كتاب : في ظلال القرآن
المؤلف : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي

. ولم تكن فلتة عارضة أن يقف اليهود في المدينة كذلك لهذه الحركة؛ وأن يجمعهم مع المشركين معسكر واحد - وهم من أهل الكتاب - وأن يؤلب اليهود وتؤلب قريش قبائل العرب في الجزيرة في غزوة الأحزاب لاستئصال شأفة ذلك الخطر الذي يتهدد الجميع بمجرد قيام الدولة في المدينة على أساس هذه العقيدة ، وإقامة نظامها وفق ذلك المنهج الرباني المتفرد . وكذلك سنعلم بعد قليل أنها لم تكن فلتة عابرة أن يقف النصارى - وهم من أهل الكتاب كذلك - لهذه الدعوة ولهذه الحركة سواء في اليمن أم في الشام؛ أم فيما وراء اليمن ووراء الشام إلى آخر الزمان . إنها طبائع الأشياء . . إنها أولاً طبيعة المنهج الإسلامي التي يعرفها جيداً - ويستشعرها بالفطرة - أصحاب المناهج الأخرى طبيعة الإصرار على إقامة مملكة الله في الأرض ، وإخراج الناس كافة من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، وتحطيم الحواجز المادية التي تحول بين « الناس كافة » وبين حرية الاختيار الحقيقية . . ثم إنها ثانياً طبيعة التعارض بين منهجين للحياة لا التقاء بينهما في كبيرة ولا صغيرة؛ وحرص أصحاب المناهج الأرضية على سحق المنهج الرباني الذي يتهدد وجودهم ومناهجهم وأوضاعهم قبل أن يسحقهم . . فهي حتمية لا اختيار فيها - في الحقيقة - لهؤلاء ولا هؤلاء
وكانت هذه الحتمية تفعل فعلها على مدى الزمن ، وعلى مدى التجارب؛ وتتجلى في صور شتى ، تؤكد وتعمق ضرورة الخطوة النهائية الأخيرة التي أعلنت في هذه السورة؛ ولم تكن الأسباب القريبة المباشرة التي تذكرها بعض الروايات إلا حلقات في سلسلة طويلة ممتدة على مدى السيرة النبوية الشريفة ، وعلى مدى الحركة الإسلامية منذ أيامها الأولى . .
وبهذه السعة في النظرة إلى الجذور الأصيلة للموقف ، وإلى تحركاته المستمرة ، يمكن فهم هذه الخطوة الأخيرة . وذلك مع عدم إغفال الأسباب القريبة المباشرة ، لأنها بدورها لا تعدو أن تكون حلقات في تلك السلسلة الطويلة .
وقد ذكر الإمام البغوي في تفسيره أن المفسرين قالوا : إنه لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك أرجف المنافقون ، وأخذ المشركون ينقضون عهودهم؛ فأنزل الله الآيات بالنسبة لهؤلاء ، مع إمهالهم أربعة أشهر إن كانت مدة عهدهم أقل ، أو قصرها على أربعة أشهر إن كانت أكثر .
وذكر الإمام الطبري - بعد استعراضه الأقوال في تفسير مطلع السورة - : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : لأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين ، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته . فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه ، فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله : { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ، إن الله يحب المتقين } .

ومما رواه الطبري كذلك - بإسناده - عن مجاهد قوله : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } قال : أهل العهد : مدلج والعرب الذين عاهدهم ، ومن كان له عهد . قال : أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك حين فرغ منها ، وأراد الحج . ثم قال : « إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة ، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك » فأرسل أبا بكر وعلياً رحمة الله عليهما ، فطافا بالناس بذي المجاز ، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها ، وبالموسم كله ، وآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر . فهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات : عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر . ثم لا عهد لهم . وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا . فآمن الناس أجمعون حنيئذ ، ولم يَسح أحد « .
وهذه الأسباب القريبة المباشرة لا شك كان لها وزنها في اتخاذ الخطوة الأخيرة الحاسمة . ولكنها بدورها ليست إلا حلقات في السلسلة الطويلة؛ الناشئة ابتداء من الحتمية الجذرية الكبيرة : وهي تعارض المنهجين أصلاً ، وعدم إمكان التعايش بينهما إلا فترات اضطرارية تنتهي حتماً . . .
وقد أراد المرحوم الشيخ رشيد رضا أن يلم بحلقات السلسلة منذ بدء الدعوة - وإن يكن لم يحاول أن يلم بأصل الاختلاف الجذري الدائم الذي ينشئ هذه السلسلة بحلقاتها؛ والذي ينتهي بما انتهت إليه حتماً - فقال في تفسير المنار :
» من المشهور القطعي الذي لا خلاف فيه ، أن الله تعالى بعث محمداً رسوله وخاتم النبيين بالإسلام الذي أكمل به الدين ، وجعل آيته الكبرى هذا القرآن المعجز للبشر من وجوه كثيرة ، ذكرنا كلياتها في تفسير : ( 2 : 3 ) ( ص 190 - ص228 ج 1 ) وأقام بناء الدعوة إليه على أساس البراهين العقلية والعلمية المقنعة والملزمة؛ ومنع الإكراه فيه والحمل عليه بالقوة ، كما بيناه في تفسير ( 2 : 256 ص 26- ص 40 ج 3 ) فقاومه المشركون ، وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه ، وصدوه ( ص ) عن تبليغه للناس بالقوة؛ ولم يكن أحد ممن اتبعه يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب ، إلا بتأمين حليف أو قريب . فهاجر من هاجر منهم المرة بعد المرة؛ ثم اشتد إيذاؤهم للرسول ( ص ) حتى ائتمروا بحبسه الدائم أو نفيه أو قتله علناً في دار الندوة؛ ورجحوا في آخر الأمر قتله؛ فأمره الله تعالى بالهجرة ، كما تقدم في تفسير [ 8 : 30 ] { وإذا يمكر بك الذين كفروا } ( ص 650 ج 9 ) فهاجر ( ص ) وصار يتبعه من قدر على الهجرة من أصحابه إلى حيث وجدوا من مهاجرهم بالمدينة المنورة أنصاراً لله ولرسوله يحبون من هاجر إليهم ، ويؤثرونهم على أنفسهم .

وكانت الحال بينهم وبين مشركي مكة وغيرهم من العرب حال حرب بالطبع ومقتضى العرف العام في ذلك العصر . وعاهد ( ص ) أهل الكتاب من يهود المدينة وما حولها على السلم والتعاون . فخانوا وغدروا ، ونقضوا عهودهم له بما كانوا يوالون المشركين ويظاهرونهم كلما حاربوه . كما تقدم بيان ذلك كله في تفسير سورة الأنفال من هذا الجزء ( ص 1547 - 1556 ) .
« وقد عاهد ( ص ) المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط تساهل معهم فيها منتهى التساهل ، عن قوة وعزة ، لا عن ضعف وذلة ، ولكن حبا بالسلم ونشر دينه بالإقناع والحجة . ودخلت خزاعة في عهده ( ص ) كما دخلت بنو بكر في عهد قريش؛ ثم عدا هؤلاء على أولئك وأعانتهم قريش بالسلاح فنقضوا عهدهم ، فكان ذلك سبب عودة الحرب العامة معهم ، وفتحه ( ص ) لمكة ، الذي خضد شوكة الشرك وأذل أهله؛ ولكنهم ما زالوا يحاربونه حيث قدروا؛ وثبت بالتجربة لهم في حالي قوتهم وضعفهم أنهم لا عهود لهم ، ولا يؤمن نقضهم وانتقاضهم ، وكما يأتي قريباً في قوله تعالى من هذه السورة 7 : { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله - إلى قوله في آخر أية 12 - فقاتلوا أئمة الكفر ، إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } . أي لا عهود لهم يرعونها ويفون بها . والمراد أنه لا يمكن أن يعيش المسلمون معهم بحكم المعاهدات المرعية ، فيأمن كل منهم شر الآخر وعدوانه ، مع بقائهم على شركهم الذي ليس له شرع يدان به ، فيجب الوفاء بالعهد بإيجابه . كيف وقد سبقهم إلى الغدر ونقض الميثاق ، من كانوا أجدر بالوفاء وهم أهل الكتاب؟
» هذا هو الأصل الشرعي الذي بني عليه ما جاءت به هذه السورة من نبذ عهودهم المطلقة ، وإتمام مدة عهدهم المؤقتة لمن استقام عليها؛ وأما حكمة ذلك فهي محو بقية الشرك من جزيرة العرب بالقوة ، وجعلها خالصة للمسلمين ، مع مراعاة الأصول السابقة في قوله تعالى : [ 2 : 190 ] { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } وقوله : [ 8 : 61 ] { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } بقدر الإمكان . وإن قال الجمهور بنسخ هذه الآية بآية السيف من هذه السورة ونبذ عهود الشرك « . . انتهى .
وظاهر من هذا الاستعراض ومن التعقيب عليه - ومما جاء بعده في تفسير السورة في تفسير المنار - أنه مع لمس السبب الأصيل العميق الكامن وراء هذه السلسلة من نقض العهود ، وابتداء أول فرصة لحرب الإسلام وأهله من المشركين وأهل الكتاب ، فإن المؤلف لا يتابع هذا السبب إلى جذوره؛ ولا يرى امتداده وشموله؛ ولا يستشرف الحقيقة الكبيرة في طبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي؛ وطبيعة الاختلاف الجذري بين منهج الله ومناهج العبيد ، التي لا يمكن الالتقاء على شيء منها؛ وبالتالي لا يمكن التعايش الطويل بين المعسكرات القائمة على منهج الله وهذه المناهج أصلاً
فأما الأستاذ محمد عزة دروزة في تفسيره للسورة في كتابه : » التفسير الحديث « فيبعد جداً عن هذه الحقيقة الكبرى؛ ولا يلمس ذلك السبب الأصيل العميق أصلاً .

ذلك أنه مشغول - كغيره من الكتاب المحدثين الواقعين تحت ضغط الواقع البائس لذراري المسلمين وللقوة الظاهرة لمعسكرات المشركين والملحدين وأهل الكتاب في هذا الزمان - بتلمس شهادة لهذا الدين بأنه دين السلم والسلام؛ الذي لا يعنيه إلا أن يعيش داخل حدوده في سلام فمتى أمكنت المهادنة والمعاهدة فهو حريص عليها ، لا يعدل بها هدفاً آخر
وهو من ثم لا يرى سبباً لهذه النصوص الجديدة الأخيرة في سورة التوبة إلا نقض بعض المشركين لعهودهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن الذين لم ينقضوا عهودهم - سواء كانت مؤقتة أو مؤبدة - فقد جاءت السورة بالمحافظة عليها . وأنه حتى إذا انقضت عهودهم فإنه يجوز أن تعقد معهم معاهدات جديدة وكذلك الناكثون أنفسهم وأن الآيات المرحلية هي الأصل الذي يقيد عموم الآيات الأخيرة في هذه السورة
وفي ذلك يقول في شرح قوله تعالى : { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين . فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم } .
« وفي الآيتين وما قبلهما صور من السيرة النبوية في أواخر العهد المدني ، حيث ينطوي فيهما أنه كان بين المسلمين والمشركين عهود سلم بعد الفتح المكي ربما كانت ممتدة إلى ما قبله ، وأن من المشركين من ظلوا أوفياء لعهودهم ، ومنهم من نقض أو ظهرت منه علائم النقض والغدر .
» ولقد نبهنا قبل على أن أهل التأويل والمفسرين يسمون الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما آية السيف ، ويعتبرونها ناسخة لكل آية فيها أمر بالتسامح والتساهل مع المشركين وإمهالهم والإغضاء والصفح والإعراض عنهم . وتوجب قتالهم إطلاقاً . وبعضهم يستثني المعاهدين منهم إلى مدتهم ، وبعضهم لا يستثنيهم ولا يجوّز قبول غير الإسلام منهم بعد نزولها . ونبهنا على ما في ذلك من غلو ومناقضة للتقريرات القرآنية المتضمنة لأحكام محكمة بعدم قتال غير الأعداء وترك المسالمين والموادين وبرهم والإقساط إليهم . ولقد كرر المفسرون أقوالهم ورواياتهم عن قدماء أهل التأويل في مناسبة هذه الآية ، فروى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يضع السيف في من عاهدهم حتى يدخلوا في الإسلام ، وأن ينقض ما كان سمى لهم من عهد وميثاق .

وقد روى المفسر نفسه قولاً عجيباً عن سليمان بن عيينة جمع فيه بين هذه الآيات وآيات أخرى من هذه السورة وغيرها ليست في صدد قتال المشركين سماها الأسياف ، وقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب بها حين بعثه يؤذن في الناس يوم الحج الأكبر ، منها هذه الآية وسماها سيفاً في المشركين من العرب ، وسيفاً في قتال أهل الكتاب وهي آية التوبة هذه : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [ 29 ] وسيفاً في المنافقين وهو هذه الآية من سورة التوبة أيضاً : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير } [ 73 ] وسيفاً في قتال الباغين وهو هذه الآية في سورة الحجرات : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } [ 9 ] ومن العجيب أن الطبري ذهب إلى أن هذه الآية تشمل المعاهدين ومن لا عهد لهم إطلاقاً دون تفريق . مع أنه قرر في سياق آية الممتحنة هذه : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } [ 8 ] أنها محكمة وأن الله لا ينهى المسلمين عن البر والإقساط لمن يقف منهم موقف المسالمة والمحاسنة والحياد من أية ملة كانوا . وهؤلاء قد لا يكونون معاهدين
« كل هذا والآية كما هو واضح من فحواها وسياقها هي في صدد قتال المشركين المعاهدين الناقضين لعهدهم وحسب . بحيث يسوغ القول إن اعتبارها آية سيف وجعلها شاملة لكل مشرك إطلاقاً تحميل لها بما لا يتحمله هذا السياق والفحوى ، وكذلك الأمر في اعتبارها ناسخة للتقريرات المنطوية في آيات عديدة والتي عليها طابع المبدأ المحكم العام ، مثل عدم الإكراه في الدين والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والحث على البر والإقساط لمن لا يقاتل المسلمين ولا يخرجونهم من ديارهم على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة . ويأتي بعد قليل آية فيها أمر صريح للمسلمين بالاستقامة على عهدهم مع المشركين الذين عاهدوهم عند المسجد الحرام ما استقاموا لهم ، وفي هذه الآية دليل قوي على وجاهة ما نقرره إن شاء الله .
» وقد ترد مسألتان في صدد ما ينطوي في الآيتين من أحكام أولاهما : أن الاستثناء الوارد في أولى الآيتين محدد بانقضاء مدة العهد ، فهل يكون المعاهدون من المشركين حين انقضاء هذه المدة موضع براءة الله ورسوله ويجب قتالهم؟ وكلام المفسرين ينطوي على الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب . ولم نطلع على أثر نبوي وثيق في هذا الصدد .

ونرى أن كلام المفسرين يصح أن يكون محل توقف إذا أريد به الإطلاق . وأن الأمر يتحمل شيئاً من التوضيح : فالمعاهدون إما أن يكونوا أعداء للمسلمينَ قبل العهد ، وقد وقع حرب وقتال بينهم ، ثم عاهدهم المسلمون كما كان شأن قريش وصلحهم من النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية . وإما أن يكونوا قد رغبوا في موادعة المسلمين ومسالمتهم دون أن يكون قد وقع بينهم عداء وقتال . وآية النساء هذه : { إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ، أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ، ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم . فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } [ 90 ] تنطوي فيها على ما نعتقد حالة واقعية مثل ذلك . وفي روايات السيرة بعض الأمثلة حيث روى ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع بني صخر من كنانة ألا يغزوهم ولا يغزوه ولا يكثروا عليه ولا يعينوا عليه عدواً ، وكتب بينه وبينهم كتاباً بذلك . وليس في الآية ولا في غيرها ما يمنع تجديد العهد أو تمديده مع هؤلاء ولا مع أولئك إذا رغبوا ولم يكن قد ظهر منهم نقض ولا نية غدر . وليس للمسلمين أن يرفضوا ذلك لأنهم إنما أمروا بقتال من يقاتلهم ويعتدي عليهم بشكل من الأشكال . وفي الآية التي تأتي بعد قليل والتي تأمر المسلمين بصراحة بالاستقامة على عهدهم مع المشركين ما استقاموا لهم قرينة على ما نقول إن شاء الله .
« أما المسألة الثانية : فهي ما تفيده الفقرة الأخيرة من الآية الثانية من كون تخلية سبيل المشركين والكف عن قتالهم بسبب نقضهم منوطين بتوبتهم عن الشرك وإقامتهم الصلاة وإيتائهم الزكاة .
» والذي يتبادر لنا في صدد هذه المسألة أن المشركين بعد أن نقضوا عهدهم وقاتلهم المسلمون فقدوا حق العهد ثانية . وصار من حق المسلمين أن يفرضوا الشرط الذي يضمن لهم الأمن والسلامة ، وهو توبتهم عن الشرك ودخولهم في الإسلام وقيامهم بواجباته التعبدية والمالية . ولا يعد هذا من قبيل الإكراه في الدين ، بقطع النظر عن أن الشرك يمثل مظاهر انحطاط الإنسانية وتسخيرها لقوى وأفكار وعقائد سخيفة مغايرة للعقل والمنطق والحق ، كما يمثل نظاماً جاهلياً فيه التقاليد الجائرة والعادات المنكرة والعصبيات الممقوتة ، وأن الإسلام الذي يشترط عليهم الدخول فيه يضمن لهم الخلاص من ذلك ، والارتفاع بهم إلى مستوى الكمال الإنساني عقلاً وخلقاً وعبادة وعقيدة وعملاً . على أننا لسنا نرى في الآيات مع ذلك ما يمنع المسلمين أن يجددوا العهد مع الناكثين بعد الحرب ثانية إذا كانت مصلحتهم تقتضي ذلك . وقد لا يكونون قادرين على متابعة الحرب ، أو على إخضاعهم بالقوة . والله تعالى أعلم « . . . انتهى .
وواضح من هذه الفقرات التي اقتطفناها ومن أمثالها في تفسير المؤلف كله أنه ابتداء لا يلقي باله إلى حق الإسلام المطلق في أن ينطلق في الأرض لتحرير البشرية من العبودية للعباد ، وردها إلى الله وحده ، حيثما كان ذلك ممكناً له ، بغض النظر عما إذا كان هناك اعتداء على أهله داخل حدودهم الإقليمية أم لم يكن .

