كتاب : في ظلال القرآن
المؤلف : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي

. تستبشر بهذا كله ، لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها الله لها من قبل . وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق . ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها الابتلاء والأذى؛ وتمضي في طريقها الموعود ، إلى الأمل المنشود . . في صبر وفي تقوى . . وفي عزم أكيد . .
ثم يمضي السياق القرآني يفضح موقف أهل الكتاب في مخالفتهم عن عهد الله معهم يوم آتاهم الكتاب . ونبذهم له . وكتمانهم لما ائتمنهم عليه منه ، حين يسألون عنه :
{ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب : لتبينَّنه للناس ولا تكتمونه . فنبذوه وراء ظهورهم ، واشتروا به ثمناً قليلاً . فبئس ما يشترون }
وقد تضمن سياق السورة الكثير من أفاعيل أهل الكتاب وأقاويلهم - وبخاصة اليهود - وأبرز هذه الأفاعيل والأقاويل كتمانهم للحق الذي يعلمونه ، ولبسه بالباطل ، لإحداث البلبلة والاضطراب في مفهوم الدين ، وفي صحة الإسلام ، وفي وحدة الأسس والمبادىء بينه وبين الأديان قبله ، وفي تصديقه لها وتصديقها له . . وكانت التوراة بين أيديهم يعلمون منها أن ما جاء به محمد حق؛ وأنه من ذات المصدر الذي جاءتهم منه التوارة . .
فالآن يبدو هذا الموقف منهم بشعاً غاية البشاعة؛ حين ينكشف أيضاً أن الله - سبحانه - قد أخذ عليهم العهد - وهو يعطيهم الكتاب - أن يبينوه للناس ، ويبلغوه ، ولا يكتموه أو يخفوه . وأنهم نبذوا هذا العهد مع الله - والتعبير يجسم إهمالهم وإخلافهم للعهد؛ فيمثله في حركة :
{ فنبذوه وراء ظهورهم }
وأنهم فعلوا هذه الفعلة الفاضحة ، ابتغاء ثمن قليل :
{ واشتروا به ثمناً قليلاً } .
هو عرض من أعراض هذه الأرض ، ومصلحة شخصية للأحبار أو قومية لليهود وكله ثمن قليل ، ولو كان ملك الأرض كلها طوال الدهور فما أقل هذا الثمن ثمناً لعهد الله وما أقل هذا المتاع متاعاً حين يقاس بما عند الله
{ فبئس ما يشترون }
وقد ورد في رواية للبخاري - بإسناده - عن ابن عباس « أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شيء ، فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه » وأنه في هذا نزلت آية :
{ ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم } . .
وفي رواية أخرى للبخاري - بإسناده - عن أبي سعيد الخدري ، أن رجالاً من المنافقين في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو وتخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا .

فنزلت : { ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا . . . } .
ومسألة نزول آية بعينها في مسألة بعينها ليست قطعية في هذا . فكثيراً ما يكون الذي وقع هو الاستشهاد بالآية على حادثة بعينها . فيروى أنها نزلت فيها . أو تكون الآية منطبقة على الحادثة فيقال كذلك : إنها نزلت فيها . . ومن ثم لا نجزم في الروايتين بقول .
فأما إذا كانت الأولى ، فهناك مناسبة في السياق عن أهل الكتاب ، وكتمانهم لما ائتمنهم الله عليه من الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه . ثم هم يكتمونه . ويقولون غير الحق ويمضون في الكذب والخداع ، حتى ليطلبوا أن يحمدوا على بيانهم الكاذب وردهم المفتري
وأما إذا كانت الثانية ، ففي سياق السورة حديث عن المنافقين يصلح أن تلحق به هذه الآية . وهي تصور نموذجاً من الناس يوجد على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويوجد في كل جماعة . نموذج الرجال الذين يعجزون عن احتمال تبعة الرأي ، وتكاليف العقيدة ، فيقعدون متخلفين عن الكفاح . فإن غُلب المكافحون وهزموا رفعوا هم رؤوسهم وشمخوا بأنوفهم ونسبوا إلى أنفسهم التعقل والحصافة والأناة . . أما إذا انتصر المكافحون وغنموا ، فإن أصحابنا هؤلاء يتظاهرون بأنهم كانوا من مؤيدي خطتهم؛ وينتحلون لأنفسهم يداً في النصر ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا
إنه نموذج من نماذج البشرية يقتات الجبن والادعاء . نموذج يرسمه التعبير القرآني في لمسة أو لمستين . فإذا ملامحه واضحة للعيان ، وسماته خالدة في الزمان . . وتلك طريقة القرآن .
هؤلاء الناس يؤكد الله للرسول - صلى الله عليه وسلم - أنهم لا نجاة لهم من العذاب . وأن الذي ينتظرهم عذاب أليم لا مفر لهم منه و لا معين :
{ فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم } .
والذي يتوعدهم به هو الله . مالك السماوات والأرض . القادر على كل شيء . فأين المفازة إذن؟ وكيف النجاة؟
{ ولله ملك السماوات والأرض ، والله على كل شيء قدير } . .

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

هذا هو الدرس الأخير في السورة التي ضمت ذلك الحشد الضخم الذي استعرضناه : من مقوّمات التصور الإسلامي . وتقرير هذه المقوّمات وتجليتها من الغبش واللبس في الجدل مع أهل الكتاب ، ثم في الجدل مع المنافقين والمشركين ، وبيان طبيعة هذا المنهج الإلهي وتكاليفه في الأنفس والأموال . وتعليم الجماعة المسلمة كيف تنهض بهذه التكاليف ، وكيف تستقبل الابتلاء بالسراء والضراء ، وكيف تتجرد لهذه العقيدة وتكاليفها الضخمة في الأنفس والأموال . . إلى آخر ما ضمه سياق السورة ، واستعرضناه في الجزئين الثالث والرابع من هذه الظلال . .
فالآن يجيء هذا الإيقاع الأخير في السورة - أو هذه الإيقاعات الأخيرة - متناسقة في موضوعها وفي أسلوبها مع ذلك الحشد من الإيقاعات من ناحية الموضوع ومن ناحية الأداء
تجيء بحقيقة عميقة : إن هذا الكون بذاته كتاب مفتوح ، يحمل بذاته دلائل الإيمان وآياته; ويشي وراءه من يد تدبره بحكمة; ويوحي بأن وراء هذه الحياة الدنيا آخرة وحساباً وجزاء إنما يدرك هذه الدلائل ويقرأ هذه الآيات ويرى هذه الحكمة ، ويسمع هذه الإيحاءات { أولو الألباب } من الناس ، الذين لا يمرون بهذا الكتاب المفتوح وبهذه الآيات الباهرة مغمضي الأعين غير واعين
وهذه الحقيقة تمثل أحد مقومات التصور الإسلامي عن هذا « الكون » والصلة الوثيقة بينه وبين فطرة « الإنسان » والتفاهم الداخلي الوثيق بين فطرة الكون وفطرة الإنسان; ودلالة هذا الكون بذاته على خالقه من جهة; وعلى الناموس الذي يصرّفه وما يصاحبه من « غاية » و « حكمة » و « قصد » من جهة أخرى . . وهي ذات أهمية بالغة في تقرير موقف « الإنسان » من « الكون » و « إله » الكون سبحانه وتعالى . فهي ركيزة من ركائز التصور الإسلامي للوجود .
يلي هذه الحقيقة في سياق الدرس استجابة الله { لأولي الألباب } وقد توجهوا إليه سبحانه بدعاء خاشع منيب؛ وهم يتدبرون كتاب الكون المفتوح ، ويتأملون ما ينطق به من الآيات ، وما يوحي به من الغايات . . استجابته لهم استجابة توجيهية إلى العمل والجهاد والتضحية والصبر ، والنهوض بتكاليف هذا الإيمان ، الذي ثابوا به من جولتهم الخاشعة في كتاب الكون المفتوح . . مع التهوين من شأن الذين كفروا وما قد يستمتعون به من أعراض هذه الحياة . وإبراز القيم الباقية في الجزاء الأخروي ، التي ينبغي أن يحفل بها المؤمنون الأبرار .
وعطفاً على الحديث الطويل في السورة عن أهل الكتاب ومواقفهم من المؤمنين ، يرد هنا في هذا القطاع الأخير ذكر الفريق المؤمن ، وجزاؤه المناسب ، ويبرز من صفاتهم صفة الخشوع ، التي تتناسق مع مشهد أولي الألباب أمام كتاب الكون المفتوح ، ودعائهم الخاشع المنيب . وصفة الحياء من الله أن يشتروا بآياته ثمناً قليلاً ، كأولئك الذين كفروا من أهل الكتاب وتقدم وصفهم في السورة .

ثم تجيء الآية الخاتمة تلخص التوجيهات الإلهية للجماعة المسلمة ، وتمثل خصائصها المطلوبة ، وتكاليفها المحددة ، والتي بها يكون الفلاح :
{ يا أيها الذين آمنوا اصبروا ، وصابروا ، ورابطوا ، واتقوا الله ، لعلكم تفلحون } . .
وهو ختام يناسب محور السورة الأصيل ، وموضوعاتها الرئيسية ، ويتسق معها كل الاتساق . { إن في خلق السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض : ربنا ما خلقت هذا باطلاً . سبحانك فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ، وما للظالمين من أنصار . ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان : أن آمنوا بربكم . فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا ، وكفر عنا سيئاتنا ، وتوفنا مع الأبرار . ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، ولا تخزنا يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد . . . } . .
ما الآيات التي في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار؟ ما الآيات التي تتراءى لأولي الألباب عندما يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ، وهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم؟ وما علاقة التفكر في هذه الآيات بذكرهم الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم؟ وكيف ينتهون من التفكر فيها إلى هذا الدعاء الخاشع الواجف :
{ ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار } . .
إلى نهاية ذلك الدعاء؟
إن التعبير يرسم هنا صورة حية من الاستقبال السليم للمؤثرات الكونية في الإدراك السليم . وصورة حية من الاستجابة السليمة لهذه المؤثرات المعروضة للأنظار والأفكار في صميم الكون ، بالليل والنهار .
والقرآن يوجه القلوب والأنظار توجيهاً مكرراً مؤكداً إلى هذا الكتاب المفتوح؛ الذي لا تفتأ صفحاته تقلب ، فتتبدى في كل صفحة آية موحية ، تستجيش في الفطرة السليمة إحساساً بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب ، وفي « تصميم » هذا البناء ، ورغبة في الاستجابة لخالق هذا الخلق ، ومودعه هذا الحق مع الحب له والخشية منه في ذات الأوان وأولو الألباب . . أولو الإدراك الصحيح . . يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية؛ ولا يقيمون الحواجز ، ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات . ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، فتتفتح بصائرهم ، وتشف مداركهم ، وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله إياه ، وتدرك غاية وجوده ، وعلة نشأته ، وقوام فطرته . بالإلهام الذي يصل بين القلب البشري ونواميس هذا الوجود .
ومشهد السماوات والأرض ، ومشهد اختلاف الليل والنهار . لو فتحنا له بصائرنا وقلوبنا وإدراكنا . لو تلقيناه كمشهد جديد تتفتح عليه العيون أول مرة . لو استنقذنا حسنا من همود الإلف ، وخمود التكرار . . لارتعشت له رؤانا ، ولاهتزت له مشاعرنا ، ولأحسسنا أن وراء ما فيه من تناسق لا بد من يد تنسق؛ ووراء ما فيه من نظام لا بد من عقل يدبر؛ ووراء ما فيه من إحكام لا بد من ناموس لا يتخلف .

. وأن هذا كله لا يمكن أن يكون خداعاً ولا يمكن أن يكون جزافاً ، ولا يمكن أن يكون باطلاً .
ولا ينقص من اهتزازنا للمشهد الكوني الرائع أن نعرف أن الليل والنهار ، ظاهرتان ناشئتان من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس . ولا أن تناسق السماوات والأرض مرتكز إلى « الجاذبية » أو غير الجاذبية . هذه فروض تصح أو لا تصح ، وهي في كلتا الحالتين لا تقدم ولا تؤخر في استقبال هذه العجيبة الكونية ، واستقبال النواميس الهائلة الدقيقة التي تحكمها وتحفظها . . وهذه النواميس - أياً كان اسمها عند الباحثين من بني الإنسان - هي آية القدرة ، وآية الحق ، في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار .
والسياق القرآني هنا يصور خطوات الحركة النفسية التي ينشئها استقبال مشهد السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار في مشاعر أولي الألباب تصويراً دقيقاً ، وهو في الوقت ذاته تصوير إيحائي ، يلفت القلوب إلى المنهج الصحيح ، في التعامل مع الكون ، وفي التخاطب معه بلغته ، والتجاوب مع فطرته وحقيقته والانطباع بإشاراته وإيحاءاته . ويجعل من كتاب الكون المفتوح كتاب « معرفة » للإنسان المؤمن الموصول بالله ، وبما تبدعه يد الله .
وإنه يقرن ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته : { قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } . . وبين التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار . . فيسلك هذا التفكر مسلك العبادة ، ويجعله جانباً من مشهد الذكر . . فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين .
الحقيقة الأولى : أن التفكر في خلق الله ، والتدبر في كتاب الكون المفتوح ، وتتبع يد الله المبدعة ، وهي تحرك هذا الكون ، وتقلب صفحات هذا الكتاب . . هو عبادة لله من صميم العبادة ، وذكر لله من صميم الذكر . ولو اتصلت العلوم الكونية ، التي تبحث في تصميم الكون وفي نواميسه وسننه ، وفي قواه ومدخراته ، وفي أسراره وطاقاته . . لو اتصلت هذه العلوم بتذكر خالق هذا الكون وذكره ، والشعور بجلاله وفضله . لتحولت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة . ولاستقامت الحياة - بهذه العلوم - واتجهت إلى الله . ولكن الاتجاه المادي الكافر ، يقطع ما بين الكون وخالقه ، ويقطع ما بين العلوم الكونية والحقيقة الأزلية الأبدية؛ ومن هنا يتحول العلم - أجمل هبة من الله للإنسان - لعنة تطارد الإنسان ، وتحيل حياته إلى جحيم منكرة ، وإلى حياة قلقة مهددة ، وإلى خواء روحي يطارد الإنسان كالمارد الجبار
والحقيقة الثانية : أن آيات الله في الكون ، لا تتجلى على حقيقتها الموحية ، إلا للقلوب الذاكرة العابدة . وأن هؤلاء الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم - وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار - هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ، وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح .

. فأما الذين يكتفون بظاهر من الحياة الدنيا ، ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية - بدون هذا الاتصال - فهم يدمرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار ، ويحولون حياتهم إلى جحيم نكد ، وإلى قلق خانق . ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف
فهما أمران متلازمان ، تعرضهما هذه الصورة التي يرسمها القرآن لأولي الألباب في لحظة الاستقبال والاستجابة والاتصال .
إنها لحظة تمثل صفاء القلب ، وشفافية الروح ، وتفتح الإدراك ، واستعداده للتلقي . كما تمثل الاستجابة والتأثر والانطباع . .
إنها لحظة العبادة . . وهي بهذا الوصف لحظة اتصال ، ولحظة استقبال . فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر؛ وأن يكون مجرد التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ، ملهما للحقيقة الكامنة فيها ، ولإدراك أنها لم تخلق عبثاً ولا باطلاً . ومن ثم تكون الحصيلة المباشرة ، للخطة الواصلة .
{ ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك } . .
ما خلقت هذا الكون ليكون باطلاً . ولكن ليكون حقاً . الحق قوامه . والحق قانونه . والحق أصيل فيه . إن لهذا الكون حقيقة ، فهو ليس « عدماً » كما تقول بعض الفلسفات وهو يسير وفق ناموس ، فليس متروكاً للفوضى . وهو يمضي لغاية ، فليس متروكاً للمصادفة . وهو محكوم في وجوده وفي حركته وفي غايته بالحق لا يتلبس به الباطل .
هذه هي اللمسة الأولى ، التي تمس قلوب « أولي الألباب » من التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار بشعور العبادة والذكر والاتصال . وهي اللمسة التي تطبع حسهم بالحق الأصيل في تصميم هذا الكون ، فتطلق ألسنتهم بتسبيح الله وتنزيهه عن أن يخلق هذا الكون باطلاً :
{ ربنا ما خلقت هذا باطلاً . سبحانك } . .
ثم تتوالى الحركات النفسية ، تجاه لمسات الكون وإيحاءاته .
{ . . . فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته . وما للظالمين من أنصار . . . } . .
فما العلاقة الوجدانية ، بين إدراك ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من حق ، وبين هذه الارتعاشة المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار؟
إن إدراك الحق الذي في تصميم هذا الكون وفي ظواهره ، معناه عند - أولي الألباب - أن هناك تقديراً وتدبيراً وأن هناك حكمة وغاية ، وأن هناك حقاً وعدلاً وراء حياة الناس في هذا الكوكب . ولا بد إذن من حساب ومن جزاء على ما يقدم الناس من أعمال . ولا بد إذن من دار غير هذه الدار يتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء .
فهي سلسلة من منطق الفطرة والبداهة ، تتداعى حلقاتها في حسهم على هذا النحو السريع . لذلك تقفز إلى خيالهم صورة النار ، فيكون الدعاء إلى الله أن يقيهم منها ، هو الخاطر الأول ، المصاحب لإدراك الحق الكامن في هذا الوجود . . وهي لفتة عجيبة إلى تداعي المشاعر عند ذوي البصائر .

. ثم تنطلق ألسنتهم بذلك الدعاء الطويل ، الخاشع الواجف الراجف المنيب ، ذي النغم العذب ، والإيقاع المنساب ، والحرارة البادية في المقاطع والأنغام
ولا بد من وقفة أمام الرجفة الأولى وهم يتجهون إلى ربهم ليقيهم عذاب النار . . لا بد من وقفة أمام قولهم : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } . . { وما للظالمين من أنصار } . .
إنها تشي بأن خوفهم من النار ، إنما هو خوف - قبل كل شيء - من الخزي الذي يصيب أهل النار . . وهذه الرجفة التي تصيبهم هي أولاً رجفة الحياء من الخزي الذي ينال أهل النار . فهي ارتجافة باعثها الأكبر الحياء من الله ، فهم أشد حساسية به من لذع النار كما أنها تشي بشعور القوي بأنه لا ناصر من الله ، وأن الظالمين ما لهم من أنصار . .
ثم نمضي مع الدعاء الخاشع الطويل :
{ ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم . فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار } . .
فهي قلوب مفتوحة؛ ما إن تتلقى حتى تستجيب . وحتى تستيقظ فيها الحساسية الشديدة ، فتبحث أول ما تبحث عن تقصيرها وذنوبها ومعصيتها ، فتتجه إلى ربها تطلب مغفرة الذنوب وتكفير السيئات ، والوفاة مع الأبرار .
ويتسق ظل هذه الفقرة في الدعاء مع ظلال السورة كلها ، في الاتجاه إلى الاستغفار والتطهر من الذنب والمعصية ، في المعركة الشاملة مع شهوات النفس ومع الذنب والخطيئة . المعركة التي يتوقف على الانتصار فيها ابتداء كل انتصار في معارك الميدان ، مع أعداء الله وأعداء الإيمان . . والسورة كلها وحدة متكاملة متناسقة الإيقاعات والظلال .
وختام هذا الدعاء . توجه ورجاء . واعتماد واستمداد من الثقة بوفاء الله بالميعاد :
{ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد } . .
فهو استنجاز لوعد الله ، الذي بلغته الرسل ، وثقة بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد ، ورجاء في الإعفاء من الخزي يوم القيامة ، يتصل بالرجفة الأولى في هذا الدعاء ، ويدل على شدة الخوف من هذا الخزي ، وشدة تذكره واستحضاره في مطلع الدعاء وفي ختامه . مما يشي بحساسية هذه القلوب ورقتها وشفافيتها وتقواها وحيائها من الله .
والدعاء في مجموعه يمثل الاستجابة الصادقة العميقة ، لإيحاء هذا الكون وإيقاع الحق الكامن فيه ، في القلوب السليمة المفتوحة . .
ولا بد من وقفة أخرى أمام هذا الدعاء ، من جانب الجمال الفني والتناسق في الأداء . .
إن كل سورة من سور القرآن تغلب فيها قافية معينة لآياتها - والقوافي في القرآن غيرها في الشعر ، فهي ليست حرفاً متحداً ولكنها إيقاع متشابه - مثل « بصير . حكيم . مبين . مريب » . . « الألباب ، الأبصار . النار . قرار » . . « خفياً . شقياً . شرقياً . شيئاً » . . . الخ .
وتغلب القافية الأولى في مواضع التقرير . والثانية في مواضع الدعاء . والثالثة في مواضع الحكاية .
وسورة آل عمران تغلب فيها القافية الأولى .

ولم تبعد عنها إلا في موضعين : أولهما في أوائل السورة وفيه دعاء . والثاني هنا عند هذا الدعاء الجديد . .
وذلك من بدائع التناسق الفني في التعبير القرآني . . فهذا المد يمنح الدعاء رنة رخية ، وعذوبة صوتية . تناسب جو الدعاء والتوجه والابتهال .
وهناك ظاهرة فنية أخرى . . إن عرض هذا المشهد : مشهد التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، يناسبه دعاء خاشع مرتل طويل النغم ، عميق النبرات . فيطول بذلك عرض المشهد وإيحاءاته ومؤثراته ، على الأعصاب والأسماع والخيال ، فيؤثر في الوجدان ، بما فيه من خشوع وتنغيم وتوجه وارتجاف . . وهنا طال المشهد بعباراته وطال بنغماته مما يؤدي غرضاً أصيلاً من أغراض التعبير القرآني ، ويحقق سمة فنية أصيلة من سماته . ثم . . طال بالرد عليه والاستجابة له كذلك :
{ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى - بعضكم من بعض - فالذين هاجروا ، وأخرجوا من ديارهم ، وأوذوا في سبيلي ، وقاتلوا وقتلوا ، لأكفرن عنهم سيئاتهم ، ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار . . ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب . . لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، نزلاً من عند الله . وما عند الله خير للأبرار } . .
وهي استجابة مفصلة ، وتعبير مطول ، يتناسق مع السمة الفنية للتعبير القرآني؛ وفق مقتضى الحال ، ومتطلبات الموقف ، من الجانب النفسي والشعوري .
ثم نخلص لمحتويات هذه الاستجابة الإلهية ، ودلالتها على طبيعة هذا المنهج الإلهي ومقوماته ، ثم على طبيعة منهج التربية الإسلامية وخصائصه . .
إن أولي الألباب هؤلاء تفكروا في خلق السماوات والأرض ، وتدبروا اختلاف الليل والنهار ، وتلقوا من كتاب الكون المفتوح ، واستجابت فطرتهم لإيحاء الحق المستكن فيه ، فاتجهوا إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع الواجف الطويل العميق . . ثم تلقوا الاستجابة من ربهم الكريم الرحيم ، على دعائهم المخلص الودود . . فماذا كانت الاستجابة؟
لقد كانت قبولاً للدعاء وتوجيهاً إلى مقومات هذا المنهج الإلهي وتكاليفه في آن :
{ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم . . من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض } . .
إنه ليس مجرد التفكر ومجرد التدبر . وليس مجرد الخشوع والارتجاف . وليس مجرد الاتجاه إلى الله لتكفير السيئات والنجاة من الخزي ومن النار . . إنما هو « العمل » العمل الإيجابي ، الذي ينشأ عن هذا التلقي ، وعن هذه الاستجابة ، وعن هذه الحساسية الممثلة في هذه الارتجافة . العمل الذي يعتبره الإسلام عبادة كعبادة التفكر ، والتدبر والذكر والاستغفار ، والخوف من الله ، والتوجه إليه بالرجاء . بل العمل الذي يعتبره الإسلام الثمرة الواقعية المرجوة لهذه العبادة ، والذي يقبل من الجميع : ذكرانا وإناثاً بلا تفرقة ناشئة من اختلاف الجنس . فكلهم سواء في الإنسانية - بعضهم من بعض - وكلهم سواء في الميزان .

.
ثم تفصيل للعمل ، تتبين منه تكاليف هذه العقيدة في النفس والمال؛ كما تتبين منه طبيعة المنهج ، وطبيعة الأرض التي يقوم عليها ، وطبيعة الطريق وما فيه من عوائق وأشواك ، وضرورة مغالبة العوائق ، وتكسير الأشواك ، وتمهيد التربة للنبتة الطيبة ، والتمكين لها في الأرض ، أياً كانت التضحيات ، وأياً كانت العقبات :
{ فالذين هاجروا ، وأخرجوا من ديارهم ، وأوذوا في سبيلي ، وقاتلوا وقتلوا . لأكفرن عنهم سيئاتهم ، ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ثواباً من عند الله ، والله عنده حسن الثواب } .
وقد كانت هذه صورة الداعين المخاطبين بهذا القرآن أول مرة . الذين هاجروا من مكة ، وأخرجوا من ديارهم ، في سبيل العقيدة ، وأوذوا في سبيل الله لا في أي غاية سواه ، وقاتلوا وقتلوا . . ولكنها صورة أصحاب هذه العقيدة في صميمها . . في كل أرض وفي كل زمان . . صورتها وهي تنشأ في الجاهلية - أية جاهلية - في الأرض المعادية لها - أية أرض - وبين القوم المعادين - أي قوم - فتضيق بها الصدور ، وتتأذى بها الأطماع والشهوات ، وتتعرض للأذى والمطاردة ، وأصحابها - في أول الأمر - قلة مستضعفة . . ثم تنمو النبتة الطيبة - كما لا بد أن تنمو - على الرغم من الأذى ، وعلى الرغم من المطاردة ، ثم تملك الصمود والمقاومة والدفاع عن نفسها . فيكون القتال ، ويكون القتل . . وعلى هذا الجهد الشاق المرير يكون تكفير السيئات ، ويكون الجزاء ويكون الثواب .
هذا هو الطريق . . طريق هذا المنهج الرباني ، الذي قدر الله أن يكون تحققه في واقع الحياة بالجهد البشري ، وعن طريق هذا الجهد ، وبالقدر الذي يبذله المؤمنون المجاهدون في سبيل الله . ابتغاء وجه الله .
وهذه هي طبيعة هذا المنهج ، ومقوماته ، وتكاليفه . . ثم هذه هي طريقة المنهج في التربية ، وطريقته في التوجيه ، للانتقال من مرحلة التأثر الوجداني بالتفكر والتدبر في خلق الله؛ إلى مرحلة العمل الإيجابي وفق هذا التأثر تحقيقاً للمنهج الذي أراده الله .
ثم التفاتة واقعية إلى الفتنة المستكنة في المتاع المتاح في هذه الأرض للكفار والعصاة والمعادين لمنهج الله . . التفاتة لإعطاء هذا المتاع وزنه الصحيح وقيمته الصحيحة ، حتى لا يكون فتنة لأصحابه . ثم كي لا يكون فتنة للمؤمنين ، الذي يعانون ما يعانون ، من أذى وإخراج من الديار ، وقتل وقتال :
{ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها نزلاً من عند الله . وما عند الله خير للأبرار } . .
وتقلب الذين كفروا في البلاد ، مظهر من مظاهر النعمة والوجدان ، ومن مظاهر المكانة والسلطان ، وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة . يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين؛ وهم يعانون الشظف والحرمان ، ويعانون الأذى والجهد ، ويعانون المطاردة أو الجهاد .

. وكلها مشقات وأهوال ، بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون . . ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة ، وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء ، والباطل وأهله في منجاة ، بل في مسلاة ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم؛ فيزيدهم ضلالاً وبطراً ولجاجاً في الشر والفساد .
هنا تأتي هذه اللمسة :
{ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } .
متاع قليل . . ينتهي ويذهب . . أما المأوى الدائم الخالد ، فهو جهنم . . وبئس المهاد
وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات . وخلود . وتكريم من الله :
{ جنات تجري من تحتها الأنهار } . . { خالدين فيها } . . { نزلاً من عند الله } . . { وما عند الله خير للأبرار } . .
وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة ، وهذا النصيب في كفة ، أن ما عند الله خير للأبرار . وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان . وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب
إن الله - سبحانه - في موضع التربية ، وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر ، ولا يعدهم بقهر الأعداء ، ولا يعدهم بالتمكين في الأرض ، ولا يعدهم شيئاً من الأشياء في هذه الحياة . . مما يعدهم به في مواضع أخرى ، ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه .
إنه يعدهم هنا شيئاً واحداً هو { ما عند الله } . فهذا هو الأصل في هذه الدعوة . وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة : التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية ، ومن كل مطمع - حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله - وقهر أعداء الله - حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون ، ويكلوا أمرها إليه ، وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها
هذه العقيدة : عطاء ووفاء وأداء . . فقط . وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض ، وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء . . ثم انتظار كل شيء هناك
ثم يقع النصر ، ويقع التمكين ، ويقع الاستعلاء . . ولكن هذا ليس داخلاً في البيعة . ليس جزءاً من الصفقة . ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا . وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء . . والابتلاء . .
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة؛ وعلى هذا كان البيع والشراء . ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء؛ ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية ، إلا حين تجردوا هذا التجرد ، ووفوا هذا الوفاء :
قال محمد بن كعب القرظي وغيره : « قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني ليلة العقبة ( ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة إليهم ) : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال » أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً . وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم « . قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال » الجنة « . . قالوا : ربح البيع . ولا نقيل ولا نستقيل » .

هكذا . . « الجنة » والجنة فقط لم يقل : النصر والعز والوحدة . والقوة . والتمكين . والقيادة . والمال . والرخاء - مما منحهم الله وأجراه على أيديهم - فذلك كله خارج عن الصفقة
وهكذا . . ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل . . لقد أخذوها صفقة بين متبايعين؛ أنهي أمرها ، وأمضي عقدها . ولم تعد هناك مساومة حولها
وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض ، وزمام القيادة ، وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها ، وكل رغباتها ، وكل شهواتها ، حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها ، والمنهج الذي تحققه ، والعقيدة التي تموت من أجلها . فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه ، أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة .
وقبل ختام السورة يعود السياق إلى أهل الكتاب ، فيقرر أن فريقاً منهم يؤمن إيمان المسلمين ، وقد انضم إلى موكب الإسلام معهم . وسار سيرتهم . وله كذلك جزاؤهم :
{ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً . أولئك لهم أجرهم عند ربهم . إن الله سريع الحساب } .
إنه الحساب الختامي مع أهل الكتاب . وقد ذكر من طوائفهم ومواقفهم فيما سبق من السورة الكثير . ففي معرض الإيمان ، وفي مشهد الدعاء والاستجابة ، يذكر كذلك أن من أهل الكتاب من سلكوا الطريق ، وانتهوا إلى النهاية . فآمنوا بالكتاب كله ، ولم يفرقوا بين الله ورسله ، ولم يفرقوا بين أحد من رسله . آمنوا بما أنزل إليهم من قبل ، وآمنوا بما أنزل للمسلمين - وهذه سمة هذه العقيدة التي تنظر إلى موكب الإيمان نظرة القرب والود؛ وتنظر إلى خط العقيدة موصولاً بالله ، وتنظر إلى منهج الله في وحدته وكليته الشاملة ، ويبرز من سمات المؤمنين من أهل الكتاب : سمة الخشوع لله وسمة عدم شرائهم بآياته ثمناً قليلاً . . ليفرقهم بهذا من صفوف أهل الكتاب : وسمتهم الأصيلة هي التبجح وقلة الحياء من الله . ثم التزوير والكتمان لآيات الله ، لقاء أعراض الحياة الرخيصة
ويعدهم أجر المؤمنين عند الله . الذي لا يمطل المتعاملين معه - حاشاه -
{ إن الله سريع الحساب } . .
ثم يجيء الإيقاع الأخير ، في نداء الله للذين آمنوا ، وتلخيص أعباء المنهج ، وشرط الطريق :
{ يا أيها الذين آمنوا اصبروا ، وصابروا ، ورابطوا ، واتقوا الله لعلكم تفلحون } . .
إنه النداء العلوي للذين آمنوا . نداؤهم بالصفة التي تربطهم بمصدر النداء .

والتي تلقي عليهم هذه الأعباء . والتي تؤهلهم للنداء وتؤهلهم للأعباء ، وتكرمهم في الأرض كما تكرمهم في السماء :
{ يا أيها الذين آمنوا } .
النداء لهم . للصبر والمصابرة ، والمرابطة والتقوى . .
وسياق السورة حافل بذكر الصبر وبذكر التقوى . . يذكران مفردين ، ويذكران مجتمعين . . وسياق السورة حافل كذلك بالدعوة إلى الاحتمال والمجاهدة ودفع الكيد وعدم الاستماع لدعاة الهزيمة والبلبلة ، ومن ثم تختم السورة بالدعوة إلى الصبر والمصابرة ، وإلى المرابطة والتقوى ، فيكون هذا أنسب ختام .
والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة . إنه طريق طويل شاق ، حافل بالعقبات والأشواك مفروش بالدماء والأشلاء وبالإيذاء والابتلاء . . الصبر على أشياء كثيرة : الصبر على شهوات النفس ورغائبها ، وأطماعها ومطامحها ، وضعفها ونقصها ، وعجلتها وملالها من قريب والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم ، وانحراف طباعهم ، وأثرتهم ، وغرورهم ، والتوائهم ، واستعجالهم للثمار والصبر على تنفج الباطل ، ووقاحة الطغيان ، وانتفاش الشر ، وغلبة الشهوة ، وتصعير الغرور والخيلاء والصبر على قلة الناصر ، وضعف المعين ، وطول الطريق ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله ، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة . من الألم والغيظ ، والحنق ، والضيق ، وضعف الثقة أحياناً في الخير ، وقلة الرجاء أحياناً في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحياناً والقنوط والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة ، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر ، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام ، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله ، واستسلام لقدره ، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع . .
والصبر على هذا كله - وعلى مثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل . . لا تصوره حقيقة الكلمات . فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة . إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق؛ وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي . فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء . كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه . .
والمصابرة . . وهي مفاعلة من الصبر . . مصابرة هذه المشاعر كلها ، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين . . مصابرتها ومصابرتهم ، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة . بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى : أعدائهم من كوامن الصدور ، وأعدائهم من شرار الناس سواء . فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم ، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر ، والدفع بالدفع ، والجهد بالجهد ، والإصرار بالإصرار . . ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء . . وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق ، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصراراً وأعظم صبراً على المضي في الطريق
والمرابطة . . الإقامة في مواقع الجهاد ، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء . . وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبداً ولا تستسلم للرقاد فما هادنها أعداؤها قط ، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة ، والتعرض بها للناس .

وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد ، حيثما كانت إلى آخر الزمان
إن هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي . منهج يتحكم في ضمائرهم ، كما يتحكم في أموالهم ، كما يتحكم في نظام حياتهم ومعايشهم . منهج خير عادل مستقيم . ولكن الشر لا يستريح للمنهج الخير العادل المستقيم؛ والباطل لا يحب الخير والعدل والاستقامة؛ والطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة . . ومن ثم ينهد لهذه الدعوة أعداء من أصحاب الشر والباطل والطغيان . ينهد لحربها المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الاستنفاع والاستغلال . وينهد لحربها الطغاة المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الطغيان والاستكبار . وينهد لحربها المستهترون المنحلون ، لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن الانحلال والشهوات . . ولا بد من مجاهدتهم جميعاً . ولا بد من الصبر والمصابرة . ولا بد من المرابطة والحراسة . كي لا تؤخذ الأمة المسلمة على غرة من أعدائها الطبيعيين ، الدائمين في كل أرض وفي كل جيل . .
هذه طبيعة هذه الدعوة ، وهذا طريقها . . إنها لا تريد أن تعتدي؛ ولكن تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم . . وهي واجدة أبداً من يكره ذلك المنهج وهذا النظام . ومن يقف في طريقها بالقوة والكيد . ومن يتربص بها الدوائر . ومن يحاربها باليد والقلب واللسان . . ولا بد لها أن تقبل المعركة بكل تكاليفها ، ولا بد لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظة ولا تنام
والتقوى . . التقوى تصاحب هذا كله . فهي الحارس اليقظ في الضمير يحرسه أن يغفل؛ ويحرسه أن يضعف؛ ويحرسه أن يعتدي؛ ويحرسه أن يحيد عن الطريق من هنا ومن هناك .
ولا يدرك الحاجة إلى هذا الحارس اليقظ ، إلا من يعاني مشاق هذا الطريق؛ ويعالج الانفعالات المتناقضة المتكاثرة المتواكبة في شتى الحالات وشتى اللحظات . .
إنه الإيقاع الأخير في السورة التي حوت ذلك الحشد من الإيقاعات . وهو جماعها كلها ، وجماع التكاليف التي تفرضها هذه الدعوة في عمومها . . ومن ثم يعلق الله بها عاقبة الشوط الطويل وينوط بها الفلاح في هذا المضمار :
{ لعلكم تفلحون } .
وصدق الله العظيم .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)

هذا الشوط الأول في السورة يبدأ بآية الافتتاح ، التي ترد « الناس » إلى رب واحد ، وخالق واحد؛ كما تردهم إلى أصل واحد ، وأسرة واحدة ، وتجعل وحدة الإنسانية هي « النفس » ووحدة المجتمع هي الأسرة ، وتستجيش في النفس تقوى الرب ، ورعاية الرحم . . لتقيم على هذا الأصل الكبير كل تكاليف التكافل والتراحم في الأسرة الواحدة ، ثم في الإنسانية الواحدة . وترد إليه سائر التنظيمات والتشريعات التي تتضمنها السورة .
وهذا الشوط يضم من تلك التكاليف ومن هذه التشريعات ، ما يتعلق بالضعاف في الأسرة وفي الإنسانية من اليتامى ، وتنظم طريقة القيام عليهم وعلى أموالهم كما تنظم طريقة انتقال الميراث بين أفراد الأسرة الواحدة ، وأنصباء الأقرباء المتعددي الطبقات والجهات ، في الحالات المتعددة . . وهي ترد هذا كله إلى الأصل الكبير الذي تضمنته آية الافتتاح ، مع التذكير بهذا الأصل في مطالع بعض الآيات أو في ثناياها ، أو في خواتيمها ، توثيقاً للارتباط بين هذه التنظيمات والتشريعات ، وبين الأصل الذي تنبثق منه ، وهو الربوبية التي لها حق التشريع والتنظيم ، هذا الحق الذي منه وحده ينبثق كل تشريع وكل تنظيم . { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء . واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام . إن الله كان عليكم رقيباً } . .
إنه الخطاب « للناس » . . بصفتهم هذه ، لردهم جميعاً إلى ربهم الذي خلقهم . . والذي خلقهم { من نفس واحدة } . . { وخلق منها زوجها . وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } . .
إن هذه الحقائق الفطرية البسيطة لهي حقائق كبيرة جداً ، وعميقة جداً وثقيلة جداً . . ولو ألقى « الناس » أسماعهم وقلوبهم إليها لكانت كفيلة بإحداث تغييرات ضخمة في حياتهم ، وبنقلهم من الجاهلية - أو من الجاهليات المختلفة - إلى الإيمان والرشد والهدى ، وإلى الحضارة الحقيقية اللائقة « بالناس » و « بالنفس » واللائقة بالخلق الذي ربه وخالقه هو الله . .
إن هذه الحقائق تجلو للقلب والعين مجالاً فسيحاً لتأملات شتى :
1- إنها ابتداء تذكر « الناس » بمصدرهم الذي صدروا عنه؛ وتردهم إلى خالقهم الذي أنشأهم في هذه الأرض . . هذه الحقيقة التي ينساها « الناس » فينسون كل شيء ولا يستقيم لهم بعدها أمر
إن الناس جاءوا إلى هذا العالم بعد أن لم يكونوا فيه . . فمن الذي جاء بهم؟ أنهم لم يجيئوا إليه بإرادتهم . فقد كانوا - قبل أن يجيئوا - عدماً لا إرادة له . . لا إرادة له تقرر المجيء أو عدم المجيء . فإرادة أخرى - إذن - غير إرادتهم ، هي التي جاءت بهم إلى هنا . . إرادة أخرى - غير إرادتهم - هي التي قررت أن تخلقهم إرادة أخرى - غير إرادتهم - هي التي رسمت لهم الطريق ، وهي التي اختارت لهم خط الحياة .

. إرادة أخرى - غير إرادتهم - هي التي منحتهم وجودهم ومنحتهم خصائص وجودهم ، ومنحتهم استعداداتهم ومواهبهم ، ومنحتهم القدرة على التعامل مع هذا الكون الذي جيء بهم إليه من حيث لا يشعرون وعلى غير استعداد ، إلا الاستعداد الذي منحتهم إياه تلك الإرادة التي تفعل ما تريد .
ولو تذكر الناس هذه الحقيقة البديهية التي يغفلون عنها لثابوا إلى الرشد من أول الطريق . .
إن هذه الإرادة التي جاءت بهم إلى هذا العالم ، وخطت لهم طريق الحياة فيه ، ومنحتهم القدرة على التعامل معه ، لهي وحدها التي تملك لهم كل شيء ، وهي وحدها التي تعرف عنهم كل شيء ، وهي وحدها التي تدبر أمرهم خير تدبير . وإنها لهي وحدها صاحبة الحق في أن ترسم لهم منبع حياتهم ، وأن تشرع لهم أنظمتهم وقوانينهم ، وأن تضع لهم قيمهم وموازينهم . وهي وحدها التي يرجعون إليها وإلى منهجها وشريعتها وإلى قيمها وموازينها عند الاختلاف في شأن من هذه الشؤون ، فيرجعون إلى النهج الواحد الذي أراده الله رب العالمين .
2- كما أنها توحي بأن هذه البشرية التي صدرت من إرادة واحدة ، تتصل في رحم واحدة ، وتلتقي في وشيجة واحدة ، وتنبثق من أصل واحد ، وتنتسب إلى نسب واحد :
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } . .
ولو تذكر الناس هذه الحقيقة ، لتضاءلت في حسهم كل الفروق الطارئة ، التي نشأت في حياتهم متأخرة ، ففرقت بين أبناء « النفس » الواحدة ، ومزقت وشائج الرحم الواحدة ، وكلها ملابسات طارئة ما كان يجوز أن تطغى على مودة الرحم وحقها في الرعاية ، وصلة النفس وحقها في المودة ، وصلة الربوبية وحقها في التقوى .
واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلاً باستبعاد الصراع العنصري ، الذي ذاقت منه البشرية ما ذاقت ، وما تزال تتجرع منه حتى اللحظة الحاضرة؛ في الجاهلية الحديثة ، التي تفرق بين الألوان ، وتفرق بين العناصر ، وتقيم كيانها على أساس هذه التفرقة ، وتذكر النسبة إلى الجنس والقوم ، وتنسى النسبة إلى الإنسانية الواحدة والربوبية الواحدة .
واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلاً كذلك باستبعاد الاستعباد الطبقي السائد في وثنية الهند والصراع الطبقي ، الذي تسيل فيه الدماء أنهاراً في الدول الشيوعية ، والذي ما تزال الجاهلية الحديثة تعتبره قاعدة فلسفتها المذهبية ونقطة انطلاقها إلى تحطيم الطبقات كلها ، لتسويد طبقة واحدة ، ناسية النفس الواحدة التي انبثق منها الجميع ، والربوبية الواحدة التي يرجع إليها الجميع
3- والحقيقة الأخرى التي تتضمنها الإشارة إلى أنه من النفس الواحدة { خلق منها زوجها } . . كانت كفيلة - لو أدركتها البشرية - أن توفر عليها تلك الأخطاء الأليمة ، التي تردت فيها ، وهي تتصور في المرأة شتى التصورات السخيفة ، وتراها منبع الرجس والنجاسة ، وأصل الشر والبلاء .

