كتاب : في ظلال القرآن
المؤلف : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي

وقد أعلنها الله على المتعاملين بالربا . . وهي مسعرة الآن؛ تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة؛ وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم كلما رأت تلال الإنتاج المادي الذي تخرجه المصانع . . وكانت هذه التلال حرية بأن تسعد البشر لو أنها نشأت من منبت زكي طاهر؛ ولكنها - وهي تخرج من منبع الربا الملوث - لا تمثل سوى ركام يخنق أنفاس البشرية ، ويسحقها سحقاً؛ في حين تجلس فوقه شرذمة المرابين العالميين ، لا تحس آلام البشرية المسحوقة تحت هذا الركام الملعون
لقد دعا الإسلام الجماعة المسلمة الأولى ، ولا يزال يدعو البشرية كلها إلى المَشْرع الطاهر النظيف ، وإلى التوبة من الإثم والخطيئة والمنهج الوبيء :
{ وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم . لا تظلمون ولا تظلمون } . .
فهي التوبة عن خطيئة . إنها خطيئة الجاهلية . الجاهلية التي لا تتعلق بزمان دون زمان ، ولا نظام دون نظام . . إنما هي الانحراف عن شريعة الله ومنهجه متى كان وحيث كان . . خطيئة تنشئ آثارها في مشاعر الأفراد وفي أخلاقهم وفي تصورهم للحياة . وتنشئ آثارها في حياة الجماعة وارتباطاتها العامة . وتنشئ آثارها في الحياة البشرية كلها ، وفي نموها الاقتصادي ذاته . ولو حسب المخدوعون بدعاية المرابين ، إنها وحدها الأساس الصالح للنمو الاقتصادي
واسترداد رأس المال مجرداً ، عدالة لا يظلم فيها دائن ولا مدين . . فأما تنمية المال فلها وسائلها الأخرى البريئة النظيفة . لها وسيلة الجهد الفردي . ووسيلة المشاركة على طريقة المضاربة وهي إعطاء المال لمن يعمل فيه ، ومقاسمته الربح والخسارة . ووسيلة الشركات التي تطرح أسهمها مباشرة في السوق - بدون سندات تأسيس تستأثر بمعظم الربح - وتناول الأرباح الحلال من هذا الوجه . ووسيلة إيداعها في المصارف بدون فائدة - على أن تساهم بها المصارف في الشركات والصناعات والأعمال التجارية مباشرة أو غير مباشرة - ولا تعطيها بالفائدة الثابتة - ثم مقاسمة المودعين الربح على نظام معين أو الخسارة إذا فرض ووقعت . . وللمصارف أن تتناول قدراً معيناً من الأجر في نظير إدارتها لهذه الأموال . . ووسائل أخرى كثيرة ليس هنا مجال تفصيلها . . وهي ممكنة وميسرة حين تؤمن القلوب ، وتصح النيات على ورود المورد النظيف الطاهر ، وتجنب المورد العفن النتن الآسن
ويكمل السياق الأحكام المتعلقة بالدين في حالة الإعسار . . فليس السبيل هو ربا النسيئة : بالتأجيل مقابل الزيادة . . ولكنه هو الإنظار إلى ميسرة . والتحبيب في التصدق به لمن يريد مزيداً من الخير أوفى وأعلى :
{ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة . وأن تصدقوا خير لكم . . إن كنتم تعلمون } . .
إنها السماحة الندية التي يحملها الإسلام للبشرية . إنه الظل الظليل الذي تأوي إليه البشرية المتعبة في هجير الأثرة والشح والطمع والتكالب والسعار . إنها الرحمة للدائن والمدين وللمجتمع الذي يظل الجميع
ونحن نعرف أن هذه الكلمات لا تؤدي مفهوماً « معقولاً » في عقول المناكيد الناشئين في هجير الجاهلية المادية الحاضرة وأن مذاقها الحلو لا طعم له في حسهم المتحجر البليد - وبخاصة وحوش المرابين سواء كانوا أفراداً قابعين في زوايا الأرض يتلمظون للفرائس من المحاويج والمنكوبين الذين تحل بهم المصائب فيحتاجون للمال للطعام والكساء والدواء أو لدفن موتاهم في بعض الأحيان ، فلا يجدون في هذا العالم المادي الكز الضنين الشحيح من يمد لهم يد المعونة البيضاء؛ فيلجأون مرغمين إلى أوكار الوحوش .

فرائس سهلة تسعى إلى الفخاخ بأقدامها . تدفعها الحاجة وتزجيها الضرورة سواء كانوا أفرادا هكذا أو كانوا في صورة بيوت مالية ومصارف ربوية . فكلهم سواء . غير أن هؤلاء يجلسون في المكاتب الفخمة على المقاعد المريحة؛ ووراءهم ركام من النظريات الاقتصادية ، والمؤلفات العلمية ، والأساتذة والمعاهد والجامعات ، والتشريعات والقوانين ، والشرطة والمحاكم والجيوش . . كلها قائمة لتبرير جريمتهم وحمايتها ، وأخذ من يجرؤ على التلكؤ في رد الفائدة الربوية إلى خزائنهم باسم القانون . .
نحن نعرف أن هذه الكلمات لا تصل إلى تلك القلوب . . ولكنا نعرف أنها الحق . ونثق أن سعادة البشرية مرهونة بالاستماع إليها والأخذ بها :
{ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة . وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } .
إن المعسر - في الإسلام - لا يطارد من صاحب الدين ، أو من القانون والمحاكم . إنما ينظر حتى يوسر . . ثم إن المجتمع المسلم لا يترك هذا المعسر وعليه دين . فالله يدعو صاحب الدين أن يتصدق بدينه - إن تطوع بهذا الخير . وهو خير لنفسه كما هو خير للمدين . وهو خير للجماعة كلها ولحياتها المتكافلة . لو كان يعلم ما يعلمه الله من سريرة هذا الأمر
ذلك أن إبطال الربا يفقد شطراً كبيراً من حكمته إذا كان الدائن سيروح يضايق المدين ، ويضيق عليه الخناق . وهو معسر لا يملك السداد . فهنا كان الأمر - في صورة شرط وجواب - بالانتظار حتى يوسر ويقدر على الوفاء . وكان بجانبه التحبيب في التصدق بالدين كله أو بعضه عند الإعسار .
على أن النصوص الأخرى تجعل لهذا المدين المعسر حظاً من مصارف الزكاة ، ليؤدي دينه ، وييسر حياته : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين . . . والغارمين . . . } وهم أصحاب الديون . الذين لم ينفقوا ديونهم على شهواتهم وعلى لذائذهم . إنما أنفقوها في الطيب النظيف ثم قعدت بهم الظروف
ثم يجيء التعقيب العميق الإيحاء ، الذي ترجف منه النفس المؤمنة ، وتتمنى لو تنزل عن الدين كله ، ثم تمضي ناجية من الله يوم الحساب :
{ واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله . ثم توفى كل نفس ما كسبت ، وهم لا يظلمون } . .
واليوم الذي يرجعون فيه إلى الله ، ثم توفى كل نفس ما كسبت يوم عسير ، له في القلب المؤمن وقع؛ ومشهده حاضر في ضمير المؤمن ، وله في ضمير المؤمن هول . والوقوف بين يدي الله في هذا اليوم خاطر يزلزل الكيان
وهو تعقيب يتناسق مع جو المعاملات . جو الأخذ والعطاء . جو الكسب والجزاء . . إنه التصفية الكبرى للماضي جميعه بكل ما فيه . والقضاء الأخير في الماضي بين كل من فيه . فما أجدر القلب المؤمن أن يخشاه وأن يتوقاه .
إن التقوى هي الحارس القابع في أعماق الضمير؛ يقيمه الإسلام هناك لا يملك القلب فراراً منه لأنه في الأعماق هناك
إنه الإسلام . . النظام القوي . . الحلم الندي الممثل في واقع أرضي . . رحمة الله بالبشر . وتكريم الله للإنسان . والخير الذي تشرد عنه البشرية؛ ويصدها عنه أعداء الله وأعداء الإنسان

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)

هذه الأحكام الخاصة بالدين والتجارة والرهن تكملة للأحكام السابقة في درسي الصدقة والربا . فقد استبعد التعامل الربوي في الدرس السابق والديون الربوية والبيوع الربوية . . أما هنا فالحديث عن القرض الحسن بلا ربا ولا فائدة ، وعن المعاملات التجارية الحاضرة المبرأة من الربا . .
وإن الإنسان ليقف في عجب وفي إعجاب أمام التعبير التشريعي في القرآن - حيث تتجلى الدقة العجيبة في الصياغة القانونية حتى ما يبدل لفظ بلفظ ، ولا تقدم فقرة عن موضعها أو تؤخر . وحيث لا تطغى هذه الدقة المطلقة في الصياغة القانونية على جمال التعبير وطلاوته . وحيث يربط التشريع بالوجدان الديني ربطاً لطيف المدخل عميق الإيحاء قوي التأثير ، دون الإخلال بترابط النص من ناحية الدلالة القانونية . وحيث يلحظ كل المؤثرات المحتملة في موقف طرفي التعاقد وموقف الشهود والكتاب ، فينفي هذه المؤثرات كلها ويحتاط لكل احتمال من احتمالاتها . وحيث لا ينتقل من نقطة إلى نقطة إلا وقد استوفى النقطة التشريعية بحيث لا يعود إليها إلا حيث يقع ارتباط بينها وبين نقطة جديدة يقتضي الإشارة إلى الرابطة بينهما . . .
إن الإعجاز في صياغة آيات التشريع هنا لهو الإعجاز في صياغة آيات الإيحاء والتوجيه . بل هو أوضح وأقوى . لأن الغرض هنا دقيق يحرفه لفظ واحد ، ولا ينوب فيه لفظ عن لفظ . ولولا الإعجاز ما حقق الدقة التشريعية المطلقة والجمال الفني المطلق على هذا النحو الفريد .
ذلك كله فوق سبق التشريع الإسلامي بهذه المبادىء للتشريع المدني والتجاري بحوالي عشرة قرون ، كما يعترف الفقهاء المحدثون
{ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } . .
هذا هو المبدأ العام الذي يريد تقريره . فالكتابة أمر مفروض بالنص ، غير متروك للاختيار في حالة الدين إلى أجل . لحكمة سيأتي بيانها في نهاية النص .
{ وليكتب بينكم كاتب بالعدل } . .
وهذا تعيين للشخص الذي يقوم بكتابة الدين فهو كاتب . وليس أحد المتعاقدين . وحكمة استدعاء ثالث - ليس أحد الطرفين في التعاقد - هي الاحتياط والحيدة المطلقة . وهذا الكاتب مأمور أن يكتب بالعدل ، فلا يميل مع أحد الطرفين ، ولا ينقص أو يزيد في النصوص . .
{ ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله } . .
فالتكليف هنا من الله - بالقياس إلى الكاتب - كي لا يتأخر ولا يأبى ولا يثقل العمل على نفسه . فتلك فريضة من الله بنص التشريع ، حسابه فيها على الله . وهي وفاء لفضل الله عليه إذ علمه كيف يكتب . . { فليكتب } كما علمه الله .
وهنا يكون الشارع قد انتهى من تقرير مبدأ الكتابة في الدين إلى أجل . ومن تعيين من يتولى الكتابة . ومن تكليفه بأن يكتب . ومع التكليف ذلك التذكير اللطيف بنعمة الله عليه ، وذلك الإيحاء بأن يلتزم العدل .

.
وهنا ينتقل إلى فقرة تالية يبين فيها كيف يكتب . .
{ وليملل الذي عليه الحق . وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً . فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل } . .
إن المدين - الذي عليه الحق - هو الذي يملي على الكاتب اعترافه بالدين ، ومقدار الدين ، وشرطه وأجله . . ذلك خيفة أن يقع الغبن على المدين لو أملى الدائن ، فزاد في الدين ، أو قرب الأجل ، أو ذكر شروطاً معينة في مصلحته . والمدين في موقف ضعيف قد لا يملك معه إعلان المعارضة رغبة في إتمام الصفقة لحاجته إليها ، فيقع عليه الغبن . فإذا كان المدين هو الذي يملي لم يمل إلا ما يريد الارتباط به عن طيب خاطر . ثم ليكون إقراره بالدين أقوى وأثبت ، وهو الذي يملي . . وفي الوقت ذاته يناشد ضمير المدين - وهو يملي - أن يتقي الله ربه ولا يبخس شيئاً من الدين الذي يقر به ولا من سائر أركان الإقرار الأخرى . . فإن كان المدين سفيهاً لا يحسن تدبير أموره . أو ضعيفاً - أي صغيراً أو ضعيف العقل - أو لا يستطيع أن يمل هو إما لعي أو جهل أو آفة في لسانه أو لأي سبب من الأسباب المختلفة الحسية أو العقلية . . فليملل ولي أمره القيم عليه . . { بالعدل } . . والعدل يذكر هنا لزيادة الدقة . فربما تهاون الولي - ولو قليلاً - لأن الدين لا يخصه شخصياً . كي تتوافر الضمانات كلها لسلامة التعاقد .
وبهذا ينتهي الكلام عن الكتابة من جميع نواحيها ، فينتقل الشارع إلى نقطة أخرى في العقد ، نقطة الشهادة :
{ واستشهدوا شهيدين من رجالكم . فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان - ممن ترضون من الشهداء - أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } . .
إنه لا بد من شاهدين على العقد - { ممن ترضون من الشهداء } - والرضى يشمل معنيين : الأول أن يكون الشاهدان عدلين مرضيين في الجماعة . والثاني أن يرضى بشهادتهما طرفا التعاقد . . ولكن ظروفاً معينة قد لا تجعل وجود شاهدين أمراً ميسوراً . فهنا ييسر التشريع فيستدعي النساء للشهادة ، وهو إنما دعا الرجال لأنهم هم الذين يزاولون الأعمال عادة في المجتمع المسلم السوي ، الذي لا تحتاج المرأة فيه أن تعمل لتعيش ، فتجور بذلك على أمومتها وأنوثتها وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانية وهي الطفولة الناشئة الممثلة لجيل المستقبل ، في مقابل لقيمات أو دريهمات تنالها من العمل ، كما تضطر إلى ذلك المرأة في المجتمع النكد المنحرف الذي نعيش فيه اليوم فأما حين لا يوجد رجلان فليكن رجل واحد وامرأتان . . ولكن لماذا امرأتان؟ إن النص لا يدعنا نحدس ففي مجال التشريع يكون كل نص محدداً واضحاً معللاً : { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } . . والضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة .

فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد ، مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه وملابساته ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء ، فتذكرها الأخرى بالتعاون معاً على تذكر ملابسات الموضوع كله . وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية . فإن وظيفة الأمومة العضوية البيولوجية تستدعي مقابلا نفسياً في المرأة حتماً . تستدعي أن تكون المرأة شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية لا ترجع فيهما إلى التفكير البطيء . . وذلك من فضل الله على المرأة وعلى الطفولة . . وهذه الطبيعة لا تتجزأ ، فالمرأة شخصية موحدة هذا طابعها - حين تكون امرأة سوية - بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال ، ووقوف عند الوقائع بلا تأثر ولا إيحاء . ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكر إحداهما الأخرى - إذا انحرفت مع أي انفعال - فتتذكر وتفيء إلى الوقائع المجردة .
وكما وجه الخطاب في أول النص إلى الكتاب ألا يأبوا الكتابة ، يوجهه هنا إلى الشهداء ألا يأبوا الشهادة :
{ ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } . .
فتلبية الدعوة للشهادة إذن فريضة وليست تطوعاً . فهي وسيلة لإقامة العدل وإحقاق الحق . والله هو الذي يفرضها كي يلبيها الشهداء عن طواعية تلبية وجدانية ، بدون تضرر أو تلكؤ . وبدون تفضل كذلك على المتعاقدين أو على أحدهما ، إذا كانت الدعوة من كليهما أو من أحدهما .
وهنا ينتهي الكلام عن الشهادة ، فينتقل الشارع إلى غرض آخر . غرض عام للتشريع . يؤكد ضرورة الكتابة - كبر الدين أم صغر - ويعالج ما قد يخطر للنفس من استثقال الكتابة وتكاليفها بحجة أن الدين صغير لا يستحق ، أو أنه لا ضرورة للكتابة بين صاحبيه لملابسة من الملابسات كالتجمل والحياء أو الكسل وقلة المبالاة ثم يعلل تشديده في وجوب الكتابة تعليلاً وجدانياً وتعليلاً عملياً :
{ ولا تسأموا أن تكتبوه - صغيراً أو كبيراً - إلى أجله . ذلكم أقسط عند الله ، وأقوم للشهادة ، وأدنى ألا ترتابوا } .
لا تسأموا . . فهو إدراك لانفعالات النفس الإنسانية حين تحس أن تكاليف العمل أضخم من قيمته . . { ذلكم أقسط عند الله } . . أعدل وأفضل . وهو إيحاء وجداني بأن الله يحب هذا ويؤثره . { وأقوم للشهادة } . فالشهادة على شيء مكتوب أقوم من الشهادة الشفوية التي تعتمد على الذاكرة وحدها . وشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أقوم كذلك للشهادة وأصح من شهادة الواحد ، أو الواحد والواحدة . { وأدنى ألا ترتابوا } : أقرب لعدم الريبة . الريبة في صحة البيانات التي تضمنها العقد ، أو الريبة في أنفسكم وفي سواكم إذا ترك الأمر بلا قيد .
وهكذا تتكشف حكمة هذه الإجراءات كلها؛ ويقتنع المتعاملون بضرورة هذا التشريع ، ودقة أهدافه ، وصحة إجراءاته . إنها الصحة والدقة والثقة والطمأنينة .
ذلك شأن الدين المسمى إلى أجل .

أما التجارة الحاضرة فإن بيوعها مستثناة من قيد الكتابة . وتكفي فيها شهادة الشهود تيسيراً للعمليات التجارية التي يعرقلها التعقيد ، والتي تتم في سرعة ، وتتكرر في أوقات قصيرة ، ذلك أن الإسلام وهو يشرع للحياة كلها قد راعى كل ملابساتها؛ وكان شريعة عملية واقعية لا تعقيد فيها ، ولا تعويق لجريان الحياة في مجراها :
{ إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم ، فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم } .
وظاهر النص أن الإعفاء من الكتابة رخصة لا جناح فيها . أما الإشهاد فموجَب . وقد وردت بعض الروايات بأن الإشهاد كذلك للندب لا للوجوب . ولكن الأرجح هو ذاك .
والآن - وقد انتهى تشريع الدين المسمى ، والتجارة الحاضرة ، والتقى كلاهما عند شرطي الكتابة والشهادة - على الوجوب وعلى الرخصة - فإنه يقرر حقوق الكتاب والشهداء كما قرر واجباتهم من قبل . . لقد أوجب عليهم ألا يأبوا الكتابة أو الشهادة . فالآن يوجب لهم الحماية والرعاية ليتوازن الحق والواجب في أداء التكاليف العامة .
{ ولا يضار كاتب ولا شهيد . وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم . واتقوا الله ويعلمكم الله . والله بكل شيء عليم } .
لا يقع ضرر على كاتب أو شهيد ، بسبب أدائه لواجبه الذي فرضه الله عليه . وإذا وقع فإنه يكون خروجاً منكم عن شريعة الله ومخالفة عن طريقه . وهو احتياط لا بد منه . لأن الكتاب والشهداء معرضون لسخط أحد الفريقين المتعاقدين في أحيان كثيرة . فلا بد من تمتعهم بالضمانات التي تطمئنهم على أنفسهم ، وتشجعهم على أداء واجبهم بالذمة والأمانة والنشاط في أداء الواجبات ، والحيدة في جميع الأحوال . ثم - وعلى عادة القرآن في إيقاظ الضمير ، واستجاشة الشعور كلما هم بالتكليف ، ليستمد التكليف دفعته من داخل النفس ، لا من مجرد ضغط النص - يدعو المؤمنين إلى تقوى الله في النهاية؛ ويذكرهم بأن الله هو المتفضل عليهم ، وهو الذي يعلمهم ويرشدهم ، وأن تقواه تفتح قلوبهم للمعرفة وتهيىء أرواحهم للتعليم ، ليقوموا بحق هذا الإنعام بالطاعة والرضى والإذعان :
{ واتقوا الله . ويعلمكم الله . والله بكل شىء عليم } .
ثم يعود المشرع إلى تكملة في أحكام الدين ، آخرها في النص لأنها ذات ظروف خاصة ، فلم يذكرها هناك في النص العام . . ذلك حين يكون الدائن والمدين على سفر فلا يجدان كاتباً . فتيسيراً للتعامل ، مع ضمان الوفاء ، رخص الشارع في التعاقد الشفوي بلا كتابة مع تسليم رهن مقبوض للدائن ضامن للدين :
{ وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة } .
وهنا يستجيش الشارع ضمائر المؤمنين للأمانة والوفاء بدافع من تقوى الله . فهذا هو الضمان الأخير لتنفيذ التشريع كله ، ولرد الأموال والرهائن إلى أصحابها ، والمحافظة الكاملة عليها :
{ فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه } .
والمدين مؤتمن على الدين ، والدائن مؤتمن على الرهن؛ وكلاهما مدعو لأداء ما اؤتمن عليه باسم تقوى الله ربه .

والرب هو الراعي والمربي والسيد والحاكم والقاضي . وكل هذه المعاني ذات إيحاء في موقف التعامل والائتمان والأداء . . وفي بعض الآراء أن هذه الآية نسخت آية الكتابة في حالة الإئتمان . ونحن لا نرى هذا ، فالكتابة واجبة في الدين إلا في حالة السفر . والإئتمان خاص بهذه الحالة . والدائن والمدين كلاهما - في هذه الحالة - مؤتمن .
وفي ظل هذه الاستجاشة إلى التقوى ، يتم الحديث عن الشهادة - عند التقاضي في هذه المرة لا عند التعاقد - لأنها أمانة في عنق الشاهد وقلبه :
{ ولا تكتموا الشهادة . ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } .
ويتكئ التعبير هنا على القلب . فينسب إليه الإثم . تنسيقاً بين الإضمار للإثم ، والكتمان للشهادة . فكلاهما عمل يتم في أعماق القلب . ويعقب عليه بتهديد ملفوف . فليس هناك خاف على الله .
{ والله بما تعملون عليم } .
وهو يجزي عليه بمقتضى علمه الذي يكشف الإثم الكامن في القلوب
ثم يستمر السياق في توكيد هذه الإشارة ، واستجاشة القلب للخوف من مالك السماوات والأرض وما فيهما ، العليم بمكنونات الضمائر خفيت أم ظهرت ، المجازي عليها ، المتصرف في مصائر العباد بما يشاء من الرحمة والعذاب ، القدير على كل شيء تتعلق به مشيئته بلا تعقيب
{ لله ما في السماوات وما في الأرض . وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ، والله على كل شيء قدير } . .
وهكذا يعقب على التشريع المدني البحت بهذا التوجيه الوجداني البحت؛ ويربط بين التشريعات للحياة وخالق الحياة ، بذلك الرباط الوثيق ، المؤلف من الخوف والرجاء في مالك الأرض والسماء . فيضيف إلى ضمانات التشريع القانونية ضمانات القلب الوجدانية . . وهي الضمان الوثيق المميز لشرائع الإسلام في قلوب المسلمين في المجتمع المسلم . . وهي والتشريع في الإسلام متكاملان . فالإسلام يصنع القلوب التي يشرع لها؛ ويصنع المجتمع الذي يقنن له . صنعة إلهية متكاملة متناسقة . تربية وتشريع . وتقوى وسلطان . . ومنهج للإنسان من صنع خالق الإنسان . فأنى تذهب شرائع الأرض . وقوانين الأرض ، ومناهج الأرض ، أنى تذهب نظرة إنسان قاصر ، محدود العمر ، محدود المعرفة ، محدود الرؤية ، يتقلب هواه هنا وهناك ، فلا يستقر على حال ، ولا يكاد يجتمع اثنان منه على رأي ، ولا على رؤية ، ولا على إدراك؟ وأنى تذهب البشرية شاردة عن ربها . ربها الذي خلق ، والذي يعلم من خلق ، والذي يعلم ما يصلح لخلقه ، في كل حالة وفي كل آن؟
ألا إنها الشقوة للبشرية في هذا الشرود عن منهج الله وشرعه . الشقوة التي بدأت في الغرب هرباً من الكنيسة الطاغية الباغية هناك؛ ومن إلهها الذي كانت تزعم أنها تنطق باسمه وتحرم على الناس أن يتفكروا وأن يتدبروا؛ وتفرض عليهم باسمه الإتاوات الباهظة والاستبداد المنفر . . فلما هم الناس أن يتخلصوا من هذا الكابوس ، تخلصوا من الكنيسة وسلطانها . ولكنهم لم يقفوا عند حد الاعتدال ، فتخلصوا كذلك من إله الكنيسة وسلطانه ثم تخلصوا من كل دين يقودهم في حياتهم الأرضية بمنهج الله . . وكانت الشقوة وكان البلاء
فأما نحن - نحن الذين نزعم الإسلام - فما بالنا؟ ما بالنا نشرد عن الله ومنهجه وشريعته وقانونه؟ ما بالنا وديننا السمح القويم لم يفرض علينا إلا كل ما يرفع عنا الأغلال ، ويحط عنا الأثقال ويفيض علينا الرحمة والهدى واليسر والاستقامة على الطريق المؤدي إليه وإلى الرقي والفلاح؟

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

هذا ختام السورة الكبيرة . . الكبيرة بحجمها التعبيري إذ هي أطول سور القرآن ، والكبيرة بموضوعاتها التي تمثل قطاعاً ضخماً رحيباً من قواعد التصور الإيماني ، وصفة الجماعة المسلمة ، ومنهجها ، وتكاليفها ، وموقفها في الأرض ، ودورها في الوجود؛ وموقف أعدائها المناهضين لها ، وطبيعتهم ، وطبيعة وسائلهم في حربها؛ ووسيلتها هي في دفع غائلتهم عنها من جهة ، وتوقي مصيرهم المنكود من جهة أخرى . . كما شرحت السورة طبيعة دور الإنسان في الأرض ، وفطرته ، ومزالق خطاه ، ممثلة في تاريخ البشرية وقصصها الواقعي . . إلى آخر ما سبق تفصيله في أثناء استعراض نصوصها الطويلة .
هذا ختام السورة الكبيرة . . في آيتين اثنتين . . ولكنهما تمثلان بذاتهما تلخيصاً وافياً لأعظم قطاعات السورة . يصلح ختاماً لها . ختاماً متناسقاً مع موضوعاتها وجوها وأهدافها .
لقد بدأت السورة بقوله تعالى : { ألم . ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } وورد في ثناياها إشارات إلى هذه الحقيقة ، وبخاصة حقيقة الإيمان بالرسل جميعاً . . وها هي ذي تختم بقوله تعالى : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون . كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله . لا نفرق بين أحد من رسله . . . } وهو ختام يتناسق مع البدء كأنهما دفتا كتاب
وقد حوت السورة الكثير من تكاليف الأمة المسلمة ، وتشريعاتها في شتى شؤون الحياة . . كما ورد فيها الكثير عن نكول بني إسرائيل عن تكاليفهم وتشريعاتهم . . وفي ختامها يجيء هذا النص المفصح عن الحد الفاصل بين النهوض بالتكاليف والنكول عنها ، المبين أن الله - سبحانه - لا يريد إعنات هذه الأمة ولا إثقالها ، وأنه كذلك لا يحابيها - كما زعمت يهود عن ربها - ولا يتركها سدى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } . .
وقد تضمنت السورة بعض قصص بني إسرائيل؛ وما أنعم الله عليهم به من فضل وما قابلوا به هذا الفضل من جحود؛ وما كلفهم من كفارات بلغ بعضها حد القتل : { فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم } وفي ختامها يرد ذلك الدعاء الخاشع من المؤمنين : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا . ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا . ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به . وأعف عنا واغفر لنا وارحمنا . . . } .
وقد فرض في السورة على المؤمنين القتال؛ وأمروا بالجهاد والإنفاق في سبيل الله لدفع الكفر والكافرين . . وهي تختم بالتجاء المؤمنين إلى ربهم يستمدون منه العون على ما كلفهم ، والنصر على عدوهم : { أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } .
إنه الختام الذي يلخص ويشير ويتناسق مع خط السورة الأصيل . .
وفي هاتين الآيتين كل كلمة لها موضعها ، ولها دورها ، ولها دلالتها الضخمة .

وهي قائمة في العبارة لتمثيل ما وراءها - وهو كبير - من حقائق العقيدة . . من طبيعة الإيمان في هذا الدين وخصائصه وجوانبه . ومن حال المؤمنين به مع ربهم ، وتصورهم لما يريده - سبحانه - بهم ، وبالتكاليف التي يفرضها عليهم . ومن التجائهم إلى كنفه واستسلامهم لمشيئته وارتكانهم إلى عونه . . نعم . . كل كلمة لها دورها الضخم . بصورة عجيبة . عجيبة حتى في نفس من عاش في ظلال القرآن ، وعرف شيئاً من أسرار التعبير فيه؛ وطالع هذه الأسرار في كل آية من آياته
فلننظر في هذه النصوص بشيء من التفصيل :
{ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون . كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله . لا نفرق بين أحد من رسله . وقالوا : سمعنا وأطعنا . غفرانك ربنا وإليك المصير } . .
إنها صورة للمؤمنين ، للجماعة المختارة التي تمثلت فيها حقيقة الإيمان فعلاً . ولكل جماعة تتمثل فيها هذه الحقيقة الضخمة . . ومن ثم كرمها الله - سبحانه - وهو يجمعها - في حقيقة الإيمان الرفيعة - مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو تكريم تدرك الجماعة المؤمنة حقيقته؛ لأنها تدرك حقيقة الرسول الكبيرة؛ وتعرف أي مرتقى رفعها الله إليه عنده ، وهو يجمع بينها وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صفة واحدة ، في آية واحدة ، من كلامه الجليل :
{ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون } . .
وإيمان الرسول بما أنزل إليه من ربه هو إيمان التلقي المباشر . تلقي قلبه النقي للوحي العلي . واتصاله المباشر بالحقيقة المباشرة . الحقيقة التي تتمثل في كيانه بذاتها من غير كد ولا محاولة؛ وبلا أداة أو واسطة . وهي درجة من الإيمان لا مجال لوصفها فلا يصفها إلا من ذاقها ، ولا يدركها من الوصف - على حقيقتها - إلا من ذاقها كذلك فهذا الإيمان - إيمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يكرم الله عباده المؤمنين فيجمعهم في الوصف مع الرسول الكريم . على فارق ما بين مذاقه في كيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - بطبيعة الحال وكيان أيٍّ سواه ممن لم يتلق الحقيقة المباشرة من مولاه .
فما هي طبيعة هذا الإيمان وحدوده؟
{ كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله . لا نفرق بين أحد من رسله . وقالوا : سمعنا وأطعنا . غفرانك ربنا وإليك المصير } . .
إنه الإيمان الشامل الذي جاء به هذا الدين . الإيمان الذي يليق بهذه الأمة الوارثة لدين الله ، القائمة على دعوته في الأرض إلى يوم القيامة ، الضاربة الجذور في أعماق الزمان ، السائرة في موكب الدعوة وموكب الرسول وموكب الإيمان الممتد في شعاب التاريخ البشري ، الإيمان الذي يتمثل البشرية كلها منذ نشأتها إلى نهايتها صفين اثنين : صف المؤمنين وصف الكافرين .

حزب الله وحزب الشيطان . فليس هنالك صف ثالث على مدار الزمان .
{ كل آمن بالله } . .
والإيمان بالله في الإسلام قاعدة التصور . وقاعدة المنهج الذي يحكم الحياة . وقاعدة الخلق وقاعدة الاقتصاد . وقاعدة كل حركة يتحركها المؤمن هنا أو هناك .
الإيمان بالله معناه إفراده - سبحانه - بالألوهية والربوبية والعبادة . ومن ثم إفراده بالسيادة على ضمير الإنسان وسلوكه في كل أمر من أمور الحياة .
ليس هناك شركاء - إذن - في الألوهية أو الربوبية . فلا شريك له في الخلق . ولا شريك له في تصريف الأمور . ولا يتدخل في تصريفه للكون والحياة أحد . ولا يرزق الناس معه أحد . ولا يضر أو ينفع غيره أحد . ولا يتم شيء في هذا الوجود صغيراً كان أو كبيراً إلا ما يأذن به ويرضاه .
وليس هناك شركاء في العبادة يتجه إليهم الناس . لا عبادة الشعائر ولا عبادة الخضوع والدينونة . فلا عبادة إلا لله . ولا طاعة إلا لله ولمن يعمل بأمره وشرعه ، فيتلقى سلطانه من هذا المصدر الذي لا سلطان إلا منه . فالسيادة على ضمائر الناس وعلى سلوكهم لله وحده بحكم هذا الإيمان . ومن ثم فالتشريع وقواعد الخلق ، ونظم الاجتماع والاقتصاد لا تتلقى إلا من صاحب السيادة الواحد الأحد . . من الله . . فهذا هو معنى الإيمان بالله . . ومن ثم ينطلق الإنسان حراً إزاء كل من عدا الله ، طليقاً من كل قيد إلا من الحدود التي شرعها الله ، عزيزاً على كل أحد إلا بسلطان من الله .
{ وملائكته } . .
والإيمان بملائكة الله طرف من الإيمان بالغيب ، الذي تحدثنا عن قيمته في حياة الإنسان في مطلع السورة - في الجزء الأول من الظلال - وهو يخرج الإنسان من نطاق الحواس المضروب على الحيوان؛ ويطلقه يتلقى المعرفة مما وراء هذا النطاق الحيواني؛ وبذلك يعلن « إنسانيته » بخصائصها المميزة . . ذلك بينما هو يلبي فطرة الإنسان وشوقه إلى المجاهيل التي لا تحيط بها حواسه ، ولكنه يحس وجودها بفطرته . فإذا لم تلب هذه الأشواق الفطرية بحقائق الغيب - كما منحها الله له - اشتطت وراء الأساطير والخرافات لتشبع هذه الجوعة؛ أو أصيب الكيان الإنساني بالخلخلة والاضطراب .
والإيمان بالملائكة : إيمان بحقيقة غيبية ، لا سبيل للإدراك البشري أن يعرفها بذاته ، بوسائله الحسية والعقلية المهيأة له . . بينما كيانه مفطور على الشوق إلى معرفة شيء من تلك الحقائق الغيبية . ومن ثم شاءت رحمة الله بالإنسان - وهو فاطره وهو العليم بتكوينه وأشواقه وما يصلح له ويصلحه - أن يمده بطرف من الحقائق الغيبية هذه ، ويعينه على تمثلها - ولو كانت أدواته الذاتية قاصرة عن الوصول إليها - وبذلك يريحه من العناء ومن تبديد الطاقة في محاولة الوصول إلى تلك الحقائق التي لا يصلح كيانه وفطرته بدون معرفتها ، ولا يطمئن باله ولا يقر قراره قبل الحصول عليها بدليل أن الذين أرادوا أن يتمردوا على فطرتهم ، فينفوا حقائق الغيب من حياتهم ، استبدت ببعضهم خرافات وأوهام مضحكة؛ أو اضطربت عقولهم وأعصابهم وامتلأت بالعقد والانحرافات
وفضلاً على ذلك كله فإن الإيمان بحقيقة الملائكة - شأنه شأن الإيمان بالحقائق الغيبية المستيقنة التي جاءت من عند الله - يوسع آفاق الشعور الإنساني بالوجود ، فلا تنكمش صورة الكون في تصور المؤمن حتى تقتصر على ما تدركه حواسه - وهو ضئيل - كما أنه يؤنس قلبه بهذه الأرواح المؤمنة من حوله؛ تشاركه إيمانه بربه ، وتستغفر له ، وتكون في عونه على الخير - بإذن الله - وهو شعور لطيف ندي مؤنس ولا شك .

. ثم هنالك المعرفة : المعرفة بهذه الحقيقة وهي في ذاتها فضل يمنحه الله للمؤمنين به وبملائكته . .
{ وكتبه ورسله } . . { لا نفرِّق بين أحد من رسله } . .
والإيمان بكتب الله ورسله بدون تفرقة بين أحد من رسله هو المقتضى الطبيعي الذي ينبثق من الإيمان بالله في الصورة التي يرسمها الإسلام . فالإيمان بالله يقتضي الاعتقاد بصحة كل ما جاء من عند الله ، وصدق كل الرسل الذين يبعثهم الله ، ووحدة الأصل الذي تقوم عليه رسالتهم ، وتتضمنه الكتب التي نزلت عليهم . . ومن ثم لا تقوم التفرقة بين الرسل في ضمير المسلم . فكلهم جاء من عند الله بالإسلام في صورة من صوره المناسبة لحال القوم الذين أرسل إليهم؛ حتى انتهى الأمر إلى خاتم النبيين - محمد - صلى الله عليه وسلم - فجاء بالصورة الأخيرة للدين الواحد ، لدعوة البشرية كلها إلى يوم القيامة .
وهكذا تتلقى الأمة المسلمة تراث الرسالة كله؛ وتقوم على دين الله في الأرض ، وهي الوارثة له كله؛ ويشعر المسلمون - من ثم - بضخامة دورهم في هذه الأرض إلى يوم القيامة . فهم الحراس على أعز رصيد عرفته البشرية في تاريخها الطويل . وهم المختارون لحمل راية الله - وراية الله وحدها - في الأرض ، يواجهون بها رايات الجاهلية المختلفة الشارات ، من قومية ووطنية وجنسية وعنصرية وصهيونية وصليبية واستعمارية وإلحادية . . إلى آخر شارات الجاهلية التي يرفعها الجاهليون في الأرض ، على اختلاف الأسماء والمصطلحات واختلاف الزمان والمكان .
إن رصيد الإيمان الذي تقوم الأمة المسلمة حارسة عليه في الأرض ، ووارثة له منذ أقدم الرسالات ، هو أكرم رصيد وأقومه في حياة البشرية . إنه رصيد من الهدى والنور ، ومن الثقة والطمأنينة ، ومن الرضى والسعادة ، ومن المعرفة واليقين . . وما يخلو قلب بشري من هذا الرصيد حتى يجتاحه القلق والظلام ، وتعمره الوساوس والشكوك ، ويستبد به الأسى والشقاء . ثم يروح بتخبط في ظلماء طاخية ، لا يعرف أين يضع قدميه في التيه الكئيب
وصرخات القلوب التي حرمت هذا الزاد ، وحرمت هذا الأنس ، وحرمت هذا النور ، صرخات موجعة في جميع العصور . . هذا إذا كان في هذه القلوب حساسية وحيوية ورغبة في المعرفة ولهفة على اليقين .