. فهو يستبعد هذا المبدأ ابتداء . وهو المبدأ الذي يقوم عليه الجهاد في الإسلام . وبدونه يفقد دين الله حقه في أن يزيل العقبات المادية من طريق الدعوة ، ويفقد كذلك جديته وواقعيته في مواجهة الواقع البشري بوسائل مكافئة له في مراحل متعددة بوسائل متجددة ، ويصبح عليه أن يواجه القوى المادية بالدعوة العقيدية وهو هزال لا يرضاه الله لدينه في هذه الأرض
وواضح كذلك أن المؤلف لا يلقي باله إلى طبيعة المنهج الحركي في الإسلام ، ومواجهته للواقع بوسائل مكافئة . فهو يحيل الأحكام النهائية الأخيرة على النصوص المرحلية قبلها . دون التفات إلى أن النصوص السابقة كانت تواجه حالات واقعة غير الحالة التي جاءت النصوص الأخيرة تواجهها . . وحقيقة إن هذه الأحكام ليست ( منسوخة ) بمعنى أنه لا يجوز الأخذ بها مهما تكن الأحوال - بعد نزول الأحكام الأخيرة - فهي باقية لمواجهة الحالات التي تكون من نوع الحالات التي واجهتها . ولكنها لا تقيد المسلمين إذا واجهتهم حالات كالتي واجهتها النصوص الأخيرة ، وكانوا قادرين على تنفيذها . .
. . إن الأمر في حاجة إلى سعة ومرونة وإدراك لطبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي كما أسلفنا . .
وبعد ، فإننا نعود إلى العبارة التي افتتحنا بها الفقرة السابقة :
« والذي يراجع أحداث السيرة النبوية ووقائعها ، ليرى من خلالها الواقع التاريخي للمنهج الحركي الإسلامي ، ويراجع كذلك طبيعة هذا المنهج في ذاته ومراحله وأهدافه . . يرى بوضوح أن هذه الخطوة الحاسمة في العلاقات بين المعسكر الإسلامي في الجزيرة وسائر معسكرات المشركين - وكذلك بينه وبين معسكرات أهل الكتاب التي تقررت في هذه السورة - كان قد جاء موعدها ، وتمهدت لها الأرض ، وتهيأت لها الأحوال ، وأصبحت هي الخطوة الطبيعية في أوانها المحتوم » .
كانت التجربة تلو التجربة قد كشفت عن القانون الحتمي الذي يحكم العلاقات بين المجتمع المسلم الذي يُفرد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والحاكمية والتشريع؛ والمجتمعات الجاهلية التي تجعل هذا كله لغير الله ، أو تجعل فيه شركاء لله . . هذا القانون الحتمي هو قانون الصراع الذي يعبر عنه قول الله سبحانه { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً } [ الحج : 40 ] والذي يقول عنه سبحانه كذلك : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } [ البقرة : 251 ] .
وقد ظهرت آثار هذا القانون الحتمي في ظاهرتين بارزتين :
إحداهما : انطلاق الإسلام خطوة بعد خطوة ، وغزوة بعد غزوة ، ومرحلة بعد مرحلة؛ لنشر منهج الله في الأرض حوله؛ وإبلاغ كلمة الله إلى أرض بعد أرض وإلى قبيلة بعد قبيلة - في طريقه إلى إبلاغها إلى الناس كافة وإزالة الحواجز المادية التي تحول دون هذا الإعلان العام والبلوغ إلى كل بني الإنسان - حتى فتحت مكة ، وخضدت شوكة قريش العقبة الكبرى في طريق الزحف الإسلامي ، واستسلمت هوازن وثقيف في الطائف أقوى القبائل بعد قريش في طريق هذا الزحف .

وأصبحت للإسلام قوته التي ترهب عدوه؛ وتسمح بالقيام بالخطوة النهائية الحاسمة في الجزيرة - تمهيداً لما وراءها من أرض الله حسبما تتهيأ الظروف الملائمة لكل خطوة تالية ، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله .
وثانيتهما : نقض العهود التي كانت المعسكرات الجاهلية تعقدها مع المسلمين - في ظروف مختلفة - عهداً بعد عهد؛ بمجرد أن تتاح لها فرصة نقضها ، وعند أول بادرة تشير إلى أن المعسكر الإسلامي في ضائقة تهدد وجوده؛ أو على الأقل تجعل هذا النقض مأمون العاقبة على ناقضيه من المشركين - ومن أهل الكتاب من قبلهم - فما كانت هذه العهود - إلا نادراً - عن رغبة حقيقية في مسالمة الإسلام ومهادنة المسلمين؛ إنما كانت عن اضطرار واقعي إلى حين فما تطيق المعسكرات الجاهلية طويلاً أن ترى الإسلام ما يزال قائماً حيالها؛ مناقضاً في أصل وجوده لأصل وجودها؛ مخالفاً لها مخالفة جذرية أصيلة في الصغيرة والكبيرة من مناهجها ، يهدد بقاءها بما في طبيعته من الحق والحيوية والحركة والانطلاق لتحطيم الطاغوت كله ، ورد الناس جميعاً إلى عبادة الله وحده .
وهذه الظاهرة الأخيرة والقاعدة الأصيلة التي تقوم عليها هي التي يقررها الله سبحانه في قوله عن المشركين :
{ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } [ البقرة : 217 ] والتي يقول فيها عن أهل الكتاب : { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } [ البقرة : 109 ] ويقول فيها كذلك : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } [ البقرة : 120 ] فيعلن - سبحانه - بهذه النصوص القطعية عن وحدة الهدف بين جميع معسكرات الجاهلية تجاه الإسلام والمسلمين؛ وعن قوة الإصرار على هذا الهدف وامتدادها عبر الزمان ، وعدم توقيتها بظرف أو زمان
وبدون إدراك ذلك القانون الحتمي في طبيعة العلاقات بين التجمع الإسلامي والتجمعات الجاهلية ، وتفسير الظواهر التي تنشأ عنه - على مدار التاريخ - بالرجوع إليه ، لا يمكن فهم طبيعة الجهاد في الإسلام؛ ولا طبيعة تلك الصراعات الطويلة بين المعسكرات الجاهلية والمعسكر الإسلامي . ولا يمكن فهم بواعث المجاهدين الأوائل ، ولا أسرار الفتوحات الإسلامية؛ ولا أسرار الحروب الوثنية والصليبية التي لم تفتر قط طوال أربعة عشر قرناً؛ والتي ما تزال مشبوبة على ذراري المسلمين - وإن كانوا لسوء حظهم تخلوا عن حقيقة الإسلام ولم يبق لهم منه إلا العنوان - في المعسكرات الشيوعية والوثنية والصليبية كلها : في روسيا والصين ويوغسلافيا وألبانيا .

وفي الهند وكشمير . وفي الحبشة وزنجبار وقبرص وكينيا وجنوب افريقية والولايات المتحدة . . وذلك فوق عمليات السحق الوحشية البشعة لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان في العالم الإسلامي - أو الذي كان إسلامياً بتعبير أدق - وتعاون الشيوعية والوثنية والصليبية مع الأوضاع التي تتولى سحق هذه الطلائع ، ومد يد الصداقة إليها ، وإمدادها بالمعونات التي تبلغ حد الكفالة ، وإقامة ستار من الصمت حولها وهي تسحق هذه الطلائع الكريمة
إن شيئاً من هذا كله لا يصبح مفهوماً بدون إدراك ذلك القانون الحتمي والظواهر التي يتجلى فيها . .
وقد تجلى ذلك القانون - كما أسلفنا - قبيل نزول سورة التوبة بعد فتح مكة في هاتين الظاهرتين اللتين أسلفنا الحديث عنهما . وظهر بوضوح أنه لا بد من اتخاذ تلك الخطوة الحاسمة في الجزيرة سواء تجاه المشركين - وهو ما نواجهه في هذا المقطع من السورة - أو تجاه أهل الكتاب ، وهو ما سنواجهه في المقطع التالي مباشرة والذي بعده . .
ولكن وضوح ذلك كله للقيادة المسلمة - حينذاك - لم يكن معناه وضوحه - بنفس الدرجة - لكل الجماعات والطوائف في المجتمع المسلم . وبخاصة لحديثي العهد بالإيمان والمؤلفة قلوبهم ، فضلاً على ضعاف القلوب والمنافقين
كان في المجتمع المسلم - ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين وخيارهم - من يتحرج من إنهاء العهود مع المشركين جميعاً - بعد أربعة أشهر للناكثين ومن لهم عهود غير موقتة ومن لم يحاربوا المسلمين ولو من غير عهد ومن لهم عهود أقل من أربعة؛ وبعد انقضاء الأجل لمن لهم عهود موقوتة ولم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً - ولئن كانوا يستسيغون نبذ عهود الناكثين والذين تخاف منهم الخيانة ، كما سبق في الحكم المرحلي الذي تضمنته سورة الأنفال : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين } [ الأنفال : 58 ] فإن إنهاء عهود غيرهم بعد أربعة أشهر أو بعد الأجل المقدر ، ربما بدا لهم مخالفاً لما عهدوه وألفوه من معاهدة المعاهدين وموادعة الموادعين وترك المهادنين . . ولكن الله - سبحانه - كان يريد أمراً أكبر من المألوف؛ وخطوة وراء ما انتهت إليه الأمور
وكان في المجتمع المسلم كذلك - ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين وخيارهم كذلك - من يرى أنه لم تعد هناك ضرورة لقتال المشركين عامة ، ومتابعتهم حتى يفيئوا إلى الإسلام؛ بعدما ظهر الإسلام في الجزيرة وغلب؛ ولم تبق إلا جيوب متناثرة هنا وهناك لا خوف منها على الإسلام اليوم . ومن المتوقع أن تفيء رويداً رويداً - في ظل السلم - إلى الإسلام . . ولا يخلو هذا الفريق من التحرج من قتال الأقرباء والأصدقاء ومن تربطهم بهم علاقات اجتماعية واقتصادية متنوعة ، متى كان هناك أمل في دخولهم في الإسلام بغير هذا الإجراء العنيف .

. ولكن الله سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها ، وأن تخلص الجزيرة للإسلام ، وأن تصبح كلها قاعدة أمينة له؛ وهو يعلم أن الروم يبيتون للإسلام على مشارف الشام كما سيجيء
وكان في المجتمع المسلم - ولعل بعض هؤلاء كان من كرام المسلمين وخيارهم أيضاً - من يخشى الكساد الذي يتوقعه من تعطل الصلات التجارية والاقتصادية في أنحاء الجزيرة بسبب إعلان القتال العام على المشركين كافة فيها؛ وتأثير ذلك في موسم الحج ، وبخاصة بعد إعلان ألا يحج بعد العام مشرك ، وألا يعمر المشركون مساجد الله . وبخاصة حين يضيف إلى هذا الاعتبار عدم ضرورة هذه الخطوة؛ وإمكان الوصول إليها بالطرق السلمية البطيئة . . ولكن الله سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها - كما تقدم - وأن تكون العقيدة أرجح في ميزان القلوب المؤمنة من كل ما عداها . سواء من القرابات والصداقات؛ أم من المنافع والمصالح . كما أنه - سبحانه - كان يريد أن يعلمهم أنه هو الرزاق وحده ، وأن هذه الأسباب الظاهرة للرزق ليست هي الأسباب الوحيدة التي يملك أن يسخرها لهم بقدرته .
وكان في المجتمع المسلم من ضعاف القلوب والمترددين والمؤلفة قلوبهم والمنافقين ، وغيرهم كذلك ممن دخلوا في دين الله أفواجاً ولم ينطبعوا بعد بالطابع الإسلامي من يفرق من قتال المشركين كافة؛ ومن الكساد الذي ينشأ من تعطيل المواسم ، وقلة الأمن في التجارة والتنقل وانقطاع الأواصر والصلات؛ وتكاليف الجهاد العام في النفوس والأموال . ولا يجد في نفسه دافعاً لاحتمال هذا كله ، وهو إنما دخل في الإسلام الغالب الظاهر المستقر؛ فهي صفقة بلا عناء كبير . . أما هذا الذي يرادون عليه فما لهم وما له وهم حديثوا عهد بالإسلام وتكاليفه؟ . . وكان الله - سبحانه - يريد أن يمحص الصفوف والقلوب ، وهو يقول للمسلمين { أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون } .
هذه الأعراض المتشابكة في المجتمع المسلم المختلط - بعد الفتح - اقتضت ذلك البيان الطويل المفصل المتعدد الأساليب والإيحاءات في هذا المقطع ، لمعالجة هذه الرواسب في النفوس ، وهذه الخلخلة في الصفوف ، وتلك الشبهات حتى في قلوب بعض المسلمين المخلصين . .
اقتضت أن تفتتح السورة بهذا الإعلان العام ببراءة الله ورسوله من المشركين ، وأن يتكرر إعلان البراءة من الله ورسوله بعد آية واحدة بنفس القوة ونفس النغمة العالية؛ حتى لا يبقى لقلب مؤمن أن يبقى على صلة مع قوم يبرأ الله منهم ويبرأ رسوله :
{ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } .

. [ 1 ]
{ وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله } . . [ 3 ]
واقتضت تطمين المؤمنين وتخويف المشركين بأن الله مخزي الكافرين ، وأن الذين يتولون لا يعجزون الله ولا يفلتون من عذابه :
{ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين } . . [ 2 ]
{ فإن تبتم فهو خير لكم ، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } . . [ 3 ]
واقتضت استنكار أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله - إلا الذين عاهدوا ثم استقاموا فيستقام لهم مدة عهدهم ما استقاموا عليه - مع تذكير المؤمنين بأن المشركين لا يرقبون فيهم عهداً ولا يتذممون من فعلة لو أنهم قدروا عليهم ، وتصوير كفرهم ، وكذبهم فيما يظهرونه لهم أحياناً من مودة بسبب قوتهم :
{ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله - إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، إن الله يحب المتقين - كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إِلاَّ ولا ذمة ، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون ، اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله ، إنهم ساء ما كانوا يعملون . لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة وأولئك هم المعتدون } . . . [ 7 - 10 ]
واقتضت استثارة الذكريات المريرة في نفوس المسلمين؛ واستجاشة مشاعر الغيظ والانتقام وشفاء الصدور من أعدائهم وأعداء الله ودين الله :
{ ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة؟ أتخشونهم؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين . قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ، ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ، ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم } . . [ 13 - 15 ] .
واقتضت الأمر بالمفاصلة الكاملة على أساس العقيدة؛ ومقاومة مشاعر القرابة والمصلحة معاً؛ والتخيير بينها ويبن الله ورسوله والجهاد في سبيله ، ووقف المسلمين على مفرق الطريق :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون . قل : إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم ، وأموال اقترفتموها ، وتجارة تخشون كسادها ، ومساكن ترضونها ، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله ، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ، والله لا يهدي القوم الفاسقين } . . [ 23 - 24 ] .
واقتضت تذكيرهم بنصر الله لهم في مواطن كثيرة ، وأقربها يوم حنين الذي هزموا فيه فلم ينصرهم إلا الله بجنده وبتثبيته لرسوله :
{ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ، ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ، ثم وليتم مدبرين؛ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وأنزل جنوداً لم تروها ، وعذب الذين كفروا ، وذلك جزاء الكافرين } . . [ 25 - 26 ] .

واقتضت أخيراً تطمينهم من ناحية الرزق الذي يخشون عليه من كساد الموسم وتعطل التجارة؛ وتذكيرهم أن الرزق منوط بمشيئة الله لا بهذه الأسباب الظاهرة التي يظنونها :
{ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا . وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ، إن الله عليم حكيم } . . [ 28 ]
وهذه التوكيدات والتقريرات ، وهذه الإيحاءات والاستثارات ، وهذه الحملة الطويلة المنوعة الأساليب . . تشي - كما أسلفنا - بحالة المجتمع المسلم بعد الفتح ، ودخول العناصر الجديدة الكثيرة فيه؛ وبعد التوسع الأفقي السريع الذي جاء إلى المجتمع المسلم بهذه الأفواج التي لم تنطبع بعد بطابع الإسلام . . ولولا أن مجتمع المدينة كان قد وصل مع الزمن الطويل ، والتربية الطويلة إلى درجة من الاستقرار والصلابة والخلوص والاستنارة ، لكانت هذه الظواهر مثار خطر كبير على وجود الإسلام ذاته كما ذكرنا ذلك مراراً من قبل .
والآن نكتفي بهذا القدر من الحديث العام عن ذلك المقطع الأول من السورة وما يشي به من حالة المجتمع في حينه؛ لنواجه نصوصه بالتفصيل :
{ براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين . فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين . وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر : أن الله بريء من المشركين ورسوله ، فإن تبتم فهو خير لكم ، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله ، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم . إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً - فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ، إن الله يحب المتقين . فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد . فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ، إن الله غفور رحيم ، وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ، ثم أبلغه مأمنه ، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } . .
هذه الآيات - وما بعدها إلى الآية الثامنة والعشرين - نزلت تحدد العلاقات النهائية بين المجتمع الإسلامي الذي استقر وجوده في المدينة وفي الجزيرة العربية - بصفة عامة - وبين بقية المشركين في الجزيرة الذين لم يدخلوا في هذا الدين . . سواء منهم من كان له عهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما لاح له أن مواجهة المسلمين للروم - حين توجهوا لمقابلتهم في تبوك - ستكون فيها القاضية على الإسلام وأهله ، أو على الأقل ستضعف من شوكة المسلمين وتهد من قوتهم . . ومن لم يكن له عهد ولكنه لم يتعرض للمسلمين من قبل بسوء . . ومن كان له عهد - موقوت أو غير موقوت - فحافظ على عهده ولم ينقص المسلمين شيئاً ولم يظاهر عليهم أحداً . . فهؤلاء جميعاً نزلت هذه الآيات وما بعدها لتحدد العلاقات النهائية بينهم وبين المجتمع المسلم؛ في ظل الاعتبارات التي أسلفنا الحديث عنها بشيء من التوسع سواء في تقديم السورة ، أو في تقديم هذا الدرس خاصة .