. وهي من النفس الأولى فطرة وطبعاً ، خلقها الله لتكون لها زوجاً وليبث منهما رجالاً كثيراً ونساء ، فلا فارق في الأصل والفطرة ، إنما الفارق في الاستعداد والوظيفة . .
ولقد خبطت البشرية في هذا التيه طويلاً . جردت المرأة من كل خصائص الإنسانية وحقوقها . فترة من الزمان . تحت تأثير تصور سخيف لا أصل له . فلما أن أرادت معالجة هذا الخطأ الشنيع اشتطت في الضفة الأخرى ، وأطلقت للمرأة العنان ، ونسيت أنها إنسان خلقت لإنسان ، ونفس خلقت لنفس ، وشطر مكمل لشطر ، وأنهما ليسا فردين متماثلين ، إنما هما زوجان متكاملان .
والمنهج الرباني القويم يرد البشرية إلى هذه الحقيقة البسيطة بعد ذلك الضلال البعيد . .
4- كذلك توحي الآية بأن قاعدة الحياة البشرية هي الأسرة ، فقد شاء الله أن تبدأ هذه النبتة في الأرض بأسرة واحدة . فخلق ابتداء نفساً واحدة ، وخلق منها زوجها . فكانت أسرة من زوجين . { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } . . ولو شاء الله لخلق - في أول النشأة - رجالاً كثيراً ونساء ، وزوجهم ، فكانوا أسراً شتى من أول الطريق . لا رحم بينها من مبدأ الأمر . ولا رابطة تربطها إلا صدورها عن إرادة الخالق الواحد . وهي الوشيجة الأولى . ولكنه - سبحانه - شاء لأمر يعلمه ولحكمة يقصدها ، أن يضاعف الوشائج . فيبدأ بها من وشيجة الربوبية - وهي أصل وأول الوشائج - ثم يثني بوشيجة الرحم ، فتقوم الأسرة الأولى من ذكر وأنثى -هما من نفس واحدة وطبيعة واحدة وفطرة واحدة - ومن هذه الأسرة الأولى يبث رجالاً كثيراً ونساء ، كلهم يرجعون ابتداء إلى وشيجة الربوبية ، ثم يرجعون بعدها إلى وشيجة الأسرة . التي يقوم عليها نظام المجتمع الإنساني . بعد قيامه على أساس العقيدة .
ومن ثم هذه الرعاية للأسرة في النظام الإسلامي ، وهذه العناية بتوثيق عراها ، وتثبيت بنيانها ، وحمايتها من جميع المؤثرات التي توهن هذا البناء - وفي أول هذه المؤثرات مجانبة الفطرة ، وتجاهل استعدادات الرجل واستعدادات المرأة وتناسق هذه الاستعدادات مع بعضها البعض ، وتكاملها لإقامة الأسرة من ذكر وأنثى .
وفي هذه السورة وفي غيرها من السور حشد من مظاهر تلك العناية بالأسرة في النظام الإسلامي . . وما كان يمكن أن يقوم للأسرة بناء قوي ، والمرأة تلقى تلك المعاملة الجائرة ، وتلك النظرة الهابطة التي تلقاها في الجاهلية - كل جاهلية - ومن ثم كانت عناية الإسلام بدفع تلك المعاملة الجائرة ورفع هذه النظرة الهابطة .
5- وأخيراً فإن نظرة إلى التنوع في خصائص الأفراد واستعداداتهم - بعد بثهم من نفس واحدة وأسرة واحدة - على هذا المدى الواسع ، الذي لا يتماثل فيه فردان قط تمام التماثل ، على توالي العصور ، وفيما لا يحصى عدده من الأفراد في جميع الأجيال . . التنوع في الأشكال والسمات والملامح . والتنوع في الطباع والأمزجة والأخلاق والمشاعر .

والتنوع في الاستعدادات والاهتمامات والوظائف . . إن نظرة إلى هذا التنوع المنبثق من ذلك التجمع لتشي بالقدرة المبدعة على غير مثال ، المدبرة عن علم وحكمة ، وتطلق القلب والعين يجولان في ذلك المتحف الحي العجيب ، يتمليان ذلك الحشد من النماذج التي لا تنفد ، والتي دائماً تتجدد ، والتي لا يقدر عليها إلا الله ، ولا يجرؤ أحد على نسبتها لغير الله . فالإرادة التي لا حد لما تريد ، والتي تفعل ما تريد ، هي وحدها التي تملك هذا التنويع الذي لا ينتهي ، من ذلك الأصل الواحد الفريد
والتأمل في « الناس » على هذا النحو كفيل بأن يمنح القلب زاداً من الأنس والمتاع فوق زاد الإيمان والتقوى . . وهو كسب فوق كسب ، وارتفاع بعد ارتفاع
وفي ختام آية الافتتاح التي توحي بكل هذه الحشود من الخواطر ، يردّ « الناس » إلى تقوى الله ، الذي يسأل بعضهم بعضاً به ، وإلى تقوى الأرحام التي يرجعون إليها جميعاً :
{ واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } . .
واتقوا الله الذي تتعاهدون باسمه ، وتتعاقدون باسمه ، ويسأل بعضكم بعضاً الوفاء باسمه ، ويحلف بعضكم لبعض باسمه . . اتقوه فيما بينكم من الوشائج والصلات والمعاملات .
. . وتقوى الله مفهومة ومعهودة لتكرارها في القرآن . أما تقوى الأرحام ، فهي تعبير عجيب . يلقي ظلاله الشعورية في النفس . ثم لا يكاد الإنسان يجد ما يشرح به تلك الظلال اتقوا الأرحام . أرهفوا مشاعركم للإحساس بوشائجها . والإحساس بحقها . وتوقي هضمها وظلمها ، والتحرج من خدشها ومسها . . توقوا أن تؤذوها ، وأن تجرحوها ، وأن تغضبوها . . أرهفوا حساسيتكم بها ، وتوقيركم لها ، وحنينكم إلى نداها وظلها .
ثم رقابة الله يختم بها الآية الموحية :
{ إن الله كان عليكم رقيباً } . .
وما أهولها رقابة والله هو الرقيب وهو الرب الخالق الذي يعلم من خلق ، وهو العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية ، لا في ظواهر الأفعال ولا في خفايا القلوب .
من هذا الافتتاح القوي المؤثر ، ومن هذه الحقائق الفطرية البسيطة ، ومن هذا الأصل الأساسي الكبير ، يأخذ في إقامة الأسس التي ينهض عليها نظام المجتمع وحياته : من التكافل في الأسرة والجماعة ، والرعاية لحقوق الضعاف فيها ، والصيانة لحق المرأة وكرامتها ، والمحافظة على أموال الجماعة في عمومها ، وتوزيع الميراث على الورثة بنظام يكفل العدل للأفراد والصلاح للمجتمع . .
ويبدأ فيأمر الأوصياء على اليتامى أن يردوا لهم أموالهم كاملة سالمة متى بلغوا سن الرشد . وألا ينكحوا القاصرات اللواتي تحت وصايتهم طمعاً في أموالهن . أما السفهاء الذين يُخْشَى من إتلافهم للمال ، إذا هم تسلموه ، فلا يعطى لهم المال ، لأنه في حقيقته مال الجماعة ، ولها فيه قيام ومصلحة ، فلا يجوز أن تسلمه لمن يفسد فيه ، وأن يراعوا العدل والمعروف في عشرتهم للنساء عامة .
{ وآتوا اليتامى أموالهم ، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم .

إنه كان حوباً كبيراً . وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ، أو ما ملكت أيمانكم ، ذلك أدنى ألا تعولوا . وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ، فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هينئاً مريئاً . ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً ، وارزقوهم فيها واكسوهم ، وقولوا لهم قولاً معروفاً . وابتلوا اليتامى ، حتى إذا بلغوا النكاح ، فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ، ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا . ومن كان غنياً فليستعفف ، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف . فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ، وكفى بالله حسيباً } . .
وتشي هذه التوصيات المشددة - كما قلنا - بما كان واقعاً في الجاهلية العربية من تضييع لحقوق الضعاف بصفة عامة . والأيتام والنساء بصفة خاصة . . هذه الرواسب التي ظلت باقية في المجتمع المسلم المقتطع أصلاً من المجتمع الجاهلي - حتى جاء القرآن يذيبها ويزيلها ، وينشىء في الجماعة المسلمة تصورات جديدة ، ومشاعر جديدة ، وعرفاً جديداً ، وملامح جديدة .
{ وآتوا اليتامى أموالهم ، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ، إنه كان حوباً كبيراً } . .
أعطوا اليتامى أموالهم التي تحت أيديكم ، ولا تعطوهم الرديء في مقابل الجيد . كأن تأخذوا أرضهم الجيدة ، وتبدلوهم منها من أرضكم الرديئة ، أو ماشيتهم ، أو أسهمهم ، أو نقودهم - وفي النقد الجيد ذو القيمة العالية والرديء ذو القيمة الهابطة - أو أي نوع من أنواع المال ، فيه الجيد وفيه الرديء . . وكذلك لا تأكلوا أموالهم بضمها إلى أموالكم ، كلها أو بعضها . . إن ذلك كله كان ذنباً كبيراً . والله يحذركم من هذا الذنب الكبير . .
فلقد كان هذا كله يقع إذن في البيئة التي خوطبت بهذه الآية أول مرة . فالخطاب يشي بأنه كان موجهاً إلى مخاطبين فيهم من تقع منه هذه الأمور . وهي أثر مصاحب من آثار الجاهلية . . وفي كل جاهلية يقع مثل هذا . ونحن نرى أمثاله في جاهليتنا الحاضرة في المدن والقرى . وما تزال أموال اليتامى تؤكل بشتى الطرق ، وشتى الحيل ، من أكثر الأوصياء ، على الرغم من كل الاحتياطات القانونية ، ومن رقابة الهيئات الحكومية المخصصة للإشراف على أموال القصر . فهذه المسألة لا تفلح فيها التشريعات القانوينة ، ولا الرقابة الظاهرية . . كلا لا يفلح فيها إلا أمر واحد . . التقوى . . فهي التي تكفل الرقابة الداخلية على الضمائر ، فتصبح للتشريع قيمته وأثره . كما وقع بعد نزول هذه الآية ، إذ بلغ التحرج من الأوصياء أن يعزلوا مال اليتيم عن مالهم ، ويعزلوا طعامه عن طعامهم ، مبالغة في التحرج والتوقي من الوقوع في الذنب العظيم ، الذي حذرهم الله منه وهو يقول :
{ إنه كان حوباً كبيراً } . .
إن هذه الأرض لا تصلح بالتشريعات والتنظيمات . . ما لم يكن هناك رقابة من التقوى في الضمير لتنفيذ التشريعات والتنظيمات .

. وهذه التقوى لا تجيش - تجاه التشريعات والتنظيمات - إلا حين تكون صادرة من الجهة المطلعة على السرائر ، الرقيبة على الضمائر . . عندئذ يحس الفرد - وهو يهم بانتهاك حرمة القانون - أنه يخون الله ، ويعصي أمره ، ويصادم إرادته؛ وأن الله مطلع على نيته هذه وعلى فعله . . وعندئذ تتزلزل أقدامه ، وترتجف مفاصله ، وتجيش تقواه . .
إن الله أعلم بعباده ، وأعرف بفطرتهم ، وأخبر بتكوينهم النفسي والعصبي - وهو خلقهم - ومن ثم جعل التشريع تشريعه ، والقانون قانونه ، والنظام نظامه ، والمنهج منهجه ، ليكون له في القلوب وزنه وأثره ومخافته ومهابته . . وقد علم - سبحانه - أنه لا يطاع أبداً شرع لا يرتكن إلى هذه الجهة التي تخشاها وترجوها القلوب ، وتعرف أنها مطلعة على خفايا السرائر وخبايا القلوب . وأنه مهما أطاع العبيد تشريع العبيد ، تحت تأثير البطش والإرهاب ، والرقابة الظاهرية التي لا تطلع على الأفئدة ، فإنهم لا بد متفلتون منها كلما غافلوا الرقابة ، وكلما واتتهم الحيلة . . مع شعورهم دائماً بالقهر والكبت والتهيؤ للانتقاض . .
{ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع . فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ، أو ما ملكت أيمانكم ، ذلك أدنى ألا تعولوا } . .
عن عروة بن الزبير - رضي الله عنه - أنه سأل عائشة - رضي الله عنها - عن قوله تعالى : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } فقالت : « يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها ، تشركه في ماله ، ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا اليهن؛ ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق ، وأمروا أن ينكحوا من النساء سواهن » قال عروة : قالت عائشة : « وإن الناس استفتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية ، فأنزل الله : { ويستفتونك في النساء . قل الله يفتيكم فيهن . . وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن . . . } قالت عائشة : ( وقول الله في هذه الآية الأخرى { وترغبون أن تنكحوهن } رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال . فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال ) .
وحديث عائشة - رضي الله عنها - يصور جانباً من التصورات والتقاليد التي كانت سائدة في الجاهلية ، ثم بقيت في المجتمع المسلم ، حتى جاء القرآن ينهى عنها ويمحوها ، بهذه التوجيهات الرفيعة ، ويكل الأمر إلى الضمائر ، وهو يقول : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } . . فهي مسألة تحرج وتقوى وخوف من الله إذا توقع الولي ألا يعدل مع اليتيمة في حجره ، ونص الآية مطلق لا يحدد مواضع العدل ، فالمطلوب هو العدل في كل صوره وبكل معانيه في هذه الحالة ، سواء فيما يختص بالصداق ، أو فيما يتعلق بأي اعتبار آخر .

كأن ينكحها رغبة في مالها ، لا لأن لها في قلبه مودة . ولا لأنه يرغب رغبة نفسية في عشرتها لذاتها . وكأن ينكحها وهناك فارق كبير من السن لا تستقيم معه الحياة ، دون مراعاة لرغبتها هي في إبرام هذا النكاح ، هذه الرغبة التي قد لا تفصح عنها حياء أو خوفاً من ضياع مالها إذا هي خالفت عن إرادته . . إلى آخر تلك الملابسات التي يخشى ألا يتحقق فيها العدل . . والقرآن يقيم الضمير حارساً والتقوى رقيباً . وقد أسلف في الآية السابقة التي رتب عليها هذه التوجيهات كلها قوله : { إن الله كان عليكم رقيباً } . .
فعندما لا يكون الأولياء واثقين من قدرتهم على القسط مع اليتيمات اللواتي في حجورهم ، فهناك النساء غيرهن ، وفي المجال متسع للبعد عن الشبهة والمظنة :
{ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع . فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم . ذلك أدنى ألا تعولوا } . .
وهذه الرخصة في التعدد ، مع هذا التحفظ عند خوف العجز عن العدل ، والاكتفاء بواحدة في هذه الحالة ، أو بما ملكت اليمين . .
هذه الرخصة - مع هذا التحفظ - يحسن بيان الحكمة والصلاح فيها . في زمان جعل الناس يتعالمون فيه على ربهم الذي خلقهم ، ويدعون لأنفسهم بصراً بحياة الإنسان وفطرته ومصلحته فوق بصر خالقهم سبحانه ويقولون في هذا الأمر وذاك بالهوى والشهوة ، وبالجهالة والعمى . كأن ملابسات وضرورات جدّت اليوم ، يدركونها هم ويقدرونها ولم تكن في حساب الله - سبحانه - ولا في تقديره ، يوم شرّع للناس هذه الشرائع
وهي دعوى فيها من الجهالة والعمى بقدر ما فيها من التبجح وسوء الأدب بقدر ما فيها من الكفر والضلالة ولكنها تقال ، ولا تجد من يرد الجهال العمي المتبجحين المتوقحين الكفار الضلال عنها وهم يتبجحون على الله وشريعته ، ويتطاولون على الله وجلاله ، ويتوقحون على الله ومنهجه ، آمنين سالمين غانمين ، مأجورين من الجهات التي يهمها أن تكيد لهذا الدين
وهذه المسألة - مسألة إباحة تعدد الزوجات بذلك التحفظ الذي قرره الإسلام - يحسن أن تؤخذ بيسر ووضوح وحسم؛ وأن تعرف الملابسات الحقيقية والواقعية التي تحيط بها . .
روى البخاري - بإسناده - « أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم - وتحته عشر نسوة - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : اختر منهن أربعاً » . وروى أبو داود - بإسناده - « أن عميرة الأسدي قال : أسلمت وعندي ثماني نسوة ، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : اختر منهن أربعاً » .
وقال الشافعي في مسنده : أخبرني من سمع ابن أبي الزياد يقول : أخبرني عبد المجيد عن ابن سهل ابن عبد الرحمن ، عن عوف بن الحارث ،

« عن نوفل بن معاوية الديلمي ، قال : أسلمت وعندي خمس نسوة ، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اختر أربعاً أيتهن شئت وفارق الأخرى » .
فقد جاء الإسلام إذن ، وتحت الرجال عشر نسوة أو أكثر أو أقل - بدون حد ولا قيد - فجاء ليقول للرجال : إن هناك حداً لا يتجاوزه المسلم - هو أربع - وإن هناك قيداً - هو إمكان العدل - وإلا فواحدة . . أو ما ملكت أيمانكم . .
جاء الإسلام لا ليطلق ، ولكن ليحدد . . ولا ليترك الأمر لهوى الرجل ، ولكن ليقيد التعدد بالعدل . وإلا امتنعت الرخصة المعطاة
ولكن لماذا أباح هذه الرخصة؟
إن الإسلام نظام للإنسان . نظام واقعي إيجابي . يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه ، ويتوافق مع واقعه وضروراته ، ويتوافق مع ملابسات حياته المتغيرة في شتى البقاع وشتى الأزمان ، وشتى الأحوال .
إنه نظام واقعي إيجابي ، يلتقط الإنسان من واقعه الذي هو فيه ، ومن موقفه الذي هو عليه ، ليرتفع به في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة . في غير إنكار لفطرته أو تنكر؛ وفي غير إغفال لواقعه أو إهمال؛ وفي غير عنف في دفعه أو اعتساف
إنه نظام لا يقوم على الحذلقة الجوفاء؛ ولا على التظرف المائع؛ ولا على « المثالية » الفارغة؛ ولا على الأمنيات الحالمة ، التي تصطدم بفطرة الإنسان وواقعه وملابسات حياته ، ثم تتبخر في الهواء
وهو نظام يرعى خلق الإنسان ، ونظافة المجتمع ، فلا يسمح بإنشاء واقع مادي ، من شأنه انحلال الخلق ، وتلويث المجتمع ، تحت مطارق الضرورة التي تصطدم بذلك الواقع . بل يتوخى دائماً أن ينشىء واقعاً يساعد على صيانة الخلق ، ونظافة المجتمع ، مع أيسر جهد يبذله الفرد ويبذله المجتمع .
فإذا استصحبنا معنا هذه الخصائص الأساسية في النظام الإسلامي ، ونحن ننظر إلى مسألة تعدد الزوجات . . فماذا نرى؟
نرى . . أولاً . . أن هناك حالات واقعية في مجتمعات كثيرة - تاريخية وحاضرة - تبدو فيها زيادة عدد النساء الصالحات للزواج ، على عدد الرجال الصالحين للزواج . . والحد الأعلى لهذا الاختلال الذي يعتري بعض المجتمعات لم يُعرف تاريخياً أنه تجاوز نسبة أربع إلى واحد . وهو يدور دائماً في حدودها .
فكيف نعالج هذا الواقع ، الذي يقع ويتكرر وقوعه ، بنسب مختلفة . هذا الواقع الذي لا يجدي فيه الإنكار؟
نعالجه بهز الكتفين؟ أو نتركه يعالج نفسه بنفسه؟ حسب الظروف والمصادفات؟
إن هز الكتفين لا يحل مشكلة كما أن ترك المجتمع يعالج هذا الواقع حسبما اتفق لا يقول به إنسان جاد ، يحترم نفسه ، ويحترم الجنس البشري
ولا بد إذن من نظام ، ولا بد إذن من إجراء . .
وعندئذ نجد أنفسنا أمام احتمال من ثلاثة احتمالات :
1- أن يتزوج كل رجل صالح للزواج امرأة من الصالحات للزواج .

ثم تبقى واحدة أو أكثر - حسب درجة الاختلال الواقعة - بدون زواج ، تقضي حياتها - أو حياتهن - لا تعرف الرجال
2- أن يتزوج كل رجل صالح للزواج واحدة فقط زواجاً شرعياً نظيفاً . ثم يخادن أو يسافح واحدة أو أكثر ، من هؤلاء اللواتي ليس لهن مقابل في المجتمع من الرجال . فيعرفن الرجل خدينا أو خليلاً في الحرام والظلام
3- أن يتزوج الرجال الصالحون - كلهم أو بعضهم - أكثر من واحدة . وأن تعرف المرأة الأخرى الرجل ، زوجة شريفة ، في وضح النور لا خدينة وولا خليلة في الحرام والظلام
الاحتمال الأول ضد الفطرة وضد الطاقة بالقياس إلى المرأة التي لا تعرف في حياتها الرجال . ولا يدفع هذه الحقيقة ما يتشدق به المتشدقون من استغناء المرأة عن الرجل بالعمل والكسب . فالمسألة أعمق بكثير مما يظنه هؤلاء السطحيون المتحذلقون المتظرفون الجهال عن فطرة الإنسان . وألف عمل وألف كسب لا تغني المرأة عن حاجتها الفطرية إلى الحياة الطبيعية . . سواء في ذلك مطالب الجسد والغريزة ومطالب الروح والعقل من السكن والأنس بالعشير . . والرجل يجد العمل ويجد الكسب; ولكن هذا لا يكفيه فيروح يسعى للحصول على العشيرة والمرأة كالرجل - في هذا - فهما من نفس واحدة
والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام النظيف; وضد قاعدة المجتمع الإسلامي العفيف; وضد كرامة المرأة الإنسانية . والذين لا يحفلون أن تشيع الفاحشة في المجتمع هم أنفسهم الذين يتعالمون على الله ويتطاولون على شريعته . لأنهم لا يجدون من يردعهم عن هذا التطاول . بل يجدون من الكائدين لهذا الدين كل تشجيع وتقدير
والاحتمال الثالث هو الذي يختاره الإسلام . يختاره رخصة مقيدة . لمواجهة الواقع الذي لا ينفع فيه هز الكتفين; ولا تنفع فيه الحذلقة والادعاء . يختاره متمشياً مع واقعيته الإيجابية في مواجهة الإنسان كما هو - بفطرته وظروف حياته - ومع رعايته للخلق النظيف والمجتمع المتطهر ومع منهجه في التقاط الإنسان من السفح والرقي به في الدرج الصاعد إلى القمة السامقة . ولكن في يسر ولين وواقعية
ثم نرى . . ثانياً . . في المجتمعات الإنسانية . قديماً وحديثاً . وبالأمس واليوم والغد . إلى آخر الزمان . واقعاً في حياة الناس لا سبيل إلى إنكاره كذلك أو تجاهله .
نرى أن فترة الإخصاب في الرجل تمتد إلى سن السبعين أو ما فوقها . بينما هي تقف في المرأة عند سن الخمسين أو حواليها . فهناك في المتوسط عشرون سنة من سني الإخصاب في حياة الرجل لا مقابل لها في حياة المرأة . وما من شك أن من أهداف اختلاف الجنسين ثم التقائهما امتداد الحياة بالإخصاب والإنسال ، وعمران الأرض بالتكاثر والانتشار . فليس مما يتفق مع هذه السنة الفطرية العامة أن نكف الحياة عن الانتفاع بفترة الإخصاب الزائدة في الرجال .

ولكن مما يتفق مع هذا الواقع الفطري أن يسن التشريع - الموضوع لكافة البيئات في جميع الأزمان والأحوال - هذه الرخصة - لا على سبيل الإلزام الفردي ولكن على سبيل إيجاد المجال العام الذي يلبي هذا الواقع الفطري ويسمح للحياة أن تنتفع به عند الاقتضاء . . وهو توافق بين واقع الفطرة وبين اتجاه التشريع ملحوظ دائماً في التشريع الإلهي . لا يتوافر عادة في التشريعات البشرية لأن الملاحظة البشرية القاصرة لا تنتبه له ولا تدرك جميع الملابسات القريبة والبعيدة ولا تنظر من جميع الزوايا ولا تراعي جميع الاحتمالات .
ومن الحالات الواقعية - المرتبطة بالحقيقة السالفة - ما نراه أحياناً من رغبة الزوج في أداء الوظيفة الفطرية مع رغبة الزوجة عنها - لعائق من السن أو من المرض - مع رغبة الزوجين كليهما في استدامة العشرة الزوجية وكراهية الانفصال - فكيف نواجه مثل هذه الحالات؟
نواجهها بهز الكتفين; وترك كل من الزوجين يخبط رأسه في الجدار؟ أو نواجهها بالحذلقة الفارغة والتظرف السخيف؟
إن هز الكتفين - كما قلنا - لا يحل مشكلة . والحذلقة والتظرف لا يتفقان مع جدية الحياة الإنسانية ومشكلاتها الحقيقية . .
وعندئذ نجد أنفسنا - مرة أخرى - أمام احتمال من ثلاثة احتمالات :
1- أن نكبت الرجل ونصده عن مزاولة نشاطه الفطري بقوة التشريع وقوة السلطان ونقول له : عيب يا رجل إن هذا لا يليق ولا يتفق مع حق المرأة التي عندك ولا مع كرامتها
2- أن نطلق هذا الرجل يخادن ويسافح من يشاء من النساء
3- أن نبيح لهذا الرجل التعدد - وفق ضرورات الحال - ونتوقى طلاق الزوجة الأولى . .
الاحتمال الأول ضد الفطرة وفوق الطاقة وضد احتمال الرجل العصبي والنفسي . وثمرته القريبة - إذا نحن أكرهناه بحكم التشريع وقوة السلطان - هي كراهية الحياة الزوجية التي تكلفه هذا العنت ومعاناة جحيم هذه الحياة . . وهذه ما يكرهه الإسلام الذي يجعل من البيت سكناً ومن الزوجة أنساً ولباساً .
والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام الخلقي وضد منهجه في ترقية الحياة البشرية ورفعها وتطهيرها وتزكيتها كي تصبح لائقة بالإنسان الذي كرمه الله على الحيوان
والاحتمال الثالث هو وحده الذي يلبي ضرورات الفطرة الواقعية ويلبي منهج الإسلام الخلقي ويحتفظ للزوجة الأولى برعاية الزوجية ويحقق رغبة الزوجين في الإبقاء على عشرتهما وعلى ذكرياتهما وييسر على الإنسان الخطو الصاعد في رفق ويسر وواقعية .
وشيء كهذا يقع في حالة عقم الزوجة مع رغبة الزوج الفطرية في النسل . حيث يكون أمامه طريقان لا ثالث لهما :
1- أن يطلقها ليستبدل بها زوجة أخرى تلبي رغبة الإنسان الفطرية في النسل .
2- أو أن يتزوج بأخرى ويبقي على عشرته مع الزوجة الأولى .
وقد يهذر قوم من المتحذلقين - ومن المتحذلقات - بإيثار الطريق الأول .

ولكنّ تسعاً وتسعين زوجة - على الأقل - من كل مائة سيتوجهن باللعنة إلى من يشير على الزوج بهذا الطريق الطريق الذي يحطم عليهن بيوتهن بلا عوض منظور - فقلما تجد العقيم وقد تبين عقمها راغباً في الزواج - وكثيراً ما تجد الزوجة العاقر أنساً واسترواحاً في الأطفال الصغار تجيء بهم الزوجة الأخرى من زوجها فيملأون عليهم الدار حركة وبهجة أياً كان ابتئاسها لحرمانها الخاص .
وهكذا حيثما ذهبنا نتأمل الحياة الواقعية بملابساتها العملية التي لا تصغي للحذلقة ولا تستجيب للهذر ولا تستروح للهزل السخيف والتميع المنحل في مواضع الجد الصارم . . وجدنا مظاهر الحكمة العلوية في سن هذه الرخصة مقيدة بذلك القيد :
{ فانكحوا ما طاب لكم من النساء - مثنى وثلاث ورباع - فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } فالرخصة تلبي واقع الفطرة وواقع الحياة; وتحمي المجتمع من الجنوح - تحت ضغط الضرورات الفطرية والواقعية المتنوعة - إلى الانحلال أو الملال . . والقيد يحمي الحياة الزوجية من الفوضى والاختلال ويحمي الزوجة من الجور والظلم; ويحمي كرامة المرأة أن تتعرض للمهانة بدون ضرورة ملجئة واحتياط كامل . ويضمن العدل الذي تحتمل معه الضرورة ومقتضياتها المريرة .
إن أحداً يدرك روح الإسلام واتجاهه ، لا يقول إن التعدد مطلوب لذاته مستحب بلا مبرر من ضرورة فطرية أو اجتماعية; وبلا دافع إلا التلذذ الحيواني وإلا التنقل بين الزوجات كما يتنقل الخليل بين الخليلات . إنما هو ضرورة تواجه ضرورة وحل يواجه مشكلة . وهو ليس متروكاً للهوى بلا قيد ولا حد في النظام الإسلامي الذي يواجه كل واقعيات الحياة .
فإذا انحرف جيل من الأجيال في استخدام هذه الرخصة . إذا راح رجال يتخذون من هذه الرخصة فرصة لإحالة الحياة الزوجية مسرحاً للذة الحيوانية . إذا أمسوا يتنقلون بين الزوجات كما يتنقل الخليل بين الخليلات . إذا أنشأوا « الحريم » في هذه الصورة المريبة . . فليس ذلك شأن الإسلام; وليس هؤلاء هم الذين يمثلون الإسلام . . إن هؤلاء إنما انحدروا إلى هذا الدرك لأنهم بعدوا عن الإسلام ولم يدركوا روحه النظيف الكريم . والسبب أنهم يعيشون في مجتمع لا يحكمه الإسلام ولا تسيطر فيه شريعته . مجتمع لا تقوم عليه سلطة مسلمة تدين للإسلام وشريعته; وتأخذ الناس بتوجيهات الإسلام وقوانينه وآدابه وتقاليده .
إن المجتمع المعادي للإسلام المتفلت من شريعته وقانونه هو المسؤول الأول عن هذه الفوضى . هو المسؤول الأول عن « الحريم » في صورته الهابطة المريبة . هو المسؤول الأول عن اتخاذ الحياة الزوجية مسرح لذة بهيمية . فمن شاء أن يصلح هذه الحال فليرد الناس إلى الإسلام وشريعة الإسلام ومنهج الإسلام; فيردهم إلى النظافة والطهارة والاستقامة والاعتدال . . من شاء الإصلاح فليرد الناس إلى الإسلام لا في هذه الجزئية ولكن في منهج الحياة كلها .

فالإسلام نظام متكامل لا يعمل إلا وهو كامل شامل . .
والعدل المطلوب هو العدل في المعاملة والنفقة والمعاشرة والمباشرة . أما العدل في مشاعر القلوب وأحاسيس النفوس فلا يطالب به أحد من بني الإنسان ، لأنه خارج عن إرادة الإنسان . . وهو العدل الذي قال الله عنه في الآية الأخرى في هذه السورة : { ولن تستيطعوا أن تعدلوا بين النساء - ولو حرصتم - فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة } هذه الآية التي يحاول بعض الناس أن يتخذوا منها دليلاً على تحريم التعدد . والأمر ليس كذلك . وشريعة الله ليست هازلة حتى تشرع الأمر في آية وتحرمه في آية بهذه الصورة التي تعطي باليمين وتسلب بالشمال فالعدل المطلوب في الآية الأولى; والذي يتعين عدم التعدد إذا خيف ألا يتحقق; هو العدل في المعاملة والنفقة والمعاشرة والمباشرة وسائر الأوضاع الظاهرة بحيث لا ينقص إحدى الزوجات شيء منها; وبحيث لا تؤثر واحدة دون الأخرى بشيء منها . . على نحو ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أرفع إنسان عرفته البشرية يقوم به . في الوقت الذي لم يكن أحد يجهل من حوله ولا من نسائه أنه يحب عائشة - رضي الله عنها - ويؤثرها بعاطفة قلبية خاصة لا تشاركها فيها غيرها . . فالقلوب ليست ملكاً لأصحابها . إنما هي بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء . . وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعرف دينه ويعرف قلبه . فكان يقول : « اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك » .
ونعود فنكرر قبل أن نتجاوز هذه النقطة أن الإسلام لم ينشىء التعدد إنما حدده . ولم يأمر بالتعدد إنما رخص فيه وقيده . وأنه رخص فيه لمواجهة واقعيات الحياة البشرية وضرورات الفطرة الإنسانية . هذه الضرورات وتلك الواقعيات التي ذكرنا بعض ما تكشف لنا حتى الآن منها . وقد يكون وراءها غيرها تظهره أطوار الحياة في أجيال أخرى وفي ظروف أخرى كذلك . كما يقع في كل تشريع أو توجيه جاء به هذا المنهج الرباني وقصر البشر في فترة من فترات التاريخ عن استيعاب كل ما وراءه من حكمة ومصلحة . فالحكمة والمصلحة مفترضتان وواقعتان في كل تشريع إلهي سواء أدركهما البشر أم لم يدركوهما في فترة من فترات التاريخ الإنساني القصير عن طريق الإدراك البشري المحدود
ثم ننتقل إلى الإجراء الثاني الذي تنص عليه الآية عند الخوف من عدم تحقق العدل :
{ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } . .
أي إنه إن خيف عدم العدل في التزوج بأكثر من واحدة تعين الاقتصار على واحدة ولم يجز تجاوزها . أو { ما ملكت أيمانكم } من الإماء زواجاً أو تسرياً فالنص لم يحدد .
ولقد سبق أن وقفنا في الجزء الثاني من هذه الظلال وقفة قصيرة أمام مسألة الرق إجمالاً .

فلعله يحسن هنا أن نلم بمسألة الاستمتاع بالإماء خاصة .
إن الزواج من مملوكة فيه رد لاعتبارها وكرامتها الإنسانية . فهو مؤهل من مؤهلات التحرير لها ولنسلها من سيدها - حتى ولو لم يعتقها لحظة الزواج - فهي منذ اليوم الذي تلد فيه تسمى « أم ولد » ويمتنع على سيدها بيعها; وتصبح حرة بعد وفاته . أما ولدها فهو حر منذ مولده .
وكذلك عند التسري بها . فإنها إذا ولدت أصبحت « أم ولد » وامتنع بيعها وصارت حرة بعد وفاة سيدها . وصار ولدها منه كذلك حراً إذا اعترف بنسبه وهذا ما كان يحدث عادة .
فالزواج والتسري كلاهما طريق من طرق التحرير التي شرعها الإسلام وهي كثيرة . . على أنه قد يحيك في النفس شيء من مسألة التسري هذه . فيحسن أن نتذكر أن قضية الرق كلها قضية ضرورة - كما بينا هناك - وأن الضروة التي اقتضت إباحة الاسترقاق في الحرب الشرعية التي يعلنها الإمام المسلم المنفذ لشريعة الله هي ذاتها التي اقتضت إباحة التسري بالإماء; لأن مصير المسلمات الحرائر العفيفات حين يؤسرن كان شراً من هذا المصير
على أنه يحسن ألا ننسى أن هؤلاء الأسيرات المسترقات لهن مطالب فطرية لا بد أن يحسب حسابها في حياتهن ولا يمكن إغفالها في نظام واقعي يراعي فطرة الإنسان وواقعه . . فإما أن تتم تلبية هذه المطالب عن طريق الزواج وإما أن تتم عن طريق تسري السيد ما دام نظام الاسترقاق قائماً كي لا ينشرن في المجتمع حالة من الانحلال الخلقي والفوضى الجنسية لا ضابط لها حين يلبين حاجتهن الفطرية عن طريق البغاء أو المخادنة كما كانت الحال في الجاهلية .
أما ما وقع في بعض العصور من الاستكثار من الإماء - عن طريق الشراء والخطف والنخاسة وتجميعهن في القصور واتخاذهن وسيلة للالتذاذ الجنسي البهيمي وتمضية الليالي الحمراء بين قطعان الإماء وعربدة السكر والرقص والغناء . . إلى آخر ما نقلته إلينا الأخبار الصادقة والمبالغ فيها على السواء . . أما هذا كله فليس هو الإسلام . وليس من فعل الإسلام ولا إيحاء الإسلام . ولا يجوز أن يحسب على النظام الإسلامي ولا أن يضاف إلى واقعه التاريخي . .
إن الواقع التاريخي « الإسلامي » هو الذي ينشأ وفق أصول الإسلام وتصوراته وشرعته وموازينه . هذا وحده هو الواقع التاريخي « الإسلامي » . . أما ما يقع في المجتمع الذي ينتسب إلى الإسلام خارجاً على أصوله وموازينه فلا يجوز أن يحسب منه لأنه انحراف عنه .
إن للإسلام وجوده المستقل خارج واقع المسلمين في أي جيل . فالمسلمون لم ينشئوا الإسلام إنما الإسلام هو الذي أنشأ المسلمين . الإسلام هو الأصل والمسلمون فرع عنه ونتاج من نتاجه . ومن ثم فإن ما يصنعه الناس أو ما يفهمونه ليس هو الذي يحدد أصل النظام الإسلامي أو مفهوم الإسلام الأساسي .

إلا أن يكون مطابقاً للأصل الإسلامي الثابت المستقل عن واقع الناس ومفهومهم والذي يقاس إليه واقع الناس في كل جيل ومفهومهم ليعلم كم هو مطابق أو منحرف عن الإسلام .
إن الأمر ليس كذلك في النظم الأرضية التي تنشأ ابتداء من تصورات البشر ومن المذاهب التي يضعونها لأنفسهم - وذلك حين يرتدون إلى الجاهلية ويكفرون بالله مهما ادعوا أنهم يؤمنون به فمظهر الإيمان الأول بالله هو استمداد الأنظمة من منهجه وشريعته ولا إيمان بغير هذه القاعدة الكبيرة - ذلك أن المفهومات المتغيرة للناس حينئذ والأوضاع المتطورة في أنظمتهم هي التي تحدد مفهوم المذاهب التي وضعوها لأنفسهم وطبقوها على أنفسهم .
فأما في النظام الإسلامي الذي لم يصنعه الناس لأنفسهم إنما صنعه للناس رب الناس وخالقهم ورازقهم ومالكهم . . فأما في هذا النظام فالناس إما أن يتبعوه ويقيموا أوضاعهم وفقه; فواقعهم إذن هو الواقع التاريخي « الإسلامي » وإما أن ينحرفوا عنه أو يجانبوه كلية فليس هذا واقعاً تاريخياً للإسلام . إنما هو انحراف عن الإسلام
ولا بد من الانتباه إلى هذا الاعتبار عند النظر في التاريخ الإسلامي . فعلى هذا الاعتبار تقوم النظرية التاريخية الإسلامية وهي تختلف تماماً مع سائر النظريات التاريخية الأخرى التي تعتبر واقع الجماعة الفعلي هو التفسير العملي للنظرية أو المذهب وتبحث عن « تطور » النظرية أو المذهب في هذا الواقع الفعلي للجماعة التي تعتنقه وفي المفهومات المتغيرة لهذه النظرية في فكر الجماعة وتطبيق هذه النظرة على الإسلام ينافي طبيعته المتفردة ويؤدي إلى أخطار كثيرة في تحديد المفهوم الإسلامي الحقيقي .
وأخيراً تفصح الآية عن حكمة هذه الإجراءات كلها . . إنها اتقاء الجور وتحقيق العدل :
{ ذلك أدنى ألا تعولوا } . .
ذلك . . البعد عن نكاح اليتيمات - إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى - ونكاح غيرهن من النساء - مثنى وثلاث ورباع - ونكاح الواحدة فقط - إن خفتم ألا تعدلوا - أو ما ملكت أيمانكم . . { ذلك أدنى ألا تعولوا } . . أي ذلك أقرب ألا تظلموا وألا تجوروا .
وهكذا يتبين أن البحث عن العدل والقسط هو رائد هذا المنهج وهدف كل جزئية من جزئياته . . والعدل أجدر أن يراعي في المحضن الذي يضم الأسرة . وهي اللبنة الأولى للبناء الاجتماعي كله ونقطة الانطلاق إلى الحياة الاجتماعية العامة وفيه تدرج الأجيال وهي لدنة رخصة قابلة للتكيف فإن لم يقم على العدل والود والسلام فلا عدل ولا ود في المجتمع كله ولا سلام .
ثم يستطرد السياق في تقرير حقوق النساء - وقد أفرد لهن صدر هذه السورة وسماها باسمهن - قبل أن يستكمل الكلام عن رعاية اليتامى التي بدأ فيها :
{ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة . فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } .

.
وهذه الآية تنشىء للمرأة حقاً صريحاً وحقاً شخصياً . في صداقها وتنبئ بما كان واقعاً في المجتمع الجاهلي من هضم هذا الحق في صور شتى . واحدة منها كانت في قبض الولي لهذا الصداق وأخذه لنفسه; وكأنما هي صفقة بيع هو صاحبها وواحدة منها كانت في زواج الشغار . وهو أن يزوج الولي المرأة التي في ولايته في مقابل أن يزوجه من يأخذها امرأة هي في ولاية هذا الآخر . واحدة بواحدة . صفقة بين الوليين لا حظ فيها للمرأتين . كما تبدل بهيمة ببهيمة فحرم الإسلام هذا الزواج كلية; وجعل الزواج التقاء نفسين عن رغبة واختيار والصداق حقاً للمرأة تأخذه لنفسها ولا يأخذه الولي وحتم تسمية هذا الصداق وتحديده لتقبضه المرأة فريضة لها وواجباً لا تخلف فيه . وأوجب أن يؤديه الزوج { نحلة } - أي هبة خالصة لصاحبتها - وأن يؤديه عن طيب نفس وارتياح خاطر . كما يؤدي الهبة والمنحة . فإذا طابت نفس الزوجة بعد ذلك لزوجها عن شيء من صداقها - كله أو بعضه - فهي صاحبة الشأن في هذا; تفعله عن طيب نفس وراحة خاطر; والزوج في حل من أخذ ما طابت نفس الزوجة عنه وأكله حلالاً طيباً هنيئاً مريئاً . فالعلاقات بين الزوجين ينبغي أن تقوم على الرضى الكامل والاختيار المطلق والسماحة النابعة من القلب والود الذي لا يبقى معه حرج من هنا أو من هناك .
وبهذا الإجراء استبعد الإسلام ذلك الراسب من رواسب الجاهلية في شأن المرأة وصداقها وحقها في نفسها وفي مالها وكرامتها ومنزلتها . وفي الوقت ذاته لم يجفف ما بين المرأة ورجلها من صلات ولم يقمها على مجرد الصرامة في القانون; بل ترك للسماحة والتراضي والمودة أن تأخذ مجراها في هذه الحياة المشتركة وأن تبلل بنداوتها جو هذه الحياة .
فإذا انتهى من هذا الاستطراد - الذي دعا إليه الحديث عن الزواج من اليتيمات ومن غيرهن من النساء - عاد إلى أموال اليتامى; يفصل في أحكام ردها إليهم بعد أن قرر في الآية الثانية من السورة مبدأ الرد على وجه الإجمال .
إن هذا المال ولو أنه مال اليتامى إلا أنه - قبل هذا - مال الجماعة أعطاها الله إياه لتقوم به; وهي متكافلة في الانتفاع بهذا المال على أحسن الوجوه فالجماعة هي المالكة ابتداء للمال العام واليتامى أو مورثوهم إنما يملكون هذا المال لاستثماره - بإذن من الجماعة - ويظلون ينتفعون به وينفعون الجماعة معهم ما داموا قادرين على تكثيره وتثميره; راشدين في تصريفه وتدبيره - والملكية الفردية بحقوقها وقيودها قائمة في هذا الإطار - أما السفهاء من اليتامى ذوي المال الذين لا يحسنون تدبير المال وتثميره فلا يسلم لهم ولا يحق لهم التصرف فيه والقيام عليه - وإن بقيت لهم ملكيتهم الفردية فيه لا تنزع منهم - إنما يعود التصرف في مال الجماعة إلى من يحسن التصرف فيه من الجماعة .