فأما القلوب البليدة الميتة الجاسية الغليظة ، فقد لا تحس هذه اللهفة ولا يؤرقها الشوق إلى المعرفة . . ومن ثم تمضي في الأرض كالبهيمة تأكل وتستمتع كما تأكل الأنعام وتستمتع . وقد تنطح وترفس كالبهيمة ، أو تفترس وتنهش كالوحش؛ وتزاول الطغيان والجبروت والبغي والبطش ، وتنشر الفساد في الأرض . . ثم تمضي ملعونة من الله ملعونة من الناس
والمجتمعات المحرومة من تلك النعمة مجتمعات بائسة - ولو غرقت في الرغد المادي - خاوية - ولو تراكم فيها الإنتاج - قلقة - ولو توافرت لها الحريات والأمن والسلام الخارجي - وأمامنا في أمم الأرض شواهد على هذه الظاهرة لا ينكرها إلا مراوغ يتنكر للحس والعيان
والمؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله ، يتوجهون إلى ربهم بالطاعة والتسليم ، ويعرفون أنهم صائرون إليه ، فيطلبون مغفرته من التقصير :
{ وقالوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا ، وإليك المصير } .
ويتجلى في هذه الكلمات أثر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله . يتجلى في السمع والطاعة ، السمع لكل ما جاءهم من عند الله ، والطاعة لكل ما أمر به الله . فهو إفراد الله بالسيادة كما ذكرنا من قبل ، والتلقي منه في كل أمر . فلا إسلام بلا طاعة لأمر الله ، وإنفاذ لنهجه في الحياة . ولا إيمان حيث يعرض الناس عن أمر الله في الكبيرة والصغيرة من شؤون حياتهم؛ أو حيث لا ينفذون شريعته ، أو حيث يتلقون تصوراتهم عن الخلق والسلوك والاجتماع والاقتصاد والسياسة من مصدر غير مصدره . فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل .
ومع السمع والطاعة . . الشعور بالتقصير والعجز عن توفية آلاء الله حق شكرها؛ وفرائض الله حق أدائها . والالتجاء إلى رحمة الله لتتدارك تقصيرهم وعجزهم بسماحتها :
{ غفرانك ربنا } . .
ولكن طلب الغفران إنما يجيء بعد تقديم الاستسلام وإعلان السمع والطاعة ابتداء بلا عناد أو نكران . . وإنما يعقبه كذلك اليقين بأن المصير إلى الله . المصير إليه في الدنيا والآخرة . المصير إليه في كل أمر وكل عمل . فلا ملجأ من الله إلا إليه؛ ولا عاصم من قدره ، ولا مرد لقضائه ولا نجوة من عقابه إلا برحمته وغفرانه :
{ وإليك المصير } .
وهذا القول يتضمن الإيمان باليوم الآخر - كما رأينا - والإيمان باليوم الآخر هو أحد مقتضيات الإيمان بالله وفق التصور الإسلامي الذي يقوم على أساس أن الله خلق الإنسان ليستخلفه في الأرض بعهد منه وشرط ، يتناول كل صغيرة وكبيرة من نشاطه في هذه الأرض؛ وأنه خلقه واستخلفه ليبتليه في حياته الدنيا ، ثم ينال جزاءه بعد نهاية الابتلاء . . فاليوم الآخر والجزاء فيه حتمية من حتميات الإيمان وفق التصور الإسلامي . . وهذا الإيمان على هذا النحو هو الذي يكيف ضمير المسلم وسلوكه ، وتقديره للقيم والنتائج في هذه العاجلة . فهو يمضي في طريق الطاعة ، وتحقيق الخير ، والقيام على الحق والاتجاه إلى البر سواء كانت ثمرة ذلك - في الأرض - راحة له أم تعباً .

كسباً له أم خسارة . نصراً له أم هزيمة . وجداناً له أو حرماناً . حياة له أو استشهاداً . لأن جزاءه هناك في الدار الآخرة بعد نجاحه في الابتلاء ، واجتيازه للامتحان . . لا يزحزحه عن الطاعة والحق والخير والبر أن تقف له الدنيا كلها بالمعارضة والأذى والشر والقتل . . فهو إنما يتعامل مع الله؛ وينفذ عهده وشرطه؛ وينتظر الجزاء هناك
إنها الوحدة الكبرى . طابع العقيدة الإسلامية . ترسمه هذه الآية القصيرة : الإيمان بالله وملائكته . والإيمان بجميع كتبه ورسله ، بلا تفريق بين الرسل ، والسمع والطاعة ، والإنابة إلى الله . واليقين بيوم الحساب .
إنه الإسلام . العقيدة اللائقة بأن تكون ختام العقائد ، وآخر الرسالات . العقيدة التي تصور موكب الإيمان الواصب من مبتدى الخليقة إلى منتهاها . وخط الهداية المتصل الموصول بأيدي رسل الله جميعاً . المتدرج بالبشرية في مراقي الصعود . الكاشف لها عن الناموس الواحد بقدر ما تطيق : حتى يجيء الإسلام ، فيعلن وحدة الناموس كاملة ، ويدع للعقل البشري التفصيل والتطبيق .
ثم هي العقيدة التي تعترف بالإنسان إنساناً لا حيواناً ولا حجراً ، ولا ملكاً ولا شيطاناً . تعترف به كما هو . بما فيه من ضعف وما فيه من قوة ، وتأخذه وحدة شاملة مؤلفة من جسد ذي نوازع ، وعقل ذي تقدير ، وروح ذي أشواق . . وتفرض عليه من التكاليف ما يطيق؛ وتراعي التنسيق بين التكليف والطاقة بلا مشقة ولا إعنات؛ وتلبي كل حاجات الجسد والعقل والروح في تناسق يمثل الفطرة . . ثم تحمل الإنسان - بعد ذلك - تبعة اختياره للطريق الذي يختار :
{ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها . لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } .
وهكذا يتصور المسلم رحمة ربه وعدله في التكاليف التي يفرضها الله عليه في خلافته للأرض؛ وفي ابتلائه في أثناء الخلافة؛ وفي جزائه على عمله في نهاية المطاف . ويطمئن إلى رحمة الله وعدله في هذا كله؛ فلا يتبرم بتكاليفه ، ولا يضيق بها صدراً ، ولا يستثقلها كذلك ، وهو يؤمن أن الله الذي فرضها عليه أعلم بحقيقة طاقته ، ولو لم تكن في طاقته ما فرضها عليه . ومن شأن هذا التصور - فضلاً عما يسكبه في القلب من راحة وطمأنينة وأنس - أن يستجيش عزيمة المؤمن للنهوض بتكاليفه ، وهو يحس أنها داخلة في طوقه؛ ولو لم تكن داخلة في طوقه ما كتبها الله عليه؛ فإذا ضعف مرة أو تعب مرة أو ثقل العبء عليه ، أدرك أنه الضعف لا فداحة العبء واستجاش عزيمته ونفض الضعف عن نفسه وهمّ همة جديدة للوفاء ، ما دام داخلاً في مقدروه وهو إيحاء كريم لاستنهاض الهمة كلما ضعفت على طول الطريق فهي التربية كذلك لروح المؤمن وهمته وإرادته؛ فوق تزويد تصوره بحقيقة إرادة الله به في كل ما يكلفه .

ثم الشطر الثاني من هذا التصور :
{ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } .
فردية التبعة ، فلا تنال نفس إلا ما كسبت؛ ولا تحمل نفس إلا ما اكتسبت . . فردية التبعة ، ورجعة كل إنسان إلى ربه بصحيفته الخاصة ، وما قيد فيها له أو عليه . فلا يحيل على أحد ، ولا ينتظر عون أحد . . ورجعة الناس إلى ربهم فرادى من شأنها - حين يستيقنها القلب - أن تجعل كل فرد وحدة إيجابية لا تنزل عن حق الله فيها لأحد من عباده إلا بالحق . وتقف كل إنسان مدافعاً عن حق الله فيه تجاه كل إغراء ، وكل طغيان ، وكل إضلال ، وكل إفساد ، فهو مسؤول عن نفسه هذه وعن حق الله فيها - وحق الله فيها هو طاعته في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه ، وعبوديتها له وحده شعوراً وسلوكاً - فإذا فرط في هذا الحق لأحد من العبيد تحت الإغراء والإضلال ، أو تحت القهر والطغيان - إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان - فما أحد من تلك العبيد بدافع عنه يوم القيامة ولا شافع له؛ وما أحد من تلك العبيد بحامل عنه شيئاً من وزره ولا ناصر له من الله واليوم الآخر . . ومن ثم يستأسد كل إنسان في الدفع عن نفسه والدفاع عن حق الله فيها ، ما دام هو الذي سيلقى جزاءه مفرداً وحيداً ولا خوف من هذه الفردية - في هذا المقام - فمن مقتضيات الإيمان أن ينهض كل فرد في الجماعة بحق الجماعة عليه ، بوصفه طرفاً من حق الله في نفسه . فهو مأمور أن يتكافل مع الجماعة في ماله وكسبه ، وفي جهده ونصحه ، وفي إحقاق الحق في المجتمع وإزهاق الباطل ، وفي تثبيت الخير والبر وإزاحة الشر والنكر . . وكل أولئك يحسب له أو عليه في صحيفته يوم يلقى الله فرداً فيتلقى هنالك جزاءه
وكأنما سمع المؤمنون هذه الحقيقة وأدركوها . . فها هو ذا ينطلق من قلوبهم دعاء خافق واجف ، يذكره النص القرآني بطريقة القرآن التصويرية؛ فكأنما نحن أمام مشهد الدعاء ، وصفوف المؤمنين قائمة تردده في خشوع؛ عقب إعلان حقيقة التكاليف وحقيقة الجزاء :
{ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا . ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا . ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به . واعف عنا ، واغفر لنا ، وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } . .
وهو دعاء يصور حال المؤمنين مع ربهم؛ وإدراكهم لضعفهم وعجزهم ، وحاجتهم إلى رحمته وعفوه ، وإلى مدده وعونه؛ وإلصاق ظهورهم إلى ركنه ، والتجائهم إلى كنفه ، وانتسابهم إليه وتجردهم من كل من عداه؛ واستعدادهم للجهاد في سبيله واستمدادهم النصر منه . . كل أولئك في نغمة وادعة واجفة تصور بإيقاعاتها وجيب القلب ورفرفة الروح .

.
{ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } .
فدائرة الخطأ والنسيان هي التي تحكم تصرف المسلم حين ينتابه الضعف البشري الذي لا حيلة له فيه . وفي مجالها يتوجه إلى ربه يطلب العفو والسماح . وليس هو التبجح إذن بالخطيئة أو الإعراض ابتداء عن الأمر ، أو التعالي عن الطاعة والتسليم؛ أو الزيغ عن عمد وقصد . . ليس في شيء من هذا يكون حال المؤمن مع ربه؛ وليس في شيء من هذا يطمع في عفوه أو سماحته . . إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينيب . . وقد استجاب الله لدعاء عباده المؤمنين في هذا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » .
{ ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا } . .
وهو دعاء ينبعث من وراثة الأمة المسلمة لتراث الرسالة كله ، ومعرفتهم - كما علمهم ربهم في هذا القرآن - بما كان من سلوك الأمم التي جاءتها الرسالات قبلهم؛ وما حملهم الله من الآصار والأثقال عقوبة لهم على بعض ما كان منهم . فقد حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات بعملهم . وفي آية الأنعام : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم } وكتب عليهم قتل أنفسهم تكفيراً عن عبادتهم للعجل كما سبق في أول هذه السورة . وحرم عليهم « السبت » أن يبتغوا فيه تجارة أو صيداً . . وهكذا فالمؤمنون يدعون ربهم ألا يحمل عليهم أثقالاً كالتي حملها على الذين من قبلهم وقد بعث الله النبي الأمي يضع عن المؤمنين به من البشر كافة : { إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } فجاءت هذه العقيدة سمحة ميسرة ، هينة لينة ، تنبع من الفطرة وتتبع خط الفطرة ، وقيل للرسول - صلى الله عليه وسلم - { ونيسرك لليسرى } على أن الإصر الأكبر الذي رفعه الله عن كاهل الأمة المسلمة ، والذي حمله الله على عاتق الأمم التي استخلفها في الأرض قبلهم فنقضت عهد الاستخلاف وحادت عنه . . هذا الإصر الأكبر هو إصر العبودية للبشر . عبودية العبد للعبد . ممثلة في تشريع العبد للعبد . وفي خضوع العبد للعبد لذاته أو لطبقته أو لجنسه . . فهذا هو الإصر الأكبر الذي أطلق الله عباده المؤمنين منه ، فردهم إلى عبادته وحده وطاعته وحده ، وتلقي الشريعة منه وحده ، وحرر بهذه العبودية لله الواحد الأحد أرواحهم وعقولهم وحياتهم كلها من العبودية للعبيد
إن العبودية لله وحده - متمثلة في تلقي الشرائع والقوانين والقيم والموازين منه وحده - هي نقطة الانطلاق والتحرر البشري . الانطلاق والتحرر من سلطان الجبارين والطغاة ، ومن سلطان السدنة والكهنة ، ومن سلطان الأوهام والخرافات ، ومن سلطان العرف والعادة ، ومن سلطان الهوى والشهوة . ومن كل سلطان زائف يمثل الإصر الذي يلوي أعناق البشر ويخفض جباههم لغير الواحد القهار .

ودعاء المؤمنين : { ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا } : يمثل شعورهم بنعمة الانطلاق والتحرر من العبودية للعبيد؛ كما يمثل خوفهم من الارتداد إلى ذلك الدرك السحيق .
{ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } . .
وهو دعاء يشي بحقيقة الاستسلام . فالمؤمنون لا ينوون نكولاً عن تكليف الله أياً كان . ولكنهم فقط يتوجهون إليه راجين متطلعين أن يرحم ضعفهم فلا يكلفهم ما لا يطيقون . كي لا يعجزوا عنه ويقصروا فيه . . وإلا فهي الطاعة المطلقة والتسليم . . إنه طمع الصغير في رحمة الكبير . ورجاء العبد الضعيف في سماحة المالك المتصرف . وطلب ما هو من شأن الله في معاملته لعباده من كرم وبر وود وتيسير .
ثم الاعتراف بالضعف بعد ذلك والتوجس من التقصير ، الذي لا يمحو آثاره إلا فضل الله العفو الغفور :
{ وأعف عنا ، واغفر لنا وارحمنا } .
فهذا هو الضمان الحقيقي لاجتياز الامتحان ، ونيل الرضوان . فالعبد مقصر مهما يحاول من الوفاء . ومن رحمة الله به أن يعامله بالعفو والمرحمة والغفران . . عن عائشة رضي الله عنها ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا يدخل أحدكم الجنة بعمله . . قالوا ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته » .
وهذا هو قوام الأمر في حس المؤمن : عمل بكل ما في الوسع . وشعور مع ذلك بالتقصير والعجز . . ورجاء - بعد ذلك - في الله لا ينقطع . وتطلع إلى العفو والمغفرة والسماح .
وأخيراً يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله ، وهم يهمون بالجهاد في سبيله ، لإحقاق الحق الذي أراده ، وتمكين دينه في الأرض ومنهجه ، { حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله الركين؛ ويرفعون رايته على رؤوسهم فينتسبون إليه وحده . إذا انتسبت الجاهلية إلى شتى الشعارات والعنوانات؛ ويطلبون نصره لأوليائه بما أنه هو مولاهم الوحيد؛ وهم باسمه يقاتلون الكفار الخارجين :
{ أنت مولانا ، فانصرنا على القوم الكافرين } . .
إنه الختام الذي يلخص السورة . ويلخص العقيدة . ويلخص تصور المؤمنين ، وحالهم مع ربهم في كل حين . .

الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)

إذا أخذنا بالروايات التي تقول : إن الآيات الأولى من هذه السورة إلى بضع وثمانين آية منها قد نزلت في مناسبة قدوم الوفد من نصارى نجران اليمن ، ومناظرته للرسول - صلى الله عليه وسلم - في أمر عيسى عليه السلام ، فإن هذا الدرس بجملته يكون داخلا في إطار هذه المناسبة . لولا أن هذه الروايات توقت مجيء ذلك الوفد بالسنة التاسعة للهجرة ، وهي السنة المعروفة في السيرة باسم « عام الوفود » حيث كان الإسلام قد انتهى إلى درجة من القوة والشهرة في الجزيرة العربية كلها - وفيما وراءها كذلك - جعل الوفود من شتى بقاع الجزيرة تفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - تخطب وده ، أو تعرض التعاهد معه ، أو تستجلي حقيقة أمره .
ونحن كما أشرنا فيما تقدم نحس أن الموضوع الذي تعالجه هذه الآيات ، وطريقة علاجها له ، كلاهما يرجح أن هذه الآيات نزلت مبكرة في السنوات الأولى للهجرة . . ومن ثم فنحن أميل إلى اعتبار ما ورد في هذه السورة من حجاج وجدل مع أهل الكتاب ، ونفي للشبهات التي تضمنتها معتقداتهم المنحرفة ، أو التي تعمدوا نثرها حول صحة رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحقيقة عقيدة التوحيد الإسلامية ، وكذلك ما اقتضاه كيد أهل الكتاب من تحذير للجماعة المسلمة وتثبيت . . نحن أميل إلى اعتبار هذا كله غير مقيد بحادث وفد نجران في السنة التاسعة؛ وأنه كانت هناك مناسبات أخرى مبكرة هي التي نزل فيها هذا القرآن من هذه السورة .
ومن ثم سنمضي في استعراض هذه النصوص بوصفها مواجهة لأهل الكتاب غير مقيد بهذا الحادث الخاص المتأخر في التاريخ .
على أن هذه النصوص - كما قلنا في التمهيد للسورة - تكشف عن الصراع الأصيل الدائم بين الجماعة المسلمة وعقيدتها ، وبين أهل الكتاب والمشركين وعقائدهم . . هذا الصراع الذي لم يفتر منذ ظهور الإسلام - وبخاصة منذ مقدمه إلى المدينة وقيام دولته فيها - والذي اشترك فيه المشركون واليهود اشتراكاً عنيفاً يسجله القرآن تسجيلاً رائعاً دقيقاً .
ولا عجب أن يشاركهم بعض رجال الكنيسة في أطراف الجزيرة العربية في صورة من الصور . ليس بعيداً عن الواقع أن يفد أفراد منهم أو جماعات لمناظرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومجادلته في المواضع التي يظهر فيها الاختلاف بين عقائدهم المنحرفة والعقيدة الجديدة القائمة على التوحيد الخالص الناصع - وبخاصة فيما يتعلق بصفة عيسى عليه السلام .
وفي هذا الدرس منذ ابتدائه تحديد لمفرق الطريق بين عقيدة التوحيد الخالصة الناصعة والشبهات والانحرافات . وتهديد لمن يكفر بالفرقان وآيات الله فيه ، واعتبارهم كفاراً ولو كانوا من أهل الكتاب وبيان لحال المؤمنين مع ربهم وموقفهم مما ينزل على رسله .

وهو بيان يحدد الموقف ويحسمه : فللإيمان علاماته التي لا تخطئ وللكفر علاماته التي لا شبهة فيها كذلك
{ الله لا إله إلا هو الحي القيوم . نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان . إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد . والله عزيز ذو انتقام } . .
{ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأُخر متشابهات . فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله ، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ، ما يذكر إلا أولو الألباب } .
{ شهد الله أنه لا إله إلا هو - والملائكة وأولو العلم - قائماً بالقسط . لا إله إلا هو العزيز الحكيم } . .
{ إن الدين عند الله الإسلام . وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم . بغياً بينهم . ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب } . .
كما أن هذا الدرس يحمل تهديداً ، لا خفاء في أنه يتضمن تعريضاً باليهود . وذلك في قوله تعالى : { إن الذين يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير حق ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم } . . فحين يذكر قتل الأنبياء يتجه الذهن مباشرة إلى اليهود
وكذلك النهي الوارد في قوله تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . . } إلخ . فالغالب أن المقصود به هم اليهود . وإن كان من الجائز أن يشمل المشركين أيضاً . فحتى هذا التاريخ كان بعض المسلمين لا يزالون يوالون أقاربهم من المشركين كما يوالون اليهود ، فنهوا عن ذلك كله وحذروا هذا التحذير العنيف . سواء كان الأولياء من اليهود أو من المشركين . فكلهم سماهم { الكافرين }
وظاهر أن قوله تعالى : { قل للذين كفروا : ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين . . . } إلخ . تتضمن الإشارة إلى أحداث غزوة بدر ، وأن الخطاب فيها موجه إلى اليهود . وقد وردت في هذا رواية عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : « لما أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشاً يوم بدر ، وقدم المدينة وجمع اليهود ، وقال : أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشاً ، قالوا : يا محمد : لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش أغماراً لا يعرفون القتال . إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، وأنك لم تلق مثلنا . فأنزل الله تعالى في ذلك : { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم . . - إلى قوله : - { فئة تقاتل في سبيل الله - أي ببدر - وأخرى كافرة } »

. ( أخرجه أبو داود ) .
كذلك يبدو من التلقين الموجه للرسول - صلى الله عليه وسلم - في آية : { فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله - ومن اتبعن - وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين : { أأسلمتم؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا ، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ، والله بصير بالعباد } . . أنه وإن كان هذا التلقين في صدد مناقشة حاضرة ، إلا أنه تلقين عام شامل ، ليواجه به النبي - صلى الله عليه وسلم - كل المخالفين له في العقيدة .
وظاهر من قوله تعالى : { وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد } أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى ذلك الحين لم يكن مأموراً بقتال أهل الكتاب ، ولا بأخذ الجزية منهم ، مما يرجح ما ذهبنا إليه من نزول هذه الآيات في وقت مبكر .
وهكذا نرى من طبيعة النصوص أنها مواجهة عامة غير مقيدة بمناسبة واحدة ، هي مناسبة وفد نجران . وقد تكون هذه إحدى المناسبات التي نزلت هذه النصوص لمواجهتها ، وهي المناسبات الكثيرة المكررة في الصراع بين الإسلام وخصومه المتعددين في الجزيرة . . وبخاصة اليهود في المدينة . .
ثم يتضمن هذا الدرس الأول إيضاحات قوية لأسس التصور الإسلامي من ناحية العقيدة ، وإلى جانبها إيضاحات قوية كذلك في طبيعة هذه العقيدة وآثارها في الحياة الواقعية . هذه الآثار الملازمة للإيمان بها . فهي عقيدة التوحيد لله . ومن ثم تجعل الدين هو الإسلام لله . ولا دين سواه . . الإسلام بمعنى الاستسلام والطاعة والاتباع . الاستسلام لأمره ، والطاعة لشرعه ، والاتباع لرسوله ومنهجه . فمن لم يستسلم ويطع ويتبع فليس بمسلم ، ومن ثم فليس بصاحب دين يرضاه الله . فالله لا يرضى إلا الإسلام . والإسلام - كما قلنا - الاستسلام والطاعة والاتباع . . ومن ثم يرد التعجيب والتشهير بأهل الكتاب الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم { ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون } . . ويعتبر الإعراض عن تحكيم كتاب الله علامة الكفر التي تنفي دعوى الإيمان . الإيمان بالله على الإطلاق
والمقطع الثاني في هذا الدرس يدور كله حول هذه الحقيقة الكبيرة . .
فلنأخذ الآن في الاستعراض التفصيلي لنصوص هذا الدرس من السورة :
{ ألم } . .
هذه الأحرف المقطعة : ألفْ . لام . ميم . نختار في تفسيرها - على سبيل الترجيح لا الجزم - ما اخترنا في مثلها في أول سورة البقرة : « إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف؛ وهي في متناول المخاطبين به من العرب . ولكنه - مع هذا - هو ذلك الكتاب المعجز ، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله . . . إلخ » . .
وهذا الوجه الذي اخترناه في تفسير هذه الأحرف في أوائل السور - على سبيل الترجيح لا الجزم - يتمشى معنا بيسر في إدراك مناسبات هذه « الإشارة » في شتى السور . ففي سورة البقرة كانت الإشارة تتضمن التحدي الذي ورد في السورة بعد ذلك : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين .

. . إلخ } . .
فأما هنا في سورة « آل عمران » فتبدو مناسبة أخرى لهذه « الإشارة » . . هي أن هذا الكتاب منزل من الله الذي لا إله إلا هو . وهو مؤلف من أحرف وكلمات شأنه في هذا شأن ما سبقه من الكتب السماوية التي يعترف بها أهل الكتاب - المخاطبون في السورة - فليس هناك غرابة في أن ينزل الله هذا الكتاب على رسوله بهذه الصورة .
{ الله لا إله إلا هو الحي القيوم . نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه ، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس ، وأنزل الفرقان . إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد ، والله عزيز ذو انتقام . إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء . هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم . هو الذي أنزل عليك الكتاب : منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله - وما يعلم تأويله إلا الله - والراسخون في العلم يقولون : آمنا به ، كل من عند ربنا - وما يذكر إلا أولو الألباب - ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة ، إنك أنت الوهاب . ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ، إن الله لا يخلف الميعاد } . .
هكذا تبدأ السورة في مواجهة أهل الكتاب المنكرين لرسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم بحكم معرفتهم بالنبوات والرسالات والكتب المنزلة والوحي من الله ، كانوا أولى الناس بأن يكونوا أول المصدقين المسلمين . لو أن الأمر أمر اقتناع بحجة ودليل
هكذا تبدأ السورة في مواجهتهم بهذا الشوط القاطع ، الفاصل في أكبر الشبهات التي تحيك في صدورهم ، أو التي يتعمدون نثرها في صدور المسلمين تعمداً . والكاشف لمداخل هذه الشبهات في القلوب ومساربها . والمحدد لموقف المؤمنين الحقيقيين من آيات الله وموقف أهل الزيغ والانحراف والمصور لحال المؤمنين من ربهم والتجائهم إليه ، وتضرعهم له ، ومعرفتهم بصفاته تعالى :
{ الله لا إله إلا هو الحي القيوم } . .
وهذا التوحيد الخالص الناصع هو مفرق الطريق بين عقيدة المسلم وسائر العقائد ، سواء منها عقائد الملحدين والمشركين ، وعقائد أهل الكتاب المنحرفين : يهوداً أو نصارى . على اختلاف مللهم ونحلهم جميعاً . كما أنه هو مفرق الطريق بين حياة المسلم وحياة سائر أهل العقائد في الأرض . فالعقيدة هنا تحدد منهج الحياة ونظامها تحديداً كاملاً دقيقاً .
{ الله لا إله إلا هو } . .
فلا شريك له في الألوهية . . { الحي } .

. الذي يتصف بحقيقة الحياة الذاتية المطلقة من كل قيد فلا شبيه له في صفته . . { القيوم } . . الذي به تقوم كل حياة وبه يقوم كل وجود؛ والذي يقوم كذلك على كل حياة وعلى كل وجود . فلا قيام لحياة في هذا الكون ولا وجود إلا به سبحانه .
وهذا مفرق الطريق في التصور والاعتقاد . ومفرق الطريق في الحياة والسلوك .
مفرق الطريق في التصور والاعتقاد . بين تفرد الله - سبحانه - بصفة الألوهية وذلك الركام من التصورات الجاهلية : سواء في ذلك تصورات المشركين - وقتها في الجزيرة - وتصورات اليهود والنصارى - وبخاصة تصورات النصارى .
ولقد حكى القرآن عن اليهود أنهم كانوا يقولون : عزير ابن الله . كما أن الانحراف الذي سجله ما يعتبره اليهود اليوم « الكتاب المقدس » يتضمن شيئاً كهذا . كما جاء في سفر التكوين : الإصحاح السادس .
فأما انحرافات التصورات المسيحية فقد حكى القرآن منها قولهم : إن الله ثالث ثلاثة . وقولهم : إن الله هو المسيح بن مريم . واتخاذهم المسيح وأمه إلهين من دون الله . واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله . .
وقد جاء في كتاب « الدعوة إلى الإسلام » تأليف أرنولد ، شيء عن هذه التصورات . .
« ولقد أفلح جستنيان قبل الفتح الإسلامي بمائة عام في أن يكسب الإمبراطورية الرومانية مظهراً من مظاهر الوحدة . ولكن سرعان ما تصدعت بعد موته ، وأصبحت في حاجة ماسة إلى شعور قومي مشترك ، يربط بين الولايات وحاضرة الدولة . أما هرقل فقد بذل جهوداً لم تصادف نجاحاً كاملاً في إعادة ربط الشام بالحكومة المركزية . ولكن ما اتخذه من وسائل عامة في سبيل التوفيق قد أدى لسوء الحظ إلى زيادة الانقسام بدلاً من القضاء عليه . ولم يكن ثمة ما يقوم مقام الشعور بالقومية سوى العواطف الدينية . فحاول بتفسيره العقيدة تفسيراً يستعين به على تهدئة النفوس أن يقف ما يمكن أن يشجر بعد ذلك بين الطوائف المتناحرة من خصومات؛ وأن يوحد بين الخارجين على الدين وبين الكنيسة الأرثوذكسية ، وبينهم وبين الحكومة المركزية . . وكان مجمع خلقيدونية قد أعلن في سنة 451 ميلادية أن المسيح ينبغي أن يعترف بأنه يتمثل في طبيعتين لا اختلاط بينهما ، ولا تغير ، ولا تجزؤ ، ولا انفصال . ولا يمكن أن ينتفي خلافهما بسبب اتحادهما . بل الأحرى أن تحتفظ كل طبيعة منهما بخصائصها؛ وتجتمع في أقنوم واحد ، وجسد واحد . لا كما لو كانت متجزئة أو منفصلة في أقنومين . بل متجمعة في أقنوم واحد هو ذلك الابن والله والكلمة . . وقد رفض اليعاقبة هذا المجمع ، وكانوا لا يعترفون في المسيح إلا بطبيعة واحدة . وقالوا : إنه مركب الأقانيم . . له كل الصفات الإلهية والبشرية ولكن المادة التي تحمل هذه الصفات لم تعد ثنائية بل أصبحت وحدة مركبة الأقانيم وكان الجدل قد احتدم قرابة قرنين من الزمان بين طائفة الأرثوذكس وبين اليعاقبة الذين ازدهروا بوجه خاص في مصر والشام والبلاد الخارجة عن نطاق الإمبراطورية البيزنطية ، في الوقت الذي سعى فيه هرقل في إصلاح ذات البين عن طريق المذهب القائل بأن للمسيح مشيئة واحدة .

ففي الوقت الذي نجد فيه هذا المذهب يعترف بوجود الطبيعتين ، إذا به يتمسك بوحدة الأقنوم في حياة المسيح البشرية . وذلك بإنكاره وجود نوعين من الحياة في أقنوم واحد . فالمسيح الواحد ، الذي هو ابن الله ، يحقق الجانب الإنساني والجانب الإلهي بقوة إلهية إنسانية واحدة ومعنى هذا أنه لا يوجد سوى إرادة واحدة في الكلمة المتجسدة . . لكن هرقل قد لقي المصير الذي انتهى إليه كثيرون جداً ممن كانوا يأملون أن يقيموا دعائم السلام . ذلك بأن الجدل لم يحتدم مرة أخرى كأعنف ما يكون فحسب ، بل إن هرقل نفسه قد وصم بالإلحاد ، وجر على نفسه سخط الطائفتين على السواء «
كذلك يقول باحث مسيحي آخر هو » كانون تايلور « عن الحالة بين نصارى الشرق عند البعثة المحمدية : » وكان الناس في الواقع مشركين يعبدون زمرة من الشهداء والقديسين والملائكة « .
أما انحرافات عقائد المشركين فقد حكى القرآن عنها : عبادتهم للجن والملائكة والشمس والقمر والأصنام . وكان أقل عقائدهم انحرافاً عقيدة من يقولون عن هذه الآلهة : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } فأمام هذا الركام من التصورات الفاسدة والمنحرفة التي أشرنا إليها هذه الإشارات الخاطفة جاء الإسلام في هذه السورة - ليعلنها ناصعة واضحة صريحة حاسمة :
{ الله لا إله إلا هو الحي القيوم } .
فكانت مفرق الطريق في التصور والاعتقاد . . كذلك كانت مفرق الطريق في الحياة والسلوك . .
إن الذي يمتلئ شعوره بوجود الله الواحد الذي لا إله إلا هو . الحي الواحد الذي لا حي غيره . القيوم الواحد الذي به تقوم كل حياة أخرى وكل وجود ، كما أنه هو الذي يقوم على كل حي وكل موجود . .
إن الذي يمتلئ شعوره بوجود الله الواحد الذي هذه صفته ، لا بد أن يختلف منهج حياته ونظامها من الأساس عن الذي تغيم في حسه تلك التصورات التائهة المهوشة . فلا يجد في ضميره أثراً لحقيقة الألوهية الفاعلة المتصرفة في حياته
إنه مع التوحيد الواضح الخالص لا مكان لعبودية إلا لله . ولا مكان للاستمداد والتلقي إلا من الله . لا في شريعة أو نظام ، ولا في أدب أو خلق . ولا في اقتصاد أو اجتماع . ولا مكان كذلك للتوجه لغير الله في شأن من شؤون الحياة ، وما بعد الحياة . . أما في تلك التصورات الزائغة المنحرفة المهزوزة الغامضة فلا متجه ولا قرار ، ولا حدود لحرام أو حلال ، ولا لخطإ أو صواب : في شرع أو نظام ، في أدب أو خلق ، وفي معاملة أو سلوك . . فكلها . . كلها .

. إنما تتحدد وتتضح عندما تتحدد الجهة التي منها التلقي ، وإليها التوجه ، ولها الطاعة والعبودية والاستسلام .
ومن ثم كانت هذه المواجهة بذلك الحسم في مفرق الطريق :
{ الله لا إله إلا هو الحي القيوم } . .
ومن ثم كان التميز والتفرد لطبيعة الحياة الإسلامية - لا لطبيعة الاعتقاد وحده - فالحياة الإسلامية بكل مقوماتها إنما تنبثق انبثاقاً من حقيقة هذا التصور الإسلامي عن التوحيد الخالص الجازم . التوحيد الذي لا يستقيم عقيدة في الضمير ما لم تتبعه آثاره العملية في الحياة . من تلقي الشريعة والتوحيد من الله في كل شأن من شؤون الحياة . والتوجه كذلك إلى الله في كل نشاط وكل اتجاه .
وعقب هذا الإيضاح الحاسم في مفرق الطريق ، بإعلان الوحدانية المطلقة لذات الله وصفاته ، يجيء الحديث عن وحدانية الجهة التي تتنزل منها الأديان والكتب والرسالات . أي التي يتنزل منها المنهج الذي يصرف حياة البشر في جميع الأجيال :
{ نزل عليك الكتاب بالحق - مصدقاً لما بين يديه - وأنزل التوراة والإنجيل من قبل - هدى للناس - وأنزل الفرقان . إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد . والله عزيز ذو انتقام } .
وتتضمن هذه الآية في شطرها الأول جملة حقائق أساسية في التصور الاعتقادي ، وفي الرد كذلك على أهل الكتاب وغيرهم من المنكرين لرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحة ما جاء به من عند الله .
فهي تقرر وحدة الجهة التي تتنزل منها الكتب على الرسل . فالله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ، هو الذي نزل هذا القرآن - عليك - كما أنه أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى من قبل . وإذن فلا اختلاط ولا امتزاج بين الألوهية والعبودية . إنما هناك إله واحد ينزل الكتب على المختارين من عباده . وهناك عبيد يتلقون . وهم عبيد لله ولو كانوا أنبياء مرسلين .
وهي تقرر وحدة الدين ووحدة الحق الذي تتضمنه الكتب المنزلة من عند الله . فهذا الكتاب نزله - عليك - { بالحق } . . { مصدقاً لما بين يديه } . . من التوراة والإنجيل . . وكلها تستهدف غاية واحدة : { هدى للناس } . . وهذا الكتاب الجديد « فرقان » بين الحق الذي تضمنته الكتب المنزلة ، والانحرافات والشبهات التي لحقت بها بفعل الأهواء والتيارات الفكرية والسياسية ( التي رأينا نموذجاً منها فيما نقلناه عن الكاتب المسيحي سيرت . و . آرنولد في كتاب « الدعوة إلى الإسلام » ) .
وهي تقرر - ضمناً - أنه لا وجه لتكذيب أهل الكتاب للرسالة الجديدة . فهي سائرة على نمط الرسالات قبلها . وكتابها نزل بالحق كالكتب المنزلة . ونزل على رسول من البشر كما نزلت الكتب على رسل من البشر . وهو مصدق لما بين يديه من كتب الله ، يضم جناحيه على « الحق » الذي تضم جوانحها عليه . وقد نزله من يملك تنزيل الكتب .

. فهو منزل من الجهة التي لها « الحق » في وضع منهاج الحياة للبشر ، وبناء تصوراتهم الاعتقادية ، وشرائعهم وأخلاقهم وآدابهم في الكتاب الذي ينزله على رسوله .
ثم تتضمن الآية في شطرها الثاني التهديد الرعيب للذين كفروا بآيات الله ، وتلوح لهم بعزة الله وقوته وشدة عذابه وانتقامه . . والذين كفروا بآيات الله هم الذين كذبوا بهذا الدين الواحد بإطلاقه . . وأهل الكتاب الذين انحرفوا عن كتاب الله الصحيح المنزل إليهم من قبل ، فقادهم هذا الانحراف إلى التكذيب بالكتاب الجديد - وهو فرقان واضح مبين - هم أول المعنيين هنا بصفة الكفر ، وهم أول من يتوجه إليهم التهديد الرعيب بعذاب الله الشديد وانتقامه الأكيد . .
وفي صدد التهديد بالعذاب والانتقام يؤكد لهم علم الله الذي لا يند عنه شيء ، فلا خفاء عليه ولا إفلات منه :
{ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } . .
وتوكيد العلم المطلق الذي لا يخفى عليه شيء ، وإثبات هذه الصفة لله - سبحانه - في هذا المقام . . هذا التوكيد يتفق أولاً مع وحدانية الألوهية والقوامة التي افتتح بها السياق . كما يتفق مع التهديد الرعيب في الآية السابقة . . فلن يفلت { شيء } من علم الله { في الأرض ولا في السماء } بهذا الشمول والإطلاق . ولن يمكن إذن ستر النوايا عليه ، ولا إخفاء الكيد عنه . ولن يمكن كذلك التفلت من الجزاء الدقيق ، ولا التهرب من العلم اللطيف العميق .
وفي ظلال العلم اللطيف الشامل الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يلمس المشاعر الإنسانية لمسة رفيقة عميقة ، تتعلق بالنشأة الإنسانية . النشأة المجهولة في ظلام الغيب وظلام الأرحام ، حيث لا علم للإنسان ولا قدرة ولا إدراك :
{ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء . لا إله إلا هو العزيز الحكيم } . . . .
هكذا { يصوركم } . . يمنحكم الصورة التي يشاء؛ ويمنحكم الخصائص المميزة لهذه الصورة . وهو وحده الذي يتولى التصوير ، بمحض إرادته ، ومطلق مشيئته : { كيف يشاء } . . { لا إله إلا هو } . . { العزيز } . . ذو القدرة والقوة على الصنع والتصوير { الحكيم } . . الذي يدبر الأمر بحكمته فيما يصور ويخلق بلا معقب ولا شريك .
وفي هذه اللمسة تجلية لشبهات النصارى في عيسى عليه السلام ونشأته ومولده . فالله هو الذي صور عيسى . . { كيف يشاء } لا أن عيسى هو الرب . أو هو الله . أو هو الابن . أو هو الأقنوم اللاهوتي الناسوتي . إلى آخر ما انتهت إليه التصوارت المنحرفة الغامضة المجانبة لفكرة التوحيد الناصعة الواضحة اليسيرة التصور القريبة الإدراك
بعدئذ يكشف الذين في قلوبهم زيغ ، الذين يتركون الحقائق القاطعة في آيات القرآن المحكمة ، ويتبعون النصوص التي تحتمل التأويل ، ليصوغوا حولها الشبهات؛ ويصور سمات المؤمنين حقاً وإيمانهم الخالص وتسليمهم لله في كل ما يأتيهم من عنده بلا جدال :
{ هو الذي أنزل عليك الكتاب .

منه آيات محكمات هن أم الكتاب . وأخر متشابهات . فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله . وما يعلم تأويله إلا الله . والراسخون في العلم يقولون : آمنا به . كل من عند ربنا - وما يذكر إلا أولو الألباب - ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة . إنك أنت الوهاب . ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه . إن الله لا يخلف الميعاد } . .
وقد روى أن نصارى نجران قالوا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ألست تقول عن المسيح : إنه كلمة الله وروحه؟ يريدون أن يتخذوا من هذا التعبير أداة لتثبيت معتقداتهم عن عيسى - عليه السلام - وأنه ليس من البشر ، إنما هو روح الله - على ما يفهمون هم من هذا التعبير - بينما هم يتركون الآيات القاطعة المحكمة التي تقرر وحدانية الله المطلقة ، وتنفي عنه الشريك والولد في كل صورة من الصور . . فنزلت فيهم هذه الآية ، تكشف محاولتهم هذه في استغلال النصوص المجازية المصورة ، وترك النصوص التجريدية القاطعة .
على أن نص الآية أعم من هذه المناسبة؛ فهي تصور موقف الناس على اختلافهم من هذا الكتاب الذي أنزله الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - متضمناً حقائق التصور الإيماني ، ومنهاج الحياة الإسلامية؛ ومتضمناً كذلك أموراً غيبية لا سبيل للعقل البشري أن يدركها بوسائله الخاصة ، ولا مجال له لأن يدرك منها أكثر مما تعطيه النصوص بذاتها .
فأما الأصول الدقيقة للعقيدة والشريعة فهي مفهومة المدلولات قاطعة الدلالة ، مدركة المقاصد - وهي أصل هذا الكتاب - وأما السمعيات والغيبيات - ومنها نشأة عيسى عليه السلام ومولده - فقد جاءت للوقوف عند مدلولاتها القريبة والتصديق بها لأنها صادرة من هذا المصدر « الحق » ويصعب إدراك ماهياتها وكيفياتها ، لأنها بطبيعتها فوق وسائل الإدراك الإنساني المحدود .
وهنا يختلف الناس - حسب استقامة فطرتهم أو زيغها - في استقبال هذه الآيات وتلك . فأما الذين في قلوبهم زيغ وانحراف وضلال عن سواء الفطرة ، فيتركون الأصول الواضحة الدقيقة التي تقوم عليها العقيدة والشريعة والمنهاج العملي للحياة ، ويجرون وراء المتشابه الذي يعوّل في تصديقه على الإيمان بصدق مصدره ، والتسليم بأنه هو الذي يعلم « الحق » كله ، بينما الإدراك البشري نسبي محدود المجال . كما يعول فيه على استقامة الفطرة التي تدرك بالإلهام المباشر صدق هذا الكتاب كله ، وأنه نزل بالحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . . يجرون وراء المتشابه لأنهم يجدون فيه مجالاً لإيقاع الفتنة بالتأويلات المزلزلة للعقيدة ، والاختلافات التي تنشأ عن بلبلة الفكر ، نتيجة إقحامه فيما لا مجال للفكر في تأويله . . { وما يعلم تأويله إلا الله } . .
وأما الراسخون في العلم ، الذين بلغ من علمهم أن يعرفوا مجال العقل وطبيعة التفكير البشري ، وحدود المجال الذي يملك العمل فيه بوسائله الممنوحة له .