وأسلوب هذه الآيات وإيقاع التعبير فيها ، يأخذ شكل الإعلان العام ، ورنينه العالي فيتناسق أسلوب التعبير وإيقاعه مع موضوعه والجو الذي يحيط بهذا الموضوع؛ على طريقة القرآن في التعبير .
وقد وردت روايات متعددة في ظروف هذا الإعلان ، وطريقة التبليغ به ، ومن قام بالتبليغ . أصحها وأقربها إلى طبائع الأشياء وأكثرها تناسقاً مع واقع الجماعة المسلمة يومذاك ما قرره ابن جرير وهو يستعرض هذه الروايات . ونقتطف من تعليقاته ما يمثل رؤيتنا لحقيقة الواقعة مغفلين ما لا نوافقه عليه من كلامه وما تناقض فيه بعض قوله مع بعض . إذ كنا لا نناقش الروايات المتعددة ولا نناقش تعليقات الطبري؛ ولكن نثبت ما نرجح أنه حقيقة ما حدث من مراجعة ما ورد وتحقيقه :
قال في رواية له عن مجاهد : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } . . قال : أهل العهد : مدلج والعرب الذين عاهدهم ، ومن كان له عهد . قال : أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك حين فرغ منها - وأراد الحج ، ثم قال : « إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة ، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك » فأرسل أبا بكر وعلياً رحمة الله عليهما . فطافا بالناس ، بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها ، وبالموسم كله؛ وآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر . . فهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات : عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر . ثم لا عهد لهم . وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا . فآمن الناس أجمعون حينئذ . ولم يسح أحد « .
وقال - بعد استعراض جملة الروايات في حقيقة الأجل ومبدئه ونهايته والمقصودين به :
» وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين ، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته . فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه ، فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله : { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ، إن الله يحب المتقين } . . [ سورة التوبة : 4 ] .
« فإن ظن ظان أن قول الله تعالى ذكره : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ سورة التوبة : 5 ] يدل على خلاف ما قلنا في ذلك ، إذ كان ذلك ينبئ على أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم قتل كل مشرك ، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن ، وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تبين عن صحة ما قلنا ، وفساد ما ظنه من ظن أن انسلاخ الأشهر الحرم كان يبيح قتل كل مشرك كان له عهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لم يكن كان له منه عهد .

وذلك قوله : { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله - إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، إن الله يحب المتقين } [ التوبة : 7 ] فهؤلاء مشركون؛ وقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم ، وترك مظاهرة عدوهم عليهم .
« وبعد ، ففي الأخبار المتظاهرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنه حين بعث علياً رحمة الله عليه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم ، أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم : » ومن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فعهده إلى مدته « ، أوضح الدليل على صحة ما قلنا . وذلك أن الله لم يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه ، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض قبل التأجيل ، أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود . فأما من كان أجله محدوداً ، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلاً ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بإتمام عهده إلى غايته مأموراً . وبذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب » .
وقال في تعقيب آخر على الروايات المتعددة في شأن العهود :
« فقد أنبأت هذه الأخبار ونظائرها عن صحة ما قلنا ، وأن أجل الأشهر الأربعة إنما كان لمن وصفنا . فأما من كان عهده إلى مدة معلومة فلم يجعل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين لنقضه ومظاهرة أعدائهم سبيلاً ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وفى له بعهده إلى مدته ، عن أمر الله إياه بذلك . وعلى ذلك ظاهر التنزيل ، وتظاهرت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » .
وإذا نحن تركنا الروايات التي بها ضعف ، وما يمكن أن يكون قد تركه الخلاف السياسي - فيما بعد- بين شيعة علي - رضي الله عنه - وأنصار الأمويين ، أو أهل السنة ، من الأثر في بعض الروايات؛ فإننا نستيطع أن نقول : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بأبي بكر - رضي الله عنه - أميراً للحج في هذا العام لما كرهه من الحج والمشركون يطوفون بالبيت عراة .

ثم نزلت أوائل سورة التوبة هذه؛ فبعث بها علياً - رضي الله عنه - في أثر أبي بكر . فأذن بها في الناس - بكل ما تضمنته من أحكام نهائية ومنها ألا يطوف بعد العام بالبيت مشرك .
وقد روى الترمذي في كتاب التفسير - بإسناده - عن علي قال : « بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت » براءة « بأربع . أن لا يطف بالبيت عريان ، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا ، ومن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فهو إلى مدته ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة » . . وهذا الخبر هو أصح ما ورد في هذا الباب . فنكتفي به .
{ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } . .
هذا الإعلان العام ، بهذا الإيقاع العالي؛ يتضمن المبدأ العام للعلاقة بين المسلمين والمشركين في ذلك الحين في جزيرة العرب قاطبة . إذ كانت العهود المشار إليها هي التي كانت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمشركين في الجزيرة . والإعلان ببراءة الله وبراءة رسوله من المشركين ، يحدد موقف كل مسلم؛ ويوقع إيقاعاً عميقاً عنيفاً على قلب كل مسلم ، بحيث لا يبقى بعد ذلك مراجعة ولا تردد
ثم تأتي بعد الإعلان العام البيانات والمخصصات والشروح لهذا الإعلان :
{ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، واعلموا أنكم غير معجزي الله ، وأن الله مخزي الكافرين } . .
فهذا بيان للمهلة التي أجل الله المشركين إليها : أربعة أشهر يسيرون فيها ويتنقلون ويتاجرون ويصفون حساباتهم ، ويعدّلون أوضاعهم . . آمنين . . لا يؤخذون على غرة وهم آمنون إلى عهودهم . حتى أولئك الذين نقضوا عهودهم عند أول بادرة لاحت لهم ، وعند أول توقع بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين لن ينقلبوا إلى أهليهم من تبوك؛ وأن الروم سيأخذونهم أسرى كما توقع المرجفون في المدينة والمنافقون ومتى كان ذلك؟ كان بعد فترة طويلة من العهود التي ما تكاد تبرم حتى تنقض؛ وبعد سلسلة طويلة من التجارب التي تقطع بأن المشركين لن يزالوا يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا . . وفي أي عصر تاريخي؟ في العصر الذي لم تكن البشرية كلها تعرف لها قانوناً إلا قانون الغابة؛ ولم يكن بين المجتمعات المختلفة إلا القدرة على الغزو أو العجز عنه بلا إنذار ولا إخطار ولا رعاية لعهد متى سنحت الفرصة . ولكن الإسلام هو الإسلام منذ ذلك الزمان . . ذلك أنه منهج الله الذي لا علاقة له بالزمان في أصوله ومبادئه . فليس الزمان هو الذي يرقيه ويطوره؛ ولكنه هو الذي يرقي البشرية ويطورها حول محوره وداخل إطاره؛ بينما هو يواجه واقعها المتطور المتغير - بتأثيره - بوسائل متجددة ومكافئة لما يطرأ عليها في أثناء تحركه بها قدماً من تطور وتغير .

ومع المهلة التي يعطيها للمشركين يزلزل قلوبهم بالحقيقة الواقعة؛ ويوقظهم إلى هذه الحقيقة ليفتحوا عيونهم عليها . إنهم بسياحتهم في الأرض لن يعجزوا الله في الطلب ولن يفلتوا منه بالهرب ولن يفلتوا من مصير محتوم قدره وقرره : أن يخزيهم ويفضحهم ويذلهم :
{ واعلموا أنكم غير معجزي الله ، وأن الله مخزي الكافرين } . .
وإلى أين يفلتون ويهربون فيعجزون الله عن طلبهم والإتيان بهم؛ وهم في قبضته - سبحانه - والأرض كلها في قبضته كذلك؟ وقد قدر وقرر أن يذلهم فيخزيهم ولا راد لقضائه؟
بعد ذلك يبين الموعد الذي تعلن فيه هذه البراءة وتبلغ إلى المشركين لينذروا بها وبالموعد المضروب فيها :
{ وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر : أن الله بريء من المشركين ورسوله . فإن تبتم فهو خير لكم ، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله ، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } . .
ويوم الحج الأكبر اختلفت الروايات في تحديده : أهو يوم عرفة أم يوم النحر . والأصح أنه يوم النحر : والأذان البلاغ؛ وقد وقع للناس في الموسم؛ وأعلنت براءة الله ورسوله من المشركين كافة - من ناحية المبدأ - وجاء الاستثناء في الإبقاء على العهد إلى مدته في الآية التالية . . والحكمة واضحة في تقرير المبدأ العام ابتداء في صورة الشمول؛ لأنه هو الذي يمثل طبيعة العلاقات النهائية . أما الاستثناء فهو خاص بحالات تنتهي بانتهاء الأجل المضروب . وهذا الفهم هو الذي توحي به النظرة الواسعة لطبيعة العلاقات الحتمية بين المعسكر الذي يجعل الناس عبيداً لله وحده ، والمعسكرات التي تجعل الناس عبيداً للشركاء ، كما أسلفنا في التقديم للسورة والتقديم لهذا المقطع منها كذلك .
ومع إعلان البراءة المطلقة يجيء الترغيب في الهداية والترهيب من الضلالة :
{ فإن تبتم فهو خير لكم ، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله ، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } . .
وهذا الترهيب وذلك الترغيب في آية البراءة؛ يشيران إلى طبيعة المنهج الإسلامي . إنه منهج هداية قبل كل شيء . فهو يتيح للمشركين هذه المهلة لا لمجرد أنه لا يحب أن يباغتهم ويفتك بهم متى قدر - كما كان الشأن في العلاقات الدولية ولا يزال - ولكنه كذلك يمهلهم هذه المهلة للتروي والتدبر ، واختيار الطريق الأقوم؛ ويرغبهم في التوبة عن الشرك والرجوع إلى الله ، ويرهبهم من التولي ، وييئسهم من جدواه ، وينذرهم بالعذاب الأليم في الآخرة فوق الخزي في الدنيا . ويوقع في قلوبهم الزلزلة التي ترجها رجاً لعل الركام الذي ران على الفطرة أن ينفض عنها ، فتسمع وتستجيب
ثم . . هو طمأنة للصف المسلم ، ولكل ما في قلوب بعضه من مخاوف ومن تردد وتهيب؛ ومن تحرج وتوقع .

فالأمر قد صار فيه من الله قضاء . والمصير قد تقرر من قبل الابتداء
وبعد تقرير المبدأ العام في العلاقات بالبراءة المطلقة من المشركين ومن عهودهم يجيء الاستثناء المخصص للحالات المؤقتة ، التي يصار بعدها إلى ذلك المبدأ العام :
{ إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ، ولم يظاهروا عليكم أحداً ، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ، إن الله يحب المتقين } . .
وأصح ما قيل عن هؤلاء الذين ورد فيهم هذا الاستثناء أنهم جماعة من بني بكر - هم بنو خزيمة بن عامر من بني بكر بن كنانة - لم ينقضوا عهدهم الذي كان في الحديبية مع قريش وحلفائهم ، ولم يشتركوا مع بني بكر في العدوان على خزاعة ، ذلك العدوان الذي أعانتهم عليه قريش ، فانتقض بذلك عهد الحديبية ، وكان فتح مكة بعد سنتين اثنتين من الحديبية ، وكان العهد لمدة عشر سنوات من الحديبية . وكانت هذه الجماعة من بني بكر بقيت على عهدها وبقيت على شركها . فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هنا أن يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم . والذي يؤيد ما ذهبنا إليه - وهو رواية محمد بن عباد بن جعفر - أن السدي يقول : « هؤلاء بنو ضمرة وبنو مدلج حيان من بني كنانة . وأن مجاهد يقول : » كان لبني مدلج وخزاعة عهد فهو الذي قال الله { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } . . غير أنه يلاحظ أن خزاعة كانت قد دخلت في الإسلام بعد الفتح . وهذا خاص بالمشركين الذين بقوا على شركهم . . كما يؤيده ما سيجيء في الآية السابعة من قوله تعالى : { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } . . فهذان الحيان من كنانة ممن عاهدوا عند المسجد الحرام في الحديبية ، ثم لم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً . فهم المعنيون في الاستثناء أولاً وأخيراً كما ذهب إلى ذلك المفسرون الأوائل ، وقد أخذ بهذا القول الأستاذ الشيخ رشيد رضا . وذهب الأستاذ محمد عزة دروزة إلى أن المعنيين بالمعاهدين عند المسجد الحرام هم طائفة أخرى غير المذكورة في الاستثناء الأول . ذلك أنه كان يحب أن يذهب إلى جواز قيام معاهدات دائمة بين المسلمين والمشركين ، فارتكن إلى قوله تعالى : { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } ليستدل منه على جواز تأبيد المعاهدات وهو قول بعيد كل البعد عن طبيعة الموقف ، وعن طبيعة المنهج ، وعن طبيعة هذا الدين أيضاً كما بينا ذلك مراراً .
لقد وفى الإسلام لهؤلاء الذين وفوا بعهدهم ، فلم يمهلهم أربعة أشهر - كما أمهل كل من عداهم - ولكنه أمهلهم إلى مدتهم . ذلك أنهم لم ينقصوا المسلمين شيئاً مما عاهدوهم عليه ، ولم يعينوا عليهم عدواً ، فاقتضى هذا الوفاء لهم والإبقاء على عهدهم إلى نهايته .

. ذلك مع حاجة الموقف الحركي للمجتمع المسلم في ذلك الحين إلى تخليص الجزيرة بجملتها من الشرك؛ وتحويلها إلى قاعدة أمينة للإسلام؛ لأن أعداءه على حدود الجزيرة قد تنبهوا لخطره ، وأخذوا يجمعون له كما سيجيء في الحديث عن غزوة تبوك - ومن قبل كانت وقعة مؤتة إنذاراً بهذا التحفز الذي أخذ فيه الروم . فضلاً على تحالفهم مع الفرس في الجنوب في اليمن ، للتألب على الدين الجديد .
ولقد حدث ما ذكره ابن القيم من أن هؤلاء الذين استثناهم الله وأمر بالوفاء لهم بعهودهم قد دخلوا في الإسلام قبل أن تنقضي مدتهم . بل حدث أن الآخرين الذين كانوا ينقضون عهودهم وغيرهم ممن أمهلوا أربعة أشهر يسيحون فيها في الأرض ، لم يسيحوا في الأرض وإنما اختاروا الإسلام أيضاً
لقد علم الله - سبحانه - وهو ينقل بيده خطى هذه الدعوة ، أنه كان الأوان قد آن لهذه الضربة الأخيرة؛ وأن الظروف كانت قد تهيأت والأرض كانت قد مهدت؛ وأنها تجيء في أوانها المناسب؛ وفق واقع الأمر الظاهر ، وفق قدر الله المضمر المغيب . فكان هذا الذي كان .
ونقف أمام التعقيب الإلهي على الأمر بالوفاء بالعهد للموفين بعهدهم :
{ فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين } . .
إنه يعلق الوفاء بالعهد بتقوى الله وحبه - سبحانه - للمتقين . فيجعل هذا الوفاء عبادة له؛ وتقوى يحبها من أهلها . . وهذه هي قاعدة الأخلاق في الإسلام . . إنها ليست قاعدة المنفعة والمصلحة؛ وليست قاعدة الاصطلاح والعرف المتغيرين أبداً . . إنها قاعدة العبادة لله وتقواه . فالمسلم يتخلق بما يحبه الله منه ويرضاه له؛ وهو يخشى الله في هذا ويتطلب رضاه . ومن هنا سلطان الأخلاق في الإسلام؛ كما أنه من هنا مبعثها الوجداني الأصيل . . ثم هي في الطريق تحقق منافع العباد ، وتؤمن مصالحهم ، وتنشئ مجتمعاً تقل فيه الاحتكاكات والتناقضات إلى أقصى حد ممكن ، وترتفع بالنفس البشرية صُعداً في الطريق الصاعد إلى الله . .
وبعد تقرير الحكم ببراءة الله ورسوله من المشركين . . المعاهدين وغير المعاهدين منهم سواء . . مع استثناء الذين لم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً بالوفاء لهم بعهدهم إلى مدتهم . . يجيء ذكر الإجراء الذي يتخذه المسلمون بعد انقضاء الأجل المضروب :
{ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وخذوهم ، واحصروهم ، واقعدوا لهم كل مرصد . فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم } . .
وقد اختلفت الأقوال عن المقصود هنا بقوله تعالى : { الأشهر الحرم } . . هل هي الأشهر الحرم المصطلح عليها وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثم رجب : وعلى ذلك يكون الوقت الباقي بعد الأذان في يوم الحج الأكبر بهذه البراءة هو بقية الحجة ثم المحرم . . خمسين يوماً .

. أم إنها أربعة أشهر يحرم فيها القتال ابتداء من يوم النحر فتكون نهايتها في العشرين من ربيع الأخر؟ . . أم إن الأجل الأول للناقضين عهودهم . وهذا الأجل الثاني لمن ليس لهم عهد أصلاً أو لمن كان له عهد غير مؤقت؟
والذي يصح عندنا أن الأربعة الأشهر المذكورة هنا غير الأشهر الحرم المصطلح عليها . وأنه أطلق عليها وصف الأشهر الحرم لتحريم القتال فيها؛ بإمهال المشركين طوالها ليسيحوا في الأرض أربعة أشهر . وأنها عامة - إلا فيمن لهم عهد مؤقت ممن أمهلوا إلى مدتهم - فإنه ما دام أن الله قد قال لهم : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } فلا بد أن تكون هذه الأشهر الأربعة ابتداء من يوم إعلانهم بها . . وهذا هو الذي يتفق مع طبيعة الإعلان .
وقد أمر الله المسلمين - إذا انقضت الأشهر الأربعة - أن يقتلوا كل مشرك أنى وجدوه أو يأسروه أو يحصروه إذا تحصن منهم أو يقعدوا له مترصدين لا يدعونه يفلت أو يذهب - باستثناء من أمروا بالوفاء لهم إلى مدتهم - بدون أي إجراء آخر معه . ذلك أن المشركين أنذروا وأمهلوا وقتاً كافياً؛ فهم إذن لا يقتلون غدراً ، ولا يؤخذون بغتة ، وقد نبذت لهم عهودهم ، وعلموا سلفاً ما ينتظرهم .
غير أنها لم تكن حملة إبادة ولا انتقام . . إنما كانت حملة إنذار ودفع إلى الإسلام :
{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ، إن الله غفور رحيم } . .
لقد كانت هنالك وراءهم اثنتان وعشرون سنة من الدعوة والبيان؛ ومن إيذائهم للمسلمين وفتنتهم عن دينهم ، ومن حرب للمسلمين وتأليب على دولتهم . ثم من سماحة لهذا الدين . ورسوله وأهله معهم . . وإنه لتاريخ طويل . . ومع هذا كله فلقد كان الإسلام يفتح لهم ذراعيه؛ فيأمر الله نبيه والمسلمين الذين أوذوا وفتنوا وحوربوا وشردوا وقتلوا . . كان يأمرهم أن يكفوا عن المشركين إن هم اختاروا التوبة إلى الله ، والتزموا شعائر الإسلام التي تدل على اعتناقهم هذا الدين واستسلامهم له وقيامهم بفرائضه . وذلك أن الله لا يرد تائباً مهما تكن خطاياه . . { إن الله غفور رحيم } . .
ولا نحب أن ندخل هنا في الجدل الفقهي الطويل الذي تعرضت له كتب التفسير وكتب الفقه حول هذا النص :
{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } . .
وعما إذا كانت هذه شرائط الإسلام التي يكفر تاركها؟ ومتى يكفر؟ وعما إذا كان يكتفى بها من التائب دون بقية أركان الإسلام المعروفة؟ . . الخ
فما نحسب أن هذه الآية بصدد شيء من هذا كله . إنما هو نص كان يواجه واقعاً في مشركي الجزيرة يومذاك . فما كان أحدهم ليعلن توبته ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة إلا وهو يعني الإسلام كله ، ويعني استسلامه له ودخوله فيه . فنصت الآية على التوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، لأنه ما كان ليفعل هذا منهم في ذلك الحين إلا من نوى الإسلام وارتضاه بكامل شروطه وكامل معناه .