مع مراعاة درجة القرابة لليتيم تحقيقاً للتكافل العائلي الذي هو قاعدة التكافل العام بين الأسرة الكبرى وللسفيه حق الرزق والكسوة في ماله مع حسن معاملته :
{ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً } . .
ويتبين السفه والرشد - بعد البلوغ - وأمر السفه والرشد لا يخفى عادة ولا يحتاج إلى تحديد مفهومه بالنصوص . فالبيئة تعرف الراشد من السفيه وتأنس رشد هذا وسفه ذاك وتصرفات كل منهما لا تخفى على الجماعة; فالاختبار يكون لمعرفة البلوغ الذي يعبر عنه النص بكلمة : { النكاح } وهو الوظيفة التي يؤهل لها البلوغ :
{ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا . ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف . فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيباً } . .
ويبدو من خلال النص الدقة في الإجراءات التي يتسلم بها اليتامى أموالهم عند الرشد . كذلك يبدو التشديد في وجوب المسارعة بتسليم أموال اليتامى إليهم بمجرد تبين الرشد - بعد البلوغ - وتسليمها لهم كاملة سالمة والمحافظة عليها في أثناء القيام عليها وعدم المبادرة إلى أكلها بالإسراف قبل أن يكبر أصحابها فيتسلموها مع الاستعفاف عن أكل شيء منها مقابل القيام عليها - إذا كان الولي غنياً - والأكل منها في أضيق الحدود - إذا كان الولي محتاجاً - ومع وجوب الإشهاد في محضر التسليم . . وختام الآية : التذكير بشهادة الله وحسابه : { وكفى بالله حسيباً } . .
كل هذا التشديد وكل هذا البيان المفصل وكل هذا التذكير والتحذير . . يشي بما كان سائداً في البيئة من الجور على أموال اليتامى الضعاف في المجتمع وبما كان يحتاج إليه تغيير هذا العرف السائد من تشديد وتوكيد ومن بيان وتفصيل لا يدع مجالاً للتلاعب عن أي طريق . .
وهكذا كان المنهج الرباني ينسخ معالم الجاهلية في النفوس والمجتمعات ويثبت معالم الإسلام; ويمحو سمات الجاهلية في وجه المجتمع ويثبت ملامح الإسلام . وهكذا كان يصوغ المجتمع الجديد ومشاعره وتقاليده وشرائعه وقوانينه في ظلال تقوى الله ورقابته ويجعلها الضمان الأخير لتنفيذ التشريع . ولا ضمان لأي تشريع في الأرض بغير هذه التقوى وبدون هذه الرقابة : { وكفى بالله حسيباً } . .
ولقد كانوا في الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصبية - في الغالب - إلا التافه القليل . لأن هؤلاء وهؤلاء لا يركبون فرساً ولا يردون عادياً فإذا شريعة الله تجعل الميراث - في أصله - حقاً لذوي القربى جميعاً - حسب مراتبهم وأنصبتهم المبينة فيما بعد - وذلك تمشياً مع نظرية الإسلام في التكافل بين أفراد الأسرة الواحدة وفي التكافل الإنساني العام .

وحسب قاعدة : الغنم بالغرم . . فالقريب مكلف إعالة قريبه إذا احتاج والتضامن معه في دفع الديات عند القتل والتعويضات عند الجرح فعدلٌ إذن أن يرثه - إن ترك مالاً - بحسب درجة قرابته وتكليفه به . والإسلام نظام متكامل متناسق . ويبدو تكامله وتناسقه واضحاً في توزيع الحقوق والواجبات . .
هذه هي القاعدة في الإرث بصفة عامة . . وقد نسمع هنا وهناك لغطاً حول مبدأ الإرث لا يثيره إلا التطاول على الله - سبحانه - مع الجهل بطبيعة الإنسان وملابسات حياته الواقعية
إن إدراك الأسس التي يقوم عليها النظام الاجتماعي الإسلامي يضع حداً لهذا اللغط على الإطلاق . .
إن قاعدة هذا النظام هي التكافل . . ولكي يقوم هذا التكافل على أسس وطيدة راعى الإسلام أن يقوم على أساس الميول الفطرية الثابتة في النفس البشرية . هذه الميول التي لم يخلقها الله عبثاً في الفطرة إنما خلقها لتؤدي دوراً أساسياً في حياة الإنسان .
ولما كانت روابط الأسرة - القريبة والبعيدة - روابط فطرية حقيقية; لم يصطنعها جيل من الأجيال; ولم تصطنعها جميع الأجيال بطبيعة الحال والجدال في جدية هذه الروابط وعمقها وأثرها في رفع الحياة وصيانتها وترقيتها كذلك لا يزيد على أن يكون مراء لا يستحق الاحترام . . لما كان الأمر كذلك جعل الإسلام التكافل في محيط الأسرة هو حجر الأساس في بناء التكافل الاجتماعي العام . وجعل الإرث مظهراً من مظاهر ذلك التكافل في محيط الأسرة . فوق ما له من وظائف أخرى في النظام الاقتصادي والاجتماعي العام .
فإذا عجزت هذه الخطوة أو قصرت عن استيعاب جميع الحالات المحتاجة إلى التكافل جاءت الخطوة التالية في محيط الجماعة المحلية المتعارفة لتكملها وتقويها . فإذا عجزت هذه جاء دور الدولة المسلمة لتتولى كل من قصرت في إعالتهم وكفالتهم الكاملة جهود الأسرة وجهود الجماعة المحلية المحدودة . . وبذلك لا يلقى العبء كله على عاتق الجهاز العام للدولة . . أولاً لأن التكافل في محيط الأسرة أو في محيط الجماعة الصغيرة يخلق مشاعر لطيفة رحيمة تنمو حولها فضائل التعاون والتجاوب نمواً طبيعياً غير مصطنع - فضلاً على أن هذه المشاعر كسب إنساني لا يرفضه إلا لئيم نكد خبيث - أما التكافل في محيط الأسرة بصفة خاصة فينشىء آثاراً طبيعية تلائم الفطرة . . فشعور الفرد بأن جهده الشخصي سيعود أثره على ذوي قرابته - وبخاصة ذريته - يحفزه إلى مضاعفة الجهد فيكون نتاجه للجماعة عن طريق غير مباشر . لأن الإسلام لا يقيم الفواصل بين الفرد والجماعة . فكل ما يملك الفرد هو في النهاية ملك للجماعة كلها عندما تحتاج . .
وهذه القاعدة الأخيرة تقضي على كل الاعتراضات السطحية على توريث من لم يتعب ولم يبذل جهداً - كما يقال - فهذا الوارث هو امتداد للمورث من جهة ثم هو كافل هذا المورث لو كان هذا محتاجاً وذاك ذا مال .

ثم في النهاية هو وما يملك للجماعة عندما تحتاج . تمشياً مع قاعدة التكافل العام .
ثم إن العلاقة بين المورث والوارث - وبخاصة الذرية - ليست مقصورة على المال . فإذا نحن قطعنا وراثة المال فما نحن بمستطيعين أن نقطع الوشائج الأخرى والوراثات الأخرى بينهما .
إن الوالدين والأجداد والأقرباء عامة لا يورثون أبناءهم وأحفادهم وأقاربهم المال وحده . إنما يورثونهم كذلك الاستعدادات الخيرة والشريرة والاستعدادات الوراثية للمرض والصحة والانحراف والاستقامة والحسن والقبح والذكاء والغباء . . إلخ . وهذه الصفات تلاحق الوارثين وتؤثر في حياتهم ولا تتركهم من عقابيلها أبداً . فمن العدل إذن أن يورثوهم المال . وهم لا يعفونهم من المرض والانحراف والغباء . ولا تملك الدولة - بكل وسائلها - أن تعفيهم من هذه الوراثات .
من أجل هذه الواقعيات الفطرية والعملية في الحياة البشرية - ومن أجل غيرها وهو كثير من المصالح الاجتماعية الأخرى - شرع الله قاعدة الإرث :
{ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون - مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضاً } . .
هذا هو المبدأ العام الذي أعطى الإسلام به « النساء » منذ أربعة عشر قرناً حق الإرث كالرجال - من ناحية المبدأ - كما حفظ به حقوق الصغار الذين كانت الجاهلية تظلمهم وتأكل حقوقهم . لأن الجاهلية كانت تنظر إلى الأفراد حسب قيمتهم العملية في الحرب والإنتاج . أما الإسلام فجاء بمنهجه الرباني ينظر إلى « الإنسان » - أولاً - حسب قيمته الإنسانية . وهي القيمة الأساسية التي لا تفارقه في حال من الأحوال ثم ينظر إليه - بعد ذلك - حسب تكاليفه الواقعية في محيط الأسرة وفي محيط الجماعة .
ولما كان نظام التوريث - كما سيجيء - يحجب فيه بعض ذوي القربى بعضاً فيوجد ذوو قرابة ولكنهم لا يرثون لأن من هم أقرب منهم سبقوهم فحجبوهم فإن السياق يقرر للمحجوبين حقاً لا يحدده - إذا هم حضروا القسمة - تطييباً لخاطرهم كي لا يروا المال يفرق وهم محرومون واحتفاظاً بالروابط العائلية والمودات القلبية . كذلك يقرر لليتامى والمساكين مثل هذا الحق تمشياً مع قاعدة التكافل العام :
{ وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفاً } . .
وقد وردت في هذه الآية روايات شتى عن السلف . ما بين قولهم إنها منسوخة نسختها آيات الميراث المحددة للأنصبة وقولهم : إنها محكمة . وما بين قولهم : إن مدلولها واجب مفروض وقولهم : إنه مستحب ما طابت به أنفس الورثة . . ونحن لا نرى فيها دليلاً للنسخ ونرى أنها محكمة وواجبة . في مثل هذه الحالات التي ذكرنا . معتمدين على إطلاق النص من جهة وعلى الاتجاه الإسلامي العام في التكافل من جهة أخرى .

. وهي شيء آخر غير أنصبة الورثة المحددة في الآيات التالية على كل حال .
وقبل أن يأخذ السياق في تحديد أنصبة الورثة يعود ليحذر من أكل أموال اليتامى . . يعود إليه في هذه المرة ليلمس القلوب لمستين قويتين : أولاهما تمس مكمن الرحمة الأبوية والإشفاق الفطري على الذرية الضعاف وتقوى الله الحسيب الرقيب . والثانية تمس مكان الرهبة من النار والخوف من السعير في مشهد حسي مفزع :
{ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم . فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً . إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً } . .
وهكذا تمس اللمسة الأولى شغاف القلوب . قلوب الآباء المرهفة الحساسية تجاه ذريتهم الصغار . بتصور ذريتهم الضعاف مكسوري الجناح لا راحم لهم ولا عاصم . كي يعطفهم هذا التصور على اليتامى الذين وكلت إليهم أقدارهم بعد أن فقدوا الآباء . فهم لا يدرون أن تكون ذريتهم غداً موكولة إلى من بعدهم من الأحياء كما وكلت إليهم هم أقدار هؤلاء . . مع توصيتهم بتقوى الله فيمن ولاهم الله عليهم من الصغار لعل الله أن يهييء لصغارهم من يتولى أمرهم بالتقوى والتحرج والحنان . وتوصيتهم كذلك بأن يقولوا في شأن اليتامى قولاً سديداً وهم يربونهم ويرعونهم كما يرعون أموالهم ومتاعهم . .
أما اللمسة الثانية فهي صورة مفزعة : صورة النار في البطون . . وصورة السعير في نهاية المطاف . . إن هذا المال . . نار . . وإنهم ليأكلون هذه النار . وإن مصيرهم لإلى النار فهي النار تشوي البطون وتشوي الجلود . هي النار من باطن وظاهر . هي النار مجسمة حتى لتكاد تحسها البطون والجلود وحتى لتكاد تراها العيون وهي تشوي البطون والجلود
ولقد فعلت هذه النصوص القرآنية بإيحاءاتها العنيفة العميقة فعلها في نفوس المسلمين . خلصتها من رواسب الجاهلية . هزتها هزة عنيفة ألقت عنها هذه الرواسب . وأشاعت فيها الخوف والتحرج والتقوى والحذر من المساس - أي مساس - بأموال اليتامى . . كانوا يرون فيها النار التي حدثهم الله عنها في هذه النصوص القوية العميقة الإيحاء . فعادوا يجفلون أن يمسوها ويبالغون في هذا الإجفال
من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : لما نزلت : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } . . الآية . . انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله أو يفسد . فاشتد ذلك عليهم . فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله : { ويسألونك عن اليتامى . قل : إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم . والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم . . } « الآية » فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم . .
وكذلك رفع المنهج القرآني هذه الضمائر إلى ذلك الأفق الوضيء; وطهرها من غبش الجاهلية ذلك التطهير العجيب .

.
والآن نجيء إلى نظام التوارث . حيث يبدأ بوصية الله للوالدين في أولادهم; فتدل هذه الوصية على أنه - سبحانه - أرحم وأبر وأعدل من الوالدين مع أولادهم; كما تدل على أن هذا النظام كله مرده إلى الله سبحانه; فهو الذي يحكم بين الوالدين وأولادهم وبين الأقرباء وأقاربهم . وليس لهم إلا أن يتلقوا منه سبحانه وأن ينفذوا وصيته وحكمه . . وأن هذا هو معنى « الدين » الذي تعنى السورة كلها ببيانه وتحديده كما أسلفنا . . كذلك يبدأ بتقرير المبدأ العام للتوارث : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } . . ثم يأخذ في التفريع وتوزيع الأنصبة في ظل تلك الحقيقة الكلية وفي ظل هذا المبدأ العام . . ويستغرق هذا التفصيل آيتين : أولاهما خاصة بالورثة من الأصول والفروع والثانية خاصة بحالات الزوجية والكلالة . ثم تجيء بقية أحكام الوراثة في آخر آية في السورة استكمالاً لبعض حالات الكلالة ( وسنعرضها في موضعها ) :
{ يوصيكم الله في أولادكم : للذكر مثل حظ الأنثيين . فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك . وإن كانت واحدة فلها النصف . ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك - إن كان له ولد - فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث . فإن كان له أخوة فلأمه السدس - من بعد وصية يوصي بها أو دين - آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً . فريضة من الله إن الله كان عليماً حكيماً . . ولكم نصف ما ترك أزواجكم - إن لم يكن لهن ولد - فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن - من بعد وصية يوصين بها أو دين - ولهن الربع مما تركتم - إن لم يكن لكم ولد - فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم - من بعد وصية توصون بها أو دين - وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس . فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث - من بعد وصية يوصى بها أو دين - غير مضار وصية من الله والله عليم حليم } . .
هاتان الآيتان مضافا إليهما الآية الثالثة التي في نهاية السورة ونصها : { يستفتونك . قل : الله يفتيكم في الكلالة : إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك . وهو يرثها - إن لم يكن لها ولد - فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك . وإن كانوا أخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين . يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم } هذه الآيات الثلاث تتضمن أصول علم الفرائض - أي علم الميراث - أما التفريعات فقد جاءت السّنة ببعضها نصاً واجتهد الفقهاء في بقيتها تطبيقاً على هذه الأصول .

وليس هنا مجال الدخول في هذه التفريعات والتطبيقات فمكانها كتب الفقه - فنكتفي - في ظلال القرآن - بتفسير هذه النصوص والتعقيب على ما تتضمنه من أصول المنهج الإسلامي . .
{ يوصيكم الله في أولادكم : للذكر مثل حظ الأنثيين . . } . .
وهذا الافتتاح يشير - كما ذكرنا - إلى الأصل الذي ترجع إليه هذه الفرائض وإلى الجهة التي صدرت منها كما يشير إلى أن الله أرحم بالناس من الوالدين بالأولاد فإذا فرض لهم فإنما يفرض لهم ما هو خير مما يريده الوالدون بالأولاد . .
وكلا المعنيين مرتبطان ومتكاملان . .
إن الله هو الذي يوصي وهو الذي يفرض وهو الذي يقسم الميراث بين الناس - كما أنه هو الذي يوصي ويفرض في كل شيء وكما أنه هو الذي يقسم الأرزاق جملة - ومن عند الله ترد التنظيمات والشرائع والقوانين وعن الله يتلقى الناس في أخص شؤون حياتهم - وهو توزيع أموالهم وتركاتهم بين ذريتهم وأولادهم - وهذا هو الدين . فليس هناك دين للناس إذا لم يتلقوا في شؤون حياتهم كلها من الله وحده; وليس هناك إسلام إذا هم تلقوا في أي أمر من هذه الأمور - جل أو حقر - من مصدر آخر . إنما يكون الشرك أو الكفر وتكون الجاهلية التي جاء الإسلام ليقتلع جذورها من حياة الناس .
وإن ما يوصي به الله ويفرضه ويحكم به في حياة الناس - ومنه ما يتعلق بأخص شؤونهم وهو قسمة أموالهم وتركاتهم بين ذريتهم وأولادهم - لهو أبر بالناس وأنفع لهم مما يقسمونه هم لأنفسهم ويختارونه لذرياتهم . . فليس للناس أن يقولوا : إنما نختار لأنفسنا . وإنما نحن أعرف بمصالحنا . . فهذا - فوق أنه باطل - هو في الوقت ذاته توقح وتبجح وتعالم على الله وادعاء لا يزعمه إلا متوقح جهول
قال العوفي عن ابن عباس : ( { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } . . وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس - أو بعضهم - وقالوا : تعطى المرأة الربع أو الثمن وتعطى الابنة النصف ويعطى الغلام الصغير . وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينساه أو نقول له فيغير فقالوا : يا رسول الله تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم . ويعطى الصبي الميراث وليس يغني شيئاً - وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ولا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم ويعطونه الأكبر فالأكبر ) . . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير . .
فهذا كان منطق الجاهلية العربية الذي كان يحيك في بعض الصدور; وهي تواجه فريضة الله وقسمته العادلة الحكيمة .

. ومنطق الجاهلية الحاضرة الذي يحيك في بعض الصدور اليوم - وهي تواجه فريضة الله وقسمته - لعله يختلف كثيراً أو قليلاً عن منطق الجاهلية العربية . فيقول : كيف نعطي المال لمن لم يكد فيه ويتعب من الذراري؟ وهذا المنطق كذاك . . كلاهما لا يدرك الحكمة ولا يلتزم الأدب; وكلاهما يجمع من ثم بين الجهالة وسوء الأدب
{ للذكر مثل حظ الأنثيين } . .
وحين لا يكون للميت وارث إلا ذريته من ذكور وإناث فإنهم يأخذون جميع التركة . على أساس أن للبنت نصيباً واحداً وللذكر نصيبين اثنين .
وليس الأمر في هذا أمر محاباة لجنس على حساب جنس . إنما الأمر أمر توازن وعدل بين أعباء الذكر وأعباء الأنثى في التكوين العائلي وفي النظام الاجتماعي الإسلامي : فالرجل يتزوج امرأة ويكلف إعالتها وإعالة أبنائها منه في كل حالة وهي معه وهي مطلقة منه . . . أما هي فإما أن تقوم بنفسها فقط وإما أن يقوم بها رجل قبل الزواج وبعده سواء . وليست مكلفة نفقة للزوج ولا للأبناء في أي حال . . فالرجل مكلف - على الأقل - ضعف أعباء المرأة في التكوين العائلي وفي النظام الاجتماعي الإسلامي . ومن ثم يبدو العدل كما يبدو التناسق بين الغنم والغرم في هذا التوزيع الحكيم . ويبدو كل كلام في هذا التوزيع جهالة من ناحية وسوء أدب مع الله من ناحية أخرى وزعزعة للنظام الاجتماعي والأسريّ لا تستقيم معها حياة .
ويبدأ التقسيم بتوريث الفروع عن الأصول :
{ فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف } .
فإذا لم يكن له ذرية ذكور وله بنتان أو أكثر فلهن الثلثان . فإن كان له بنت واحدة فلها النصف . . ثم ترجع بقية التركة إلى أقرب عاصب له : الأب أو الجد . أو الأخ الشقيق . أو الأخ لأب . أو العم . أو أبناء الأصول . . .
والنص يقول : { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } . . وهذا يثبت الثلثين للبنات - إذا كن فوق اثنتين - أما إثبات الثلثين للبنتين فقط فقد جاء من السنة ومن القياس على الأختين في الآية التي في آخر السورة .
فأما السنة فقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر . قال : « جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيداً; وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً; ولا ينكحان إلا ولهما مال . قال : فقال : » يقضي الله في ذلك « فنزلت آية الميراث . فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمهما فقال : أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك » .

فهذه قسمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للبنتين بالثلثين . فدل هذا على أن البنتين فأكثر لهما الثلثان في هذه الحالة .
وهناك أصل آخر لهذه القسمة; وهو أنه لما ورد في الآية الأخرى عن الأختين : { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } . . كان إعطاء البنتين الثلثين من باب الأولى قياساً على الأختين . وقد سويت البنت الواحدة بالأخت الواحدة كذلك في هذه الحالة .
وبعد الانتهاء من بيان نصيب الذرية يجيء بيان نصيب الأبوين - عند وجودهما - في الحالات المختلفة . مع وجود الذرية ومع عدم وجودها :
{ ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك - إن كان له ولد - فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث . فإن كان له إخوة فلأمه السدس } . .
والأبوان لهما في الإرث أحوال :
الحال الأول : أن يجتمعا مع الأولاد فيفرض لكل واحد منهما السدس والبقية للولد الذكر أو للولد الذكر مع أخته الأنثى أو أخواته : للذكر مثل حظ الأنثيين . فإذا لم يكن للميت إلا بنت واحدة فرض لها النصف وللأبوين لكل واحد منهما السدس وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب فيجمع له في هذه الحالة بين الفرض والتعصيب . أما إذا كان للميت بنتان فأكثر فتأخذان الثلثين ويأخذ كل واحد من الأبوين السدس .
والحال الثاني : ألا يكون للميت ولد ولا إخوة ولا زوج ولا زوجة وينفرد الأبوان بالميراث . فيفرض للأم الثلث ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب فيكون قد أخذ مثل حظ الأم مرتين . فلو كان مع الأبوين زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف أو الزوجة الربع وأخذت الأم الثلث ( إما ثلث التركة كلها أو ثلث الباقي بعد فريضة الزوج أو الزوجة على خلاف بين الأقوال الفقهية ) وأخذ الأب ما يتبقى بعد الأم بالتعصيب على ألا يقل نصيبه عن نصيب الأم .
والحال الثالث : هو اجتماع الأبوين مع الإخوة - سواء كانوا من الأبوين أو من الأب أو من الأم - فإنهم لا يرثون مع الأب شيئاً لأنه مقدم عليهم وهو أقرب عاصب بعد الولد الذكر; ولكنهم - مع هذا - يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس . فيفرض لها معهم السدس فقط . ويأخذ الأب ما تبقى من التركة . إن لم يكن هناك زوج أو زوجة . أما الأخ الواحد فلا يحجب الأم عن الثلث فيفرض لها الثلث معه كما لو لم يكن هناك ولد ولا إخوة .
ولكن هذه الأنصبة كلها إنما تجيء بعد استيفاء الوصية أو الدين :
{ من بعد وصية يوصى بها أو دين } . .
قال ابن كثير في التفسير : « أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية » . . وتقديم الدين مفهوم واضح . لأنه يتعلق بحق الآخرين . فلا بد من استيفائه من مال المورث الذي استدان ما دام قد ترك مالاً توفية بحق الدائن وتبرئة لذمة المدين .

وقد شدد الإسلام في إبراء الذمة من الدين; كي تقوم الحياة على أساس من تحرج الضمير ومن الثقة في المعاملة ومن الطمأنينة في جو الجماعة فجعل الدين في عنق المدين لا تبرأ منه ذمته حتى بعد وفاته :
عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال : « قال رجل : يا رسول الله . أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » نعم . إن قتلت وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر « . ثم قال : » كيف قلت؟ « فأعاد عليه . فقال : نعم . إلا الدين . فإن جبريل أخبرني بذلك » . ( أخرجه مسلم ومالك والترمذي والنسائي ) .
وعن أبي قتادة كذلك : « أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل ليصلي عليه . فقال - صلى الله عليه وسلم - : » صلوا على صاحبكم فإن عليه ديناً « فقلت : هو عليَّ يا رسول الله . قال : » بالوفاء؟ « قلت : بالوفاء . فصلى عليه » .
وأما الوصية فلأن إرادة الميت تعلقت بها . وقد جعلت الوصية لتلافي بعض الحالات التي يحجب فيها بعض الورثة بعضاً . وقد يكون المحجوبون معوزين; أو تكون هناك مصلحة عائلية في توثيق العلاقات بينهم وبين الورثة; وإزالة أسباب الحسد والحقد والنزاع قبل أن تنبت . ولا وصية لوارث . ولا وصية في غير الثلث . وفي هذا ضمان ألا يجحف المورث بالورثة في الوصية .
وفي نهاية الآية تجيء هذا اللمسات المتنوعة المقاصد :
{ آباءكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً . فريضة من الله . إن الله كان عليماً حكيماً } . .
واللمسة الأولى لفتة قرآنية لتطييب النفوس تجاه هذه الفرائض . فهنالك من تدفعهم عاطفتهم الأبوية إلى إيثار الأبناء على الآباء لأن الضعف الفطري تجاه الابناء أكبر . وفيهم من يغالب هذا الضعف بالمشاعر الأدبية والأخلاقية فيميل إلى إيثار الآباء . وفيهم من يحتار ويتأرجح بين الضعف الفطري والشعور الأدبي . . كذلك قد تفرض البيئة بمنطقها العرفي اتجاهات معينة كتلك التي واجه بها بعضهم تشريع الإرث يوم نزل وقد أشرنا إلى بعضها من قبل . . فأراد الله سبحانه أن يسكب في القلوب كلها راحة الرضى والتسليم لأمر الله ولما يفرضه الله; بإشعارها أن العلم كله لله; وأنهم لا يدرون أي الأقرباء أقرب لهم نفعاً ولا أي القسم أقرب لهم مصلحة :
{ آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } . .
واللمسة الثانية لتقرير أصل القضية . فالمسألة ليست مسألة هوى أو مصلحة قريبة . إنما هي مسألة الدين ومسألة الشريعة :
{ فريضة من الله } . .
فالله هو الذي خلق الآباء والأبناء . والله هو الذي أعطى الأرزاق والأموال . والله هو الذي يفرض وهو الذي يقسم وهو الذي يشرع .

وليس للبشر أن يشرعوا لأنفسهم ولا أن يحكموا هواهم كما أنهم لا يعرفون مصلحتهم
{ إن الله كان عليماً حكيماً } . .
وهي اللمسة الثالثة في هذا التعقيب . تجيء لتشعر القلوب بأن قضاء الله للناس - مع أنه هو الأصل الذي لا يحل لهم غيره - فهو كذلك المصلحة المبنية على العلم والحكمة . فالله يحكم لأنه عليم - وهم لا يعلمون - والله يفرض لأنه حكيم - وهم يتبعون الهوى .
وهكذا تتوالى هذه التعقيبات قبل الانتهاء من أحكام الميراث لرد الأمر إلى محوره الأصيل . محوره الاعتقادي . الذي يحدد معنى « الدين » فهو الاحتكام إلى الله . وتلقي الفرائض منه . والرضى بحكمه : { فريضة من الله . إن الله كان عليماً حكيماً } . .
ثم يمضي يبين بقية الفرائض :
{ ولكم نصف ما ترك أزواجكم - إن لم يكن لهن ولد - فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن - من بعد وصية يوصين بها أو دين . ولهن الربع مما تركتم - إن لم يكن لكم ولد - فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم - من بعد وصية توصون بها أو دين - } . .
والنصوص واضحة ودقيقة فللزوج نصف تركة الزوجة إذا ماتت وليس لها ولد - ذكراً أو أنثى - فأما إذا كان لها ولد - ذكراً أو أنثى واحداً أو أكثر - فللزوج ربع التركة . وأولاد البنين للزوجة يحجبون الزوج من النصف إلى الربع كأولادها . وأولادها من زوج آخر يحجبون الزوج كذلك من النصف إلى الربع . . وتقسم التركة بعد الوفاء بالدين ثم الوصية . كما سبق .
والزوجة ترث ربع تركة الزوج - إن مات عنها بلا ولد - فإن كان له ولد - ذكراً أو أنثى . واحداً أو متعدداً . منها أو من غيرها . وكذلك أبناء ابن الصلب - فإن هذا يحجبها من الربع إلى الثمن . . والوفاء بالدين ثم الوصية مقدم في التركة على الورثة . .
والزوجتان والثلاث والأربع كالزوجة الواحدة كلهن شريكات في الربع أو الثمن .
والحكم الأخير في الآية الثانية حكم من يورث كلالة :
{ وإن كان رجل يورث كلالة - أو امرأة - وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس . فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار } . .
والمقصود بالكلالة من يرث الميت من حواشيه - لا من أصوله ولا من فروعه - عن صلة ضعيفة به ليست مثل صلة الأصول والفروع . وقد سئل أبو بكر - رضي الله عنه - عن الكلالة فقال : أقول فيها برأيي . فإن يكن صواباً فمن الله . وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان . والله ورسوله بريئان منه : الكلالة من لا ولد له ولا والد .

فلما ولي عمر قال : إني لأستحيي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه . ( رواه ابن جرير وغيره عن الشعبي ) . .
قال ابن كثير في التفسير : « وهكذا قال علي وابن مسعود . وصح عن غير واحد عن ابن عباس وزيد ابن ثابت . وبه يقول الشعبي والنخعي والحسن وقتادة وجابر بن زيد والحكم . وبه يقول أهل المدينة وأهل الكوفة والبصرة . وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف . بل جميعهم . وقد حكى الإجماع عليه غير واحد » . .
{ وإن كان رجل يورث كلالة - أو امرأة - وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس . فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } . .
وله أخ أو أخت - أي من الأم - فلو كانا من الأبوين أو من الأب وحده لورثا وفق ما ورد في الآية الأخيرة من السورة للذكر مثل حظ الأنثيين : لا السدس لكل منهما سواء كان ذكراً أم أنثى . فهذا الحكم خاص بالأخوة من الأم . إذ أنهم يرثون بالفرض - السدس لكل من الذكر أو الأنثى - لا بالتعصيب وهو أخذ التركة كلها أو ما يفضل منها بعد الفرائض :
{ فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } . .
مهما بلغ عددهم ونوعهم ، والقول المعمول به هو أنهم يرثون في الثلث على التساوي . وإن كان هناك قول بأنهم - حينئذ - يرثون في الثلث : للذكر مثل حظ الأنثيين . ولكن الأول أظهر لأنه يتفق مع المبدأ الذي قررته الآية نفسها في تسوية الذكر بالأنثى : { فلكل واحد منهما السدس } . .
والإخوة لأم يخالفون - من ثم - بقية الورثة من وجوه :
أحدها : أن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء .
والثاني : أنهم لا يرثون إلا أن يكون ميتهم يورث كلالة . فلا يرثون مع أب ولا جد ولا ولد ولا ولد ابن .
والثالث : أنهم لا يزادون على الثلث وإن كثر ذكورهم وإناثهم .
{ من بعد وصية يوصى بها أو دين - غير مضار } . .
تحذيراً من أن تكون الوصية للإضرار بالورثة . لتقام على العدل والمصلحة . مع تقديم الدين على الوصية . وتقديمهما معاً على الورثة كما أسلفنا . .
ثم يجيء التعقيب في الآية الثانية - كما جاء في الآية الأولى - :
{ وصية من الله . والله عليم حليم } . .
وهكذا يتكرر مدلول هذا التعقيب لتوكيده وتقريره . . فهذه الفرائض { وصية من الله } صادرة منه; ومردها إليه . لا تنبع من هوى ، ولا تتبع الهوى . صادرة عن علم . . فهي واجبة الطاعة لأنها صادرة من المصدر الوحيد الذي له حق التشريع والتوزيع . وهي واجبة القبول لأنها صادرة من المصدر الوحيد الذي عنده العلم الأكيد .
توكيد بعد توكيد للقاعدة الأساسية في هذه العقيدة . قاعدة التلقي من الله وحده وإلا فهو الكفر والعصيان والخروج من هذا الدين .

وهذا ما تقرره الآيتان التاليتان في السورة تعقيباً نهائياً على تلك الوصايا والفرائض . حيث يسميها الله بالحدود :
{ تلك حدود الله . ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . وذلك الفوز العظيم . ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين } . .
تلك الفرائض وتلك التشريعات التي شرعها الله لتقسيم التركات وفق علمه وحكمته ولتنظيم العلاقات العائلية في الأسرة والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع . . { تلك حدود الله } . . حدود الله التي أقامها لتكون هي الفيصل في تلك العلاقات ولتكون هي الحكم في التوزيع والتقسيم .
ويترتب على طاعة الله ورسوله فيها الجنة والخلود والفوز العظيم . كما يترتب على تعديها وعصيان الله ورسوله فيها النار والخلود والعذاب المهين . .
لماذا؟ لماذا تترتب كل هذه النتائج الضخمة على طاعة أو معصية في تشريع جزئي كتشريع الميراث; وفي جزئية من هذا التشريع وحد من حدوده؟
إن الآثار تبدو أضخم من الفعل . . لمن لا يعرف حقيقة هذا الأمر وأصله العميق . .
إن هذا الأمر تتولى بيانه نصوص كثيرة في السورة ستجيء . وقد أشرنا إليها في مقدمة التعريف بهذه السورة - وهي النصوص التي تبين معنى الدين ، وشرط الإيمان ، وحد الإسلام . ولكن لا بأس أن نستعجل بيان هذا الأمر - على وجه الإجمال - بمناسبة هاتين الآيتين الخطيرتين في هذا التعقيب على آيتي المواريث :
إن الأمر في هذا الدين - الإسلام - بل في دين الله كله منذ أن أرسل رسله للناس منذ فجر التاريخ . . إن الأمر في دين الله كله هو : لمن الألوهية في هذه الأرض؟ ولمن الربوبية على هؤلاء الناس؟
وعلى الإجابة عن هذا السؤال في صيغتيه هاتين يترتب كل شيء في أمر هذا الدين . وكل شيء في أمر الناس أجمعين
لمن الألوهية؟ ولمن الربوبية؟
لله وحده - بلا شريك من خلقه - فهو الإيمان إذن وهو الإسلام وهو الدين .
لشركاء من خلقه معه أو لشركاء من خلقه دونه فهو الشرك إذن أو الكفر المبين .
فأما إن تكن الألوهية والربوبية لله وحده فهي الدينونة من العباد لله وحده . وهي العبودية من الناس لله وحده . وهي الطاعة من البشر لله وحده وهي الأتباع لمنهج الله وحده بلا شريك . . فالله وحده هو الذي يختار للناس منهج حياتهم . والله وحده هو الذي يسن للناس شرائعهم . والله وحده هو الذي يضع للناس موازينهم وقيمهم وأوضاع حياتهم وأنظمة مجتمعاتهم . . وليس لغيره - أفراداً أو جماعات - شيء من هذا الحق إلا بالارتكان إلى شريعة الله . لأن هذا الحق هو مقتضى الألوهية والربوبية . ومظهرها البارز المحدد لخصائصها المميزة .
وأما إن تكن الألوهية أو الربوبية لأحد من خلق الله - شركة مع الله أو أصالة من دونه - فهي الدينونة من العباد لغير الله .

وهي العبودية من الناس لغير الله . وهي الطاعة من البشر لغير الله . وذلك بالاتباع للمناهج والأنظمة والشرائع والقيم والموازين التي يضعها ناس من البشر لا يستندون في وضعها إلى كتاب الله وسلطانه; إنما يستندون إلى أسناد أخرى يستمدون منها السلطان . . ومن ثم فلا دين ولا إيمان ولا إسلام . إنما هو الشرك والكفر والفسوق والعصيان . .
هذا هو الأمر في جملته وفي حقيقته . . ومن ثم يستوي أن يكون الخروج على حدود الله في أمر واحد أو في الشريعة كلها . . لأن الأمر الواحد هو الدين - على ذلك المعنى - والشريعة كلها هي الدين . . فالعبرة بالقاعدة التي تستند إليها أوضاع الناس . . أهي إخلاص الألوهية والربوبية لله - بكل خصائصها - أو إشراك أحد من خلقه معه . أو استقلال خلقه دونه بالألوهية والربوبية بعضهم على بعض . مهما ادعوا لأنفسهم من الدخول في الدين ومهما رددت ألسنتهم - دون واقعهم - أنهم مسلمون
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يشير إليها هذا التعقيب الذي يربط بين توزيع أنصبة من التركة على الورثة وبين طاعة الله ورسوله أو معصية الله ورسوله . وبين جنة تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها; ونار خالدة وعذاب مهين
وهذه هي الحقيقة الكبيرة التي تتكىء عليها نصوص كثيرة في هذه السورة وتعرضها عرضاً صريحاً حاسماً لا يقبل المماحكة ولا يقبل التأويل .
وهذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يتبينها الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام في هذه الأرض ليروا أين هم من هذا الإسلام وأين حياتهم من هذا الدين
ثم لا بد كذلك من إضافة كلمة مجملة عن نظام الإرث في الإسلام; بعد ما ذكرناه عن هذا النظام عندما تعرضنا للآية التي تقرر المبدأ العام : { للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } وما ذكرناه كذلك عن مبدأ : { للذكر مثل حظ الأنثيين } . .
إن هذا النظام في التوريث هو النظام العادل المتناسق مع الفطرة ابتداء; ومع واقعيات الحياة العائلية والإنسانية في كل حال . يبدو هذا واضحاً حين نوازنه بأي نظام آخر عرفته البشرية في جاهليتها القديمة أو جاهليتها الحديثة في أية بقعة من بقاع الأرض على الإطلاق .
إنه نظام يراعي معنى التكافل العائلي كاملاً ويوزع الأنصبة على قدر واجب كل فرد في الأسرة في هذا التكافل . فعصبة الميت هم أولى من يرثه - بعد أصحاب الفروض كالوالد والوالدة - لأنهم هم كذلك أقرب من يتكفل به ومن يؤدي عنه في الديات والمغارم . فهو نظام متناسق ومتكامل .
وهو نظام يراعي أصل تكوين الأسرة البشرية من نفس واحدة . فلا يحرم امرأة ولا صغيراً لمجرد أنه امرأة أو صغير . لأنه مع رعايته للمصالح العملية - كما بينا في الفقرة الأولى - يرعى كذلك مبدأ الوحدة في النفس الواحدة .

فلا يميز جنساً على جنس إلا بقدر أعبائه في التكافل العائلي والاجتماعي .
وهو نظام يراعي طبيعة الفطرة الحية بصفة عامة وفطرة الإنسان بصفة خاصة . فيقدم الذرية في الإرث على الأصول وعلى بقية القرابة . لأن الجيل الناشىء هو أداة الامتداد وحفظ النوع . فهو أولى بالرعاية - من وجهة نظر الفطرة الحية - ومع هذا فلم يحرم الأصول ولم يحرم بقية القرابات . بل جعل لكل نصيبه . مع مراعاة منطق الفطرة الأصيل .
وهو نظام يتمشى مع طبيعة الفطرة كذلك في تلبية رغبة الكائن الحي - وبخاصة الإنسان - في أن لا تنقطع صلته بنسله وأن يمتد في هذا النسل . ومن ثم هذا النظام الذي يلبي هذه الرغبة ويطمئن الإنسان الذي بذل جهده في ادخار شيء من ثمرة عمله إلى أن نسله لن يحرم من ثمرة هذا العمل وأن جهده سيرثه أهله من بعده . مما يدعوه إلى مضاعفة الجهد ومما يضمن للأمة النفع والفائدة - في مجموعها - من هذا الجهد المضاعف . مع عدم الإخلال بمبدأ التكافل الاجتماعي العام الصريح القوي في هذا النظام .
وأخيراً فهو نظام يضمن تفتيت الثروة المتجمعة على رأس كل جيل وإعادة توزيعها من جديد . فلا يدع مجالاً لتضخم الثروة وتكدسها في أيد قليلة ثابتة - كما يقع في الأنظمة التي تجعل الميراث لأكبر ولد ذكر أو تحصره في طبقات قليلة - وهو من هذه الناحية أداة متجددة الفاعلية في إعادة التنظيم الاقتصادي في الجماعة ورده إلى الاعتدال دون تدخل مباشر من السلطات . . هذا التدخل الذي لا تستريح إليه النفس البشرية بطبيعة ما ركب فيها من الحرص والشح . فأما هذا التفتيت المستمر والتوزيع المتجدد; فيتم والنفس به راضية لأنه يماشي فطرتها وحرصها وشحها وهذا هو الفارق الأصيل بين تشريع الله لهذه النفس وتشريع الناس

وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)

مضى الشوط الأول من السورة يعالج تنظيم حياة المجتمع المسلم واستنقاذه من رواسب الجاهلية بإقامة الضمانات لليتامى وأموالهم وأنفسهم في محيط الأسرة وفي محيط الجماعة يعالج نظام التوارث في المحيط العائلي ويرد تلك الضمانات وهذا النظام إلى مصدرهما الأساسي : وهو ألوهية الله للبشر وربوبيته للناس وإرادته من خلقهم جميعاً من نفس واحدة وإقامة المجتمع الإنساني على قاعدة الأسرة وعلى أساس التكافل . وردهم في كل شؤون حياتهم إلى حدود الله وعلمه وحكمته ومجازاتهم على أساس طاعته في هذا كله أو معصيته .
فأما هذا الشوط الثاني فيمضي في تنظيم حياة المجتمع المسلم واستنقاذه من رواسب الجاهلية بتطهير هذا المجتمع من الفاحشة وعزل العناصر الملوثة التي تقارفها من الرجال والنساء مع فتح باب التوبة لمن يشاء من هذه العناصر أن يتوب ويتطهر ويرجع إلى المجتمع نظيفاً عفيفاً . . ثم باستنقاذ المرأة مما كانت ترزح تحته في الجاهلية من خسف وهوان ومن عسف وظلم حتى تقوم الأسرة على أساس سليم ركين ومن ثم يقوم المجتمع - وقاعدته الأسرة - على أرض صلبة وفي جو نظيف عفيف . . وأخيراً ينظم جانباً من حياة الأسرة ببيان المحرمات في الشريعة الإسلامية وبيان ما وراءهن من الحلال .
وبهذا البيان ينتهي هذا الشوط وينتهي هذا الجزء كذلك .
{ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم . فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً . واللذان يأتيانها منكم فآذوهما . فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما . إن الله كان تواباً رحيماً } . .
إن الإسلام يمضي هنا على طريقه في تطهير المجتمع وتنظيفه; وقد اختار - في أول الأمر - عزل الفاحشات من النسوة ، وإبعادهن عن المجتمع متى ثبت عليهن ارتكاب الفاحشة . وإيذاء الرجال الذين يأتون الفاحشة الشاذة ويعملون عمل قوم لوط . ولم يحدد نوع الإيذاء ومداه . ثم اختار - فيما بعد - عقاب هؤلاء النسوة وعقاب الرجال أيضاً عقوبة واحدة هي حد الزنا كما ورد في آية سورة النور وهي الجلد; وكما جاءت بها السنة أيضاً وهي الرجم . والهدف الأخير من هذه أو تلك هو صيانة المجتمع من التلوث والمحافظة عليه نظيفاً عفيفاً شريفاً .
وفي كل حالة وفي كل عقوبة يوفر التشريع الإسلامي الضمانات التي يتعذر معها الظلم والخطأ والأخذ بالظن والشبهة; في عقوبات خطيرة تؤثر في حياة الناس تأثيراً خطيراً .
{ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم . فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً } . .
وفي النص دقة واحتياط بالغان . فهو يحدد النساء اللواتي ينطبق عليهن الحد : { من نسائكم } - أي المسلمات - ويحدد نوع الرجال الذين يستشهدون على وقوع الفعل : { من رجالكم } - أي المسلمين - فحسب هذا النص يتعين من توقع عليهن العقوبة إذا ثبت الفعل .