. أما هؤلاء فيقولون في طمأنينة وثقة :
{ آمنا به ، كل من عند ربنا } . .
يدفعهم إلى هذه الطمأنينة ، أنه من عند ربهم . فهو إذن حق وصدق . وما يقرره الله صادق بذاته . وليس من وظيفة العقل البشري ولا في طوقه أن يبحث عن أسبابه وعلله ، كما أنه ليس في طوقه أن يدرك ماهيته وطبيعة العلل الكامنة وراءه .
والراسخون في العلم يطمئنون ابتداء إلى صدق ما يأتيهم من عند الله . يطمئنون إليه بفطرتهم الصادقة الواصلة . . ثم لا يجدون من عقولهم شكاً فيه كذلك؛ لأنهم يدركون أن من العلم ألا يخوض العقل فيما لا مجال فيه للعلم ، وفيما لا تؤهله وسائله وأدواته الإنسانية لعلمه . .
وهذا تصوير صحيح للراسخين في العلم . . فما يتبجح وينكر إلا السطحيون الذين تخدعهم قشور العلم ، فيتوهمون أنهم أدركوا كل شيء ، وأن ما لم يدركوه لا وجود له؛ أو يفرضون إدراكهم على الحقائق ، فلا يسمحون لها بالوجود إلا على الصورة التي أدركوها . ومن ثم يقابلون كلام الله المطلق بمقررات عقلية لهم صاغتها عقولهم المحدودة أما العلماء حقاً فهم أكثر تواضعاً ، وأقرب إلى التسليم بعجز العقل البشري عن إدراك حقائق كثيرة تكبر طاقته وترتفع عليها . كما أنهم أصدق فطرة فما تلبث فطرتهم الصادقة أن تتصل بالحق وتطمئن إليه .
{ وما يذكر إلا أولو الألباب } . .
وكأنه ليس بين أولي الألباب وإدراك الحق إلا أن يتذكروا . . فإذا الحق المستقر في فطرتهم الموصولة بالله ، ينبض ويبرز ويتقرر في الألباب .
عندئذ تنطلق ألسنتهم وقلوبهم في دعاء خاشع وفي ابتهال منيب : أن يثبتهم على الحق ، وألا يزيغ قلوبهم بعد الهدى ، وأن يسبغ عليهم رحمته وفضله . . ويتذكرون يوم الجمع الذي لا ريب فيه ، والميعاد الذي لا خلف له :
{ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا . وهب لنا من لدنك رحمة . إنك أنت الوهاب . ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه . إن الله لا يخلف الميعاد } . .
هذا هو حال الراسخين في العلم مع ربهم؛ وهو الحال اللائق بالإيمان؛ المنبثق من الطمأنينة لقول الله ووعده؛ والثقة بكلمته وعهده؛ والمعرفة برحمته وفضله؛ والإشفاق مع هذا من قضائه المحكم وقدره المغيب؛ والتقوى والحساسية واليقظة التي يفرضها الإيمان على قلوب أهله ، فلا تغفل ولا تغتر ولا تنسى في ليل أو نهار . .
والقلب المؤمن يدرك قيمة الاهتداء بعد الضلال . قيمة الرؤية الواضحة بعد الغبش . قيمة الاستقامة على الدرب بعد الحيرة . قيمة الطمأنينة للحق بعد الأرجحة . قيمة التحرر من العبودية للعبيد بالعبودية لله وحده . قيمة الاهتمامات الرفيعة الكبيرة بعد اللهو بالاهتمامات الصغيرة الحقيرة . . ويدرك أن الله منحه بالإيمان كل هذا الزاد . . ومن ثم يشفق من العودة إلى الضلال ، كما يشفق السائر في الدرب المستقيم المنير أن يعود إلى التخبط في المنعرجات المظلمة .

وكما يشفق من ذاق نداوة الظلال أن يعود إلى الهجير القائظ والشواظ وفي بشاشة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق جفاف الإلحاد وشقاوته المريرة . وفي طمأنينة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق شقوة الشرود والضلال
ومن ثم يتجه المؤمنون إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع :
{ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } . .
وينادون رحمة الله التي أدركتهم مرة بالهدى بعد الضلال ، ووهبتهم هذا العطاء الذي لا يعدله عطاء :
{ وهب لنا من لدنك رحمة . إنك أنت الوهّاب } . .
وهم بوحي إيمانهم يعرفون أنهم لا يقدرون على شيء إلا بفضل الله ورحمته . . وأنهم لا يملكون قلوبهم فهي في يد الله . . فيتجهون إليه بالدعاء أن يمدهم بالعون والنجاة .
عن عائشة - رضي الله - عنها قالت : « كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يدعو : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قلت : يا رسول الله ، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء . فقال : ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن . إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه » .
ومتى استشعر القلب المؤمن وقع المشيئة على هذا النحو لم يكن أمامه إلا أن يلتصق بركن الله في حرارة . وأن يتشبث بحماه في إصرار ، وأن يتجه إليه يناشده رحمته وفضله ، لاستبقاء الكنز الذي وهبه ، والعطاء الذي أولاه
بعد هذا البيان يتجه إلى تقرير مصير الذين كفروا ، وسنة الله التي لا تتخلف في أخذهم بذنوبهم ، وإلى تهديد الذين يكفرون من أهل الكتاب ، ويقفون لهذا الدين ، ويلقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ينذرهم ، ويذكرهم ما رأوه بأعينهم في غزوة بدر من نصر القلة المؤمنة على حشود الكافرين :
{ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ، وأولئك هم وقود النار . كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا : فأخذهم الله بذنوبهم ، والله شديد العقاب . قل للذين كفروا . ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين ، والله يؤيد بنصره من يشاء ، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } . .
إن هذه الآيات واردة في صدد خطاب بني إسرائيل ، وتهديدهم بمصير الكفار قبلهم وبعدهم . وفيها لفتة لطيفة عميقة الدلالة كذلك . . فهو يذكرهم فيها بمصير آل فرعون . . وكان الله سبحانه قد أهلك آل فرعون وأنجى بني إسرائيل . ولكن هذا لا يمنحهم حقاً خاصاً إذا هم ضلوا وكفروا ، ولا يعصمهم أن يوصموا بالكفر إذا هم انحرفوا ، وأن ينالوا جزاء الكافرين في الدنيا والآخرة كما نال آل فرعون الذين أنجاهم الله منهم
كذلك يذكرهم مصارع قريش في بدر - وهم كفار - ليقول لهم : إن سنة الله لا تتخلف .

وإنه لا يعصمهم عاصم من أن يحق عليهم ما حق على قريش . فالعلة هي الكفر . وليس لأحد على الله دالة ، ولا له شفاعة إلا بالإيمان الصحيح
{ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ، وأولئك هم وقود النار } . .
والأموال والأولاد مظنة حماية ووقاية؛ ولكنهما لا يغنيان شيئاً في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه ، لأنه لا إخلاف لميعاد الله . وهم فيه : { وقود النار } . . بهذا التعبير الذي يسلبهم كل خصائص « الإنسان » ومميزاته ، ويصورهم في صورة الحطب والخشب وسائر « وقود النار » . .
لا بل إن الأموال والأولاد ، ومعهما الجاه والسلطان ، لا تغني شياً في الدنيا :
{ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا ، فأخذهم الله بذنوبهم ، والله شديد العقاب } . .
وهو مثل مضى في التاريخ مكروراً ، وقصة الله في هذا الكتاب تفصيلاً : وهو يمثل سنة الله في المكذبين بآياته ، يجريها حيث يشاء . فلا أمان إذن ولا ضمان لمكذب بآيات الله .
وإذن فالذين كفروا وكذبوا بدعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وآيات الكتاب الذي نزله عليه بالحق ، معرضون لهذا المصير في الدنيا والآخرة سواء . . ومن ثم يلقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ينذرهم هذا المصير في الدارين ، وأن يضرب لهم المثل بيوم بدر القريب ، فلعلهم نسوا مثل فرعون والذين من قبله في التكذيب والأخذ الشديد :
{ قل للذين كفروا : ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين . والله يؤيد بنصره من يشاء . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } . .
وقوله تعالى : { يرونهم مثليهم رأي العين } يحتمل تفسيرين : فإما أن يكون ضمير « يرون » راجعاً إلى الكفار ، وضمير « هم » راجعاً إلى المسلمين ، ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين { مثليهم } . . وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة ، فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم .
وإما أن يكون العكس ، ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين { مثليهم } هم - في حين أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم - ومع هذا ثبتوا وانتصروا .
والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره . . وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد . كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم . . وكان الموقف - كما ذكرنا في التمهيد للسورة - يقتضي هذا وذاك . . وكان القرآن يعمل هنا وهناك . .
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة . وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة . . إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله ، قائم في كل لحظة .

ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة - ولو قل عددها - قائم كذلك في كل لحظة . وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ ، وسنة ماضية لم تتوقف .
وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة؛ وتثق في ذلك الوعد؛ وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة؛ وتصبر حتى يأذن الله؛ ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله ، المدبر بحكمته ، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة .
{ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } . .
ولا بد من بصر ينظر وبصير تتدبر ، لتبرز العبرة ، وتعيها القلوب . وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار
وفي مجال التربية للجماعة المسلمة يكشف لها عن البواعث الفطرية الخفية التي من عندها يبدأ الانحراف؛ إذا لم تضبط باليقظة الدائمة؛ وإذا لم تتطلع النفس إلى آفاق أعلى؛ وإذا لم تتعلق بما عند الله وهو خير وأزكى .
إن الاستغراق في شهوات الدنيا ، ورغائب النفوس ، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار؛ ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة؛ ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى؛ ويغلظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة؛ ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض؛ واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض .
ولما كانت هذه الرغائب والدوافع - مع هذا - طبيعية وفطرية ، ومكلفة من قبل البارئ - جل وعلا - أن تؤدي للبشرية دوراً أساسياً في حفظ الحياة وامتدادها ، فإن الإسلام لا يشير بكبتها وقتلها ، ولكن إلى ضبطها وتنظيمها ، وتخفيف حدتها واندفاعها؛ وإلى أن يكون الإنسان مالكاً لها متصرفاً فيها ، لا أن تكون مالكة له متصرفة فيه؛ وإلى تقوية روح التسامي فيه والتطلع إلى ما هو أعلى .
ومن ثم يعرض النص القرآني الذي يتولى هذا التوجيه التربوي . . هذه الرغائب والدافع ، ويعرض إلى جوارها على امتداد البصر ألواناً من لذائذ الحس والنفس في العالم الآخر ، ينالها من يضبطون أنفسهم في هذه الحياة الدنيا عن الاستغراق في لذائذها المحببة ، ويحتفظون بإنسانيتهم الرفيعة .
وفي آية واحدة يجمع السياق القرآني أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان : النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام . . وهي خلاصة للرغائب الأرضية . إما بذاتها ، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى . . وفي الآية التالية يعرض لذائذ أخرى في العالم الآخر : جنات تجري من تحتها الأنهار . وأزواج مطهرة . وفوقها رضوان من الله . . وذلك كله لمن يمد ببصره إلى أبعد من لذائذ الأرض ، ويصل قلبه بالله على النحو الذي تعرضه آيتان تاليتان :
{ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والخيل المسومة ، والأنعام ، والحرث .

. ذلك متاع الحياة الدنيا ، والله عنده حسن المآب . قل : أؤنبئكم بخير من ذلكم؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار - خالدين فيها - وأزواج مطهرة ، ورضوان من الله . والله بصير بالعباد . الذين يقولون : ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار . الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار } . .
{ زين للناس } . وصياغة الفعل للمجهول هنا تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمن هذا الميل؛ فهو محبب ومزين . . وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه . ففي الإنسان هذا الميل إلى هذه « الشهوات » ، وهو جزء من تكوينه الأصيل ، لا حاجة إلى إنكاره ، ولا إلى استنكاره في ذاته . فهو ضروري للحياة البشرية كي تتأصل وتنمو وتطرد - كما أسلفنا - ولكن الواقع يشهد كذلك بأن في فطرة الإنسان جانباً آخر يوازن ذلك الميل ، ويحرس الإنسان أن يستغرق في ذلك الجانب وحده؛ وأن يفقد قوة النفخة العلوية أو مدلولها وإيحاءها . هذا الجانب الآخر هو جانب الاستعداد للتسامي ، والاستعداد لضبط النفس ووقفها عند الحد السليم من مزاولة هذه « الشهوات » . الحد الباني للنفس وللحياة؛ مع التطلع المستمر إلى ترقية الحياة ورفعها إلى الأفق الذي تهتف إليه النفحة العلوية ، وربط القلب البشري بالملإ الأعلى والدار الآخرة ورضوان الله . . هذا الاستعداد الثاني يهذب الاستعداد الأول ، وينقيه من الشوائب ، ويجعله في الحدود المأمونة التي لا يطغى فيها جانب اللذة الحسية ونزعاتها القريبة ، على الروح الإنسانية وأشواقها البعيدة . . والاتجاه إلى الله ، وتقواه ، هو خيط الصعود والتسامي إلى تلك الأشواق البعيدة .
{ زين للناس حب الشهوات } . . فهي شهوات مستحبة مستلذة؛ وليست مستقذرة ولا كريهة . والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها؛ إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها ، ووضعها في مكانها لا تتعداه ، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى . والتطلع إلى آفاق أخرى بعد أخذ الضروري من تلك « الشهوات » في غير استغراق ولا إغراق
وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولها بواقعها ، ومحاولة تهذيبها ورفعها ، لا كبتها وقمعها . . والذين يتحدثون في هذه الأيام عن « الكبت » وأضراره ، وعن « العقد النفسية » التي ينشئها الكبت والقمع ، يقررون أن السبب الرئيسي للعقد هو « الكبت » وليس هو « الضبط » . . وهو استقذار دوافع الفطرة واستنكارها من الأساس ، مما يوقع الفرد تحت ضغطين متعارضين : ضغط من شعوره - الذي كونه الإيحاء أو كونه الدين أو كونه العرف - بأن دوافع الفطرة دوافع قذرة لا يجوز وجودها أصلاً ، فهي خطيئة ودافع شيطاني وضغط هذه الدوافع التي لا تغلب لأنها عميقة في الفطرة ، ولأنها ذات وظيفة أصيلة في كيان الحياة البشرية ، لا تتم إلا بها ، ولم يخلقها الله في الفطرة عبثاً .

. وعندئذ وفي ظل هذا الصراع تتكون « العقد النفسية » . . فحتى إذا سلمنا جدلاً بصحة هذه النظريات النفسية ، فإننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من هذا الصراع بين شطري النفس البشرية . بين نوازع الشهوة واللذة ، وأشواق الارتفاع والتسامي . . وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال .
{ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث . . . } . .
والنساء والبنون شهوة من شهوات النفس الإنسانية قوية . . وقد قرن اليهما { القناطير المقنطرة } من الذهب والفضة . . ونهم المال هو الذي ترسمه { القناطير المقنطرة } ولو كان يريد مجرد الميل إلى المال لقال : والأموال . أو والذهب والفضة . ولكن القناطير المقنطرة تلقي ظلاً خاصاً هو المقصود . ظل النهم الشديد لتكديس الذهب والفضة . ذلك أن التكديس ذاته شهوة . بغض النظر عما يستطيع المال توفيره لصاحبه من الشهوات الأخرى
ثم قرن إلى النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة . . الخيل المسومة . والخيل كانت - وما تزال حتى في عصر الآلة المادي اليوم - زينة محببة مشتهاة . ففي الخيل جمال وفتوة وانطلاق وقوة . وفيها ذكاء وألفة ومودة . وحتى الذين لا يركبونها فروسية ، يعجبهم مشهدها ، ما دام في كيانهم حيوية تجيش لمشهد الخيل الفتية
وقرن إلى تلك الشهوات الأنعامَ والحرث . وهما يقترنان عادة في الذهن وفي الواقع . . الأنعام والحقول المخصبة . . والحرث شهوة بما فيه من مشهد الإنبات والنماء . وإن تفتح الحياة في ذاته لمشهد حبيب فإذا أضيفت إليه شهوة الملك ، كان الحرث والأنعام شهوة .
وهذه الشهوات التي ذكرت هنا هي نموذج لشهوات النفوس ، يمثل شهوات البيئة التي كانت مخاطبة بهذا القرآن؛ ومنها ما هو شهوة كل نفس على مدار الزمان . والقرآن يعرضها ثم يقرر قيمتها الحقيقية ، لتبقى في مكانها هذا لا تتعداه ، ولا تطغى على ما سواه :
{ ذلك متاع الحياة الدنيا } . .
ذلك كله الذي عرضه من اللذائذ المحببة - وسائر ما يماثله من اللذائذ والشهوات - متاع الحياة الدنيا . لا الحياة الرفيعة ، ولا الآفاق البعيدة . . متاع هذه الأرض القريب . . فأما من أراد الذي هو خير . . خير من ذلك كله . خير لأنه أرفع في ذاته . وخير لأنه يرفع النفس ويصونها من الاستغراق في الشهوات ، والانكباب على الأرض دون التطلع إلى السماء . . من أراد الذي هو خير فعند الله من المتاع ما هو خير . وفيه عوض كذلك عن تلك الشهوات :
{ قل : أؤنبئكم بخير من ذلكم؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار - خالدين فيها - وأزواج مطهرة ، ورضوان من الله ، والله بصير بالعباد } . .
وهذا المتاع الأخروي الذي تذكره الآية هنا ، ويؤمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبشر به المتقين ، هو نعيم حسي في عمومه .

. ولكن هنالك فارقاً أساسياً بينه وبين متاع الدنيا . . إنه متاع لا يناله إلا الذين اتقوا . الذين كان خوف الله وذكره في قلوبهم . وشعور التقوى شعور مهذب للروح والحس جميعاً . شعور ضابط للنفس أن تستغرقها الشهوات ، وأن تنساق فيها كالبهيمة . فالذين اتقوا ربهم حين يتطلعون إلى هذا المتاع الحسي الذي يبشرون به يتطلعون إليه في شفافية مبرأة من غلظة الحس وفي حساسية مبرأة من بهيمية الشهوة ويرتفعون بالتطلع إليه - وهم في هذه الأرض - قبل أن ينتهي بهم المطاف إلى قرب الله . .
وفي هذا المتاع النظيف العفيف عوض كامل عن متاع الدنيا . . وفيه زيادة . .
فإذا كان متاعهم في الدنيا حرثاً مُعطياً مخصباً ، ففي الآخرة جنات كاملة تجري من تحتها الأنهار . وهي فوق هذا خالدة وهم خالدون فيها ، لا كالحرث المحدود الميقات
وإذا كان متاعهم في الدنيا نساء وبنين ، ففي الآخرة أزواج مطهرة . وفي طهارتها فضل وارتفاع على شهوات الأرض في الحياة
فأما الخيل المسومة والأنعام . وأما القناطير المقنطرة من الذهب والفضة . فقد كانت في الدنيا وسائل لتحقيق متاع . فأما في نعيم الآخرة فلا حاجة إلى الوسائل لبلوغ الغايات
ثم . . هنالك ما هو أكبر من كل متاع . . هنالك { رضوان من الله } . رضوان يعدل الحياة الدنيا والحياة الأخرى كليهما . . ويرجح . . رضوان . بكل ما في لفظه من نداوة . وبكل ما في ظله من حنان .
{ والله بصير بالعباد } . .
بصير بحقيقة فطرتهم وما ركب فيها من ميول ونوازع . بصير بما يصلح لهذه الفطرة من توجيهات وإيحاءات . بصير بتصريفها في الحياة وما بعد الحياة .
ثم وصف لهؤلاء العباد ، يصور حال المتقين مع ربهم ، الحال التي استحقوا عليها هذا الرضوان :
{ الذين يقولون : ربنا إننا آمنا ، فاغفر لنا ذنوبنا ، وقنا عذاب النار . الصابرين والصادقين . والقانتين . والمنفقين . والمستغفرين بالأسحار } . .
وفي دعائهم ما ينم عن تقواهم . فهو إعلان للإيمان ، وشفاعة به عند الله ، وطلب للغفران ، وتوقٍ من النيران .
وفي كل صفة من صفاتهم تتحقق سمة ذات قيمة في حياة الإنسانية وفي حياة الجماعة المسلمة :
في الصبر ترفع على الألم واستعلاء على الشكوى ، وثبات على تكاليف الدعوة ، وأداء لتكاليف الحق ، وتسليم لله واستسلام لما يريد بهم من الأمر ، وقبول لحكمه ورضاء . .
وفي الصدق اعتزاز بالحق الذي هو قوام الوجود ، وترفع عن الضعف؛ فما الكذب إلا ضعف عن كلمة الحق ، اتقاء لضرر أو اجتلابا لمنفعة .
وفي القنوت لله أداء لحق الألوهية وواجب العبودية؛ وتحقيق لكرامة النفس بالقنوت لله الواحد الذي لا قنوت لسواه .
وفي الإنفاق تحرر من استذلال المال؛ وانفلات من ربقة الشح؛ وإعلاء لحقيقة الأخوة الإنسانية على شهوة اللذة الشخصية؛ وتكافل بين الناس يليق بعالم يسكنه الناس
والاستغفار بالأسحار بعد هذا كله يلقي ظلالاً رفافة ندية عميقة .

. ولفظة « الأسحار » بذاتها ترسم ظلال هذه الفترة من الليل قبيل الفجر . الفترة التي يصفو فيها الجو ويرق ويسكن؛ وتترقرق فيها خواطر النفس وخوالجها الحبيسة فإذا انضمت إليها صورة الاستغفار ألقت تلك الظلال المنسابة في عالم النفس وفي ضمير الوجود سواء . وتلاقت روح الإنسان وروح الكون في الاتجاه لبارئ الكون وبارئ الإنسان .
هؤلاء الصابرون ، الصادقون ، القانتون ، المنفقون ، المستغفرون بالأسحار . . لهم { رضوان من الله } . . وهم أهل لهذا الرضوان : ظله الندي ومعناه الحاني . وهو خير من كل شهوة وخير من كل متاع . .
وهكذا يبدأ القرآن بالنفس البشرية من موضعها على الأرض . . وشيئاً فشيئاً يرف بها في آفاق وأضواء ، حتى ينتهي بها إلى الملإ الأعلى في يسر وهينة ، وفي رفق ورحمة . وفي اعتبار لكامل فطرتها وكامل نوازعها . وفي مراعاة لضعفها وعجزها ، وفي استجاشة لطاقاتها وأشواقها ، ودون ما كبت ولا إكراه . ودون ما وقف لجريان الحياة . . فطرة الله . ومنهج الله لهذه الفطرة . . { والله بصير بالعباد } . .
وإلى هنا كان سياق السورة يستهدف تقرير حقيقة التوحيد : توحيد الألوهية والقوامة ، وتوحيد الكتاب والرسالة . . ويصور موقف المؤمنين حقاً والمنحرفين الذين في قلوبهم زيغ ، من آيات الله وكتابه . . ويهدد المنحرفين بمصير كمصير الذين كفروا في الماضي وفي الحاضر . . ثم يكشف عن الدوافع الفطرية التي تلهي عن الاعتبار؛ ويصور حال المتقين مع ربهم والتجاءهم إلى الله . .
فالآن - وإلى نهاية هذا الدرس - نجدنا أمام حقيقة أخرى . . هي مقتضى الحقيقة الأولى . . فحقيقة التوحيد تستلزم مصداقاً لها في واقع الحياة البشرية ، هو الذي يقرره الشطر الثاني من هذا الدرس .
ومن ثم يبدأ بإعادة تقرير الحقيقة الأولى ليرتب عليها آثارها الملازمة لها . . يبدأ بشهادة الله - سبحانه - { أنه لا إله إلا هو } وشهادة الملائكة وأولي العلم بهذه الحقيقة . ويقرر معها صفة الله المتعلقة بالقوامة ، وهي قيامه بالقسط في أمر الناس وفي أمر الكون .
وما دام الله متفرداً بالألوهية وبالقوامة فإن أول مستلزمات الإقرار بهذه الحقيقة ، هو الإقرار بالعبودية لله وحده وتحكيمه في شأن العبيد كله؛ واستسلام العبيد لإلههم ، وطاعتهم للقيوم عليهم ، واتباعهم لكتابه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - .
ويضمن هذه الحقيقة قوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } . . فهو لا يقبل ديناً سواه من أحد . . الإسلام الذي هو الاستسلام والطاعة والاتباع . . وإذن فليس الدين الذي يقبله الله من الناس هو مجرد تصور في العقل؛ ولا مجرد تصديق في القلب . إنما هو القيام بحق هذا التصديق وذلك التصور . . هو تحكيم منهج الله في أمر العباد كله ، وطاعتهم لما يحكم به ، واتباعهم لرسوله في منهجه .
وهكذا . . يعجب من أهل الكتاب ويشهر بأمرهم . . إذ يدعون أنهم على دين الله . ثم { يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون } مما ينقض دعوى التدين من الأساس .

فلا دين يقبله الله إلا الإسلام . ولا إسلام بغير استسلام لله وطاعة لرسوله ، واتباع لمنهجه ، وتحكيم لكتابه في أمور الحياة . .
ويكشف عن علة هذا الإعراض - الذي هو التعبير الواقعي عن عدم الإيمان بدين الله - فإذا هي عدم الاعتقاد بجدية « القسط » في الجزاء يوم الحساب : { ذلك بأنهم قالوا : لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات } . . معتمدين على أنهم أهل كتاب { وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون } . . وهو غرور خادع . فما هم بأهل كتاب ، وما هم بمؤمنين أصلاً . وما هم على دين الله إطلاقاً؛ وهم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون .
وبهذا الجزم القاطع يقرر الله سبحانه في القرآن الكريم معنى الدين وحقيقة التدين . . فلا يقبل من العباد إلا صورة واحدة ناصعة قاطعة . . الدين : الإسلام . والإسلام : التحاكم إلى كتاب الله وطاعته واتباعه . . فمن لم يفعل فليس له دين ، وليس مسلماً؛ وإن ادعى الإسلام وادعى أنه على دين الله . فدين الله يحدده ويقرره ويفسره الله ، وليس خاضعاً في تعريفه وتحديده لأهواء البشر . . كل يحدده أو يعرّفه كما يشاء
لا . بل إن الذي يتخذ الكفار أولياء - والكفار كما يقرر السياق هم الذين لا يقبلون التحاكم إلى كتاب الله - { فليس من الله في شيء } . . ولا علاقة له بالله في شيء ولا صلة بينه وبين الله في شيء . . مجرد من يتولى وينصر أو يستنصر أولئك الكفار الذين يرفضون أن يتحاكموا إلى كتاب الله . ولو ادعوا أنهم على دين الله
ويشتد التحذير من هذه الولاية التي تذهب بالدين من أساسه . ويضيف السياق إلى التحذير التبصير . تبصير الجماعة المسلمة بحقيقة القوى التي تعمل في هذا الوجود . فالله وحده هو السيد المتصرف ، مالك الملك ، يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء . . وهذا التصريف لأمر الناس ليس إلا طرفاً من التصريف لأمر الكون كله . فهو كذلك يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي . . وهذا هو القيام بالقسط في أمر الناس وفي أمر الكون ، فلا داعي إذن لولاية غيره من العباد ، مهما يكن لهم من قوة ومن مال وأولاد .
ويشي هذا التحذير المؤكد المكرر بما كان واقعاً في الجماعة المسلمة يومذاك من عدم وضوح الأمر تماماً؛ ومن تشبث بعضهم بصلاته العائلية والقومية والاقتصادية مع المشركين في مكة ومع اليهود في المدينة ، مما اقتضى هذا التفسير والتحذير . كما أنه يشي بطبيعة ميل النفس البشرية إلى التأثر بالقوى البشرية الظاهرة ، وضرورة تذكيرها بحقيقة الأمر وحقيقة القوى ، إلى جانب إيضاح أصل العقيدة ومقتضياتها في واقع الحياة .

ويختم الدرس بكلمة حاسمة قاطعة : إن الإسلام هو طاعة الله والرسول . وإن الطريق إلى الله هو طريق الاتباع للرسول . وليس مجرد الاعتقاد بالقلب ، ولا الشهادة باللسان : { قل : إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله . . . } { قل : أطيعوا الله والرسول . فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } . . فإما طاعة واتباع يحبه الله ، وإما كفر يكرهه الله . . وهذا هو مفرق الطريق الواضح المبين . .
فلنأخذ في التفصيل بعد هذا الإجمال . .
{ شهد الله أنه لا إله إلا هو - والملائكة وأولو العلم - قائماً بالقسط . لا إله إلا هو العزيز الحكيم } . .
هذه هي الحقيقة الأولى التي يقوم عليها التصور الاعتقادي في الإسلام . حقيقة التوحيد : توحيد الألوهية ، وتوحيد القوامة . . القوامة بالقسط . . وهي الحقيقة التي بدأت بها السورة : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } . . وهي تستهدف إقرار حقيقة العقيدة الإسلامية من جهة ، وجلاء الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب من جهة . جلاءها عن أهل الكتاب أنفسهم ، وجلاءها عن المسلمين الذين قد تؤثر هذه الشبهات في عقيدتهم .
وشهادة الله - سبحانه - أنه لا إله إلا هو . . هي حسب كل من يؤمن بالله . . وقد يقال : إنه لا يكتفي بشهادة الله إلا من يؤمن بالله وأن من يؤمن بالله . ليس في حاجة إلى هذه الشهادة . . ولكن واقع الأمر أن أهل الكتاب كانوا يؤمنون بالله ولكنهم في نفس الوقت يجعلون له ابناً وشريكاً . بل إن المشركين أنفسهم كانوا يؤمنون بالله ، ولكن الضلال كان يجيئهم من ناحية الشركاء والأنداد والأبناء والبنات فإذا قرر لهؤلاء وهؤلاء أن الله - سبحانه - شهد أنه لا إله إلا هو ، فهذا مؤثر قوي في تصحيح تصوراتهم .
على أن الأمر - كما يبدو من متابعة السياق كما تابعناه فيما تقدم - أعمق من هذا وأدق . فإن شهادة الله - سبحانه - بأنه لا إله إلا هو ، مسوقة هنا ليساق بعدها ما هو من مستلزماتها؛ وهو أنه لا يقبل إذن من العباد إلا العبودية الخالصة له ، الممثلة في الإسلام بمعنى الاستسلام - لا اعتقاداً وشعوراً فحسب - ولكن كذلك عملاً وطاعة واتباعاً للمنهج العملي الواقعي المتمثل في أحكام الكتاب . . ومن هذه الناحية نجد كثيرين في كل زمان يقولون : إنهم يؤمنون بالله ، ولكنهم يشركون معه غيره في الألوهية ، حين يتحاكمون إلى شريعة من صنع غيره ، وحين يطيعون من لا يتبع رسوله وكتابه؛ وحين يتلقون التصورات والقيم والموازين والأخلاق والآداب من غيره . . فهذه كلها تناقض القول بأنهم يؤمنون بالله . ولا تستقيم مع شهادة الله - سبحانه - بأنه لا إله إلا هو .
وأما شهادة الملائكة وشهادة أولي العلم ، فهي متمثلة في طاعتهم لأوامر الله وحدها ، والتلقي عن الله وحده ، والتسليم بكل ما يجيئهم من عنده بدون تشكك ولا جدال ، متى ثبت لهم أنها من عنده .

وقد سبق في السورة بيان حال أولي العلم هؤلاء في قوله : { والراسخون في العلم يقولون : آمنا به ، كل من عند ربنا } . . فهذه شهادة أولي العلم وشهادة الملائكة : تصديق . وطاعة . واتباع . واستسلام .
وشهادة الله سبحانه وشهادة الملائكة وأولي العلم بوحدانية الله يصاحبها شهادتهم بأنه - تعالى - قائم بالقسط . بوصفها حالة ملازمة للألوهية .
{ شهد الله أنه لا إله إلا هو - والملائكة وأولو العلم - قائماً بالقسط } . .
فهي حالة ملازمة للألوهية كما تفيد صياغة العبارة . وهذا إيضاح للقوامة التي وردت في مطلع السورة :
{ الله لا إله إلا هو الحي القيوم } . . فهي قوامة بالقسط .
وتدبير الله لهذا الكون ولحياة الناس متلبس دائماً بالقسط - وهو العدل - فلا يتحقق العدل المطلق في حياة الناس ، ولا تستقيم أمورهم استقامة أمور الكون ، التي يؤدي كل كائن معها دوره في تناسق مطلق مع دور كل كائن آخر . . لا يتحقق هذا إلا بتحكيم منهج الله الذي اختاره لحياة الناس ، وبينه في كتابه . وإلا فلا قسط ولا عدل ، ولا استقامة ولا تناسق ، ولا تلاؤم بين دورة الكون ودورة الإنسان . وهو الظلم إذن والتصادم والتشتت والضياع
وها نحن أولاء نرى على مدار التاريخ أن الفترات التي حكم فيها كتاب الله وحدها هي التي ذاق فيها الناس طعم القسط ، واستقامت حياتهم استقامة دورة الفلك - بقدر ما تطيق طبيعة البشر المتميزة بالجنوح إلى الطاعة والجنوح إلى المعصية ، والتأرجح بين هذا وذاك؛ والقرب من الطاعة كلما قام منهج الله ، وحُكم في حياة الناس كتاب الله . وأنه حيثما حكم في حياة الناس منهج آخر من صنع البشر ، لازمه جهل البشر وقصور البشر . كما لازمه الظلم والتناقض في صورة من الصور . ظلم الفرد للجماعة . أو ظلم الجماعة للفرد . أو ظلم طبقة لطبقة . أو ظلم أمة لأمة . أو ظلم جيل لجيل . . وعدل الله وحده هو المبرأ من الميل لأي من هؤلاء . وهو إله جميع العباد . وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .
{ لا إله إلا هو العزيز الحكيم } . .
يؤكد حقيقة وحدة الألوهية مرة أخرى في الآية الواحدة ، مصحوبة بصفة العزة وصفة الحكمة . والقدرة والحكمة لازمتان كلتاهما للقوامة بالقسط . فالقسط يقوم على وضع الأمور في مواضعها مع القدرة على إنفاذها . وصفات الله سبحانه تصور وتوحي بالفاعلية الإيجابية . . فلا سلبية في التصور الإسلامي لله . وهو أكمل تصور وأصدقه لأنه وصف الله لنفسه سبحانه . وقيمة هذه الفاعلية الإيجابية أنها تعلق القلب بالله وإرادته وفعله ، فتصبح العقيدة مؤثراً حياً دافعاً لا مجرد تصور فكري بارد
ويرتب على هذه الحقيقة التي عاد لتوكيدها مرتين في الآية الواحدة ، نتيجتها الطبيعية . . ألوهية واحدة . فلا عبودية إلا لهذه الألوهية الواحدة :
{ إن الدين عند الله الإسلام .

وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم . بغياً بينهم . ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب . فإن حاجوك فقل : أسلمت وجهي لله ومن اتبعن . وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين : أأسلمتم؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا . وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ، والله بصير بالعباد } . .
ألوهية واحدة . . وإذن فدينونة واحدة . . واستسلام لهذه الألوهية لا يبقى معه شيء في نفوس العباد ولا في حياتهم خارجا عن سلطان الله .
ألوهية واحدة . . وإذن فجهة واحدة هي صاحبة الحق في تعبيد الناس لها؛ وفي تطويعهم لأمرها؛ وفي إنفاذ شريعتها فيهم وحكمها؛ وفي وضع القيم والموازين لهم وأمرهم باتباعها؛ وفي إقامة حياتهم كلها وفق التعليمات التي ترضاها . .
ألوهية واحدة . . وإذن فعقيدة واحدة هي التي يرضاها الله من عباده . عقيدة التوحيد الخالص الناصع . . ومقتضيات التوحيد هذه التي أسلفنا :
{ إن الدين عند الله الإسلام } . .
الإسلام الذي هو ليس مجرد دعوى ، وليس مجرد راية ، وليس مجرد كلمة تقال باللسان؛ ولا حتى تصوراً يشتمل عليه القلب في سكون؛ ولا شعائر فردية يؤديها الأفراد في الصلاة والحج والصيام . . لا . فهذا ليس بالإسلام الذي لا يرضى الله من الناس ديناً سواه . إنما الإسلام الاستسلام . الإسلام الطاعة والاتباع . الإسلام تحكيم كتاب الله في أمور العباد . . كما سيجيء في السياق القرآني ذاته بعد قليل .
والإسلام توحيد الألوهية والقوامة . . بينما كان أهل الكتاب يخلطون بين ذات الله - سبحانه - وذات المسيح - عليه السلام - كما يخلطون بين إرادة الله وإرادة المسيح أيضاً . . ويختلفون فيما بينهم على هذه التصورات اختلافاً عنيفاً يصل في أحيان كثيرة إلى حد القتل والقتال . . هنا يبين الله لأهل الكتاب وللجماعة المسلمة علة هذا الاختلاف :
{ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم . بغياً بينهم } .
إنه ليس اختلافاً عن جهل بحقيقة الأمر . فقد جاءهم العلم القاطع بوحدانية الله ، وتفرد الألوهية . وبطبيعة البشرية ، وحقيقة العبودية . . ولكنهم إنما اختلفوا { بغياً بينهم } واعتداء وظلماً؛ حينما تخلوا عن قسط الله وعدله الذي تتضمنه عقيدته وشريعته وكتبه .
وقد رأينا فيما نقلناه عن المؤلف المسيحي الحديث كيف كانت التيارات السياسية تخلق هذه الاختلافات المذهبية . وليس هذا إلا نموذجاً مما تكرر وقوعه في حياة اليهودية والمسيحية . وقد رأينا كيف كانت كراهية مصر والشام وما إليهما للحكم الروماني سبباً في رفض المذهب الروماني الرسمي والتمذهب بمذهب آخر كما كان حرص بعض القياصرة على التوفيق بين أجزاء مملكته سبباً في ابتداع مذهب وسط ، يظن أنه يوفق بين الأغراض جميعاً كأنما العقيدة لعبة تستخدم في المناورات السياسية والوطنية وهذا هو البغي أشنع البغي . عن قصد وعن علم
ومن ثم يجيء التهديد القاصم في موضعه المناسب :
{ ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب } .

.
وقد عد الاختلاف على حقيقة التوحيد كفراً؛ وهدد الكافرين بسرعة الحساب؛ كي لا يكون الإمهال - إلى أجل - مدعاة للجاجة في الكفر والإنكار والاختلاف . .
ثم لقن نبيه - صلى الله عليه وسلم - فصل الخطاب في موقفه من أهل الكتاب والمشركين جميعاً . ليحسم الأمر معهم عن بينة ، ويدع أمرهم بعد ذلك لله ، ويمضي في طريقه الواضح متميزاً متفرداً :
{ فإن حاجوك فقل : أسلمت وجهي لله ومن اتبعن . وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا . وأن تولوا فإنما عليك البلاغ . والله بصير بالعباد } . .
إنه لا سبيل إلى مزيد من الإيضاح بعد ما تقدم . فإما اعتراف بوحدة الألوهية والقوامة ، وإذن فلا بد من الإسلام والاتباع . وإما مماحكة ومداورة . وإذن فلا توحيد ولا إسلام .
ومن ثم يلقن الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - كلمة واحدة تبين عقيدته كما تبين منهج حياته :
{ فإن حاجوك } - أي في التوحيد وفي الدين - { فقل : أسلمت وجهي لله } أنا { ومن اتبعن } . . والتعبير بالاتباع ذو مغزى هنا . فليس هو مجرد التصديق . إنما هو الاتباع . كما أن التعبير بالإسلام الوجه ذو مغزى كذلك . فليس هو مجرد النطق باللسان أو الاعتقاد بالجنان . إنما هو كذلك الاستسلام . استسلام الطاعة والاتباع . . وإسلام الوجه كناية عن هذا الاستسلام . والوجه أعلى وأكرم ما في الإنسان . فهي صورة الانقياد الطائع الخاضع المتبع المستجيب .
هذا اعتقاد محمد - صلى الله عليه وسلم - ومنهج حياته . والمسلمون متبعوه ومقلدوه في اعتقاده ومنهج حياته . . فليسأل إذن أهل الكتاب والأميين سؤال التبين والتمييز ووضع الشارة المميزة للمعسكرين على وضوح لا اختلاط فيه ولا اشتباه :
{ وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين : أأسلمتم؟ } . .
فهم سواء . هؤلاء وهؤلاء . المشركون وأهل الكتاب هم مدعوون إلى الإسلام بمعناه الذي شرحناه . مدعوون للإقرار بتوحيد ذات الله ، ووحدة الألوهية ووحدة القوامة . مدعوون بعد هذا الإقرار إلى الخضوع لمقتضاه . وهو تحكيم كتاب الله ونهجه في الحياة .
{ فإن أسلموا فقد اهتدوا } . .
فالهدى يتمثل في صورة واحدة . هي صورة الإسلام بحقيقته تلك وطبيعته . وليس هنالك صورة أخرى ، ولا تصور آخر ، ولا وضع آخر ، ولا منهج آخر يتمثل فيه الاهتداء . . إنما هو الضلال والجاهلية والحيرة والزيغ والالتواء . .
{ وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } . .
فعند البلاغ تنتهي تبعة الرسول وينتهي عمله . وكان هذا قبل أن يأمره الله بقتال من لا يقبلون الإسلام حتى ينتهوا : إما إلى اعتناق الدين والخضوع للنظام الذي يتمثل فيه . وإما إلى التعهد فقط بالطاعة للنظام في صورة أداء الجزية . . حيث لا إكراه على الاعتقاد . .
{ والله بصير بالعباد } . .
يتصرف في أمرهم وفق بصره وعلمه . وأمرهم إليه على كل حال .
ولكنه لا يدعهم حتى يبين لهم مصيرهم الذي ينتظرهم وينتظر أمثالهم وفق سنة الله الماضية أبداً في المكذبين والبغاة :
{ إن الذين يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير حق ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ، فبشرهم بعذاب أليم .

أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة . وما لهم من ناصرين } . .
فهذا هو المصير المحتوم : عذاب أليم لا يحدده بالدنيا أو بالآخرة . فهو متوقع هنا وهناك . وبطلان لأعمالهم في الدنيا والآخرة في تعبير مصور . فالحبوط هو انتفاخ الدابة التي ترعى نبتاً مسموماً ، توطئة لهلاكها . . وهكذا أعمال هؤلاء قد تنتفخ وتتضخم في الأعين . ولكنه الانتفاخ المؤدي إلى البطلان والهلاك حيث لا ينصرهم ناصر ولا يدفع عنهم حام
وذكر الكفر بآيات الله مصحوباً بقتل النبيين بغير حق - وما يمكن أن يقتل نبي ثم يكون هناك حق - وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس - أي الذين يأمرون باتباع منهج الله القائم بالقسط المحقق وحده للقسط . . ذكر هذه الصفات يوحي بأن التهديد كان موجهاً لليهود ، فهذه سمتهم في تاريخهم يعرفون بها متى ذكرت ولكن هذا لا يمنع أن يكون الكلام موجهاً للنصارى كذلك . فقد كانوا حتى ذلك التاريخ قتلوا الألوف من أصحاب المذاهب المخالفة لمذهب الدولة الرومانية المسيحية - بما فيهم من جاهروا بتوحيد الله تعالى وبشرية المسيح عليه السلام - وهؤلاء ممن يأمرون بالقسط . . كما أنه تهديد دائم لكل من يقع منه مثل هذا الصنيع البشع . . وكثير ما هم في كل زمان . .
ويحسن أن نتذكر دائماً ماذا يعني القرآن بوصف { الذين يكفرون بآيات الله } . . فليس المقصود فقط من يعلن كلمة الكفر . إنما يدخل في مدلول هذا الوصف من لا يقر بوحدة الألوهية ، وقصر العبودية عليها . وهذا يتضمن بصراحة وحدة الجهة التي تصرّف حياة العباد بالتشريع والتوجيه والقيم والموازين . . فمن جعل لغير الله شيئاً من هذا ابتداء فهو مشرك به أو كافر بألوهيته . ولو قالها ألف مرة باللسان وسنرى في الآيات التالية في السياق مصداق هذا الكلام . .
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون؟ ذلك بأنهم قالوا : لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات ، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون . فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ، ووفيت كل نفس ما كسبت؟ وهم لا يظلمون } . .
إنه سؤال التعجيب والتشهير من هذا الموقف المتناقض الغريب . موقف الذين أوتوا نصيباً من الكتاب . وهو التوراة لليهود ومعها الإنجيل للنصارى . وكل منهما « نصيب » من الكتاب باعتبار أن كتاب الله هو كل ما أنزل على رسله ، وقرر فيه وحدة ألوهيته ووحدة قوامته . فهو كتاب واحد في حقيقته ، أوتي اليهود نصيباً منه ، وأوتي النصارى نصيباً منه ، وأوتي المسلمون الكتاب كله باعتبار القرآن جامعاً لأصول الدين كله ، ومصدقاً لما بين يديه من الكتاب .

. سؤال التعجيب من هؤلاء { الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } . . ثم هم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم في خلافاتهم ، وليحكم بينهم في شؤون حياتهم ومعاشهم ، فلا يستجيبون جميعاً لهذه الدعوة ، إنما يتخلف فريق منهم ويعرض عن تحكيم كتاب الله وشريعته . الأمر الذي يتناقض مع الإيمان بأي نصيب من كتاب الله؛ والذي لا يستقيم مع دعوى أنهم أهل كتاب :
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون؟ } . .
هكذا يعجب الله من أهل الكتاب حين يعرض بعضهم - لا كلهم - عن الاحتكام إلى كتاب الله في أمور الاعتقاد وأمور الحياة . فكيف بمن يقولون : إنهم مسلمون ، ثم يخرجون شريعة الله من حياتهم كلها . ثم يظلون يزعمون أنهم مسلمون إنه مثل يضربه الله للمسلمين أيضاً كي يعلموا حقيقة الدين وطبيعة الإسلام؛ ويحذروا أن يكونوا موضعاً لتعجيب الله وتشهيره بهم . فإذا كان هذا هو استنكار موقف أهل الكتاب الذين لم يدعوا الإسلام ، حين يعرض فريق منهم عن التحاكم إلى كتاب الله ، فكيف يكون الاستنكار إذا كان « المسلمون » هم الذين يعرضون هذا الإعراض . . إنه العجب الذي لا ينقضي ، والبلاء الذي لا يقدر ، والغضب الذي ينتهي إلى الشقوة والطرد من رحمة الله والعياذ بالله
ثم يكشف عن علة هذا الموقف المستنكر المتناقض :
{ ذلك بأنهم قالوا : لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات ، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون } . .
هذا هو السبب في الإعراض عن الاحتكام إلى كتاب الله؛ والتناقض مع دعوى الإيمان ودعوى أنهم أهل كتاب . . إنه عدم الاعتقاد بجدية الحساب يوم القيامة ، وجدية القسط الإلهي الذي لا يحابي ولا يميل . يتجلى هذا في قولهم :
{ لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات } . .
وإلا فلماذا لا تمسهم النار إلا أياماً معدودات؟ لماذا وهم ينحرفون أصلاً عن حقيقة الدين وهي الاحتكام في كل شيء إلى كتاب الله؟ لماذا إذا كانوا يعتقدون حقاً بعدل الله؟ بل إذا كانوا يحسون أصلاً بجدية لقاء الله؟ إنهم لا يقولون إلا افتراء ، ثم يغرهم هذا الافتراء :
{ وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون } . .
وحقاً إنه لا يجتمع في قلب واحد جدية الاعتقاد بلقاء الله ، والشعور بحقيقة هذا اللقاء ، مع هذا التميع في تصور جزائه وعدله . .
وحقاً إنه لا يجتمع في قلب واحد الخوف من الآخرة والحياء من الله ، مع الإعراض عن الاحتكام إلى كتاب الله ، وتحكيمه في كل شأن من شؤون الحياة . .
ومثل أهل الكتاب هؤلاء مثل من يزعمون اليوم أنهم مسلمون . ثم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون . وفيهم من يتبجحون ويتوقحون ، ويزعمون أن حياة الناس دنيا لا دين وأن لا ضرورة لإقحام الدين في حياة الناس العملية وارتباطاتهم الاقتصادية والاجتماعية ، بل العائلية ، ثم يظلون بعد ذلك يزعمون أنهم مسلمون ثم يعتقد بعضهم في غرارة بلهاء أن الله لن يعذبهم إلا تطهيراً من المعاصي ، ثم يساقون إلى الجنة أليسوا مسلمين؟ إنه نفس الظن الذي كان يظنه أهل الكتاب هؤلاء ، ونفس الغرور بما افتروه ولا أصل له في الدين .

. وهؤلاء وأولئك سواء في تنصلهم من أصل الدين ، وتملصهم من حقيقته التي يرضاها الله : الإسلام : الاستسلام والطاعة والاتباع . والتلقي من الله وحده في كل شأن من شؤون الحياة :
{ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ، ووفيت كل نفس ما كسبت ، وهم لا يظلمون } ؟
كيف؟ إنه التهديد الرعيب الذي يشفق القلب المؤمن أن يتعرض له وهو يستشعر جدية هذا اليوم وجدية لقاء الله ، وجدية عدل الله؛ ولا يتميع تصوره وشعوره مع الأماني الباطلة والمفتريات الخادعة . . وهو بعد تهديد قائم للجميع . . مشركين وملحدين ، وأهل كتاب ومدعي إسلام ، فهم سواء في أنهم لا يحققون في حياتهم الإسلام
{ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } . . وجرى العدل الإلهي مجراه؟ { ووفيت كل نفس ما كسبت } . . بلا ظلم ولا محاباة؟ { وهم لا يظلمون } . . كما أنهم لا يحابون في حساب الله؟
سؤال يلقى ويترك بلا جواب . . وقد اهتز القلب وارتجف وهو يستحضر الجواب
بعدئذ يلقن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكل مؤمن ، أن يتجه إلى الله ، مقرراً حقيقة الألوهية الواحدة ، وحقيقة القوامة الواحدة ، في حياة البشر ، وفي تدبير الكون . فهذه وتلك كلتاهما مظهر للألوهية وللحاكمية التي لا شريك لله فيها ولا شبيه :
{ قل : اللهم مالك الملك : تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء . وتعز من تشاء وتذل من تشاء . بيدك الخير . إنك على كل شيء قدير . تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل . وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي . وترزق من تشاء بغير حساب } . .
نداء خاشع . . في تركيبه اللفظي إيقاع الدعاء . وفي ظلاله المعنوية روح الابتهال . وفي التفاتاته إلى كتاب الكون المفتوح استجاشة للمشاعر في رفق وإيناس . وفي جمعه بين تدبير الله وتصريفه لأمور الناس ولأمور الكون إشارة إلى الحقيقة الكبيرة : حقيقة الألوهية الواحدة القوامة على الكون والناس؛ وحقيقة أن شأن الإنسان ليس إلا طرفاً من شأن الكون الكبير الذي يصرفه الله؛ وأن الدينونة لله وحده هي شأن الكون كله كما هي شأن الناس؛ وأن الانحراف عن هذه القاعدة شذوذ وسفه وانحراف
{ قل : اللهم مالك الملك . تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء . وتعز من تشاء وتذل من تشاء } . .
إنها الحقيقة الناشئة من حقيقة الألوهية الواحدة . . إله واحد فهو المالك الواحد . . هو { مالك الملك } بلا شريك . . ثم هو من جانبه يملك من يشاء ما يشاء من ملكه .

يملكه إياه تمليك العارية يستردها صاحبها ممن يشاء عندما يشاء . فليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه . إنما هي ملكية معارة له خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته؛ فإذا تصرف المستعير فيها تصرفاً مخالفاً لشرط المالك وقع هذا التصرف باطلاً . وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا . أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملك صاحب الملك الأصيل . .
وكذلك هو يعز من يشاء ويذل من يشاء بلا معقب على حكمه ، وبلا مجير عليه ، وبلا راد لقضائه ، فهو صاحب الأمر كله بما أنه - سبحانه - هو الله . . وما يجوز أن يتولى هذا الاختصاص أحد من دون الله .
وفي قوامة الله هذه الخير كل الخير . فهو يتولاها سبحانه بالقسط والعدل . يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء بالقسط والعدل . ويعز من يشاء ويذل من يشاء بالقسط والعدل . فهو الخير الحقيقي في جميع الحالات؛ وهي المشيئة المطلقة والقدرة المطلقة على تحقيق هذا الخير في كل حال : { بيدك الخير } . . { إنك على كل شيء قدير } . .
وهذه القوامة على شؤون البشر ، وهذا التدبير لأمرهم بالخير ، ليس إلا طرفاً من القوامة الكبرى على شؤون الكون والحياة على الإطلاق :
{ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل؛ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي؛ وترزق من تشاء بغير حساب } . .
والتعبير التصويري لهذه الحقيقة الكبيرة ، يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس : هذه الحركة الخفية المتداخلة . حركة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل؛ وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي . . الحركة التي تدل على يد الله بلا شبهة ولا جدال ، متى ألقى القلب إليها انتباهه ، واستمع فيها إلى صوت الفطرة الصادق العميق .
وسواء كان معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل هو أخذ هذا من ذاك وأخذ ذاك من هذا عند دورة الفصول . . أو كان هو دخول هذا في هذا عند دبيب الظلمة ودبيب الضياء في الأمساء والأصباح . . سواء كان هذا أو ذاك فإن القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الأفلاك ، وتلف هذه الكرة المعتمة أمام تلك الكرة المضيئة ، وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء . . شيئاً فشيئاً يتسرب غبش الليل إلى وضاءة النهار . وشيئاً فشيئاً يتنفس الصبح في غيابة الظلام . . شيئاً فشيئاً يطول الليل وهو يأكل من النهار في مقدم الشتاء . وشيئاً فشيئاً يطول النهار وهو يسحب من الليل في مقدم الصيف . . وهذه أو تلك حركة لا يدعي الإنسان أنه هو الذي يمسك بخيوطها الخفية الدقيقة؛ ولا يدعي كذلك عاقل أنها تمضي هكذا مصادفة بلا تدبير
كذلك الحياة والموت ، يدب أحدهما في الآخر في بطء وتدرج . كل لحظة تمر على الحي يدب فيه الموت إلى جانب الحياة ، ويأكل منه الموت وتبنى فيه الحياة خلايا حية منه تموت وتذهب ، وخلايا جديدة فيه تنشأ وتعمل .

وما ذهب منه ميتاً يعود في دورة أخرى إلى الحياة . وما نشأ فيه حياً يعود في دورة أخرى إلى الموت . . هذا في كيان الحي الواحد . . ثم تتسع الدائرة فيموت الحي كله ، ولكن خلاياه تتحول إلى ذرات تدخل في تركيب آخر ثم تدخل في جسم حي فتدب فيها الحياة . . وهكذا دورة دائبة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار . . ولا يدعي الإنسان أنه هو الذي يصنع من هذا كله شيئاً . ولا يزعم عاقل كذلك أنها تتم هكذا مصادفة بلا تدبير
حركة في كيان الكون كله وفي كيان كل حي كذلك . حركة خفية عميقة لطيفة هائلة . تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري؛ وهي تشي بيد القادر المبدع اللطيف المدبر . . فأنى يحاول البشر أن ينعزلوا بتدبير شأنهم عن اللطيف المدّبر؟ وأنى يختارون لأنفسهم أنظمة من صنع أهوائهم وهم قطاع من هذا الكون الذي ينظمه الحكيم الخبير؟
ثم أنى يتخذ بعضهم بعضاً عبيداً ، ويتخذ بعضهم بعضاً أرباباً ، ورزق الجميع بيد الله وكلهم عليه عيال : { وترزق من تشاء بغير حساب } . .
إنها اللمسة التي ترد القلب البشري إلى الحقيقة الكبرى . حقيقة الألوهية الواحدة . حقيقة القوامة الواحدة . وحقيقة الفاعلية الواحدة وحقيقة التدبير الواحد . وحقيقة المالكية الواحدة وحقيقة العطاء الواحد . ثم حقيقة أن الدينونة لا تكون إلا لله القيوم ، مالك الملك ، المعز المذل ، المحيي المميت ، المانح المانع ، المدبر لأمر الكون والناس بالقسط والخير على كل حال .
هذه اللمسة تؤكد الاستنكار الذي سبق في الفقرة الماضية لموقف الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ، ثم هم يتولون ويعرضون عن التحاكم إلى كتاب الله ، المتضمن لمنهج الله للبشر ، بينما منهج الله يدبر أمر الكون كله وأمر البشر . . وفي الوقت ذاته تمهد للتحذير الوارد في الفقرة التالية من تولي المؤمنين الكافرين من دون المؤمنين . ما دام أن لا حول للكافرين في هذا الكون ولا طول . والأمر كله بيد الله . وهو ولي المؤمنين دون سواه :
{ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء - إلا أن تتقوا منهم تقاة - ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير . قل : إن تخفوا ما في صدروكم أو تبدوه يعلمه الله ، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض ، والله على كل شيء قدير . يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً ، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً . ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد } . .
لقد استجاش السياق القرآني في الفقرة الماضية الشعور بأن الأمر كله لله ، والقوة كلها لله ، والتدبير كله لله ، والرزق كله بيد الله . . فما ولاء المؤمن إذن لأعداء الله؟ إنه لا يجتمع في قلب واحد حقيقة الإيمان بالله وموالاة أعدائه الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون .

. ومن ثم جاء هذا التحذير الشديد ، وهذا التقرير الحاسم بخروج المسلم من إسلامه إذا هو وإلى من لا يرتضي أن يحكم كتاب الله في الحياة ، سواء كانت الموالاة بمودة القلب ، أو بنصره ، أو باستنصاره سواء :
{ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } . .
هكذا . . ليس من الله في شيء . لا في صلة ولا نسبة ، ولا دين ولا عقيدة ، ولا رابطة ولا ولاية . . فهو بعيد عن الله ، منقطع الصلة تماماً في كل شيء تكون فيه الصلات .
ويرخص فقط بالتقية لمن خاف في بعض البلدان والأوقات . . ولكنها تقية اللسان لا ولاء القلب ولا ولاء العمل . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - « ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان » . . فليس من التقية المرخص فيها أن تقوم المودة بين المؤمن وبين الكافر - والكافر هو الذي لا يرضى بتحكيم كتاب الله في الحياة على الإطلاق ، كما يدل السياق هنا ضمناً وفي موضع آخر من السورة تصريحاً - كما أنه ليس من التقية المرخص بها أن يعاون المؤمن الكافر بالعمل في صورة من الصور باسم التقية . فما يجوز هذا الخداع على الله
ولما كان الأمر في هذه الحالة متروكاً للضمائر ولتقوى القلوب وخشيتها من علام الغيوب ، فقد تضمن التهديد تحذير المؤمنين من نقمة الله وغضبه في صورة عجيبة من التعبير حقاً :
{ ويحذركم الله نفسه . وإلى الله المصير } . .
ثم يتابع السياق التحذير ولمس القلوب ، وإشعارها أن عين الله عليها ، وأن علم الله يتابعها :
{ قل : إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير } . .
وهو إمعان في التحذير والتهديد ، واستجاشة الخشية واتقاء التعرض للنقمة التي يساندها العلم والقدرة ، فلا ملجأ منها ولا نصرة
ثم يتابع السياق التحذير ولمس القلوب خطوة أخرى كذلك باستحضار اليوم المرهوب ، الذي لا يند فيه عمل ولا نية؛ والذي تواجه فيه كل نفس برصيدها كله :
{ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً ، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً } . .
وهي مواجهة تأخذ المسالك على القلب البشري ، وتحاصره برصيده من الخير والسوء . وتصور له نفسه وهو يواجه هذا الرصيد ، ويود - ولكن لات حين مودة - لو أن بينه وبين السوء الذي عمله أمداً بعيداً . أو أن بينه وبين هذا اليوم كله أمداً بعيداً . بينما هو في مواجهته ، آخذ بخناقه ، ولات حين خلاص ، ولات حين فرار
ثم يتابع السياق الحملة على القلب البشري ، فيكرر تحذير الله للناس من نفسه - سبحانه - :
{ ويحذركم الله نفسه } .

.
ويذكرهم رحمته في هذا التحذير والفرصة متاحة قبل فوات الأوان :
{ والله رؤوف بالعباد } . .
ومن رأفته هذا التحذير وهذا التذكير . وهو دليل على إرادته الخير والرحمة بالعباد . .
وتشي هذه الحملة الضخمة المنوعة الإيماءات والإيحاءات والأساليب والإشارات ، بما كان واقعاً في حياة الجماعة المسلمة من خطورة تميع العلاقات بين أفراد من المعسكر المسلم وأقربائهم وأصدقائهم وعملائهم في مكة مع المشركين وفي المدينة مع اليهود . تحت دوافع القرابة أو التجارة . . على حين يريد الإسلام أن يقيم أساس المجتمع المسلم الجديد على قاعدة العقيدة وحدها ، وعلى قاعدة المنهج المنبثق من هذه العقيدة . . الأمر الذي لا يسمح الإسلام فيه بالتميع والأرجحة إطلاقاً . .
كذلك يشي بحاجة القلب البشري في كل حين إلى الجهد الناصب للتخلص من هذه الأوهاق ، والتحرر من تلك القيود ، والفرار إلى الله والارتباط بمنهجه دون سواه .
والإسلام لا يمنع أن يعامل المسلم بالحسنى من لا يحاربه في دينه ، ولو كان على غير دينه . . ولكن الولاء شيء آخر غير المعاملة بالحسنى . الولاء ارتباط وتناصر وتواد . وهذا لا يكون - في قلب يؤمن بالله حقاً - إلا للمؤمنين الذين يرتبطون معه في الله؛ ويخضعون معه لمنهجه في الحياة؛ ويتحاكمون إلى كتابه في طاعة واتباع واستسلام .
وأخيراً يجيء ختام هذا الدرس قوياً حازما ، حاسماً في القضية التي يعالجها ، والتي تمثل أكبر الخطوط العريضة الأساسية في السورة . يجيء ليقرر في كلمات قصيرة حقيقة الإيمان ، وحقيقة الدين . ويفرق تفريق حاسماً بين الإيمان والكفر في جلاء لا يحتمل الشبهات :
{ قل : إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم . قل : أطيعوا الله والرسول : فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } . .
إن حب الله ليس دعوى باللسان ، ولا هياماً بالوجدان ، إلا أن يصاحبه الأتباع لرسول الله ، والسير على هداه ، وتحقيق منهجه في الحياة . . وإن الإيمان ليس كلمات تقال ، ولا مشاعر تجيش ، ولا شعائر تقام . ولكنه طاعة لله والرسول ، وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول . .
يقول الإمام ابن كثير في التفسير عن الآية الأولى : « هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية . فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأعماله ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : » من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد « .
ويقول عن الآية الثانية : { قل أطيعوا الله والرسول . فإن تولوا } . . أي تخالفوا عن أمره - { فإن الله لا يحب الكافرين } . . فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر ، والله لا يحب من اتصف بذلك ، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله .

.
ويقول الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية في كتابه : « زاد المعاد في هدى خير العباد » :
« ومن تأمل في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة وأنه صادق ، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام . . علم أن الإسلام أمر وراء ذلك ، وأنه ليس مجرد المعرفة فقط . ولا المعرفة والإقرار فقط . بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً . . »
إن هذا الدين له حقيقة مميزة لا يوجد إلا بوجودها . . حقيقة الطاعة لشريعة الله ، والاتباع لرسول الله ، والتحاكم إلى كتاب الله . . وهي الحقيقة المنبثقة من عقيدة التوحيد كما جاء بها الإسلام . توحيد الألوهية التي لها وحدها الحق في أن تعبد الناس لها ، وتطوّعهم لأمرها ، وتنفذ فيهم شرعها ، وتضع لهم القيم والموازين التي يتحاكمون إليها ويرتضون حكمها . ومن ثم توحيد القوامة التي تجعل الحاكمية لله وحده في حياة البشر وارتباطاتها جميعاً ، كما أن الحاكمية لله وحده في تدبير أمر الكون كله . وما الإنسان إلا قطاع من هذا الكون الكبير .
وهذا الدرس الأول من السورة يقرر هذه الحقيقة - كما رأينا - في صورة ناصعة كاملة شاملة ، لا مهرب من مواجهتها والتسليم بها لمن شاء أن يكون مسلماً . إن الدين عند الله الإسلام . . وهذا - وحده - هو الإسلام كما شرعه الله ، لا كما تصوره المفتريات والأوهام . .

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)

تقول الروايات التي تصف المناظرة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفد نجران اليمن : إن هذا القصص الذي ورد في هذه السورة عن مولد عيسى عليه السلام ، ومولد أمه مريم ، ومولد يحيى ، وبقية القصص جاء رداً على ما أراد الوفد إطلاقه من الشبهات؛ وهو يستند إلى ما جاء في القرآن عن عيسى عليه السلام بأنه كلمة الله إلى مريم وروح منه ، وأنهم كذلك سألوا عن أمور لم ترد في سورة مريم وطلبوا الجواب عنها . .
وقد يكون هذا صحيحاً . . ولكن ورود هذا القصص في هذه السورة على هذا النحو يمضي مع طريقة القرآن العامة في إيراد القصص لتقرير حقائق معينة يريد إيضاحها . وغالباً ما تكون هذه الحقائق هي موضوع السورة التي يرد فيها القصص؛ فيساق القصص بالقدر وبالأسلوب الذي يركز هذه الحقائق ويبرزها ويحييها . . فما من شك أن للقصص طريقته الخاصة في عرض الحقائق ، وإدخالها إلى القلوب ، في صورة حية ، عميقة الإيقاع ، بتمثيل هذه الحقائق في صورتها الواقعية وهي تجري في الحياة البشرية . وهذا أوقع في النفس من مجرد عرض الحقائق عرضاً تجريدياً .
وهنا نجد هذا القصص يتناول ذات الحقائق التي يركز عليها سياق السورة ، وتظهر فيها ذات الخطوط العريضة فيها . ومن ثم يتجرد هذا القصص من الملابسة الواقعة المحدودة التي ورد فيها؛ ويبقى عنصراً أصيلاً مستقلاً؛ يتضمن الحقائق الأصيلة الباقية في التصور الاعتقادي الإسلامي .
إن القضية الأصيلة التي يركز عليها سياق السورة كما قدمنا هي : قضية التوحيد . توحيد الألوهية وتوحيد القوامة . . وقصة عيسى - وما جاء من القصص مكملاً لها في هذا الدرس - تؤكد هذه الحقيقة ، وتنفي فكرة الولد والشريك ، وتستبعدهما استبعاداً كاملاً؛ وتظهر زيف هذه الشبهة وسخف تصورها؛ وتبسط مولد مريم وتاريخها ، ومولد عيسى وتاريخ بعثته وأحداثها ، بطريقة لا تدع مجالاً لإثارة أية شبهة في بشريته الكاملة ، وأنه واحد من سلالة الرسل ، شأنه شأنهم ، وطبيعته طبيعتهم ، وتفسر الخوارق التي صاحبت مولده وسيرته تفسيراً لا تعقيد فيه ولا غموض ، من شأنه أن يريح القلب والعقل ، ويدع الأمر فيهما طبيعياً عادياً لا غرابة فيه . . حتى إذا عقب على القصة بقوله : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له : كن . فيكون } . . وجد القلب برد اليقين والراحة؛ وعجب كيف ثارت تلك الشبهات حول هذه الحقيقة البسيطة؟
والقضية الثانية التي تنشأ من القضية الأولى في سياق السورة كله هي قضية حقيقة الدين وأنه الإسلام . ومعنى الإسلام وأنه الاتباع والاستسلام . . وهذه ترد كذلك في ثنايا القصص واضحة . . ترد في قول عيسى عليه السلام لبني إسرائيل : { ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } .

. وفي هذا القول تقرير لطبيعة الرسالة ، وأنها تأتي لإقرار منهج ، وتنفيذ نظام ، وبيان الحلال والحرام ، ليتبعه المؤمنون بهذه الرسالة ويسلموا به . . ثم يرد معنى الاستسلام والاتباع على لسان الحواريين : { فلما أحس عيسى منهم الكفر قال : من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون : نحن أنصار الله ، آمنا بالله ، واشهد بأنا مسلمون . ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين } . .
ومن الموضوعات التي يركز عليها سياق السورة تصوير حال المؤمنين مع ربهم . . وهذا القصص يعرض جملة صالحة من هذه الحال في سير هذه النخبة المختارة من البشر ، التي اصطفاها وجعلها ذرية بعضها من بعض . وتتمثل هذه الصور الوضيئة في حديث امرأة عمران مع ربها ومناجاته في شأن وليدتها . . وفي حديث مريم مع زكريا . وفي دعاء زكريا ونجائه لربه . وفي رد الحواريين على نبيهم ، ودعائهم لربهم . . وهكذا . .
حتى إذا انتهى القصص جاء التعقيب متضمناً وملخصاً هذه الحقائق ، معتمداً على وقائع القصص في تقرير الحقائق التي يقررها . . فيتناول حقيقة عيسى - عليه السلام - وطبيعة الخلق والإرادة الإلهية . والوحدانية الخالصة . ودعوة أهل الكتاب إليها . ودعوتهم إلى المباهلة عليها . . وينتهي الدرس ببيان جامع شامل لأصل هذه الحقيقة ليتوجه به النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل الكتاب عامة . . من حضر منهم المناظرة ومن لم يحضر ومن كان من ذلك الجيل ومن يجيء بعده إلى آخر الزمان قل : { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم : ألا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئاً ، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله . فإن تولوا فقولوا : اشهدوا بأنا مسلمون } . .
بهذا ينتهي الجدل؛ ويتبين ماذا يريد الإسلام من الناس ، وماذا يضع لحياتهم من أساس . ويحدد معنى الدين ومعنى الإسلام؛ وتنتفي كل صورة مشوهة أو مدخولة يدعي لها أصحابها أنها دين . أو أنها إسلام . . وهذا هو الهدف النهائي للدرس الماضي ، وللسورة كلها كذلك ، تولاها القصص بالبيان والإيضاح في الصورة القصصية الجميلة الجذابة العميقة الإيحاء . . وهذه وظيفة القصص القرآني وطبيعته التي تحكم أسلوبه وطريقة عرضه في شتى السور على نهج خاص .
وقد عرضت قصة عيسى في سورة مريم ، وعرضت هنا . وبمراجعة النصوص هنا وهناك تبدو زيادة بعض الحلقات هنا ، مع اختصار في بعض الحلقات . . فقد كان هناك تفصيل مطول في سورة مريم لحلقة مولد عيسى . ولم تكن هناك حلقة مولد مريم . وهنا تفصيل في رسالة عيسى والحواريين واختصار في قصة مولده كما أن التعقيب هنا أطول لأنه جاء بصدد مناظرات حول قضية أشمل ، وهي قضية التوحيد والدين والوحي والرسالة ، مما لم يكن موجوداً في سورة مريم . . مما يكشف عن طبيعة الأسلوب القرآني في عرض القصص ، مساوقاً لجو السورة التي يعرض فيها ، ولمناسبته فيها
والأن نأخذ في استعراض النصوص تفصيلاً .

يبدأ هذا القصص ببيان من اصطفاهم الله من عباده واختارهم لحمل الرسالة الواحدة بالدين الواحد منذ بدء الخليقة ، ليكونوا طلائع الموكب الإيماني في شتى مراحله المتصلة على مدار الأجيال والقرون . فيقرر أنهم ذرية بعضها من بعض . وليس من الضروري أن تكون ذرية النسب - وإن كان نسب الجميع يلتقي في آدم ونوح - فهي أولاً رابطة الاصطفاء والاختيار الإلهي؛ ونسب هذه العقيدة الموصول في ذلك الموكب الإيماني الكريم :
{ إن الله اصطفى آدم ونوحاً ، وآل إبراهيم وآل عمران ، على العالمين . ذرية بعضها من بعض ، والله سميع عليم } . .
ولقد ذكر السياق آدم ونوحا فردين؛ وذكر آل إبراهيم وآل عمران أسرتين . إشارة إلى أن آدم بشخصه ونوحاً بشخصه هما اللذان وقع عليهما الاصطفاء . فأما إبراهيم وعمران فقد كان الاصطفاء لهما ولذريتهما كذلك - على القاعدة التي تقررت في سورة البقرة عن آل إبراهيم : قاعدة أن وراثة النبوة والبركة في بيته ليست وراثة الدم ، إنما هي وراثة العقيدة : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال : إني جاعلك للناس إماماً . قال : ومن ذريتي؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين } وبعض الروايات تذكر أن عمران من آل إبراهيم . فذكر آل عمران إذن تخصيص لهذا الفرع لمناسبة خاصة ، هي عرض قصة مريم وقصة عيسى عليه السلام . . كذلك نلاحظ أن السياق لم يذكر من آل إبراهيم لا موسى ولا يعقوب ( وهو إسرائيل ) كما ذكر آل عمران . . ذلك أن السياق هنا يستطرد إلى الجدل حول عيسى بن مريم وحول إبراهيم - كما سيأتي في الدرس التالي - فلم تكن هناك مناسبة لذكر موسى في هذا المقام أو ذكر يعقوب . .
ومن هذا الإعلان التمهيدي ينتقل السياق مباشرة إلى آل عمران ومولد مريم :
{ إذ قالت امرأة عمران : رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم . فلما وضعتها قالت : رب : إني وضعتها أنثى - والله أعلم بما وضعت - وليس الذكر كالأنثى ، وإني سميتها مريم؛ وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم . فتقبلها ربها بقبول حسن ، وأنبتها نباتاً حسناً ، وكفلها زكريا . كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً . قال : يا مريم أنى لك هذا؟ قالت : هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } . .
وقصة النذر تكشف لنا عن قلب « امرأة عمران » - أم مريم - وما يعمره من إيمان ، ومن توجه إلى ربها بأعز ما تملك . وهو الجنين الذي تحمله في بطنها . خالصاً لربها ، محرراً من كل قيد ومن كل شرك ومن كل حق لأحد غير الله سبحانه . والتعبير عن الخلوص المطلق بأنه تحرر تعبير موح . فما يتحرر حقاً إلا من يخلص لله كله ، ويفر إلى الله بجملته وينجو من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل قيمة ، فلا تكون عبوديته إلا لله وحده .

. فهذا هو التحرر إذن . . وما عداه عبودية وإن تراءت في صورة الحرية
ومن هنا يبدو التوحيد هو الصورة المثلى للتحرر . فما يتحرر إنسان وهو يدين لأحد غير الله بشيء ما في ذات نفسه ، أو في مجريات حياته ، أو في الأوضاع والقيم والقوانين والشرائع التي تصرف هذه الحياة . . لا تحرر وفي قلب الإنسان تعلق أو تطلع أو عبودية لغير الله . وفي حياته شريعة أو قيم أو موازين مستمدة من غير الله . وحين جاء الإسلام بالتوحيد جاء بالصورة الوحيدة للتحرر في عالم الإنسان . .
وهذا الدعاء الخاشع من امرأة عمران ، بأن يتقبل ربها منها نذرها - وهو فلذة كبدها - ينم عن ذلك الإسلام الخالص لله ، والتوجه إليه كلية ، والتحرر من كل قيد ، والتجرد إلا من ابتغاء قبوله ورضاه :
{ رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني . إنك أنت السميع العليم } . .
ولكنها وضعتها أنثى؛ ولم تضعها ذكراً
{ فلما وضعتها قالت : رب إني وضعتها أنثى - والله أعلم بما وضعت - وليس الذكر كالأنثى . وإني سميتها مريم . وإني اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } . .
لقد كانت تنتظر ولداً ذكراً؛ فالنذر للمعابد لم يكن معروفاً إلا للصبيان ، ليخدموا الهيكل ، وينقطعوا للعبادة والتبتل . ولكن ها هي ذي تجدها أنثى . فتتوجه إلى ربها في نغمة أسيفة :
{ رب . إني وضعتها أنثى } . .
{ والله أعلم بما وضعت } . .
ولكنها هي تتجه إلى ربها بما وجدت ، وكأنها تعتذر إن لم يكن لها ولد ذكر ينهض بالمهمة .
{ وليس الذكر كالأنثى } . .
ولا تنهض الأنثى بما ينهض به الذكر في هذا المجال : { وإني سميتها مريم } . .
وهذا الحديث على هذا النحو فيه شكل المناجاة القريبة . مناجاة من يشعر أنه منفرد بربه . يحدثه بما في نفسه ، وبما بين يديه ، ويقدم له ما يملك تقديماً مباشراً لطيفاً . وهي الحال التي يكون فيها هؤلاء العباد المختارون مع ربهم . حال الود والقرب والمباشرة ، والمناجاة البسيطة العبارة ، التي لا تكلف فيها ولا تعقيد . مناجاة من يحس أنه يحدث قريباً ودوداً سميعاً مجيباً .
{ وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } . .
وهي الكلمة الأخيرة حيث تودع الأم هديتها بين يدي ربها ، وتدعها لحمايته ورعايته ، وتعيذها به هي وذريتها من الشيطان الرجيم . .
وهذه كذلك كلمة القلب الخالص ، ورغبة القلب الخالص . فما تود لوليدتها أمراً خيراً من أن تكون في حياطة الله من الشيطان الرجيم
{ فتقبلها ربها بقبول حسن ، وأنبتها نباتاً حسناً } . .
جزاء هذا الإخلاص الذي يعمر قلب الأم ، وهذا التجرد الكامل في النذر . . وإعداداً لها أن تستقبل نفخة الروح ، وكلمة الله ، وأن تلد عيسى - عليه السلام - على غير مثال من ولادة البشر .