وفي أولها الدينونة لله وحده بشهادة أن لا إله إلا الله ، والاعتراف برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - بشهادة أن محمداً رسول الله .
فليست هذه الآية بصدد تقرير حكم فقهي ، إنما هي بصدد إجراء واقعي له ملابساته .
وأخيراً فإنه مع هذه الحرب المعلنة على المشركين كافة بعد انسلاخ الأشهر الأربعة يظل الإسلام على سماحته وجديته وواقعيته كذلك . فهو لا يعلنها حرب إبادة على كل مشرك كما قلنا . إنما يعلنها حملة هداية كلما أمكن ذلك . فالمشركون الأفراد ، الذين لا يجمعهم تجمع جاهلي يتعرض للإسلام ويتصدى؛ يكفل لهم الإسلام - في دار الإسلام - الأمن ، ويأمر الله - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يجيرهم حتى يسمعوا كلام الله ويتم تبليغهم فحوى هذه الدعوة؛ ثم أن يحرسهم حتى يبلغوا مأمنهم . . هذا كله وهم مشركون .
{ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ، ثم أبلغه مأمنه ، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } . .
إن هذا يعني أن الإسلام حريص على كل قلب بشري أن يهتدي وأن يثوب؛ وأن المشركين الذين يطلبون الجوار والأمان في دار الإسلام يجب أن يعطوا الجوار والأمان؛ ذلك أنه في هذه الحالة آمن حربهم وتجمعهم وتألبهم عليه؛ فلا ضير إذن من إعطائهم فرصة سماع القرآن ومعرفة هذا الدين؛ لعل قلوبهم أن تتفتح وتتلقى وتستجيب . . وحتى إذا لم تستجب فقد أوجب الله لهم على أهل دار الإسلام أن يحرسوهم بعد إخراجهم حتى يصلوا إلى بلد يأمنون فيه على أنفسهم
ولقد كانت قمة عالية تلك الإجارة والأمان لهم في دار الإسلام . . ولكن قمم الإسلام الصاعدة ما تزال تتراءى قمة وراء قمة . . وهذه منها . . هذه الحراسة للمشرك ، عدو الإسلام والمسلمين ممن آذى المسلمين وفتنهم وعاداهم هذه السنين . . هذه الحراسة له حتى يبلغ مأمنه خارج حدود دار الإسلام
. . إنه منهج الهداية لا منهج الإبادة ، حتى وهو يتصدى لتأمين قاعدة الإسلام للإسلام . .
والذين يتحدثون عن الجهاد في الإسلام فيصمونه بأنه كان لإكراه الأفراد على الاعتقاد والذين يهولهم هذا الاتهام ممن يقفون بالدين موقف الدفاع؛ فيروحون يدفعون هذه التهمة بأن الإسلام لا يقاتل إلا دفاعاً عن أهله في حدوده الإقليمية هؤلاء وهؤلاء في حاجة إلى أن يتطلعوا إلى تلك القمة العالية التي يمثلها هذا التوجيه الكريم :
{ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ، ثم أبلغه مأمنه ، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } . .
إن هذا الدين إعلام لمن لا يعلمون ، وإجارة لمن يستجيرون ، حتى من أعدائه الذين شهروا عليه السيف وحاربوه وعاندوه . . ولكنه إنما يجاهد بالسيف ليحطم القوى المادية التي تحول بين الأفراد وسماع كلام الله؛ وتحول بينهم وبين العلم بما أنزل الله؛ فتحول بينهم وبين الهدى ، كما تحول بينهم وبين التحرر من عبادة العبيد؛ وتلجئهم إلى عبادة غير الله .

. ومتى حطم هذه القوى ، وأزال هذه العقبات ، فالأفراد - على عقيدتهم - آمنون في كنفه؛ يعلمهم ولا يرهبهم ويجيرهم ولا يقتلهم؛ ثم يحرسهم ويكفلهم حتى يبلغوا مأمنهم . . هذا كله وهم يرفضون منهج الله
وفي الأرض اليوم أنظمة ومناهج وأوضاع من صنع العبيد؛ لا يأمن فيها من يخالفها من البشر على نفسه ولا على ماله ولا على عرضه ولا على حرمة واحدة من حرمات الإنسان ثم يقف ناس يرون هذا في واقع البشر وهم يتمتمون ويجمجمون لدفع الاتهام الكاذب عن منهج الله بتشويه هذا المنهج وإحالته إلى محاولة هازلة قوامها الكلام في وجه السيف والمدفع في هذا الزمان وفي كل زمان
{ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ، إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام؟ فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، إن الله يحب المتقين . كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمة ، يرضونكم فأفواههم وتأبى قلوبهم ، وأكثرهم فاسقون . اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله ، إنهم ساء ما كانوا يعملون . لا يرقبون في مؤمن إِلاَّ ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون . فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ، ونفصل الآيات لقوم يعلمون . وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ، وطعنوا في دينكم ، فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } .
لما انتهى في مجموعة الآيات السابقة إلى تقرير الأحكام النهائية الأخيرة بين المجتمع المسلم والباقين من المشركين في الجزيرة ، وهي تعني إنهاء حالة التعاهد والمهادنة معهم جميعاً . . بعضهم بعد مهلة أربعة أشهر ، وبعضهم بعد انتهاء مدتهم . . حيث يؤول الأمر بعد هذه الأحكام إلى حالتين اثنتين : توبة وإقامة للصلاة وإيتاء للزكاة - أي دخول في الإسلام وأداء لفرائضه - أو قتال وحصار وأسر وإرصاد . .
لما انتهى إلى الأمر بإنهاء حالة التعاقد على ذلك الوجه أخذ في هذه المجموعة الجديدة من الآيات يقرر - عن طريق الاستفهام الاستنكاري - أنه لا ينبغي ولا يجوز وليس من المستساغ أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله . وهو استنكار للمبدأ في ذاته؛ واستبعاد له من أساسه بقوله تعالى : { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله } .
ولما كان هذا الاستنكار في هذه المجموعة التالية في السياق للمجموعة الأولى ، قد يفهم منه نسخ ما كان قد تقرر في المجموعة الأولى من إمهال ذوي العهود الموفين بعهودهم الذين لم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً إلى مدتهم . . فقد عاد يقرر هذا الحكم مرة أخرى بقوله : { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، إن الله يحب المتقين } .

. وجاءت في هذا التوكيد الجديد زيادة بيان . . إذ كان الأمر الأول مطلقاً بالوفاء بعهود من استقاموا على عهودهم إلى مدتهم . . فجاء هذا التوكيد يقيد هذا الإطلاق بأن هذا الوفاء مرهون باستقامتهم في المستقبل إلى نهاية المدة كذلك كما استقاموا في الماضي . وهي دقة بالغة في صياغة النصوص في هذه العلاقات والمعاملات ، وعدم الاكتفاء بالمفهومات الضمنية ، وإتباعها بالمنطوقات القطعية .
ونظراً لما أسلفنا بيانه في مقدمات السورة ومقدمات هذا المقطع منها ، من الظواهر والأعراض والاعتبارات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومئذ تجاه هذه الخطوة الحاسمة الخطيرة ، فقد أخذ السياق يثير في نفوس المسلمين ما يدفع عنهم التردد والتحرج والتهيب ، بإطلاعهم على حقيقة حال المشركين ومشاعرهم ونواياهم تجاه المسلمين ، وأنهم لا يرعون فيهم عهداً ، ولا يتحرجون فيهم من شيء ولا يتذممون ، وأنهم لا يفون بعهد ، ولا يرتبطون بوعد؛ وأنهم لا يكفون عن الاعتداء متى قدروا عليه . وأن لا سبيل لمهادنتهم أو ائتمانهم ما لم يدخلوا فيما دخل فيه المسلمون .
{ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله؟ } . .
إن المشركين لا يدينون لله بالعبودية خالصة ، وهم كذلك لا يعترفون برسالة رسوله . فكيف يجوز أن يكون لهؤلاء عهد عند الله وعند رسوله؟ إنهم لا يواجهون بالإنكار والجحود عبداً مثلهم ، ولا منهجاً من مناهج العبيد من أمثالهم . إنما هم يواجهون بالجحود خالقهم ورازقهم؛ وهم يحادون الله ورسوله بهذا الجحود ابتداء . . فكيف يجوز أن يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله؟
هذه هي القضية التي يثيرها هذا السؤال الاستنكاري . . وهي قضية تنصب على مبدأ التعاهد ذاته؛ لا على حالة معينة من حالاته . .
وقد يستشكل على هذا بأنه كانت للمشركين عهود فعلاً؛ وبعض هذه العهود أمر الله بالوفاء بها . وأنه قد وقعت عهود سابقة منذ قيام الدولة المسلمة في المدينة . عهود مع اليهود وعهود مع المشركين . وأنه وقع عهد الحديبية في السنة السادسة للهجرة . وأن النصوص القرآنية في سور سابقة كانت تجيز هذه العهود ، وإن كانت تجيز نبذها عند خوف الخيانة . . فإذا كان مبدأ التعاهد مع المشركين هو الذي يرد عليه الإنكار هنا ، فكيف إذن أبيحت تلك العهود وقامت حتى نزل هذا الاستنكار الأخير لمبدأ التعاهد؟
وهذا الاستشكال لا معنى له في ظل الفهم الصحيح لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي الذي أسلفنا الحديث عنه في مطالع هذه السورة وفي مطالع سورة الأنفال قبلها . . لقد كانت تلك المعاهدات مواجهة للواقع في حينه بوسائل مكافئة له؛ أما الحكم النهائي فهو أنه لا ينبغي أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله . . كانت أحكاماً مرحلية في طريق الحركة الإسلامية التي تستهدف ابتداء ألا يكون في الأرض شرك بالله؛ وأن تكون الدينونة لله وحده .

. ولقد أعلن الإسلام هدفه هذا منذ أول يوم ولم يخدع عنه أحداً . فإذا كانت الظروف الواقعية تقضي بأن يدع من يسالمونه ابتداء من المشركين ليتفرغ لمن يهاجمونه؛ وأن يوادع من يريدون موادعته في فترة من الفترات . وأن يعاهد من يريدون معاهدته في مرحلة من المراحل ، فإنه لا يغفل لحظة عن هدفه النهائي الأخير؛ كما أنه لا يغفل عن أن هذه الموادعات والمعاهدات من جانب بعض المشركين موقوته من جانبهم هم أنفسهم . وأنهم لا بد مهاجموه ومحاربوه ذات يوم؛ وأنهم لن يتركوه وهم يستيقنون من هدفه؛ ولن يأمنوه على أنفسهم إلا ريثما يستعدون له ويستديرون لمواجهته . . ولقد قال الله للمسلمين منذ أول الأمر : { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } وهي قولة الأبد التي لا تتخصص بزمن ولا بيئة وقوله الحق التي لا تتعلق بظرف ولا حالة
ومع استنكار الأصل ، فقد أذن الله - سبحانه - بإتمام عهود ذوي العهود الذين لم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً إلى مدتها ، مع اشتراط أن تكون الاستقامة على العهد - في هذه المدة - من المسلمين مقيدة باستقامة ذوي العهود عليها :
{ إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، إن الله يحب المتقين } . .
وهؤلاء الذين تشير الآية إلى معاهدتهم عند المسجد الحرام ليسوا طائفة أخرى غير التي ورد ذكرها من قبل في قوله تعالى : { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ، إن الله يحب المتقين } . . كما فهم بعض المفسرين المحدثين . . فهي طائفة واحدة ذكرت أول مرة بمناسبة عموم البراءة وإطلاقها ، لاستثنائها من هذا العموم . وذكرت مرة ثانية بمناسبة استنكار مبدأ التعاهد ذاته مع المشركين مخافة أن يظن أن هذا الحكم المطلق فيه نسخ للحكم الأول . . وذكرت التقوى وحب الله للمتقين هنا وهناك بنصها للدلالة على أن الموضوع واحد . كما أن النص الثاني مكمل للشروط المذكورة في النص الأول . ففي الأول اشتراط استقامتهم في الماضي ، وفي الثاني اشتراط استقامتهم في المستقبل . وهي دقة بالغة في صياغة النصوص - كما أسلفنا - لا تلحظ إلا بضم النصين الواردين في الموضوع الواحد ، كما هو ظاهر ومتعين .
ثم يعود لاستنكار مبدأ التعاهد بأسبابه التاريخية والواقعية؛ بعد استنكاره بأسبابه العقيدية والإيمانية؛ ويجمع بين هذه وتلك في الآيات التالية :
{ كيف؟ وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إِلاًّ ولا ذمة ، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون . اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله ، إنهم ساء ما كانوا يعملون . لا يرقبون في مؤمن إِلاًّ ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون } . .
كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله؛ وهم لا يعاهدونكم إلا في حال عجزهم عن التغلب عليكم .

ولو ظهروا عليكم وغلبوكم لفعلوا بكم الأفاعيل في غير مراعاة لعهد قائم بينهم وبينكم ، وفي غير ذمة يرعونها لكم؛ أو في غير تحرج ولا تذمم من فعل يأتونه معكم فهم لا يرعون عهداً ، ولا يقفون كذلك عند حد في التنكيل بكم؛ ولا حتى الحدود المتعارف عليها في البيئة والتي يذمون لو تجاوزوها . فهم لشدة ما يكنونه لكم من البغضاء يتجاوزون كل حد في التنكيل بكم ، لو أنهم قدروا عليكم . مهما يكن بينكم وبينهم من عهود قائمة . فليس الذي يمنعهم من أي فعل شائن معكم أن تكون بينكم وبينهم عهود؛ إنما يمنعهم أنهم لا يقدرون عليكم ولا يغلبونكم . . وإذا كانوا اليوم - وأنتم أقوياء - يرضونكم بأفواههم بالقول اللين والتظاهر بالوفاء بالعهد . فإن قلوبهم تنغل عليكم بالحقد؛ وتأبى أن تقيم على العهد؛ فما بهم من وفاء لكم ولا ود
{ وأكثرهم فاسقون . اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله . إنهم ساء ما كانوا يعملون } . .
وهذا هو السبب الأصيل لهذا الحقد الدفين عليكم ، وإضمار عدم الوفاء بعهودكم ، والانطلاق في التنكيل بكم - لو قدروا - من كل تحرج ومن كل تذمم . . إنه الفسوق عن دين الله ، والخروج عن هداه . فلقد آثروا على آيات الله التي جاءتهم ثمناً قليلاً من عرض هذه الحياة الدنيا يستمسكون به ويخافون فوته . وقد كانوا يخافون أن يضيع عليهم الإسلام شيئاً من مصالحهم؛ أو أن يكلفهم شيئاً من أموالهم؛ فصدوا عن سبيل الله بسبب شرائهم هذا الثمن القليل بآيات الله . صدوا أنفسهم وصدوا غيرهم ( فسيجيء أنهم أئمة الكفر ) . . أما فعلهم هذا فهو الفعل السيئ الذي يقرر الله سوءه الأصيل :
{ إنهم ساء ما كانوا يعملون } . .
ثم إنهم لا يضمرون هذا الحقد لأشخاصكم؛ ولا يتبعون تلك الخطة المنكرة معكم بذواتكم . . إنهم يضطغنون الحقد لكل مؤمن؛ ويتبعون هذا المنكر مع كل مسلم . . إنهم يوجهون حقدهم وانتقامهم لهذه الصفة التي أنتم عليها . . للإيمان ذاته . . كما هو المعهود في كل أعداء الصفوة الخالصة من أهل هذا الدين ، على مدار التاريخ والقرون . . فكذلك قال السحرة لفرعون وهو يتوعدهم بأشد أنواع التعذيب والتنكيل والتقتيل : { وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا } وكذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل الكتاب بتوجيه من ربه : { قل : يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله؟ } وقال سبحانه عن أصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين : { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } فالإيمان هو سبب النقمة . ومن ثم هم يضطغنون الحقد لكل مؤمن ، ولا يراعون فيه عهداً ولا يتذممون من منكر :
{ لا يرقبون في مؤمن إِلاًّ ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون } . .
فصفة الاعتداء أصيلة فيهم . . تبدأ من نقطة كرههم للإيمان ذاته وصدودهم عنه؛ وتنتهي بالوقوف في وجهه؛ وتربصهم بالمؤمنين؛ وعدم مراعاتهم لعهد معهم ولا صلة ، إذا هم ظهروا عليهم؛ وأمنوا بأسهم وقوتهم .

