رحمة من ربك } ثم هم بعد ذلك جهال لا يدركون خطورة هذا الأمر الهائل ، ولا يعلمون أن الله وحده هو الذي يقدر بعلمه على اختيار الرجل الصالح . .
لذلك يجبههم الرد الحاسم :
{ الله أعلم حيث يجعل رسالته } . .
وقد جعلها سبحانه حيث علم ، واختار لها أكرم خلقه وأخلصهم ، وجعل الرسل هم ذلك الرهط الكريم ، حتى انتهت إلى محمد خير خلق الله وخاتم النبيين .
ثم التهديد بالصغار والهوان على الله ، وبالعذاب الشديد المهين :
{ سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون } . .
والصغار عند الله يقابل الاستعلاء عند الأتباع ، والاستكبار عن الحق ، والتطاول إلى مقام رسل الله . . والعذاب الشديد يقابل المكر الشديد ، والعداء للرسل ، والأذى للمؤمنين .
ثم تختم الجولة بتصوير حالة الهدى وحالة الإيمان في داخل القلوب والنفوس :
{ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام . ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء . . كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } . .
من يقدر الله له الهداية - وفق سنته الجارية من هداية من يرغب في الهدى ويتجه إليه بالقدر المعطى له من الاختيار بقصد الابتلاء - { يشرح صدره للإسلام } ؛ فيتسع له؛ ويستقبله في يسر ورغبة ، ويتفاعل معه ، ويطمئن إليه؛ ويستروح به ويستريح له .

ومن يقدر له الضلال - وفق سنته الجارية من إضلال من يرغب عن الهدى ويغلق فطرته عنه - { يجعل صدره ضيقا حرجاً كأنما يصعد في السماء } . . فهو مغلق مطموس يجد العسر والمشقة في قبوله ، { كأنما يصعد في السماء } . . وهي حالة نفسية تجسم في حالة حسية ، من ضيق النفس ، وكربة الصدر ، والرهق المضني في التصعد إلى السماء وبناء اللفظ ذاته { يصعد } - كما هو في قراءة حفص - فيه هذا العسر والقبض والجهد . وجرسه يخيل هذا كله ، فيتناسق المشهد الشاخص ، مع الحالة الواقعة ، مع التعبير اللفظي في إيقاع واحد .
وينتهي المشهد بهذا التعقيب المناسب :
{ كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } . .
. . كذلك . . بمثل هذا الذي يجري به قدر الله من شرح صدر الذي يريد الله به الهدى ، ومن العسر والجهد والمشقة لمن يريد به الضلال . . كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون .
ومن معاني الرجس : العذاب . ومن معانية كذلك : الارتكاس - وكلاهما يلون هذا العذاب بمشهد الذي يرتكس في العذاب ويعود إليه ولا يفارقه وهو الظل المقصود .
على أنه تبقى في النفس بقية من الحديث عن قوله تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام . ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء . كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } . .
إن تصور الحقيقة التي يقررها هذا النص وأمثاله في القرآن الكريم من النصوص التي تتعلق بالتعامل والارتباط بين مشيئة الله - سبحانه - واتجاهات البشر؛ وما يصيبهم من الهدى والضلال ، وما ينالهم بعد ذلك من جزاء وثواب وعقاب . . إن هذا كله يحتاج إلى استخدام منطقة أخرى من مناطق الإدراك البشري وراء منطقة المنطق الذهني وكل ما ثار من الجدل بشأن هذه القضية سواء في تاريخ الفكر الإسلامي ، وبخاصة بين المعتزلة وأهل السنة والمرجئة - أو في تاريخ اللاهوت والفلسفة - وكل القضايا والتعبيرات عنها ، موسومة بطابع المنطق الذهني .
إن تصور هذه الحقيقة يحتاج إلى استخدام منطقة أخرى من مناطق الإدراك البشري وراء منطقة المنطق الذهني . وكذلك يقتضي التعامل مع « الواقع الفعلي » لا مع « القضايا الذهنية » . فالقرآن يصور الحقيقة الفعلية في الكينونة البشرية وفي الوجود الواقع؛ وهذه الحقيقة يتراءى فيها التشابك بين مشيئة الله وقدره وبين إرادة الإنسان وعمله . في محيط لا يدركه المنطق الذهني كله .
فإذا قيل : إن إرادة الله تدفع الإنسان دفعا إلى الهدى أو الضلال . . لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية . وإذا قيل : إن إرادة الإنسان هي التي تقرر مصيره كله . . لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية كذلك إن الحقيقة الفعلية تتألف من نسب دقيقة - وغيبية كذلك - بين طلاقة المشيئة الإلهية وسلطانها الفاعل ، وبين اختيار العبد واتجاهه الإرادي .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36