ويتعين من تطلب إليهم الشهادة على وقوعه .
إن الإسلام لا يستشهد على المسلمات - حين يقعن في الخطيئة - رجالاً غير مسلمين . بل لا بد من أربعة رجال مسلمين . منكم . من هذا المجتمع المسلم . يعيشون فيه ويخضعون لشريعته ويتبعون قيادته ويهمهم أمره ويعرفون ما فيه ومن فيه . ولا تجوز في هذا الأمر شهادة غير المسلم لأنه غير مأمون على عرض المسلمة وغير موثوق بأمانته وتقواه ولا مصلحة له ولا غيرة كذلك على نظافة هذا المجتمع وعفته ولا على إجراء العدالة فيه . وقد بقيت هذه الضمانات في الشهادة حين تغير الحكم وأصبح هو الجلد أو الرجم . .
{ فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت } . .
لا يختلطن بالمجتمع ولا يلوثنه ولا يتزوجن ولا يزاولن نشاطاً . .
{ حتى يتوفاهن الموت } . .
فينتهي أجلهن وهن على هذه الحال من الإمساك في البيوت .
{ أو يجعل الله لهن سبيلاً } . .
فيغير ما بهن أو يغير عقوبتهن أو يتصرف في أمرهن بما يشاء . . مما يشعر أن هذا ليس الحكم النهائي الدائم وإنما هو حكم فترة معينة وملابسات في المجتمع خاصة . وأنه يتوقع صدور حكم آخر ثابت دائم . وهذا هو الذي وقع بعد ذلك فتغير الحكم كما ورد في سورة النور وفي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن لم تتغير الضمانات المشددة في تحقيق الجريمة .
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت . قال « كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب لذلك وتغير وجهه . فأنزل الله عليه عز وجل ذات يوم فلما سري عنه قال : خذوا عني . . قد جعل الله لهن سبيلاً . . الثيب بالثيب والبكر بالبكر . الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة . والبكر جلد مائة ثم نفي سنة » . وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة عن الحسن عن حطان عن عبادة بن الصامت . عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظه : « خذوا عني . خذوا عني . قد جعل الله لهن سبيلاً : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام . والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة » . وقد ورد عن السنة العملية في حادث ماعز والغامدية كما ورد في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجمهما ولم يجلدهما . وكذلك في حادث اليهودي واليهودية اللذين حكم في قضيتهما فقضى برجمهما ولم يجلدهما . . فدلت سنته العملية على أن هذا هو الحكم الأخير :
{ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما . فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان تواباً رحيماً } .

والأوضح أن المقصود بقوله تعالى { واللذان يأتيانها منكم . . . } هما الرجلان يأتيان الفاحشة الشاذة . وهو قول مجاهد - رضي الله عنه - وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما : { فآذوهما } : هو الشتم والتعيير والضرب بالنعال
{ فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } . .
فالتوبة والإصلاح - كما سيأتي - تعديل أساسي في الشخصية والكينونة والوجهة والطريق والعمل والسلوك . ومن ثم تقف العقوبة وتكف الجماعة عن إيذاء هذين المنحرفين الشاذين . وهذا هو الإعراض عنهما في هذا الموضع : أي الكف عن الإيذاء .
والإيماءة اللطيفة العميقة :
{ إن الله كان تواباً رحيماً } . .
وهو الذي شرع العقوبة وهو الذي يأمر بالكف عنها عند التوبة والإصلاح . ليس للناس من الأمر شيء في الأولى وليس لهم من الأمر شيء في الأخيرة . إنما هم ينفذون شريعة الله وتوجيهه . وهو تواب رحيم . يقبل التوبة ويرحم التائبين .
واللمسة الثانية في هذه الإيماءة هي توجيه قلوب العباد للاقتباس من خلق الله والتعامل فيما بينهم بهذا الخلق . وإذا كان الله تواباً رحيماً فينبغي لهم أن يكونوا هم فيما بينهم متسامحين رحماء; أمام الذنب الذي سلف وأعقبه التوبة والإصلاح . إنه ليس تسامحاً في الجريمة وليس رحمة بالفاحشين . فهنا لا تسامح ولا رحمة . ولكن سماحة ورحمة بالتائبين المتطهرين المصلحين وقبولهم في المجتمع وعدم تذكيرهم وتعييرهم بما كان منهم من ذنب تابوا عنه وتطهروا منه وأصلحوا حالهم بعده فينبغي - حينئذ - مساعدتهم على استئناف حياة طيبة نظيفة كريمة ونسيان جريمتهم حتى لا تثير في نفوسهم التأذي كلما واجهوا المجتمع بها; مما قد يحمل بعضهم على الانتكاس والارتكاس واللجاج في الخطيئة وخسارة أنفسهم في الدنيا والآخرة . والإفساد في الأرض وتلويث المجتمع والنقمة عليه في ذات الأوان .
وقد عدلت هذه العقوبة كذلك - فيما بعد - فروى أهل السنن حديثاً مرفوعاً عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : « قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به » .
وتبدو في هذه الأحكام عناية المنهج الإسلامي بتطهير المجتمع المسلم من الفاحشة; ولقد جاءت هذه العناية مبكرة : فالإسلام لم ينتظر حتى تكون له دولة في المدينة وسلطة تقوم على شريعة الله وتتولاها بالتنفيذ . فقد ورد النهي عن الزنا في سورة الإسراء المكية : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } كما ورد في سورة المؤمنون : { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } { والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين } وكرر هذا القول في سورة المعارج .
ولكن الإسلام لم تكن له في مكة دولة ولم تكن له فيها سلطة; فلم يسن العقوبات لهذه الجريمة التي نهى عنها في مكة إلا حين استقامت له الدولة والسلطة في المدينة ولم يعتبر النواهي والتوجيهات وحدها كافية لمكافحة الجريمة وصيانة المجتمع من التلوث .

لأن الإسلام دين واقعي يدرك أن النواهي والتوجيهات وحدها لا تكفي ويدرك أن الدين لا يقوم بدون دولة وبدون سلطة . وإن الدين هو المنهج أو النظام الذي تقوم عليه حياة الناس العملية وليس مجرد مشاعر وجدانية تعيش في الضمير بلا سلطة وبلا تشريع وبلا منهج محدد ودستور معلوم
ومنذ أن استقرت العقيدة الإسلامية في بعض القلوب في مكة أخذت هذه العقيدة تكافح الجاهلية في هذه القلوب وتطهرها وتزكيها . فلما أن أصبحت للإسلام دولة في المدينة وسلطة تقوم على شريعة معلومة وتحقق في الأرض منهج الله في صورة محددة أخذ يزاول سلطته في صون المجتمع من الفاحشة عن طريق العقوبة والتأديب - إلى جانب التوجيه والموعظة - فالإسلام كما قلنا ليس مجرد اعتقاد وجداني في الضمير إنما هو - إلى جانب ذلك - سلطان ينفذ في واقع الحياة ذلك الاعتقاد الوجداني ولا يقوم أبداً على ساق واحدة .
وكذلك كان كل دين جاء من عند الله . على عكس ما رسخ خطأ في بعض الأذهان من أن هناك أدياناً سماوية جاءت بغير شريعة وبغير نظام ، وبغير سلطان . . كلا فالدين منهج للحياة . منهج واقعي عملي . يدين الناس فيه لله وحده ويتلقون فيه من الله وحده . يتلقون التصور الاعتقادي والقيم الأخلاقية كما يتلقون الشرائع التي تنظم حياتهم العملية . وتقوم على هذه الشرائع سلطة تنفذها بقوة السلطان في حياة الناس وتؤدب الخارجين عليها وتعاقبهم وتحمي المجتمع من رجس الجاهلية . لتكون الدينونة لله وحده ويكون الدين كله لله . أي لا تكون هناك آلهة غيره - في صورة من الصور - آلهة تشرع للناس وتضع لهم القيم والموازين والشرائع والأنظمة . فالإله هو الذي يصنع هذا كله . وأيما مخلوق ادعى لنفسه الحق في شيء من هذا فقد ادعى لنفسه الألوهية على الناس . . وما من دين من عند الله يسمح لبشر أن يكون إلهاً وأن يدعي لنفسه هذه الدعوى ويباشرها . . ومن ثم فإنه ما من دين من عند الله يجيء اعتقاداً وجدانياً صرفاً بلا شريعة عملية وبلا سلطان ينفذ به هذه الشريعة
وهكذا أخذ الإسلام في المدينة يزاول وجوده الحقيقي; بتطهير المجتمع عن طريق التشريع والتنفيذ والعقوبة والتأديب . على نحو ما رأينا في هذه الأحكام التي تضمنتها هذه السورة والتي عدلت فيما بعد ثم استقرت على ذلك التعديل . كما أرادها الله .
ولا عجب في هذه العناية الظاهرة بتطهير المجتمع من هذه الفاحشة; والتشدد الظاهر في مكافحتها بكل وسيلة . فالسمة الأولى للجاهلية - في كل زمان - كما نرى في جاهليتنا الحاضرة التي تعم وجه الأرض - هي الفوضى الجنسية والانطلاق البهيمي بلا ضابط من خلق أو قانون .

واعتبار هذه الاتصالات الجنسية الفوضوية مظهراً من مظاهر « الحرية الشخصية » لا يقف في وجهها إلا متعنت ولا يخرج عليها إلا متزمت
ولقد يتسامح الجاهليون في حرياتهم « الإنسانية » كلها ولا يتسامحون في حريتهم « البهيمية » هذه وقد يتنازلون عن حرياتهم تلك كلها ولكنهم يهبون في وجه من يريد أن ينظم لهم حريتهم البهيمية ويطهرها
وفي المجتمعات الجاهلية تتعاون جميع الأجهزة على تحطيم الحواجز الأخلاقية وعلى إفساد الضوابط الفطرية في النفس الإنسانية وعلى تزيين الشهوات البهيمية ووضع العناوين البريئة لها وعلى إهاجة السعار الجنسي بشتى الوسائل ودفعه إلى الإفضاء العملي بلا ضابط وعلى توهين ضوابط الأسرة ورقابتها وضوابط المجتمع ورقابته وعلى ترذيل المشاعر الفطرية السليمة التي تشمئز من الشهوات العارية وعلى تمجيد هذه الشهوات وتمجيد العري العاطفي والجسدي والتعبيري
كل هذا من سمات الجاهلية الهابطة التي جاء الإسلام ليطهر المشاعر البشرية والمجتمعات البشرية منها . وهي هي بعينها سمة كل جاهلية . . والذي يراجع أشعار امرىء القيس في جاهلية العرب يجد لها نظائر في أشعار الجاهلية الإغريقية والجاهلية الرومانية . . كما يجد لها نظائر في الآداب والفنون المعاصرة في جاهلية العرب والجاهليات الأخرى المعاصرة أيضاً كما أن الذي يراجع تقاليد المجتمع وتبذل المرأة ومجون العشاق وفوضى الاختلاط في جميع الجاهليات قديمها وحديثها يجد بينها كلها شبهاً ورابطة ويجدها تنبع من تصورات واحدة وتتخذ لها شعارات متقاربة
ومع أن هذا الانطلاق البهيمي ينتهي دائماً بتدمير الحضارة وتدمير الأمة التي يشيع فيها - كما وقع في الحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية والحضارة الفارسية قديماً - وكما يقع اليوم في الحضارة الأوربية وفي الحضارة الأمريكية كذلك وقد أخذت تتهاوى على الرغم من جميع مظاهر التقدم الساحق في الحضارة الصناعية . الأمر الذي يفزع العقلاء هناك . وإن كانوا يشعرون - كما يبدو من أقوالهم - بأنهم أعجز من الوقوف في وجه التيار المدمر
مع أن هذه هي العاقبة فإن الجاهليين - في كل زمان وفي كل مكان - يندفعون إلى الهاوية ويقبلون أن يفقدوا حرياتهم « الإنسانية » كلها أحياناً ولا يقبلون أن يقف حاجز واحد في طريق حريتهم « البهيمية » . ويرضون أن يستعبدوا استعباد العبيد ولا يفقدوا حق الانطلاق الحيواني
وهو ليس انطلاقاً وليس حرية . إنما هي العبودية للميل الحيواني والانتكاس إلى عالم البهيمة بل هم أضل فالحيوان محكوم - في هذا - بقانون الفطرة التي تجعل للوظيفة الجنسية مواسم لا تتعداها في الحيوان ، وتجعلها مقيدة دائماً بحكمة الإخصاب والإنسال . فلا تقبل الأنثى الذكر إلا في موسم الإخصاب ولا يهاجم الذكر الأنثى إلا وهي على استعداد أما الإنسان فقد تركه الله لعقله; وضبط عقله بعقيدته . فمتى انطلق من العقيدة ضعف عقله أمام الضغط ولم يصبح قادراً على كبح جماح النزوة المنطلقة في كيانه .

ومن ثم يستحيل ضبط هذا الاندفاع وتطهير وجه المجتمع من هذا الرجس إلا بعقيدة تمسك بالزمام وسلطان يستمد من هذه العقيدة وسلطة تأخذ الخارجين المتبجحين بالتأديب والعقوبة . وترد الكائن البشري بل ترفعه من درك البهيمة إلى مقام « الإنسان » الكريم على الله .
والجاهلية التي تعيش فيها البشرية تعيش بلا عقيدة كما تعيش بلا سلطة تقوم على هذه العقيدة ومن ثم يصرخ العقلاء في الجاهليات الغربية ولا يستجيب لهم أحد; لأن أحداً لا يستجيب لكلمات طائرة في الهواء ليس وراءها سلطة تنفيذية وعقوبات تأديبية . وتصرخ الكنيسة ويصرخ رجال الدين ولا يستجيب لهم أحد; لأن أحداً لا يستجيب لعقيدة ضائعة ليس وراءها سلطة تحميها وتنفذ توجيهاتها وشرائعها وتندفع البشرية إلى الهاوية بغير ضابط من الفطرة التي أودعها الله الحيوان وبغير ضابط من العقيدة والشريعة التي أعطاها الله الإنسان
وتدمير هذه الحضارة هو العاقبة المؤكدة التي توحي بها كل تجارب البشرية السابقة . مهما بدا من متانة هذه الحضارة وضخامة الأسس التي تقوم عليها . « فالإنسان » - بلا شك - هو أضخم هذه الأسس . ومتى دمر الإنسان فلن تقوم الحضارة على المصانع وحدها ولا على الإنتاج
وحين ندرك عمق هذه الحقيقة ندرك جانباً من عظمة الإسلام ، في تشديد عقوباته على الفاحشة لحماية « الإنسان » من التدمير; كي تقوم الحياة الإنسانية على أساسها الإنساني الأصيل . كما ندرك جانباً من جريمة الأجهزة التي تدمر أسس الحياة الإنسانية بتمجيد الفاحشة وتزيينها وإطلاق الشهوات البهيمية من عقالها وتسمية ذلك أحياناً « بالفن » وأحياناً « بالحرية » وأحياناً « بالتقدمية » . . وكل وسيلة من وسائل تدمير « الإنسان » ينبغي تسميتها باسمها . . جريمة . . كما ينبغي الوقوف بالنصح والعقوبة في وجه هذه الجريمة . . وهذا ما يصنعه الإسلام . والإسلام وحده; بمنهجه الكامل المتكامل القويم .
على أن الإسلام لا يغلق الأبواب في وجه الخاطئين والخاطئات ولا يطردهم من المجتمع إن أرادوا أن يعودوا إليه متطهرين تائبين ، بل يفسح لهم الطريق ويشجعهم على سلوكه . ويبلغ من التشجيع أن يجعل الله قبول توبتهم - متى أخلصوا فيها - حقاً عليه سبحانه يكتبه على نفسه بقوله الكريم . وليس وراء هذا الفضل زيادة لمستزيد .
{ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب . فأولئك يتوب الله عليهم . وكان الله عليماً حكيماً . وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال : إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار . أولئك أعتدنا لهم عذاباً اليماً } .
ولقد سبق في هذا الجزء حديث عن التوبة . في ظلال قوله تعالى في سورة آل عمران : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم . . . }

وهو بجملته يصح نقله هنا ولكن التعبير في هذه السورة يستهدف غرضاً آخر . . يستهدف بيان طبيعة التوبة وحقيقتها :
إن التوبة التي يقبلها الله والتي تفضل فكتب على نفسه قبولها هي التي تصدر من النفس فتدل على أن هذه النفس قد أنشئت نشأة أخرى . قد هزها الندم من الأعماق ورجها رجاً شديداً حتى استفاقت فثابت وأنابت وهي في فسحة من العمر وبحبوحة من الأمل واستجدت رغبة حقيقية في التطهر ونية حقيقية في سلوك طريق جديد . .
{ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم . وكان الله عليماً حكيماً } . .
والذين يعملون السوء بجهالة هم الذين يرتكبون الذنوب . . وهناك ما يشبه الإجماع على أن الجهالة هنا معناها الضلالة عن الهدى - طال أمدها أم قصر - ما دامت لا تستمر حتى تبلغ الروح الحلقوم . . والذين يتوبون من قريب : هم الذين يثوبون إلى الله قبل أن يتبين لهم الموت ويدخلوا في سكراته ويحسوا أنهم على عتباته . فهذه التوبة حينئذ هي توبة الندم والانخلاع من الخطيئة والنية على العمل الصالح والتكفير . وهي إذن نشأة جديدة للنفس ويقظة جديدة للضمير . . { فأولئك يتوب الله عليهم } . . { وكان الله عليماً حكيماً } . . يتصرف عن علم وعن حكمة . ويمنح عباده الضعاف فرصة العودة إلى الصف الطاهر ولا يطردهم أبداً وراء الأسوار وهم راغبون رغبة حقيقية في الحمى الآمن والكنف الرحيم .
إن الله - سبحانه - لا يطارد عباده الضعاف ولا يطردهم متى تابوا إليه وأنابوا . وهو - سبحانه - غني عنهم وما تنفعه توبتهم ولكن تنفعهم هم أنفسهم وتصلح حياتهم وحياة المجتمع الذي يعيشون فيه . ومن ثم يفسح لهم في العودة إلى الصف تائبين متطهرين .
{ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال : إني تبت الآن } .
فهذه التوبة هي توبة المضطر لجت به الغواية وأحاطت به الخطيئة . توبة الذي يتوب لأنه لم يعد لديه متسع لارتكاب الذنوب ولا فسحة لمقارفة الخطيئة . وهذه لا يقبلها الله لأنها لا تنشىء صلاحاً في القلب ولا صلاحاً في الحياة ولا تدل على تبدل في الطبع ولا تغير في الاتجاه .
والتوبة إنما تقبل لأنها الباب المفتوح الذي يلجه الشاردون إلى الحمى الآمن فيستردون أنفسهم من تيه الضلال وتستردهم البشرية من القطيع الضال تحت راية الشيطان ليعملوا عملاً صالحاً - إن قدر الله لهم امتداد العمر بعد المتاب - أو ليعلنوا - على الأقل - انتصار الهداية على الغواية . إن كان الأجل المحدود ينتظرهم من حيث لا يشعرون أنه لهم بالوصيد . .
{ ولا الذين يموتون وهم كفار } . .
وهؤلاء قد قطعوا كل ما بينهم وبين التوبة من وشيجة وضيعوا كل ما بينهم وبين المغفرة من فرصة .

. { أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً } .
اعتدناه : أي أعددناه وهيأناه . . فهو حاضر في الانتظار لا يحتاج إلى إعداد أو إحضار
وهكذا يشتد المنهج الرباني في العقوبة ولكنه في الوقت ذاته يفتح الباب على مصراعيه للتوبة . فيتم التوازن في هذا المنهج الرباني الفريد وينشىء آثاره في الحياة كما لا يملك منهج آخر أن يفعل في القديم والجديد . .
والموضوع الثاني في هذا الدرس هو موضوع المرأة . .
ولقد كانت الجاهلية العربية - كما كانت سائر الجاهليات من حولهم - تعامل المرأة معاملة سيئة . . لا تعرف لها حقوقها الإنسانية فتنزل بها عن منزلة الرجل نزولاً شنيعاً يدعها أشبه بالسلعة منها بالإنسان . وذلك في الوقت الذي تتخذ منها تسلية ومتعة بهيمية وتطلقها فتنة للنفوس وإغراء للغرائز ومادة للتشهي والغزل العاري المكشوف . . فجاء الإسلام ليرفع عنها هذا كله ويردها إلى مكانها الطبيعي في كيان الأسرة وإلى دورها الجدي في نظام الجماعة البشرية . المكان الذي يتفق مع المبدأ العام الذي قرره في مفتتح هذه السورة : { الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } ثم ليرفع مستوى المشاعر الإنسانية في الحياة الزوجية من المستوى الحيواني الهابط إلى المستوى الإنساني الرفيع ويظللها بظلال الاحترام والمودة والتعاطف والتجمل; وليوثق الروابط والوشائج فلا تنقطع عند الصدمة الأولى وعند الانفعال الأول :
{ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن - إلا أن يأتين بفاحشة مبينة - وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً . وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً . أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً؟ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً؟ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً } . .
كان بعضهم في الجاهلية العربية - قبل أن ينتشل الإسلام العرب من هذه الوهدة ويرفعهم إلى مستواه الكريم - إذا مات الرجل منهم فأولياؤه أحق بامرأته يرثونها كما يرثون البهائم والمتروكات إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وأخذوا مهرها - كما يبيعون البهائم والمتروكات - وإن شاءوا عضلوها وأمسكوها في البيت . دون تزويج حتى تفتدي نفسها بشيء . .
وكان بعضهم إذا توفي عن المرأة زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه فمنعها من الناس وحازها كما يحوز السلب والغنيمة فإن كانت جميلة تزوجها; وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها أو تفتدي نفسها منه بمال فأما إذا فاتته فانطلقت إلى بيت أهلها قبل أن يدركها فيلقي عليها ثوبه فقد نجت وتحررت وحمت نفسها منه
وكان بعضهم يطلق المرأة ويشترط عليها ألا تنكح إلا من أراد; حتى تفتدي نفسها منه بما كان أعطاها .

. كله أو بعضه
وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا امرأته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها
وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها ، فيحبسها عن الزواج حتى يكبر إبنه الصغير ليتزوجها ويأخذ مالها
وهكذا . وهكذا . مما لا يتفق مع النظرة الكريمة التي ينظر بها الإسلام لشقي النفس الواحدة; ومما يهبط بإنسانية المرأة وإنسانية الرجل على السواء . . ويحيل العلاقة بين الجنسين علاقة تجار أو علاقة بهائم
ومن هذا الدرك الهابط رفع الإسلام تلك العلاقة إلى ذلك المستوى العالي الكريم اللائق بكرامة بني آدم الذين كرمهم الله وفضلهم على كثير من العالمين . فمن فكرة الإسلام عن الإنسان ، ومن نظرة الإسلام إلى الحياة الإنسانية ، كان ذلك الارتفاع الذي لم تعرفه البشرية إلا من هذا المصدر الكريم .
حرم الإسلام وراثة المرأة كما تورث السلعة والبهيمة كما حرم العضل الذي تسامه المرأة ويتخذ أداة للإضرار بها - إلا في حالة الإتيان بالفاحشة وذلك قبل أن يتقرر حد الزنا المعروف - وجعل للمرأة حريتها في اختيار من تعاشره ابتداء أو استئنافاً . بكراً أم ثيباً مطلقة أو متوفى عنها زوجها . وجعل العشرة بالمعروف فريضة على الرجال - حتى في حالة كراهية الزوج لزوجته ما لم تصبح العشرة متعذرة - ونسم في هذه الحالة نسمة الرجاء في غيب الله وفي علم الله . كي لا يطاوع المرء انفعاله الأول فيبت وشيجة الزوجية العزيزة . فما يدريه أن هنالك خيراً فيما يكره هو لا يدريه . خيراً مخبوءاً كامناً لعله إن كظم انفعاله واستبقى زوجه سيلاقيه :
{ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن - إلا أن يأتين بفاحشة مبينة . وعاشروهن بالمعروف . فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } . .
وهذه اللمسة الأخيرة في الآية تعلق النفس بالله وتهدىء من فورة الغضب وتفثأ من حدة الكره حتى يعاود الإنسان نفسه في هدوء; وحتى لا تكون العلاقة الزوجية ريشة في مهب الرياح . فهي مربوطة العرى بالعروة الوثقى . العروة الدائمة . العروة التي تربط بين قلب المؤمن وربه وهي أوثق العرى وأبقاها .
والإسلام الذي ينظر إلى البيت بوصفه سكناً وأمناً وسلاماً وينظر إلى العلاقة بين الزوجين بوصفها مودة ورحمة وأنساً ويقيم هذه الآصرة على الاختيار المطلق كي تقوم على التجاوب والتعاطف والتحاب . . هو الإسلام ذاته الذي يقول للأزواج : { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } . . كي يستأني بعقدة الزوجية فلا تفصم لأول خاطر وكي يستمسك بعقدة الزوجية فلا تنفك لأول نزوة وكي يحفظ لهذه المؤسسة الإنسانية الكبرى جديتها فلا يجعلها عرضة لنزوة العاطفة المتقلبة وحماقة الميل الطائر هنا وهناك .

.
وما أعظم قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرجل أراد أن يطلق زوجه « لأنه لا يحبها » . . « ويحك ألم تبن البيوت إلا على الحب؟ فأين الرعاية وأين التذمم؟ » . .
وما أتفه الكلام الرخيص الذي ينعق به المتحذلقون باسم « الحب » وهم يعنون به نزوة العاطفة المتقلبة ، ويبيحون باسمه - لا انفصال الزوجين وتحطيم المؤسسة الزوجية - بل خيانة الزوجة لزوجها أليست لا تحبه؟ وخيانة الزوج لزوجته أليس أنه لا يحبها؟
وما يهجس في هذه النفوس التافهة الصغيرة معنى أكبر من نزوة العاطفة الصغيرة المتقلبة . ونزوة الميل الحيواني المسعور . ومن المؤكد أنه لا يخطر لهم أن في الحياة من المروءة والنبل والتجمل والاحتمال ما هو أكبر وأعظم من هذا الذي يتشدقون به في تصور هابط هزيل . . ومن المؤكد طبعاً أنه لا يخطر لهم خاطر . . الله . . فهم بعيدون عنه في جاهليتهم المزوّقة فما تستشعر قلوبهم ما يقوله الله للمؤمنين : { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } . .
إن العقيدة الإيمانية هي وحدها التي ترفع النفوس وترفع الاهتمامات وترفع الحياة الإنسانية عن نزوة البهيمة وطمع التاجر وتفاهة الفارغ
فإذا تبين بعد الصبر والتجمل والمحاولة والرجاء . أن الحياة غير مستطاعة وأنه لا بد من الانفصال واستبدال زوج مكان زوج فعندئذ تنطلق المرأة بما أخذت من صداق وما ورثت من مال لا يجوز استرداد شيء منه ولو كان قنطاراً من ذهب . فأخذ شيء منه إثم واضح ومنكر لا شبهة فيه :
{ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً . أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً؟ } .
ومن ثم لمسة وجدانية عميقة وظل من ظلال الحياة الزوجية وريف في تعبير موح عجيب :
{ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً؟ } . .
ويدع الفعل : { أفضى } بلا مفعول محدد . يدع اللفظ مطلقاً يشع كل معانيه ويلقي كل ظلاله ويسكب كل إيحاءاته . ولا يقف عند حدود الجسد وإفضاءاته . بل يشمل العواطف والمشاعر والوجدانات والتصورات والأسرار والهموم والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب . يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة آناء الليل وأطراف النهار وعشرات الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمتهما فترة من الزمان . . وفي كل اختلاجة حب إفضاء . وفي كل نظرة ود إفضاء . وفي كل لمسة جسم إفضاء وفي كل اشتراك في ألم أو أمل إفضاء . وفي كل تفكر في حاضر أو مستقبل إفضاء . وفي كل شوق إلى خلف إفضاء . وفي كل التقاء في وليد إفضاء . .
كل هذا الحشد من التصورات والظلال والأنداء والمشاعر والعواطف يرسمه ذلك التعبير الموحي العجيب : { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } . . فيتضاءل إلى جواره ذلك المعنى المادي الصغير ويخجل الرجل أن يطلب بعض ما دفع وهو يستعرض في خياله وفي وجدانه ذلك الحشد من صور الماضي وذكريات العشرة في لحظة الفراق الأسيف
ثم يضم إلى ذلك الحشد من الصور والذكريات والمشاعر عاملاً آخر من لون آخر :
{ وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً } .

.
هو ميثاق النكاح باسم الله وعلى سنة الله . . وهو ميثاق غليظ لا يستهين بحرمته قلب مؤمن; وهو يخاطب الذين آمنوا ويدعوهم بهذه الصفة أن يحترموا هذا الميثاق الغليظ .
وفي نهاية هذه الفقرة يحرم تحريماً باتاً - مع التفظيع والتبشيع - أن ينكح الأبناء ما نكح آباؤهم من النساء . وقد كان ذلك في الجاهلية حلالاً . وكان سبباً من أسباب عضل النساء أحياناً حتى يكبر الصبي فيتزوج امرأة أبيه أو إن كان كبيراً تزوجها بالوراثة كما يورث الشيء فجاء الإسلام يحرم هذا الأمر أشد التحريم :
{ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً } . .
ويبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات - وإن كنا نحن البشر لا نحيط بكل حكمة التشريع ولا يتوقف خضوعنا له وتسليمنا به ورضاؤنا إياه على إدراكنا أو عدم إدراكنا لهذه الحكمة فحسبنا أن الله قد شرعه لنستيقن أن وراءه حكمة وأن فيه المصلحة .
نقول : يبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات : الأول أن امرأة الأب في مكان الأم . والثاني : ألا يخلف الابن أباه; فيصبح في خياله نداً له . وكثيراً ما يكره الزوج زوج امرأته الأول فطرة وطبعاً فيكره أباه ويمقته والثالث : ألا تكون هناك شبهة الإرث لزوجة الأب . الأمر الذي كان سائداً في الجاهلية . وهو معنى كريه يهبط بإنسانية المرأة والرجل سواء . وهما من نفس واحدة ومهانة أحدهما مهانة للآخر بلا مراء .
لهذه الاعتبارات الظاهرة - ولغيرها مما يكون لم يتبين لنا - جعل هذا العمل شنيعاً غاية الشناعة . . جعله فاحشة . وجعله مقتاً : أي بغضاً وكراهية . وجعله سبيلاً سيئاً . . إلا ما كان قد سلف منه في الجاهلية قبل أن يرد في الإسلام تحريمه . فهو معفو عنه . متروك أمره لله سبحانه . .
والفقرة الثالثة في هذا الدرس تتناول سائر أنواع المحرمات من النساء . وهي خطوة في تنظيم الأسرة وفي تنظيم المجتمع على السواء :
{ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن - فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم - وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ، وإن تجمعوا بين الأختين - إلا ما قد سلف - إن الله كان غفوراً رحيماً . والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم - كتاب الله عليكم - وأحل لكم ما وراء ذلكم .

. . } . .
والمحارم - أي اللواتي يحرم الزواج منهن - معروفة في جميع الأمم البدائية والمترقية على السواء . وقد تعددت أسباب التحريم وطبقات المحارم عند شتى الأمم واتسعت دائرتها في الشعوب البدائية ثم ضاقت في الشعوب المترقية .
والمحرمات في الإسلام هي هذه الطبقات المبينة في هذه الآية والآية التي قبلها والآية التي بعدها . . وبعضها محرمة تحريماً مؤبداً وبعضها محرمة تحريماً مؤقتاً . . وبعضها بسبب النسب وبعضها بسبب الرضاعة وبعضها بسبب المصاهرة .
وقد ألغى الإسلام كل أنواع القيود الأخرى ، التي عرفتها المجتمعات البشرية الأخرى . كالقيود التي ترجع إلى اختلاف الأجناس البشرية وألوانها وقومياتها . والقيود التي ترجع إلى اختلاف الطبقات ومقاماتها الاجتماعية في الجنس الواحد والوطن الواحد . .
والمحرمات بالقرابة في شريعة الإسلام أربع طبقات :
أولاها : أصوله مهما علوا . فيحرم عليه التزوج من أمه وجداته من جهة أبيه أو من جهة أمه مهما علون : { حرمت عليكم أمهاتكم } . .
وثانيتها : فروعه مهما نزلوا . فيحرم عليه التزوج ببناته وبنات أولاده ذكورهم وإناثهم مهما نزلوا : { وبناتكم } . .
وثالثتها : فروع أبويه مهما نزلوا . فيحرم عليه التزوج بأخته وببنات إخوته وأخواته وببنات أولاد إخوته وأخواته : { وأخواتكم } . . . { وبنات الأخ وبنات الأخت } . .
ورابعتها : الفروع المباشرة لأجداده . فيحرم عليه التزوج بعمته وخالته وعمة أبيه وعمة جده لأبيه أو أمه وعمة أمه وعمة جدته لأبيه أو أمه . . { وعماتكم وخالاتكم } . . أما الفروع غير المباشرة للأجداد فيحل الزواج بهم . ولذلك يباح التزاوج بين أولاد الأعمام والعمات وأولاد الأخوال والخالات .
والمحرمات بالمصاهرة خمس :
1- أصول الزوجة مهما علون . فيحرم على الرجل الزواج بأم زوجته وجداتها من جهة أبيها أو من جهة أمها مهما علون . ويسري هذا التحريم بمجرد العقد على الزوجة : سواء دخل بها الزوج أم لم يدخل : { وأمهات نسائكم } . .
2- فروع الزوجة مهما نزلن . فيحرم على الرجل الزواج ببنت زوجته وبنات أولادها ذكوراً كانوا أم إناثاً مهما نزلوا . ولا يسري هذا التحريم إلا بعد الدخول بالزوجة : { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن . فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } . .
3- زوجات الأب والأجداد من الجهتين - مهما علوا - فيحرم على الرجل الزواج بزوجة أبيه وزوجة أحد أجداده لأبيه أو أمه مهما علوا . . { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } . . أي ما سلف في الجاهلية من هذا النكاح وقد كانت تجيزه . .
4- زوجات الأبناء وأبناء الأولاد مهما نزلوا . فيحرم على الرجل الزواج بامرأة ابنه من صلبه وامرأة ابن ابنه ، أو ابن بنته مهما نزل : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } . . وذلك إبطالاً لعادة الجاهلية في تحريم زوجة الابن المتبنى . وتحديده بابن الصلب . ودعوة أبناء التبني إلى آبائهم - كما جاء في سورة الأحزاب .
5- أخت الزوجة . . وهذه تحرم تحريماً مؤقتاً ما دامت الزوجة حية وفي عصمة الرجل .

والمحرم هو الجمع بين الأختين في وقت واحد : { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } . . أي ما سلف من هذا النكاح في الجاهلية وقد كانت تجيزه . .
ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب والصهر . وهذه تشمل تسع محارم :
1- الأم من الرضاع وأصولها مهما علون : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } .
2- البنت من الرضاع وبناتها مهما نزلن ( وبنت الرجل من الرضاع هي من أرضعتها زوجته وهي في عصمته ) .
3- الأخت من الرضاع وبناتها مهما نزلن { وأخواتكم من الرضاعة } .
4- العمة والخالة من الرضاع ( والخالة من الرضاع هي أخت المرضع . والعمة من الرضاع هي أخت زوجها ) .
5- أم الزوجة من الرضاع ( وهي التي أرضعت الزوجة في طفولتها ) وأصول هذه الأم مهما علون . ويسري هذا التحريم بمجرد العقد على المرأة - كما في النسب .
6- بنت الزوجة من الرضاع ( وهي من كانت الزوجة قد أرضعتها قبل أن تتزوج بالرجل ) وبنات أولادها مهما نزلوا . ولا يسري هذا التحريم إلا بعد الدخول بالزوجة .
7- زوجة الأب أو الجد من الرضاع مهما علا ( والأب من الرضاع هو من رضع الطفل من زوجته . فلا يحرم على هذا الطفل الزواج بمن أرضعته فحسب وهي أمه من الرضاع . بل يحرم عليه كذلك الزواج بضرتها التي تعتبر زوجة أبيه من الرضاع ) .
8- زوجة الابن من الرضاع مهما نزل .
9- الجمع بين المرأة وأختها من الرضاع أو عمتها أو خالتها من الرضاع ، أو أية امرأة أخرى ذات رحم محرم منها من ناحية الرضاع . .
والنوع الأول والثالث من هذه المحرمات ورد تحريمهما نصاً في الآية . أما سائر هذه المحرمات فهي تطبيق للحديث النبوي : « يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب » . ( أخرجه الشيخان ) . .
هذه هي المحرمات في الشريعة الإسلامية ولم يذكر النص علة للتحريم - لا عامة ولا خاصة - فكل ما يذكر من علل إنما هو استنباط ورأي وتقدير . .
فقد تكون هناك علة عامة . وقد تكون هناك علل خاصة بكل نوع من أنواع المحارم . وقد تكون هناك علل مشتركة بين بعض المحارم .
وعلى سبيل المثال يقال :
إن الزواج بين الأقارب يضوي الذرية ويضعفها مع امتداد الزمن . لأن استعدادات الضعف الوراثية قد تتركز وتتأصل في الذرية . على عكس ما إذا تركت الفرصة للتلقيح الدائم بدماء أجنبية جديدة تضاف استعداداتها الممتازة فتجدد حيوية الأجيال واستعداداتها .
أو يقال : إن بعض الطبقات المحرمة كالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت . وكذلك نظائرهن من الرضاعة . وأمهات النساء وبنات الزوجات - الربائب والحجور - يراد أن تكون العلاقة بهن علاقة رعاية وعطف واحترام وتوقير فلا تتعرض لما قد يجد في الحياة الزوجية من خلافات تؤدي إلى الطلاق والانفصال - مع رواسب هذا الانفصال - فتخدش المشاعر التي يراد لها الدوام .

أو يقال : إن بعض هذه الطبقات كالربائب في الحجور والأخت مع الأخت وأم الزوجة وزوجة الأب . . لا يراد خدش المشاعر البنوية أو الأخوية فيها . فالأم التي تحس أن ابنتها قد تزاحمها في زوجها والبنت والأخت كذلك لا تستبقي عاطفتها البريئة تجاه بنتها التي تشاركها حياتها أو أختها التي تتصل بها أو أمها وهي أمها وكذلك الأب الذي يشعر أن إبنه قد يخلفه على زوجته . والابن الذي يشعر أن أباه الراحل أو المطلق غريم له لأنه سبقه على زوجته ومثله يقال في حلائل الأبناء الذين من الأصلاب بالنسبة لما بين الابن والأب من علاقة لا يجوز أن تشاب
أو يقال : إن علاقة الزواج جعلت التوسيع نطاق الأسرة ومدها إلى ما وراء رابطة القرابة . ومن ثم فلا ضرورة لها بين الأقارب الأقربين الذين تضمهم آصرة القرابة القريبة . ومن ثم حرم الزواج من هؤلاء لانتفاء الحكمة فيه ولم يبح من القريبات إلا من بعدت صلته حتى ليكاد أن يفلت من رباط القرابة .
وأياً ما كانت العلة فنحن نسلم بأن اختيار الله لا بد وراءه حكمة ولا بد فيه مصلحة . وسواء علمنا أو جهلنا فإن هذا لا يؤثر في الأمر شيئاً ولا ينقص من وجوب الطاعة والتنفيذ مع الرضى والقبول . فالإيمان لا يتحقق في قلب ما لم يحتكم إلى شريعة الله ثم لا يجد في صدره حرجاً منها ويسلم بها تسليماً .
ثم تبقى كلمة أخيرة عامة عن هذه المحارم ونص التشريع القرآني المبين لها :
إن هذه المحرمات كانت محرمة في عرف الجاهلية - فيما عدا حالتين اثنتين : ما نكح الآباء من النساء ، والجمع بين الأختين . فقد كانتا جائزتين - على كراهة من المجتمع الجاهلي . .
ولكن الإسلام - وهو يحرم هذه المحارم كلها - لم يستند إلى عرف الجاهلية في تحريمها . إنما حرمها ابتداء مستنداً إلى سلطانه الخاص . وجاء النص : { حرمت عليكم أمهاتكم . . . إلخ } . .
والأمر في هذا ليس أمر شكليات; إنما هو أمر هذا الدين كله . وإدراك العقدة في هذا الأمر هو إدراك لهذا الدين كله وللأصل الذي يقوم عليه : أصل الألوهية وإخلاصها لله وحده . .
إن هذا الدين يقرر أن التحليل والتحريم هو من شأن الله وحده لأنهما أخص خصائص الألوهية . فلا تحريم ولا تحليل بغير سلطان من الله . فالله - وحده - هو الذي يحل للناس ما يحل ويحرم على الناس ما يحرم . وليس لأحد غيره أن يشرع في هذا وذاك وليس لأحد أن يدعي هذا الحق . لأن هذا مرادف تماماً لدعوى الألوهية
ومن ثم فإن الجاهلية تحرم أو تحلل ، فيصدر هذا التحريم والتحليل عنها باطلاً بطلاناً أصلياً غير قابل للتصحيح ، لأنه لا وجود له منذ الابتداء .