وعندئذ يفعلون بهم الأفاعيل غير مراعين لعهد قائم ، ولا متحرجين ولا متذممين من منكر يأتونه معهم . . وهم آمنون
ثم يبين الله كيف يقابل المؤمنون هذه الحال الواقعة من المشركين :
{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ، ونفصل الآيات لقوم يعلمون } .
{ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } . .
إن المسلمين يواجهون أعداء يتربصون بهم؛ ولا يقعد هؤلاء الأعداء عن الفتك بالمسلمين بلا شفقة ولا رحمة إلا عجزهم عن ذلك . لا يقعدهم عهد معقود ، ولا ذمة مرعية ، ولا تحرج من مذمة ، ولا إبقاء على صلة . . ووراء هذا التقرير تاريخ طويل ، يشهد كله بأن هذا هو الخط الأصيل الذي لا ينحرف إلا لطارئ زائل ، ثم يعود فيأخذ طريقه المرسوم
هذا التاريخ الطويل مع الواقع العملي؛ بالإضافة إلى طبيعة المعركة المحتومة بين منهج الله الذي يخرج الناس من العبودية للعباد ويردهم إلى عبادة الله وحده ، وبين مناهج الجاهلية التي تعبد الناس للعبيد . . يواجهه المنهج الحركي الإسلامي بتوجيه من الله سبحانه ، بهذا الحسم الصريح :
{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون } . .
{ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } . .
فإما دخول فيما دخل فيه المسلمون ، وتوبة عما مضى من الشرك والاعتداء . وعندئذ يصفح الإسلام والمسلمون عن كل ما لقوا من هؤلاء المشركين المعتدين؛ وتقوم الوشيجة على أساس العقيدة؛ ويصبح المسلمون الجدد إخواناً للمسلمين القدامى؛ ويسقط ذلك الماضي كله بمساءاته من الواقع ومن القلوب
{ ونفصل الآيات لقوم يعلمون } . .
فهذه الأحكام إنما يدركها ويدرك حكمتها الذين يعلمون وهم المؤمنون .
وإما نكث لما يبايعون عليهم من الإيمان بعد الدخول فيه ، وطعن في دين المسلمين . فهم إذن أئمة في الكفر ، لا أيمان لهم ولا عهود . وعندئذ يكون القتال لهم؛ لعلهم حينئذ أن يثوبوا إلى الهدى . . كما سبق أن قلنا : إن قوة المعسكر المسلم وغلبته في الجهاد قد ترد قلوباً كثيرة إلى الصواب؛ وتريهم الحق الغالب فيعرفونه؛ ويعلمون أنه إنما غلب لأنه الحق؛ ولأن وراءه قوة الله؛ وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما أبلغهم من أن الله غالب هو ورسله . فيقودهم هذا كله إلى التوبة والهدى . لا كرهاً وقهراً ، ولكن اقتناعاً بالقلب بعد رؤية واضحة للحق الغالب . كما وقع وكما يقع في كثير من الأحايين .
وبعد . . فما المدى الذي تعمل فيه هذه النصوص؟ ما المدى التاريخي والبيئي؟ أهي خاصة بأهل الجزيرة العربية في ذلك الزمان المحدد؟ أم إن لها أبعاداً أخرى في الزمان والمكان؟
إن هذه النصوص كانت تواجه الواقع في الجزيرة العربية بين المعسكر الإسلامي ومعسكرات المشركين .

وما من شك أن الأحكام الواردة بها مقصود بها هذا الواقع . وأن المشركين المعنيين فيها هم مشركو الجزيرة . .
هذا حق في ذاته . . ولكن ترى هذا هو المدى النهائي لهذه النصوص؟
إن علينا أن نتتبع موقف المشركين - على مدى التاريخ - من المؤمنين . ليتكشف لنا المدى الحقيقي لهذه النصوص القرآنية؛ ولنرى الموقف بكامله على مدار التاريخ .
فأما في الجزيرة العربية فلعل ذلك معلوم من أحداث السيرة المشهورة . ولعل في هذا الجزء من الظلال وحده ما يكفي لتصوير مواقف المشركين من هذا الدين وأهله منذ الأيام الأولى للدعوة في مكة حتى هذه الفترة التي تواجهها نصوص هذه السورة .
وحقيقة إن المعركة الطويلة الأمد لم تكن بين الإسلام والشرك بقدر ما كانت بين الإسلام وأهل الكتاب من اليهود والنصارى . ولكن هذا لا ينفي أن موقف المشركين من المسلمين كان دائماً هو الذي تصوره آيات هذا المقطع من السورة :
{ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إِلاًّ ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم ، وأكثرهم فاسقون . اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله ، إنهم ساء ما كانوا يعملون . لا يرقبون في مؤمن إِلاًّ ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون } .
لقد كان هذا هو الموقف الدائم للمشركين وأهل الكتاب من المسلمين . فأما أهل الكتاب فندع الحديث عنهم إلى موعده في المقطع الثاني من السورة؛ وأما المشركون فقد كان هذا دأبهم من المسلمين على مدار التاريخ .
وإذا نحن اعتبرنا أن الإسلام لم يبدأ برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما ختم بهذه الرسالة . وأن موقف المشركين من كل رسول ومن كل رسالة من قبل إنما يمثل موقف الشرك من دين الله على الإطلاق؛ فإن أبعاد المعركة تترامى؛ ويتجلى الموقف على حقيقته؛ كما تصوره تلك النصوص القرآنية الخالدة ، على مدار التاريخ البشري كله بلا استثناء
ماذا صنع المشركون مع نوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، وشعيب ، وموسى ، وعيسى ، عليهم صلوات الله وسلامه والمؤمنين بهم في زمانهم؟ ثم ماذا صنع المشركون مع محمد - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين به كذلك؟ . . إنهم لم يرقبوا فيهم إِلاًّ ولا ذمة متى ظهروا عليهم وتمكنوا منهم . .
وماذا صنع المشركون بالمسلمين أيام الغزو الثاني للشرك على أيدي التتار؟ ثم ما يصنع المشركون والملحدون اليوم بعد أربعة عشر قرناً بالمسلمين في كل مكان؟ . . إنهم لا يرقبون فيهم إِلاًّ ولا ذمة ، كما يقرر النص القرآني الصادق الخالد . .
عندما ظهر الوثنيون التتار على المسلمين في بغداد وقعت المأساة الدامية التي سجلتها الروايات التاريخية والتي نكتفي فيها بمقتطفات سريعة من تاريخ « البداية والنهاية » لابن كثير فيما رواه من أحداث عام 656 ه :
« ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان .

ودخل كثير من الناس في الآبار ، وأماكن الحشوش ، وقنى الوسخ ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون . وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ، ويغلقون عليهم الأبواب ، فتفتحها التتار . إما بالكسر وإما بالنار ، ثم يدخلون عليهم . فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة ، فيقتلونهم بالأسطحة ، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة - فإنا لله وإنا إليه راجعون - كذلك في المساجد والجوامع والربط . ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم ، وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي ، وطائفة من التجار أخذوا أمانا بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم . وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ، ليس فيها إلا القليل من الناس ، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة . .
« وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة . فقيل ثمانمائة ألف . وقيل : ألف ألف . وقيل : بلغت القتلى ألفي ألف نفس - فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم - وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم . وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوماً . . وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر ، وعفى قبره ، وكان عمره يومئذ ستاً وأربعين سنة وأربعة أشهر . ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام . وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد ، وله خمس وعشرون سنة . ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن وله ثلاث وعشرون سنة ، وأسر ولده الأصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم . .
» وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف ابن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي ، وكان عدو الوزير ، وقتل أولاده الثلاثة : عبد الله وعبد الرحمن وعبد الكريم ، وأكابر الدولة واحداً بعد واحد . منهم الدويدار الصغير مجاهد الدين أيبك ، وشهاب الدين سليمان شاه ، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد . . وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس ، فيخرج بأولاده ونسائه ، فيذهب إلى مقبرة الخلال ، تجاه المنظرة ، فيذبح كما تذبح الشاة ، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه . . وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي ابن النيار . وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن . وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات عدة؟ شهور ببغداد . .
« ولما انقضى الأمر المقدر ، وانقضت الأربعون يوماً ، بقيت بغداد خاوية على عروشها ، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس ، والقتلى في الطرقات كأنها التلول ، وقد سقط عليهم المطر ، فتغيرت صورهم ، وأنتنت من جيفهم البلد ، وتغير الهواء ، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام ، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح ، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

.
« ولما نودي ببغداد بالأمان ، خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم؛ وقد أنكر بعضهم بعضاً ، فلا يعرف الوالد ولده ، ولا الأخ أخاه ، وأخذهم الوباء الشديد . فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى . . » الخ الخ .
هذه صورة من الواقع التاريخي ، حينما ظهر المشركون على المسلمين فلم يرقبوا فيهم إِلاًّ ولا ذمة . فهل كانت صورة تاريخية من الماضي البعيد الموغل في الظلمات ، اختص بها التتار في ذلك الزمان؟
كلا إن الواقع التاريخي الحديث لا تختلف صوره عن هذه الصورة . . إن ما وقع من الوثنيين الهنود عند انفصال باكستان لا يقل شناعة ولا بشاعة عما وقع من التتار في ذلك الزمان البعيد . . إن ثمانية ملايين من المهاجرين المسلمين من الهند - ممن أفزعتهم الهجمات البربرية المتوحشة على المسلمين الباقين في الهند فآثروا الهجرة على البقاء - قد وصل منهم إلى أطراف باكستان ثلاثة ملايين فقط أما الملايين الخمسة الباقية فقد قضوا بالطريق . . طلعت عليهم العصابات الهندية الوثنية المنظمة المعروفة للدولة الهندية جيداً والتي يهيمن عليها ناس من الكبار في الحكومة الهندية ، فذبحتهم كالخراف على طول الطريق ، وتركت جثثهم نهباً للطير والوحش ، بعد التمثيل بها ببشاعة منكرة ، لا تقل - إن لم تزد - على ما صنعه التتار بالمسلمين من أهل بغداد . . أما المأساة البشعة المروعة المنظمة فكانت في ركاب القطار الذي نقل الموظفين المسلمين في أنحاء الهند إلى باكستان ، حيث تم الاتفاق على هجرة من يريد الهجرة من الموظفين المسلمين في دوائر الهند إلى باكستان واجتمع في هذا القطار خمسون ألف موظف . . ودخل القطار بالخمسين ألف موظف في نفق بين الحدود الهندية الباكستانية يسمى ( ممر خيبر ) . . وخرج من الناحية الأخرى وليس به إلا أشلاء ممزقة متناثرة في القطار . . لقد أوقفت العصابات الهندية الوثنية المدربة الموجهة ، القطار في النفق . ولم تسمح له بالمضي في طريقه إلا بعد أن تحول الخمسون ألف موظف إلى أشلاء ودماء . . وصدق قول الله سبحانه : { كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إِلاًّ ولا ذمة } وما تزال هذه المذابح تتكرر في صور شتى .
ثم ماذا فعل خلفاء التتار في الصين الشيوعية وروسيا الشيوعية بالمسلمين هناك . . لقد أبادوا من المسلمين في خلال ربع قرن ستة وعشرين مليوناً . . بمعدل مليون في السنة . . وما تزال عمليات الإبادة ماضية في الطريق . . ذلك غير وسائل التعذيب الجهنمية التي تقشعر لهولها الأبدان . وفي هذا العام وقع في القطاع الصيني من التركستان المسلمة ما يغطي على بشاعات التتار . . لقد جيء بأحد الزعماء المسلمين ، فحفرت له حفرة في الطريق العام .

وكلف المسلمون تحت وطأة التعذيب والإرهاب ، أن يأتوا بفضلاتهم الآدمية ( التي تتسلمها الدولة من الأهالي جميعاً لتستخدمها في السماد مقابل ما تصرفه لهم من الطعام ) فيلقوها على الزعيم المسلم في حفرته . . وظلت العملية ثلاثة أيام والرجل يختنق في الحفرة على هذا النحو حتى مات
كذلك فعلت يوغسلافيا الشيوعية بالمسلمين فيها . حتى أبادت منهم مليوناً منذ الفترة التي صارت فيها شيوعية بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم . وما تزال عمليات الإبادة والتعذيب الوحشي - التي من أمثلتها البشعة إلقاء المسلمين رجالاً ونساء في « مفارم » اللحوم التي تصنع لحوم ( البولوبيف ) ليخرجوا من الناحية الأخرى عجينة من اللحم والعظام والدماء - ماضية إلى الآن
وما يجري في يوغسلافيا يجري في جميع الدول الشيوعية والوثنية . . . الآن . . في هذا الزمان . . ويصدق قول الله سبحانه : { كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إِلاًّ ولا ذمة؟ } . { لا يرقبون في مؤمن إِلاًّ ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون } . .
إنها لم تكن حالة طارئة ولا وقتية في الجزيرة العربية . ولم تكن حالة طارئة ولا وقتية في بغداد . . إنها الحالة الدائمة الطبيعية الحتمية؛ حيثما وجد مؤمنون يدينون بالعبودية لله وحده؛ ومشركون أو ملحدون يدينون بالعبودية لغير الله . في كل زمان وفي كل مكان .
ومن ثم فإن تلك النصوص - وإن كانت قد نزلت لمواجهة حالة واقعة في الجزيرة ، وعنت بالفعل تقرير أحكام التعامل مع مشركي الجزيرة - إلا أنها أبعد مدى في الزمان والمكان . لأنها تواجه مثل هذه الحالة دائماً في كل زمان وفي كل مكان . والأمر في تنفيذها إنما يتعلق بالمقدرة على التنفيذ في مثل الحالة التي نفذت فيها في الجزيرة العربية ، ولا يتعلق بأصل الحكم ولا بأصل الموقف الذي لا يتبدل على الزمان . .
{ ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم ، وهموا بإخراج الرسول ، وهم بدأوكم أول مرة؟ أتخشونهم؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين . قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ، ويخزهم وينصركم عليهم ، ويشف صدور قوم مؤمنين ، ويذهب غيظ قلوبهم ، ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم . أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة؟ والله خبير بما تعملون } . .
تجيء هذه الفقرة بعد الفقرة السابقة التي تقرر فيها الاستنكار من ناحية المبدأ لأن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله؛ والأمر بتخيير المشركين في الجزيرة بين الدخول فيما دخل فيه المسلمون أو قتالهم - إلا من استجار فيجار حتى يسمع كلام الله ثم يبلغ مأمنه خارج دار الإسلام - وبيان علة هذا الاستنكار؛ وهي أنهم لا يرعون إِلاًّ ولا ذمة في مؤمن متى ظهروا على المؤمنين .
تجيء هذه الفقرة لمواجهة ما حاك في نفوس الجماعة المسلمة - بمستوياتها المختلفة التي سبق الحديث عنها - من تردد وتهيب للإقدام على هذه الخطوة الحاسمة ومن رغبة وتعلل في أن يفيء المشركون الباقون إلى الإسلام دون اللجوء إلى القتال الشامل ومن خوف على النفوس والمصالح وركون إلى أيسر الوسائل .

. .
والنصوص القرآنية تواجه هذه المشاعر والمخاوف والتعلات باستجاشة قلوب المسلمين بالذكريات والأحداث القريبة والبعيدة . تذكرهم بنقض المشركين لما أبرموه معهم من عقود وما عقدوه معهم من أيمان . وتذكرهم بما همَّ به المشركون من إخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة قبل الهجرة . وتذكرهم بأن المشركين هم الذين بدأوهم بالاعتداء في المدينة . . ثم تثير فيهم الحياء والنخوة أن يكونوا إنما يخشون لقاء المشركين . والله أولى أن يخشوه إن كانوا مؤمنين . . ثم تشجعهم على قتال المشركين لعل الله أن يعذبهم بأيديهم ، فيكونوا هم ستاراً لقدرة الله في تعذيب أعدائه وأعدائهم ، وخزيانهم وقهرهم . وشفاء صدور المؤمنين الذين أوذوا في الله منهم . . ثم تواجه التعلات التي تحيك في صدور البعض من الأمل في دخول المشركين الباقين في الإسلام دون حرب ولا قتال . تواجه هذه التعلات بأن الرجاء الحقيقي في أن يفيء هؤلاء إلى الإسلام أولى أن يتعلق بانتصار المسلمين ، وهزيمة المشركين ، فيومئذ قد يفيء بعضهم - ممن يقسم الله له التوبة - إلى الإسلام المنتصر الظاهر الظافر . . وفي النهاية تلفتهم الآيات إلى أن سنة الله هي ابتلاء الجماعات بمثل هذه التكاليف ليظهر حقيقة ما هم عليه . وأن السنة لا تتبدل ولا تحيد . .
{ ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم ، وهموا بإخراج الرسول ، وهم بدأوكم أول مرة؟ أتخشونهم؟ فالله أحق أن تخشوه ، إن كنتم مؤمنين } . .
إن تاريخ المشركين مع المسلمين كله نكث للأيمان ، ونقض للعهود . وأقرب ما كان من هذا نقضهم لعهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية . ولقد قبل - صلى الله عليه وسلم - من شروطهم - بإلهام من ربه وهداية - ما حسبه بعض أفاضل أصحابه قبولاً للدنية ووفى لهم بعهده أدق ما يكون الوفاء وأسماه ، ولكنهم هم لم يفوا ، وخاسوا بالعهد عامين اثنين ، عند أول فرصة سنحت . . كما أن المشركين هم الذين هموا بإخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل في مكة؛ وبيتوا أمرهم في النهاية على قتله قبل الهجرة . وكان هذا في بيت الله الحرام الذي يأمن فيه القاتل منهم على دمه وماله؛ حتى لكان الواحد يلقى قاتل أخيه أو أبيه في الحرم فلا يمسه بسوء . أما محمد رسول الله ، الداعي إلى الهدى والإيمان وعبادة الله وحده ، فلم يرعوا معه هذه الخصلة؛ وهموا بإخراجه؛ ثم تآمروا على حياته؛ وبيتوا قتله في بيت الله الحرام ، بلا تحرج ولا تذمم مما يتحرجون منه ويتذممون مع أصحاب الثارات .