{ وكفلها زكريا } . .
أي جعل كفالتها له ، وجعله أميناً عليها . . وكان زكريا رئيس الهيكل اليهودي . من ذرية هارون الذين صارت إليهم سدانة الهيكل .
ونشأت مباركة مجدودة . يهيىء لها الله من رزقه فيضاً من فيوضاته :
{ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً . قال : يا مريم أنى لك هذا؟ قالت : هو من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } . .
ولا نخوض نحن في صفة هذا الرزق كما خاضت الروايات الكثيرة . فيكفي أن نعرف أنها كانت مباركة يفيض من حولها الخير ويفيض الرزق من كل ما يسمى رزقاً . حتى ليعجب كافلها - وهو نبي - من فيض الرزق . فيسألها : كيف ومن أين هذا كله؟ فلا تزيد على أن تقول في خشوع المؤمن وتواضعه واعترافه بنعمة الله وفضله ، وتفويض الأمر إليه كله :
{ هو من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } . .
وهي كلمة تصور حال المؤمن مع ربه ، واحتفاظه بالسر الذي بينه وبينه . والتواضع في الحديث عن هذا السر ، لا التنفج به والمباهاة كما أن ذكر هذه الظاهرة غير المألوفة التي تثير عجب نبي الله زكريا . هي التمهيد للعجائب التي تليها في ميلاد يحيى وميلاد عيسى . .
عندئذ تحركت في نفس زكريا ، الشيخ الذي لم يوهب ذرية ، تحركت تلك الرغبة الفطرية القوية في النفس البشرية . الرغبة في الذرية . في الامتداد . في الخلف . . الرغبة التي لا تموت في نفوس العباد الزهاد ، الذين وهبوا أنفسهم للعبادة ونذروها للهيكل . إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، لحكمة عليا في امتداد الحياة وارتقائها :
{ هنالك دعا زكريا ربه . قال : رب هب لي من لدنك ذرية طيبة . إنك سميع الدعاء . . فنادته الملائكة - وهو قائم يصلي في المحراب - أن الله يبشرك بيحيى ، مصدقاً بكلمة من الله ، وسيداً وحصوراً ، ونبياً من الصالحين . . قال : رب أنى يكون لي غلام ، وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر . قال : كذلك الله يفعل ما يشاء . قال : رب اجعل لي آية . قال : آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا؛ واذكر ربك كثيراً ، وسبح بالعشي والإبكار } . .
وكذلك . . نجدنا أمام حادث غير عادي . يحمل مظهراً من مظاهر طلاقة المشيئة الإلهية ، وعدم تقيدها بالمألوف للبشر ، الذي يحسبه البشر قانوناً لا سبيل إلى إخلافه؛ ومن ثم يشكون في كل حادث لا يجيء في حدود هذا القانون فإذا لم يستطيعوا تكذيبه ، لأنه واقع ، صاغوا حوله الخرافات والأساطير
فها هو ذا « زكريا » الشيخ الكبير وزوجه العاقر التي لم تلد في صباها . . ها هو ذا تجيش في قلبه الرغبة الفطرية العميقة في الخلف - وهو يرى بين يديه مريم البنية الصالحة المرزوقة - فيتوجه إلى ربه يناجيه ، ويطلب منه أن يهب له من لدنه ذرية طيبة :
{ هنالك دعا زكريا ربه .

قال : رب هب لي من لدنك ذرية طيبة . إنك سميع الدعاء } . .
فما الذي كان من هذا الدعاء الخاشع الحار المنيب؟
كانت الاستجابة التي لا تتقيد بسن ، ولا تتقيد بمألوف الناس؛ لأنها تنطلق من المشيئة المطلقة التي تفعل ما تريد :
{ فنادته الملائكة - وهو قائم يصلي في المحراب - أن الله يبشرك بيحيى ، مصدقاً بكلمة من الله . وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين } . .
لقد استجيبت الدعوة المنطلقة من القلب الطاهر ، الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء؛ ويملك الإجابة حين يشاء . وبشرت الملائكة زكريا بمولود ذكر ، اسمه معروف قبل مولده؛ « يحيى »؛ وصفته معروفة كذلك : سيداً كريماً ، وحصوراً يحصر نفسه عن الشهوات ، ويملك زمام نزعاته من الانفلات . ومؤمناً مصدقاً بكلمة تأتيه من الله . ونبياً صالحاً في موكب الصالحين .
لقد استجيبت الدعوة ، ولم يحل دونها مألوف البشر الذي يحسبونه قانوناً . ثم يحسبون أن مشيئة الله - سبحانه - مقيدة بهذا القانون وكل ما يراه الإنسان ويحسبه قانوناً لا يخرج عن أن يكون أمراً نسبياً - لا مطلقاً ولا نهائياً - فما يملك الإنسان وهو محدود العمر والمعرفة ، وما يملك العقل وهو محكوم بطبيعة الإنسان هذه ، أن يصل إلى قانون نهائي ولا أن يدرك حقيقة مطلقة . . فما أجدر الإنسان أن يتأدب في جناب الله . وما أجدره أن يلتزم حدود طبيعته وحدود مجاله ، فلا يخبط في التيه بلا دليل ، وهو يتحدث عن الممكن والمستحيل ، وهو يضع لمشيئة الله المطلقة إطاراً من تجاربه هو ومن مقرراته هو ومن علمه القليل
ولقد كانت الاستجابة مفاجأة لزكريا نفسه - وهل زكريا إلا إنسان على كل حال - واشتاق أن يعرف من ربه كيف تقع هذه الخارقة بالقياس إلى مألوف البشر؟
{ قال : رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر؟ } . .
وجاءه الجواب . . جاءه في بساطة ويسر . يرد الأمر إلى نصابه . ويرده إلى حقيقته التي لا عسر في فهمها ، ولا غرابة في كونها :
{ قال : كذلك الله يفعل ما يشاء } . .
كذلك فالأمر مألوف مكرور معاد حين يرد إلى مشيئة الله وفعله الذي يتم دائماً على هذا النحو؛ ولكن الناس لا يتفكرون في الطريقة ، ولا يتدبرون الصنعة ، ولا يستحضرون الحقيقة
كذلك . بهذا اليسر . وبهذه الطلاقة . يفعل الله ما يشاء . . فماذا في أن يهب لزكريا غلاماً وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر؟ إنما هذه مألوفات البشر التي يقررون قواعدهم عليها ، ويتخذون منها قانوناً فأما بالقياس إلى الله فلا مألوف ولا غريب . . كل شيء مرده إلى توجه المشيئة ، والمشيئة مطلقة من كل القيود
ولكن زكريا لشدة لهفته على تحقق البشرى ، ولدهشة المفاجأة في نفسه ، راح يطلب إلى ربه أن يجعل له علامة يسكن إليها :
{ قال : رب اجعل لي آية .

. . } . .
هنا يوجهه الله سبحانه إلى طريق الاطمئنان الحقيقي؛ فيخرجه من مألوفه في ذات نفسه . . إن آيته أن يحتبس لسانه ثلاثة أيام إذا هو اتجه إلى الناس؛ وأن ينطلق إذا توجه إلى ربه وحده يذكره ويسبحه :
{ قال : آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً . واذكر ربك كثيراً . وسبح بالعشي والإبكار } . .
ويسكت السياق هنا . ونعرف أن هذا قد كان فعلاً . فإذا زكريا يجد في ذات نفسه غير المألوف في حياته وحياة غيره . . لسانه هذا هو لسانه . . ولكنه يحتبس عن كلام الناس وينطلق لمناجاة ربه . . أي قانون يحكم هذه الظاهرة؟ إنه قانون الطلاقة الكاملة للمشيئة العلوية . . فبدونه لا يمكن تفسير هذه الغريبة . . كذلك رزقه بيحيى وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر
وكأنما كانت هذه الخارقة تمهيداً - في السياق - لحادث عيسى الذي انبثقت منه كل الأساطير والشبهات . . وإن هو إلا حلقة من سلسلة في ظواهر المشيئة الطليقة . . فهنا يبدأ في قصة المسيح عليه السلام . وإعداد مريم لتلقي النفخة العلوية بالطهارة والقنوت والعبادة . .
{ وإذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين . يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } . .
وأي اصطفاء؟ وهو يختارها لتلقي النفخة المباشرة ، كما تلقاها أول هذه الخليقة : « آدم »؟ وعرض هذه الخارقة على البشرية من خلالها وعن طريقها؟ إنه الاصطفاء للأمر المفرد في تاريخ البشرية . . وهو بلا جدال أمر عظيم . .
ولكنها - حتى ذلك الحين - لم تكن تعلم ذلك الأمر العظيم
والإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى . وذلك لما لابس مولد عيسى - عليه السلام - من شبهات لم يتورع اليهود أن يلصقوها بمريم الطاهرة ، معتمدين على أن هذا المولد لا مثال له في عالم الناس فيزعموا أن وراءه سراً لا يشرف . . قبحهم الله
وهنا تظهر عظمة هذا الدين؛ ويتبين مصدره عن يقين . فها هو ذا محمد - صلى الله عليه وسلم - رسول الإسلام الذي يلقى من أهل الكتاب - ومنهم النصارى - ما يلقى من التكذيب والعنت والجدل والشبهات . . ها هو ذا يحدث عن ربه بحقيقة مريم العظيمة وتفضيلها على « نساء العالمين » بهذا الإطلاق الذي يرفعها إلى أعلى الآفاق . وهو في معرض مناظرة مع القوم الذين يعتزون بمريم ، ويتخذون من تعظيمها مبرراً لعدم إيمانهم بمحمد وبالدين الجديد
أي صدق؟ وآية عظمة؟ وأية دلالة على مصدر هذا الدين ، وصدق صاحبه الأمين
إنه يتلقى « الحق » من ربه؛ عن مريم وعن عيسى عليه السلام؛ فيعلن هذا الحق ، في هذا المجال . . ولو لم يكن رسولاً من الله الحق ما أظهر هذا القول في هذا المجال بحال
{ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } . .
طاعة وعبادة ، وخشوع وركوع ، وحياة موصولة بالله تمهيداً للأمر العظيم الخطير .

.
وعند هذا المقطع من القصة ، وقبل الكشف عن الحدث الكبير . . يشير السياق إلى شيء من حكمة مساق القصص . . إنه إثبات الوحي ، الذي ينبىء النبي - صلى الله عليه وسلم - بما لم يكن حاضره من أنباء الغيب ، في هذا الأمر :
{ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك . وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم؟ وما كنت لديهم إذ يختصمون } . .
وهي إشارة إلى ما كان من تسابق سدنة الهيكل إلى كفالة مريم ، حين جاءت بها أمها وليدة إلى الهيكل ، وفاء لنذرها وعهدها مع ربها . والنص يشير إلى حادث لم يذكره « العهد القديم » ولا « العهد الجديد » المتداولان؛ ولكن لا بد أنه كان معروفاً عند الأحبار والرهبان . حادث إلقاء الأقلام . . أقلام سدنة الهيكل . . لمعرفة من تكون مريم من نصيبه . والنص القرآني لا يفصل الحادث - ربما اعتماداً على أنه كان معروفاً لسامعيه ، أو لأنه لا يزيد شيئا في أصل الحقيقة التي يريد عرضها على الأجيال القادمة - فلنا أن نفهم أنهم اتفقوا على طريقة خاصة - بواسطة إلقاء الأقلام - لمعرفة من هي من نصيبه ، على نحو ما نصنع في « القرعة » مثلاً . وقد ذكرت بعض الروايات أنهم ألقوا بأقلامهم في نهر الأردن . فجرت مع التيار إلا قلم زكريا فثبت . وكانت هذه هي العلامة بينهم . فسلموا بمريم له .
وكل ذلك من الغيب الذي لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حاضره ، ولم يبلغ إلى علمه . فربما كان من أسرار الهيكل التي لا تفشى ولا تباح للإذاعة بها ، فاتخذها القرآن - في مواجهة كبار أهل الكتاب وقتها - دليلاً على وحي من الله لرسوله الصادق . ولم يرد أنهم ردوا هذه الحجة . ولو كانت موضع جدال لجادلوه؛ وهم قد جاءوا للجدال
والأن نجيء إلى مولد عيسى : العجيبة الكبرى في عرف الناس ، والشأن العادي للمشيئة الطليقة :
{ إذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم . وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين ، ويكلم الناس في المهد وكهلاً؛ ومن الصالحين . قالت : رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر؟ قال : كذلك الله يخلق ما يشاء . إذا قضى أمراً فإنما يقول له : كن . فيكون . . ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل . ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بأية من ربكم : أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير ، فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله؛ وأبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله؛ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم . إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين . ومصدقاً لما بين يدي من التوارة ، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ، وجئتكم بآية من ربكم ، فاتقوا الله وأطيعون .

إن الله ربي وربكم فاعبدوه . هذا صراط مستقيم } . .
لقد تأهلت مريم - إذن - بالتطهر والقنوت والعبادة لتلقي هذا الفضل ، واستقبال هذا الحدث ، وها هي ذي تتلقى - لأول مرة - التبليغ عن طريق الملائكة بالأمر الخطير :
{ إذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم . وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين . ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين } . .
إنها بشارة كاملة وإفصاح عن الأمر كله . بشارة بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم . . فالمسيح بدل من الكلمة في العبارة . وهو الكلمة في الحقيقة . فماذا وراء هذا التعبير؟
إن هذه وأمثالها ، من أمور الغيب التي لا مجال لمعرفة كنهها على وجه التحديد . . ربما كانت من الذي عناه الله بقوله : { أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله . . . } إلخ .
ولكن الأمر أيسر من هذا إذا أردنا أن نفهم طبيعة هذه الحقيقة الفهم الذي يصل القلب بالله ، وصنعته وقدرته ، ومشيئته الطليقة :
لقد شاء الله أن يبدأ الحياة البشرية بخلق آدم من تراب - وسواء كان قد جبله مباشرة من التراب أو جبل السلالة الأولى التي انتهت إليه من تراب ، فإن هذا لا يقدم ولا يؤخر في طبيعة السر الذي لا يعلمه إلا الله . سر الحياة التي لابست أول مخلوق حي ، أو لابست آدم إن كان خلقه مباشرة من التراب الميت وهذه كتلك في صنع الله . وليست واحدة منهما بأولى من الأخرى في الوجود والكينونة . . . .
من أين جاءت هذه الحياة؟ وكيف جاءت؟ إنها قطعاً شيء آخر غير التراب وغير سائر المواد الميتة في هذه الأرض . . شيء زائد . وشيء مغاير . وشيء ينشىء آثاراً وظواهر لا توجد أبداً في التراب ولا في مادة ميتة على الإطلاق . .
هذا السر من أين جاء؟ إنه لا يكفي أننا لا نعلم لكي ننكر أو نهذر كما يفعل الماديون في لجاجة صغيرة لا يحترمها عاقل فضلا عن عالم
نحن لا نعلم . وقد ذهبت سدى جميع المحاولات التي بذلناها - نحن البشر - بوسائلنا المادية لمعرفة مصدرها . أو لإنشائها بأيدينا من الموات
نحن لا نعلم . . ولكن الله الذي وهب الحياة يعلم . . وهو يقول لنا : إنها نفخة من روحه . وإن الأمر قد تم بكلمة منه . { كن . فيكون } . .
ما هي هذه النفخة؟ وكيف تنفخ في الموات فينشأ فيه هذا السر اللطيف الخافي على الأفهام؟
ما هي؟ وكيف؟ هذا هو الذي لم يخلق العقل البشري لإدراكه . لأنه ليس من شأنه . إنه لم يوهب القدرة على إدراكه . إن معرفة ماهية الحياة وطريق النفخة لا يجديه شيئاً في وظيفته التي خلقه الله لها - وظيفة الخلافة في الأرض - إنه لن يخلق حياة من موات .

. فما قيمة أن يعرف طبيعة الحياة ، وماهية النفخة من روح الله ، وكيفية اتصالها بآدم أو بأول سلم الحياة الذي سارت فيه السلالة الحية؟
والله - سبحانه - يقول : إن النفخة من روحه في آدم هي التي جعلت له هذا الامتياز والكرامة - حتى على الملائكة - فلا بد إذن أن تكون شيئاً آخر غير مجرد الحياة الموهوبة للدود والميكروب وهذا ما يقودنا إلى اعتبار الإنسان جنساً نشأ نشأة ذاتية ، وأن له اعتباراً خاصاً في نظام الكون ، ليس لسائر الأحياء
وعلى أية حال فهذا ليس موضوعنا هنا ، إنما هي لمحة في سياق العرض للتحرز من شبهة قد تقوم في نفس القارئ لما عرضناه جدلاً حول نشأة الإنسان
المهم هنا أن الله يخبرنا عن نشأة سر الحياة؛ وإن لم ندرك طبيعة هذا السر وكيفية نفخه في الموات . .
وقد شاء الله - بعد نشأة آدم نشأة ذاتية مباشرة - أن يجعل لإعادة النشأة الإنسانية طريقاً معيناً . طريق التقاء ذكر وأنثى . واجتماع بويضة وخلية تذكير . فيتم الإخصاب ، ويتم الإنسال . والبويضة حية غير ميتة والخلية حية كذلك متحركة .
ومضى مألوف الناس على هذه القاعدة . . حتى شاء الله أن يخرق هذه القاعدة المختارة في فرد من بني الإنسان . فينشئه نشأة قريبة وشبيهة بالنشأة الأولى . وإن لم تكن مثلها تماماً . أنثى فقط . تتلقى النفخة التي تنشئ الحياة ابتداء . فتنشأ فيها الحياة
أهذه النفخة هي الكلمة؟ آلكلمة هي توجه الإرادة؟ آلكلمة : « كن » التي قد تكون حقيقة وقد تكون كناية عن توجه الإرادة؟ والكلمة هي عيسى ، أو هي التي منها كينونته؟
كل هذه بحوث لا طائل وراءها إلا الشبهات . . وخلاصتها هي تلك : أن الله شاء أن ينشىء حياة على غير مثال . فأنشأها وفق إرادته الطليقة التي تنشئ الحياة بنفخة من روح الله . ندرك آثارها ، ونجهل ماهيتها . ويجب أن نجهلها . لأنها لا تزيد مقدرتنا على الاضطلاع بوظيفة الخلافة في الأرض ، ما دام إنشاء الحياة ليس داخلاً في تكليف الاستخلاف
والأمر هكذا سهل الإدراك . ووقوعه لا يثير الشبهات
وهكذا بشرت الملائكة مريم بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم . . فتضمنت البشارة نوعه ، وتضمنت اسمه ونسبه . وظهر من هذا النسب أن مرجعه إلى أمه . . ثم تضمنت البشارة كذلك صفته ومكانه من ربه : { وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين } . . كما تضمنت ظاهرة معجزة تصاحب مولده { ويكلم الناس في المهد } . . ولمحة من مستقبله : { وكهلاً } . . وسمته والموكب الذي ينتسب إليه : { ومن الصالحين } . .
فأما مريم الفتاة الطاهرة العذراء المقيدة بمألوف البشر في الحياة ، فقد تلقت البشارة كما يمكن أن تتلقاها فتاة . واتجهت إلى ربها تناجيه وتتطلع إلى كشف هذا اللغز الذي يحير عقل الإنسان :
{ قالت : رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر؟ } .

.
وجاءها الجواب ، يردها إلى الحقيقة البسيطة التي يغفل عنها البشر لطول الفتهم للأسباب والمسببات الظاهرة لعلمهم القليل ، ومألوفهم المحدود :
{ قال : كذلك الله يخلق ما يشاء . إذا قضى أمراً فإنما يقول له : كن فيكون } . .
وحين يرد الأمر إلى هذه الحقيقة الأولية يذهب العجب ، وتزول الحيرة ، ويطمئن القلب؛ ويعود الإنسان على نفسه يسألها في عجب : كيف عجبت من هذا الأمر الفطري الواضح القريب
وهكذا كان القرآن ينشئ التصور الإسلامي لهذه الحقائق الكبيرة بمثل هذا اليسر الفطري القريب . وهكذا كان يجلو الشبهات التي تعقدها الفلسفات المعقدة ، ويقر الأمر في القلوب وفي العقول سواء . .
ثم يتابع الملك البشارة لمريم عن هذا الخلق الذي اختارها الله لإنجابه على غير مثال؛ وكيف ستمضي سيرته في بني إسرائيل . . وهنا تمتزج البشارة لمريم بمقبل تاريخ المسيح ، ويلتقيان في سياق واحد ، كأنما يقعان اللحظة ، على طريقة القرآن :
{ ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل } . .
والكتاب قد يكون المراد به الكتابة؛ وقد يكون هو التوراة والإنجيل ، ويكون عطفهما على الكتاب هو عطف بيان . والحكمة حالة في النفس يتأتي معها وضع الأمور في مواضعها ، وإدراك الصواب واتباعه . وهي خير كثير . والتوراة كانت كتاب عيسى كالإنجيل . فهي أساس الدين الذي جاء به . والإنجيل تكملة وإحياء لروح التوراة ، ولروح الدين التي طمست في قلوب بني إسرائيل . وهذا ما يخطئ الكثيرون من المتحدثين عن المسيحية فيه فيغفلون التوراة ، وهي قاعدة دين المسيح - عليه السلام - وفيها الشريعة التي يقوم عليها نظام المجتمع؛ ولم يعدل فيها الإنجيل إلا القليل . أما الإنجيل فهو نفخة إحياء وتجديد لروح الدين ، وتهذيب لضمير الإنسان بوصله مباشرة بالله من وراء النصوص . هذا الإحياء وهذا التهذيب اللذان جاء المسيح وجاهد لهما حتى مكروا به كما سيجيء .
{ ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله ، وأبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ، وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم . إن في ذلك لآية لكم . إن كنتم مؤمنين } . .
ويفيد هذا النص أن رسالة عيسى - عليه السلام - كانت لبني إسرائيل ، فهو أحد أنبيائهم . ومن ثم كانت التوراة التي نزلت على موسى - عليه السلام - وفيها الشريعة المنظمة لحياة الجماعة الإسرائيلية ، والمتضمنة لقوانين التعامل والتنظيم ، هي كتاب عيسى كذلك ، مضافاً إليها الإنجيل الذي يتضمن إحياء الروح وتهذيب القلب وإيقاظ الضمير .
والآية التي بشر الله أمه مريم أنها ستكون معه ، والتي واجه بها بالفعل بني إسرائيل هي معجزة النفخ في الموات فيدخله سر الحياة ، وإحياء الموتى من الناس ، وإبراء المولود الأعمى ، وشفاء الأبرص ، والإخبار بالغيب - بالنسبة له - وهو المدخر من الطعام وغيره في بيوت بني إسرائيل ، وهو بعيد عن رؤيته بعينه .

.
وحرص النص على أن يذكر على لسان المسيح - عليه السلام - كما هو مقدر في غيب الله عند البشارة لمريم ، وكما تحقق بعد ذلك على لسان عيسى - أن كل خارقة من هذه الخوارق التي جاءهم بها ، إنما جاءهم بها من عند الله . وذكر إذن الله بعد كل واحدة منها تفصيلاً وتحديدا؛ ولم يدع القول يتم ليذكر في نهايته إذن الله زيادة في الاحتياط
وهذه المعجزات في عمومها تتعلق بإنشاء الحياة أو ردها ، أو رد العافية وهي فرع عن الحياة . ورؤية غيب بعيد عن مدى الرؤية . . وهي في صميمها تتسق مع مولد عيسى؛ ومنحه الوجود والحياة على غير مثال إلا مثال آدم - عليه السلام - وإذا كان الله قادراً أن يجري هذه المعجزات على يد واحد من خلقه ، فهو قادر على خلق ذلك الواحد من غير مثال . . ولا حاجة إذن لكل الشبهات والأساطير التي نشأت عن هذا المولد الخاص متى رُد الأمر إلى مشيئة الله الطليقة ولم يقيد الإنسانُ اللهَ - سبحانه - بمألوف الإنسان
{ ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم . وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون . إن الله ربي وربكم فاعبدوه . هذا صراط مستقيم } . .
وهذا الختام في دعوة عيسى - عليه السلام - لبني إسرائيل يتكشف عن حقائق أصيلة في طبيعة دين الله ، وفي مفهوم هذا الدين في دعوة الرسل جميعاً - عليهم الصلاة والسلام - وهي حقائق ذات قيمة خاصة حين ترد على لسان عيسى - عليه السلام - بالذات ، وهو الذي ثار حول مولده وحقيقته ما ثار من الشبهات ، التي نشأت كلها من الانحراف عن حقيقة دين الله التي لا تتبدل بين رسول ورسول .
فهو إذ يقول : { ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } . .
يكشف عن طبيعة المسيحية الحقة . فالتوارة التي تنزلت على موسى - عليه السلام - وهي تتضمن التشريع المنظم لحياة الجماعة وفق حاجة ذلك الزمان ، وملابسات حياة بني إسرائيل ( بما أنها ديانة خاصة لمجموعة من البشر في فترة من الزمان ) - هذه التوراة معتمدة في رسالة المسيح عليه السلام؛ وجاءت رسالته مصدقة لها ، مع تعديلات تتعلق بإحلال بعض ما حرم الله عليهم ، وكان تحريمه في صورة عقوبات حلت بهم على معاص وانحرافات ، أدبهم الله عليها بتحريم بعض ما كان حلالاً لهم . ثم شاءت إرادته أن يرحمهم بالمسيح عليه السلام ، فيحل لهم بعض الذي حرم عليهم .
ومن هذا يتبين أن طبيعة الدين - أي دين - أن يتضمن تنظيماً لحياة الناس بالتشريع؛ وألا يقتصر على الجانب التهذيبي الأخلاقي وحده ، ولا على المشاعر الوجدانية وحدها ، ولا على العبادات والشعائر وحدها كذلك .

فهذا لا يكون ديناً . فما الدين إلا منهج الحياة الذي أراده الله للبشر؛ ونظام الحياة الذي يربط حياة الناس بمنهج الله .
ولا يمكن أن ينفك عنصر العقيدة الإيمانية ، عن الشعائر التعبدية ، عن القيم الخلقية ، عن الشرائع التنظيمية ، في أي دين يريد أن يصرّف حياة الناس وفق المنهج الإلهي . وأي انفصال لهذه المقومات يبطل عمل الدين في النفوس وفي الحياة؛ ويخالف مفهوم الدين وطبيعته كما أراده الله .
وهذا ما حدث للمسيحية . فإنها لعدة ملابسات تاريخية من ناحية؛ ولكونها جاءت موقوته لزمن - حتى يجيء الدين الأخير - ثم عاشت بعد زمنها من ناحية . . قد انفصل فيها الجانب التشريعي التنظيمي عن الجانب الروحاني التعبدي الأخلاقي . . فقد حدث أن قامت العداوة المستحكمة بين اليهود والمسيح عليه السلام وأنصاره ومن اتبع دينه فيما بعد؛ فأنشأ هذا انفصالاً بين التوراة المتضمنة للشريعة والإنجيل المتضمن للإحياء الروحي والتهذيب الأخلاقي . . كما أن تلك الشريعة كانت شريعة موقوتة لزمن خاص ولجماعة من الناس خاصة . وكان في تقدير الله أن الشريعة الدائمة الشاملة للبشرية كلها ستجيء في موعدها المقدور .
وعلى أية حال فقد انتهت المسيحية إلى أن تكون نحلة بغير شريعة . وهنا عجزت عن أن تقود الحياة الاجتماعية للأمم التي عاشت عليها . فقيادة الحياة الاجتماعية تقتضي تصوراً اعتقادياً يفسر الوجود كله ، ويفسر حياة الإنسان ومكانه في الوجود؛ وتقتضي نظاماً تعبدياً وقيماً أخلاقية . ثم تقتضي - حتماً - تشريعات منظمة لحياة الجماعة ، مستمدة من ذلك التصور الاعتقادي ، ومن هذا النظام التعبدي ، ومن هذه القيم الأخلاقية . وهذا القوام التركيبي للدين هو الذي يضمن قيام نظام اجتماعي ، له بواعثه المفهومة ، وله ضماناته المكينة . . فلما وقع ذلك الانفصال في الدين المسيحي عجزت المسيحية عن أن تكون نظاماً شاملاً للحياة البشرية ، واضطر أهلها إلى الفصل بين القيم الروحية والقيم العملية في حياتهم كلها ، ومن بينهما النظام الاجتماعي الذي تقوم عليه هذه الحياة . وقامت الأنظمة الاجتماعية هناك على غير قاعدتها الطبيعية الوحيدة . فقامت معلقة في الهواء . أو قامت عرجاء
ولم يكن هذا أمراً عادياً في الحياة البشرية ، ولا حادثاً صغيراً في التاريخ البشري . . إنما كان كارثة : كارثة ضخمة تنبع منها الشقوة والحيرة والانحلال والشذوذ والبلاء الذي تتخبط فيه الحضارة المادية اليوم . سواء في البلاد التي لا تزال تعتنق المسيحية - وهي خالية من النظام الاجتماعي لخلوها من التشريع - أو التي نفضت عنها المسيحية وهي في الحقيقة لم تبعد كثيراً عن الذين يدعون أنهم مسيحيون . . فالمسيحية كما جاء بها السيد المسيح ، وكما هي طبيعة كل دين يستحق كلمة دين ، هي الشريعة المنظمة للحياة ، المنبثقة من التصور الاعتقادي في الله ، ومن القيم الأخلاقية المستندة إلى هذا التصور .

. وبدون هذا القوام الشامل المتكامل لا تكون مسيحية . ولا يكون دين على الإطلاق وبدون هذا القوام الشامل المتكامل لا يقوم نظام اجتماعي للحياة البشرية يلبي حاجات النفس البشرية ، ويلبي واقع الحياة البشرية ، ويرفع النفس البشرية والحياة البشرية كلها إلى الله .
وهذه الحقيقة هي أحد المفاهيم التي يتضمنها قول المسيح عليه السلام :
{ ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } . . إلخ . .
وهو يستند في تبليغ هذه الحقيقة على الحقيقة الكبرى الأولى : حقيقة التوحيد الذي لا شبهة فيه :
{ وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون . إن الله ربي وربكم فاعبدوه . هذا صراط مستقيم } . .
فهو يعلن حقيقة التصور الاعتقادي التي قام عليها دين الله كله : المعجزات التي جاءهم بها لم يجىء بها من عند نفسه . فما له قدرة عليها وهو بشر . إنما جاءهم بها من عند الله . ودعوته تقوم ابتداء على تقوى الله وطاعة رسوله . . ثم يؤكد ربوبية الله له ولهم على السواء - فما هو برب وإنما هو عبد - وأن يتوجهوا بالعبادة إلى الرب ، فلا عبودية إلا لله . . ويختم قوله بالحقيقة الشاملة . . فتوحيد الرب وعبادته ، وطاعة الرسول والنظام الذي جاء به : { هذا صراط مستقيم } . . وما عداه عوج وانحراف . وما هو قطعاً بالدين . .
ومن بشارة الملائكة لمريم بابنها المنتظر ، وصفاته ورسالته ومعجزاته وكلماته ، هذه التي ذكرت ملحقة بالبشارة . . ينتقل السياق مباشرة إلى إحساسه - عليه السلام - بالكفر من بني إسرائيل ، وإلى طلبه الأنصار لإبلاغ دين الله :
{ فلما أحس عيسى منهم الكفر قال : من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون : نحن أنصار الله ، آمنا بالله ، واشهد بأنا مسلمون . ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين } .
وهنا فجوة كبيرة في السياق . فإنه لم يذكر أن عيسى قد ولد بالفعل؛ ولا أن أمه واجهت به القوم فكلمهم في المهد؛ ولا أنه دعا قومه وهو كهل؛ ولا أنه عرض عليهم هذه المعجزات التي ذكرت في البشارة لأمه ( كما جاء في سورة مريم ) . . وهذه الفجوات ترد في القصص القرآني ، لعدم التكرار في العرض من جهة ، وللاقتصار على الحلقات والمشاهد المتعلقة بموضوع السورة وسياقها من جهة أخرى . .
والأن لقد أحس عيسى الكفر من بني إسرائيل - بعد ما أراهم كل تلك المعجزات التي لا تتهيأ لبشر؛ والتي تشهد بأن الله وراءها ، وأن قوة الله تؤيدها ، وتؤيد من جاءت على يده . ثم على الرغم من أن المسيح جاء ليخفف عن بني إسرائيل بعض القيود والتكاليف . .
عندئذ دعا دعوته :
{ قال : من أنصاري إلى الله؟ } . .
من أنصاري إلى دين الله ودعوته ومنهجه ونظامه؟ من أنصاري إلى الله لأبلغ إليه ، وأؤدي عنه؟
ولا بد لكل صاحب عقيدة ودعوة من أنصار ينهضون معه ، ويحملون دعوته ، ويحامون دونها ، ويلغونها إلى من يليهم ، ويقومون بعده عليها .

.
{ قال الحواريون : نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون } .
فذكروا الإسلام بمعناه الذي هو حقيقة الدين ، وأشهدوا عيسى - عليه السلام - على إسلامهم هذا وانتدابهم لنصرة الله . . أي نصرة رسوله ودينه ومنهجه في الحياة .
ثم اتجهوا إلى ربهم يتصلون مباشرة به في هذا الأمر الذي يقومون عليه :
{ ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول ، فاكتبنا مع الشاهدين } .
وفي هذا التوجه لعقد البيعة مع الله مباشرة لفتة ذات قيمة . . إن عهد المؤمن هو ابتداء مع ربه ، ومتى قام الرسول بإبلاغه فقد انتهت مهمة الرسول من ناحية الاعتقاد؛ وانعقدت البيعة مع الله ، فهي باقية في عنق المؤمن بعد الرسول . . وفيه كذلك تعهد لله باتباع الرسول . فليس الأمر مجرد عقيدة في الضمير؛ ولكنة اتباع لمنهج ، والاقتداء فيه بالرسول . وهو المعنى الذي يركز عليه سياق هذه السورة - كما رأينا - ويكرره بشتى الأساليب .
ثم عبارة أخرى تلفت النظر في قول الحواريين : { فاكتبنا مع الشاهدين } . .
فأي شهادة وأي شاهدين؟
إن المسلم المؤمن بدين الله مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين . شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء؛ وتؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر . . وهو لا يؤدي هذه الشهادة حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة حية لهذا الدين . صورة يراها الناس فيرون فيها مثلاً رفيعاً ، يشهد لهذا الدين بالأحقية في الوجود ، وبالخيرية والأفضلية على سائر ما في الأرض من أنظمة وأوضاع وتشكيلات .
وهو لا يؤدي هذه الشهادة كذلك حتى يجعل من هذا الدين قاعدة حياته ، ونظام مجتمعه ، وشريعة نفسه وقومه . فيقوم مجتمع من حوله ، تدبر أموره وفق هذا المنهج الإلهي القويم . . وجهاده لقيام هذا المجتمع ، وتحقيق هذا المنهج؛ وإيثاره الموت في سبيله على الحياة في ظل مجتمع آخر لا يحقق منهج الله في حياة الجماعة البشرية . . هو شهادته بأن هذا الدين خير من الحياة ذاتها وهي أعز ما يحرص عليه الأحياء ومن ثم يدعى « شهيداً » . .
فهؤلاء الحواريون يدعون الله أن يكتبهم مع الشاهدين لدينه . . أي أن يوفقهم ويعينهم في أن يجعلوا من أنفسهم صورة حية لهذا الدين؛ وأن يبعثهم للجهاد في سبيل تحقيق منهجه في الحياة ، وإقامة مجتمع يتمثل فيه هذا المنهج . ولو أدوا ثمن ذلك حياتهم ليكونوا من « الشهداء » على حق هذا الدين .
وهو دعاء جدير بأن يتأمله كل من يدعي لنفسه الإسلام . . فهذا هو الإسلام ، كما فهمه الحواريون . وكما هو في ضمير المسلمين الحقيقيين ومن لم يؤد هذه الشهادة لدينه فكتمها فهو آثم قلبه . فأما إذا ادعى الإسلام ثم سار في نفسه غير سيرة الإسلام؛ أو حاولها في نفسه ، ولكنه لم يؤدها في المجال العام ، ولم يجاهد لإقامة منهج الله في الحياة إيثاراً للعافية ، وإيثاراً لحياته على حياة الدين ، فقد قصر في شهادته أو أدى شهادة ضد هذا الدين .

شهادة تصد الآخرين عنه . وهم يرون أهله يشهدون عليه لا له وويل لمن يصد الناس عن دين الله عن طريق ادعائه أنه مؤمن بهذا الدين وما هو من المؤمنين
ويمضي السياق إلى خاتمة القصة بين عيسى - عليه السلام - وبني إسرائيل :
{ ومكروا ومكر الله ، والله خير الماكرين . إذ قال الله : يا عيسى إني متوفيك ، ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا ، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة؛ ثم إليَّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ، فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة ، وما لهم من ناصرين . وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ، والله لا يحب الظالمين } . .
والمكر الذي مكره اليهود الذين لم يؤمنوا برسولهم - عيسى عليه السلام - مكر طويل عريض . فقد قذفوه عليه السلام وقذفوا الطاهرة أمه مع يوسف النجار خطيبها الذي لم يدخل بها كما تذكر الأناجيل . . وقد اتهموه بالكذب والشعوذة؛ ووشوا به إلى الحاكم الروماني « بيلاطس » وادعوا أنه « مهيج » يدعو الجماهير للانتقاض على الحكومة وأنه مشعوذ يجدف ويفسد عقيدة الجماهير حتى سلم لهم بيلاطس بأن يتولوا عقابه بأيديهم ، لأنه لم يجرؤ - وهو وثني - على احتمال تبعة هذا الإثم مع رجل لم يجد عليه ريبة . . وهذا قليل من كثير . .
{ ومكروا ومكر الله . والله خير الماكرين } . .
والمشاكلة هنا في اللفظ هي وحدها التي تجمع بين تدبيرهم وتدبير الله . . والمكر التدبير . . ليسخر من مكرهم وكيدهم إذا كان الذي يواجهه هو تدبير الله . فأين هم من الله؟ وأين مكرهم من تدبير الله؟
لقد أرادوا صلب عيسى - عليه السلام - وقتله . وأراد الله أن يتوفاه ، وأن يرفعه إليه . وأن يطره من مخالطة الذين كفروا والبقاء بينهم وهم رجس ودنس ، وأن يكرمه فيجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة . . وكان ما أراده الله . وأبطل الله مكر الماكرين :
{ إذ قال الله : يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا ، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } .
فأما كيف كانت وفاته ، وكيف كان رفعه . . فهي أمور غيبية تدخل في المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله . ولا طائل وراء البحث فيها . لا في عقيدة ولا في شريعة . والذين يجرون وراءها ، ويجعلونها مادة للجدل ، ينتهي بهم الحال إلى المراء ، وإلى التخليط ، وإلى التعقيد . دون ما جزم بحقيقة . ودون ما راحة بال في أمر موكول إلى علم الله .
وأما أن الله جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة .

. فلا يصعب القول فيه . فالذين اتبعوه هم الذين يؤمنون بدين الله الصحيح . . الإسلام . . الذي عرف حقيقته كل نبي ، وجاء به كل رسول ، وآمن به كل من آمن حقاً بدين الله . . وهؤلاء فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة في ميزان الله . . كما أنهم كذلك في واقع الحياة كلما واجهوا معسكر الكفر بحقيقة الإيمان ، وحقيقة الاتباع . . ودين الله واحد . وقد جاء به عيسى بن مريم كما جاء به من قبله ومن بعده كل رسول . والذين يتبعون محمداً - صلى الله عليه وسلم - هم في الوقت ذاته اتبعوا موكب الرسل كلهم . من لدن آدم - عليه السلام - إلى آخر الزمان .
وهذا المفهوم الشامل هو الذي يتفق مع سياق السورة ، ومع حقيقة الدين كما يركز عليها هذا السياق .
فأما نهاية المطاف للمؤمنين والكافرين ، فيقررها السياق في صدد إخبار الله لعيسى عليه السلام :
{ ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون . فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين . وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم . والله لا يحب الظالمين } . .
وفي هذا النص تقرير لجدية الجزاء ، وللقسط الذي لا يميل شعرة ، ولا تتعلق به الأماني ولا الافتراء . . رجعة إلى الله لا محيد عنها . وحكم من الله فيما اختلفوا فيه لا مرد له . وعذاب شديد في الدنيا والآخرة للكافرين لا ناصر لهم منه . وتوفية للأجر للذين آمنوا وعملوا الصالحات لا محاباة فيه ولا بخس . . { والله لا يحب الظالمين } . . فحاشا أن يظلم وهو لا يحب الظالمين . .
وكل ما يقوله أهل الكتاب إذن من أنهم لن يدخلوا النار إلا أياما معدودات . وكل ما رتبوه على هذا التميع في تصور عدل الله في جزائه من أماني خادعة . . باطل باطل لا يقوم على أساس .
وعندما يصل السياق إلى هذا الحد من قصة عيسى التي تدور حولها المناظرة ويدور حولها الجدل ، يبدأ التعقيب الذي يقرر الحقائق الأساسية المستفادة من هذا القصص ، وينتهي إلى تلقين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يواجه به أهل الكتاب مواجهة فاصلة تنهي الحوار والجدل؛ وتستقر على حقيقة ما جاء به ، وما يدعو إليه ، في وضوح كامل وفي يقين :
{ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم . إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب . ثم قال له : كن . فيكون . الحق من ربك فلا تكن من الممترين . فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل : تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ، ونساءنا ونساءكم ، وأنفسنا وأنفسكم ، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق ، وما من إله إلا الله . وإن الله لهو العزيز الحكيم .

فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين . قل : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم : ألا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئاً ، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله . فإن تولوا فقولوا : اشهدوا بأنا مسلمون } . .
وهكذا نجد هذا التعقيب يتضمن ابتداء صدق الوحي الذي يوحى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - :
{ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم } . .
ذلك القصص . وذلك التوجيه القرآني كله . فهو وحي من الله . يتلوه الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وفي التعبير معنى التكريم والقرب والود . . فماذا بعد أن يتولى الله تعالى التلاوة على محمد نبيه؟ تلاوة الآيات والذكر الحكيم . . وإنه لحكيم يتولى تقرير الحقائق الكبرى في النفس والحياة بمنهج وأسلوب وطريقة تخاطب الفطرة وتتلطف في الدخول عليها واللصوق بها بشكل غير معهود فيما يصدر عن غير هذا المصدر الفريد .
ثم يحسم التعقيب في حقيقة عيسى عليه السلام ، وفي طبيعة الخلق والإرادة التي تنشىء كل شيء كما أنشأت عيسى عليه السلام :
{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم . خلقه من تراب . ثم قال له : كن فيكون } . .
إن ولادة عيسى عجيبة حقاً بالقياس إلى مألوف البشر . ولكن أية غرابة فيها حين تقاس إلى خلق آدم أبي البشر؟ وأهل الكتاب الذين كانوا يناظرون ويجادلون حول عيسى - بسبب مولده - ويصوغون حوله الأوهام والأساطير بسبب أنه نشأ من غير أب . . أهل الكتاب هؤلاء كانوا يقرون بنشأة آدم من التراب . وأن النفخة من روح الله هي التي جعلت منه هذا الكائن الإنساني . . دون أن يصوغوا حول آدم الأساطير التي صاغوها حول عيسى . ودون أن يقولوا عن آدم : إن له طبيعة لاهوتية . على حين أن العنصر الذي به صار آدم إنسانا هو ذاته العنصر الذي به ولد عيسى من غير أب : عنصر النفخة الإلهية في هذا وذاك وإن هي إلا الكلمة : { كن } تنشىء ما تراد له النشأة { فيكون }
وهكذا تتجلى بساطة هذه الحقيقة . . حقيقة عيسى ، وحقيقة آدم ، وحقيقة الخلق كله . وتدخل إلى النفس في يسر وفي وضوح ، حتى ليعجب الإنسان : كيف ثار الجدل حول هذا الحادث ، وهو جار وفق السنة الكبرى . سنة الخلق والنشأة جميعاً
وهذه هي طريقة « الذكر الحكيم » في مخاطبة الفطرة بالمنطق الفطري الواقعي البسيط ، في أعقد القضايا ، التي تبدو بعد هذا الخطاب وهي اليسر الميسور
وعندما يصل السياق بالقضية إلى هذا التقرير الواضح يتجه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يثبته على الحق الذي معه ، والذي يتلى عليه ، ويؤكده في حسه؛ كما يؤكده في حس من حوله من المسلمين ، الذين ربما تؤثر في بعضهم شبهات أهل الكتاب ، وتلبيسهم وتضليلهم الخبيث :
{ الحق من ربك فلا تكن من الممترين } .

.
وما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممترياً ولا شاكاً فيما يتلوه عليه ربه ، في لحظة من لحظات حياته . . وإنما هو التثبيت على الحق ، ندرك منه مدى ما كان يبلغه كيد أعداء الجماعة المسلمة من بعض أفرادها في ذلك الحين . كما ندرك منه مدى ما تتعرض له الأمة المسلمة في كل جيل من هذا الكيد؛ وضرورة تثبيتها على الحق الذي معها في وجه الكائدين والخادعين؛ ولهم في كل جيل أسلوب من أساليب الكيد جديد .
وهنا - وقد وضحت القضية وظهر الحق جلياً - يوجه الله تعالى رسوله الكريم إلى أن ينهي الجدل والمناظرة حول هذه القضية الواضحة وحول هذا الحق البين وأن يدعوهم إلى المباهلة كما هي مبينة في الآية التالية :
{ فمن حاجك فيه - من بعد ما جاءك من العلم - فقل : تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ، وأنفسنا وأنفسكم . ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } . .
وقد دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كانوا يناظرونه في هذه القضية إلى هذا الاجتماع الحاشد ، ليبتهل الجميع إلى الله أن ينزل لعنته على الكاذب من الفريقين . فخافوا العاقبة وأبوا المباهلة . وتبين الحق واضحاً . ولكنهم فيما ورد من الروايات لم يسلموا احتفاظاً بمكانتهم من قومهم ، وبما كان يتمتع به رجال الكنيسة من سلطان وجاه ومصالح ونعيم وما كانت البينة هي التي يحتاج إليها من يصدون عن هذا الدين إنما هي المصالح والمطامع والهوى يصد الناس عن الحق الواضح الذي لا خفاء فيه .
ثم يمضي التعقيب بعد الدعوة إلى المباهلة - وربما كانت الآيات التالية قد نزلت بعد الامتناع عنها - يقرر حقيقة الوحي ، وحقيقة القصص ، وحقيقة الوحدانية التي يدور حولها الحديث؛ ويهدد من يتولى عن الحق ويفسد في الأرض بهذا التولي :
{ إن هذا لهو القصص الحق . وما من إله إلا الله . وإن الله لهو العزيز الحكيم . فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين } .
والحقائق التي تقررها هذه النصوص سبق تقريرها . وهي تذكر هنا للتوكيد بعد الدعوة إلى المباهلة وإبائها . . إنما الجديد هو وصف الذين يتولون عن الحق بأنهم مفسدون ، وتهديدهم بأن الله عليم بالمفسدين . .
والفساد الذي يتولاه المعرضون عن حقيقة التوحيد فساد عظيم . وما ينشأ في الأرض الفساد - في الواقع - إلا من الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة . لا اعتراف اللسان . فاعتراف اللسان لا قيمة له . ولا اعتراف القلب السلبي . فهذا الاعتراف لا ينشئ آثاره الواقعية في حياة الناس . . إنما هي الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة بكل آثارها التي تلازمها في واقع الحياة البشرية . . وأول ما يلازم حقيقة التوحيد أن تتوحد الربوبية ، فتتوحد العبودية . . لا عبودية إلا لله . ولا طاعة إلا لله . ولا تلقي إلا عن الله .

فليس إلا لله تكون العبودية . وليس إلا لله تكون الطاعة . وليس إلا عن الله يكون التلقي . . التلقي في التشريع ، والتلقي في القيم والموازين ، والتلقي في الآداب والأخلاق . والتلقي في كل ما يتعلق بنظام الحياة البشرية . . وإلا فهو الشرك أو الكفر . مهما اعترفت الألسنة ، ومهما اعترفت القلوب الاعتراف السلبي الذي لا ينشئ آثاره في حياة الناس العامة في استسلام وطاعة واستجابة وقبول .
إن هذا الكون بجملته لا يستقيم أمره ولا يصلح حاله ، إلا أن يكون هناك إله واحد ، يدبر أمره : و { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } وأظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية : تعبد العبيد؛ والتشريع لهم في حياتهم ، وإقامة الموازين لهم . فمن ادعى لنفسه شيئا من هذا كله فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية؛ وأقام نفسه للناس إلها من دون الله .
وما يقع الفساد في الأرض كما يقع عندما تتعدد الآلهة في الأرض على هذا النحو . عندما يتعبد الناسُ الناس . عندما يدعي عبد من العبيد أن له على الناس حق الطاعة لذاته؛ وأن له فيهم حق التشريع لذاته؛ وأن له كذلك حق إقامة القيم والموازين لذاته . فهذا هو ادعاء الألوهية ولو لم يقل كما قال فرعون : { أنا ربكم الأعلى } والإقرار به هو الشرك بالله أو الكفر به . . وهو الفساد في الأرض أقبح الفساد .
ومن ثم يتلو ذلك التهديد في السياق دعوة أهل الكتاب إلى كلمة سواء : إلى عبادة الله وحده ، وعدم الإشراك به ، وألا يتخذ الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله . . وإلا فهي المفاصلة التي لا مصاحبة بعدها ولا مجادلة :
{ قل : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم : ألا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله . فإن تولوا فقولوا : اشهدوا بأنا مسلمون } . .
وإنها لدعوة منصفة من غير شك . دعوة لا يريد بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتفضل عليهم هو ومن معه من المسلمين . . كلمة سواء يقف أمامها الجميع على مستوى واحد . لا يعلو بعضهم على بعض ، ولا يتعبد بعضهم بعضاً . دعوة لا يأباها إلا متعنت مفسد ، لا يريد أن يفيء إلى الحق القويم .
إنها دعوة إلى عبادة الله وحده لا يشركون به شيئاً . لا بشراً ولا حجراً . ودعوة إلى ألا يتخذ بعضهم بعضاً من دون الله أرباباً . لا نبياً ولا رسولاً . فكلهم لله عبيد . إنما اصطفاهم الله للتبليغ عنه ، لا لمشاركته في الألوهية والربوبية .
{ فإن تولوا فقولوا : اشهدوا بأنا مسلمون } .
فإن أبوا عبادة الله وحده دون شريك . والعبودية لله وحده دون شريك . وهما المظهران اللذان يقرران موقف العبيد من الألوهية . . إن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون . .
وهذه المقابلة بين المسلمين ومن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله ، تقرر بوضوح حاسم من هم المسلمون .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

هذا الشوط من السورة ما يزال يجري مع الخط الأول الأساسي العريض فيها . . خط المعركة بين أهل الكتاب والجماعة المسلمة . . معركة العقيدة ، وما يبذل أعداء هذا الدين من جهد ومن حيلة ومن مكيدة ومن خداع ، ومن كذب ، ومن تدبير ، للبس الحق بالباطل ، وبث الريب والشكوك ، وتبييت الشر والضر لهذه الأمة بلا وناة ولا انقطاع . . ثم مواجهة القرآن لهذا كله ، بتبصير المؤمنين بحقيقة ما هم عليه من الحق؛ وحقيقة ما عليه أعداؤهم من الباطل؛ وحقيقة ما يبيته لهم هؤلاء الأعداء . . وأخيراً بتشريح هؤلاء الأعداء . . طباعهم وأخلاقهم وأعمالهم ونياتهم . . على مشهد من الجماعة المسلمة . لتعريفها حقيقة أعدائها ، وفضح ما يضفونه على أنفسهم من مظاهر العلم والمعرفة ، وتبديد ثقة المخدوعين من المسلمين فيهم ، وتنفيرهم من حالهم وإسقاط دسائسهم بتركها مكشوفة عوراء ، لا تخدع أحداً ولا تنطلي على أحد
ويبدأ هذا الشوط بمواجهة أهل الكتاب - اليهود والنصارى - بسخف موقفهم وهم يحاجون في إبراهيم - عليه السلام - فيزعم اليهود أنه كان يهودياً ، ويزعم النصارى أنه كان نصرانياً . على حين أن إبراهيم سابق لليهودية والنصرانية ، سابق للتوراة والإنجيل . والحجاج فيه على هذا النحو مراء لا يستند إلى دليل . . ويقرر حقيقة ما كان عليه إبراهيم . . لقد كان على الإسلام . . دين الله القويم . وأولياؤه هم الذين يسيرون على نهجه . والله ولي المؤمنين أجمعين . . ومن ثم تسقط ادعاءات هؤلاء وهؤلاء؛ ويتبين خط الإسلام الواصل بين رسل الله والمؤمنين بهم على توالي القرون : { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه ، وهذا النبي ، والذين آمنوا . والله ولي المؤمنين } . .
يلي ذلك في السياق كشف الهدف الأصيل الكامن وراء مماراة أهل الكتاب في إبراهيم وغير إبراهيم - مما سبق في السورة ومما سيجيء - فهو الرغبة الملحة في إضلال المسلمين عن دينهم - وتشكيكهم في عقيدتهم . . ومن ثم يتجه بالتقريع إلى المضللين : { يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون؟ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟ } . .
ثم يطلع الجماعة المسلمة على لون من تبييت أعدائهم وتدبيرهم ، لزعزعة ثقتهم في عقيدتهم ودينهم بطريقة خبيثة ماكرة لئيمة . ذلك أن يعلنوا إيمانهم بالإسلام أول النهار ، ثم يكفروا بالإسلام آخره . . كي يلقوا في روع غير المتثبتين في الصف المسلم - ومثلهم موجود دائماً في كل صف - أنه لأمر ارتد أهل الكتاب ، الخبيرون بالكتب والرسل والديانات : { وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون } . . وهو كيد خبيث لئيم
ثم يكشف عن طبيعة أهل الكتاب وأخلاقهم ونظرتهم للعهود والمواثيق - على أمانة في بعضهم لا ينكرها عليهم - فأما البعض الآخر فلا أمانة له ولا عهد ولا ذمة؛ وهم يفلسفون جشعهم وخيانتهم ويدعون لها سنداً من دينهم ، ودينهم من هذا الخلق بريء : { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك .

ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً . ذلك بأنهم قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل . ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } . .
وفي هذا الموضع يبين طبيعة نظرة الإسلام الأخلاقية ومبعثها وارتباطها بتقوى الله : { بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين . إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً ، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم } . .
ويمضي يعرض نموذجاً آخر من التواء أهل الكتاب وكذبهم الرخيص في أمر الدين ابتغاء مكاسب الأرض وهي كلها ثمن قليل : { وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب ، لتحسبوه من الكتاب ، وما هو من الكتاب . ويقولون : هو من عند الله . وما هو من عند الله . ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } . .
ومن هذا الذي يلوون ألسنتهم فيه ما يدعونه من ألوهية للمسيح وللروح القدس . . وينفي الله - سبحانه - أن يكون المسيح - عليه السلام - قد جاءهم بهذا في الكتاب أو أمرهم به : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ، ثم يقول للناس : كونوا عباداً لي من دون الله . ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون . ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً . أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } . .
وبهذه المناسبة يذكر حقيقة الصلة بين موكب الرسل المتتابعة . . وهي عهد الله عليهم أن يسلم السابق منهم للاحق وينصره : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين : لما آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه . قال : أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا : أقررنا . قال : فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } . . ومن ثم يتعين على أهل الكتاب أن يؤمنوا بالرسول الأخير وينصروه . ولكنهم لا يوفون بعهد الله معهم ومع رسلهم الأولين .
وفي ظل هذا العهد الساري يقرر أن الذي يبتغي ديناً غير دين الله . . الإسلام . . يخرج في الحقيقة على نظام الكون كله كما أراده الله : { أفغير دين الله يبغون ، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً؟ وإليه يرجعون؟ } . . فيبدو هؤلاء الذين يخرجون عن إسلام أمرهم لله كله ، والطاعة والاتباع لمنهج الله في خضوع واستسلام . . يبدو هؤلاء شذاذاً خارجين على نظام الوجود الكبير
هنا يوجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين معه إلى إعلان الإيمان بدين الله الواحد ، ممثلاً في كل ما جاء به الرسل أجمعين . وأن الله لا يقبل من البشر جميعاً إلا هذا الدين : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين } .

.
فأما الذين لا يؤمنون بهذا الدين فلا مطمع لهم في هداية الله . ولا في النجاة من عقابه . إلا أن يتوبوا . وأما الذين يموتون وهم كفار فلن ينفعهم أن يكونوا قد بذلوا ، ما بذلوا ولن ينجيهم أن يفتدوا بملء الأرض ذهباً وبمناسبة البذل والفداء يحبب للمسلمين أن ينفقوا مما يحبون من مال في هذه الدنيا ، ليجدوه عند الله مدخراً يوم القيامة : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون . وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم } . .
وهكذا يستعرض هذا الشوط الواحد هذا الحشد من الحقائق والتوجيهات . وهو شوط في المعركة الضخمة التي تعرضها السورة ، دائرة بين الجماعة المسلمة وأعداء هذا الدين . من وراء القرون . وهي ذاتها المعركة الدائرة اليوم ، لا تختلف فيها الأهداف والغايات ، وإن اختلفت أشكال الوسائل والأدوات . . وهي هي في خطها الطويل المديد . .
فلننظر في النصوص - بعد هذا الإجمال - نظرة استيعاب وتفصيل :
{ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم ، وما أنزلت التوراة والإنجيل إلاّ من بعده؟ أفلا تعقلون؟ ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم؟ والله يعلم وأنتم لا تعلمون . ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ، ولكن كان حنيفاً مسلماً ، وما كان من المشركين . إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه ، وهذا النبي ، والذين آمنوا . والله ولي المؤمنين } .
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي - مولى زيد بن ثابت - حدثني سعيد بن جبير - أو عكرمة - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنازعوا عنده . فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهودياً . وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانياً . فأنزل الله تعالى : { يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم . . . } الآية .
وسواء كانت هذه هي مناسبة نزول الآية أو لم تكن ، فظاهر من نصها أنها نزلت رداً على ادعاءات لأهل الكتاب ، وحجاج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أو مع بعضهم البعض في حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والهدف من هذه الادعاءات هو احتكار عهد الله مع إبراهيم - عليه السلام - أن يجعل في بيته النبوة؛ واحتكار الهداية والفضل كذلك . ثم - وهذا هو الأهم - تكذيب دعوى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه على دين إبراهيم ، وأن المسلمين هم ورثة الحنيفية الأولى؛ وتشكيك المسلمين في هذه الحقيقة ، أو بث الريبة في نفوس بعضهم على الأقل . .
ومن ثم يندد الله بهم هذا التنديد؛ ويكشف مراءهم الذي لا يستند إلى دليل .

فإبراهيم سابق على التوراة وسابق على الإنجيل . فكيف إذن يكون يهودياً؟ أو كيف إذن يكون نصرانياً؟ إنها دعوى مخالفة للعقل ، تبدو مخالفتها بمجرد النظرة الأولى إلى التاريخ :
{ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده؟ أفلا تعقلون؟ } .
ثم يمضي في التنديد بهم؛ وإسقاط قيمة ما يدلون به من حجج وكشف تعنتهم وقلة اعتمادهم على منهج منطقي سليم في الجدل والحوار :
{ ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم؟ والله يعلم وأنتم لا تعلمون؟ } .
وقد جادلوا في أمر عيسى عليه السلام؛ كما يبدو أنهم جادلوا في بعض الأحكام التشريعية حين دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، ثم تولوا وهم معرضون . . وكان هذا وذاك في دائرة ما يعلمون من الأمر ، أما أن يجادلوا فيما هو سابق على وجودهم ، ووجود كتبهم ودياناتهم . . فهو الأمر الذي لا سند له ولو كان سنداً شكلياً . . فهو الجدل إذن لذات الجدل . وهو المراء الذي لا يسير على منهج ، وهو الغرض إذن والهوى . . ومن كان هذا حاله فهو غير جدير بالثقة فيما يقول . بل غير جدير بالاستماع أصلا لما يقول
حتى إذا انتهى السياق من إسقاط قيمة جدلهم من أساسه ، ونزع الثقة منهم ومما يقولون ، عاد يقرر الحقيقة التي يعلمها الله . فهو - سبحانه - الذي يعلم حقيقة هذا التاريخ البعيد؛ وهو الذي يعلم كذلك حقيقة الدين الذي نزله على عبده إبراهيم . وقوله الفصل الذي لا يبقى معه لقائل قول؛ إلا أن يجادل ويماري بلا سلطان ولا دليل :
{ ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً . ولكن كان حنيفاً مسلماً . وما كان من المشركين } . .
فيؤكد ما قرره من قبل ضمناً من أن إبراهيم - عليه السلام - ما كان يهودياً ولا نصرانياً . وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده . ويقرر أنه كان مائلاً عن كل ملة إلا الإسلام . فقد كان مسلماً . . مسلماً بالمعنى الشامل للإسلام الذي مر تفصيله وبيانه . .
{ وما كان من المشركين } . .
وهذه الحقيقة متضمنة في قوله قبلها { ولكن كان حنيفاً مسلماً } . . ولكن إبرازها هنا يشير إلى عدة من لطائف الإشارة والتعبير :
يشير أولاً إلى أن اليهود والنصارى - الذين انتهى أمرهم إلى تلك المعتقدات المنحرفة - مشركون . . ومن ثم لا يمكن أن يكون إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً . ولكن حنيفاً مسلماً
ويشير إلى أن الإسلام شيء والشرك شيء آخر . فلا يلتقيان . الإسلام هو التوحيد المطلق بكل خصائصه . وكل مقتضياته . ومن ثم لا يلتقي مع لون من ألوان الشرك أصلاً .
ويشير ثالثاً إلى إبطال دعوى المشركين من قريش كذلك أنهم على دين إبراهيم ، وسدنة بيته في مكة . . فهو حنيف مسلم ، وهم مشركون . { وما كان من المشركين }
وما دام أن إبراهيم - عليه السلام - كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين ، فليس لأي من اليهود أو النصارى - أو المشركين أيضاً - أن يدعي وراثته ، ولا الولاية على دينه ، وهم بعيدون عن عقيدته .

. والعقيدة هي الوشيجة الأولى التي يتلاقى عليها الناس في الإسلام . حين لا يلتقون على نسب ولا أرومة ولا جنس ولا أرض ، إذا أنبتت تلك الوشيجة التي يتجمع عليها أهل الإيمان . فالإنسان في نظر الإسلام إنسان بروحه . بالنفخة التي جعلت منه إنساناً . ومن ثم فهو يتلاقى على العقيدة أخص خصائص الروح فيه . ولا يلتقي على مثل ما تلتقي عليه البهائم من الأرض والجنس والكلأ والمرعى والحد والسياج والولاية بين فرد وفرد ، وبين مجموعة ومجموعة ، وبين جيل من الناس وجيل ، لا ترتكن إلى وشيجة أخرى سوى وشيجة العقيدة . يتلاقى فيها المؤمن والمؤمن . والجماعة المسلمة والجماعة المسلمة . والجيل المسلم والأجيال المسلمة من وراء حدود الزمان والمكان ، ومن وراء فواصل الدم والنسب ، والقوم والجنس؛ ويتجمعون أولياء - بالعقيدة وحدها - والله من ورائهم ولي الجميع :
{ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه ، وهذا النبي ، والذين آمنوا . والله ولي المؤمنين } . .
فالذين اتبعوا إبراهيم - في حياته - وساروا على منهجه ، واحتكموا إلى سنته هم أولياؤه . ثم هذا النبي الذي يلتقي معه في الإسلام بشهادة الله أصدق الشاهدين . ثم الذين آمنوا بهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - فالتقوا مع إبراهيم - عليه السلام - في المنهج والطريق .
{ والله ولي المؤمنين } . .
فهم حزبه الذين ينتمون إليه ، ويستظلون برايته ، ويتولونه ولا يتولون أحداً غيره . وهم أسرة واحدة . وأمة واحدة . من وراء الأجيال والقرون ، ومن وراء المكان والأوطان؛ ومن وراء القوميات والأجناس ، ومن وراء الأرومات والبيوت
وهذه الصورة هي أرقى صورة للتجمع الإنساني تليق بالكائن الإنساني . وتميزه من القطيع كما أنها هي الصورة الوحيدة التي تسمح بالتجمع بلا قيود . لأن القيد الواحد فيها اختياري يمكن لكل من يشاء أن يفكه عن نفسه بإرادته الذاتية . فهو عقيدة يختارها بنفسه فينتهي الأمر . . على حين لا يملك الفرد أن يغير جنسه - إن كانت رابطة التجمع هي الجنس - ولا يملك أن يغير قومه - إن كانت رابطة التجمع هي القوم - ولا يملك أن يغير لونه - إن كانت رابطة التجمع هي اللون - ولا يملك بيسر أن يغير لغته إن كانت رابطة التجمع هي اللغة - ولا يملك بيسر أن يغير طبقته - إن كانت رابطة التجمع هي الطبقة - بل قد لا يستطيع أن يغيرها أصلا إن كانت الطبقات وراثة كما في الهند مثلاً . ومن ثم تبقى الحواجز قائمة أبداً دون التجمع الإنساني ، ما لم ترد إلى رابطة الفكرة والعقيدة والتصور .

. الأمر المتروك للاقتناع الفردي ، والذي يملك الفرد بذاته ، بدون تغيير أصله أو لونه أو لغته أو طبقته أن يختاره ، وأن ينضم إلى الصف على أساسه .
وذلك فوق ما فيه من تكريم للإنسان ، بجعل رابطة تجمعه مسألة تتعلق بأكرم عناصره ، المميزة له من القطيع
والبشرية إما أن تعيش - كما يريدها الإسلام - أناسيّ تتجمع على زاد الروح وسمة القلب وعلامة الشعور . . وإما أن تعيش قطعاناً خلف سياج الحدود الأرضية ، أو حدود الجنس واللون . . وكلها حدود مما يقام للماشية في المرعى كي لا يختلط قطيع بقطيع
ثم يكشف للجماعة المسلمة عما يريده بها أهل الكتاب من وراء كل جدال وكل مراء . ويواجه أهل الكتاب بألاعيبهم وكيدهم وتدبيرهم على مرأى ومسمع من الجماعة المسلمة أيضاً . وهو يمزق عنهم الأردية التي يتخفون تحتها ، فيقفهم أمام الجماعة المسلمة عراة مفضوحين :
{ ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم . وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون . يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون؟ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟ وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون . ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم - قل : إن الهدى هدى الله - أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم - قل : إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله واسع عليم . يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم } .
إن الإحنة التي يكنها أهل الكتاب للجماعة المسلمة هي الإحنة المتعلقة بالعقيدة . إنهم يكرهون لهذه الأمة أن تهتدي . يكرهون لها أن تفيء إلى عقيدتها الخاصة في قوة وثقة ويقين . ومن ثم يرصدون جهودهم كلها لإضلالها عن هذا المنهج ، والإلواء بها عن هذا الطريق :
{ ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم } . .
فهو ود النفس ورغبة القلب والشهوة التي تهفو إليها الأهواء من وراء كل كيد ، وكل دس ، وكل مراء ، وكل جدال ، وكل تلبيس .
وهذه الرغبة القائمة على الهوى والحقد والشر ، ضلال لا شك فيه . فما تنبعث مثل هذه الرغبة الشريرة الآثمة عن خير ولا عن هدى . فهم يوقعون أنفسهم في الضلالة في اللحظة التي يودون فيها إضلال المسلمين . فما يحب إضلال المهتدين إلا ضال يهيم في الضلال البهيم :
{ وما يضلون إلا أنفسهم . وما يشعرون } . .
والمسلمون مكفيون أمر أعدائهم هؤلاء ما استقاموا على إسلامهم وما لهم عليهم من سبيل . والله سبحانه يتعهد لهم ألا يصيبهم كيد الكائدين ، وأن يرتد عليهم كيدهم ما بقي المسلمون مسلمين .
هنا يقرع أهل الكتاب بحقيقة موقفهم المريب المعيب :
{ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون؟ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟ } .

.
ولقد كان أهل الكتاب وقتها - وما يزالون حتى اليوم - يشهدون الحق واضحاً في هذا الدين . سواء منهم المطلعون على حقيقة ما جاء في كتبهم عنه من بشارات وإشارات - وكان بعضهم يصرح بما يجد من هذا كله وبعضهم يسلم بناء على هذا الذي يجده في كتبه ويشهده متحققاً أمامه - وسواء كذلك غير المطلعين ، ولكنهم يجدون في الإسلام من الحق الواضح ما يدعو إلى الإيمان . . غير أنهم يكفرون . . لا لنقص في الدليل . ولكن للهوى والمصلحة والتضليل . . والقرآن يناديهم : { يا أهل الكتاب } . . لأنها الصفة التي كان من شأنها أن تقودهم إلى آيات الله وكتابه الجديد .
كذلك يناديهم مرة أخرى ليفضح ما يقومون به من لبس الحق بالباطل لإخفائه وكتمانه وتضييعه في غمار الباطل ، على علم وعن عمد وفي قصد . . وهو أمر مستنكر قبيح
وهذا الذي ندد الله به - سبحانه - من أعمال أهل الكتاب حينذاك ، هو الأمر الذي درجوا عليه من وقتها حتى اللحظة الحاضرة . . فهذا طريقهم على مدار التاريخ . . اليهود بدأوا منذ اللحظة الأولى . ثم تابعهم الصليبيون
وفي خلال القرون المتطاولة دسوا - مع الأسف - في التراث الإسلامي ما لا سبيل إلى كشفه إلا بجهد القرون ولبسوا الحق بالباطل في هذا التراث كله - اللهم إلا هذا الكتاب المحفوظ الذي تكفل الله بحفظه أبد الآبدين - والحمد لله على فضله العظيم .
دسوا ولبسوا في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله . ودسوا ولبسوا في الحديث النبوي حتى قيض الله له رجاله الذين حققوه وحرروه إلا ما ند عن الجهد الإنساني المحدود . ودسوا ولبسوا في التفسير القرآني حتى تركوه تيهاً لا يكاد الباحث يفيء فيه إلى معالم الطريق . ودسوا ولبسوا في الرجال أيضاً . فالمئات والألوف كانوا دسيسة على التراث الإسلامي - وما يزالون في صورة المستشرقين وتلاميذ المستشرقين الذين يشغلون مناصب القيادة الفكرية اليوم في البلاد التي يقول أهلها : إنهم مسلمون . والعشرات من الشخصيات المدسوسة على الأمة المسلمة في صورة أبطال مصنوعين على عين الصهيونية والصليبية ، ليؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوه ظاهرين
وما يزال هذا الكيد قائماً ومطرداً . وما تزال مثابة الأمان والنجاة منه هي اللياذ بهذا الكتاب المحفوظ؛ والعودة إليه لاستشارته في المعركة الناشبة طوال هذه القرون .
كذلك يعرض بعض المحاولات التي يبذلها فريق من أهل الكتاب لبلبلة الجماعة المسلمة في دينها ، وردها عن الهدى ، من ذلك الطريق الماكر اللئيم :
{ وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون . ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم . . . } . .
وهي طريقة ماكرة لئيمة كما قلنا . فإن إظهارهم الإسلام ثم الرجوع عنه ، يوقع بعض ضعاف النفوس والعقول وغير المتثبتين من حقيقة دينهم وطبيعته .

. يوقعهم في بلبلة واضطراب . وبخاصة العرب الأميين ، الذين كانوا يظنون أن أهل الكتاب أعرف منهم بطبيعة الديانات والكتب . فإذا رأوهم يؤمنون ثم يرتدون ، حسبوا أنهم إنما ارتدوا بسبب اطلاعهم على خبيئة ونقص في هذا الدين . وتأرجحوا بين اتجاهين فلم يكن لهم ثبات على حال .
وما تزال هذه الخدعة تتخذ حتى اليوم . في شتى الصور التي تناسب تطور الملابسات والناس في كل جيل . . ولقد يئس أعداء المسلمين أن تنطلي اليوم هذه الخدعة ، فلجأت القوى المناهضة للإسلام في العالم إلى طرق شتى ، كلها تقوم على تلك الخدعة القديمة .
إن لهذه القوى اليوم في أنحاء العالم الإسلامي جيشاً جراراً من العملاء في صورة أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين - وأحياناً كتاب وشعراء وفنانين وصحفيين - يحملون أسماء المسلمين ، لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة وبعضهم من « علماء » المسلمين
هذا الجيش من العملاء موجه لخلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب ، في صورة بحث وعلم وأدب وفن وصحافة . وتوهين قواعدها من الأساس . والتهوين من شأن العقيدة والشريعة سواء . وتأويلها وتحميلها ما لا تطيق . والدق المتصل على « رجعيتها » والدعوة للتلفت منها . وإبعادها عن مجال الحياة إشفاقا عليها من الحياة أو إشفاقا على الحياة منها وابتداع تصورات ومثل وقواعد للشعور والسلوك تناقض وتحطم تصورات العقيدة ومثلها . وتزيين تلك التصورات المبتدعة بقدر تشويه التصورات والمثل الإيمانية . وإطلاق الشهوات من عقالها وسحق القاعدة الخلقية التي تستوي عليها العقيدة النظيفة لتخر في الوحل الذي ينثرونه في الأرض نثراً ويشوهون التاريخ كله ويحرفونه كما يحرفون النصوص
وهم بعد مسلمون أليسوا يحملون أسماء المسلمين؟ وهم بهذه الأسماء المسلمة يعلنون الإسلام وجه النهار . وبهذه المحاولات المجرمة يكفرون آخره . . ويؤدون بهذه وتلك دور أهل الكتاب القديم . . لا يتغير إلا الشكل والإطار في ذلك الدور القديم
وكان أهل الكتاب يقول بعضهم لبعض : تظاهروا بالإسلام أول النهار واكفروا آخره لعل المسلمين يرجعون عن دينهم . وليكن هذا سراً بينكم لا تبدونه ولا تأتمنون عليه إلا أهل دينكم :
{ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } . .
وفعل الإيمان حين يعدّى باللام يعني الاطمئنان والثقة . أي ولا تطمئنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تفضوا بأسراركم إلا لهؤلاء دون المسلمين
وعملاء الصهيونية والصليبية اليوم كذلك . . إنهم متفاهمون فيما بينهم على أمر . . هو الإجهاز على هذه العقيدة في الفرصة السانحة التي قد لا تعود . . وقد لا يكون هذا التفاهم في معاهدة أو مؤامرة . ولكنه تفاهم العميل مع العميل على المهمة المطلوبة للأصيل ويأمن بعضهم لبعض فيفضي بعضهم إلى بعض . . ثم يتظاهرون - بعضهم على الأقل بغير - ما يريدون وما يبيتون . . والجو من حولهم مهيأ ، والأجهزة من حولهم معبأة . . والذين يدركون حقيقة هذا الدين في الأرض كلها مغيبون أو مشردون
{ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } .

.
وهنا يوجه الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن أن الهدى هو وحده هدى الله؛ وأن من لا يفيء إليه لن يجد الهدى أبداً في أي منهج ولا في أي طريق :
{ قل : إن الهدى هدى الله } . .
ويجيء هذا التقرير رداً على مقالتهم : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون } تحذيراً للمسلمين من تحقيق الهدف اللئيم . فهو الخروج من هدى الله كله . فلا هدى إلا هداه وحده . وإنما هو الضلال والكفر ما يريده بهم هؤلاء الماكرون .
يجيء هذا التقرير قبل أن ينتهي السياق من عرض مقولة أهل الكتاب كلها . . ثم يمضي يعرض بقية تآمرهم بعد هذا التقرير المعترض :
{ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أو يحاجوكم عند ربكم } . .
بهذا يعللون قولهم : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } . . فهو الحقد والحسد والنقمة أن يؤتي الله أحداً من النبوة والكتاب ما آتى أهل الكتاب . وهو الخوف أن يكون في الاطمئنان للمسلمين وإطلاعهم على الحقيقة التي يعرفها أهل الكتاب ، ثم ينكرونها ، عن هذا الدين ، ما يتخذه المسلمون حجة عليهم عند الله - كأن الله سبحانه لا يأخذهم بحجة إلا حجة القول المسموع - وهي مشاعر لا تصدر عن تصور إيماني بالله وصفاته؛ ولا عن معرفة بحقيقة الرسالات والنبوات ، وتكاليف الإيمان والاعتقاد
ويوجه الله سبحانه رسوله الكريم ليعلمهم - ويعلم الجماعة المسلمة - حقيقة فضل الله حين يشاء أن يمن على أمة برسالة وبرسول :
{ قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله واسع عليم . يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم } . .
وقد شاءت إرادته أن يجعل الرسالة والكتاب في غير أهل الكتاب؛ بعد ما خاسوا بعهدهم مع الله؛ ونقضوا ذمة أبيهم إبراهيم؛ وعرفوا الحق ولبسوه بالباطل؛ وتخلوا عن الأمانة التي ناطها الله بهم؛ وتركوا أحكام كتابهم وشريعة دينهم؛ وكرهوا أن يتحاكموا إلى كتاب الله بينهم . وخلت قيادة البشرية من منهج الله وكتابه ورجاله المؤمنين . . عندئذ سلم القيادة ، وناط الأمانة ، بالأمة المسلمة . فضلا منه ومنة . { والله واسع عليم } . . { يختص برحمته من يشاء } . . عن سعة في فضله وعلم بمواضع رحمته . . { والله ذو الفضل العظيم } . . وليس أعظم من فضله على أمة بالهدى ممثلاً في كتاب . وبالخير ممثلاً في رسالة . . وبالرحمة ممثلة في رسول .
فإذا سمع المسلمون هذا احسوا مدى النعمة وقيمة المنة في اختيار الله لهم ، واختصاصه إياهم بهذا الفضل . واستمسكوا به في إعزاز وحرص ، وأخذوه بقوة وعزم ، ودافعوا عنه في صرامة ويقين ، وتيقظوا لكيد الكائدين وحقد الحاقدين . وهذا ما كان يربيهم به القرآن الكريم والذكر الحكيم . وهو ذاته مادة التربية والتوجيه للأمة المسلمة في كل جيل .

ثم يمضي السياق يصف حال أهل الكتاب؛ ويبين ما في هذه الحال من نقائص؛ ويقرر القيم الصحيحة التي يقوم عليها الإسلام دين المسلمين . ويبدأ فيعرض نموذجين من نماذج أهل الكتاب في التعامل والتعاقد :
{ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً . ذلك بأنهم قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل ، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون . بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين . إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم } . .
إنها خطة الإنصاف والحق وعدم البخس والغبن يجري عليها القرآن الكريم في وصف حال أهل الكتاب الذين كانوا يواجهون الجماعة المسلمة حينذاك؛ والتي لعلها حال أهل الكتاب في جميع الأجيال . ذلك أن خصومة أهل الكتاب للإسلام والمسلمين ، ودسهم وكيدهم وتدبيرهم الماكر اللئيم ، وإرادتهم الشر بالجماعة المسلمة وبهذا الدين . . كل ذلك لا يجعل القرآن يبخس المحسنين منهم حقهم ، حتى في معرض الجدل والمواجهة . فهو هنا يقرر أن من أهل الكتاب ناساً أمناء ، لا يأكلون الحقوق مهما كانت ضخمة مغرية :
{ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك } . .
ولكن منهم كذلك الخونة الطامعين المماطلين ، الذين لا يردون حقاً - وإن صغر - إلا بالمطالبة والإلحاح والملازمة . ثم هم يفلسفون هذا الخلق الذميم ، بالكذب على الله عن علم وقصد :
{ ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً . ذلك بأنهم قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل . ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } . .
وهذه بالذات صفة يهود . فهم الذين يقولون هذا القول؛ ويجعلون للأخلاق مقاييس متعددة . فالأمانة بين اليهودي واليهودي . أما غير اليهود ويسمونهم الأميين وكانوا يعنون بهم العرب ( وهم في الحقيقة يعنون كل من سوى اليهود ) فلا حرج على اليهودي في أكل أموالهم ، وغشهم وخداعهم ، والتدليس عليهم ، واستغلالهم بلا تحرج من وسيلة خسيسة ولا فعل ذميم
ومن العجب أن يزعموا أن إلههم ودينهم يأمرهم بهذا . وهم يعلمون أن هذا كذب . وأن الله لا يأمر بالفحشاء ، ولا يبيح لجماعة من الناس أن يأكلوا أموال جماعة من الناس سحتاً وبهتاناً ، وألا يرعوا معهم عهداً ولا ذمة ، وأن ينالوا منهم بلا تحرج ولا تذمم . ولكنها يهود يهود التي اتخذت من عداوة البشرية والحقد عليها ديدناً وديناً :
{ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } . .
هنا نجد القرآن الكريم يقرر قاعدته الخلقية الواحدة ، وميزانه الخلقي الواحد . ويربط نظرته هذه بالله وتقواه :
{ بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين . إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً ، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم .

ولهم عذاب أليم } . .
فهي قاعدة واحدة من راعاها وفاء بعهد الله وشعوراً بتقواه أحبه الله وأكرمه . ومن اشترى بعهد الله وبأيمانه ثمناً قليلاً - من عرض هذه الحياة الدنيا أو بالدنيا كلها وهي متاع قليل - فلا نصيب له في الآخرة ، ولا رعاية له عند الله ولا قبول ، ولا زكاة له ولا طهارة . وإنما هو العذاب الأليم .
ونلمح هنا أن الوفاء بالعهد مرتبط بالتقوى . ومن ثم لا يتغير في التعامل مع عدو أو صديق . فليس هو مسألة مصلحة . إنما هو مسألة تعامل مع الله أبداً دونما نظر إلى من يتعامل معهم .
وهذه هي نظرية الإسلام الأخلاقية بصفة عامة . في الوفاء بالعهد وفي سواه من الأخلاق : التعامل هو أولاً تعامل مع الله ، يلحظ فيه جناب الله ، ويتجنب به سخطه ويطلب به رضاه . فالباعث الأخلاقي ليس هو المصلحة؛ وليس هو عرف الجماعة ، ولا مقتضيات ظروفها القائمة . فإن الجماعة قد تضل وتنحرف ، وتروج فيها المقاييس الباطلة . فلا بد من مقياس ثابت ترجع إليه الجماعة كما يرجع إليه الفرد على السواء . ولا بد أن يكون لهذا المقياس فوق ثباته قوة يستمدها من جهة أعلى . . أعلى من اصطلاح الناس ومن مقتضيات حياتهم المتغيرة . . ومن ثم ينبغي أن تستمد القيم والمقاييس من الله؛ بمعرفة ما يرضيه من الأخلاق والتطلع إلى رضاه والشعور بتقواه . . بهذا يضمن الإسلام تطلع البشرية الدائم إلى أفق أعلى من الأرض؛ واستمدادها القيم والموازين من ذلك الأفق الثابت السامق الوضيء .
ومن ثم يجعل الذين يخيسون بالعهد ويغدرون بالأمانة . . { يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً } . . فالعلاقة في هذا بينهم وبين الله قبل أن تكون بينهم وبين الناس . . ومن هنا فلا نصيب لهم في الآخرة عنده ، أن كانوا يبغون بالغدر والنكث بالعهد ثمناً قليلا هو هذه المصالح الدنيوية الزهيدة ولا رعاية لهم من الله في الآخرة جزاء استهانتهم بعهده - وهو عهدهم مع الناس - في الدنيا .
ونجد هنا أن القرآن قد سلك طريقة التصوير في التعبير . وهو يعبر عن إهمال الله لهم وعدم رعايتهم ، بأنه لا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يطهرهم . . وهي أعراض الإهمال التي يعرفها الناس . . ومن ثم يتخذها القرآن وسيلة لتصوير الموقف صورة حية تؤثر في الوجدان البشري أعمق مما يؤثر التعبير التجريدي . على طريقة القرآن في ظلاله وإيحاءاته الجميلة .
ثم يمضي في عرض نماذج من أهل الكتاب؛ فيعرض نموذج المضللين ، الذي يتخذون من كتاب الله مادة للتضليل ، يلوون ألسنتهم به عن مواضعه ، ويؤولون نصوصه لتوافق أهواء معينة ، ويشترون بهذا كله ثمناً قليلاً . . عرضاً من عرض هذه الحياة الدنيا : ومن بين ما يلوون السنتهم به ويحرفونه ويؤولونه ما يختص بمعتقداتهم التي ابتدعوها عن المسيح عيسى بن مريم ، مما اقتضته أهواء الكنيسة وأهواء الحكام سواء :
{ وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ، ويقولون : هو من عند الله وما هو من عند الله ، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون .

ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ، ثم يقول للناس . كونوا عباداً لي من دون الله . ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون . ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً . أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون؟ } . .
وآفة رجال الدين حين يفسدون ، أن يصبحوا أداة طيعة لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال الدين . وهذه الحال التي يذكرها القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب ، نعرفها نحن جيداً في زماننا هذا . فهم كانوا يؤولون نصوص كتابهم ، ويلوونها ليا ليصلوا منها إلى مقررات معينة ، يزعمون أنها مدلول هذه النصوص ، وأنها تمثل ما أراده الله منها . بينما هذه المقررات تصادم حقيقة دين الله في أساسها . معتمدين على أن كثرة السامعين لا تستطيع التفرقة بين حقيقة الدين ومدلولات هذه النصوص الحقيقية ، وبين تلك المقررات المفتعلة المكذوبة التي يُلجئون إليها النصوص إلجاء .
ونحن اليوم نعرف هذا النموذج جيداً في بعض الرجال الذين ينسبون إلى الدين ظلماً الذين يحترفون الدين ويسخرونه في تلبية الأهواء كلها؛ ويحملون النصوص ويجرون بها وراء هذه الأهواء حيثما لاح لهم أن هناك مصلحة تتحقق ، وأن هناك عرضاً من أعراض هذه الحياة الدنيا يحصل يحملون هذه النصوص ويلهثون بها وراء تلك الأهواء ، ويلوون أعناق هذه النصوص ليا لتوافق هذه الأهواء السائدة؛ ويحرفون الكلم عن مواضعه ليوافقوا بينه وبين اتجاهات تصادم هذا الدين وحقائقه الأساسية . ويبذلون جهداً لاهثاً في التمحل وتصيد أدنى ملابسة لفظية ليوافقوا بين مدلول آية قرآنية وهوى من الأهواء السائدة التي يهمهم تمليقها . . { ويقولون هو من عند الله . وما هو من عند الله . ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } . . كما يحكي القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب سواء . فهي آفة لا يختص بها أهل الكتاب وحدهم . إنما تبتلى بها كل أمة يرخص دين الله فيها على من ينتسبون إليه حتى ما يساوي إرضاء هوى من الأهواء التي يعود تمليقها بعرض من أعراض هذه الأرض وتفسد الذمة حتى ما يتحرج القلب من الكذب على الله ، تحريف كلماته عن مواضعها لتمليق عبيد الله ، ومجاراة أهوائهم المنحرفة التي تصادم دين الله . . وكأنما كان الله - سبحانه - يحذر الجماعة المسلمة من هذا المزلق الوبيء ، الذي انتهى بنزع أمانة القيادة من بني إسرائيل .
هذا النموذج من بني إسرائيل - فيما يبدو من مجموع هذه الآيات - كانوا يتلمسون في كتاب الله الجمل ذات التعبير المجازي؛ فيلوون السنتهم بها - أي في تأويلها واستخراج مدلولات منها هي لا تدل عليها بغير ليها وتحريفها - ليوهموا الدهماء أن هذه المدلولات المبتدعة هي من كتاب الله؛ ويقولون بالفعل : هذا ما قاله الله ، وهو ما لم يقله - سبحانه - وكانوا يهدفون من هذا إلى إثبات الوهية عيسى عليه السلام ومعه « روح القدس » .

. وذلك فيما كانوا يزعمون من الأقانيم : الأب والابن والروح القدس . باعتبارها كائناً واحداً هو الله - تعالى الله عما يصفون - ويروون عن عيسى - عليه السلام - كلمات تؤيد هذا الذي يدعونه ، فرد الله عليهم هذا التحريف وهذا التأويل ، بأنه ليس من شأن نبي يخصه الله بالنبوة ويصطفيه لهذا الأمر العظيم أن يأمر الناس أن يتخذوه إلهاً هو والملائكة . فهذا مستحيل :
{ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ، ثم يقول للناس : كونوا عباداً لي من دون الله ، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون . ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون؟ } . .
إن النبي يوقن أنه عبد ، وأن الله وحده هو الرب ، الذي يتجه إليه العباد بعبوديتهم وبعبادتهم . فما يمكن أن يدعي لنفسه صفة الألوهية التي تقتضي من الناس العبودية . فلن يقول نبي للناس : { كونوا عباداً لي من دون الله } . . ولكن قوله لهم : { كونوا ربانيين } . . منتسبين إلى الرب ، عباداً له وعبيداً ، توجهوا إليه وحده بالعبادة ، وخذوا عنه وحده منهج حياتكم ، حتى تخلصوا له وحده فتكونوا { ربانيين } . . كونوا { ربانيين } . . بحكم علمكم للكتاب وتدارسكم له . فهذا مقتضى العلم بالكتاب ودراسته .
والنبي لا يأمر الناس أبداً أن يتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ، فالنبي لا يأمر الناس بالكفر بعد أن يسلموا لله ويستسلموا لألوهيته ، وقد جاء ليهديهم إلى الله لا ليضلهم ، وليقودهم إلى الإسلام لا ليكفرهم
ومن ثم تتجلى استحالة هذا الذي ينسبه ذلك الفريق إلى عيسى - عليه السلام - كما يتجلى الكذب على الله في ادعائهم أن هذا من عند الله . . وتسقط في الوقت ذاته قيمة كل ما يقوله هذا الفريق وما يعيده لإلقاء الريب والشكوك في الصف المسلم . وقد عراهم القرآن هذه التعرية على مرأى ومسمع من الجماعة المسلمة
ومثل هذا الفريق من أهل الكتاب فريق ممن يدعون الإسلام ، ويدعون العلم بالدين كما أسلفنا . وهم أولى بأن يوجه إليهم هذا القرآن اليوم . وهم يلوون النصوص القرآنية ليا ، لإقامة أرباب من دون الله في شتى الصور . وهم يتصيدون من النصوص ما يلوونه لتمويه هذه المفتريات . { ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون }
بعد ذلك يصور حقيقة الترابط بين موكب الرسل والرسالات ، على عهد من الله وميثاق ، ينبني عليه فسوق من يتولى عن اتباع آخر الرسالات ، وشذوذه عن عهد الله وناموس الكون كله على الإطلاق :
{ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين : لما آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه .

قال : أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا : أقررنا . قال : فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين . فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون . أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً ، وإليه يرجعون؟ } . .
لقد أخذ الله - سبحانه - موثقاً رهيباً جليلاً كان هو شاهده وأشهد عليه رسله . موثقاً على كل رسول . أنه مهما آتاه من كتاب وحكمة . ثم جاء رسول بعده مصدقاً لما معه ، أن يؤمن به وينصره ، ويتبع دينه . وجعل هذا عهداً بينه وبين كل رسول .
والتعبير القرآني يطوي الأزمنة المتتابعة بين الرسل؛ ويجمعهم كلهم في مشهد . والله الجليل الكبير يخاطبهم جملة : هل أقروا هذا الميثاق وأخذوا عليه عهد الله الثقيل :
{ قال : أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟ } . .
وهم يجيبون :
{ قالوا أقررنا } . .
فيشهد الجليل على هذا الميثاق ويشهدهم عليه :
{ قال : فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } :
هذا المشهد الهائل الجليل ، يرسمه التعبير ، فيجف له القلب ويجب؛ وهو يتمثل المشهد بحضرة البارئ الجليل ، والرسل مجتمعين . .
وفي ظل هذا المشهد يبدو الموكب الكريم متصلاً متسانداً مستسلماً للتوجيه العلوي ، ممثلاً للحقيقة الواحدة التي شاء الله - سبحانه - أن تقوم عليها الحياة البشرية ، ولا تنحرف ، ولا تتعدد ، ولا تتعارض ، ولا تتصادم . . إنما ينتدب لها المختار من عباد الله؛ ثم يسلمها إلى المختار بعده ، ويسلم نفسه معها لأخيه اللاحق به . فما للنبي في نفسه من شيء؛ وما له في هذه المهمة من أرب شخصي ، ولا مجد ذاتي . إنما هو عبد مصطفى ، ومبلغ مختار . والله - سبحانه - هو الذي ينقل خطى هذه الدعوة بين أجيال البشر؛ ويقود هذا الموكب ويصرفه كيف يشاء . ويخلص دين الله - بهذا العهد وبهذا التصور - من العصبية الذاتية . عصبية الرسول لشخصه . وعصبيته لقومه . وعصبية أتباعه لنحلتهم . وعصبيتهم لأنفسهم . وعصبيتهم لقوميتهم . . ويخلص الأمر كله لله في هذا الدين الواحد ، الذي تتابع به وتوالى ذلك الموكب السني الكريم .
وفي ظل هذه الحقيقة يبدو الذين يتخلفون من أهل الكتاب عن الإيمان بالرسول الأخير - صلى الله عليه وسلم - ومناصرته وتأييده ، تمسكاً بدياناتهم - لا بحقيقتها فحقيقتها تدعوهم إلى الإيمان به ونصرته ، ولكن باسمها تعصباً لأنفسهم في صورة التعصب لها - مع أن رسلهم الذين حملوا إليهم هذه الديانات قد قطعوا على أنفسهم عهداً ثقيلاً غليظاً مع ربهم في مشهد مرهوب جليل . . في ظل هذه الحقيقة يبدو أولئك الذي يتخلفون فسقة عن تعليم أنبيائهم . فسقة عن عهد الله معهم .

فسقة كذلك عن نظام الكون كله المستسلم لبارئه ، الخاضع لناموسه ، المدبر بأمره ومشيئته :
{ فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون . أفغير دين الله يبغون ، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون؟ } . .
إنه لا يتولى عن اتباع هذا الرسول إلا فاسق . ولا يتولى عن دين الله إلا شاذ . شاذ في هذا الوجود الكبير . ناشز في وسط الكون الطائع المستسلم المستجيب .
إن دين الله واحد ، جاءت به الرسل جميعاً ، وتعاقدت عليه الرسل جميعاً . وعهد الله واحد أخذه على كل رسول . والإيمان بالدين الجديد واتباع رسوله ، ونصرة منهجه على كل منهج ، هو الوفاء بهذا العهد . فمن تولى عن الإسلام فقد تولى عن دين الله كله ، وقد خاس بعهد الله كله .
والإسلام - الذي يتحقق في إقامة منهج الله في الأرض واتباعه والخلوص له - هو ناموس هذا الوجود . وهو دين كل حي في هذا الوجود .
إنها صورة شاملة عميقة للإسلام والاستسلام . صورة كونية تأخذ بالمشاعر ، وترتجف لها الضمائر . . صورة الناموس القاهر الحاكم ، الذي يرد الأشياء والأحياء إلى سنن واحد وشرعة واحدة ، ومصير واحد .
{ وإليه يرجعون } . .
فلا مناص لهم في نهاية المطاف من الرجوع إلى الحاكم المسيطر المدبر الجليل . .
ولا مناص للإنسان حين يبتغي سعادته وراحته وطمأنينة باله وصلاح حاله ، من الرجوع إلى منهج الله في ذات نفسه ، وفي نظام حياته ، وفي منهج مجتمعه ، ليتناسق مع النظام الكوني كله . فلا ينفرد بمنهج من صنع نفسه ، لا يتناسق مع ذلك النظام الكوني من صنع بارئه في حين أنه مضطر أن يعيش في إطار هذا الكون وأن يتعامل بجملته مع النظام الكوني . . والتناسق بين نظامه هو في تصوره وشعوره ، وفي واقعه وارتباطاته ، وفي عمله ونشاطه ، مع النظام الكوني هو وحده الذي يكفل له التعاون مع القوى الكونية الهائلة بدلا من التصادم معها . وهو حين يصطدم بها يتمزق وينسحق؛ أو لا يؤدي - على كل حال - وظيفة الخلافة في الأرض كما وهبها الله له . وحين يتناسق ويتفاهم مع نواميس الكون التي تحكمه وتحكم سائر الأحياء فيه يملك معرفة أسرارها ، وتسخيرها ، والانتفاع بها على وجه يحقق له السعادة والراحة والطمأنينة ، ويعفيه من الخوف والقلق والتناحر . . الانتفاع بها لا ليحترق بنار الكون ، ولكن ليطبخ بها ويستدفىء ويستضيء
والفطرة البشرية في أصلها متناسقة مع ناموس الكون ، مسلمة لربها إسلام كل شيء وكل حي . فحين يخرج الإنسان بنظام حياته عن ذلك الناموس لا يصطدم مع الكون فحسب ، إنما يصطدم أولا بفطرته التي بين جنبيه ، فيشقى ويتمزق ، ويحتار ويقلق . ويحيا كما تحيا البشرية الضالة النكدة اليوم في عذاب من هذا الجانب - على الرغم من جميع الانتصارات العلمية ، وجميع التسهيلات الحضارية المادية
إن البشرية اليوم تعاني من الخواء المرير .

خواء الروح من الحقيقة التي لا تطيق فطرتها أن تصبر عليها . . حقيقة الإيمان . . وخواء حياتها من المنهج الإلهي . هذا المنهج الذي ينسق بين حركتها وحركة الكون الذي تعيش فيه .
إنها تعاني من الهجير المحرق الذي تعيش فيه بعيداً عن ذلك الظل الوارف الندي . ومن الفساد المقلق الذي تتمرغ فيه بعيدا عن ذلك الخط القويم والطريق المأنوس المطروق
ومن ثم تجد الشقاء والقلق والحيرة والاضطراب؛ وتحس الخواء والجوع والحرمان؛ وتهرب من واقعها هذا بالأفيون والحشيش والمسكرات؛ وبالسرعة المجنونة والمغامرات الحمقاء ، والشذوذ في الحركة واللبس والطعام وذلك على الرغم من الرخاء المادي والإنتاج الوفير والحياة الميسورة والفراغ الكثير . . لا بل إن الخواء والقلق والحيرة لتتزايد كلما تزايد الرخاء المادي والإنتاج الحضاري واليسر في وسائل الحياة ومرافقها .
إن هذا الخواء المرير ليطارد البشرية كالشبح المخيف . يطاردها فتهرب منه . ولكنها تنتهي كذلك إلى الخواء المرير
وما من أحد يزور البلاد الغنية الثرية في الأرض حتى يكون الانطباع الأول في حسه أن هؤلاء قوم هاربون هاربون من أشباح تطاردهم . هاربون من ذوات أنفسهم . . وسرعان ما يتكشف الرخاء المادي والمتاع الحسي الذي يصل إلى حد التمرغ في الوحل ، عن الأمراض العصبية والنفسية والشذوذ والقلق والمرض والجنون والمسكرات والمخدرات والجريمة . وفراغ الحياة من كل تصور كريم
إنهم لا يجدون أنفسهم لأنهم لا يجدون غاية وجودهم الحقيقية . . إنهم لا يجدون سعادتهم لأنهم لا يجدون المنهج الإلهي الذي ينسق بين حركتهم وحركة الكون ، وبين نظامهم وناموس الوجود . . إنهم لا يجدون طمأنينتهم لأنهم لا يعرفون الله الذي إليه يرجعون . .
ولما كانت الأمة المسلمة - المسلمة حقاً لا جغرافية ولا تاريخاً - هي الأمة المدركة لحقيقة العهد بين الله ورسله . وحقيقة دين الله الواحد ومنهجه ، وحقيقة الموكب السني الكريم الذي حمل هذا المنهج وبلغه ، فإن الله يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن هذه الحقيقة كلها؛ ويعلن إيمان أمته بجميع الرسالات ، واحترامها لجميع الرسل ، ومعرفتها بطبيعة دين الله ، الذي لا يقبل الله من الناس سواه :
{ قل : آمنا بالله ، وما أنزل علينا ، وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل ، وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم . لا نفرق بين أحد منهم . ونحن له مسلمون . ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين } . .
هذا هو الإسلام في سعته وشموله لكل الرسالات قبله ، وفي ولائه لكافة الرسل حملته . وفي توحيده لدين الله كله ، ورجعه جميع الدعوات وجميع الرسالات إلى أصلها الواحد ، والإيمان بها جملة كما أرادها الله لعباده .
ومما هو جدير بالالتفات في الآية القرآنية الأولى هنا هو ذكرها الإيمان بالله وما أنزل على المسلمين - وهو القرآن - وما أنزل على سائر الرسل من قبل ، ثم التعقيب على هذا الإيمان بقوله :
{ ونحن له مسلمون } .

.
فهذا الإقرار بالإسلام له مغزاه . بعد بيان أن الإسلام هو الاستسلام والخضوع والطاعة واتباع الأمر والنظام والمنهج والناموس . كما يتجلى في الآية قبلها { أفغير دين الله يبغون ، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون } . . فظاهر أن إسلام الكائنات الكونية هو إسلام الخضوع للأمر ، واتباع النظام ، وطاعة الناموس . . ومن ثم تتجلى عناية الله - سبحانه - ببيان معنى الإسلام وحقيقته في كل مناسبة . كي لا يتسرب إلى ذهن أحد أنه كلمة تقال باللسان ، أو تصديق يستقر في القلب ، ثم لا تتبعه آثاره العملية من الاستسلام لمنهج الله ، وتحقيق هذا المنهج في واقع الحياة .
وهي لفتة ذات قيمة قبل التقرير الشامل الدقيق الأكيد :
{ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين } . .
إنه لا سبيل - مع هذه النصوص المتلاحقة - لتأويل حقيقة الإسلام ، ولا للي النصوص وتحريفها عن مواضعها لتعريف الإسلام بغير ما عرفه به الله ، الإسلام الذي يدين به الكون كله . في صورة خضوع للنظام الذي قرره الله له ودبره به .
ولن يكون الإسلام إذن هو النطق بالشهادتين ، دون أن يتبع شهادة أن لا إله إلا الله معناها وحقيقتها . وهي توحيد الألوهية وتوحيد القوامة . ثم توحيد العبودية وتوحيد الاتجاه . ودون أن يتبع شهادة أن محمداً رسول الله معناها وحقيقتها . وهي التقيد بالمنهج الذي جاء به من عند ربه للحياة ، واتباع الشريعة التي أرسله بها ، والتحاكم إلى الكتاب الذي حمله إلى العباد .
ولن يكون الإسلام إذن تصديقاً بالقلب بحقيقة الألوهية والغيب والقيامة وكتب الله ورسله . . دون أن يتبع هذا التصديق مدلوله العملي ، وحقيقته الواقعية التي أسلفنا . .
ولن يكون الإسلام شعائر وعبادات ، أو إشراقات وسبحات ، أو تهذيباً خلقياً وإرشاداً روحياً . . دون أن يتبع هذا كله آثاره العملية ممثلة في منهج للحياة موصول بالله الذي تتوجه إليه القلوب بالعبادات والشعائر ، والإشراقات والسبحات ، والذي تستشعر القلوب تقواه فتتهذب وترشد . . فإن هذا كله يبقى معطلاً لا أثر له في حياة البشر ما لم تنصب آثاره في نظام اجتماعي يعيش الناس في إطاره النظيف الوضيء .
هذا هو الإسلام كما يريده الله؛ ولا عبرة بالإسلام كما تريده أهواء البشر في جيل منكود من أجيال الناس ولا كما تصوره رغائب أعدائه المتربصين به ، وعملائهم هنا أو هناك
فأما الذين لا يقبلون الإسلام على النحو الذي أراده الله ، بعدما عرفوا حقيقته ، ثم لم تقبلها أهواؤهم ، فهم في الآخرة من الخاسرين . ولن يهديهم الله ، ولن يعفيهم من العذاب :
{ كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ، وشهدوا أن الرسول حق ، وجاءهم البينات . والله لا يهدي القوم الظالمين . أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .

خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون } . .
وهي حملة رعيبة يرجف لها كل قلب فيه ذرة من إيمان؛ ومن جدية الأمر في الدنيا وفي الآخرة سواء . وهو جزاء حق لمن تتاح له فرصة النجاة ثم يعرض عنها هذا الإعراض .
ولكن الإسلام - مع هذا - يفتح باب التوبة ، فلا يغلقه في وجه ضال يريد أن يتوب؛ ولا يكلفه إلا أن يطرق الباب . بل أن يدلف إليه فليس دونه حجاب . وإلا أن يفيء إلى الحمى الآمن ، ويعمل صالحاً فيدل على أن التوبة صادرة من قلب تاب :
{ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } . .
فأما الذين لا يتوبون ولا يثوبون . الذين يصرون على الكفر ويزدادون كفراً والذين يلجون في هذا الكفر حتى تفلت الفرصة المتاحة وينتهي أمد الاختبار ، ويأتي دور الجزاء . هؤلاء وهؤلاء لا توبة لهم ولا نجاة . ولن ينفعهم أن يكونوا قد أنفقوا ملء الأرض ذهباً فيما يظنون هم أنه خير وبر ، ما دام مقطوعاً عن الصلة بالله . ومن ثم فهو غير موصول به ولا خالص له بطبيعة الحال . ولن ينجيهم أن يقدموا ملء الأرض ذهباً ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة . فقد أفلتت الفرصة وأغلقت الأبواب :
{ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون . إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به . أولئك لهم عذاب أليم . وما لهم من ناصرين } . .
وهكذا يحسم السياق القضية بهذا التقرير المروع المفزع ، وبهذا التوكيد الواضح الذي لا يدع ريبة لمستريب .
وبمناسبة الإنفاق على غير درب الله ، وفي غير سبيله وبمناسبة الافتداء يوم لا ينفع الفداء ، يبين البذل الذي يرضاه :
{ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون . وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم } . .
وقد فقه المسلمون وقتها معنى هذا التوجيه الإلهي ، وحرصوا على أن ينالوا البر - وهو جماع الخير - بالنزول عما يحبون ، وببذل الطيب من المال ، سخية به نفوسهم في انتظار ما هو أكبر وأفضل .
روى الإمام أحمد - بإسناده - عن أبي إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة : سمع أنس بن مالك يقول : « كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً ، وكان أحب أمواله إليه بَيْرَحاء وكانت مستقبلة المسجد . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب . قال أنس : فلما نزلت : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } . . قال أبو طلحة : يا رسول الله ، إن الله يقول : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وإن أحب أموالي إليّ بَيْرَحاء وإنها صدقة لله أرجو بها برها وذخرها عند الله تعالى . فضعها يا رسول الله حيث أراك الله . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : بخ بخ . ذاك مال رابح . ذاك مال رابح . وقد سمعت . وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة أفعل يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه »

. ( أخرجه الشيخان ) .
وفي الصحيحين أن عمر - رضي الله عنه - قال : « يا رسول الله لم أصب مالاً قط ، هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر . فما تأمرني به؟ قال : احبس الأصل وسبل الثمرة » .
وعلى هذا الدرب سار الكثيرون منهم يلبون توجيه ربهم الذي هداهم إلى البر كله ، يوم هداهم إلى الإسلام . ويتحررون بهذه التلبية من استرقاق المال ، ومن شح النفس ، ومن حب الذات؛ ويصعدون في هذا المرتقى السامق الوضيء أحراراً خفافاً طلقاء . .

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

في هذا الدرس تبلغ المعركة ذروتها . معركة الجدل والمناظرة مع أهل الكتاب . وهذه الآيات غير داخلة في نطاق مناظرة وفد نجران - كما ذكرت الروايات - ولكنها متساوقة ، معها ومكملة لها ، والموضوع واحد . وإن كانت آيات هذا الدرس تتمحض للحديث عن اليهود خاصة ، وتواجه كيدهم ودسهم للجماعة المسلمة في المدينة . وتنتهي إلى الحسم القاطع ، والمفاصلة الكاملة . حيث يتجه السياق بعد جولة قصيرة في هذا الدرس إلى الجماعة المسلمة يخاطبها وحدها؛ فيبين لها حقيقتها ، ومنهجها ، وتكاليفها . على نحو ما سار السياق في سورة البقرة بعد استيفاء الحديث عن بني إسرائيل . . وفي هذه الظاهرة تشابه السورتان .
ويبدأ الدرس بتقرير أن كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل - إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة - ويبدو أن هذا التقرير كان رداً على اعتراض بني إسرائيل على إباحة القرآن لبعض المحرمات اليهودية من الطعام . مع أن هذه المحرمات إنما حرمت عليهم وحدهم ، في صورة عقوبة على بعض مخالفاتهم .
ثم يرد كذلك على اعتراضهم على تحويل القبلة - ذلك الموضوع الذي استغرق مساحة واسعة في سورة البقرة من قبل - فيبين لهم أن الكعبة هي بيت إبراهيم؛ وهي أول بيت وضع للناس في الأرض للعبادة ، فالاعتراض عليه مستنكر ممن يدعون وراثة إبراهيم
وعقب هذا البيان يندد بأهل الكتاب لكفرهم بآيات الله ، وصدهم عن سبيل الله؛ ورفضهم الاستقامة ، وميلهم إلى الخطة العوجاء ، ورغبتهم في سيطرتها على الحياة ، وهم يعرفون الحق ولا يجهلونه .
ومن ثم يدعو أهل الكتاب جملة؛ ويتجه إلى الجماعة المسلمة ، يحذرها طاعة أهل الكتاب . . فإنها الكفر . . ولا يليق بالمسلمين الكفر وكتاب الله يتلى عليهم ، وفيهم رسوله يعلمهم . ويدعوهم إلى تقوى الله ، والحرص على الإسلام حتى الوفاة ولقاء الله . ويذكرهم نعمة الله عليهم بتأليف قلوبهم ، وتوحيد صفوفهم تحت لواء الإسلام ، بعد ما كانوا فيه من فرقة وخصام ، وهم يومئذ على شفا حفرة من النار أنقذهم منها الله بالإسلام . ويأمرهم بأن يكونوا الأمة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، محافظة على تحقيق منهج الله ، مع تحذيرهم الاستماع لدسائس أهل الكتاب فيهم ، فيهلكوا بالفرقة كما تفرق هؤلاء فهلكوا في الدنيا والآخرة . . وتذكر الروايات أن هذا التحذير نزل بمناسبة فتنة معينة بين الأوس والخزرج قام بها اليهود .
ثم يعرّف الله المسلمين حقيقة مكانهم في هذه الأرض ، وحقيقة دورهم في حياة البشر : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } . . فيدلهم بهذا على أصالة دورهم ، وعلى سمة مجتمعهم . .
يلي ذلك التهوين من شأن عدوهم فهم لن يضروهم في دينهم ، ولن يظهروا عليهم ظهوراً تاماً مستقراً .

إنما هو الأذى في جهادهم وكفاحهم ، ثم النصر ما استقاموا على منهجهم . وهؤلاء الأعداء قد ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ، بسبب ما اقترفوه من الآثام والمعصية وقتل الأنبياء بغير حق . . ويستثني من أهل الكتاب طائفة جنحت للحق ، فآمنت ، واتخذت منهج المسلمين منهجاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعي في الخيرات . . { وأولئك من الصالحين } . . ويقرر مصير الذين كفروا فلم يجنحوا للإسلام؛ فهم مأخوذون بكفرهم ، لا تنفعهم أموال ينفقونها ، ولا تغني عنهم أولاد ، وعاقبتهم البوار .
وينتهي الدرس بتحذير الذين آمنوا من اتخاذ بطانة من دونهم ، يودون لهم العنت . وتنفث أفواههم البغضاء ، وما تخفي صدورهم أكبر ، ويعضون عليهم الأنامل من الغيظ . ويفرحون لما ينزل بساحتهم من السوء؛ ويسوؤهم الخير ينال المؤمنين . . ويعدهم الله بالكلاءة والحفظ من كيد هؤلاء الأعداء ما صبروا واتقوا { إن الله بما يعملون محيط } . .
ويدل هذا التوجيه الطويل ، المنوّع الإيحاءات ، على ما كانت تعانيه الجماعة المسلمة حينذاك من كيد أهل الكتاب ودسهم في الصف المسلم؛ وما كان يحدثه هذا الدس من بلبلة . كما أنه يشي بحاجة الجماعة إلى التوجيه القوي ، كي يتم لها التميز الكامل ، والمفاصلة الحاسمة ، من كافة العلاقات التي كانت تربطها بالجاهلية وبأصدقاء الجاهلية
ثم يبقى هذا التوجيه يعمل في أجيال هذه الأمة ، ويبقى كل جيل مطالباً بالحذر من أعداء الإسلام التقليديين . وهم هم تختلف وسائلهم ، ولكنهم لا يختلفون
{ كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل - إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة - قل : فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين . فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون } .
لقد كان اليهود يتصيدون كل حجة ، وكل شبهة ، وكل حيلة ، لينفذوا منها إلى الطعن في صحة الرسالة المحمدية ، وإلى بلبلة الأفكار وإشاعة الاضطراب في العقول والقلوب . . فلما قال القرآن : إنه مصدق لما في التوراة برزوا يقولون : فما بال القرآن يحلل من الأطعمة ما حرم على بني إسرائيل؟ وتذكر الروايات أنهم ذكروا بالذات لحوم الإبل وألبانها . . وهي محرمة على بني إسرائيل . وهناك محرمات أخرى كذلك أحلها الله للمسلمين .
وهنا يردهم القرآن إلى الحقيقة التاريخية التي يتجاهلونها للتشكيك في صحة ما جاء في القرآن من أنه مصدق للتوراة ، وأنه مع هذا أحل للمسلمين بعض ما كان محرماً على بني إسرائيل . . هذه الحقيقة هي أن كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل - إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة - وإسرائيل هو يعقوب - عليه السلام - وتقول الروايات إنه مرض مرضاً شديداً ، فنذر لله لئن عافاه ليمتنعن - تطوعاً - عن لحوم الإبل وألبانها وكانت أحب شيء إلى نفسه . فقبل الله منه نذره .

وجرت سنة بني إسرائيل على اتباع أبيهم في تحريم ما حرم . . كذلك حرم الله على بني إسرائيل مطاعم أخرى عقوبة لهم على معصيات ارتكبوها . وأشير إلى هذه المحرمات في آية « الأنعام » : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ، ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون } وكانت قبل هذا التحريم حلالاً لبني إسرائيل .
يردهم الله سبحانه إلى هذه الحقيقة ، ليبين أن الأصل في هذه المطاعم هو الحل ، وأنها إنما حرمت عليهم لملابسات خاصة بهم . فإذا أحلها للمسلمين فهذا هو الأصل الذي لا يثير الاعتراض ، ولا الشك في صحة هذا القرآن ، وهذه الشريعة الإلهية الأخيرة .
ويتحداهم أن يرجعوا إلى التوراة ، وأن يأتوا بها ليقرأوها ، وسيجدون فيها أن أسباب التحريم خاصة بهم ، وليست عامة .
{ قل : فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } . .
ثم يهدد من يفتري الكذب منهم على الله بأنه إذن ظالم ، لا ينصف الحقيقة ، ولا ينصف نفسه ، ولا ينصف الناس . وعقاب الظالم معروف ، فيكفي أن يوصموا بهذه الوصمة ، ليتقرر نوع العذاب الذي ينتظرهم . وهم يفترون الكذب على الله . وهم إليه راجعون . .
كذلك كان اليهود يبدئون ويعيدون في مسألة تحويل القبلة إلى الكعبة ، بعد أن صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس حتى الشهر السادس عشر أو السابع عشر من الهجرة . . ومع أن هذا الموضوع قد نوقش مناقشة كاملة وافية في سورة البقرة من قبل ، وتبين أن اتخاذ الكعبة قبلة للمسلمين هو الأصل وهو الأوْلى ، وأن اتخاذ بيت المقدس هذه الفترة كان لحكمة معينة بينها الله في حينها . . مع هذا فقد ظل اليهود يبدئون في هذا الموضوع ويعيدون ، ابتغاء البلبلة والتشكيك واللبس للحق الواضح الصريح - على مثال ما يصنع اليوم أعداء هذا الدين بكل موضوع من موضوعات هذا الدين وهنا يرد الله عليهم كيدهم ببيان جديد .
{ قل : صدق الله ، فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً ، وما كان من المشركين . إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين . فيه آيات بينات : مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا . ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } . .
ولعل الإشارة هنا في قوله : { قل صدق الله . . } تعني ما سبق تقريره في هذا الأمر ، من أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون مثابة للناس وأمناً ، وليكون للمؤمنين بدينه قبلة ومصلى : ومن ثم يجيء الأمر باتباع إبراهيم في ملته . وهي التوحيد الخالص المبرأ من الشرك في كل صورة :
{ فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً ، وما كان من المشركين } .
واليهود كانوا يزعمون أنهم هم ورثة إبراهيم . فها هو ذا القرآن يدلهم على حقيقة دين إبراهيم؛ وأنه الميل عن كل شرك .

ويؤكد هذه الحقيقة مرتين : مرة بأنه كان حنيفاً . ومرة بأنه ما كان من المشركين . فما بالهم هم مشركين
ثم يقرر أن الاتجاه للكعبة هو الأصل . فهي أول بيت وضع في الأرض للعبادة وخصص لها ، مذ أمر الله إبراهيم أن يرفع قواعده . . وأن يخصصه للطائفين والعاكفين والركع السجود . وجعله مباركاً وجعله هدى للعالمين ، يجدون عنده الهدى بدين الله ملة إبراهيم . وفيه علامات بينة على أنه مقام إبراهيم . . ( ويقال : إن المقصود هو الحجر الأثري الذي كان إبراهيم - عليه السلام - يقف عليه في أثناء البناء . وكان ملصقاً بالكعبة فأخره عنها الخليفة الراشد عمر - رضي الله عنه - حتى لا يشوش الذين يطوفون به على المصلين عنده . وقد أمر المسلمون أن يتخذوه مصلى بقوله تعالى : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } . . )
ويذكر من فضائل هذا البيت أن من دخله كان آمناً . فهو مثابة الأمن لكل خائف . وليس هذا لمكان آخر في الأرض . وقد بقي هكذا مذ بناه إبراهيم وإسماعيل . وحتى في جاهلية العرب ، وفي الفترة التي انحرفوا فيها عن دين إبراهيم ، وعن التوحيد الخالص الذي يمثله هذا الدين . . حتى في هذه الفترة بقيت حرمة هذا البيت سارية ، كما قال الحسن البصري وغيره : « كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ، ويدخل الحرم ، فيلقاه ابن المقتول ، فلا يهيجه حتى يخرج » . . وكان هذا من تكريم الله سبحانه لبيته هذا ، حتى والناس من حوله في جاهلية وقال - سبحانه - يمتن على العرب به : { أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم؟ } وحتى إنه من جملة تحريم الكعبة حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره ، وحرمة قطع شجرها . . وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة : « إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة . وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار . فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاه . . . إلخ »
فهذا هو البيت الذي اختاره الله للمسلمين قبلة . . هو بيت الله الذي جعل له هذه الكرامة . وهو أول بيت أقيم في الأرض للعبادة . وهو بيت أبيهم إبراهيم ، وفيه شواهد على بناء إبراهيم له . والإسلام هو ملة إبراهيم . فبيته هو أولى بيت بأن يتجه إليه المسلمون . وهو مثابة الأمان في الأرض . وفيه هدى للناس ، بما أنه مثابة هذا الدين .
ثم يقرر أن الله فرض على الناس أن يحجوا إلى هذا البيت ما تيسر لهم ذلك .

وإلا فهو الكفر الذي لا يضر الله شيئاً :
{ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا . ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } .
ويلفت النظر - في التعبير - هذا التعميم الشامل في فرضية الحج : { على الناس } . . ففيه أولاً إيحاء بأن هذا الحج مكتوب على هؤلاء اليهود الذين يجادلون في توجه المسلمين إليه في الصلاة . على حين أنهم هم أنفسهم مطالبون من الله بالحج إلى هذا البيت والتوجه إليه ، بوصفه بيت أبيهم إبراهيم ، وبوصفه أول بيت وضع للناس للعبادة . فهم - اليهود - المنحرفون المقصرون العاصون وفيه ثانياً إيحاء بأن الناس جميعاً مطالبون بالإقرار بهذا الدين ، وتأدية فرائضه وشعائره ، والاتجاه والحج إلى بيت الله الذي يتوجه إليه المؤمنون به . . هذا وإلا فهو الكفر . مهما ادعى المدعون أنهم على دين والله غني عن العالمين . فما به من حاجة - سبحانه - إلى إيمانهم وحجهم . إنما هي مصلحتهم وفلاحهم بالإيمان والعبادة . .
والحج فريضة في العمر مرة ، عند أول ما تتوافر الاستطاعة . من الصحة وإمكان السفر وأمن الطريق . . ووقت فرضها مختلف فيه . فالذين يعتمدون رواية أن هذه الآيات نزلت في عام الوفود - في السنة التاسعة - يرون أن الحج فرض في هذه السنة . ويستدلون على هذا بأن حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت فقط بعد هذا التاريخ . . وقد قلنا عند الكلام على مسألة تحويل القبلة في الجزء الثاني من الظلال : إن حجة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا دليل فيها على تأخر فرضية الحج . فقد تكون لملابسات معينة . منها أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عرايا ، ما يزالون يفعلون هذا بعد فتح مكة . فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخالطهم ، حتى نزلت سورة براءة في العام التاسع ، وحرم على المشركين الطواف بالبيت . . ثم حج - صلى الله عليه وسلم - حجته في العام الذي يليه . . ومن ثم فقد تكون فرضية الحج سابقة على ذلك التاريخ ، ويكون نزول هذه الآية في الفترة الأولى من الهجرة بعد غزوة أحد أو حواليها .
وقد تقررت هذه الفريضة على كل حال بهذا النص القاطع ، الذي يجعل لله - سبحانه - حق حج البيت على { الناس } من استطاع إليه سبيلا .
والحج مؤتمر المسلمين السنوي العام . يتلاقون فيه عند البيت الذي صدرت لهم الدعوة منه . والذي بدأت منه الملة الحنيفية على يد أبيهم إبراهيم . والذي جعله الله أول بيت في الأرض لعبادته خالصاً . فهو تجمع له مغزاه ، وله ذكرياته هذه ، التي تطوف كلها حول المعنى الكريم ، الذي يصل الناس بخالقهم العظيم . . معنى العقيدة . استجابة الروح لله الذي من نفخة روحه صار الإنسان إنساناً .