فإذا جاء الإسلام إلى ما أحلت الجاهلية أو حرمت فهو يحكم ابتداء ببطلانه كلية بطلاناً أصلياً ، ويعتبره كله غير قائم . بما أنه صادر من جهة لا تملك إصداره - لأنها ليست إلهاً - ثم يأخذ هو في إنشاء أحكامه إنشاء . فإذا أحل شيئاً كانت الجاهلية تحله أو حرم شيئاً كانت الجاهلية تحرمه فهو ينشىء هذه الأحكام ابتداء . ولا يعتبر هذا منه اعتماداً لأحكام الجاهلية التي أبطلها كلها لأنها هي باطلة لم تصدر من الجهة التي تملك وحدها إصدار هذه الأحكام . . وهي الله . .
هذه النظرية الإسلامية في الحل والحرمة تشمل كل شيء في الحياة الإنسانية ولا يخرج عن نطاقها شيء في هذه الحياة . . إنه ليس لأحد غير الله أن يحل أو يحرم في نكاح ولا في طعام ولا في شراب ولا في لباس ولا في حركة ولا في عمل ولا في عقد ولا في تعامل ولا في ارتباط ولا في عرف ولا في وضع . . إلا أن يستمد سلطانه من الله حسب شريعة الله .
وكل جهة أخرى تحرم أو تحلل شيئاً في حياة البشر - كبر أم صغر - تصدر أحكامها باطلة بطلاناً أصلياً غير قابل للتصحيح المستأنف . وليس مجيء هذه الأحكام في الشريعة الإسلامية تصحيحاً واعتماداً لما كان منها في الجاهلية . إنما هو إنشاء مبتدأ لهذه الأحكام مستند إلى المصدر الذي يملك إنشاء الأحكام .
وهكذا أنشأ الإسلام أحكامه في الحل والحرمة وهكذا أقام الإسلام أوضاعه وأنظمته . وهكذا نظم الإسلام شعائره وتقاليده . مستنداً في إنشائها إلى سلطانه الخاص .
لقد عني القرآن بتقرير هذه النظرية وكرر الجدل مع الجاهليين في كل ما حرموه وما حللوه . . عني بتقرير المبدأ . فكان يسأل في استنكار : { قل : من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ } { قل : تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } { قل : لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير . . . } إلخ . .
وكان يردهم بهذه الاستنكارات إلى ذلك المبدأ الأساسي . وهو أن الذي يملك حق التحريم والتحليل هو الله وحده . وليس ذلك لأحد من البشر . . لا فرد ولا طبقة ولا أمة ولا الناس أجمعين . . إلا بسلطان من الله . وفق شريعة الله . . والتحليل والتحريم - أي الحظر والإباحة - هو الشريعة وهو الدين . فالذي يحلل ويحرم هو صاحب الدين الذي يدين الناس . فإن كان الذي يحرم ويحلل هو الله فالناس إذن يدينون لله وهم إذن في دين الله وإن كان الذي يحرم أو يحلل أحداً غير الله فالناس إذن يدينون لهذا الأحد; وهم إذن في دينه لا في دين الله .
والمسألة على هذا الوضع هي مسألة الألوهية وخصائصها . وهي مسألة الدين ومفهومه . وهي مسألة الإيمان وحدوده . . فلينظر المسلمون في أنحاء الأرض أين هم من هذا الأمر؟ أين هم من الدين وأين هم من الإسلام . . إن كانوا ما يزالون يصرون على ادعائهم للإسلام

وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)

هذا الدرس تكملة لما جاء في هذه السورة عن تنظيم الأسرة على قواعد الفطرة ، ولا يعود السياق بعد ذلك إلا في موضعين لبيان بعض الأحكام التكميلية في هذا الموضوع الأساسي الهام ، الذي يترتب على تنظيمه جريان الحياة الإنسانية في مجراها الفطري الهادىء الصالح ، كما يترتب على انحرافها عنه فساد في الأرض كبير .
وهذا الدرس يتضمن تكملة لبيان المحرمات من النساء . ثم يحدد الطريقة التي يحب الله أن يجتمع عليه الرجال والنساء في مؤسسة الأسرة النظيفة . ويكشف عما في هذه الطريقة من تيسير على الناس وتخفيف ، إلى جانب نظافتها وطهارتها . ويقرر القواعد التنظيمية التي تقوم عليها تلك المؤسسة الأساسية ، والحقوق والواجبات الملقاة على عاتق الطرفين المتعاقدين فيها .
وإلى جانب هذا التنظيم في الأسرة يتطرق إلى شيء من التنظيم لبعض علاقات المجتمع المسلم في الأموال؛ فيبين حقوق الرجال والنساء ، في المال المكتسب ، والمال الموروث . وما يتبع كذلك في تصفية ما كان من عقود التوارث بالولاء بين غير الأقارب .
ومما يلاحظ - بوجه عام - أن السياق يربط ربطاً دقيقاً بين هذه التنظيمات والأحكام وبين الأصل الأول الكبير للإيمان : وهو أن هذه التنظيمات والأحكام صادرة من الله . وهي مقتضى ألوهيته . فأخص خصائص الألوهية - كما كررنا ذلك في مطلع السورة - هو الحاكمية ، والتشريع للبشر ، ووضع الأسس التي تقوم عليها حياتهم وارتباطاتهم .
والسياق ما يني يكرر هذا الارتباط الدقيق؛ وينبه إلى هذه الخاصية من خصائص الألوهية . ويكرر كذلك الإشارة إلى صدور هذه التنظيمات عن العليم الحكيم . . وهي إشارة ذات مغزى . . فالأمر في هذا المنهج الإلهي كله هو قبل كل شيء أمر العلم الشامل الكامل ، والحكمة المدركة البصيرة . . هذه الخصائص الإلهية التي يفقدها الإنسان ، فلا يصلح بعدها أبداً لوضع المنهج الأساسي لحياة الإنسان ومن هنا شقوة الإنسان في الأرض كلما حاد عن منهج العليم الحكيم ، وراح يخبط في التيه بلا دليل ، ويزعم أنه قادر ، بجهله وطيشه وهواه ، أن يختار لنفسه ولحياته خيراً مما يختاره الله
والأمر الآخر الذي يؤكده سياق الدرس ويكرره : هو أن منهج الله هذا أيسر على الإنسان وأخف وأقرب إلى الفطرة ، من المناهج التى يريدها البشر ويهوونها ، وأنه من رحمة الله بضعف الإنسان أن يشرع له هذا المنهج ، الذي تكلفه الحيدة عنه عنتاً ومشقة ، فوق ما تكلفه من هبوط وارتكاس .
وسنرى - عند استعراض النصوص بالتفصيل - مصداق هذه الحقيقة في واقع البشر التاريخي وهي حقيقة واضحة في هذا الواقع ، لولا أن الهوى يطمس القلوب ، ويعمي العيون ، عندما ترين الجاهلية على القلوب والعيون
« والمحصنات من النساء - إلا ما ملكت أيمانكم - كتاب الله عليكم - وأحل لكم - ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين .

فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة . إن الله كان عليماً حكيماً . ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات - والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض - فانكحوهن بإذن أهلهن ، وآتوهن أجورهن بالمعروف ، محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان . فإذا أحصن ، فإن أتين بفاحشة ، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب - ذلك لمن خشي العنت منكم - وأن تصبروا خير لكم ، والله غفور رحيم . يريد الله ليبين لكم ، ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، ويتوب عليكم ، والله عليم حكيم . والله يريد أن يتوب عليكم ، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً . يريد الله أن يخفف عنكم ، وخلق الإنسان ضعيفاً « . .
لقد سبق في نهاية الجزء الرابع بيان المحرمات من النساء حرمة ذاتية . وذلك في قوله تعالى : » ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً . حرمت عليكم أمهاتكم ، وبناتكم ، وأخواتكم ، وعماتكم ، وخالاتكم ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ، وأخواتكم من الرضاعة ، وأمهات نسائكم ، وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن - فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم - وحلائل أبنائكم - الذين من أصلابكم - وأن تجمعوا بين الأختين - إلا ما قد سلف - إن الله كان غفوراً رحيماً « .
أما هذه التكملة :
» والمحصنات من النساء . . . «
فتتعلق بالمحرمات لأنهن في عصمة رجال آخرين . محصنات بالزواج منهم : فهن محرمات على غير أزواجهن ، لا يحل نكاحهن . . . وذلك تحقيقاً للقاعدة الأولى في نظام المجتمع الإسلامي ، من قيامه على قاعدة الأسرة ، وجعلها وحدة المجتمع ، وصيانة هذه الأسرة من كل شائبة ، ومن كل اختلاط في الأنساب ، ينشأ من » شيوعية « الاتصال الجنسي ، أو ينشأ من انتشار الفاحشة ، وتلوث المجتمع بها .
والأسرة القائمة على الزواج العلني ، الذي تتخصص فيه امرأة بعينها لرجل بعينه ، ويتم به الإحصان - وهو الحفظ والصيانة - هي أكمل نظام يتفق مع فطرة » الإنسان « وحاجاته الحقيقية ، الناشئة من كونه إنساناً ، لحياته غاية أكبر من غاية الحياة الحيوانية - وإن كانت تتضمن هذه الغاية في ثناياها - ويحقق أهداف المجتمع الإنساني ، كما يضمن لهذا المجتمع السلم المطمئنة : سلم الضمير . وسلم البيت . وسلم المجتمع في نهاية المطاف .
والملاحظ بصفة ظاهرة ، أن الطفل الإنساني يحتاج إلى فترة رعاية أطول من الفترة التي يحتاج إليها طفل أي حيوان آخر . كما أن التربية التي يحتاج إليها ليصبح قادراً على إدراك مقتضيات الحياة الإنسانية الاجتماعية المترقية - التي يتميز بها الإنسان - تمتد إلى فترة طويلة أخرى .

وإذا كانت غاية الميل الجنسي في الحيوان تنتهي عند تحقيق الاتصال الجنسي والتناسل والإكثار ، فإنها في الإنسان لا تنتهي عند تحقيق هذا الهدف ، إنما هي تمتد إلى هدف أبعد هو الارتباط الدائم بين الذكر والأنثى - بين الرجل والمرأة - ليتم إعداد الطفل الإنساني لحماية نفسه وحفظ حياته ، وجلب طعامه وضرورياته ، كما يتم - وهذا هو الأهم بالنسبة لمقتضيات الحياة الإنسانية - تربية هذا الطفل وتزويده برصيد من التجارب الإنسانية والمعرفة الإنسانية يؤهله للمساهمة في حياة المجتمع الإنساني ، والمشاركة في حمل تبعته من اطراد الترقي الإنساني عن طريق الأجيال المتتابعة .
ومن ثم لم تعد اللذة الجنسية هي المقوم الأول في حياة الجنسين في عالم الإنسان؛ إنما هي مجرد وسيلة ركبتها الفطرة فيهما ليتم الالتقاء بينهما ويطول بعد الاتصال الجنسي للقيام بواجب المشاركة في اطراد نمو النوع . ولم يعد « الهوى » الشخصي هو الحكم في بقاء الارتباط بين الذكر والأنثى . إنما الحكم هو « الواجب » . . . واجب النسل الضعيف الذي يجيء ثمرة للالتقاء بينهما ، وواجب المجتمع الإنساني الذي يحتم عليهما تربية هذا النسل إلى الحد الذي يصبح معه قادراً على النهوض بالتبعة الإنسانية ، وتحقيق غاية الوجود الإنساني .
وكل هذه الاعتبارات تجعل الارتباط بين الجنسين على قاعدة الأسرة ، هو النظام الوحيد الصحيح . كما تجعل تخصيص امرأة لرجل هو الوضع الصحيح الذي تستمر معه هذه العلاقة . والذي يجعل « الواجب » لا مجرد اللذة ولا مجرد الهوى ، هو الحكم في قيامها ، ثم في استمرارها ، ثم في معالجة كل مشكلة تقع في أثنائها ، ثم عند فصم عقدتها عند الضرورة القصوى .
وأي تهوين من شأن روابط الأسرة ، وأي توهين للأساس الذي تقوم عليه - وهو « الواجب » لإحلال « الهوى » المتقلب ، و « النزوة » العارضة ، و « الشهوة » الجامحة محله ، هي محاولة آثمة ، لا لأنها تشيع الفوضى والفاحشة والانحلال في المجتمع الإنساني فحسب ، بل كذلك لأنها تحطم هذا المجتمع؛ وتهدم الأساس الذي يقوم عليه .
ومن هنا ندرك مدى الجريمة التي تزاولها الأقلام والأجهزة الدنسة ، المسخرة لتوهين روابط الأسرة ، والتصغير من شأن الرباط الزوجي وتشويهه وتحقيره ، للإعلاء من شأن الارتباطات القائمة على مجرد الهوى المتقلب ، والعاطفة الهائجة ، والنزوة الجامحة . وتمجيد هذه الارتباطات ، بقدر الحط من الرباط الزوجي
كما ندرك مدى الحكمة والعمق في قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرجل أراد أن يطلق زوجته ، معللاً ذلك بأنه لم يعد يحبها : « ويحك ألم تبن البيوت إلا على الحب؟ فأين الرعاية؟ وأين التذمم؟ » . . مستمداً قولته هذه من توجيه الله سبحانه وتربية القرآن الكريم لتلك الصفوة المختارة من عباده :

{ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } وذلك للإمساك بالبيوت - ما أمكن - ومقاومة نزوات القلوب ، وعلاجها حتى تفيء ، وعدم بت هذه الصلة إلا حين تفلس المجادلات كلها ، رعاية للجيل الناشىء في هذه البيوت؛ وصيانة لها من هزات العاطفة المتقلبة ، والنزوة الجامحة ، والهوى الذاهب مع الريح
وفي ظل هذه النظرة السامية العميقة ، تتبدى التفاهة والسطحية فيما ينعق به اليوم أولئك المائعون ، وهم يمجدون كل ارتباط إلا الارتباط الذي يحكم الواجب ، والذي يرعى أمانة الجنس البشري كله ، وهي تنشئة أجيال تنهض بمقتضيات الحياة الإنسانية المترقية ، وتحكيم مصلحة هذه الأجيال ، لا مصلحة العواطف الوقتية الزائلة
إن أقلاماً دنسة رخيصة وأجهزة خبيثة لئيمة توحي لكل زوجة ينحرف قلبها قليلاً عن زوجها أن تسارع إلى خدين؛ ويسمون ارتباطها بخدينها هذا « رباطاً مقدساً » بينما يسمون ارتباطها بذلك الزوج « عقد بيع للجسد »
والله سبحانه يقول : في بيان المحرمات من النساء : « والمحصنات من النساء » . . فيجعلهن « محرمات » .
هذا قول الله . وذلك قول المائعين المسخرين لتحطيم هذا المجتمع ونشر الفاحشة فيه . . . { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } إن جهوداً منظمة موجهة تبذل لإنشاء موازين وقيم وتصورات للمجتمع غير تلك التي يريدها الله . ولإقامة أسس للحياة والارتباطات غير تلك التي أقامها الله . ولتوجيه الناس والحياة وجهة غير التي قررها الله . . والموجهون لهذه الجهود يحسبون أنهم ينتهون إلى تحطيم قواعد المجتمع الإسلامي ، وتدمير حياة المسلمين في الأوطان الإسلامية ، حتى لا تبقى أمامهم حواجز تصد أطماعهم القديمة في هذه الأوطان ، بعد أن تنهار عقائدها ، وتنهار أخلاقها ، وتنهار مجتمعاتها . . ولكن الكارثة أبعد من هذا مدى . . إنها تحطيم قواعد المجتمع الإنساني كله - لا المجتمع الإسلامي وحده - تحطيم قواعد الفطرة التي تقوم عليها حياة الإنسان . وحرمان المجتمع البشري من العناصر التي تحمل أمانته الكبرى . أمانة الحياة الإنسانية المترقية . وذلك بحرمانه من الأطفال المؤهلين - في جو الأسرة الهادىء ، المطمئن ، الآمن من عواصف الشهوات الجامحة ، والنزوات المتقلبة والهوى الذاهب مع الريح - للنهوض بأمانة الجنس البشري كله . وهي شيء آخر غير مجرد التناسل الحيواني وغير مجرد الالتقاء الشهواني على أساس « العواطف » وحدها وتنحية « الواجب » المطمئن الثابت الهادىء
وهكذا تحق اللعنة على الجنس البشري كله ، إذ يحطم نفسه بنفسه؛ ويدمر الجيل الحاضر منه مستقبل الأجيال القادمة . لتحقيق لذاته هو ، وشهواته هو ، وعلى الأجيال القادمة اللعنة . وتحق كلمة الله على الخارجين على كلمته وفطرته وتوجيهه . ويذوق الجنس البشري كله وبال أمره . إلا أن يرحمه الله بالعصبة المؤمنة التي تقر كلمة الله ومنهجه في الأرض ، وتأخذ بيد الناس إليها؛ وتعصمهم من الشر الماحق الذي يهيئونه لأنفسهم بأيديهم .

وهم يحسبون أنهم فقط إنما يحطمون الأوطان الإسلامية ، لتنهار حواجزها بتلك الجهود الموجهة الخبيثة التي تتولاها أقلام وأجهزة من داخل هذه الأوطان ذاتها .
« والمحصنات من النساء - إلا ما ملكت أيمانكم . . » .
وهذا الاستثناء يتعلق بالسبايا اللواتي كن يؤخذن أسيرات في حروب الجهاد الإسلامي وهن متزوجات في دار الكفر والحرب . حيث تنقطع علاقاتهن بأزواجهن الكفار ، بانقطاع الدار . ويصبحن غير محصنات . فلا أزواج لهن في دار الإسلام . ومن ثم يكفي استبراء أرحامهن بحيضة واحدة؛ يظهر منها خلو أرحامهن من الحمل . ويصبح بعدها نكاحهن حلالا - إن دخلن في الإسلام - أو أن يباشرهن من غير عقد نكاح من يقعن في سهمه ، باعتبارهن ملك يمين ، سواء أسلمن أم لم يسلمن .
ولقد سبق لنا في الجزء الثاني من هذه الظلال ، بيان موقف الإسلام من مسألة الرق بجملتها . . كذلك ورد بيان آخر عند تفسير قوله تعالى : { حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق؛ فإما منّاً بعد وإما فداء؛ حتى تضع الحرب أوزارها } . في سورة « محمد » في الجزء السادس والعشرين فيرجع إليهما في مواضعهما .
ونكتفي هنا بالقول : بأن المعسكر الإسلامي كان يعامل أعداءه في مسألة استرقاق الأسرى في الحرب كما يعاملونه من حيث مبدأ الرق ، ويفضلهم في نوع معاملته للرقيق وفي اعتبار إنسانيته فضلاً كبيراً . ولم يكن له بد من ذلك . حيث كان استرقاق الأسرى نظاماً عالمياً لا يملك الإسلام إبطاله من جانب واحد . وإلا كان الأسرى من المسلمين يصبحون رقيقاً؛ بينما الأسرى من الكفار يصبحون أحراراً ، فترجح كفة المعسكرات الكافرة على المعسكر الإسلامي ، وتطمع هذه المعسكرات في مهاجمته وهي آمنة مطمئنة من عواقب الهجوم ، بل وهي رابحة غانمة
ومن ثم لم يكن بد من أن تكون هناك سبايا كوافر في المجتمع المسلم . فكيف يصنع بهن؟ إن الفطرة لا تكتفي بأن يأكلن ويشربن . فهناك حاجة فطرية أخرى لا بد لهن من إشباعها وإلا التمسنها في الفاحشة التي تفسد المجتمع كله وتدنسه ولا يجوز للمسلمين أن ينكحوهن وهن مشركات . لتحريم الارتباط الزوجي بين مسلم ومشركة فلا يبقى إلا طريق واحد هو إحلال وطئهن بلا نكاح ما دمن مشركات ، بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن؛ وانقطاع صلتهن بأزواجهن في دار الكفر والحرب .
وقبل أن يمضي السياق القرآني في تقرير ما يحل بعد تلك المحرمات ، يربط بين أصل التحريم والتحليل ومصدر التحريم والتحليل . المصدر الذي ليس لغيره أن يحرم أو يحلل؛ أو يشرع للناس شيئاً في أمور حياتهم جميعاً :
« كتاب الله عليكم » . .
هذا عهد الله عليكم وميثاقه وكتابه . . فليست المسألة هوى يتبع ، أو عرفاً يطاع ، أو موروثات بيئة تتحكم . . إنما هو كتاب الله وعهده وميثاقه .

. فهذا هو المصدر الذي تتلقون منه الحل والحرمة؛ وترعون ما يفرضه عليكم وما يكتبه ، وتطالبون بما كتب عليكم وما عهد إليكم كذلك .
ومما يلاحظ أن معظم المحرمات التي حرمها القرآن في الآيات السابقة ، كانت محرمة في الجاهلية ولم يكن يباح منها في عرف الجاهلية إلا ما نكح الآباء ، والجمع بين الأختين - على كره من العرف الجاهلي ذاته لنكاح زوجات الآباء . وقد كان يسمى عندهم « مقيتاً » نسبة إلى المقت ولكن لما جاء القرآن يقرر حرمة هذه المحرمات ، لم يرجع في تحريمها إلى عرف الجاهلية هذا ، إنما قال الله سبحانه : « كتاب الله عليكم » . .
هذه لمسة تقتضي الوقوف أمامها لبيان حقيقة الأصل الاعتقادي في الإسلام ، وحقيقة الأصل الفقهي . فهذا البيان يفيدنا في أمور كثيرة في حياتنا الواقعية :
إن الإسلام يعتبر أن الأصل الوحيد الذي يقوم عليه التشريع للناس هو أمر الله وإذنه . بإعتبار أنه هو مصدر السلطان الأول والأخير . فكل ما لم يقم ابتداء على هذا الأصل فهو باطل بطلاناً أصلياً ، غير قابل للتصحيح المستأنف . فالجاهلية بكل ما فيها - والجاهلية هي كل وضع لا يستمد وجوده من ذلك الأصل الوحيد الصحيح - باطلة بطلاناً أصلياً . باطلة بكل تصوراتها وقيمها وموازينها وعرفها وتقاليدها وشرائعها وقوانينها . والإسلام حين يسيطر على الحياة ويصرفها ، يأخذ الحياة جملة ، ويأخذ الأمر جملة؛ فيسقط ابتداء كل أوضاع الجاهلية وكل قيمها ، وكل عرفها ، وكل شرائعها؛ لأنها باطلة بطلاناً أصلياً غير قابل للتصحيح المستأنف . . فإذا أقر عرفاً كان سائداً في الجاهلية ، فهو لا يقره بأصله الجاهلي؛ مستنداً إلى هذا الأصل . إنما هو يقرره ابتداء بسلطانه المستمد من أمر الله وإذنه . أما ذلك الذي كان في الجاهلية فقد سقط ولم يعد له وجود من الناحية الشرعية .
كذلك حين يحيل الفقه الإسلامي على « العرف » في بعض المسائل فهو يمنح العرف ابتداء سلطاناً من عنده هو - بأمر الله - فتصبح للعرف - في هذه المسائل - قوة الشريعة ، استمداداً من سلطان الشارع - وهو الله - لا استمداداً من الناس ومن البيئة التي تواضعت على هذا العرف من قبل . فليس تواضع البيئة على هذا العرف هو الذي يمنحه السلطان . . كلا . . إنما الذي يمنحه السلطان هو اعتبار الشارع إياه مصدراً في بعض المسائل . وإلا بقي على بطلانه الأصلي ، لأنه لم يستمد من أمر الله . وهو وحده مصدر السلطان . وهو يقول عما كانت الجاهلية تشرعه مما لم يأذن به الله : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله؟ } فيشير إلى أن الله وحده هو الذي يشرع . فهل لهم آلهة شرعت لهم ما لم يأذن به الله؟
هذا الأصل الكبير ، الذي تشير إليه هذه اللمسة : « كتاب الله عليكم » تقرره وتؤكده النصوص القرآنية في كل مناسبات التشريع ، فما من مرة ذكر القرآن تشريعاً إلا أشار إلى المصدر الذي يجعل لهذا التشريع سلطاناً .

أما حين يشير إلى شرائع الجاهلية وعرفها وتصوراتها فهو يردفها غالباً بقوله : { ما أنزل الله بها من سلطان } لتحريرها من السلطان ابتداء ، وبيان علة بطلانها ، وهي كونها لم تصدر من ذلك المصدر الوحيد الصحيح .
وهذا الأصل الذي نقرره هنا هو شيء آخر غير الأصل المعروف في التشريع الإسلامي . من أن الأصل في الأشياء الحل ، ما لم يرد بتحريمها نص ، فكون الأصل في الاشياء الحل ، إنما هو كذلك بأمر الله وإذنه ، فهو راجع إلى الأصل الذي قررناه ذاته ، إنما نحن نتحدث عما تشرعه الجاهلية لنفسها دون رجوع إلى ما شرعه الله . وهذا الأصل فيه البطلان جملة وكلية ، حتى يقرر شرع الله ما يرى تقريره منه من جديد ، فيكتسب منذ أن يرد في شرع الله المشروعية والسلطان .
فإذا انتهى السياق من بيان المحرمات ، وربطها بأمر الله وعهده ، أخذ في بيان المجال الذي يملك فيه الناس أن يلبوا دوافع فطرتهم في التزاوج؛ والطريقة التي يحب الله أن يلتقي بها أفراد الجنسين لتكوين البيوت؛ وإقامة مؤسسات الأسرة ، والمتاع بهذا الالتقاء في نظافة وطهر وجد تليق بهذا الأمر العظيم :
{ وأحل لكم - ما وراء ذلكم - أن تبتغوا بأموالكم . . محصنين غير مسافحين . . فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن - فريضة - ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة . إن الله كان عليماً حكيماً } . .
ففيما وراء هذه المحرمات المذكورة فالنكاح حلال ، وللراغبين فيه أن يبتغوا النساء ، بأموالهم - أي لأداء صداقهن - لا لشراء أعراضهن بالأموال من غير نكاح ومن ثم قال :
{ محصنين غير مسافحين } . .
وجعلها قيداً وشرطاً للابتغاء بالأموال ، قبل أن يتم الجملة ، وقبل أن يمضي في الحديث . ولم يكتف بتقرير هذا القيد في صورته الإيجابية المثبته : { محصنين } بل أردفها بنفي الصورة الأخرى : { غير مسافحين } زيادة في التوكيد والإيضاح ، في معرض التشريع والتقنين . . ثم لكي يرسم صورة لطبيعة العلاقة الأولى التي يحبها ويريدها . . علاقة النكاح . . وصورة لطبيعة العلاقة الأخرى التي يكرهها وينفيها . . علاقة المخادنة أو البغاء . . وقد كانت هذه وتلك معروفة في مجتمع الجاهلية ، ومعترفاً بها كذلك من المجتمع
جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - :
« ان النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم . يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته . فيصدقها ثم ينكحها . . والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته - إذا طهرت من طمثها - أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه . فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب .

وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . . ونكاح آخر . يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة ، كلهم يصيبها ، فإذا حملت ووضعت ، ومر عليها ليال ، بعد أن تضع حملها ، أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع ، حتى يجتمعوا عندها ، تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت ، فهو ابنك يا فلان . تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها ، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل . والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً ، فمن أرادهن دخل عليهن ، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها ، جمعوا لها ودعوا لهم القافة ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون ، فالتاطه ، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك «
فالنوعان الثالث والرابع هما السفاح الذي ينص على نفيه - سواء منه المخادنة والبغاء - والأول هو الإحصان الذي ينص على طلبه . . أما الثاني فما ندري كيف نسميه
والقرآن يصور طبيعة النوع الذي يريده الله . . فهو إحصان . . هو حفظ وصيانة . . هو حماية ووقاية . . هو إحصان للرجل وإحصان للمرأة . ففي هذه القراءة » محصِنين « بصيغة اسم الفاعل ، وفي قراءة أخرى : » محصَنين « بصيغة اسم المفعول . وكلا المعنيين يتحقق في هذه الصورة النظيفة القويمة العفيفة . وهو إحصان للبيت والأسرة والأطفال . إحصان لهذه المؤسسة التي تقوم على هذا الأساس ثابتة راسخة وطيدة .
والآخر : سفاح . . مفاعلة من السفح ، وهو إراقة الماء في المنحدر الواطىء مسافحة يشترك فيها الرجل والمرأة ، فيريقان ماء الحياة ، الذي جعله الله لامتداد النوع ، ورقيه ، عن طريق اشتراك الرجل والمرأة في إنجاب الذرية وتربيتها وحضانتها وصيانتها . فإذا هما يريقانه للذة العابرة ، والنزوة العارضة ، يريقانه في السفح الواطىء فلا يحصنهما من الدنس ، ولا يحصن الذرية من التلف ، ولا يحصن البيت من البوار
وهكذا يرسم التعبير القرآني صورتين كاملتين لنوعين من الحياة؛ في كلمتين اثنتين . ويبلغ غايته من تحسين الصورة التي يرتضيها ، وتبشيع الصورة التي لا يرتضيها ، بينما هو يقرر حقيقة كل من الصورتين في واقع الحياة . وذلك من بدائع التعبير في القرآن .
فإذا انتهى من هذا القيد للابتغاء بالأموال . عاد ليقرر كيف يُبتغى بالأموال :
{ فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضةْ } .
فهو يجعل صداق المرأة فريضة لها مقابل الاستمتاع بها . فمن أراد أن يستمتع بامرأة من الحلائل - وهن ما وراء ذلكم من المحرمات - فالطريق هو ابتغاؤها للإحصان - أي عن طريق النكاح ( الزواج ) لا عن أي طريق آخر - وعليه أن يؤدي لها صداقها حتماً مفروضاً ، لا نافلة ، ولا تطوعاً منه ، ولا إحساناً ، فهو حق لها عليه مفروض . وليس له أن يرثها وراثة بلا مقابل - كما كان يقع في بعض الأحوال في الجاهلية - وليس له أن يقايض عليها مقايضة كما كان يقع في زواج الشغار في الجاهلية .

وهو أن يتزوج الرجل امرأة في مقابل أن يدفع لوليها امرأة من عنده كأنهما بهيمتان أو شيئان
وبعد تقرير هذا الحق للمرأة وفرضيته ، يدع الباب مفتوحاً لما يتراضى عليه الزوجان بينهما وفق مقتضيات حياتهما المشتركة ، ووفق مشاعرهما وعواطفهما أحدهما تجاه الآخر :
{ ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } .
فلا حرج عليهما في أن تتنازل الزوجة عن مهرها - كله أو بعضه - بعد بيانه وتحديده . وبعد أن أصبح حقاً لها خالصاً تتصرف فيه كما تتصرف في سائر أموالها بحرية - ولا جناح عليهما في أن يزيدها الزوج على المهر ، أو يزيدها فيه . فهذا شأنه الخاص . وهذا شأنهما معاً يتراضيان عليه في حرية وسماحة .
ثم يجيء التعقيب . يربط هذه الأحكام بمصدرها؛ ويكشف عما وراءها من العلم الكاشف ، والحكمة البصيرة :
{ إن الله كان عليماً حكيماً } . .
فهو الذي شرع هذه الأحكام . وهو الذي شرعها عن علم وعن حكمة . . فيعرف ضمير المسلم من أين يتلقى الأحكام في كل شأن من شئون حياته - وأخصها هذا الذي بينه وبين زوجه - ويطمئن إلى ما يتلقاه من هذه الأحكام ، الصادرة عن العلم وعن الحكمة { إن الله كان عليماً حكيماً } . . .
فإذا كانت ظروف المسلم تحول بينه وبين الزواج من حرة تحصنها الحرية وتصونها ، فقد رخص له في الزواج من غير الحرة ، إذا هو لم يصبر حتى يستطيع الزواج من حرة ، وخشي المشقة؛ أو خشي الفتنة :
{ ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات ، فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات - والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض - فانكحوهن بإذن أهلهن؛ وآتوهن أجورهن بالمعروف - محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان - فإذا أحصن . فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب . ذلك لمن خشي العنت منكم . وأن تصبروا خير لكم . والله غفور رحيم } .
إن هذا الدين يتعامل مع « الإنسان » في حدود فطرته ، وفي حدود طاقته . وفي حدود واقعه ، وفي حدود حاجاته الحقيقية . . وحين يأخذ بيده ليرتفع به من حضيض الحياة الجاهلية إلى مرتقى الحياة الإسلامية لا يغفل فطرته وطاقته وواقعه وحاجاته الحقيقية ، بل يلبيها كلها وهو في طريقه إلى المرتقى الصاعد . . إنه فقط لا يعتبر واقع الجاهلية هو الواقع الذي لا فكاك منه . فواقع الجاهلية هابط ، وقد جاء الإسلام ليرفع البشرية من وهدة هذا الواقع إنما هو يعتبر واقع « الإنسان » في فطرته وحقيقته . . واقتدار الإنسان على الترقي واقع من هذا الواقع . . فليس الواقع فقط هو مجرد تلبطه في وحل الجاهلية . . أية جاهلية . . فمن الواقع كذلك مقدرته - بما ركب في فطرته - على الصعود والتسامي عن ذلك الوحل أيضاً والله - سبحانه - هو الذي يعلم « واقع الإنسان » كله ، لأنه يعلم « حقيقة الإنسان » كلها .

هو الذي خلقه ويعلم ما توسوس به نفسه . . { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } وقد كان في المجتمع المسلم الأول رقيق يتخلف من الحروب؛ ريثما يتم تدبير أمره . . إما بإطلاق سراحه امتناناً عليه بلا مقابل . وإما فداء مقابل إطلاق سراح أسارى المسلمين ، أو مقابل مال - حسب الملابسات والظروف المنوعة فيما بين المسلمين وأعدائهم المحاربين - وقد عالج الإسلام هذا الواقع بإباحة مباشرة ملك اليمين - كما جاء في الآية السابقة - لمن هن ملك يمينه . لمواجهة واقع فطرتهن كما أسلفنا . مباشرتهن إما بزواج منهن - إن كن مؤمنات - أو بغير زواج ، بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن في دار الحرب ، بحيضة واحدة . . ولكنه لم يبح لغير سادتهن مباشرتهن إلا أن يكون ذلك عن طريق الزواج . لم يبح لهن أن يبعن أعراضهن في المجتمع لقاء أجر؛ ولا أن يسرحهن سادتهن في المجتمع يزاولن هذه الفاحشة لحسابهم كذلك
وفي هذه الآية ينظم طريقة نكاحهن والظروف المبيحة لهذا النكاح :
{ ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات ، فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } . .
إن الإسلام يؤثر الزواج من حرة في حالة الطول - أي القدرة على نكاح الحرة - ذلك أن الحرة تحصنها الحرية؛ وتعلمها كيف تحفظ عرضها ، وكيف تصون حرمة زوجها . فهن « محصنات » هنا - لا بمعنى متزوجات ، فقد سبق تحريم نكاح المتزوجات - ولكن بمعنى حرائر ، محصنات بالحرية؛ وما تسبغه على الضمير من كرامة ، وما توفره للحياة من ضمانات . فالحرة ذات أسرة وبيت وسمعة ولها من يكفيها ، وهي تخشى العار ، وفي نفسها أنفة وفي ضميرها عزة ، فهي تأبى السفاح والانحدار . ولا شيء من هذا كله لغير الحرة . ومن ثم فهي ليست محصنة ، وحتى إذا تزوجت ، فإن رواسب من عهد الرق تبقى في نفسها ، فلا يكون لها الصون والعفة والعزة التي للحرة . فضلاً على أنه ليس لها شرف عائلي تخشى تلويثه . . مضافاً إلى هذا كله أن نسلها من زوجها كان المجتمع ينظر إليهم نظرة أدنى من أولاد الحرائر . فتعلق بهم هجنة الرق في صورة من الصور . . وكل هذه الاعتبارات كانت قائمة في المجتمع الذي تشرع له هذه الآية . .
لهذه الاعتبارات كلها آثر الإسلام للمسلمين الأحرار ألا يتزوجوا من غير الحرائر ، إذا هم استطاعوا الزواج من الحرائر . وجعل الزواج من غير الحرة رخصة في حالة عدم الطول . مع المشقة في الانتظار .
ولكن إذا وجدت المشقة ، وخاف الرجال العنت . عنت المشقة أو عنت الفتنة . فإن الدين لا يقف أمامهم يذودهم عن اليسر والراحة والطمأنينة .

فهو يحل - إذن - الزواج من المؤمنات غير الحرائر اللواتي في ملك الآخرين .
ويعين الصورة الوحيدة التي يرضاها للعلاقة بين الرجال الأحرار وغير الحرائر . وهي ذاتها الصورة التي رضيها من قبل في زواج الحرائر :
فأولاً : يجب أن يكن مؤمنات :
{ فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } . .
وثانياً : يجب أن يعطين أجورهن فريضة لهن لا لسادتهن . فهذا حقهن الخالص .
{ وآتوهن أجورهن } .
وثالثاً : يجب أن تكون هذه الأجور في صورة صداق : وأن يكون الاستمتاع بهن في صورة نكاح . لا مخادنة ولا سفاح : والمخادنة أن تكون لواحد . والسفاح أن تكون لكل من أراد .
{ محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } .
وقد كان المجتمع إذ ذاك يعرف هذه الأنواع من الاتصال الجنسي بين الحرائر كما سلف من حديث عائشة - رضي الله عنها - كما كان يعرف كذلك بين غير الحرائر أنواعاً من البغاء . وقد كان سادة من أشراف القوم يرسلون رقيقاتهم يكسبن بأجسامهن في هذا السبيل القذر ، لحساب سادتهن . وكان لعبدالله بن أبي بن سلول - رأس المنافقين في المدينة وهو من سادة قومه - أربع جوار يكسبن له من هذا السبيل وكانت هذه بقايا أو حال الجاهلية ، التي جاء الإسلام ليرفع العرب منها ، ويطهرهم ويزكيهم ، كما يرفع منها سائر البشرية كذلك
وكذلك جعل الإسلام طريقاً واحدة للمعاشرة بين الرجال الأحرار وهؤلاء « الفتيات » ، هي طريق النكاح ، الذي تتخصص فيه امرأة لرجل لتكوين بيت وأسرة ، لا الذي تنطلق فيه الشهوات انطلاق البهائم . وجعل الأموال في أيدي الرجال لتؤدى صداقاً مفروضاً ، لا لتكون أجراً في مخادنة أو سفاح . . وكذلك طهر الإسلام هذه العلاقات حتى في دنيا الرقيق من وحل الجاهلية ، الذي تتلبط فيه البشرية كلما ارتكست في الجاهلية والذي تتلبط فيه اليوم في كل مكان ، لأن رايات الجاهلية هي التي ترتفع في كل مكان ، لا راية الإسلام
ولكن - قبل أن نتجاوز هذا الموضع من الآية - ينبغي أن نقف أمام تعبير القرآن عن حقيقة العلاقات الإنسانية التي تقوم بين الأحرار والرقيق في المجتمع الإسلامي ، وعن نظرة هذا الدين إلى هذا الأمر عندما واجهه المجتمع الإسلامي . إنه لا يسمي الرقيقات : رقيقات . ولا جواري . ولا إماء . إنما يسميهن « فتيات » .
{ فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } . .
وهو لا يفرق بين الأحرار وغير الأحرار تفرقة عنصرية تتناول الأصل الإنساني - كما كانت الاعتقادات والاعتبارات السائدة في الأرض كلها يومذاك - إنما يذكر بالأصل الواحد ، ويجعل الآصرة الإنسانية والآصرة الإيمانية هما محور الارتباط :
{ والله أعلم بإيمانكم ، بعضكم من بعض } . .
وهو لا يسمي من هن ملك لهم سادة . إنما يسميهم « أهلاً » :
{ فانكحوهن بإذن أهلهن } .

وهو لا يجعل مهر الفتاة لسيدها . فمهرها إنما هو حق لها . لذلك يخرج من قاعدة أن كسبها كله له . فهذا ليس كسباً ، إنما هو حق ارتباطها برجل :
{ وآتوهن أجورهن } . .
وهو يكرمهن عن أن يكن بائعات أعراض بثمن ، من المال إنما هو النكاح والإحصان :
{ محصنات غير مسافحات ولامتحذات أخدان } . .
وكلها لمسات واعتبارات تحمل طابع التكريم لإنسانية هؤلاء الفتيات ، حتى وهن في هذا الوضع ، الذي اقتضته ملابسات وقتية ، لا تطعن في أصل الكرامة الإنسانية .
وحين يقاس هذا التكريم إلى ما كان سائداً في جاهلية الأرض كلها يومذاك من النظرة إلى الرقيق ، وحرمانه حق الانتساب إلى « إنسانية » السادة وسائر الحقوق التي تترتب على هذه « الإنسانية » . . يبدو مدى النقلة التي نقل الإسلام إليها كرامة « الإنسان » وهو يرعاها في جميع الأحوال ، بغض النظر عن الملابسات الطارئة التي تحد من أوضاع بعض الأناسي ، كوضع الاسترقاق .
ويبدو مدى النقلة البعيدة حين يقاس صنيع الإسلام هذا ، وتنظيمه لأوضاع هذه الحالة الطارئة بما تصنعه الجيوش الفاتحة في هذه الجاهلية الحديثة بنساء وفتيات البلاد المفتوحة . وكلنا يعرف حكاية « الترفيه » أو قصة الوحل الذي تلغ فيه جيوش الجاهلية الفاتحة في كل مكان وتخلفه وراءها للمجتمع حين ترحل يعاني منه السنوات الطوال
ثم يقرر الإسلام عقوبة مخففة على من ترتكب الفاحشة من هؤلاء الفتيات بعد إحصانها بالزواج ، واضعاً في حسابه واقعها وظروفها التي تجعلها أقرب إلى السقوط في الفاحشة ، وأضعف في مقاومة الإغراء من الحرة ، مقدراً أن الرق يقلل من الحصانة النفسية ، لأنه يغض من الشعور بالكرامة ، والشعور بشرف العائلة - وكلاهما شعور يثير الإباء في نفس الحرة - كما يقدر الحالة الاجتماعية والاقتصادية ، واختلافها بين الحرة والأمة ، وأثرها في جعل هذه أكثر تسامحاً في عرضها ، وأقل مقاومة لإغراء المال وإغراء النسب ممن يراودها عن نفسها يقدر الإسلام هذا كله فيجعل حد الأمة - بعد إحصانها - نصف حد الحرة المحصنة بالحرية قبل زواجها .
{ فإذا أحصن . فإن أتين بفاحشة ، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } .
ومفهوم أن النصف يكون من العقوبة التي تحتمل القسمة . وهي عقوبة الجلد . ولا يكون في عقوبة الرجم . إذ لا يمكن قسمتها فإذا زنت الجارية المؤمنة المتزوجة عوقبت بنصف ما تعاقب به الحرة البكر . أما عقوبة الجارية البكر فمختلف عليها بين الفقهاء . هل تكون هذا الحد نفسه - وهو نصف ما على الحرة البكر - ويتولاه الإمام؟ أم تكون تأديباً يتولاه سيدها ودون النصف من الحد؟ وهو خلاف يطلب في كتب الفقه .
أما نحن - في ظلال القرآن - فنقف أمام مراعاة هذا الدين لواقع الناس وظروفهم ، في الوقت الذي يأخذ بأيديهم في المرتقى الصاعد النظيف .
إن هذا الدين يأخذ في اعتباره - كما قلنا - واقع الناس ، دون أن يدعهم يتلبطون في الوحل باسم هذا الواقع
وقد علم الله ما يحيط بحياة الرقيق من مؤثرات .