. كذلك كانوا هم الذين هموا بقتال المسلمين وحربهم في المدينة . فهم الذين أصروا - بقيادة أبي جهل - على ملاقاة المسلمين بعد أن نجت القافلة التي خرجوا لها؛ ثم قاتلوهم بادئين في أحد وفي الخندق . ثم جمعوا لهم في حنين كذلك . . وكلها وقائع حاضرة أو ذكريات قريبة؛ وكلها تنم عن الإصرار الذي يصفه قول الله تعالى : { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } كما تنم عن طبيعة العلاقة بين المعسكر الذي يعبد آلهة من دون الله تجاه المعسكر الذي لا يعبد إلا الله . .
وحين يستعرض السياق هذا الشريط الطويل من الذكريات والمواقف والأحداث ، في هذه اللمسات السريعة العميقة الإيقاع في قلوب المسلمين ، يخاطبهم :
{ أتخشونهم؟ } . .
فإنهم لا يقعدون عن قتال المشركين هؤلاء إلا أن تكون هي الخشية والخوف والتهيب
ويعقب على السؤال بما هو أشد استجاشة للقلوب من السؤال :
{ فالله أحق أن تخشوه ، إن كنتم مؤمنين } . .
إن المؤمن لا يخشى أحداً من العبيد . فالمؤمن لا يخشى إلا الله ، فإذا كانوا يخشون المشركين فالله أحق بالخشية ، وأولى بالمخافة؛ وما يجوز أن يكون لغيره في قلوب المؤمنين مكان
وإن مشاعر المؤمنين لتثور؛ وهي تستجاش بتلك الذكريات والوقائع والأحداث . . وهم يذكرون بتآمر المشركين على نبيهم صلى الله عليه وسلم . . وهم يستعرضون نكث المشركين لعهودهم معهم وتبييتهم لهم الغدر كلما التمسوا منهم غرة ، أو وجدوا في موقفهم ثغرة . وهم يتذكرون مبادأة المشركين لهم بالعداء والقتال بطراً وطغياناً . . وفي غمرة هذه الثورة يحرض المؤمنين على القتال :
{ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم ، وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ، ويذهب غيظ قلوبهم } . .
قاتلوهم يجعلكم الله ستار قدرته ، وأداة مشيئته ، فيعذبهم بأيديكم ويخزهم بالهزيمة وهم يتخايلون بالقوة ، وينصركم عليهم ويشف صدور جماعة من المؤمنين ممن آذاهم وشردهم المشركون . يشفها من غيظها المكظوم ، بانتصار الحق كاملاً ، وهزيمة الباطل ، وتشريد المبطلين . .
وليس هذا وحده ولكن خيراً آخر يُنتظر وثواباً آخر يُنال :
{ ويتوب الله على من يشاء } . .
فانتصار المسلمين قد يرد بعض المشركين إلى الإيمان ، ويفتح بصيرتهم على الهدى حين يرون المسلمين يُنصرون ، ويحسون أن قوة غير قوة البشر تؤيدهم ، ويرون آثار الإيمان في مواقفهم - وهذا ما كان فعلاً - وعندئذٍ ينال المسلمون المجاهدون أجر جهادهم ، وأجر هداية الضالين بأيديهم؛ وينال الإسلام قوة جديدة تضاف إلى قوته بهؤلاء المهتدين التائبين :
{ والله عليم حكيم } .
عليم بالعواقب المخبوءة وراء المقدمات . حكيم يقدر نتائج الأعمال والحركات .
إن بروز قوة الإسلام وتقريرها ليستهوي قلوباً كثيرة تصد عن الإسلام الضعيف ، أو الإسلام المجهول القوة والنفوذ . وإن الدعوة إلى الإسلام لتختصر نصف الطريق حين تكون الجماعة المسلمة بادية القوة ، مرهوبة الجانب ، عزيزة الجناب .
على أن الله سبحانه وهو يربي الجماعة المسلمة بالمنهج القرآني الفريد لم يكن يعدها وهي في مكة قلة قليلة مستضعفة مطاردة ، إلا وعداً واحداً : هو الجنة .

ولم يكن يأمرها إلا أمراً واحداً : هو الصبر . . فلما أن صبرت وطلبت الجنة وحدها دون الغلب ، آتاها الله النصر؛ وجعل يحرضها عليه ويشفي صدورها به . ذلك أن الغلب والنصر عندئذ لم يكن لها ولكن لدينه وكلمته . وإن هي إلا ستار لقدرته . .
ثم إنه لم يكن بد أن يجاهد المسلمون المشركين كافة ، وأن تنبذ عهود المشركين كافة؛ وأن يقف المسلمون إزاءهم صفاً . . لم يكن بد من ذلك لكشف النوايا والخبايا ، ولإزالة الأستار التي يقف خلفها من لم يتجرد للعقيدة ، والأعذار التي يحتج بها من يتعاملون مع المشركين للكسب ، ومن يوادونهم لآصرة من قربى أو مصلحة . . لم يكن بد من إزالة هذه الأستار والمعاذير ، وإعلان المفاصلة للجميع ، لينكشف الذين يخبئون في قلوبهم خبيئة ، ويتخذون من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة ، يلجون منها إلى مصالحهم وروابطهم مع المشركين ، في ظل العلاقات غير المتميزة أو الواضحة بين المعسكرات المختلفة : { أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ، والله خبير بما تعملون } . .
لقد كان في المجتمع المسلم - كما هو الحال عادة - فئة تجيد المداورة ، وتنفذ من الأسوار . وتتقن استخدام الأعذار . وتدور من خلف الجماعة ، وتتصل بخصومها استجلاباً للمصلحة ولو على حساب الجماعة ، مرتكنة إلى ميوعة العلاقات ووجود ثغرات في المفاصلة بين المعسكرات . فإذا وضحت المفاصلة وأعلنت قطعت الطريق على تلك الفئة ، وكشفت المداخل والمسارب للأنظار .
وإنه لمن مصلحة الجماعة ، ومن مصلحة العقيدة ، أن تهتك الأستار وتكشف الولائج ، وتعرف المداخل ، فيمتاز المكافحون المخلصون ، ويكشف المداورون الملتوون ، ويعرف الناس كلا الفريقين على حقيقته ، وإن كان الله يعلمهم من قبل :
{ والله خبير بما تعملون } . .
ولكنه سبحانه يحاسب الناس على ما يتكشف من حقيقتهم بفعلهم وسلوكهم . وكذلك جرت سنته بالابتلاء لينكشف الخبيء وتتميز الصفوف ، وتتمحص القلوب . ولا يكون ذلك كما يكون بالشدائد والتكاليف والمحن والابتلاءات .
{ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر؛ أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون . إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، ولم يخش إلا الله ، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين . أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ، وجاهد في سبيل الله؟ لا يستوون عند الله ، والله لا يهدي القوم الظالمين . الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله ، وأولئك هم الفائزون . يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان ، وجنات لهم فيها نعيم مقيم ، خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم } .

.
وبعد البراءة والإعلان لم يبق عذر ولا حجة لمن لا يقاتل المشركين؛ ولم يعد هنالك تردد في حرمانهم زيارة البيت أو عمارته ، وقد كانوا يقومون بهما في الجاهلية ، وهنا ينكر السياق على المشركين أن يكون لهم الحق في أن يعمروا بيوت الله ، فهو حق خالص للمؤمنين بالله ، القائمين بفرائضه؛ وما كانت عمارة البيت في الجاهلية وسقاية الحاج لتغير من هذه القاعدة . . وهذه الآيات كانت تواجه ما يحيك في نفوس بعض المسلمين الذين لم تتضح لهم قاعدة هذا الدين .
{ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر } . .
فهو أمر مستنكر منذ الابتداء ، ليس له مبرر لأنه مخالف لطبائع الأشياء . إن بيوت الله خالصة لله ، لا يذكر فيها إلا اسمه ، ولا يدعى معه فيها أحد غيره ، فكيف يعمرها من لا يعمر التوحيد قلوبهم ، ومن يدعون مع الله شركاء ، ومن يشهدون على أنفسهم بالكفر شهادة الواقع الذي لا يملكون إنكاره ، ولا يسعهم إلا إقراره؟ إقراره؟
{ أولئك حبطت أعمالهم } . .
فهي باطلة أصلاً ، ومنها عمارة بيت الله التي لا تقوم إلا على قاعدة من توحيد الله .
{ وفي النار هم خالدون } . .
بما قدموا من الكفر الواضح الصريح .
إن العبادة تعبير عن العقيدة؛ فإذا لم تصح العقيدة لم تصح العبادة؛ وأداء الشعائر وعمارة المساجد ليست بشيء ما لم تعمر القلوب بالاعتقاد الإيماني الصحيح ، وبالعمل الواقع الصريح ، وبالتجرد لله في العمل والعبادة على السواء :
{ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله } . .
والنص على خشية الله وحده دون سواه بعد شرطي الإيمان الباطن والعمل الظاهر ، لا يجيء نافلة . فلا بد من التجرد لله؛ ولا بد من التخلص من كل ظل للشرك في الشعور أو السلوك؛ وخشية أحد غير الله لون من الشرك الخفي ينبه إليه النص قصداً في هذا الموضع ليتمحض الاعتقاد والعمل كله لله . وعندئذ يستحق المؤمنون أن يعمروا مساجد الله ، ويستحقون أن يرجوا الهداية من الله :
{ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } . .
فإنما يتوجه القلب وتعمل الجوارح ، ثم يكافئ الله على التوجه والعمل بالهداية والوصول والنجاح .
هذه هي القاعدة في استحقاق عمارة بيوت الله؛ وفي تقويم العبادات والشعائر على السواء يبينها الله للمسلمين والمشركين ، فما يجوز أن يسوى الذين كانوا يعمرون الكعبة ويسقون الحجيج في الجاهلية ، وعقيدتهم ليست خالصة لله ، ولا نصيب لهم من عمل أو جهاد ، لا يجوز أن يسوى هؤلاء - لمجرد عمارتهم للبيت وخدمتهم للحجيج - بالذين آمنوا إيماناً صحيحاً وجاهدوا في سبيل الله وإعلاء كلمته :
{ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن أمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله؟ } . .
{ لا يستوون عند الله } . .
وميزان الله هو الميزان وتقديره هو التقدير :
{ والله لا يهدي القوم الظالمين } .

المشركين الذين لا يدينون دين الحق ، ولا يخلصون عقيدتهم من الشرك ، ولو كانوا يعمرون البيت ويسقون الحجيج .
وينتهي هذا المعنى بتقرير فضل المؤمنين المهاجرين المجاهدين ، وما ينتظرهم من حرمة ورضوان ، ومن نعيم مقيم وأجر عظيم :
{ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله ، وأولئك هم الفائزون . يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ، خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم } . .
وأفعل التفضيل هنا في قوله : { أعظم درجة عند الله } ليس على وجه ، فهو لا يعني أن للآخرين درجة أقل ، إنما هو التفضيل المطلق . فالآخرون { حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون } فلا مفاضلة بينهم وبين المؤمنين المهاجرين المجاهدين في درجة ولا في نعيم .
ثم يمضي السياق في تجريد المشاعر والصلات في قلوب الجماعة المؤمنة . وتمحيصها لله ولدين الله؛ فيدعو إلى تخليصها من وشائج القربى والمصلحة واللذة ، ويجمع كل لذائذ البشر ، وكل وشائج الحياة ، فيضمها في كفة ، ويضع حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله في الكفة الأخرى ، ويدع للمسلمين الخيار .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء - إن استحبوا الكفر على الإيمان - ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون . قل : إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم ، وأموال اقترفتموها ، وتجارة تخشون كسادها ، ومساكن ترضونها . . أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله ، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره . والله لا يهدي القوم الفاسقين } . .
إن هذه العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكاً؛ فإما تجرد لها ، وإما انسلاخ منها ، وليس المطلوب أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة؛ ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة . . كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب ، ويخلص لها الحب ، وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة ، وهي المحركة والدافعة . فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة؛ على أن يكون مستعداً لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة .
ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع؛ وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الأرض . فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والإخوة وبالزوج والعشيرة؛ ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن؛ ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق - في غير سرف ولا مخيلة - بل إن المتاع بها حينئذ لمستحب ، باعتباره لوناً من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده ، وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء - إن استحبوا الكفر على الإيمان - } .

.
وهكذا تتقطع أواصر الدم والنسب ، إذا انقطعت آصرة القلب والعقيدة . وتبطل ولاية القرابة في الأسرة إذا بطلت ولاية القرابة في الله . فلله الولاية الأولى ، وفيها ترتبط البشرية جميعاً ، فإذا لم تكن فلا ولاية بعد ذلك ، والحبل مقطوع والعروة منقوضة .
{ ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } . .
و { الظالمون } هنا تعني المشركين . فولاية الأهل والقوم - إن استحبوا الكفر على الإيمان - شرك لا يتفق مع الإيمان .
ولا يكتفي السياق بتقرير المبدأ ، بل يأخذ في استعراض ألوان الوشائج والمطامع واللذائذ؛ ليضعها كلها في كفة ويضع العقيدة ومقتضياتها في الكفة الأخرى : الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة ( وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج ) والأموال والتجارة ( مطمع الفطرة ورغبتها ) والمساكن المريحة ( متاع الحياة ولذتها ) . . وفي الكفة الأخرى : حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله . الجهاد بكل مقتضياته وبكل مشقاته . الجهاد وما يتبعه من تعب ونصب ، وما يتبعه من تضييق وحرمان ، وما يتبعه من ألم وتضحية ، وما يتبعه من جراح واستشهاد . . وهو - بعد هذا كله - « الجهاد في سبيل الله » مجرداً من الصيت والذكر والظهور . مجرداً من المباهاة ، والفخر والخيلاء . مجرداً من إحساس أهل الأرض به وإشارتهم إليه وإشادتهم بصاحبه . وإلا فلا أجر عليه ولا ثواب . .
{ قل : إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها ، وتجارة تخشون كسادها ، ومساكن ترضونها ، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله . . فتربصوا حتى يأتي الله بأمره . . }
ألا إنها لشاقة . ألا وإنها لكبيرة ، ولكنها هي ذاك . . وإلا :
{ فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } . .
وإلا فتعرضوا لمصير الفاسقين :
{ والله لا يهدي القوم الفاسقين } . .
وهذا التجرد لا يطالب به الفرد وحده ، إنما تطالب به الجماعة المسلمة ، والدولة المسلمة . فما يجوز أن يكون هناك اعتبار لعلاقة أو مصلحة يرتفع على مقتضيات العقيدة في الله ومقتضيات الجهاد في سبيل الله .
وما يكلف الله الفئة المؤمنة هذا التكليف ، إلا وهو يعلم أن فطرتها تطيقه - فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها- وإنه لمن رحمة الله بعباده أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال؛ وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الأرض كلها . . لذة الشعور بالاتصال بالله ، ولذة الرجاء في رضوان الله ، ولذة الاستعلاء على الضعف والهبوط ، والخلاص من ثقلة اللحم والدم ، والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء . فإذا غلبتها ثقلة الأرض ففي التطلع إلى الأفق ما يجدد الرغبة الطامعة في الخلاص والفكاك .
ثم لمسة للمشاعر بالذكرى ، وباستعراض صفحة من الواقع الذي عاشه المسلمون إذ ذاك منذ قريب . . المواطن التي نصرهم الله فيها ، ولم تكن لهم قوة ولا عدة . ويوم حنين الذي هزموا فيه بكثرتهم ثم نصرهم الله بقوته . يوم أن انضم إلى جيش الفتح ألفان فقط من الطلقاء يوم أن غفلت قلوب المسلمين لحظات عن الله مأخوذة بالكثرة في العدد والعتاد .

ليعلم المؤمنون أن التجرد لله ، وتوثيق الصلة به هي عدة النصر التي لا تخذلهم حين تخذلهم الكثرة في العدد والعتاد؛ وحين يخذلهم المال والإخوان والأولاد :
{ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ، ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ، ثم وليتم مدبرين؛ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وأنزل جنوداً لم تروها ، وعذب الذين كفروا ، وذلك جزاء الكافرين . ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ، والله غفور رحيم } .
ولقد كان نصر الله لهم في المواطن الكثيرة قريباً من ذاكرتهم لا يحتاج إلى أكثر من الإشارة . فأما وقعة حنين فكانت بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة . وذلك لما فرغ - صلى الله عليه وسلم - من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه ، وأن أميرهم مالك بن عوف النضري ، ومعه ثقيف بكمالها ، وبنو جشم ، وبنو سعد ابن بكر ، وأوزاع من بني هلال - وهم قليل - وناس من بني عمرو بن عامر وعوف ابن عامر؛ وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم؛ وجاءوا بقضهم وقضيضهم . فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة ، وهم الطلقاء ، في ألفين؛ فسار بهم إلى العدو؛ فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له « حنين » فكانت فيه الواقعة في أول النهار في غلس الصبح . انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن ، فما توجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم ، ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حملة رجل واحد كما أمرهم ملكهم . فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين - كما قال الله عز وجل - وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ وهو راكب بغلته الشهباء ، يسوقها إلى نحر العدو ، والعباس آخذ بركابها الأيمن ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر ، يثقلانها لئلا تسرع السير ، « وهو ينوه باسمه - عليه الصلاة والسلام - ويدعو المسلمين إلى الرجعة ، ويقول : » إلي يا عباد الله . إلي أنا رسول الله « ويقول في تلك الحال : أنا النبي لا كذب . أنا ابن عبد المطلب » وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ، ومنهم من قال ثمانون؛ فمنهم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - والعباس وعلي والفضل بن عباس ، وأبو سفيان بن الحارث ، وأيمن بن أم أيمن ، وأسامة بن زيد ، وغيرهم - رضي الله عنهم - ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته : يا أصحاب الشجرة - يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها على ألا يفروا عنه - فجعل ينادي بهم : يا أصحاب السمرة ، ويقول تارة : يا أصحاب سورة البقرة .

فجعلوا يقولون : يا لبيك ، يا لبيك . وانعطف الناس فتراجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه ثم انحدر عنه وأرسله ، ورجع بنفسه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصدقوا الحملة . . . وانهزم المشركون فأتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
هذه هي المعركة التي اجتمع فيها للمسلمين - للمرة الأولى - جيش عدته اثنا عشر ألفاً فأعجبتهم كثرتهم ، وغفلوا بها عن سبب النصر الأول ، فردهم الله بالهزيمة في أول المعركة إليه؛ ثم نصرهم بالقلة المؤمنة التي ثبتت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتصقت به .
والنص يعيد عرض المعركة بمشاهدها المادية ، وبانفعالاتها الشعورية :
{ إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين } . .
فمن انفعال الإعجاب بالكثرة ، إلى زلزلة الهزيمة الروحية ، إلى انفعال الضيق والحرج حتى لكأن الأرض كلها تضيق بهم وتشد عليهم . إلى حركة الهزيمة الحسية ، وتولية الأدبار والنكوص على الأعقاب . .
{ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } . .
وكأنما السكينة رداء ينزل فيثبت القلوب الطائرة ويهدئ الانفعالات الثائرة .
{ وأنزل جنوداً لم تروها } . .
فلا نعلم ماهيتها وطبيعتها . . وما يعلم جنود ربك إلا هو . .
{ وعذب الذين كفروا } .
بالقتل والأسر والسلب والهزيمة :
{ وذلك جزاء الكافرين } . .
{ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ، والله غفور رحيم } . .
فباب المغفرة دائماً مفتوح لمن يخطئ ثم يتوب .
إن معركة حنين التي يذكرها السياق هنا ليعرض نتائج الانشغال عن الله ، والاعتماد على قوة غير قوته ، لتكشف لنا عن حقيقة أخرى ضمنية . حقيقة القوى التي تعتمد عليها كل عقيدة . إن الكثرة العددية ليست بشيء ، إنما هي القلة العارفة المتصلة الثابتة المتجردة للعقيدة . وإن الكثرة لتكون أحياناً سبباً في الهزيمة ، لأن بعض الداخلين فيها ، التائهين في غمارها ، ممن لم يدركوا حقيقة العقيدة التي ينساقون في تيارها ، تتزلزل أقدامهم وترتجف في ساعة الشدة؛ فيشيعون الاضطراب والهزيمة في الصفوف ، فوق ما تخدع الكثرة أصحابها فتجعلهم يتهاونون في توثيق صلتهم بالله ، انشغالاً بهذه الكثرة الظاهرة عن اليقظة لسر النصر في الحياة .