وهو المعنى الذي يليق بالأناسي أن يتجمعوا عليه ، وأن يتوافدوا كل عام إلى المكان المقدس الذي انبعث منه النداء للتجمع على هذا المعنى الكريم . .
بعد هذا البيان يلقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتجه إلى أهل الكتاب بالتنديد والتهديد ، على موقفهم من الحق الذي يعلمونه ، ثم يصدون عنه ، ويكفرون بآيات الله . وهم شهداء على صحتها ، وهم من صدقها على يقين :
{ قل : يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ، والله شهيد على ما تعملون؟ قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء؟ وما الله بغافل عما تعملون } . .
وقد تكرر مثل هذا التنديد في هذه السورة ، وفي سور غيرها كثيرة . وأول ما يتركه هذا التنديد من أثر هو مجابهته أهل الكتاب بحقيقة موقفهم ، ووصفهم بصفتهم ، التي يدارونها بمظهر الإيمان والتدين ، بينما هم في حقيقتهم كفار . فهم يكفرون بآيات الله القرآنية . ومن يكفر بشيء من كتاب الله فقد كفر بالكتاب كله . ولو أنهم آمنوا بالنصيب الذي معهم لآمنوا بكل رسول جاء من عند الله بعد رسولهم . فحقيقة الدين واحدة . من عرفها عرف أن كل ما يجيء به الرسل من بعد حق ، وأوجب على نفسه الإسلام لله على أيديهم . . وهي حقيقة من شأنها أن تهزهم وأن تخوفهم عاقبة ما هم فيه .
ثم إن المخدوعين من الجماعة المسلمة بكون هؤلاء الناس أهل كتاب ، يسقط هذا الخداع عنهم ، وهم يرون الله - سبحانه - يعلن حقيقة أهل الكتاب هؤلاء ، ويدمغهم بالكفر الكامل الصريح . فلا تبقى بعد هذا ريبة لمستريب .
وهو - سبحانه - يهددهم بما يخلع القلوب :
{ والله شهيد على ما تعملون } . . { وما الله بغافل عما تعملون } . .
وهو تهديد رعيب ، حين يحس إنسان أن الله يشهد عمله . وأنه ليس بغافل عنه . بينما عمله هو الكفر والخداع والإفساد والتضليل
ويسجل الله تعالى عليهم معرفتهم بالحق الذي يكفرون به ، ويصدون الناس عنه :
{ وأنتم شهداء } . .
مما يجزم بأنهم كانوا على يقين من صدق ما يكذبون به ، ومن صلاح ما يصدون الناس عنه . وهو أمر بشع مستنكر ، لا يستحق فاعله ثقة ولا صحبة ، ولا يستأهل إلا الاحتقار والتنديد
ولا بد من وقفة أمام وصفة تعالى لهؤلاء القوم بقوله :
{ لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً . . . ؟ }
إنها لفتة ذات مغزى كبير . . إن سبيل الله هو الطريق المستقيم . وما عداه عوج غير مستقيم . وحين يصد الناس عن سبيل الله؛ وحين يصد المؤمنون عن منهج الله ، فإن الأمور كلها تفقد استقامتها ، والموازين كلها تفقد سلامتها ، ولا يكون في الأرض إلا العوج الذي لا يستقيم .
إنه الفساد . فساد الفطرة بانحرافها . وفساد الحياة باعوجاجها . . وهذا الفساد هو حصيلة صد الناس عن سبيل الله ، وصد المؤمنين عن منهج الله .

. وهو فساد في التصور . وفساد في الضمير . وفساد في الخلق . وفساد في السلوك . وفساد في الروابط . وفساد في المعاملات . وفساد في كل ما بين الناس بعضهم وبعض من ارتباطات . وما بينهم وبين الكون الذي يعيشون فيه من أواصر . . وإما أن يستقيم الناس على منهج الله فهي الاستقامة والصلاح والخير ، وإما أن ينحرفوا عنه إلى أية وجهة فهو العوج والفساد والشر . وليس هنالك إلا هاتان الحالتان ، تتعاوران حياة بني الإنسان : استقامة على منهج الله فهو الخير والصلاح ، وانحراف عن هذا المنهج فهو الشر والفساد
وحين يصل السياق إلى هذا الحد ينهي الجدل مع أهل الكتاب ، ويغفل شأنهم كله . ويتجه إلى الجماعة المسلمة بالخطاب ، والتحذير؛ والتنبيه والتوجيه . وبيان خصائص الجماعة المسلمة وقواعد منهجها وتصورها وحياتها؛ وطبيعة وسائلها لتحقيق المنهج الذي ناطه الله بها :
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين . وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم } . .
لقد جاءت هذه الأمة المسلمة لتنشىء في الأرض طريقها على منهج الله وحده ، متميزة متفردة ظاهرة . لقد انبثق وجودها ابتداء من منهج الله؛ لتؤدي في حياة البشر دوراً خاصاً لا ينهض به سواها . لقد وجدت لإقرار منهج الله في الأرض ، وتحقيقه في صورة عملية ، ذات معالم منظورة ، تترجم فيها النصوص إلى حركات وأعمال ، ومشاعر وأخلاق ، وأوضاع وارتباطات .
وهي لا تحقق غاية وجودها ، ولا تستقيم على طريقها ، ولا تنشىء في الأرض هذه الصورة الوضيئة الفريدة من الحياة الواقعية الخاصة المتميزة ، إلا إذا تلقت من الله وحده ، وإلا إذا تولت قيادة البشرية بما تتلقاه من الله وحده . قيادة البشرية . . لا التلقي من أحد من البشر ، ولا اتباع أحد من البشر ، ولا طاعة أحد من البشر . . إما هذا وإما الكفر والضلال والانحراف . .
هذا ما يؤكده القرآن ويكرره في شتى المناسبات . وهذا ما يقيم عليه مشاعر الجماعة المسلمة وأفكارها وأخلاقها كلما سنحت الفرصة . . وهنا موضع من هذه المواضع ، مناسبته هي المناظرة مع أهل الكتاب ، ومواجهة كيدهم وتآمرهم على الجماعة المسلمة في المدينة . . ولكنه ليس محدوداً بحدود هذه المناسبة ، فهو التوجيه الدائم لهذه الأمة ، في كل جيل من أجيالها ، لأنه هو قاعدة حياتها ، بل قاعدة وجودها .
لقد وجدت هذه الأمة لقيادة البشرية . فكيف تتلقى إذن من الجاهلية التي جاءت لتبدلها ولتصلها بالله ، ولتقودها بمنهج الله؟ وحين تتخلى عن مهمة القيادة فما وجودها إذن ، وليس لوجودها - في هذه الحال - من غاية؟
لقد وجدت للقيادة : قيادة التصور الصحيح . والاعتقاد الصحيح . والشعور الصحيح . والخلق الصحيح . والنظام الصحيح . والتنظيم الصحيح . . وفي ظل هذه الأوضاع الصحيحة يمكن أن تنمو العقول ، وأن تتفتح ، وأن تتعرف إلى هذا الكون ، وأن تعرف أسراره ، وأن تسخر قواه وطاقاته ومدخراته .

. ولكن القيادة الأساسية التي تسمح بهذا كله ، وتسيطر على هذا كله وتوجهه لخير البشر لا لتهديدهم بالخراب والدمار ، ولا لتسخيره في المآرب والشهوات . . ينبغي أن تكون للإيمان ، وأن تقوم عليها الجماعة المسلمة ، مهتدية فيها بتوجيه الله . لا بتوجيه أحد من عبيد الله .
وهنا في هذا الدرس يحذر الأمة المسلمة من اتباع غيرها ، ويبين لها كذلك طريقها لإنشاء الأوضاع الصحيحة وصيانتها . ويبدأ بتحذيرها من اتباع أهل الكتاب ، وإلا فسيقودونها إلى الكفر لا مناص .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين . وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم } . .
إن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم ، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم ، تحمل ابتداء معنى الهزيمة الداخلية ، والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أنشئت الأمة المسلمة . كما تحمل معنى الشك في كفاية منهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعداً في طريق النماء والارتقاء . وهذا بذاته دبيب الكفر في النفس ، وهي لا تشعر به ولا ترى خطره القريب .
هذا من جانب المسلمين . فأما من الجانب الآخر ، فأهل الكتاب لا يحرصون على شيء حرصهم على إضلال هذه الأمة عن عقيدتها . فهذه العقيدة هي صخرة النجاة؛ وخط الدفاع ، ومصدر القوة الدافعة للأمة المسلمة . وأعداؤه يعرفون هذا جيداً . يعرفونه قديماً ويعرفونه حديثاً ، ويبذلون في سبيل تحويل هذه الأمة عن عقيدتها كل ما في وسعهم من مكر وحيلة ، ومن قوة كذلك وعُدة . وحين يعجزهم أن يحاربوا هذه العقيدة ظاهرين يدسون لها ماكرين . وحين يعييهم أن يحاربوها بأنفسهم وحده ، يجندون من المنافقين المتظاهرين بالإسلام ، أو ممن ينتسبون - زوراً - للإسلام ، جنوداً مجندة ، لتنخر لهم في جسم هذه العقيدة من داخل الدار ، ولتصد الناس عنها ، ولتزين لهم مناهج غير منهجها ، وأوضاعاً غير أوضاعها ، وقيادة غير قيادتها . .
فحين يجد أهل الكتاب من بعض المسلمين طواعية واستماعاً واتباعاً ، فهم ولا شك سيستخدمون هذا كله في سبيل الغاية التي تؤرقهم ، وسيقودونهم ويقودون الجماعة كلها من ورائهم إلى الكفر والضلال .
ومن ثم هذا التحذير الحاسم المخيف :
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } . .
وما كان يفزع المسلم - حينذاك - ما يفزعه أن يرى نفسه منتكساً إلى الكفر بعد الإيمان . وراجعاً إلى النار بعد نجاته منها إلى الجنة . وهذا شأن المسلم الحق في كل زمان ومن ثم يكون هذا التحذير بهذه الصورة سوطاً يلهب الضمير ، ويوقظه بشدة لصوت النذير . . ومع هذا فإن السياق يتابع التحذير والتذكير . . فيا له من منكر أن يكفر الذين آمنوا بعد إيمانهم ، وآيات الله تتلى عليهم ، ورسوله فيهم .

ودواعي الإيمان حاضرة ، والدعوة إلى الإيمان قائمة ، ومفرق الطريق بين الكفر والإيمان مسلط عليه هذا النور :
{ وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟ }
أجل . إنها لكبيرة أن يكفر المؤمن في ظل هذه الظروف المعينة على الإيمان . . وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استوفى أجله ، واختار الرفيق الأعلى ، فإن آيات الله باقية ، وهدى رسوله - صلى الله عليه وسلم - باق . . ونحن اليوم مخاطبون بهذا القرآن كما خوطب به الأولون ، وطريق العصمة بين ، ولواء العصمة مرفوع :
{ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم } . .
أجل . إنه الاعتصام بالله يعصم . والله سبحانه باق . وهو - سبحانه - الحي القيوم .
ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتشدد مع أصحابه - رضوان الله عليهم - في أمر التلقي في شأن العقيدة والمنهج ، بقدر ما كان يفسح لهم في الرأي والتجربة في شؤون الحياة العملية المتروكة للتجربة والمعرفة ، كشؤون الزرع ، وخطط القتال ، وأمثالها من المسائل العملية البحتة التي لا علاقة لها بالتصور الاعتقادي ، ولا بالنظام الاجتماعي ، ولا بالارتباطات الخاصة بتنظيم حياة الإنسان . . وفرق بين هذا وذلك بين . فمنهج الحياة شيء ، والعلوم البحتة والتجريبية والتطبيقية شيء آخر . والإسلام الذي جاء ليقود الحياة بمنهج الله ، هو الإسلام الذي وجه العقل للمعرفة والانتفاع بكل إبداع مادي في نطاق منهجه للحياة . .
قال الإمام أحمد : « حدثنا عبد الرازق ، أنبأنا سفيان ، عن جابر ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن ثابت . قال : » جاء عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله . إني أمرت بأخ يهودي من بني قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة . ألا أعرضها عليك؟ قال : فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عبد الله بن ثابت : قلت له : ألا ترى ما وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال عمر : رضيت بالله رباً ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولاً . قال : فسري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى - عليه السلام - ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم . إنكم حظي من الأمم ، وأنا حظكم من النبيين « .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا حماد عن الشعبي عن جابر . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء . فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا . وإنكم إما أن تصدقوا بباطل ، وإما أن تكذبوا بحق . وإنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني . . « وفي بعض الأحاديث : » لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي « .

هؤلاء هم أهل الكتاب . وهذا هو هدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التلقي عنهم في أي أمر يختص بالعقيدة والتصور ، أو بالشريعة والمنهج . . ولا ضير - وفق روح الإسلام وتوجيهه - من الانتفاع بجهود البشر كلهم في غير هذا من العلوم البحتة ، علماً وتطبيقاً . . مع ربطها بالمنهج الإيماني : من ناحية الشعور بها ، وكونها من تسخير الله للإنسان . ومن ناحية توجيهها والانتفاع بها في خير البشرية ، وتوفير الأمن لها والرخاء . وشكر الله على نعمة المعرفة ونعمة تسخير القوى والطاقات الكونية . شكره بالعبادة . وشكره بتوجيه هذه المعرفة وهذا التسخير لخير البشرية . .
فأما التلقي عنهم في التصور الإيماني ، وفي تفسير الوجود ، وغاية الوجود الإنساني . وفي منهج الحياة وأنظمتها وشرائعها ، وفي منهج الأخلاق والسلوك أيضاً . . أما التلقي في شيء من هذا كله ، فهو الذي تغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأيسر شيء منه . وهو الذي حذر الله الأمة المسلمة عاقبته . وهي الكفر الصراح . .
هذا هو توجيه الله - سبحانه - وهذا هو هدى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فأما نحن الذين نزعم أننا مسلمون ، فأرانا نتلقى في صميم فهمنا لقرآننا وحديث نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن المستشرقين وتلامذة المستشرقين وأرانا نتلقى فلسفتنا وتصوراتنا للوجود والحياة من هؤلاء وهؤلاء ، ومن الفلاسفة والمفكرين : الإغريق والرومان والأوروبيين والأمريكان وأرانا نتلقى نظام حياتنا وشرائعنا وقوانيننا من تلك المصادر المدخولة وأرانا نتلقى قواعد سلوكنا وآدابنا وأخلاقنا من ذلك المستنقع الآسن ، الذي انتهت إليه الحضارة المادية المجردة من روح الدين . . أي دين . . ثم نزعم - والله - أننا مسلمون وهو زعم إثمه أثقل من إثم الكفر الصريح . فنحن بهذا نشهد على الإسلام بالفشل والمسخ . حيث لا يشهد عليه هذه الشهادة الآثمة من لا يزعمون - مثلنا - أنهم مسلمون
إن الإسلام منهج . وهو منهج ذو خصائص متميزة : من ناحية التصور الاعتقادي ، ومن ناحية الشريعة المنظمة لارتباطات الحياة كلها . ومن ناحية القواعد الأخلاقية ، التي تقوم عليها هذه الارتباطات ، ولا تفارقها ، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية . وهو منهج جاء لقيادة البشرية كلها . فلا بد أن تكون هناك جماعة من الناس تحمل هذا المنهج لتقود به البشرية . ومما يتناقض مع طبيعة القيادة - كما أسلفنا - أن تتلقى هذه الجماعة التوجيهات من غير منهجها الذاتي . .
ولخير البشرية جاء هذا المنهج يوم جاء . ولخير البشرية يدعو الدعاة لتحكيم هذا المنهج اليوم وغداً . بل الأمر اليوم ألزم ، والبشرية بمجموعها تعاني من النظم والمناهج التي انتهت إليها ما تعاني . وليس هناك منقذ إلا هذا المنهج الإلهي ، الذي يجب أن يحتفظ بكل خصائصه كي يؤدي دوره للبشرية وينقذها مرة أخرى .

لقد أحرزت البشرية انتصارات شتى في جهادها لتسخير القوى الكونية . وحققت في عالم الصناعة والطب ما يشبه الخوارق - بالنسبة للماضي - وما تزال في طريقها إلى انتصارات جديدة . . ولكن ما أثر هذا كله في حياتها؟ ما أثره في حياتها النفسية؟ هل وجدت السعادة؟ هل وجدت الطمأنينة؟ هل وجدت السلام؟ كلا لقد وجدت الشقاء والقلق والخوف . . والأمراض العصبية والنفسية ، والشذوذ والجريمة على أوسع نطاق . . إنها لم تتقدم كذلك في تصور غاية الوجود الإنساني وأهداف الحياة الإنسانية . . وحين تقاس غاية الوجود الإنساني وأهداف الحياة الإنسانية في ذهن الرجل المتحضر المعاصر ، إلى التصور الإسلامي في هذا الجانب ، تبدو هذه الحضارة في غاية القزامة بل تبدو لعنة تحط من تصور الإنسان لنفسه ومقامه في هذا الوجود وتسفل به ، وتصغر من اهتماماته ومن أشواقه . . والخواء يأكل قلب البشرية المكدود ، والحيرة تهد روحها المتعبة . . إنها لا تجد الله . . لقد أبعدتها عنه ملابسات نكدة . والعلم الذي كان من شأنه ، لو سار تحت منهج الله ، أن يجعل من كل انتصار للبشرية في ميدانه خطوة تقربها من الله ، هو ذاته الذي تبعد به البشرية أشواطا بسبب انطماس روحها ونكستها . . إنها لا تجد النور الذي يكشف لها غاية وجودها الحقيقية فتنطلق إليها مستعينة بهذا العلم الذي منحه الله لها ووهبها الاستعداد له . ولا تجد المنهج الذي ينسق بين حركتها وحركة الكون ، وفطرتها وفطرة الكون ، وقانونها وناموس الكون . ولا تجد النظام الذي ينسق بين طاقاتها وقواها ، وآخرتها ودنياها ، وأفرادها وجماعاتها ، وواجباتها وحقوقها . . تنسيقاً طبيعياً شاملاً مريحاً . .
وهذه البشرية هي التي يعمل ناس منها على حرمانها من منهج الله الهادي . وهم الذين يسمون التطلع إلى هذا المنهج « رجعية » ويحسبونه مجرد حنين إلى فترة ذاهبة من فترات التاريخ . . وهم بجهالتهم هذه أو بسوء نيتهم يحرمون البشرية التطلع إلى المنهج الوحيد الذي يمكن أن يقود خطاها إلى السلام والطمأنينة ، كما يقود خطاها إلى النمو والرقي . . ونحن الذين نؤمن بهذا المنهج نعرف إلى ماذا ندعو . إننا نرى واقع البشرية النكد ، ونشم رائحة المستنقع الآسن الذي تتمرغ فيه . ونرى . نرى هنالك على الأفق الصاعد راية النجاة تلوح للمكدودين في هجير الصحراء المحرق والمرتقى الوضيء النظيف يلوح للغارقين في المستنقع؛ ونرى أن قيادة البشرية إن لم ترد إلى هذا المنهج فهي في طريقها إلى الارتكاس الشائن لكل تاريخ الإنسان ، ولكل معنى من معاني الإنسان
وأولى الخطوات في الطريق أن يتميز هذا المنهج ويتفرد ، ولا يتلقى أصحابه التوجيه من الجاهلية الطامة من حولهم . . كيما يظل المنهج نظيفاً سليماً . إلى أن يأذن الله بقيادته للبشرية مرة أخرى . والله أرحم بعباده أن يدعهم لأعداء البشر ، الداعين إلى الجاهلية من هنا ومن هناك .

. وهذا ما أراد الله سبحانه أن يلقنه للجماعة المسلمة الأولى في كتابه الكريم؛ وما حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمها إياه في تعليمه القويم . .
وبعد هذا التحذير من التلقي عن أهل الكتاب وطاعتهم واتباعهم ينادي الله الجماعة المسلمة ويوجهها إلى القاعدتين الأساسيتين اللتين تقوم عليهما حياتها ومنهجها . واللتين لا بد منهما لكي تستطيع أن تضطلع بالأمانة الضخمة التي ناطها الله بها ، وأخرجها للوجود من أجلها . . هاتان القاعدتان المتلازمتان هما : الإيمان . والأخوة . . الإيمان بالله وتقواه ومراقبته في كل لحظة من لحظات الحياة . والأخوة في الله ، تلك التي تجعل من الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة ، قادرة على أداء دورها العظيم في الحياة البشرية ، وفي التاريخ الإنساني : دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وإقامة الحياة على أساس المعروف وتطهيرها من لوثة المنكر :
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم : إذ كنتم أعداء ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخواناً . وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون . ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، وأولئك هم المفلحون ، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ، وأولئك لهم عذاب عظيم . يوم تبيض وجوه وتسود وجوه . فأما الذين اسودت وجوههم : أكفرتم بعد إيمانكم؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون } . .
إنهما ركيزتان تقوم عليهما الجماعة المسلمة ، وتؤدي بهما دورها الشاق العظيم . فإذا انهارت واحدة منهما لم تكن هناك جماعة مسلمة ، ولم يكن هنالك دور لها تؤديه :
ركيزة الإيمان والتقوى أولاً . . التقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل . . التقوى الدائمة اليقظة التي لا تغفل ولا تفتر لحظة من لحظات العمر حتى يبلغ الكتاب أجله :
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } . .
اتقوا الله - كما يحق له أن يتقى - وهي هكذا بدون تحديد تدع القلب مجتهداً في بلوغها كما يتصورها وكما يطيقها . وكلما أوغل القلب في هذا الطريق تكشفت له آفاق ، وجدّت له أشواق . وكلما اقترب بتقواه من الله ، تيقظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ ، وإلى مرتبة وراء ما ارتقى . وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قلبه فلا ينام
{ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } . .
والموت غيب لا يدري إنسان متى يدركه . فمن أراد ألا يموت إلا مسلماً فسبيله أن يكون منذ اللحظة مسلماً ، وأن يكون في كل لحظة مسلماً . وذكر الإسلام بعد التقوى يشي بمعناه الواسع : الاستسلام . الاستسلام لله ، طاعة له ، واتباعاً لمنهجه ، واحتكاماً إلى كتابه . وهو المعنى الذي تقرره السورة كلها في كل موضع منها ، على نحو ما أسلفنا .

هذه هي الركيزة الأولى التي تقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقق وجودها وتؤدي دورها . إذ أنه بدون هذه الركيزة يكون كل تجمع تجمعاً جاهلياً . ولا يكون هناك منهج لله تتجمع عليه أمة ، إنما تكون هناك مناهج جاهلية . ولا تكون هناك قيادة راشدة في الأرض للبشرية ، إنما تكون القيادة للجاهلية .
فأما الركيزة الثانية فهي ركيزة الأخوة . . الأخوة في الله ، على منهج الله ، لتحقيق منهج الله :
{ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخواناً . وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } . .
فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام . . من الركيزة الأولى . . أساسها الاعتصام بحبل الله - أي عهده ونهجه ودينه - وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر ، ولا على أي هدف آخر ، ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة
{ واعتمصوا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } . .
هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتن الله بها على الجماعة المسلمة الأولى . وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائماً . وهو هنا يذكرهم هذه النعمة . يذكرهم كيف كانوا في الجاهلية « أعداء » . . وما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد . وهما الحيان العربيان في يثرب . يجاورهما اليهود الذين كانوا يوقدون حول هذه العداوة وينفخون في نارها حتى تأكل روابط الحيين جميعاً . ومن ثم تجد يهود مجالها الصالح الذي لا تعمل إلا فيه ، ولا تعيش إلا معه . فألف الله بين قلوب الحيين من العرب بالإسلام . . وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة . وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمة الله إخواناً . وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله ، تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية ، والثارات القبلية ، والأطماع الشخصية والرايات العنصرية . ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال . .
{ واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم ينعمته إخواناً } . .
ويذكرهم كذلك نعمته عليهم في إنقاذهم من النار التي كانوا على وشك أن يقعوا فيها ، إنقاذهم من النار بهدايتهم إلى الاعتصام بحبل الله - الركيزة الأولى - وبالتأليف بين قلوبهم ، فأصبحوا بنعمة الله إخواناً - الركيزة الثانية - :
{ وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } .
والنص القرآني يعمد إلى مكمن المشاعر والروابط : « القلب » . . فلا يقول : فألف بينكم . إنما ينفذ إلى المكمن العميق : { فألف بين قلوبكم } فيصور القلوب حزمة مؤلفة متآلفة بيد الله وعلى عهده وميثاقه . كذلك يرسم النص صورة لما كانوا فيه . بل مشهداً حياً متحركاً تتحرك معه القلوب : { وكنتم على شفا حفرة من النار } .

. وبينما حركة السقوط في حفرة النار متوقعة ، إذا بالقلوب ترى يد الله ، وهي تدرك وتنقذ وحبل الله وهو يمتد ويعصم . وصورة النجاة والخلاص بعد الخطر والترقب وهو مشهد متحرك حي تتبعه القلوب واجفة خافقة وتكاد العيون تتملاه من وراء الأجيال
وقد ذكر محمد بن إسحاق في السيرة وغيره أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج . وذلك « أن رجلا من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج ، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة ، فبعث رجلاً معه ، وأمره أن يجلس بينهم ، ويذكر لهم ما كان من حروبهم يوم » بُعاث « وتلك الحروب . ففعل . فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم ، وغضب بعضهم على بعض ، وتثاوروا ، ونادوا بشعارهم . وطلبوا أسلحتهم . وتوعدوا إلى » الحرّة « فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاهم ، فجعل يسكنهم ، ويقول : » أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم « وتلا عليهم هذه الآية ، فندموا على ما كان منهم ، واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم » .
وكذلك بين الله لهم فاهتدوا ، وحق فيهم قول الله سبحانه في التعقيب في الآية :
{ كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } .
فهذه صورة من جهد يهود لتقطيع حبل الله بين المتحابين فيه ، القائمين على منهجه ، لقيادة البشرية في طريقه . . هذه صورة من ذلك الكيد الذي تكيده يهود دائما للجماعة المسلمة ، كلما تجمعت على منهج الله واعتصمت بحبله . وهذه ثمرة من ثمار طاعة أهل الكتاب . كادت ترد المسلمين الأولين كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض . وتقطع بينهم حبل الله المتين ، الذي يتآخون فيه مجتمعين . وهذه صلة هذه الآية بالآيات قبلها في هذا السياق .
على أن مدلول الآية أوسع مدى من هذه الحادثة . فهي تشي - مع ما قبلها في السياق وما بعدها - بأنه كانت هناك حركة دائبة من اليهود لتمزيق شمل الصف المسلم في المدينة ، وإثارة الفتنة والفرقة بكل الوسائل . والتحذيرات القرآنية المتوالية من إطاعة أهل الكتاب ، ومن الاستماع إلى كيدهم ودسهم ، ومن التفرق كما تفرقوا . . هذه التحذيرات تشي بشدة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من كيد اليهود في المدينة ، ومن بذرهم لبذور الشقاق والشك والبلبلة باستمرار . . وهو دأب يهود في كل زمان . وهو عملها اليوم وغداً في الصف المسلم ، في كل مكان
فأما وظيفة الجماعة المسلمة التي تقوم على هاتين الركيزتين لكي تنهض بها . . هذه الوظيفة الضرورية لإقامة منهج الله في الأرض ، ولتغليب الحق على الباطل ، والمعروف على المنكر ، والخير على الشر . . هذه الوظيفة التي من أجلها أنشئت الجماعة المسلمة بيد الله وعلى عينه ، ووفق منهجه . . فهي التي تقررها الآية التالية :
{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وأولئك هم المفلحون } .

.
فلا بد من جماعة تدعو إلى الخير ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . والذي يقرر أنه لا بد من سلطة هو مدلول النص القرآني ذاته . فهناك « دعوة » إلى الخير . ولكن هناك كذلك « أمر » بالمعروف . وهناك « نهي » عن المنكر . وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان ، فإن « الأمر والنهي » لا يقوم بهما إلا ذو سلطان . .
هذا هو تصور الإسلام للمسألة . . إنه لا بد من سلطة تأمر وتنهى . . سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر . . سلطة تتجمع وحداتها وترتبط بحبل الله وحبل الأخوة في الله . . سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله في حياة البشر . . وتحقيق هذا المنهج يقتضي « دعوة » إلى الخير يعرف منها الناس حقيقة هذا المنهج . ويقتضي سلطة « تأمر » بالمعروف « وتنهى » عن المنكر . . فتطاع . . والله يقول : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } فمنهج الله في الأرض ليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان . فهذا شطر . أما الشطر الآخر فهو القيام بسلطة الأمر والنهي ، على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة البشرية ، وصيانة تقاليد الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة ، وضمانة هذه التقاليد الصالحة من أن يقول فيها كل امرىء برأيه وبتصوره ، زاعماً أن هذا هو الخير والمعروف والصواب
والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - من ثم - تكليف ليس بالهين ولا باليسير ، إذا نظرنا إلى طبيعته ، وإلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم ، ومصالح بعضهم ومنافعهم ، وغرور بعضهم وكبريائهم . وفيهم الجبار الغاشم . وفيهم الحاكم المتسلط . وفيهم الهابط الذي يكره الصعود . وفيهم المسترخي الذي يكره الاشتداد . وفيهم المنحل الذي يكره الجد . وفيهم الظالم الذي يكره العدل . وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة . . وفيهم وفيهم ممن ينكرون المعروف ، ويعرفون المنكر . ولا تفلح الأمة ، ولا تفلح البشرية ، إلا أن يسود الخير ، وإلا أن يكون المعروف معروفاً ، والمنكر منكراً . . وهذا ما يقتضي سلطة للخير وللمعروف تأمر وتنهى . . وتطاع . .
ومن ثم فلا بد من جماعة تتلاقى على هاتين الركيزتين : الإيمان بالله والأخوة في الله ، لتقوم على هذا الأمر العسير الشاق بقوة الإيمان والتقوى ثم بقوة الحب والألفة ، وكلتاهما ضرورة من ضرورات هذا الدور الذي ناطه الله بالجماعة المسلمة ، وكلفها به هذا التكليف . وجعل القيام به شريطة الفلاح . فقال عن الذين ينهضون به :
{ وأولئك هم المفلحون } . .
إن قيام هذه الجماعة ضرورة من ضرورات المنهج الإلهي ذاته . فهذه الجماعة هي الوسط الذي يتنفس فيه هذا المنهج ويتحقق في صورته الواقعية . هو الوسط الخير المتكافل المتعاون على دعوة الخير .

المعروف فيه هو الخير والفضيلة والحق والعدل . والمنكر فيه هو الشر والرذيلة والباطل والظلم . . عمل الخير فيه أيسر من عمل الشر . والفضيلة فيه أقل تكاليف من الرذيلة . والحق فيه أقوى من الباطل . والعدل فيه أنفع من الظلم . . فاعل الخير فيه يجد على الخير اعواناً . وصانع الشر فيه يجد مقاومة وخذلاناً . . ومن هنا قيمة هذا التجمع . . إنه البيئة التي ينمو فيها الخير والحق بلا كبير جهد ، لأن كل ما حوله وكل من حوله يعاونه . والتي لا ينمو فيها الشر والباطل إلا بعسر ومشقة ، لأن كل ما حوله يعارضه ويقاومه .
والتصور الإسلامي عن الوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص . . يختلف في هذا كله عن التصورات الجاهلية اختلافاً جوهرياً أصيلاً . فلا بد إذن من وسط خاص يعيش فيه هذا التصور بكل قيمه الخاصة . لا بد له من وسط غير الوسط الجاهلي ، ومن بيئة غير البيئة الجاهلية .
هذا الوسط الخاص يعيش بالتصور الإسلامي ويعيش له؛ فيحيا فيه هذا التصور ، ويتنفس أنفاسه الطبيعية في طلاقة وحرية ، وينمو نموه الذاتي بلا عوائق من داخله تؤخر هذا النمو أو تقاومه . وحين توجد هذه العوائق تقابلها الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وحين توجد القوة الغاشمة التي تصد عن سبيل الله تجد من يدافعها دون منهج الله في الحياة .
هذا الوسط يتمثل في الجماعة المسلمة القائمة على ركيزتي الإيمان والأخوة . الإيمان بالله كي يتوحد تصورها للوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص ، وترجع إلى ميزان واحد تقوم به كل ما يعرض لها في الحياة ، وتتحاكم إلى شريعة واحدة من عند الله ، وتتجه بولائها كله إلى القيادة القائمة على تحقيق منهج الله في الأرض . . والأخوة في الله . كي يقوم كيانها على الحب والتكافل اللذين تختفي في ظلالهما مشاعر الأثرة ، وتتضاعف بهما مشاعر الإيثار . الإيثار المنطلق في يسر ، المندفع في حرارة ، المطمئن الواثق المرتاح .
وهكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى - في المدينة - على هاتين الركيزتين . . على الإيمان بالله : ذلك الإيمان المنبثق من معرفة الله - سبحانه - وتَمَثُّلِ صفاته في الضمائر؛ وتقواه ومراقبته ، واليقظة والحساسية إلى حد غير معهود إلا في الندرة من الأحوال . وعلى الحب . الحب الفياض الرائق والود . الود العذب الجميل ، والتكافل . التكافل الجاد العميق . . وبلغت تلك الجماعة في ذلك كله مبلغاً ، لولا أنه وقع لعد من أحلام الحالمين وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة ، ولكنها في طبيعتها أقرب إلى الرؤى الحالمة وهي قصة وقعت في هذه الأرض . ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان
وعلى مثل ذلك الإيمان ومثل هذه الأخوة يقوم منهج الله في الأرض في كل زمان . .
ومن ثم يعود السياق فيحذر الجماعة المسلمة من التفرق والاختلاف؛ وينذرها عاقبة الذين حملوا أمانة منهج الله قبلها - من أهل الكتاب - ثم تفرقوا واختلفوا ، فنزع الله الراية منهم ، وسلمها للجماعة المسلمة المتآخية .

. فوق ما ينتظرهم من العذاب ، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه :
{ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم . يوم تبيض وجوه وتسود وجوه . فأما الذين اسودت وجوههم : أكفرتم بعد إيمانكم؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون } . .
وهنا يرسم السياق مشهداً من المشاهد القرآنية الفائضة بالحركة والحيوية . . فنحن في مشهد هول . هول لا يتمثل في الفاظ ولا في أوصاف . ولكن يتمثل في آدميين أحياء في وجوه وسمات . . هذه وجوه قد أشرقت بالنور ، وفاضت بالبشر ، فابيضت من البشر والبشاشة ، وهذه وجوه كمدت من الحزن ، وغبرت من الغم ، واسودت من الكآبة . . وليست مع هذا متروكة إلى ما هي فيه . ولكنه اللذع بالتبكيت والتأنيب :
{ أكفرتم بعد إيمانكم؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } . .
{ وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون } .
وهكذا ينبض المشهد بالحياة والحركة والحوار . . على طريقة القرآن .
وهكذا يستقر في ضمير الجماعة المسلمة معنى التحذير من الفرقة والاختلاف . ومعنى النعمة الإلهية الكريمة . . بالإيمان والائتلاف .
وهكذا ترى الجماعة المسلمة مصير هؤلاء القوم من أهل الكتاب ، الذين تحذر أن تطيعهم . كي لا تشاركهم هذا المصير الأليم في العذاب العظيم . يوم تبيض وجوه ، وتسود وجوه . .
ويعقب على هذا البيان لمصائر الفريقين تعقيباً قرآنياً يتمشى مع خطوط السورة العريضة ، يتضمن إثبات صدق الوحي والرسالة . وجدية الجزاء والحساب يوم القيامة . والعدل المطلق في حكم الله في الدنيا والآخرة . وملكية الله المفردة لما في السماوات وما في الأرض . ورجعة الأمر إليه في كل حال :
{ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ، وما الله يريد ظلماً للعالمين . ولله ما في السماوات وما في الأرض . وإلى الله ترجع الأمور } . .
تلك الصور . تلك الحقائق . تلك المصائر . . تلك آيات الله وبيناته لعباده : نتلوها عليك بالحق . فهي حق فيما تقرره من مبادىء وقيم؛ وهي حق فيما تعرضه من مصائر وجزاءات . وهي تتنزل بالحق ممن يملك تنزيلها؛ وممن له الحق في تقرير القيم ، وتقرير المصائر ، وتوقيع الجزاءات . وما يريد بها الله أن يوقع بالعباد ظلماً . فهو الحكم العدل . وهو المالك لأمر السماوات والأرض . ولكل ما في السماوات وما في الأرض . وإليه مصير الأمور . إنما يريد الله بترتيب الجزاء على العمل أن يحق الحق ، وأن يجري العدل ، وأن تمضي الأمور بالجد اللائق بجلال الله . . لا كما يدعي أهل الكتاب أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودات
بعدئذ يصف الأمة المسلمة لنفسها ليعرفها مكانها وقيمتها وحقيقتها؛ ثم يصف لها أهل الكتاب - ولا يبخسهم قدرهم ، إنما يبين حقيقتهم ويطمعهم في ثواب الإيمان وخيره - ويطمئن المسلمين من جانب عدوهم .

فهم لن يضروهم في كيدهم لهم وقتالهم ولن ينصروا عليهم . وللذين كفروا منهم عذاب النار في الآخرة ، لا ينفعهم فيه ما أنفقوا في الحياة الدنيا بلا إيمان ولا تقوى :
{ كنتم خير أمة أخرجت للناس . تأمرون بالمعروف ، وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله . ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم . منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون . لن يضروكم إلا أذى ، وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون . ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا - إلا بحبل من الله وحبل من الناس - وباءوا بغضب من الله ، وضربت عليهم المسكنة . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . ليسوا سواء . من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون . يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات ، وأولئك من الصالحين . وما يفعلوا من خير فلن يكفروه ، والله عليم بالمتقين . إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر ، أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته . وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون } . .
إن شطر الآية الأولى في هذه المجموعة يضع على كاهل الجماعة المسلمة في الأرض واجباً ثقيلاً ، بقدر ما يكرم هذه الجماعة ويرفع مقامها ، ويفردها بمكان خاص لا تبلغ إليه جماعة أخرى :
{ كنتم خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله . . } .
إن التعبير بكلمة { أخرجت } المبني لغير الفاعل ، تعبير يلفت النظر . وهو يكاد يشي باليد المدبرة اللطيفة ، تخرج هذه الأمة إخراجاً؛ وتدفعها إلى الظهور دفعاً من ظلمات الغيب ، ومن وراء الستار السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله . . إنها كلمة تصور حركة خفية المسرى ، لطيفة الدبيب . حركة تخرج على مسرح الوجود أمة . أمة ذات دور خاص . لها مقام خاص ، ولها حساب خاص :
{ كنتم خير أمة أخرجت للناس } . .
وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة؛ لتعرف حقيقتها وقيمتها ، وتعرف أنها أخرجت لتكون طليعة ، ولتكون لها القيادة ، بما أنها هي خير أمة . والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض . ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية . إنما ينبغي دائماً أن تعطي هذه الأمم مما لديها . وأن يكون لديها دائماً ما تعطيه . ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح ، والتصور الصحيح ، والنظام الصحيح ، والخلق الصحيح ، والمعرفة الصحيحة ، والعلم الصحيح . . هذا واجبها الذي يحتمه عليها مكانها ، وتحتمه عليها غاية وجودها . واجبها أن تكون في الطليعة دائماً ، وفي مركز القيادة دائماً . ولهذا المركز تبعاته ، فهو لا يؤخذ ادعاء ، ولا يسلم لها به إلا أن تكون هي أهلاً له .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36