تجعل الواحدة - ولو كانت متزوجة - أضعف من مقاومة الإغراء والوقوع في الخطيئة ، فلم يغفل هذا الواقع ويقرر لها عقوبة كعقوبة الحرة ، ولكن كذلك لم يجعل لهذا الواقع كل السلطات ، فيعفيها نهائياً من العقوبة .
قوام وسط . يلحظ كل المؤثرات وكل الملابسات .
كذلك لم يجعل من انحطاط درجة الرقيق سبباً في مضاعفة العقوبة ، كما كانت قوانين الجاهلية السائدة في الأرض كلها تصنع مع الطبقات المنحطة والطبقات الراقية؛ أو مع الوضعاء والأشراف تخفف عن الأشراف ، وتقسو على الضعاف .
كان المعمول به في القانون الروماني الشهير أن تشدد العقوبة كلما انحطت الطبقة . فكان يقول : « ومن يستهو أرملة مستقيمة أو عذراء ، فعقوبته - إن كان من بيئة كريمة - مصادرة نصف ماله . وإن كان من بيئة ذميمة فعقوبته الجلد والنفي من الأرض » .
وكان المعمول به في القانون الهندي الذي وضعه « منو » وهو القانون المعروف باسم « منوشاستر » أن البرهمي إن استحق القتل ، فلا يجوز للحاكم إلا أن يحلق رأسه . أما غيره فيقتل وإذا مد أحد المنبوذين إلى برهمي يداً أو عصاً ليبطش به قطعت يده . . . الخ «
وكان اليهود إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد .
وجاء الإسلام ليضع الحق في نصابه؛ ولياخذ الجاني بالعقوبة ، مراعياً جميع اعتبارات » الواقع « . وليجعل حد الأمة - بعد الإحصان - نصف حد الحرة قبل الإحصان . فلا يترخص فيعفيها من العقوبة ، ويجعل إرادتها ملغاة كلية من ارتكاب الفعل تحت وطأة الظروف . فهذا خلاف الواقع . ولا يغفل واقعها كذلك فيعاقبها عقاب الحرة - وواقعها يختلف عن واقع الحرة . ولا يتشدد تشدد الجاهلية مع الضعاف دون الأشراف
وما تزال الجاهلية الحديثة في أمريكا وفي جنوب أفريقية وفي غيرها تزاول هذه التفرقة العنصرية ، وتغفر للأشراف » البيض « ما لا تغفره للضعاف » الملونين « والجاهلية هي الجاهلية حيث كانت . والإسلام هو الإسلام . . حيث كان . .
ثم تنتهي الآية ببيان أن الزواج من الإماء رخصة لمن يخشى المشقة أو الفتنة . فمن استطاع الصبر - في غير مشقة ولا فتنة - فهو خير . لما أسلفناه من الملابسات التي تحيط بالزواج من الإماء :
{ ذلك لمن خشي العنت منكم . وأن تصبروا خير لكم . والله غفور رحيم } . .
إن الله لا يريد أن يعنت عباده ، ولا أن يشق عليهم ، ولا أن يوقعهم في الفتنة . وإذا كان دينه الذي اختاره لهم ، يريد منهم الاستعلاء والارتفاع والتسامي ، فهو يريد منهم هذا كله في حدود فطرتهم الإنسانية ، وفي حدود طاقتهم الكامنة ، وفي حدود حاجاتهم الحقيقية كذلك .

. ومن ثم فهو منهج ميسر ، يلحظ الفطرة ، ويعرف الحاجة ، ويقدر الضرورة . كل ما هنالك أنه لا يهتف للهابطين بالهبوط ، ولا يقف أمامهم - وهم غارقون في الوحل - يبارك هبوطهم ، ويمجد سقوطهم . أو يعفيهم من الجهد في محاولة التسامي ، أو من التبعة في قلة مقاومة الإغراء
وهو هنا يهيب بالصبر حتى تتهيأ القدرة على نكاح الحرائر؛ فهن أولى أن تصان نفوسهن بالزواج ، وأن تقوم عليهن البيوت ، وأن ينجبن كرام الأبناء ، وأن يحسن الإشراف على الجيل الناشىء ، وأن يحفظن فراش الأزواج . . فأما إذا خشي العنت : عنت المشقة عند الصبر ، وعنت الفتنة التي لا تقاوم ، فهناك الرخصة ، والمحاولة لرفع مستوى الإماء ، بذلك التكريم الذي يضفيه عليهن . فهن « فتياتكم » وهم « أهلهن » . والجميع بعضهم من بعض يربطهم الإيمان . والله أعلم بالإيمان . ولهن مهورهن فريضة . وهو نكاح لا مخادنة ولا سفاح . . وهن مسؤولات إن وقعن في الخطيئة . . ولكن مع الرفق والتخفيف ومراعاة الظروف :
{ والله غفور رحيم } . .
يعقب بها على الاضطرار لنكاح غير الحرائر . ويعقب بها على تخفيف عقوبة الإماء . . وهي في موضعها المناسب عقب هذه وتلك . فمغفرة الله ورحمته وراء كل خطيئة ، ووراء كل اضطرار .
ثم يجيء التعقيب الشامل على تلك الأحكام؛ وعلى تلك التنظيمات التي شرعها الله للأسرة في المنهج الإسلامي ، ليرفع بها المجتمع المسلم من وهدة الحياة الجاهلية؛ وليرفع بها مستواه النفسي والخلقي والاجتماعي إلى القمة السامقة النظيفة الوضيئة التي رفعه إليها . يجيء التعقيب ليكشف للجماعة المسلمة عن حقيقة ما يريده الله لها بهذا المنهج وبتلك الأحكام والتشريعات والتنظيمات؛ وعن حقيقة ما يريده بها الذين يتبعون الشهوات ويحيدون عن منهج الله :
{ يريد الله ليبين لكم ، ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، ويتوب عليكم ، والله عليم حكيم ، والله يريد أن يتوب عليكم؛ ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً . يريد الله أن يخفف عنكم ، وخلق الإنسان ضعيفاً } . .
إن الله - سبحانه - يتلطف مع عباده؛ فيبين لهم حكمة تشريعاته لهم ، ويطلعهم على ما في المنهج الذي يريده لحياتهم من خير ويسر . إنه يكرمهم - سبحانه - وهو يرفعهم إلى هذا الأفق . الأفق الذي يحدثهم فيه ، ليبين لهم حكمة ما يشرعه لهم؛ وليقول لهم : إنه يريد : أن يبين لهم . .
{ يريد الله ليبين لكم } . .
يريد الله ليكشف لكم عن حكمته؛ ويريد لكم أن تروا هذه الحكمة ، وأن تتدبروها ، وأن تقبلوا عليها مفتوحي الأعين والعقول والقلوب؛ فهي ليست معميات ولا ألغازاً؛ وهي ليست تحكماً لا علة له ولا غاية؛ وأنتم أهل لإدراك حكمتها؛ وأهل لبيان هذه الحكمة لكم . . وهو تكريم للإنسان ، يدرك مداه من يحسون حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، فيدركون مدى هذا التلطف الكريم .

{ ويهديكم سنن الذين من قبلكم } . .
فهذا المنهج هو منهج الله الذي سنه للمؤمنين جميعاً . وهو منهج ثابت في أصوله ، موحد في مبادئه ، مطرد في غاياته وأهدافه . . هو منهج العصبة المؤمنة من قبل ومن بعد . ومنهج الأمة الواحدة التي يجمعها موكب الإيمان على مدار القرون .
بذلك يجمع القرآن بين المهتدين إلى الله في كل زمان ومكان؛ ويكشف عن وحدة منهج الله في كل زمان ومكان؛ ويربط بين الجماعة المسلمة والموكب الإيماني الموصول ، في الطريق اللاحب الطويل . وهي لفتة تشعر المسلم بحقيقة أصله وأمته ومنهجه وطريقه . . إنه من هذه الأمة المؤمنة بالله ، تجمعها آصرة المنهج الإلهي ، على اختلاف الزمان والمكان ، واختلاف الأوطان؛ والألوان وتربطها سنة الله المرسومة للمؤمنين في كل جيل ، ومن كل قبيل .
{ ويتوب عليكم } . .
فهو - سبحانه - يبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، ليرحمكم . . . ليأخذ بيدكم إلى التوبة من الزلل ، والتوبة من المعصية . ليمهد لكم الطريق ، ويعينكم على السير فيه . .
{ والله عليم حكيم } . . .
فعن العلم والحكمة تصدر هذه التشريعات . ومن العلم والحكمة تجيء هذه التوجيهات . العلم بنفوسكم وأحوالكم . والعلم بما يصلح لكم وما يصلحكم . والحكمة في طبيعة المنهج وفي تطبيقاته على السواء . . .
{ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً } . .
وتكشف الآية الواحدة القصيرة عن حقيقة ما يريده الله للناس بمنهجه وطريقته ، وحقيقة ما يريده بهم الذين يتبعون الشهوات ، ويحيدون عن منهج الله - وكل من يحيد عن منهج الله إنما يتبع الشهوات - فليس هنالك إلا منهج واحد هو الجد والاستقامة والالتزام ، وكل ما عداه إن هو إلا هوى يتبع ، وشهوة تطاع ، وانحراف وفسوق وضلال .
فماذا يريد الله بالناس ، حين يبين لهم منهجه ، ويشرع لهم سنته؟ إنه يريد أن يتوب عليهم . يريد أن يهديهم . يريد أن يجنبهم المزالق . يريد أن يعينهم على التسامي في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة .
وماذا يريد الذين يتبعون الشهوات ، ويزينون للناس منابع ومذاهب لم يأذن بها الله ، ولم يشرعها لعباده؟ إنهم يريدن لهم أن يميلوا ميلاً عظيماً عن المنهج الراشد ، والمرتقى الصاعد والطريق المستقيم .
وفي هذا الميدان الخاص الذي تواجهه الآيات السابقة : ميدان تنظيم الأسرة؛ وتطهير المجتمع؛ وتحديد الصورة النظيفة الوحيدة ، التي يحب الله أن يلتقي عليها الرجال والنساء؛ وتحريم ما عداها من الصور ، وتبشيعها وتقبيحها في القلوب والعيون . . في هذا الميدان الخاص ما الذي يريده الله وما الذي يريده الذين يتبعون الشهوات؟
فأما ما يريده الله فقد بينته الآيات السابقة في السورة . وفيها إرادة التنظيم ، وإرادة التطهير ، وإرادة التيسير ، وإرادة الخير بالجماعة المسلمة على كل حال .
وأما ما يريده الذين يتبعون الشهوات فهو أن يطلقوا الغرائز من كل عقال : ديني ، أو أخلاقي ، أو اجتماعي .

. يريدون أن ينطلق السعار الجنسي المحموم بلا حاجز ولا كابح ، من أي لون كان . السعار المحموم الذي لا يقر معه قلب ، ولا يسكن معه عصب ، ولا يطمئن معه بيت ، ولا يسلم معه عرض ، ولا تقوم معه أسرة . يريدون أن يعود الآدميون قطعاناً من البهائم ، ينزو فيها الذكران على الإناث بلا ضابط إلا ضابط القوة أو الحيلة أو مطلق الوسيلة كل هذا الدمار ، وكل هذا الفساد ، وكل هذا الشر باسم الحرية ، وهي - في هذا الوضع - ليست سوى اسم آخر للشهوة والنزوة
وهذا هو الميل العظيم الذي يحذر الله المؤمنين إياه ، وهو يحذرهم ما يريده لهم الذين يتبعون الشهوات . وقد كانوا يبذلون جهدهم لرد المجتمع المسلم إلى الجاهلية في هذا المجال الأخلاقي ، الذي تفوقوا فيه وتفردوا بفعل المنهج الإلهي القويم النظيف . وهو ذاته ما تريده اليوم الأقلام الهابطة والأجهزة الموجهة لتحطيم ما بقي من الحواجز في المجتمع دون الانطلاق البهيمي ، الذي لا عاصم منه ، إلا منهج الله ، حين تقره العصبة المؤمنة في الأرض إن شاء الله .
واللمسة الأخيرة في التعقيب تتولى بيان رحمة الله بضعف الإنسان ، فيما يشرعه له من منهج وأحكام . والتخفيف عنه ممن يعلم ضعفه ، ومراعاة اليسر فيما يشرع له ، ونفي الحرج والمشقة والضرر والضرار .
{ يريد الله أن يخفف عنكم ، وخلق الإنسان ضعيفاً } . .
فأما في هذا المجال الذي تستهدفه الآيات السابقة ، وما فيها من تشريعات وأحكام وتوجيهات ، فإرادة التخفيف واضحة؛ تتمثل في الاعتراف بدوافع الفطرة ، وتنظيم الاستجابة لها وتصريف طاقتها في المجال الطيب المأمون المثمر ، وفي الجو الطاهر النظيف الرفيع؛ دون أن يكلف الله عباده عنتاً في كبتها حتى المشقة والفتنة؛ ودون أن يطلقهم كذلك ينحدرون في الاستجابة لها بغير حد ولا قيد .
وأما في المجال العام الذي يمثله المنهج الإلهي لحياة البشر كلها فإرادة التخفيف تبدو كذلك واضحة؛ بمراعاة فطرة الإنسان ، وطاقته ، وحاجاته الحقيقية؛ وإطلاق كل طاقاته البانية . ووضع السياج الذي يقيها التبدد وسوء الاستعمال
وكثيرون يحسبون أن التقيد بمنهج الله - وبخاصة في علاقات الجنسين - شاق مجهد . والانطلاق مع الذين يتبعون الشهوات ميسر مريح وهذا وهم كبير . . . فإطلاق الشهوات من كل قيد؛ وتحري اللذة -واللذة - وحدها في كل تصرف؛ واقصاء « الواجب » الذي لا مكان له إذا كانت اللذة وحدها هي الحكم الأول والأخير؛ وقصر الغاية من التقاء الجنسين في عالم الإنسان على ما يطلب من مثل هذا الالتقاء في عالم البهائم؛ والتجرد في علاقات الجنسين من كل قيد أخلاقي ، ومن كل التزام اجتماعي . . إن هذه كلها تبدو يسراً وراحة وانطلاقاً ، ولكنها في حقيقتها مشقة وجهد وثقلة . وعقابيلها في حياة المجتمع - بل في حياة كل فرد - عقابيل مؤذية مدمرة ماحقة . .
والنظر إلى الواقع في حياة المجتمعات التي « تحررت » من قيود الدين والأخلاق والحياء في هذه العلاقة ، يكفي لإلقاء الرعب في القلوب .

لو كانت هنالك قلوب
لقد كانت فوضى العلاقات الجنسية هي المعول الأول الذي حطم الحضارات القديمة . حطم الحضارة الإغريقية وحطم الحضارة الرومانية وحطم الحضارة الفارسية . وهذه الفوضى ذاتها هي التي أخذت تحطم الحضارة الغربية الراهنة؛ وقد ظهرت آثار التحطيم شبه كاملة في انهيارات فرنسا التي سبقت في هذه الفوضى؛ وبدأت هذه الآثار تظهر في أمريكا والسويد وانجلترا ، وغيرها من دول الحضارة الحديثة .
وقد ظهرت آثار هذه الفوضى في فرنسا مبكرة ، مما جعلها تركع على أقدامها في كل حرب خاضتها منذ سنة 1870 إلى اليوم ، وهي في طريقها إلى الانهيار التام ، كما تدل جميع الشواهد . وهذه بعض الأمارات التي أخذت تبدو واضحة من بعد الحرب العالمية الأولى :
« إن أول ما قد جر على الفرنسيين تمكن الشهوات منهم : اضمحلال قواهم الجسدية ، وتدرجها إلى الضعف يوماً فيوماً . فإن الهياج الدائم قد أوهن أعصابهم؛ وتعبد الشهوات يكاد يأتي على قوة صبرهم وجلدهم؛ وطغيان الأمراض السرية قد أجحف بصحتهم . فمن أوائل القرن العشرين لا يزال حكام الجيش الفرنسي يخفضون من مستوى القوة والصحة البدنية المطلوب في المتطوعة للجند الفرنسي ، على فترة كل بضع سنين . لأن عدد الشبان الوافين بالمستوى السابق من القوة والصحة لا يزال يقل ويندر في الأمة على مسير الأيام . . وهذا مقياس أمين ، يدلنا كدلالة مقياس الحرارة - في الصحة والتدقيق - على كيفية اضمحلال القوى الجسدية في الأمة الفرنسية . ومن أهم عوامل هذا الاضمحلال : الأمراض السرية الفتاكة . يدل على ذلك أن كان عدد الجنود الذين اضطرت الحكومة إلى أن تعفيهم من العمل ، وتبعث بهم إلى المستشفيات ، في السنتين الأوليين من سني الحرب العالمية الأولى ، لكونهم مصابين بمرض الزهري ، خمسة وسبعين الفاً . وابتلي بهذا المرض وحده 242 جندياً في آن واحد في ثكنة متوسطة . وتصور - بالله - حال هذه الأمة البائسة في الوقت الذي كانت فيه - بجانب - في المضيق الحرج بين الحياة والموت ، فكانت أحوج ما تكون إلى مجاهدة كل واحد من أبنائها المحاربين لسلامتها وبقائها . وكان كل فرنك من ثروتها مما يضن به ويوفر؛ وكانت الحال تدعو إلى بذل أكثر ما يمكن من القوة والوقت وسائر الأدوات والوسائل في سبيل الدفاع . وكان - بجانب آخر - أبناؤها الشباب الذين تعطل آلاف منهم عن أعمال الدفاع ، من جراء انغماسهم في اللذات؛ وما كفى أمتهم ذلك خسراناً ، بل ضيعوا جانباً من ثروة الأمة ووسائلها في علاجهم ، في تلك الأوضاع الحرجة » .
« يقول طبيب فرنسي نطاسي يدعى الدكتور ليريه : إنه يموت في فرنسا ثلاثون ألف نسمة بالزهري ، وما يتبعه من الأمراض الكثيرة في كل سنة .

وهذا المرض هو أفتك الأمراض بالأمة الفرنسية بعد حمى « الدق » . وهذه جريرة مرض واحد من الأمراض السرية التي فيها عدا هذا أمراض كثيرة أخرى « .
والأمة الفرنسية يتناقص تعدادها بشكل خطير : ذلك أن سهولة تلبية الميل الجنسي ، وفوضى العلاقات الجنسية والتخلص من الأجنة والمواليد ، لا تدع مجالاً لتكوين الأسرة ، ولا لاستقرارها ولا لاحتمال تبعة الأطفال الذين يولدون من الالتقاء الجنسي العابر . ومن ثم يقل الزواج ، ويقل التناسل ، وتتدحرج فرنسا منحدرة إلى الهاوية .
» سبعة أو ثمانية في الألف هو معدل الرجال والنساء الذين يتزوجون في فرنسا اليوم . ولك أن تقدر من هذا المعدل المنخفض كثرة النفوس التي لا تتزوج من أهاليها . ثم هذا النزر القليل من الذين يعقدون الزواج ، قل فيهم من ينوون به التحصن والتزام المعيشة البرة الصالحة بل هم يقصدون به كل غرض سوى هذا الغرض . حتى إنه كثيراً ما يكون من مقاصد زواجهم أن يحللوا به الولد النغل الذي قد ولدته أمه قبل النكاح ويتخذوه ولداً شرعياً فقد كتب « بول بيورو » : من العادة الجارية في طبقة العاملين في فرنسا أن المرأة منهم تأخذ من خدنها ميثاقاً قبل أن يعقد بينهما النكاح ، أن الرجل سيتخذ ولدها الذي ولدته قبل النكاح ولداً شرعياً له وجاءت امرأة في محكمة الحقوق بمدينة سين Siene فصرحت : إنني كنت قد آذنت بعلي عن النكاح بأني لا أقصد بالزواج إلا استحلال الأولاد الذين ولدتهم نتيجة اتصالي به قبل النكاح . وأما أن أعاشره وأعيش معه كزوجة ، فما كان في نيتي عند ذاك ، ولا هو في نيتي الآن . ولذلك اعتزلت زوجي في أصيل اليوم الذي تم فيه زواجنا ، ولم ألتق به إلى هذا اليوم ، لأني كنت لا أنوي قط أن أعاشره معاشرة زوجية « .
» قال عميد كلية شهيرة في باريس لبول بيورو : إن عامة الشباب يريدون بعقد النكاح استخدام بغي في بيتهم أيضاً . ذلك أنهم يظلون مدة عشر سنين أو أكثر يهيمون في أودية الفجور أحراراً طلقاء . ثم يأتي عليهم حين من دهرهم يملون تلك الحياة الشريدة المتقلقلة ، فيتزوجون بامرأة بعينها ، حتى يجمعوا بين هدوء البيت وسكينته ، ولذة المخادنة الحرة خارج البيت « .
وهكذا تدهورت فرنسا . وهكذا هزمت في كل حرب خاضتها ، وهكذا تتوارى عن مسرح الحضارة ثم عن مسرح الوجود يوماً بعد يوم . حتى تحق سنة الله التي لا تتخلف؛ وإن بدت بطيئة الدوران في بعض الأحيان بالقياس إلى تعجل الإنسان
أما في الدول التي لا تزال تبدو فتية ، أو لم تظهر فيها آثار الدمار واضحة بعد ، فهذه نماذج مما يجري فيها :
يقول صحفي ممن زاروا السويد حديثاً .

. بعد أن يتحدث عن « حرية الحب في السويد ، وعن الرخاء المادي ، والضمانات الاجتماعية في مجتمعها الاشتراكي النموذجي : »
« إذا كانت أقصى أحلامنا أن نحقق للشعب هذا المستوى الاقتصادي الممتاز؛ وأن نزيل الفوارق بين الطبقات بهذا الاتجاه الاشتراكي الناجح؛ وأن نؤمن المواطن ضد كل ما يستطيع أي عقل أن يتصوره من أنواع العقبات في الحياة . . إذا وصلنا إلى هذا الحلم البهيج الذي نسعى بكل قوانا وإمكانياتنا إلى تحقيقه في مصر . . فهل نرضى نتائجه الأخرى؟ هل نقبل الجانب الأسود من هذا المجتمع المثالي؟ هل نقبل » حرية الحب « وآثارها الخطيرة على كيان الأسرة؟
» دعونا نتحدث بالأرقام . . . «
» مع وجود كل هذه المشجعات على الاستقرار في الحياة ، وتكوين أسرة ، فإن الخط البياني لعدد سكان السويد يميل إلى الانقراض . . مع وجود الدولة التي تكفل للفتاة إعانة زواج؛ ثم تكفل لطفلها الحياة المجانية حتى يتخرج في الجامعة ، فإن الأسرة السويدية في الطريق إلى عدم إنجاب أطفال على الإطلاق «
» يقابل هذا انخفاض مستمر في نسبة المتزوجين . وارتفاع مستمر في نسبة عدد المواليد غير الشرعبين . مع ملاحظة أن عشرين في المائة من البالغين الأولاد والبنات لا يتزوجون أبداً « .
» لقد بدأ عهد التصنيع . وبدأ معه المجتمع الاشتراكي في السويد عام1870 . كانت نسبة الأمهات - غير المتزوجات - في ذلك العام 7 في المائة ، وارتفعت هذه النسبة في عام 1920 إلى 16 في المائة . والاحصاءات بعد ذلك لم أعثر عليها . ولكنها ولا شك مستمرة في الزيادة « .
» وقد أجرت المعاهد العلمية عدة استفسارات عن « الحب الحر » في السويد ، فتبين منها أن الرجل تبدأ علاقاته الجنسية بدون زواج في سن الثامنة عشرة ، والفتاة في سن الخامسة عشرة . وأن 95 في المائة من الشبان في سن 21 سنة لهم علاقات جنسية «
» وإذا أردنا تفصيلات تقنع المطالبين بحرية الحب ، فإننا نقول : إن 7 في المائة من هذه العلاقات الجنسية مع خطيبات ، و 35 في المائة منها مع حبيبات و 58 في المائة منها مع صديقات عابرات «
» وإذا سجلنا النسب عن علاقة المرأة الجنسية بالرجل قبل سن العشرين . وجدنا أن 3 في المائة من هذه العلاقات مع أزواج . و 27 في المائة منها مع خطيب و64 في المائة منها مع صديق عابر «
» وتقول الأبحاث العلمية : إن 80 في المائة من نساء السويد مارسن علاقات جنسية كاملة قبل الزواج و20 في المائة بقين بلا زواج «
» وأدت حرية الحب بطبيعة الحال إلى الزواج المتأخر ، وإلى الخطبة الطويلة الأجل . مع زيادة عدد الأطفال غير الشرعيين كما قلت « .

« والنتيجة الطبيعية بعد ذلك أن يزيد تفكك الأسرة . . إن أهل السويد يدافعون عن » حرية الحب « بقولهم : إن المجتمع السويدي ينظر نظرة احتقار إلى الخيانة بعد الزواج ، كأي مجتمع متمدن آخر وهذا صحيح لا ننكره ولكنهم لا يستطيعون الدفاع عن الاتجاه إلى انقراض النسل . ثم الزيادة المروعة في نسبة الطلاق » .
« إن نسبة الطلاق في السويد هي أكبر نسبة في العالم . إن طلاقاً واحداً يحدث بين كل ست أو سبع زيجات ، طبقاً للإحصاءات التي أعدتها وزارة الشؤون الاجتماعية بالسويد . والنسبة بدأت صغيرة ، وهي مستمرة في الزيادة . . في عام 1925 كان يحدث 26 طلاقاً بين كل 100 ألف من السكان - ارتفع هذا الرقم إلى 104 في عام 1952 ، ثم ارتفع إلى 114 في عام 1954 » .
« وسبب ذلك أن 30 في المائة من الزيجات تتم اضطراراً تحت ضغط الظروف ، بعد أن تحمل الفتاة . والزواج بحكم » الضرورة « لا يدوم بطبيعة الحال كالزواج العادي . ويشجع على الطلاق أن القانون السويدي لا يضع أية عقبة أمام الطلاق إذا قرر الزوجان أنهما يريدان الطلاق . فالأمر سهل جداً ، وإذا طلب أحدهما الطلاق . فإن أي سبب بسيط يقدمه ، يمكن أن يتم به الطلاق »
« وإذا كانت حرية الحب مكفولة في السويد . . فهناك حرية أخرى يتمتع بها غالبية أهل السويد . . إنها حرية عدم الإيمان بالله لقد انتشرت في السويد الحركات التحررية من سلطان الكنيسة على الإطلاق . وهذه الظاهرة تسود النرويج والدنمرك أيضاً . المدرسون في المدارس والمعاهد يدافعون عن هذه الحرية ويبثونها في عقول النشء والشباب . »
« والجيل الجديد ينحرف . . وهذه ظاهرة جديدة تهدد الجيل الجديد في السويد وباقي دول اسكندنافيا . إن افتقادهم للإيمان يجرفهم إلى الانحراف ، وإلى الإدمان على المخدرات والخمور . . وقد قدر عدد أطفال العائلات التي لها أب مدمن بحوالي 175 ألفاً . أي ما يوازي 10 في المائة من مجموع أطفال العائلات كلها . وإقبال المراهقين على إدمان الخمر يتضاعف . . إن من يقبض عليهم البوليس السويدي في حالة سكر شديد من المراهقين بين سن 15 و 17 يوازي ثلاثة أمثال عدد المقبوض عليهم بنفس السبب منذ 15عاماً . وعادة الشرب بين المراهقين والمراهقات تسير من سيىء إلى أسوأ . . ويتبع ذلك حقيقة رهيبة » .
« إن عشر الذين يصلون إلى سن البلوغ في السويد يتعرضون لاضطرابات عقلية ويقول أطباء السويد : إن50 في المائة من مرضاهم يعانون من اضطرابات عقلية تلازم أمراضهم الجسدية . ولا شك أن التمادي في التمتع بحرية عدم الإيمان سيضاعف هذه الانحرافات النفسية ، ويزيد من دواعي تفكك الأسرة . ويقربهم إلى هوة انقراض النسل . . . »
والحال في أمريكا لا تقل عن هذه الحال .

ونذر السوء تتوالى . والأمة الأمريكية في عنفوانها لا تتلفت للنذر . ولكن عوامل التدمير تعمل في كيانها ، على الرغم من هذا الرواء الظاهري؛ وتعمل بسرعة ، مما يشي بسرعة الدمار الداخلي على الرغم من كل الظواهر الخارجية
لقد وجد الذين يبيعون أسرار أمريكا وبريطانيا العسكرية لأعدائهم ، لا لأنهم في حاجة إلى المال . ولكن لأن بهم شذوذاً جنسياً ، ناشئاً من آثار الفوضى الجنسية السائدة في المجتمع .
وقبل سنوات وضع البوليس الأمريكي يده على عصابة ضخمة ذات فروع في مدن شتى . مؤلفة من المحامين والأطباء - أي من قمة الطبقة المثقفة - مهمتها مساعدة الأزواج والزوجات على الطلاق بإيجاد الزوج أو الزوجة في حالة تلبس بالزنا ، وذلك لأن بعض الولايات لا تزال تشترط هذا الشرط لقبول توقيع الطلاق ومن ثم يستطيع الطرف الكاره أن يرفع دعوى على شريكه بعد ضبطه عن طريق هذه العصابة متلبساً ، وهي التي أوقعته في حبائلها
كذلك من المعروف أن هناك مكاتب مهمتها البحث عن الزوجات الهاربات والبحث عن الأزواج الهاربين وذلك في مجتمع لا يدري فيه الزوج إن كان سيعود فيجد زوجته في الدار أم يجدها قد طارت مع عشيق ولا تدري الزوجة إن كان زوجها الذي خرج في الصباح سيعود إليها أم ستخطفه أخرى أجمل منها أو أشد جاذبية مجتمع تعيش البيوت فيه في مثل هذا القلق الذي لا يدع عصباً يستريح
وأخيراً يعلن رئيس الولايات المتحدة أن ستة من كل سبعة من شباب أمريكا لم يعودوا يصلحون للجندية بسبب الانحلال الخلقي الذي يعيشون فيه .
وقد كتبت إحدى المجلات الأمريكية منذ أكثر من ربع قرن تقول :
« عوامل شيطانية ثلاثة يحيط ثالوثها بدنيانا اليوم . وهي جميعها في تسعير سعير لأهل الأرض ، أولها : الأدب الفاحش الخليع الذي لا يفتأ يزداد في وقاحة ورواجه بعد الحرب العالمية ( الأولى ) بسرعة عجيبة . والثاني الأفلام السينمائية التي لا تذكي في الناس عواطف الحب الشهواني فحسب ، بل تلقنهم دروساً عملية في بابه . والثالث انحطاط المستوى الخلقي في عامة النساء ، الذي يظهر في ملابسهن ، بل في عريهن ، وفي إكثارهن من التدخين ، واختلاطهن بالرجال بلا قيد ولا التزام . . هذه المفاسد الثلاث فينا إلى الزيادة والانتشار بتوالي الأيام . ولا بد أن يكون مآلها زوال الحضارة والاجتماع النصرانيين وفناءهما آخر الأمر . فإن نحن لم نحد من طغيانها ، فلا جرم أن يأتي تاريخنا مشابهاً لتاريخ الرومان ، ومن تبعهم من سائر الأمم ، الذين قد أوردهم هذا الاتباع للأهواء والشهوات موارد الهلكة والفناء ، مع ما كانوا فيه من خمر ونساء ، أو مشاغل رقص ولهو وغناء » .
والذي حدث أن أمريكا لم تحد من طغيان هذه العوامل الثلاثة ، بل استسلمت لها تماماً وهي تمضي في الطريق الذي سار فيه الرومان
ويكتب صحفي آخر عن موجة انحراف الشباب في أمريكا وبريطانيا وفرنسا ، ليهون من انحلال شبابنا يقول :
« انتشرت موجة الإجرام بين المراهقين والمراهقات من شباب أمريكا .

وأعلن حاكم ولاية نيويورك ، أنه سوف يجعل علاج هذا الانحراف على رأس برنامج الإصلاح الذي يقوم به في الولاية : «
» وعمد الحاكم إلى انشاء المزارع و « الإصلاحيات » التهذيبية والأندية الرياضية . . الخ «
» ولكنه أعلن أن علاج الإدمان على المخدرات - التي انتشرت بصفة خاصة بين طلبة وطالبات الجامعات ومنها الحشيش والكوكايين - لا يدخل في برنامجه ، وأنه يترك أمره للسلطات الصحية «
» وأما في انجلترا فقد كثرت في العامين الأخيرين جرائم الاعتداء على النساء وعلى الفتيات الصغيرات في طرق الريف . وفي معظم الحالات كان المعتدي أو المجرم غلاماً مراهقاً . وفي بعضها كان المجرم يعمد إلى خنق الفتاة أو الطفلة ، وتركها جثة هامدة ، حتى لا تفشي سره ، أو تتعرف عليه ، إذا عرضه عليها رجال البوليس « .
» ومنذ شهرين اثنين كان شيخ عجوز في طريقه إلى القرية ، عندما أبصر على جانب الطريق - وتحت شجرة - غلاماً يضاجع فتاة . . «
» واقترب الشيخ منهما ، ووكز الغلام بعصاه وزجره ووبخه ، وقال له : إن ما يفعله لا يجوز ارتكابه في الطريق العام «
» ونهض الفتى ، وركل الشيخ بكل قوته في بطنه . . . ووقع الشيخ « .
» وهنا ركله الفتى في رأسه بحذائه . . . واستمر يركله بقسوة حتى تهشم الرأس «
» وكان الغلام في الخامسة عشرة ، والفتاة في الثالثة عشرة من عمرها «
وقد قررت لجنة الأربعة عشر الأمريكية التي تعنى بمراقبة حالة البلاد الخلقية أن90 في المائة من الشعب الأمريكي مصابون بالأمراض السرية الفتاكة ( وذلك قبل وجود المركبات الحديثة من مضادات الحيويات كالبنسلين والاستريبتومايسين )
وكتب القاضي لندسي بمدينة » دنفر « أنه من كل حالتي زواج تعرض قضية طلاق
وكتب الطبيب العالم العالمي ألكسيس كاريل في كتابه : » الإنسان ذلك المجهول « :
» بالرغم من أننا بسبيل القضاء على إسهال الأطفال والسل والدفتريا والحمى التيفودية . الخ فقد حلت محلها أمراض الفساد والانحلال . فهناك عدد كبير من أمراض الجهاز العصبي والقوى العقلية . . . ففي بعض ولايات أمريكا يزيد عدد المجانين الذين يوجدون في المصحات على عدد المرضى الموجودين في جميع المستشفيات الأخرى . وكالجنون ، فإن الاضطرابات العصبية وضعف القوى العقلية آخذ في الازدياد . وهي أكثر العناصر نشاطاً في جلب التعاسة للأفراد ، وتحطيم الأسر . . إن الفساد العقلي أكثر خطورة على الحضارة من الأمراض المعدية ، التي قصر علماء الصحة والأطباء اهتمامهم عليها حتى الآن « . .
هذا طرف مما تتكلفه البشرية الضالة ، في جاهليتها الحديثة ، من جراء طاعتها للذين يتبعون الشهوات ولا يريدون أن يفيئوا إلى منهج الله للحياة .

المنهج الملحوظ فيه اليسر والتخفيف على الإنسان الضعيف؛ وصيانته من نزواته ، وحمايته من شهواته ، وهدايته إلى الطريق الآمن ، والوصول به إلى التوبة والصلاح والطهارة :
{ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً . يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً } .
والفقرة الثانية في هذا الدرس ، تتناول جانباً من العلاقات المالية في المجتمع المسلم ، لتنظيم طرق التعامل في هذا الجانب؛ لضمان طهارة التعامل بين الأفراد عامة؛ ثم لتقرير حق النساء كالرجال في الملك والكسب - كل حسب نصيبه - وأخيراً لتنظيم التعامل في عقود الولاء التي كانت سارية في الجاهلية وفي القسم الأول من صدر الإسلام ، لتصفية هذا النظام ، وتخصيص الميراث بالأقارب؛ ومنع عقود الولاء الجديدة :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم - ولا تقتلوا أنفسكم ، إن الله كان بكم رحيماً . ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً . وكان ذلك على الله يسيراً . إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم؛ وندخلكم مدخلاً كريماً . ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ، للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ، وأسالوا الله من فضله ، إن الله كان بكل شيء عليماً ، ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون؛ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيداً } . .
إنها حلقة في سلسلة التربية ، وحلقة في سلسلة التشريع . . والتربية والتشريع في المنهج الإسلامي متلازمان؛ أو متداخلان؛ أو متكاملان . . فالتشريع منظور فيه إلى التربية؛ كما هو منظور فيه إلى تنظيم شؤون الحياة الواقعية؛ والتوجيهات المصاحبة للتشريع منظور فيها إلى تربية الضمائر؛ كما أنه منظور فيها إلى حسن تنفيذ التشريع ، وانبعاث التنفيذ عن شعور بجدية هذا التشريع؛ وتحقق المصلحة فيه . والتشريع والتوجيه المصاحب منظور فيهما - معاً - إلى ربط القلب بالله ، وإشعاره بمصدر هذا المنهج المتكامل من التشريع والتوجيه . . وهذه هي خاصية المنهج الرباني للحياة البشرية . . هذا التكامل الذي يصلح الحياة الواقعية ، ويصلح الضمير البشري في ذات الأوان . .
وهنا في هذه الفقرة نجد النهي للذين آمنوا عن أكل أموالهم بينهم بالباطل - وبيان الوجه الحلال للربح في تداول الأموال - وهو التجارة - ونجد إلى جانبه تصوير أكل الأموال بالباطل بأنه قتل للأنفس؛ وهلكة وبوار . ونجد إلى جانبه كذلك التحذير من عذاب الآخرة ، ومس النار . . وفي الوقت ذاته نجد التيسير والوعد بالمغفرة والتكفير ، والعون على الضعف والعفو عن التقصير . . كذلك نجد تربية النفوس على عدم التطلع إلى ما أنعم الله على البعض ، والتوجه إلى الله - صاحب العطاء - وسؤال من بيده الفضل والعطاء .

وذلك التوجيه مصاحب لتقرير حق الرجال ونصيبهم فيما اكتسبوا ، وحق النساء ونصيبهن فيما اكتسبن ، وهذا وذلك مصحوب بأن الله كان بكل شيء عليماً . . كما أن بيان التصرف في عقود الولاء ، والأمرء بالوفاء بها نجده مصحوباً بأن الله كان على كل شيء شهيداً . . وهي لمسات وجدانية مؤثرة مصاحبة للتشريع ، وتوجيهات تربوية من صنع العليم بالإنسان ، وتكوينه النفسي ، ومسالك نفسه ودروبها الكثيرة .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم - ولا تقتلوا أنفسكم . إن الله كان بكم رحيماً . ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً ، وكان ذلك على الله يسيراً } .
النداء للذين آمنوا ، والنهي لهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } .
مما يوحي بأنها عملية تطهير لبقايا رواسب الحياة الجاهلية في المجتمع الإسلامي؛ واستجاشة ضمائر المسلمين بهذا النداء : { يا أيها الذين آمنوا } . . واستحياء مقتضيات الإيمان . مقتضيات هذه الصفة التي يناديهم الله بها ، لينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل .
وأكل الأموال بالباطل يشمل كل طريقة لتداول الأموال بينهم لم يأذن بها الله ، أو نهى عنها ، ومنها الغش والرشوة والقمار واحتكار الضروريات لإغلائها ، وجميع أنواع البيوع المحرمة - والربا في مقدمتها - ولا نستطيع أن نجزم إن كان هذا النص قد نزل بعد تحريم الربا أو قبله؛ فإن كان قد نزل قبله ، فقد كان تمهيداً للنهي عنه . فالربا أشد الوسائل أكلاً للأموال بالباطل . وإن كان قد نزل بعده ، فهو يشمله فيما يشمل من ألوان أكل أموال الناس بالباطل .
واستثنى العمليات التجارية التي تتم عن تراض بين البائع والشاري :
{ إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } . .
وهو استثناء منقطع . . تأويله : ولكن إذا كانت تجارة عن تراض منكم فليست داخلة في النص السابق . . ولكن مجيئها هكذا في السياق القرآني ، يوحي بنوع من الملابسة بينها وبين صور التعامل الأخرى ، التي توصف بأنها أكل لأموال الناس بالباطل . . وندرك هذه الملابسة إذا استصحبنا ما ورد في آيات النهي عن الربا - في سورة البقرة - من قول المرابين في وجه تحريم الربا : { إنما البيع مثل الربا } ورد الله عليهم في الآية نفسها : { وأحل الله البيع وحرم الربا } . فقد كان المرابون يغالطون؛ وهم يدافعون عن نظامهم الاقتصادي الملعون . فيقولون : إن البيع - وهو التجارة - تنشأ عنها زيادة في الأموال وربح . فهو - من ثم - مثل الربا . فلا معنى لإحلال البيع وتحريم الربا
والفرق بعيد بين طبيعة العمليات التجارية والعمليات الربوية أولاً ، وبين الخدمات التي تؤديها التجارة للصناعة وللجماهير؛ والبلاء الذي يصبه الربا على التجارة وعلى الجماهير .
فالتجارة وسيط نافع بين الصناعة والمستهلك؛ تقوم بترويج البضاعة وتسويقها؛ ومن ثم تحسينها وتيسير الحصول عليها معاً .