لقد قامت كل عقيدة بالصفوة المختارة ، لا بالزبد الذي يذهب جفاء ، ولا بالهشيم الذي تذروه الرياح
وعندما يبلغ السياق إلى هذا المقطع ، ويلمس وجدان المسلمين بالذكرى القريبة من التاريخ ، ينهي القول في شأن المشركين . ويلقي الكلمة الباقية فيهم إلى يوم الدين :
{ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا؛ وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء . إن الله عليم حكيم } . .
إنما المشركون نجس . يجسم التعبير نجاسة أرواحهم فيجعلها ماهيتهم وكيانهم . فهم بكليتهم وبحقيقتهم نجس ، يستقذره الحس ، ويتطهر منه المتطهرون وهو النجس المعنوي لا الحسي في الحقيقة ، فأجسامهم ليست نجسة بذاتها . إنما هي طريقة التعبير القرآنية بالتجسيم .
{ نجس . فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } . .
وتلك غاية في تحريم وجودهم بالمسجد الحرام ، حتى لينصبّ النهي على مجرد القرب منه ، ويعلل بأنهم نجس وهو الطهور
ولكن الموسم الاقتصادي الذي ينتظره أهل مكة؛ والتجارة التي يعيش عليها معظم الظاهرين في الجزيرة؛ ورحلة الشتاء والصيف التي تكاد تقوم عليها الحياة . . . إنها كلها ستتعرض للضياع بمنع المشركين من الحج؛ وبإعلان الجهاد العام على المشركين كافة . .
نعم ولكنها العقيدة . والله يريد أن تخلص القلوب كلها للعقيدة
وبعد ذلك ، فالله هو المتكفل بأمر الرزق من وراء الأسباب المعهودة المألوفة :
{ وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء } . .
وحين يشاء الله يستبدل أسباباً بأسباب؛ وحين يشاء يغلق باباً ويفتح الأبواب . .
{ إن الله عليم حكيم } . .
يدبر الأمر كله عن علم وعن حكمة ، وعن تقدير وحساب . .
لقد كان المنهج القرآني يعمل ، في المجتمع المسلم الذي نشأ من الفتح؛ والذي لم تكن مستوياته الإيمانية قد تناسقت بعد . .
وكما أننا نلمح من خلال السياق في هذا المقطع ما كان يعتور هذا المجتمع من ثغرات . فكذلك نلمح عمل المنهج القرآني في سد هذه الثغرات . ونلمح الجهد الطويل المبذول لتربية هذه الأمة بهذا المنهج القرآني الفريد .
إن القمة التي كان المنهج القرآني ينقل خطى هذه الأمة لتبلغ إليها ، هي قمة التجرد لله ، والخلوص لدينه وقمة المفاصلة على أساس العقيدة مع كل أواصر القربى وكل لذائذ الحياة ، وكان هذا يتم من خلال ما يبثه المنهج القرآني من وعي لحقيقة الفوارق والفواصل بين منهج الله الذي يجعل الناس كلهم عبيداً لله وحده ، ومنهج الجاهلية الذي يجعل الناس أرباباً بعضهم لبعض . . وهما منهجان لا يلتقيان . . ولا يتعايشان . .
وبدون هذا الفقه الضروري لطبيعة هذا الدين وحقيقته ، وطبيعة الجاهلية وحقيقتها؛ لا يملك إنسان أن يقوّم الأحكام الإسلامية ، التي تقرر قواعد المعاملات والعلاقات بين المعسكر المسلم وسائر المعسكرات .

قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

هذا المقطع الثاني في سياق السورة؛ يستهدف تقرير الأحكام النهائية في العلاقات بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب؛ كما استهدف المقطع الأول منها تقرير الأحكام النهائية في العلاقات بين هذا المجتمع والمشركين في الجزيرة .
وإذا كانت نصوص المقطع الأول في منطوقها تواجه الواقع في الجزيرة يومئذ؛ وتتحدث عن المشركين فيها؛ وتحدد صفات ووقائع وأحداثاً تنطبق عليهم انطباقاً مباشراً . فإن النصوص في المقطع الثاني - الخاصة بأهل الكتاب - عامة في لفظها ومدلولها؛ وهي تعني كل أهل الكتاب . سواء منهم من كان في الجزيرة ومن كان خارجها كذلك .
هذه الأَحكام النهائية التي يتضمنها هذا المقطع تحتوي تعديلات أساسية في القواعد التي كانت تقوم عليها العلاقات من قبل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب - وبخاصة النصارى منهم - فلقد كانت وقعت المواقع قبل ذلك مع اليهود؛ ولكن حتى هذا الوقت لم يكن قد وقع منها شيء مع النصارى .
والتعديل البارز في هذه الأحكام الجديدة هو الأمر بقتال أهل الكتاب المنحرفين عن دين الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . . فلم تعد تقبل منهم عهود موادعة ومهادنة إلى على هذا الأساس . . أساس إعطاء الجزية . . وفي هذه الحالة تتقرر لهم حقوق الذمي المعاهد؛ ويقوم السلام بينهم وبين المسلمين . فأما إذا هم اقتنعوا بالإسلام عقيدة فاعتنقوه فهم من المسلمين . .
إنهم لا يُكرَهون على اعتناق الإسلام عقيدة . فالقاعدة الإسلامية المحكمة هي : { لا إكراه في الدين } ولكنهم لا يتركون على دينهم إلا إذا أعطوا الجزية ، وقام بينهم وبين المجتمع المسلم عهد على هذا الأساس .
وهذا التعديل الأخير في قواعد التعامل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب لا يفهم على طبيعته إلى بالفقه المستنير لطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية من ناحية . ثم لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي ، ومراحله المتعددة ، ووسائله المتجددة المكافئة للواقع البشري المتغير من الناحية الأخرى .
وطبيعة العلاقة الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية هي عدم إمكان التعايش إلا في ظل أوضاع خاصة وشروط خاصة؛ قاعدتها ألا تقوم في وجه الإعلان العام الذي يتضمنه الإسلام لتحرير الإنسان بعبادة الله وحده والخروج من عبادة البشر للبشر ، أية عقبات مادية من قوة الدولة ، ومن نظام الحكم ، ومن أوضاع المجتمع على ظهر الأرض ذلك أن منهج الله يريد أن يسيطر ، ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده - كما هو الإعلان العام للإسلام - ومناهج الجاهلية تريد - دفاعاً عن وجودها - أن تسحق الحركة المنطلقة بمنهج الله في الأرض ، وأن تقضي عليها . .
وطبيعة المنهج الحركي الإسلامي أن يقابل هذا الواقع البشري بحركة مكافئة له ومتفوقة عليه ، في مراحل متعددة ذات وسائل متجددة .

. والأحكام المرحلية والأحكام النهائية في العلاقات بين المجتمع المسلم والمجتمعات الجاهلية تمثل هذه الوسائل في تلك المراحل .
ومن أجل أن يحدد السياق القرآني في هذا المقطع من السورة طبيعة هذه العلاقات ، حدد حقيقة ما عليه أهل الكتاب؛ ونص على أنه « شرك » و « كفر » و « باطل » وقدم الوقائع التي يقوم عليها هذا الحكم ، سواء من واقع معتقدات أهل الكتاب والتوافق والتضاهي بينها وبين معتقدات { الذين كفروا من قبل } . أو من سلوكهم وتصرفهم الواقعي كذلك .
والنصوص الحاضرة تقرر :
أولاً : أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر .
ثانياً : أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله .
ثالثاً : أنهم لا يدينون دين الحق .
رابعاً : أن اليهود منهم قالت : عزير ابن الله . وأن النصارى منهم قالت : المسيح ابن الله وأنهم في هذين القولين يضاهئون قول الذين كفروا من قبل سواء من الوثنيين الإغريق ، أو الوثنيين الرومان ، أو الوثنيين الهنود ، أو الوثنيين الفراعنة ، أو غيرهم من الذين كفروا ( وسنفصل فيما بعد أن التثليث عند النصارى ، وادعاء البنوة لله منهم أو من اليهود مقتبس من الوثنيات السابقة وليس من أصل النصرانية ولا اليهودية ) .
خامساً : أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله . كما اتخذوا المسيح رباً . وأنهم بهذا خالفوا عما أمروا به من توحيد الله والدينونة له وحده ، وأنهم لهذا « مشركون »
سادساً : أنهم محاربون لدين الله يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، وأنهم لهذا « كافرون »
سابعاً : أن كثيراً من أحبارهم ورهبانهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله .
وعلى أساس هذه الأوصاف وهذا التحديد لحقيقة ما عليه أهل الكتاب ، قرر الأحكام النهائية التي تقوم عليها العلاقات بينهم وبين المؤمنين بدين الله ، القائمين على منهج الله . .
ولقد يبدو أن هذا التقرير لحقيقة ما عليه أهل الكتاب ، مفاجئ ومغاير للتقريرات القرآنية السابقة عنهم؛ كما يحلو للمستشرقين والمبشرين وتلاميذهم أن يقولوا ، زاعمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غير أقواله وأحكامه عن أهل الكتاب عندما أحس بالقوة والقدرة على منازلتهم
ولكن المراجعة الموضوعية للتقريرات القرآنية - المكية والمدنية - عن أهل الكتاب ، تظهر بجلاء أنه لم يتغير شيء في أصل نظرة الإسلام إلى عقائد أهل الكتاب التي جاء فوجدهم عليها ، وانحرافها وبطلانها؛ وشركهم وكفرهم بدين الله الصحيح - حتى بما أنزل عليهم منه وبالنصيب الذي أوتوه من قبل - أما التعديلات فهي محصورة في طريقة التعامل معهم . . وهذه - كما قلنا مراراً - تحكمها الأحوال والأوضاع الواقعية المتجددة . أما الأصل الذي تقوم عليه - وهو حقيقة ما عليه أهل الكتاب - فهو ثابت منذ اليوم الأول في حكم الله عليهم .
ونضرب هنا بعض الأمثلة من التقريرات القرآنية عن أهل الكتاب وحقيقة ما هم عليه .

. ثم تستعرض مواقفهم الواقعية من الإسلام وأهله ، تلك المواقف التي انتهت إلى هذه الأحكام النهائية في التعامل معهم :
في مكة لم تكن توجد جاليات يهودية أو نصرانية ذات عدد أو وزن في المجتمع . . إنما كان هناك أفراد ، يحكي القرآن عنهم أنهم استقبلوا الدعوة الجديدة إلى الإسلام بالفرح والتصديق والقبول؛ ودخلوا في الإسلام ، وشهدوا له ولرسوله بأنه الحق المصدق لما بين أيديهم . . ولا بد أن يكون هؤلاء ممن كان قد بقي على التوحيد من النصارى واليهود؛ وممن كان معهم شيء من بقايا الكتب المنزلة . . وفي أمثال هؤلاء وردت مثل هذه الآيات :
{ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون . وإذا يتلى عليهم قالوا : آمنا به ، إنه الحق من ربنا ، إنا كنا من قبله مسلمين } [ القصص : 52 - 53 ]
{ قل : آمنوا به أو لا تؤمنوا ، إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ، ويقولون : سبحان ربنا ، إن كان وعد ربنا لمفعولاً . ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً } [ الإسراء : 107-109 ] { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به ، وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ، فآمن واستكبرتم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [ الأحقاف : 10 ] .
{ وكذلك أنزلنا إليك الكتاب ، فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ، ومن هؤلاء من يؤمن به ، وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون } [ العنكبوت : 47 ] .
{ أفغير الله أبتغى حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ، فلا تكونن من الممترين } [ الأنعام : 114 ] .
{ والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ، ومن الأحزاب من ينكر بعضه . قل : إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به ، إليه أدعوا وإليه مآب } [ الرعد : 36 ] .
وقد تكررت هذه الاستجابة من أفراد كذلك في المدينة؛ حكى عنهم القرآن بعض المواقف في السور المدنية؛ مع النص في بعضها على أنهم من النصارى ، ذلك أن اليهود كانوا قد اتخذوا موقفاً آخر غير ما كان يتخذه أفراد منهم في مكة ، عندما أحسوا خطر الإسلام في المدينة :
{ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ، خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ، أولئك لهم أجرهم عند ربهم ، إن الله سريع الحساب } [ آل عمران : 199 ] .
{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى . ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً ، وأنهم لا يستكبرون . وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ، يقولون : ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين؟ فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، وذلك جزاء المحسنين }

[ المائدة : 82 - 85 ] .
ولكن موقف هؤلاء الأفراد لم يكن يمثل موقف الغالبية من أهل الكتاب في الجزيرة - ومن اليهود منهم بصفة خاصة - فقد جعل هؤلاء يشنون على الإسلام ، منذ أن أحسوا خطره عليهم في المدينة ، حرباً خبيثة ، يستخدمون فيها كل الوسائل التي حكاها القرآن عنهم في نصوص كثيرة؛ كما أنهم في الوقت ذاته رفضوا الدخول في الإسلام طبعاً؛ وأنكروا وجحدوا ما في كتبهم من البشارة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن تصديق القرآن لما بين أيديهم من بقايا كتبهم الحقة ، مما كان أولئك الأفراد الطيبون يعترفون به ويقرونه ويجاهرون به في وجه المنكرين الجاحدين . . كذلك أخذ القرآن يتنزل بوصف هذا الجحود وتسجيله؛ وبتقرير ما عليه أهل الكتاب هؤلاء من الانحراف والفساد والبطلان في شتى السور المدنية . . على أن القرآن المكي لم يخل من تقريرات عن حقيقة ما عليه أهل الكتاب . نذكر من ذلك :
{ ولما جاء عيسى بالبينات قال : قد جئتكم بالحكمة ، ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه ، فاتقوا الله وأطيعون . إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه ، هذا صراط مستقيم ، فاختلف الأحزاب من بينهم ، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم } [ الزخرف : 63 - 65 ] .
{ وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم - بغياً بينهم } { ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } [ الشورى : 14 ] .
{ وإذ قيل لهم : اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم ، وقولوا : حطة وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين . فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم ، فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون . واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت ، إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ، كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } [ الأعراف : 161 - 163 ] .
{ وإذ تأذّن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ، إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم } [ الأعراف : 167 ] .
{ فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون : سيغفر لنا ، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه . ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ، ودرسوا ما فيه؟ والدار الآخرة خير للذين يتقون ، أفلا تعقلون؟ } [ الأعراف : 169 ] .
أما القرآن المدني فقد تضمن الكلمة الأخيرة في حقيقة ما عليه أهل الكتاب؛ كما حكى عنهم أشنع الوسائل وأبشع الطرق في حرب هذا الدين وأهله في قطاعات طويلة من سور البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، وغيرها . قبل أن يقرر الكلمة النهائية في أمرهم كله في سورة التوبة . وسنكتفي هنا بنماذج محددة من هذه التقريرات القرآنية الكثيرة .
{ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ، وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا . وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟ أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون؟ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيَّ ، وإن هم إلا يظنون . فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون : هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ، فويل لهم مما كتبت أيديهم ، وويل لهم مما يكسبون }

[ البقرة : 75 - 79 ] .
{ ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل ، وآتينا عيسى ابن مريم البينات ، وأيدناه بروح القدس ، أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ، ففريقاً كذّبتم وفريقاً تقتلون؟ وقالوا : قلوبنا غلف . بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون . ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين . بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله - بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده - فباءوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب مهين . وإذا قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله قالوا : نؤمن بما أنزل علينا ، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم . قل : فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } [ البقرة : 87 - 91 ] .
{ قل : يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله؟ والله شهيد على ما تعملون . قل : يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء؟ وما الله بغافل عما تعملون } [ آل عمران : 98 -99 ] .
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ، ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً؟ أولئك الذين لعنهم الله ، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً } { النساء : 51 - 52 ] .
{ لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم ، وقال المسيح : يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ، ومأواه النار ، وما للظالمين من أنصار . لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة ، وما من إله إلا إله واحد ، وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم . أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم . ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، وأمه صديقة ، كانا يأكلان الطعام . انظر كيف نبين لهم الآيات ، ثم انظر أنى يؤفكون } [ المائدة : 72 - 75 ] .
من مراجعة هذه النصوص القرآنية وأمثالها - وهو كثير في القرآن المكي والمدني على السواء - يتبين أن النظرة إلى حقيقة ما عليه أهل الكتاب من الانحراف عن دين الله الصحيح لم يتغير فيها شيء في التقريرات الأخيرة الواردة في السورة الأخيرة .

وأن وصمهم بالانحراف والفسوق والشرك والكفر ليس جديداً ، ولا يعبر عن اتجاه جديد فيما يختص بحقيقة الاعتقاد . . وذلك مع ملاحظة أن القرآن الكريم ظل يسجل للفريق المهتدي الصالح من أهل الكتاب هداه وصلاحه . فقال تعالى منصفاً للصالحين منهم :
{ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } { الأعراف : 159 ] .
{ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ، ذلك بأنهم قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل ، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } [ آل عمران : 75 ] .
{ ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس ، وباءوا بغضب من الله ، وضربت عليهم المسكنة ، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . ليسوا سواء : من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ، يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات ، وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه؛ والله عليم بالمتقين } [ آل عمران : 112 - 115 ] .
أما الذي وقع فيه التعديل فعلاً فهو أحكام التعامل مع أهل الكتاب . فترة بعد فترة . ومرحلة بعد مرحلة . وواقعة بعد واقعة . وفق المنهج الحركي الواقعي لهذا الدين في مواجهة أحوال أهل الكتاب وتصرفاتهم ومواقفهم مع المسلمين .
ولقد جاء زمان كان يقال فيه للمسلمين :
{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن - إلا الذين ظلموا منهم - وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون } [ العنكبوت : 46 ] .
{ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل ، وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم ، لا نفرق بين أحد منهم ، ونحن له مسلمون . فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ، وإن تولوا فإنما هم في شقاق ، فسيكفيكهم الله ، وهو السميع العليم } [ البقرة : 136 - 137 ] .
{ قل : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم : ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله . فإن تولوا فقولوا : اشهدوا بأنا مسلمون } [ آل عمران : 64 ] .
{ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ، فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ، إن الله على كل شيء قدير } [ البقرة : 109 ] .
ثم أتى الله بأمره الذي وكل المؤمنين إليه؛ فوقعت أحداث ، وتعدلت أحكام ، وجرى المنهج الحركي الواقعي الإيجابي في طريقه حتى كانت هذه الأحكام النهائية الأخيرة ، في هذه السورة ، على النحو الذي رأينا . .
إنه لم يتغير شيء في نظرة هذا الدين إلى حقيقة ما عليه أهل الكتاب من فساد العقيدة؛ ومن الشرك بالله والكفر بآياته .