وهي خدمة للطرفين ، وانتفاع عن طريق هذه الخدمة . انتفاع يعتمد كذلك على المهارة والجهد؛ ويتعرض في الوقت ذاته للربح والخسارة . .
والربا على الضد من هذا كله . يثقل الصناعة بالفوائد الربوية التي تضاف إلى أصل التكاليف ويثقل التجارة والمستهلك بأداء هذه الفوائد التي يفرضها على الصناعة . وهو في الوقت ذاته - كما تجلى ذلك في النظام الرأسمالي عندما بلغ أوجه - يوجه الصناعة والاستثمار كله وجهة لا مراعاة فيها لصالح الصناعة ولا لصالح الجماهير المستهلكة؛ وإنما الهدف الأول فيها زيادة الربح للوفاء بفوائد القروض الصناعية . ولو استهلكت الجماهير مواد الترف ولم تجد الضروريات ولو كان الاستثمار في أحط المشروعات المثيرة للغرائز ، المحطمة للكيان الإنساني . . وفوق كل شيء . . هذا الربح الدائم لرأس المال؛ وعدم مشاركته في نوبات الخسارة - كالتجارة - وقلة اعتماده على الجهد البشري ، الذي يبذل حقيقة في التجارة . . إلى آخر قائمة الاتهام السوداء التي تحيط بعنق النظام الربوي؛ وتقتضي الحكم عليه بالإعدام؛ كما حكم عليه الإسلام
فهذه الملابسة بين الربا والتجارة؛ هي التي لعلها جعلت هذا الاستدراك - { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } يجيء عقب النهي عن أكل الأموال بالباطل . وإن كان استثناء منقطعاً كما يقول النحويون
{ ولا تقتلوا أنفسكم . إن الله كان بكم رحيماً } . .
تعقيب يجيء بعد النهي عن أكل الأموال بالباطل؛ فيوحي بالآثار المدمرة التي ينشئها أكل الأموال بالباطل في حياة الجماعة؛ إنها عملية قتل . . يريد الله أن يرحم الذين آمنوا منها ، حين ينهاهم عنها
وإنها لكذلك . فما تروج وسائل أكل الأموال بالباطل في جماعة : بالربا . والغش . والقمار . والاحتكار . والتدليس . والاختلاس . والاحتيال . والرشوة . والسرقة . وبيع ما ليس يباع : كالعرض . والذمة . والضمير . والخلق . والدين - مما تعج به الجاهليات القديمة والحديثة سواء - ما تروج هذه الوسائل في جماعة ، إلا وقد كتب عليها أن تقتل نفسها ، وتتردى في هاوية الدمار
والله يريد أن يرحم الذين آمنوا من هذه المقتلة المدمرة للحياة ، المردية للنفوس؛ وهذا طرف من إرادة التخفيف عنهم؛ ومن تدارك ضعفهم الإنساني ، الذي يرديهم حين يتخلون عن توجيه الله ، إلى توجيه الذين يريدون لهم أن يتبعوا الشهوات
ويلي ذلك التهديد بعذاب الآخرة ، تهديد الذين يأكلون الأموال بينهم بالباطل ، معتدين ظالمين . تهديدهم بعذاب الآخرة؛ بعد تحذيرهم من مقتلة الحياة الدنيا ودمارها . الآكل فيهم والمأكول؛ فالجماعة كلها متضامنة في التبعة؛ ومتى تركت الأوضاع المعتدية الظالمة ، التي تؤكل فيها الأموال بالباطل تروج فيها فقد حقت عليها كلمة الله في الدنيا والآخرة :
{ ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً ، فسوف نصليه ناراً ، وكان ذلك على الله يسيراً } .
وهكذا يأخذ المنهج الإسلامي على النفس أقطارها - في الدنيا والآخرة - وهو يشرع لها ويوجهها؛ ويقيم من النفس حارساً حذراً يقظاً على تلبية التوجيه ، وتنفيذ التشريع؛ ويقيم من الجماعة بعضها على بعض رقيباً لأنها كلها مسؤولة؛ وكلها نصيبها المقتلة والدمار في الدنيا ، وكلها تحاسب في الآخرة على إهمالها وترك الأوضاع الباطلة تعيش فيها .

. { وكان ذلك على الله يسيراً } فما يمنع منه مانع ، ولا يحول دونه حائل ، ولا يتخلف ، متى وجدت أسبابه عن الوقوع
وفي مقابل اجتناب « الكبائر » - ومنها أكل الأموال بينهم بالباطل - يعدهم الله برحمته ، وغفرانه ، وتجاوزه ، عما عدا الكبائر؛ مراعاة لضعفهم الذي يعلمه - سبحانه - وتيسيراً عليهم ، وتطميناً لقلوبهم؛ وعوناً لهم على التحاجز عن النار؛ باجتناب الفواحش الكبار :
{ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ، نكفر عنكم سيئاتكم ، وندخلكم مدخلاً كريماً } .
ألا ما أسمح هذا الدين وما أيسر منهجه على كل ما فيه من هتاف بالرفعة والسمو والطهر والنظافة ، والطاعة . وعلى كل ما فيه من التكاليف والحدود ، والأوامر والنواهي ، التي يراد بها إنشاء نفوس زكية طاهرة؛ وإنشاء مجتمع نظيف سليم .
إن هذا الهتاف؛ وهذه التكاليف؛ لا تغفل - في الوقت ذاته - ضعف الإنسان وقصوره؛ ولا تتجاوز به حدود طاقته وتكوينه؛ ولا تتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها؛ ولا تجهل كذلك دروب نفسه ومنحنياتها الكثيرة .
ومن ثم هذا التوازن بين التكليف والطاقة . وبين الأشواق والضرورات . وبين الدوافع والكوابح . وبين الأوامر والزواجر . وبين الترغيب والترهيب . وبين التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة . .
إنه حسبُ هذا الدين من النفس البشرية أن يتم اتجاهها لله؛ وأن تخلص حقاً في هذا الاتجاه ، وأن تبذل غاية الجهد في طاعته ورضاه . . فأما بعد ذلك . . فهناك رحمة الله . . هناك رحمة الله ترحم الضعف ، وتعطف على القصور؛ وتقبل التوبة ، وتصفح عن التقصير؛ وتكفر الذنب وتفتح الباب للعائدين ، في إيناس وفي تكريم . .
وآية بذل الطاقة اجتناب كبائر ما نهى الله عنه . أما مقارفة هذه الكبائر- وهي واضحة ضخمة بارزة؛ لا ترتكبها النفس وهي جاهلة لها أو غير واعية فهي دليل على أن هذه النفس لم تبذل المحاولة المطلوبة؛ ولم تستنفد الطاقة في المقاومة . . وحتى هذه فالتوبة منها في كل وقت مع الإخلاص مقبولة برحمة الله التي كتبها على نفسه . . وقد قال فيها : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } . وعدهم من { المتقين } .
إنما الذي نحن بصدده هنا هو تكفير السيئات والذنوب مباشرة من الله ، متى اجتنبت الكبائر؛ وهذا هو وعد الله هنا وبشراه للمؤمنين .
أما ما هي الكبائر . . فقد وردت أحاديث تعدد أنواعاً منها - ولا تستقصيها - وذلك بدليل احتواء كل حديث على مجموعة تزيد أو تنقص؛ مما يدل على أن هذه الأحاديث كانت تعالج حالات واقعة؛ فتذكر من الكبائر - في كل حديث - ما يناسب الملابسة الحاضرة ، والمسلم لا يعسر عليه أن يعلم « الكبائر » من الذنوب .

وإن كانت تختلف عدداً ونوعاً بين بيئة وبيئة ، وبين جيل وجيل
ونذكر هنا قصة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو المتحرج المتشدد الشديد الحساسية بالمعصية . تبين - مع ذلك كله - كيف قوّم الإسلام حسه المرهف ، وكيف جعل الميزان الحساس يعتدل في يده ويستقيم؛ وهو يعالج أمور المجتمع وأمور النفوس :
قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون؛ عن الحسن أن ناساً سألوا عبدالله بن عمرو بمصر ، فقالوا نرى أشياء من كتاب الله - عز وجل - أمر أن يعمل بها ، لا يعمل بها؛ فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك . فقدم وقدموا معه . فلقي عمر - رضي الله - عنه فقال : متى قدمت؟ فقال : منذ كذا وكذا . قال : أبإذن قدمت؟ قال : فلا أدري كيف رد عليه . فقال : أمير المؤمنين إن ناساً لقوني بمصر ، فقالوا : إنا نرى أشياء في كتاب الله ، أمر أن يعمل بها ، فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك . قال : فاجمعهم لي . قال فجمعتهم له . قال أبو عون : أظنه قال : في بهو . . فأخذ أدناهم رجلاً؛ فقال : أنشدك الله ، وبحق الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله قال : نعم . قال : فهل أحصيته في نفسك؟ فقال : اللهم لا - ولو قال : نعم ، لخصمه قال : فهل أحصيته في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك . . ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال : ثكلت عمر أمه أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات . قال : وتلا : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } . . . الآية . ثم قال : هل علم أهل المدينة؟ أو قال : هل علم أحد بما قدمتم؟ قالوا : لا . قال لو علموا لوعظت بكم « .
فهكذا كان عمر - المتحرج الشديد الحساسية - يسوس القلوب والمجتمع؛ وقد قوم القرآن حسه؛ وأعطاه الميزان الدقيق . . » قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات « ولن نكون غير ما علم ربه أن نكون إنما المعول عليه هو القصد والتصويب والمحاولة والرغبة في الوفاء بالالتزامات ، وبذل الجهد في هذا الوفاء . . إنه التوازن والجد واليسر والاعتدال .
وفي سياق الحديث عن الأموال ، وتداولها في الجماعة ، تجيء تكملة فيما بين الرجال والنساء من ارتباطات ومعاملات . وفيما كان من عقود الولاء وعلاقاتها بنظام التوريث العام . الذي سبق تفصيله في أوائل السورة :
{ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض . . للرجال نصيب مما اكتسبوا ، وللنساء نصيب مما اكتسبن . . واسألوا الله من فضله .

إن الله كان بكل شيء عليما . ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون . والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم . إن الله كان على كل شيء شهيداً . . }
والنص عام في النهي عن تمني ما فضل الله بعض المؤمنين على بعض . . من أي أنواع التفضيل ، في الوظيفة والمكانة ، وفي الاستعدادات والمواهب ، وفي المال والمتاع . . وفي كل ما تتفاوت فيه الأنصبة في هذه الحياة . . والتوجه بالطلب إلى الله ، وسؤاله من فضله مباشرة؛ بدلاً من إضاعة النفس حسرات في التطلع إلى التفاوت؛ وبدلاً من المشاعر المصاحبة لهذا التطلع من حسد وحقد؛ ومن حنق كذلك ونقمة ، أو من شعور بالضياع والحرمان ، والتهاوي والتهافت أمام هذا الشعور . . وما قد ينشأ عن هذا كله من سوء ظن بالله؛ وسوء ظن بعدالة التوزيع . . حيث تكون القاصمة ، التي تذهب بطمأنينة النفس ، وتورث القلق والنكد؛ وتستهلك الطاقة في وجدانات خبيثة ، وفي اتجاهات كذلك خبيثة . بينما التوجه مباشرة إلى فضل الله ، هو ابتداء التوجه إلى مصدر الإنعام والعطاء ، الذي لا ينقص ما عنده بما أعطى ، ولا يضيق بالسائلين المتزاحمين على الأبواب وهو بعد ذلك موئل الطمأنينة والرجاء؛ ومبعث الإيجابية في تلمس الأسباب ، بدل بذل الجهد في التحرق والغيظ أو التهاوي والانحلال
النص عام في هذا التوجيه العام . ولكن موضعه هنا من السياق ، وبعض الروايات عن سبب النزول ، قد تخصص من هذا المعنى الشامل تفاوتاً معيناً ، وتفضيلاً معيناً ، هو الذي نزل هذا النص يعالجه . . هو التفاضل في أنصبة الرجال وأنصبة النساء . . كما هو واضح من سياق الآية في عمومها بعد ذلك . . وهذا الجانب - على أهميته الكبرى في تنظيم العلاقة بين شطري النفس البشرية وإقامتها على الرضا وعلى التكامل؛ وإشاعة هذا الرضا - من ثم - في البيوت وفي المجتمع المسلم كله؛ إلى جانب إيضاح الوظائف المنوعة فيه بين الجنسين والمهام . . هذا الجانب على أهميته هذه لا ينفي عموم النص مع خصوص السبب . . ولهذا روت التفاسير المأثورة ، هذا المعنى وذاك :
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان؛ عن أبى نجيح ، عن مجاهد ، قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، تغزو الرجال ولا نغزو ، ولنا نصف الميراث . . فأنزل الله : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } .
ورواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن مردويه ، والحاكم في مستدركه . من حديث الثوري ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد . قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله لا نقاتل فنستشهد ، ولا نقطع الميراث . . فنزلت الآية . . ثم أنزل الله : { أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } . . الآية .
وقال السدي في الآية : إن رجالاً قالوا : إنا نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء ، كما لنا في السهام سهمان وقالت النساء : إنا نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الشهداء ، فإننا لا نستطيع أن نقاتل ، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا فأبى الله ذلك ، ولكن قال لهم : سلوني من فضلي .

قال ليس بعرض الدنيا . . وروي مثل ذلك عن قتادة . . كذلك وردت روايات أخرى بإطلاق معنى الآية :
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية ، قال : « ولا يتمنى الرجل فيقول : ليت لي مال فلان وأهله . فنهى الله عن ذلك . ولكن يسأل من فضله . . وقال الحسن ومحمد بن سيرين وعطاء والضحاك نحو هذا . .
ونجد في الأقوال الأولى ظلالاً من رواسب الجاهلية في تصور ما بين الرجال والنساء من روابط؛ كما نجد روائح للتنافس بين الرجال والنساء ، لعلها قد أثارتها تلك الحريات والحقوق الجديدة التي علمها الإسلام للمرأة تمشياً مع نظريته الكلية في تكريم الإنسان بجنسيه ، وفي إنصاف كل جنس فيه وكل طبقة وكل أحد . . إنصافه حتى من نفسه التي بين جنبيه . .
ولكن الإسلام إنما كان يستهدف من هذا كله تحقيق منهجه المتكامل بكل حذافيره . لا لحساب الرجال ، ولا لحساب النساء ولكن لحساب » الإنسان « ولحساب » المجتمع المسلم « ولحساب الخلق والصلاح والخير في إطلاقه وعمومه . وحساب العدل المطلق المتكامل الجوانب والأسباب .
إن المنهج الإسلامي يتبع الفطرة في تقسيم الوظائف؛ وتقسيم الأنصبة بين الرجال والنساء . والفطرة ابتداء جعلت الرجل رجلاً والمرأة امرأة؛ وأودعت كلاً منهما خصائصه المميزة؛ لتنوط بكل منهما وظائف معينة . . لا لحسابه الخاص . ولا لحساب جنس منهما بذاته . ولكن لحساب هذه الحياة الإنسانية التي تقوم ، وتنتظم ، وتستوفي خصائصها ، وتحقق غايتها - من الخلافة في الأرض وعبادة الله بهذه الخلافة - عن طريق هذا التنوع بين الجنسين؛ والتنوع في الخصائص والتنوع في الوظائف . . وعن طريق تنوع الخصائص؛ وتنوع الوظائف ، ينشأ تنوع التكاليف ، وتنوع الأنصبة ، وتنوع المراكز . . لحساب تلك الشركة الكبرى والمؤسسة العظمى . . المسماة بالحياة . .
وحين يدرس المنهج الإسلامي كله ابتداء ، ثم يدرس الجانب الخاص منه بالارتباطات بين شطري النفس الواحدة ، لا يبقى مجال لمثل ذلك الجدل القديم الذي ترويه هذه الروايات ، ولا كذلك للجدل الحديث ، الذي يملأ حياة الفارغين والفارغات في هذه الأيام . ويطغى أحياناً على الجادين والجادات بحكم الضجيج العام
إنه عبث تصوير الموقف كما لو كان معركة حادة بين الجنسين ، تسجل فيه المواقف والانتصارات . . ولا يرتفع على هذا العبث محاولة بعض الكتاب الجادين تنقص » المرأة « وثلبها ، وإلصاق كل شائنة بها . . سواء كان ذلك باسم الإسلام أو باسم البحث والتحليل . . فالمسألة ليست معركة على الإطلاق إنما هي تنويع وتوزيع . وتكامل . وعدل بعد ذلك كامل في منهج الله .
يجوز أن تكون هناك معركة في المجتمعات الجاهلية؛ التي تنشى ء أنظمتها من تلقاء نفسها؛ وفق هواها ومصالحها الظاهرة القريبة . أو مصالح طبقات غالبة فيها ، أوبيوت ، أو أفراد .

. ومن ثم تنتقص من حقوق المرأة لأسباب من الجهالة بالإنسان كله ، وبوظيفة الجنسين في الحياة ، أو لأسباب من المصالح الاقتصادية في حرمان المرأة العاملة من مثل أجر الرجل العامل في نفس مهنتها . أو في توزيع الميراث ، أو حقوق التصرف في المال - كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية الحديثة
فأما في المنهج الإسلامي فلا . . لا ظل للمعركة . ولا معنى للتنافس على أعراض الدنيا . ولا طعم للحملة على المرأة أو الحملة على الرجل؛ ومحاولة النيل من أحدهما ، وثلبه ، وتتبع نقائصه . . ولا مكان كذلك للظن بأن هذا التنوع في التكوين والخصائص ، لا مقابل له من التنوع في التكليف والوظائف ، ولا آثار له في التنوع في الاختصاصات والمراكز . . فكل ذلك عبث من ناحية وسوء فهم للمنهج الإسلامي ولحقيقة وظيفة الجنسين من ناحية
وننظر في أمر الجهاد والاستشهاد ونصيب المرأة منه ومن ثوابه . . وهو ما كان يشغل بال الصالحات من النساء في الجيل الصالح ، الذي يتجه بكليته إلى الآخرة؛ وهو يقوم بشئون هذه الدنيا . . وفي أمر الإرث ونصيب الذكر والأنثى منه . وقد كان يشغل بعض الرجال والنساء قديماً . . وما يزال هو وأمثاله يشغل رجالاً ونساء في هذه الأيام . .
إن الله لم يكتب على المرأة الجهاد ولم يحرمه عليها؛ ولم يمنعها منه - حين تكون هناك حاجة إليها ، لا يسدها الرجال - وقد شهدت المغازي الإسلامية آحاداً من النساء - مقاتلات لا مواسيات ولا حاملات أزواد - وكان ذلك على قلة وندرة بحسب الحاجة والضرورة؛ ولم يكن هو القاعدة . . وعلى أية حال ، فإن الله لم يكتب على المرأة الجهاد كما كتبه على الرجال .
إن الجهاد لم يكتب على المرأة ، لأنها تلد الرجال الذين يجاهدون . وهي مهيأة لميلاد الرجال بكل تكوينها ، العضوي والنفسي؛ ومهيأة لإعدادهم للجهاد وللحياة سواء . وهي - في هذا الحقل - أقدر وأنفع . . هي أقدر لأن كل خلية في تكوينها معدة من الناحية العضوية والناحية النفسية لهذا العمل؛ وليست المسألة في هذا مسألة التكوين العضوي الظاهر؛ بل هي - وعلى وجه التحديد - كل خلية منذ تلقيح البويضة ، وتقرير أن تكون أنثى أو ذكراً من لدن الخالق - سبحانه - ثم يلي ذلك تلك الظواهر العضوية ، والظواهر النفسية الكبرى . . وهي أنفع - بالنظر الواسع إلى مصلحة الأمة على المدى الطويل - فالحرب حين تحصد الرجال وتستبقي الإناث؛ تدع للأمة مراكز إنتاج للذرية تعوض الفراغ . والأمر ليس كذلك حين تحصد النساء والرجال - أو حتى حين تحصد النساء وتستبقي الرجال فرجل واحد - في النظام الإسلامي - وعند الحاجة إلى استخدام كل رخصه وإمكانياته - يمكن أن يجعل نساء أربعاً ينتجن ، ويملأن الفراغ الذي تتركه المقتلة بعد فترة من الزمان .

ولكن ألف رجل لا يملكون أن يجعلوا امرأة تنتج أكثر مما تنتج من رجل واحد ، لتعويض ما وقع في المجتمع من اختلال . وليس ذلك إلا باباً واحداً من أبواب الحكمة الإلهية في إعفاء المرأة من فريضة الجهاد . . . ووراءه أبواب شتى في أخلاق المجتمع وطبيعة تكوينه ، واستبقاء الخصائص الأساسية لكلا الجنسين ، لا يتسع لها المجال هنا ، لأنها تحتاج إلى بحث خاص . . وأما الأجر والثواب ، فقد طمأن الله الرجال والنساء عليه ، فحسب كل إنسان أن يحسن فيما وكل إليه ليبلغ مرتبة الإحسان عند الله على الإطلاق . .
والأمر في الميراث كذالك . . ففي الوهلة الأولى يبدو أن هناك إيثاراً للرجل في قاعدة : { فللذكر مثل حظ الأنثيين } . . ولكن هذه النظرة السطحية لا تفتأ أن تتكشف عن وحدة متكاملة في أوضاع الرجل والمرأة وتكاليفهما . . فالغنم بالغرم ، قاعدة ثابتة متكاملة في المنهج الإسلامي . . فالرجل يؤدي للمرأة صداقها ابتداء ولا تؤدي هي له صداقاً . والرجل ينفق عليها وعلى أولادها منه . وهي معفاة من هذا التكليف ، ولو كان لها مال خاص - وأقل ما يصيب الرجل من هذا التكليف أن يحبس فيه إذا ماطل - والرجل عليه في الديات والأرش ( التعويض عن الجراحات ) متكافلاً مع الأسرة ، والمرأة منها معفاة . والرجل عليه في النفقة على المعسرين والعاجزين والعواجز عن الكسب في الأسرة - الأقرب فالأقرب - والمرأة معفاة من فريضة التكافل العائلي العام . . حتى أجر رضاع طفلها من الرجل وحضانته عند افتراقهما في المعيشة ، أو عند الطلاق ، يتحملها الرجل ، ويؤديها لها كنفقتها هي سواء بسواء . . فهو نظام متكامل توزيع التبعات فيه هو الذي يحدد توزيع الميراث . ونصيب الرجل من التبعات أثقل من نصيبه في الميراث . ومنظور في هذا إلى طبيعته وقدرته على الكسب؛ وإلى توفير الراحة والطمأنينة الكاملة للمرأة ، لتقوم على حراسة الرصيد البشري الثمين؛ الذي لا يقوّم بمال ، ولا يعد له إنتاج أية سلعة أو أية خدمة أخرى للصالح العام
وهكذا نجد معالم التوازن الشامل ، والتقدير الدقيق في المنهج الإسلامي الحكيم ، الذي شرعه الحكيم العليم . .
ونسجل هنا ما منحه الإسلام للمرأة في هذا النص من حق الملكية الفردية :
{ للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } . .
وهو الحق الذي كانت الجاهلية العربية - كغيرها من الجاهليات القديمة - تحيف عليه؛ ولا تعترف به للمرأة - إلا في حالات نادرة - ولا تفتأ تحتال للاعتداء عليه . إذ كانت المرأة ذاتها مما يستولى عليه بالوراثة ، كالمتاع
وهو الحق الذي ظلت الجاهليات الحديثة - التي تزعم أنها منحت المرأة من الحقوق والاحترام ما لم يمنحه لها منهج آخر - تتحيفه؛ فبعضها يجعل الميراث لأكبر وارث من الذكور . وبعضها يجعل إذن الولي ضرورياً لتوقيع أي تعاقد للمرأة بشأن المال؛ ويجعل إذن الزوج ضرورياً لكل تصرف مالي من الزوجة في مالها الخاص وذلك بعد ثورات المرأة وحركاتها الكثيرة؛ وما نشأ عنها من فساد في نظام المرأة كله ، وفي نظام الأسرة ، وفي الجو الأخلاقي العام .

فأما الإسلام فقد منحها هذا الحق ابتداء؛ وبدون طلب منها ، وبدون ثورة ، وبدون جمعيات نسوية ، وبدون عضوية برلمان منحها هذا الحق تمشياً مع نظرته العامة إلى تكريم الإنسان جملة؛ وإلى تكريم شِقَّيْ النفس الواحدة؛ وإلى إقامة نظامه الاجتماعي كله على أساس الأسرة؛ وإلى حياطة جو الأسرة بالود والمحبة والضمانات لكل فرد فيها على السواء .
ومن هنا كانت المساواة في حق التملك وحق الكسب بين الرجال والنساء من ناحية المبدأ العام .
وقد أورد الدكتور عبد الواحد وافي في كتاب « حقوق الإنسان » لفتة دقيقة إلى وضع المرأة في الإسلام ووضعها في الدول الغربية جاء فيه :
« وقد سوى الإسلام كذلك بين الرجل والمرأة أمام القانون ، وفي جميع الحقوق المدنية سواء في ذلك المرأة المتزوجة وغير المتزوجة . فالزواج في الإسلام يختلف عن الزواج في معظم أمم الغرب المسيحي ، في أنه لا يفقد المرأة اسمها ولا شخصيتها المدنية ، ولا أهليتها في التعاقد ، ولا حقها في التملك . بل تظل المرأة المسلمة بعد زواجها محتفظة باسمها واسم أسرتها ، وبكامل حقوقها المدنية؛ وبأهليتها في تحمل الالتزامات ، وإجراء مختلف العقود ، من بيع وشراء ورهن وهبة ووصية؛ وما إلى ذلك؛ ومحتفظة بحقها في التملك تملكاً مستقلاً عن غيرها . فللمرأة المتزوجة في الإسلام شخصيتها المدنية الكاملة ، وثروتها الخاصة المستقلة عن شخصية زوجها وثروته . ولا يجوز للزوج أن يأخذ شيئاً من مالها - قل ذلك أو كثر - قال تعالى : { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ، وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً . أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً؟ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ، وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً؟ } وقال : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً } . وإذا كان لا يجوز للزوج أن يأخذ شيئاً مما سبق أن آتاه لزوجته فلا يجوز له من باب أولى أن يأخذ شيئاً من ملكها الأصيل إلا أن يكون هذا أو ذاك برضاها ، وعن طيب نفس منها . وفي هذا يقول الله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً ، فكلوه هنيئاً مريئاً } ولا يحل للزوج كذلك أن يتصرف في شيء من أموالها ، إلا إذا أذنت له بذلك ، أو وكلته في إجراء عقد بالنيابة عنها . وفي هذه الحالة يجوز أن تلغي وكالته ، وتوكل غيره إذا شاءت .
» وهذه المنزلة من المساواة لم يصل إلى مثلها - بعد - أحدث القوانين في أرقى الأمم الديمقراطية الحديثة . فحالة المرأة في فرنسا كانت إلى عهد قريب - بل لا تزال إلى الوقت الحاضر - أشبه شيء بحالة الرق المدني .

فقد نزع منها القانون صفة الأهلية في كثير من الشئون المدنية ، كما تنص على ذلك المادة السابعة عشرة بعد المائتين من القانون المدني الفرنسي . إذ تقرر أن : « المرأة المتزوجة - حتى ولو كان زواجها قائماً على أساس الفصل بين ملكيتها وملكية زوجها - لا يجوز لها أن تهب ، ولا أن تنقل ملكيتها ، ولا أن ترهن ، ولا أن تمتلك بعوض أو بغير عوض ، بدون اشتراك زوجها في العقد ، أو موافقته عليه موافقة كِتَابِيَّة » . . وأورد نصها الفرنسي . . .
« ومع ما أدخل على هذه المادة من قيود وتعديلات ، فيما بعد ، فإن كثيراً من آثارها لا يزال ملازماً لوضع المرأة الفرنسية من الناحية القانونية إلى الوقت الحاضر . . وتوكيداً لهذا الرق المفروض على المرأة الغربية تقرر قوانين الأمم الغربية ، ويقضي عرفها ، أن المرأة بمجرد زواجها تفقد اسمها واسم اسرتها ، فلا تعود تسمى فلانة؛ بنت فلان ; بل تحمل اسم زوجها وأسرته؛ فتدعى » مدام فلان « أو تتبع اسمها باسم زوجها وأسرته ، بدلاً من أن تتبعه باسم أبيها وأسرتها . . وفقدان اسم المرأة ، وحملها لاسم زوجها ، كل ذلك يرمز إلى فقدان الشخصية المدنية للزوجة ، واندماجها في شخصية الزوج .
» ومن الغريب أن الكثير من سيداتنا يحاولن أن يتشبهن بالغربيات - حتى في هذا النظام الجائر - ويرتضين لأنفسهن هذه المنزلة الوضيعة؛ فتسمي الواحدة منهن نفسها باسم زوجها؛ أو تتبع اسمها باسم زوجها وأسرته ، بدلاً من أن تتبعه باسم أبيها وأسرتها ، كما هو النظام الإسلامي ، وهذا هو أقصى ما يمكن أن تصل إليه المحاكاة العمياء وأغرب من هذا كله أن اللاتي يحاكين هذه المحاكاة هن المطالبات بحقوق النساء ، ومساواتهن بالرجال؛ ولا يدرين أنهن بتصرفهن هذا يفرطن في أهم حق منحه الإسلام لهن؛ ورفع به شأنهن ، وسواهن فيه بالرجال « .
والآن نجيء إلى النص الأخير في هذه الفقرة؛ وهو ينظم التصرف في عقود الولاء التي سبقت أحكام الميراث . هذه الأحكام التي حصرت الميراث في القرابة . بينما عقود الولاء كانت تجعلها كذلك في غير القرابة على ما سيأتي بيانه :
{ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون؛ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم . إن الله كان على كل شيء شهيداً } . .
بعد أن ذكر أن للرجال نصيباً مما اكتسبوا ، وللنساء نصيباً مما اكتسبن . . وبين - فيما سلف - أنصبة الذكور والإناث في الميراث . . ذكر أن الله جعل لكل موالي من قرابته يرثونه . يرثونه مما آل إليه من الوالدين والأقربين . . فالمال يظل يتداول بهذا الإرث جيلاً بعد جيل . يرث الوارثون ثم يضمون إلى ميراثهم ما يكتسبون؛ ثم يرثهم من يلونهم من الأقربين . . وهي صورة تمثل دورة المال في النظام الإسلامي؛ وأنها لا تقف عند جيل؛ ولا تتركز في بيت ولا فرد .

. إنما هو التوارث المستمر ، والتداول المستمر ، وحركة التوزيع الدائبة؛ وما يتبعها من تعديل في المالكين ، وتعديل في المقادير ، بين الحين والحين . .
ثم عطف على العقود ، التي أقرتها الشريعة الإسلامية؛ والتي تجعل الإرث يذهب أحياناً إلى غير الأقرباء . . وهي عقود الموالاة . . وقد عرف المجتمع الإسلامي أنواعاً من هذه العقود :
الأول عقد ولاء العتق ، وهو النظام الذي يصبح بمقتضاه الرقيق - بعد عتقه - بمنزلة العضو في أسرة مولاه ( مولى العتق ) فيدفع عنه المولى الدية ، إذا ارتكب جناية توجب الدية - كما يفعل ذلك حيال أقربائه من النسب - ويرثه إذا مات ولم يترك عصبة . .
والثاني عقد الموالاة . وهو النظام الذي يبيح لغير العربي - إذا لم يكن له وارث من أقاربه - أن يرتبط بعقد مع عربي هو ( مولى الموالاة ) . فيصبح بمنزلة عضو في أسرة مولاه . يدفع عنه المولى الدية - إذا ارتكب جناية توجب الدية - ويرثه إذا مات .
والنوع الثالث ، هو الذي عقده النبي - صلى الله عليه وسلم - أول العهد بالمدينة ، بين المهاجرين والأنصار . فكان المهاجر يرث الأنصاري ، مع أهله - كواحد منهم - أو دون أهله إن كانوا مشركين فصلت بينهم وبينه العقيدة . .
والنوع الرابع . . كان في الجاهلية ، يعاقد الرجل الرجل ، ويقول : « وترثني وأرثك » . .
وقد جعل الإسلام يصفي هذه العقود؛ وبخاصة النوعين الثالث والرابع . بتقرير أن الميراث سببه القرابة . والقرابة وحدها . ولكنه لم يبطل العقود التي سبق عقدها . فأمضاها على ألا يجدد سواها . وقال الله سبحانه :
{ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } .
وشدد في هذا وأشهد الله على العقد وعلى التصرف فيه :
{ إن الله كان على كل شيء شهيداً } . .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
« لا حلف في الإسلام . وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة » ( رواه أحمد ومسلم ) .
وقد سار الإسلام في تصفية هذه العقود سيرته في كل ما يتعلق بالأنظمة المالية ، في علاجه لها - بدون أثر رجعي - فهكذا صنع في الربا حين أبطله . أبطله منذ نزول النص ، وترك لهم ما سلف منه؛ ولم يأمر برد الفوائد الربوية . وإن كان لم يصحح العقود السابقة على النص ، ما لم يكن قد تم قبض تلك الفوائد . فأما هنا فقد احترم تلك العقود؛ على ألا ينشأ منها جديد . لما يتعلق بها - فوق الجانب المالي - من ارتباطات أخذت طابع العضوية العائلية بتشابكاتها الكثيرة المعقدة . فترك هذه العقود القائمة تنفذ؛ وشدد في الوفاء بها؛ وقطع الطريق على الجديد منها؛ قبل أن تترتب عليه أية آثار تحتاج إلى علاج
وفي هذا التصرف يبدو التيسير ، كما يبدو العمق والإحاطة والحكمة والشمول ، في علاج الأمور في المجتمع .

حيث كان الإسلام يصوغ ملامح المجتمع المسلم يوماً بعد يوم؛ ويمحو ويلغي ملامح الجاهلية في كل توجيه وكل تشريع .
والموضوع الأخير في هذا الدرس ، هو تنظيم مؤسسة الأسرة؛ وضبط الأمور فيها؛ وتوزيع الاختصاصات ، وتحديد الواجبات؛ وبيان الإجراءات التي تتخذ لضبط أمور هذه المؤسسة؛ والمحافظة عليها من زعازع الأهواء والخلافات؛ واتقاء عناصر التهديم فيها والتدمير ، جهد المستطاع :
{ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض ، وبما أنفقوا من أموالهم ، فالصالحات قانتات ، حافظات للغيب بما حفظ الله . واللاتي تخافون نشوزهن ، فعظوهن ، واهجروهن في المضاجع ، واضربوهن . فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً . إن الله كان علياً كبيراً . وإن خفتم شقاق بينهما ، فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما . إن الله كان عليماً خبيراً } . .
ولا بد - قبل الدخول في تفسير هذه النصوص القرآنية ، وبيان أهدافها النفسية والاجتماعية - من بيان مجمل لنظرة الإسلام إلى مؤسسة الأسرة ، ومنهجه في بنائها والمحافظة عليها ، وأهدافه منها . . بيان مجمل بقدر الإمكان ، إذ أن التفصيل فيه يحتاج إلى بحث مطول خاص :
إن الذي خلق هذا الإنسان جعل من فطرته « الزوجية » شأنه شأن كل شيء خلقه في هذا الوجود : { ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون } .
ثم شاء أن يجعل الزوجين في الإنسان شطرين للنفس الواحدة : { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها } .
وأراد بالتقاء شطري النفس الواحدة - بعد ذلك - فيما أراد ، أن يكون هذا اللقاء سكناً للنفس ، وهدوءاً للعصب ، وطمأنينة للروح ، وراحة للجسد . . ثم ستراً وإحصاناً وصيانة . . ثم مزرعة للنسل وامتداد الحياة ، مع ترقيها المستمر ، في رعاية المحضن الساكن الهادىء المطمئن المستور المصون :
{ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } .
{ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } .
{ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ، وقدموا لأنفسكم ، واتقوا الله } .
{ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة } .
{ والذين آمنوا ، واتبعتهم ذريتهم بإيمان ، ألحقنا بهم ذريتهم ، وما ألتناهم من عملهم من شيء } ومن تساوي شطري النفس الواحدة في موقفهما من الله ، ومن تكريمه للإنسان ، كان ذلك التكريم للمرأة ، وتلك المساواة في حقوق الأجر والثواب عند الله ، وفي حقوق التملك والإرث ، وفي استقلال الشخصية المدنية . . التي تحدثنا عنها في الصفحات السابقة من هذا الدرس .
ومن أهمية التقاء شطري النفس الواحدة ، لإنشاء مؤسسة الأسرة . ومن ضخامة تبعة هذه المؤسسة أولاً : في توفير السكن والطمأنينة والستر والإحصان للنفس بشطريها ، وثانياً : في إمداد المجتمع الإنساني بعوامل الامتداد والترقي . . . كانت تلك التنظيمات الدقيقة المحكمة التي تتناول كل جزئية من شئون المؤسسة . . وقد احتوت هذه السورة جانباً من هذه التنظيمات هو الذي استعرضناه في الصفحات السابقة من أول هذا الجزء؛ تكملة لما استعرضناه منها في الجزء الرابع .

. واحتوت سورة البقرة جانباً آخر ، هو الذي استعرضناه في الجزء الثاني . واحتوت سور أخرى من القرآن ، وعلى الأخص سورة النور في الجزء الثامن عشر وسورة الأحزاب في الجزءين الحادي والعشرين والثاني والعشرين وسورة الطلاق وسورة التحريم في الجزء الثامن والعشرين . . ومواضع أخرى متفرقة في السور ، جوانب أخرى تؤلف دستوراً كاملاً شاملاً دقيقاً لنظام هذه المؤسسة الإنسانية؛ وتدل بكثرتها وتنوعها ودقتها وشمولها ، على مدى الأهمية التي يعقدها المنهج الإسلامي للحياة الإنسانية على مؤسسة الأسرة الخطيرة
ونرجو أن يكون قارىء هذه الصفحة على ذكر مما سبق في صفحات هذا الجزء نفسه؛ عن طفولة الطفل الإنساني ، وطولها ، وحاجته في خلالها إلى بيئة تحميه أولاً حتى يستطيع أن يكسب رزقه للمعاش؛ وأهم من هذا أن تؤهله ، بالتربية ، إلى وظيفته الاجتماعية؛ والنهوض بنصيبه في ترقية المجتمع الإنساني ، وتركه خيراً مما تسلمه ، حين جاء إليه فهذا الكلام ذو أهمية خاصة في بيان قيمة مؤسسة الأسرة؛ ونظرة المنهج الإسلامي إلى وظائفها ، والغاية منها؛ واهتمامه بصيانتها ، وحياطتها من كل عوامل التدمير من قريب ومن بعيد . .
وفي ظل هذه الإشارات المجملة إلى طبيعة نظرة الإسلام للأسرة وأهميتها؛ ومدى حرصه على توفير ضمانات البقاء والاستقرار والهدوء في جوها . . إلى جانب ما أوردناه من تكريم هذا المنهج للمرأة؛ ومنحها استقلال الشخصية واحترامها؛ والحقوق التي أنشأها لها إنشاء - لا محاباة لذاتها ولكن لتحقيق أهدافه الكبرى من تكريم الإنسان كله ورفع الحياة الإنسانية - نستطيع أن نتحدث عن النص الأخير في هذا الدرس ، الذي قدمنا للحديث عنه بهذا الإيضاح :
إن هذا النص - في سبيل تنظيم المؤسسة الزوجية وتوضيح الاختصاصات التنظيمية فيها لمنع الاحتكاك فيها بين أفرادها ، بردهم جميعاً إلى حكم الله لا حكم الهوى والانفعالات والشخصيات - يحدد أن القوامة في هذه المؤسسة للرجل؛ ويذكر من أسباب هذه القوامة : تفضيل الله للرجل بمقومات القوامة ، وما تتطلبه من خصائص ودربة ، و . . تكليف الرجل الإنفاق على المؤسسة . وبناء على إعطاء القوامة للرجل ، يحدد كذلك اختصاصات هذه القوامة في صيانة المؤسسة من التفسخ؛ وحمايتها من النزوات العارضة؛ وطريقة علاج هذه النزوات - حين تعرض - في حدود مرسومة - وأخيراً يبين الإجراءات - الخارجية - التي تتخذ عندما تفشل الإجراءات الداخلية ، ويلوح شبح الخطر على المؤسسة ، التي لا تضم شطري النفس الواحدة فحسب ، ولكن تضم الفراخ الخضر ، الناشئة في المحضن . المعرضة للبوار والدمار . فلننظر فيما وراء كل إجراء من هذه الإجراءات من ضرورة ، ومن حكمة ، بقدر ما نستطيع :
{ الرجال قوامون على النساء . بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم } . .
إن الأسرة - كما قلنا - هي المؤسسة الأولى في الحياة الإنسانية .

الأولى من ناحية أنها نقطة البدء التي تؤثر في كل مراحل الطريق . والأولى من ناحية الأهمية لأنها تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني ، وهو أكرم عناصر هذا الكون ، في التصور الإسلامي .
وإذا كانت المؤسسات الأخرى الأقل شأناً ، والأرخص سعراً : كالمؤسسات المالية والصناعية والتجارية . . . وما إليها . . . لا يوكل أمرها - عادة - إلا لأكفأ المرشحين لها؛ ممن تخصصوا في هذا الفرع علمياً ، ودربوا عليه عملياً ، فوق ما وهبوا من استعدادات طبيعية للإدارة والقوامة . . .
إذا كان هذا هو الشأن في المؤسسات الأقل شأناً والأرخص سعراً . . فأولى أن تتبع هذه القاعدة في مؤسسة الأسرة ، التي تنشئ أثمن عناصر الكون . . العنصر الإنساني . .
والمنهج الرباني يراعي هذا . ويراعي به الفطرة ، والاستعدادات الموهوبة لشطري النفس لأداء الوظائف المنوطة بكل منهما وفق هذه الاستعدادات ، كما يراعي به العدالة في توزيع الأعباء على شطري النفس الواحدة . والعدالة في اختصاص كل منهما بنوع الأعباء المهيأ لها ، المعان عليها من فطرته واستعداداته المتميزة المتفردة . .
والمسلم به ابتداء أن الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله . وأن الله - سبحانه - لا يريد أن يظلم أحداً من خلقه ، وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة ، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة
وقد خلق الله الناس ذكراً وأنثى . . زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء هذا الكون . . وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل . . وهي وظائف ضخمة أولاً وخطيرة ثانياً . وليست هينة ولا يسيرة ، بحيث تؤدَّى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى فكان عدلاً كذلك أن ينوط بالشطر الثاني - الرجل - توفير الحاجات الضرورية . وتوفير الحماية كذلك للأنثى؛ كي تتفرغ لوظيفتها الخطيرة؛ ولا يحمل عليها أن تحمل وتضع وترضع وتكفل . . ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية نفسها وطفلها في آن واحد وكان عدلاً كذلك أن يمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه هذه . وأن تمنح المرأة في تكوينها العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينها على أداء وظيفتها تلك .
وكان هذا فعلاً . . ولا يظلم ربك أحداً . .
ومن ثم زودت المرأة - فيما زودت به من الخصائص - بالرقة والعطف ، وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة - بغير وعي ولا سابق تفكير - لأن الضرورات الإنسانية العميقة كلها - حتى في الفرد الواحد - لم تترك لأرجحة الوعي والتفكير وبطئه ، بل جعلت الاستجابة لها غير إرادية لتسهل تلبيتها فوراً وفيما يشبه أن يكون قسراً . ولكنه قسر داخلي غير مفروض من الخارج؛ ولذيذ ومستحب في معظم الأحيان كذلك ، لتكوين الاستجابة سريعة من جهة ومريحة من جهة أخرى - مهما يكن فيها من المشقة والتضحية صنع الله الذي أتقن كل شيء .

وهذه الخصائص ليست سطحية . بل هي غائرة في التكوين العضوي والعصبي والعقلي والنفسي للمرأة . . بل يقول كبار العلماء المختصين : إنها غائرة في تكوين كل خلية . لأنها عميقة في تكوين الخلية الأولى ، التي يكون من انقسامها وتكاثرها الجنين ، بكل خصائصه الأساسية
وكذلك زود الرجل - فيما زود به من الخصائص - بالخشونة والصلابة ، وبطء الانفعال والاستجابة؛ واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة . لأن وظائفه كلها من أول الصيد الذي كان يمارسه في أول عهده بالحياة إلى القتال الذي يمارسه دائماً لحماية الزوج والأطفال . إلى تدبير المعاش . . إلى سائر تكاليفه في الحياة . . لأن وظائفه كلها تحتاج إلى قدر من التروي قبل الإقدام؛ وإعمال الفكر ، والبطء في الاستجابة بوجه عام . . وكلها عميقة في تكوينه عمق خصائص المرأة في تكوينها . .
وهذه الخصائص تجعله أقدر على القوامة ، وأفضل في مجالها . . كما أن تكليفه بالإنفاق - وهو فرع من توزيع الاختصاصات - يجعله بدوره أولى بالقوامة ، لأن تدبير المعاش للمؤسسة ومن فيها داخل في هذه القوامة؛ والإشراف على تصريف المال فيها أقرب إلى طبيعة وظيفته فيها . .
وهذان هما العنصران اللذان أبرزهما النص القرآني ، وهو يقرر قوامة الرجال على النساء في المجتمع الإسلامي .
قوامة لها أسبابها من التكوين والاستعداد . ولها أسبابها من توزيع الوظائف والاختصاصات . ولها أسبابها من العدالة في التوزيع من ناحية؛ وتكليف كل شطر - في هذا التوزيع - بالجانب الميسر له ، والذي هو معان عليه من الفطرة .
وأفضليته في مكانها . . في الاستعداد للقوامة والدربة عليها . . والنهوض بها بأسبابها . . لأن المؤسسة لا تسير بلا قوامة - كسائر المؤسسات الأقل شأناً والأرخص سعراً - ولأن أحد شطري النفس البشرية مهيأ لها ، معان عليها ، مكلف تكاليفها . وأحد الشطرين غير مهيأ لها ، ولا معان عليها . . ومن الظلم أن يحملها ويحمل تكاليفها إلى جانب أعبائه الأخرى . . وإذا هو هيىء لها بالاستعدادات الكامنة ، ودرب عليها بالتدريب العلمي والعملي ، فسد استعداده للقيام بالوظيفة الأخرى . . وظيفة الأمومة . . لأن لها هي الأخرى مقتضياتها واستعداداتها . وفي مقدمتها سرعة الانفعال ، وقرب الاستجابة . فوق الاستعدادات الغائرة في التكوين العضوي والعصبي؛ وآثارها في السلوك والاستجابة
إنها مسائل خطيرة . . أخطر من أن تتحكم فيها أهواء البشر . . وأخطر من أن تترك لهم يخبطون فيها خبط عشواء . . وحين تركت لهم ولأهوائهم في الجاهليات القديمة والجاهليات الحديثة ، هددت البشرية تهديداً خطيراً في وجودها ذاته؛ وفي بقاء الخصائص الإنسانية ، التي تقوم بها الحياة الإنسانية وتتميز .
ولعل من الدلائل التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها؛ ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان ، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها . .
لعل من هذه الدلائل ما أصاب الحياة البشرية من تخبط وفساد ، ومن تدهور وانهيار؛ ومن تهديد بالدمار والبوار ، في كل مرة خولفت فيها هذه القاعدة .

فاهتزت سلطة القوامة في الأسرة . أو اختلطت معالمها . أو شذت عن قاعدتها الفطرية الأصلية
ولعل من هذه الدلائل توقان نفس المرأة ذاتها إلى قيام هذه القوامة على أصلها الفطري في الأسرة . وشعورها بالحرمان والنقص والقلق وقلة السعادة؛ عندما تعيش مع رجل ، لا يزاول مهام القوامة؛ وتنقصه صفاتها اللازمة؛ فيكل إليها هي القوامة وهي حقيقة ملحوظة تسلم بها حتى المنحرفات الخابطات في الظلام
ولعل من هذه الدلائل أن الأطفال - الذين ينشأون في مؤسسة عائلية القوامة فيها ليست للأب . إما لأنه ضعيف الشخصية ، بحيث تبرز عليه شخصية الأم وتسيطر . وإما لأنه مفقود : لوفاته - أو لعدم وجود أب شرعي - قلما ينشأون أسوياء . وقل ألا ينحرفوا إلى شذوذ ما ، في تكوينهم العصبي والنفسي ، وفي سلوكهم العملي والخلقي . .
فهذه كلها بعض الدلائل ، التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها ، ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان ، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها
ولا نستطيع أن نستطرد أكثر من هذا - في سياق الظلال - عن قوامة الرجال ومقوماتها ومبرراتها ، وضرورتها وفطريتها كذلك . . ولكن ينبغي أن نقول : إن هذه القوامة ليس من شأنها إلغاء شخصية المرأة في البيت ولا في المجتمع الإنساني؛ ولا إلغاء وضعها « المدني » - كما بينا ذلك من قبل - وإنما هي وظيفة - داخل كيان الأسرة - لإدارة هذه المؤسسة الخطيرة ، وصيانتها وحمايتها . ووجود القيم في مؤسسة ما ، لا يلغي وجود ولا شخصية ولا حقوق الشركاء فيها ، والعاملين في وظائفها . فقد حدد الإسلام في مواضع أخرى صفة قوامة الرجل وما يصاحبها من عطف ورعاية ، وصيانة وحماية ، وتكاليف في نفسه وماله ، وآداب في سلوكه مع زوجه وعياله .
وبعد بيان واجب الرجل وحقه والتزاماته وتكاليفه في القوامة ، يجيء بيان طبيعة المرأة المؤمنة الصالحة وسلوكها وتصرفها الإيماني في محيط الأسرة :
{ فالصالحات قانتات ، حافظات للغيب بما حفظ الله } . .
فمن طبيعة المؤمنة الصالحة ، ومن صفتها الملازمة لها ، بحكم إيمانها وصلاحها ، أن تكون . . قانتة . . مطيعة . والقنوت : الطاعة عن إرادة وتوجه ورغبة ومحبة ، لا عن قسر وإرغام وتفلت ومعاظلة ومن ثم قال : قانتات . ولم يقل طائعات . لأن مدلول اللفظ الأول نفسي ، وظلاله رخية ندية . . وهذا هو الذي يليق بالسكن والمودة والستر والصيانة بين شطري النفس الواحدة . في المحضن الذي يرعى الناشئة ، ويطبعهم بجوه وأنفاسه وظلاله وإيقاعاته
ومن طبيعة المؤمنة الصالحة ، ومن صفتها الملازمة لها ، بحكم إيمانها وصلاحها كذلك ، أن تكون حافظة لحرمة الرباط المقدس بينها وبين زوجها في غيبته - وبالأولى في حضوره - فلا تبيح من نفسها في نظرة أو نبرة - بله العرض والحرمة - مالا يباح إلا له هو - بحكم أنه الشطر الآخر للنفس الواحدة .
وما لا يباح ، لا تقرره هي ، ولا يقرره هو : إنما يقرره الله سبحانه : { بما حفظ الله } .

.
فليس الأمر أمر رضاء الزوج عن أن تبيح زوجته من نفسها - في غيبته أو في حضوره - ما لا يغضب هو له . أو ما يمليه عليه وعليها المجتمع إذا انحرف المجتمع عن منهج الله . .
إن هنالك حكماً واحداً في حدود هذا الحفظ؛ فعليها أن تحفظ نفسها { بما حفظ الله } . . والتعبير القرآني لا يقول هذا بصيغة الأمر . بل بما هو أعمق وأشد توكيداً من الأمر . إنه يقول : إن هذا الحفظ بما حفظ الله ، هو من طبيعة الصالحات ، ومن مقتضى صلاحهن
وعندئذ تتهاوى كل أعذار المهزومين والمهزومات من المسلمين والمسلمات . أمام ضغط المجتمع المنحرف . وتبرز حدود ما تحفظه الصالحات بالغيب : { بما حفظ الله } مع القنوت الطائع الراضي الودود . .
فأما غير الصالحات . . فهن الناشزات . ( من الوقوف على النشز وهو المرتفع البارز من الأرض ) وهي صورة حسية للتعبير عن حالة نفسية . فالناشز تبرز وتستعلي بالعصيان والتمرد . .
والمنهج الإسلامي لا ينتظر حتى يقع النشوز بالفعل ، وتعلن راية العصيان؛ وتسقط مهابة القوامة؛ وتنقسم المؤسسة إلى معسكرين . . فالعلاج حين ينتهي الأمر إلى هذا الوضع قلما يجدي . ولا بد من المبادرة في علاج مبادىء النشوز قبل استفحاله . لأن مآله إلى فساد في هذه المنظمة الخطيرة ، لا يستقر معه سكن ولا طمأنينة ، ولا تصلح معه تربية ولا إعداد للناشئين في المحضن الخطير . ومآله بعد ذلك إلى تصدع وانهيار ودمار للمؤسسة كلها؛ وتشرد للناشئين فيها؛ أو تربيتهم بين عوامل هدامة مفضية إلى الأمراض النفسية والعصبية والبدنية . . . وإلى الشذوذ . .
فالأمر إذن خطير . ولا بد من المبادرة باتخاذ الإجراءات المتدرجة في علاج علامات النشوز منذ أن تلوح من بعيد . . وفي سبيل صيانة المؤسسة من الفساد ، أو من الدمار ، أبيح للمسئول الأول عنها أن يزاول بعض أنواع التأديب المصلحة في حالات كثيرة . . لا للانتقام ، ولا للإهانة ، ولا للتعذيب . . ولكن للإصلاح ورأب الصدع في هذه المرحلة المبكرة من النشوز :
{ واللاتي تخافون نشوزهن ، فعظوهن . واهجروهن في المضاجع . واضربوهن . فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا . إن الله كان علياً كبيراً } . .
واستحضار ما سبق لنا بيانه من تكريم الله للإنسان بشطريه . ومن حقوق للمرأة نابعة من صفتها الإنسانية . . ومن احتفاظ للمرأة المسلمة بشخصيتها المدنية بكامل حقوقها . . بالإضافة إلى أن قوامة الرجل عليها لا تفقدها حقها في اختيار شريك حياتها؛ والتصرف في أمر نفسها والتصرف في أمر مالها . . إلى آخر هذه المقومات البارزة في المنهج الإسلامي . .
استحضار هذا الذي سبق كله؛ واستحضار ما قيل عن أهمية مؤسسة الأسرة كذلك . . يجعلنا نفهم بوضوح - حين لا تنحرف القلوب بالهوى والرءوس بالكبر - لماذا شرعت هذه الإجراءات التأديبية أولاً . والصورة التي يجب أن تؤدى بها ثانياً .

.
إنها شرعت كإجراء وقائي - عند خوف النشوز - للمبادرة بإصلاح النفوس والأوضاع ، لا لزيادة إفساد القلوب ، وملئها بالبغض والحنق ، أو بالمذلة والرضوخ الكظيم
إنها . . أبداً . . ليست معركة بين الرجل والمرأة . يراد لها بهذه الإجراءات تحطيم رأس المرأة حين تهم بالنشوز؛ وردها إلى السلسلة كالكلب المسجور
إن هذا قطعاً . . ليس هو الإسلام . . إنما هو تقاليد بيئية في بعض الأزمان . نشأت مع هوان « الإنسان » كله . لا هوان شطر منه بعينه . . فأما حين يكون هو الإسلام ، فالأمر مختلف جداً في الشكل والصورة . وفي الهدف والغاية . .
{ واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن } . .
هذا هو الإجراء الأول . . الموعظة . . وهذا هو أول واجبات القيم ورب الأسرة . عمل تهذيبي . مطلوب منه في كل حالة : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة } . ولكنه في هذه الحالة بالذات ، يتجه اتجاهاً معيناً لهدف معين . هو علاج أعراض النشوز قبل أن تستفحل وتستعلن .
ولكن العظة قد لا تنفع . لأن هناك هوى غالباً ، أو انفعالاً جامحاً ، أو استعلاء بجمال . أو بمال . أو بمركز عائلي . . أو بأي قيمة من القيم . تنسي الزوجة أنها شريكة في مؤسسة ، وليست نداً في صراع أو مجال افتخار . . هنا يجيء الإجراء الثاني . . حركة استعلاء نفسية من الرجل على كل ما تدل به المرأة من جمال وجاذبية أو قيم أخرى ، ترفع بها ذاتها عن ذاته ، أو عن مكان الشريك في مؤسسة عليها قوامة .
{ واهجروهن في المضاجع } . .
والمضجع موضع الإغراء والجاذبية ، التي تبلغ فيها المرأة الناشز المتعالية قمة سلطانها . فإذا استطاع الرجل أن يقهر دوافعه تجاه هذا الإغراء ، فقد أسقط من يد المرأة الناشز أمضى أسلحتها التي تعتز بها . وكانت - في الغالب - أميل إلى التراجع والملاينة ، أمام هذا الصمود من رجلها ، وأمام بروز خاصية قوة الإرادة والشخصية فيه ، في أحرج مواضعها . . على أن هناك أدباً معيناً في هذا الإجراء . . إجراء الهجر في المضاجع . . وهو ألا يكون هجراً ظاهراً في غير مكان خلوة الزوجين . . لا يكون هجراً أمام الأطفال ، يورث نفوسهم شراً وفساداً . . ولا هجراً أمام الغرباء يذل الزوجة أو يستثير كرامتها ، فتزداد نشوزًا . فالمقصود علاج النشوز لا إذلال الزوجة؛ ولا إفساد الأطفال وكلا الهدفين يبدو أنه مقصود من هذا الإجراء . .
ولكن هذه الخطوة قد لا تفلح كذلك . . فهل تترك المؤسسة تتحطم؟ إن هناك إجراء - ولو أنه أعنف - ولكنه أهون وأصغر من تحطيم المؤسسة كلها بالنشوز :
{ واضربوهن } . .
واستصحاب المعاني السابقة كلها؛ واستصحاب الهدف من هذه الإجراءات كلها يمنع أن يكون هذا الضرب تعذيباً للانتقام والتشفي . ويمنع أن يكون إهانة للإذلال والتحقير . ويمنع أن يكون أيضاً للقسر والإرغام على معيشة لا ترضاها . . ويحدد أن يكون ضرب تأديب ، مصحوب بعاطفة المؤدب المربي؛ كما يزاوله الأب مع أبنائه وكما يزاوله المربي مع تلميذه .

.
ومعروف - بالضرورة - أن هذه الإجراءات كلها لا موضع لها في حالة الوفاق بين الشريكين في المؤسسة الخطيرة . وإنما هي لمواجهة خطر الفساد والتصدع . فهي لا تكون إلا وهناك انحراف ما هو الذي تعالجه هذه الإجراءات . .
وحين لا تجدي الموعظة ، ولا يجدي الهجر في المضاجع . . لا بد أن يكون هذا الانحراف من نوع آخر ، ومن مستوى آخر ، لا تجدي فيه الوسائل الأخرى . . وقد تجدي فيه هذه الوسيلة
وشواهد الواقع ، والملاحظات النفسية ، على بعض أنواع الانحراف ، تقول : إن هذه الوسيلة تكون أنسب الوسائل لإشباع انحراف نفسي معين ، وإصلاح سلوك صاحبه . . وإرضائه . . في الوقت ذاته
على أنه من غير أن يكون هناك هذا الانحراف المرضي ، الذي يعينه علم النفس التحليلي بالاسم؛ إذ نحن لا نأخذ تقريرات علم النفس مسلمات « علمية » ، فهو لم يصبح بعد « علماً » بالمعنى العلمي ، كما يقول الدكتور « ألكسيس كاريل » ، فربما كان من النساء من لا تحس قوة الرجل الذي تحب نفسها أن تجعله قيماً وترضى به زوجاً ، إلا حين يقهرها عضلياً وليست هذه طبيعة كل امرأة . ولكن هذا الصنف من النساء موجود . وهو الذي قد يحتاج إلى هذه المرحلة الأخيرة . . ليستقيم . ويبقي على المؤسسة الخطيرة . . في سلم وطمأنينة
وعلى أية حال ، فالذي يقرر هذه الإجراءات ، هو الذي خلق . وهو أعلم بمن خلق . وكل جدال بعد قول العليم الخبير مهاترة؛ وكل تمرد على اختيار الخالق وعدم تسليم به ، مفض إلى الخروج من مجال الإيمان كله . .
وهو - سبحانه - يقررها ، في جو وفي ملابسات تحدد صفتها ، وتحدد النية المصاحبة لها ، وتحدد الغاية من ورائها . بحيث لا يحسب على منهج الله تلك المفهومات الخاطئة للناس في عهود الجاهلية؛ حين يتحول الرجل جلاداً - باسم الدين وتتحول المرأة رقيقاً - باسم الدين - أو حين يتحول الرجل امرأة؛ وتتحول المرأة رجلاً؛ أو يتحول كلاهما إلى صنف ثالث مائع بين الرجل والمرأة - باسم التطور في فهم الدين - فهذه كلها أوضاع لا يصعب تمييزها عن الإسلام الصحيح ومقتضياته في نفوس المؤمنين
وقد أبيحت هذه الإجراءات لمعالجة أعراض النشوز - قبل استفحالها - وأحيطت بالتحذيرات من سوء استعمالها ، فور تقريرها وإباحتها . وتولى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسنته العملية في بيته مع أهله ، وبتوجيهاته الكلامية علاج الغلو هنا وهناك ، وتصحيح المفهومات في أقوال كثيرة :
ورد في السنن والمسند : « عن معاوية بن حيدة القشيري ، أنه قال : يا رسول الله ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال : أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت . ولا تضرب الوجه . ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت » .
وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه :

« قال النبي - صلى الله عليه وسلم - » لا تضربوا إماء الله « . . فجاء - عمر رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ذئرت النساء على أزواجهن فرخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ضربهن . فأطاف بآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساء كثير يشتكين أزواجهن فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن . . ليس أولئك بخياركم »
« وقال - صلى الله عليه وسلم - لا يضرب أحدكم امرأته كالعير يجلدها أول النهار . ثم يضاجعها آخره »
وقال « خيركم خيركم لأهله . وأنا خيركم لأهلي » .
ومثل هذه النصوص والتوجيهات؛ والملابسات التي أحاطت بها؛ ترسم صورة لصراع الرواسب الجاهلية مع توجيهات المنهج الإسلامي ، في المجتمع المسلم ، في هذا المجال . وهي تشبه صورة الصراع بين هذه الرواسب وهذه التوجيهات في شتى مجالات الحياة الأخرى . قبل أن تستقر الأوضاع الإسلامية الجديدة ، وتعمق جذورها الشعورية في أعماق الضمير المسلم في المجتمع الإسلامي . .
وعلى أية حال فقد جعل لهذه الإجراءات حد تقف عنده - متى تحققت الغاية - عند مرحلة من مراحل هذه الإجراءات . فلا تتجاوز إلى ما وراءها :
{ فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً } . .
فعند تحقق الغاية تقف الوسيلة . مما يدل على أن الغاية - غاية الطاعة - هي المقصودة . وهي طاعة الاستجابة لا طاعة الإرغام . فهذه ليست طاعة تصلح لقيام مؤسسة الأسرة ، قاعدة الجماعة .
ويشير النص إلى أن المضي في هذه الإجراءات بعد تحقق الطاعة بغي وتحكم وتجاوز .
{ فلا تبغوا عليهن سبيلاً } . .
ثم يعقب على هذا النهي بالتذكير بالعلي الكبير . . كي تتطامن القلوب ، وتعنو الرؤوس ، وتتبخر مشاعر البغي والاستعلاء ، إن طافت ببعض النفوس : على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب .
{ إن الله كان علياً كبيراً } . .
ذلك حين لا يستعلن النشوز ، وإنما تتقى بوادره . فأما إذا كان قد استعلن . فلا تتخذ تلك الإجراءات التي سلفت . إذا لا قيمة لها إذن ولا ثمرة . وإنما هي إذن صراع وحرب بين خصمين ليحطم أحدهما رأس الآخر وهذا ليس المقصود ، ولا المطلوب . . وكذلك إذا رئي أن استخدام هذه الإجراءات قد لا يجدي ، بل سيزيد الشقة بعداً ، والنشوز استعلاناً؛ ويمزق بقية الخيوط التي لا تزال مربوطة . أو إذا أدى استخدام تلك الوسائل بالفعل إلى غير نتيجة . . في هذه الحالات كلها يشير المنهج الإسلامي الحكيم بإجراء أخير؛ لإنقاذ المؤسسة العظيمة من الانهيار . قبل أن ينفض يديه منها ويدعها تنهار :
{ وإن خفتم شقاق بينهما ، فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها . إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما . إن الله كان عليماً خبيراً } .

.
وهكذا لا يدعو المنهج الإسلامي إلى الاستسلام لبوادر النشوز والكراهية؛ ولا إلى المسارعة بفصم عقدة النكاح ، وتحطيم مؤسسة الأسرة على رؤوس من فيها من الكبار والصغار - الذين لا ذنب لهم ولا يد ولا حيلة - فمؤسسة الأسرة عزيزة على الإسلام؛ بقدر خطورتها في بناء المجتمع ، وفي إمداده باللبنات الجديدة ، اللازمة لنموه ورقيه وامتداده .
إنه يلجأ إلى هذه الوسيلة الأخيرة - عند خوف الشقاق - فيبادر قبل وقوع الشقاق فعلاً . . ببعث حكم من أهلها ترتضيه ، وحكم من أهله يرتضيه . يجتمعان في هدوء . بعيدين عن الانفعالات النفسية ، والرواسب الشعورية ، والملابسات المعيشية ، التي كدرت صفو العلاقات بين الزوجين . طليقين من هذه المؤثرات التي تفسد جو الحياة ، وتعقد الأمور ، وتبدو - لقربها من نفسي الزوجين - كبيرة تغطي على كل العوامل الطيبة الأخرى في حياتهما . حريصين على سمعة الأسرتين الأصليتين . مشفقين على الأطفال الصغار . بريئين من الرغبة في غلبة أحدهما على الآخر - كما قد يكون الحال مع الزوجين في هذه الظروف - راغبين في خير الزوجين وأطفالهما ومؤسستهما المهددة بالدمار . . . وفي الوقت ذاته هما مؤتمنان على أسرار الزوجين ، لأنهما من أهلهما : لا خوف من تشهيرهما بهذه الأسرار . إذ لا مصلحة لهما في التشهير بها ، بل مصلحتهما في دفنها ومداراتها
يجتمع الحكمان لمحاولة الإصلاح . فإن كان في نفسي الزوجين رغبة حقيقية في الإصلاح ، وكان الغضب فقط هو الذي يحجب هذه الرغبة ، فإنه بمساعدة الرغبة القوية في نفس الحكمين ، يقدر الله الصلاح بينهما والتوفيق :
{ إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما } . .
فهما يريدان الإصلاح ، والله يستجيب لهما ويوفق . .
وهذه هي الصلة بين قلوب الناس وسعيهم ، ومشيئة الله وقدره . . إن قدر الله هو الذي يحقق ما يقع في حياة الناس . ولكن الناس يملكون أن يتجهوا وأن يحاولوا؛ وبقدر الله - بعد ذلك - يكون ما يكون .
ويكون عن علم بالسرائر وعن خبرة بالصوالح :
{ إن الله كان عليماً خبيراً } .
وهكذا نرى - في هذا الدرس - مدى الجدية والخطورة في نظرة الإسلام إلى المرأة وعلاقات الجنسين ومؤسسة الأسرة ، وما يتصل بها من الروابط الاجتماعية . . ونرى مدى اهتمام المنهج الإسلامي بتنظيم هذا الجانب الخطير من الحياة الإنسانية . ونطلع على نماذج من الجهد الذي بذله هذا المنهج العظيم ، وهو يأخذ بيد الجماعة المسلمة - التي التقطها من سفح الجاهلية - في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة على هدى الله . الذي لا هدى سواه . .

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)

هناك أكثر من مناسبة واحدة ، تربط بين مطلع هذا الدرس؛ وبين محور السورة كلها ، وموضوعاتها الأساسية من ناحية؛ وبينه وبين موضوعات الدرس السابق في هذا الجزء من ناحية أخرى .
فهذا الدرس بدء جولة في تنظيم حياة المجتمع المسلم؛ وتخليصه من رواسب الجاهلية ، وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة؛ والتحذير من أهل الكتاب - وهم اليهود بالمدينة - وما جبلوا عليه من شر ونكر؛ وما ينفثونه في المجتمع المسلم ، وما يبذلونه من جهود لتعويق نموه وتكامله - وبخاصة من الناحية الأخلاقية ، وناحية التكافل والتعاون ، اللتين هما موضع القوة النامية في هذا المجتمع الجديد . .
ولأن الدرس الجديد جولة جديدة ، فقد بدأ بالقاعدة الأولية التي يقوم عليها المجتمع المسلم - قاعدة التوحيد الخالص - التي تنبثق منها حياته؛ وينبثق منها منهج هذه الحياة ، في كل جانب ، وفي كل اتجاه .
وقد سبق هذا الدرس أشواط منوعة في التنظيم العائلي ، والتنظيم الاجتماعي . وكان الحديث في الدرس السابق عن الأسرة وتنظيمها ووسائل صيانتها؛ والروابط التي تشدها وتوثق بناءها . . فجاء هذا الدرس يتناول علاقات إنسانية - في المجتمع المسلم - أوسع مدى من علاقات الأسرة؛ ومتصلة بها كذلك . متصلة بها بالحديث عن الوالدين . ومتصلة بها في توسعها بعد علاقة الوالدين ، لتشمل علاقات أخرى؛ ينبع الشعور بها من المشاعر الودود الطيبة التي تنشأ في جو الأسرة المتحابة؛ حتى تفيض على جوانب الإنسانية الأخرى؛ ويتعلمها الإنسان - أول من يتعلمها - في جو الأسرة الحاني ومحضنها الرفيق . ومن هناك يتوسع في علاقاته بأسرة الإنسانية كلها؛ بعدما بذرت بذورها في حسه أسرته الخاصة القريبة .
ولأن في الدرس الجديد توجيهات إلى رعاية الأسرة القريبة - العائلة - والأسرة الكبيرة - الإنسانية - وإقامة قيم وموازين في هذا الحقل ، للباذلين وللباخلين . . فقد ابتدأ الدرس بالقاعدة الأساسية التي تنبثق منها كل القيم والموازين - كما ينبثق منها منهج الحياة كله في المجتمع المسلم - وهي قاعدة التوحيد . . وربط كل حركة وكل نشاط ، وكل خالجة وكل انفعال بمعنى العبادة لله . التي هي غاية كل نشاط إنساني ، في ضمير المسلم وفي حياته . .
وبسبب من الحديث عن عبادة الله وحده - في محيطها الشامل - جاءت الفقرة الثانية في الدرس؛ تبين بعض أحكام الصلاة والطهارة؛ وتتخذ خطوة في طريق تحريم الخمر - ولم تكن قد حرمت بعد- باعتبار هذه الخطوة جزءاً من برنامج التربية الإسلامية العامة الدائبة الخطى في المجتمع الوليد . وباعتبار علاقتها بالعبادة والصلاة والتوحيد . .
حلقات متماسكة بعضها مع بعض . ومع الدرس السابق . ومع محور السورة كذلك .
{ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً . وبالوالدين إحساناً ، وبذي القربى واليتامى والمساكين ، والجار ذي القربي والجار الجنب والصاحب بالجنب ، وابن السبيل ، وما ملكت أيمانكم .

. إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً ، الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ، وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً . والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر . ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله ، وكان الله بهم عليماً ، إن الله لا يظلم مثقال ذرة ، وإن تك حسنة يضاعفها ، ويؤت من لدنه أجراً عظيماً . فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ، ولا يكتمون الله حديثاً « . .
هذه الفقرة تبدأ بالأمر بعبادة الله وحده ، والنهي عن إشراك شيء به . . تبدأ بحرف عطف يربط بين هذا الأمر ، وهذا النهي ، والأوامر السابقة الخاصة بتنظيم الأسرة في أواخر الدرس الماضي . فيدل هذا الربط بين الموضوعين على الوحدة الكلية الشاملة المتكاملة في هذا الدين . فليس هو مجرد عقيدة تستكن في الضمير؛ ولا مجرد شعائر تقام وعبادات؛ ولا مجرد تنظيم دنيوي منقطع الصلة بالعقيدة وبالشعائر التعبدية . . إنما هو منهج يشمل هذا النشاط كله ، ويربط بين جوانبه ، ويشدها جميعاً إلى الأصل الأصيل . وهو توحيد الله . والتلقي منه وحده - في هذا النشاط كله - دون سواه . توحيده إلهاً معبوداً . وتوحيده مصدراً للتوجيه والتشريع لكل النشاط الإنساني أيضاً . لا ينفك هذا التوحيد عن ذاك - في الإسلام - وفي دين الله الصحيح على الإطلاق .
ويلي الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك ، الأمر بالإحسان إلى تلك المجموعات من الأسرة الخاصة ، والأسرة الإنسانية؛ وتقبيح البخل والخيلاء والفخر وأمر الناس بالبخل؛ وكتمان فضل الله - من أي نوع سواء كان من المال أم من العلم والدين - والتحذير من اتباع الشيطان؛ والتلويح بعذاب الآخرة؛ وما فيه من خزي وافتضاح . . لربط هذا كله بالتوحيد؛ وتحديد المصدر الذي يتلقى منه من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً . وهو مصدر كذلك واحد لا يتعدد ولا يشاركه أحد في التوجيه والتشريع؛ كما لا يشاركه أحد في الألوهية وعبادة الناس له بلا شريك .
{ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً . وبالوالدين إحساناً . وبذي القربى واليتامى والمساكين ، والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب . وابن السبيل ، وما ملكت أيمانكم . . . } .
إن التشريعات والتوجيهات - في منهج الله - إنما تنبثق كلها من أصل واحد ، وترتكز على ركيزة واحدة . إنها تنبثق من العقيدة في الله ، وترتكز على التوحيد المطلق سمة هذه العقيدة . . ومن ثم يتصل بعضها ببعض؛ ويتناسق بعضها مع بعض؛ ويصعب فصل جزئية منها عن جزئية؛ وتصبح دراسة أي منها ناقصة بدون الرجوع إلى أصلها الكبير الذي تلتقي عنده؛ ويصبح العمل ببعضها دون البعض الآخر غير واف بتحقيق صفة الإسلام؛ كما أنه غير واف بتحقيق ثمار المنهج الإسلامي في الحياة .

من العقيدة في الله تنبع كل التصورات الأساسية للعلاقات الكونية والحيوية والإنسانية . تلك التصورات التي تقوم عليها المناهج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والعالمية . والتي تؤثر في علاقات الناس بعضهم ببعض ، في كل مجالي النشاط الإنساني في الأرض؛ والتي تكيف ضمير الفرد وواقع المجتمع؛ والتي تجعل المعاملات عبادات - بما فيها من اتباع لمنهج الله ومراقبة الله - والعبادات قاعدة للمعاملات - بما فيها من تطهير للضمير والسلوك - والتي تحيل الحياة في النهاية وحدة متماسكة؛ تنبثق من المنهج الرباني ، وتتلقى منه وحده دون سواه ، وتجعل مردها في الدنيا والآخرة إلى الله .
هذه السمة الأساسية في العقيدة الإسلامية ، وفي المنهج الإسلامي ، وفي دين الله الصحيح كله ، تبرز هنا في تصدير آية الإحسان إلى الوالدين والأقربين ، وغيرهم من طوائف الناس . بعبادة الله وتوحيده - كما أسلفنا - ثم في الجمع بين قرابة الوالدين ، وقرابة هذه الطوائف من الناس ، متصلة هذه وتلك بعبادة الله وتوحيده - كذلك - وذلك بعد أن جعل هذه العبادة وهذا التوحيد واسطة ما بين دستور الأسرة القريبة في نهاية الدرس الماضي ، ودستور العلاقات الإنسانية الواسعة في هذا الدرس - على النحو الذي بينا من قبل - ليصلها جميعاً بتلك الآصرة التي تضم الأواصر جميعاً؛ وليوحد المصدر الذي يشرع ويوجه في شأن هذه الأواصر جميعاً . .
{ واعبدوا الله . . ولا تشركوا به شيئاً } . .
الأمر الأول بعبادة الله . . والنهي الثاني لتحريم عبادة أحد - معه - سواه . نهياً باتاً ، شاملاً ، لكل أنواع المعبودات التي عرفتها البشرية : { ولا تشركوا به شيئاً } . . شيئاً كائناً ما كان ، من مادة أو حيوان أو إنسان أو ملك أو شيطان . . فكلها مما يدخل في مدلول كلمة شيء ، عند إطلاق التعبير على هذا المنوال . .
ثم ينطلق إلى الأمر بالإحسان إلى الوالدين - على التخصيص - ولذوي القربى - على التعميم - ومعظم الأوامر تتجه إلى توصية الذرية بالوالدين - وإن كانت لم تغفل توجيه الوالدين إلى الذرية؛ فقد كان الله أرحم بالذراري من آبائهم وأمهاتهم في كل حال . والذرية بصفة خاصة أحوج إلى توجيهها للبر بالوالدين . بالجيل المدبر المولي . إذ الأولاد - في الغالب - يتجهون بكينونتهم كلها ، وبعواطفهم ومشاعرهم واهتماماتهم إلى الجيل الذي يخلفهم؛ لا الجيل الذي خلفهم وبينما هم مدفوعون في تيار الحياة إلى الأمام ، غافلون عن التلفت إلى الوراء ، تجيئهم هذه التوجيهات من الرحمن الرحيم ، الذي لا يترك والداً ولا مولوداً ، والذي لا ينسى ذرية ولا والدين؛ والذي يعلم عباده الرحمة بعضهم ببعض ، ولو كانوا ذرية أو والدين
كذلك يلحظ في هذه الآية - وفي كثير غيرها - أن التوجيه إلى البر يبدأ بذوي القربى - قرابة خاصة أو عامة - ثم يمتد منها ويتسع نطاقه من محورها ، إلى بقية المحتاجين إلى الرعاية من الأسرة الإنسانية الكبيرة .

وهذا المنهج يتفق - أولاً - مع الفطرة ويسايرها . فعاطفة الرحمة ، ووجدان المشاركة ، يبدآن أولاً في البيت . في الأسرة الصغيرة . وقلما ينبثقان في نفس لم تذق طعم هذه العاطفة ولم تجد مسّ هذا الوجدان في المحضن الأول . والنفس كذلك أميل إلى البدء بالأقربين - فطرة وطبعاً - ولا بأس من ذلك ولا ضير؛ ما دامت توجه دائماً إلى التوسع في الدائرة من هذه النقطة ومن هذا المحور . . ثم يتفق المنهج - ثانياً - مع طريقة التنظيم الاجتماعي الإسلامية : من جعل الكافل يبدأ في محيط الأسرة؛ ثم ينساح في محيط الجماعة . كي لا يركز عمليات التكافل في يد الأجهزة الحكومية الضخمة - إلا عندما تعجز الأجهزة الصغيرة المباشرة - فالوحدات المحلية الصغيرة أقدر على تحقيق هذا التكافل : في وقته المناسب وفي سهولة ويسر . وفي تراحم وود يجعل جو الحياة لائقاً ببني الإنسان
وهنا يبدأ بالإحسان إلى الوالدين . ويتوسع منهما إلى ذوي القربى . ومنهم إلى اليتامى والمساكين - ولو أنهم قد يكونون أبعد مكاناً من الجار . ذلك أنهم أشد حاجة وأولى بالرعاية - ثم الجار ذو القرابة . فالجار الأجنبي - مقدمين على الصاحب المرافق - لأن الجار قربه دائم ، أما الصاحب فلقاؤه على فترات - ثم الصاحب المرافق - وقد ورد في تفسيره أنه الجليس في الحضر ، الرفيق في السفر - ثم ابن السبيل . العابر المنقطع عن أهله وماله . ثم الرقيق الذين جعلتهم الملابسات « ملك اليمين » ولكنهم يتصلون بآصرة الإنسانية الكبرى بين بني آدم أجمعين .
ويعقب على الأمر بالإحسان ، بتقبيح الاختيال والفخر ، والبخل والتبخيل ، وكتمان نعمة الله وفضله ، والرياء في الإنفاق؛ والكشف عن سبب هذا كله ، وهو عدم الإيمان بالله واليوم الآخر ، واتباع الشيطان وصحبته :
{ إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً . الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله . وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً . والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر . ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً }
وهكذا تتضح مرة أخرى تلك اللمسة الأساسية في المنهج الإسلامي . وهي ربط كل مظاهر السلوك وكل دوافع الشعور ، وكل علاقات المجتمع بالعقيدة . فإفراد الله - سبحانه - بالعبادة والتلقي ، يتبعه الإحسان إلى البشر ، ابتغاء وجه الله ورضاه ، والتعلق بثوابه في الآخرة؛ في أدب ورفق ومعرفة بأن العبد لا ينفق إلا من رزق الله . فهو لا يخلق رزقه ، ولا ينال إلا من عطاء الله . . والكفر بالله وباليوم الآخر يصاحبه الاختيال والفخر ، والبخل والأمر بالبخل ، وكتمان فضل الله ونعمته بحيث لا تظهر آثارها في إحسان أو عطاء؛ أو الإنفاق رياء وتظاهراً طلباً للمفخرة عند الناس؛ إذ لا إيمان بجزاء آخر غير الفخر والخيلاء بين العباد
وهكذا تتحدد « الأخلاق » .

. أخلاق الإيمان . وأخلاق الكفر . . فالباعث على العمل الطيب ، والخلق الطيب ، هو الإيمان بالله واليوم الآخر ، والتطلع إلى رضاء الله . . وجزاء الآخرة . فهو باعث رفيع لا ينتظر صاحبه جزاء من الناس ، ولا يتلقاه ابتداء من عرف الناس فإذا لم يكن هناك إيمان باله يبتغي وجهه ، وتتحدد بواعث العمل بالرغبة في رضاه . وإذا لم يكن هناك اعتقاد بيوم آخر يتم فيه الجزاء . . اتجه هم الناس إلى نيل القيم الأرضية المستمدة من عرف الناس . وهذه لا ضابط لها في جيل واحد في رقعة واحدة ، فضلاً عن أن يكون لها ضابط ثابت في كل زمان وفي كل مكان وكانت هذه هي بواعثهم للعمل . وكان هناك التأرجح المستمر كتأرجح أهواء الناس وقيمهم التي لا تثبت على حال وكان معها تلك الصفات الذميمة من الفخر والخيلاء ، والبخل والتبخيل ، ومراءاة الناس لا التجرد والإخلاص
والتعبير القرآني يقول : إن الله { لا يحب } هؤلاء . . والله - سبحانه - لا ينفعل انفعال الكره والحب . إنما المقصود ما يصاحب هذا الانفعال في مألوف البشر من الطرد والأذى وسوء الجزاء : { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } . . والإهانة هي الجزاء المقابل للفخر والخيلاء . ولكن التعبير القرآني يلقي ظلاله - إلى جوار المعنى المقصود - وهي ظلال مقصودة؛ تثير في النفوس الكره لهذه الصفات ، ولهذه التصرفات؛ كما تثير الاحتقار والاشمئزاز . وبخاصة حين يضم إليها أن الشيطان هو قرينهم : { ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً }
وقد ورد أن هذه النصوص نزلت في جماعة من يهود المدينة . . وهي صفات تنطبق على اليهود ، كما تنطبق على المنافقين . . وكلاهما كان موجوداً في المجتمع المسلم في ذلك الحين . . وقد تكون الإشارة إلى كتمانهم ما آتاهم الله من فضله ، تعني كذلك كتمانهم للحقائق التي يعرفونها في كتبهم عن هذا الدين ، وعن رسوله الأمين . . ولكن النص عام ، والسياق بصدد الإحسان بالمال وبالمعاملة . فأولى أن نترك مفهومه عاماً . لأنه الأقرب إلى طبيعة السياق .
وحين ينتهي من عرض سوءات نفوسهم؛ وسوءات سلوكهم؛ ومن عرض أسبابها من الكفر بالله واليوم الآخر ، وصحبة الشيطان واتباعه؛ ومن الجزاء المعد المهيأ لأصحاب هذه السوءات ، وهو العذاب المهين . . عندئذ يسأل في استنكار :
{ وماذا عليهم لو آمنوا بالله ، واليوم الآخر ، وأنفقوا مما رزقهم الله؟ وكان الله بهم عليماً . إن الله لا يظلم مثقال ذرة ، وإن تك حسنة يضاعفها ، ويؤت من لدنه أجراً عظيماً } . .
أجل ماذا عليهم؟ ما الذي يخشونه من الإيمان بالله واليوم الآخر ، والإنفاق من رزق الله . والله عليم بهم بما أنفقوا وبما استقر في قلوبهم من بواعث ، والله لا يظلم مثقال ذرة فلا خشية من الجهل بإيمانهم وإنفاقهم .

ولا خوف من الظلم في جزائهم . . بل هناك الفضل والزيادة ، بمضاعفة الحسنات ، والزيادة من فضل الله بلا حساب؟
إن طريق الإيمان أضمن وأكسب - على كل حال وعلى كل احتمال - وحتى بحساب الربح المادي والخسارة المادية ، فإن الإيمان - في هذه الصورة - يبدو هو الأضمن وهو الأربح فماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر؛ وأنفقوا مما رزقهم الله؟ إنهم لا ينفقون من شيء خلقوه لأنفسهم خلقاً؛ إنما هو رزق الله لهم . ومع ذلك يضاعف لهم الحسنة؛ ويزيدهم من فضله ، وهم من رزقه ينفقون ويعطون فياله من كرم وياله من فيض ويالها من صفقة لا يقعد عنها إلا جاهل خسران
ثم يختم الأوامر والنواهي ، والتحضيض والترغيب ، بمشهد من مشاهد القيامة؛ يجسم موقفهم فيه ، ويرسم حركة النفوس والمشاعر كأنها شاخصة متحركة . . على طريقة القرآن في مشاهد القيامة :
{ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ، ولا يكتمون الله حديثاً } . .
إنه يمهد لمشهد القيامة ، بأن الله لا يظلم مثقال ذرة . . وإذن فهو العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه قيد شعرة . . وأنه يضاعف الحسنات ويؤتي فضلاً عنها أجراً من لدنه عظيماً . . فهي الرحمة إذن لمن يستحقون الرحمة؛ والفضل المطلق لمن كانوا يرجون الفضل ، بالإيمان والعمل . .
فأما هؤلاء . هؤلاء الذين لم يقدموا إيماناً ، ولم يقدموا عملاً . . هؤلاء الذين لم يقدموا إلا الكفر وسوء العمل . . فكيف يكون حالهم يومذاك؟ كيف يكون الحال ، إذا جئنا من كل أمة بشهيد - هو نبيها الذي يشهد عليها - وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟
وعندئذ يرتسم المشهد شاخصاً . . ساحة العرض الواسعة . وكل أمة حاضرة . وعلى كل أمة شهيد بأعمالها . . وهؤلاء الكافرون المختالون الفخورون الباخلون المبخلون ، الكاتمون لفضل الله ، المراءون الذين لم يبتغوا وجه الله . . هؤلاء هم نكاد نراهم من خلال التعبير واقفين في الساحة وقد انتدب الرسول صلى الله عليه وسلم للشهادة هؤلاء هم بكل ما أضمروا وأظهروا . بكل ما كفروا وما أنكروا . بكل ما اختالوا وما افتخروا . بكل ما بخلوا وبخلوا . بكل ما راءوا وتظاهروا . . هؤلاء هم في حضرة الخالق الذي كفروا به ، الرازق الذي كتموا فضله وبخلوا بالإنفاق مما أعطاهم . في اليوم الآخر الذي لم يؤمنوا به . في مواجهة الرسول الذي عصوه . . فكيف؟؟؟
إنها المهانة والخزي ، والخجل والندامة . . مع الاعتراف حيث لا جدوى من الإنكار . .
والسياق القرآني لا يصف هذا كله من الظاهر . إنما يرسم « صورة نفسية » تتضح بهذا كله؛ وترتسم حواليها تلك الظلال كلها . ظلال الخزي والمهانة ، والخجل والندامة :
{ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض ، ولا يكتمون الله حديثاً «
ومن خلال اللمسات المعبرة في الصورة الحية ، نحس بكل تلك المعاني ، وبكل تلك الانفعالات ، وهي تتحرك في هذه النفوس .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36