. إنما الذي تغير هو قاعدة التعامل . . وهذه إنما تحكمها تلك الأصول التي أسلفنا الحديث عنها في مطلع هذا الفصل التمهيدي لهذا المقطع من سياق السورة ، في هذه الفقرات :
« وهذا التعديل الأخير في قواعد التعامل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب لا يفهم على طبيعته ، إلا بالفقه المستنير لطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية من ناحية . ثم لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي ومراحله المتعددة ، ووسائله المتجددة ، المكافئة للواقع البشري المتغير ، من الناحية الأخرى . . . الخ » .
والآن نأخذ في شيء من استعراض طبيعة الموقف بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم سواء من الناحية الموضوعية الثابتة ، أو من ناحية المواقف التاريخية الواقعة . . . فهذه هي العناصر الرئيسية التي انتهت إلى هذه الأحكام النهائية .
إن طبيعة الموقف بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم يجب البحث عنها أولاً : في تقريرات الله - سبحانه - عنها ، باعتبار أن هذه هي الحقيقة النهائية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ وباعتبار أن هذه التقريرات - بسبب كونها ربانية - لا تتعرض لمثل ما تتعرض له الاستنباطات والاستدلالات البشرية من الأخطاء . . وثانياً : في المواقف التاريخية المصدقة لتقريرات الله سبحانه
إن الله سبحانه يقرر طبيعة موقف أهل الكتاب من المسلمين في عدة مواضع من كتابه الكريم . . وهو تارة يتحدث عنهم - سبحانه - وحدهم ، وتارة يتحدث عنهم مع الذين كفروا من المشركين؛ باعتبار أَن هنالك وحدة هدف - تجاه الإسلام والمسلمين - تجمع الذين كفروا من أهل الكتاب والذين كفروا من المشركين . وتارة يتحدث عن مواقف واقعية لهم تكشف عن وحدة الهدف ووحدة التجمع الحركي لمواجهة الإسلام والمسلمين . . والنصوص التي تقرر هذه الحقائق من الوضوح والجزم بحيث لا يحتاج منا إلى تعليق . . وهذه نماذج منها . .
{ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم } [ البقرة : 105 ] .
{ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم ، من بعد ما تبين لهم الحق } { البقرة : 109 ] .
{ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } [ البقرة : 120 ] .
{ ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم } [ آل عمران : 69 ] .
{ وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } [ آل عمران : 72 - 73 ] .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } [ آل عمران : 100 ] .
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل ، والله أعلم بأعدائكم . . . } [ النساء : 44 - 45 ] .
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ، ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً }

[ النساء : 51 ] .
وفي هذه النماذج وحدها ما يكفي لتقرير حقيقة موقف أهل الكتاب من المسلمين . . . فهم يودون لو يرجع المسلمون كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق . وهم يحددون موقفهم النهائي من المسلمين بالإصرار على أن يكونوا يهوداً أو نصارى ، ولا يرضون عنهم ولا يسالمونهم إلا أن يتحقق هذا الهدف ، فيترك المسلمون عقيدتهم نهائياً . وهم يشهدون للمشركين الوثنيين بأنهم أهدى سبيلاً من المسلمين . . . الخ .
وإذا نحن راجعنا الأهداف النهائية للمشركين تجاه الإسلام والمسلمين كما يقررها الله - سبحانه - في قوله تعالى :
{ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } [ البقرة : 217 ] .
{ ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } [ النساء : 102 ] .
{ إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون } [ الممتحنة : 2 ] .
{ وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إِلاًّ ولا ذمة } [ التوبة : 8 ] .
{ لا يرقبون في مؤمن إِلاًّ ولا ذمة } [ التوبة : 10 ] .
إذا نحن راجعنا هذه التقريرات الربانية عن المشركين ، وجدنا أن الأهداف النهائية لهم تجاه الإسلام والمسلمين ، هي بعينها - وتكاد تكون بألفاظها - هي الأهداف النهائية لأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين كذلك . . مما يجعل طبيعة موقفهم مع الإسلام والمسلمين هي ذاتها طبيعة موقف المشركين .
وإذا نحن لاحظنا أن التقريرات القرآنية الواردة في هؤلاء وهؤلاء ترد في صيغ نهائية ، تدل بصياغتها على تقرير طبيعة دائمة ، لا على وصف حالة مؤقتة ، كقوله تعالى في شأن المشركين :
{ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا }
وقوله تعالى في شأن أهل الكتاب :
{ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم }
إذا نحن لاحظنا ذلك تبين لنا بغير حاجة إلى أي تأويل للنصوص ، أنها تقرر طبيعة أصيلة دائمة للعلاقات؛ ولا تصف حالة مؤقتة ولا عارضة
فإذا نحن ألقينا نظرة سريعة على الواقع التاريخي لهذه العلاقات ، متمثلة في مواقف أهل الكتاب - من اليهود والنصارى - من الإسلام وأهله ، على مدار التاريخ ، تبين لنا تماماً ماذا تعنيه تلك النصوص والتقريرات الإلهية الصادقة؛ وتقرر لدينا أنها كانت تقرر طبيعة مطردة ثابتة ، ولم تكن تصف حالة مؤقتة عارضة .
إننا إذا استثنينا حالات فردية - أو حالات جماعات قليلة - من التي تحدث القرآن عنها وحواها الواقع التاريخي بدت فيها الموادة للإسلام والمسلمين؛ والاقتناع بصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدق هذا الدين . ثم الدخول فيه والانضمام لجماعة المسلمين . . وهي الحالات التي أشرنا إليها فيما تقدم . . فإننا لا نجد وراء هذه الحالات الفردية أو الجماعية القليلة المحدودة ، إلا تاريخاً من العداء العنيد ، والكيد الناصب ، والحرب الدائبة ، التي لم تفتر على مدار التاريخ .
فأما اليهود فقد تحدثت شتى سور القرآن عن مواقفهم وأفاعيلهم وكيدهم ومكرهم وحربهم؛ وقد وعى التاريخ من ذلك كله ما لم ينقطع لحظة واحدة منذ اليوم الأول الذي واجههم الإسلام في المدينة حتى اللحظة الحاضرة
وليست هذه الظلال مجالاً لعرض هذا التاريخ الطويل .

ولكننا سنشير فقط إلى قليل من كثير من تلك الحرب المسعورة التي شنها اليهود على الإسلام وأهله على مدار التاريخ . .
لقد استقبل اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودينه في المدينة شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولاً يعرفون صدقه ، وديناً يعرفون أنه الحق . .
استقبلوه بالدسائس والأكاذيب والشبهات والفتن يلقونها في الصف المسلم في المدينة بكافة الطرق الملتوية الماكرة التي يتقنها اليهود . . شككوا في رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يعرفونه؛ واحتضنوا المنافقين وأمدوهم بالشبهات التي ينشرونها في الجو وبالتهم والأكاذيب . وما فعلوه في حادث تحويل القبلة ، وما فعلوه في حادث الإفك ، وما فعلوه في كل مناسبة ، ليس إلا نماذج من هذا الكيد اللئيم . . وفي مثل هذه الأفاعيل كان يتنزل القرآن الكريم . وسور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والحشر والأحزاب والتوبة وغيرها تضمنت من هذا الكثير :
{ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم - وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا - فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين ، بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله - بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده - فباءوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب مهين } [ البقرة : 89 - 90 ] .
{ ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون } [ البقرة : 101 ] .
{ سيقول السفهاء من الناس : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها . قل : لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ البقرة : 142 ] .
{ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون . يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟ } [ آل عمران : 70 - 71 ] .
{ وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون } [ آل عمران : 72 ] .
{ وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ، ويقولون هو من عند الله ، وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } [ آل عمران : 78 ] .
{ قل : يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون؟ قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون } [ آل عمران : 98 - 99 ] .
{ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ، فقالوا : أرنا الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة بظلمهم؛ ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات . . . }

[ النساء : 153 ] .
{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } . . . [ التوبة : 32 ] .
كذلك شهد التاريخ نقض اليهود لعهودهم مرة بعد مرة وتحرشهم بالمسلمين ، مما أدى إلى وقائع بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر . كما شهد تأليب اليهود للمشركين في الأحزاب ، مما هو معروف مشهور .
ثم تابع اليهود كيدهم للإسلام وأهله منذ ذلك التاريخ . . كانوا عناصر أساسية في إثارة الفتنة الكبرى التي قتل فيها الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وانتثر بعدها شمل التجمع الإسلامي إلى حد كبير . .
وكانوا رأس الفتنة فيما وقع بعد ذلك بين علي - رضي الله عنه - ومعاوية . . وقادوا حملة الوضع في الحديث والسيرة وروايات التفسير . . وكانوا من الممهدين لحملة التتار على بغداد وتقويض الخلافة الإسلامية . . .
فأما في التاريخ الحديث فهم وراء كل كارثة حلت بالمسلمين في كل مكان على وجه الأرض؛ وهم وراء كل محاولة لسحق طلائع البعث الإسلامي؛ وهم حماة كل وضع من الأوضاع التي تتولى هذه المحاولة في كل أرجاء العالم الإسلامي
ذلك شأن اليهود ، فأما شأن الفريق الآخر من أهل الكتاب ، فهو لا يقل إصراراً على العداوة والحرب من شأن اليهود
لقد كانت بين الرومان والفرس عداوات عمرها قرون . . ولكن ما إن ظهر الإسلام في الجزيرة؛ وأحست الكنيسة بخطورة هذا الدين الحق على ما صنعته هي بأيديها وسمته « المسيحية » وهو ركام من الوثنيات القديمة ، والأضاليل الكنسية ، متلبساً ببقايا من كلمات المسيح - عليه السلام - وتاريخه . . حتى رأينا الرومان والفرس ينسون ما بينهم من نزاعات تاريخيه قديمة وعداوات وثارات عميقة ، ليواجهوا هذا الدين الجديد .
ولقد أخذ الروم يتجمعون في الشمال هم وعمالهم من الغساسنة لينقضوا على هذا الدين . وذلك بعد أن قتلوا الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عامل بصرى من قبل الروم - وكان المسلمون يؤمنون الرسل ولكن النصارى غدروا برسول النبي صلى الله عليه وسلم وقتلوه - مما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث بجيش الأمراء الشهداء الثلاثة : زيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن رواحة في غزوة « مؤتة » فوجدوا تجمعاً للروم تقول الروايات عنه : إنه مائة ألف من الروم ومعه من عملائهم في الشام من القبائل العربية النصرانية مائة ألف أخرى؛ وكان جيش المسلمين لا يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل . وكان ذلك في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة .
ثم كانت غزوة تبوك التي يدور عليها معظم هذه السورة ( وسيجيء تفصيل القول فيها في موضعه إن شاء الله تعالى ) .

ثم كان جيش أسامة بن زيد الذي أعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبيل وفاته؛ ثم أنفذه الخليفة الراشد أبو بكر - رضي الله عنه - إلى أطراف الشام؛ لمواجهة تلك التجمعات الرومانية التي تستهدف القضاء على هذا الدين
ثم اشتعل مرجل الحقد الصليبي منذ موقعة اليرموك الظافرة ، التي أعقبها انطلاق الإسلام لتحرير المستعمرات الإمبراطورية الرومانية في الشام ومصر وشمال إفريقية وجزر البحر الأبيض . ثم بناء القاعدة الإسلامية الوطيدة في الأندلس في النهاية .
إن « الحروب الصليبية » المعروفة بهذا الاسم في التاريخ ، لم تكن هي وحدها التي شنتها الكنيسة على الإسلام ، لقد كانت هذه الحروب مبكرة قبل هذا الموعد بكثير . . لقد بدأت في الحقيقة منذ ذلك التاريخ البعيد . . منذ أن نسي الرومان عداواتهم مع الفرس؛ وأخذ النصارى يعينون الفرس ضد الإسلام في جنوب الجزيرة . ثم بعد ذلك في « مؤتة » . ثم فيما تلا موقعة اليرموك الظافرة . . ثم تجلت ضراوتها ووحشيتها في الأندلس عندما زحفت الصليبية على القاعدة الإسلامية في أوربة ، وارتكبت من الوحشية في تعذيب ملايين المسلمين وقتلهم هناك ما لم يعرف التاريخ له نظيراً من قبل . . وكذلك تجلت في الحروب الصليبية في الشرق بمثل هذه البشاعة التي لا تتحرج ولا تتذمم؛ ولا تراعي في المسلمين إِلاًّ ولا ذمة .
ومما جاء في كتاب « حضارة العرب » لجوستاف لوبون - وهو فرنسي مسيحي - :
« كان أول ما بدأ به ريكاردوس الإنجليزي أنه قتل أمام معسكر المسلمين ، ثلاث آلاف أسير سلموا أنفسهم إليه ، بعد أن قطع على نفسه العهد بحقن دمائهم . ثم أطلق لنفسه العنان باقتراف القتل والسلب ، مما أثار صلاح الدين الأيوبي النبيل ، الذي رحم نصارى القدس ، فلم يمسهم بأذى ، والذي أمد فيليب وقلب الأسد بالمرطبات والأدوية والأزواد ، أثناء مرضهما » .
كذلك كتب كاتب مسيحي آخر ( اسمه يورجا ) يقول :
« ابتدأ الصليبيون سيرهم على بيت المقدس بأسوأ طالع ، فكان فريق من الحجاج يسفكون الدماء في القصور التي استولوا عليها . وقد أسرفوا في القسوة فكانوا يبقرون البطون . ويبحثون عن الدنانير في الأمعاء أما صلاح الدين ، فلما استرد بيت المقدس بذل الأمان للصليبيين ، ووفى لهم بجميع عهوده ، وجاد المسلمون على أعدائهم ووطأوهم مهاد رأفتهم ، حتى أن الملك العادل ، شقيق السلطان ، أطلق ألف رقيق من الأسرى ، ومنّ على جميع الأرمن ، وأذن للبطريرك بحمل الصليب وزينة الكنيسة ، وأبيح للأميرات والملكة بزيارة أزواجهن » .
ولا يتسع المجال في الظلال لاستعراض ذلك الخط الطويل للحروب الصليبية - على مدار التاريخ - ولكن يكفي أن نقول : إن هذه الحرب لم تضع أوزارها قط من جانب الصليبية . ويكفي أن نذكر ماذا حدث في زنجبار حديثاً . حيث أبيد المسلمون فيها عن بكرة أبيهم ، فقتل منهم اثنا عشر ألفاً وألقي الأربعة الآلاف الباقون في البحر منفيين من الجزيرة ويكفي أن نذكر ماذا وقع في قبرص ، حيث منع الطعام والماء عن الجهات التي يقطنها بقايا المسلمين هناك ليموتوا جوعاً وعطشاً ، فوق ما سلط عليهم من التقتيل والتذبيح والتشريد ويكفي أن نذكر ما تزاوله الحبشة في اريترية وفي قلب الحبشة ، وما تزاوله كينيا مع المائة ألف مسلم الذين ينتمون إلى أصل صومالي ، ويريدون أن ينضموا إلى قومهم المسلمين في الصومال ويكفي أن نعلم ماذا تحاوله الصليبية في السودان الجنوبي
ويكفي لتصوير نظرة الصليبيين إلى الإسلام أن ننقل فقرة من كتاب لمؤلف أوربي صدر سنة 1944 يقول فيه؟
« لقد كنا نخوّف بشعوب مختلفة ، ولكننا بعد اختبار ، لم نجد مبرراً لمثل هذا الخوف .

. لقد كنا نخوّف من قبل بالخطر اليهودي ، والخطر الأصفر ، وبالخطر البلشفي . إلا أن هذا التخويف كله لم يتفق كما تخيلناه . إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا ، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا ، أما الشعوب الصفراء فهنالك دول ديمقراطية كبرى تقاومها . ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام ، وفي قوته على التوسع والإخضاع ، وفي حيويته . . إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي « .
ولا نستطيع أن نمضي أبعد من ذلك في استعراض تاريخ تلك الحرب العاتية التي أعلنتها الصليبية على الإسلام وما تزال . . وقد تحدثنا من قبل مراراً في أجزاء الظلال السابقة - بمناسبة النصوص القرآنية الكثيرة - عن طبيعة هذه المعركة ، الطويلة ، ومسائلها وأشكالها . فحسبنا هذه الإشارات السريعة هنا بالإحالة على بعض المراجع الأخرى القريبة .
وهكذا نرى من هذا الاستعراض السريع - بالإضافة إلى ما قلناه من قبل عن طبيعة الإعلان الإسلامي العام بتحرير الإنسان . وتحفز الجاهلية في الأرض كلها لسحق الحركة التي تحمل هذا الإعلان العام وتنطلق به في الأرض كلها - أن هذه الأحكام الأخيرة الواردة في هذه السورة ، هي المتقضى الطبيعي لهذه الحقائق كلها مجتمعة؛ وأنها ليست أحكاماً محددة بزمان ، ولا مقيدة بحالة . وإن كان هذا في الوقت ذاته لا ينسخ الأحكام المرحلية السابقة النسخ الشرعي الذي يمنع العمل بها في الظروف والملابسات التي تشابه الظروف والملابسات التي تنزلت فيها . فهناك دائماً طبيعة المنهج الإسلامي الحركية ، التي تواجه الواقع البشري مواجهة واقعية ، بوسائل متجددة ، في المراحل المتعددة .
وحقيقة أن هذه الأحكام النهائية الواردة في هذه السورة كانت تواجه حالة بعينها في الجزيرة؛ وكانت تمهيداً تشريعياً للحركة المتمثلة في غزوة تبوك ، لمواجهة تجمع الروم على أطراف الجزيرة مع عمالهم للانقضاض على الإسلام وأهله - وهي الغزوة التي يقوم عليها محور السورة - ولكن وضع أهل الكتاب تجاه الإسلام وأهله لم يكن وليد مرحلة تاريخية معينة .

إنما كان وليد حقيقة دائمة مستقرة؛ كما أن حربهم للإسلام والمسلمين لم تكن وليدة فترة تاريخية معينة . فهي ما تزال معلنة ولن تزال . . إلا أن يرتد المسلمون عن دينهم تماماً . . وهي معلنة بضراوة وإصرار وعناد ، بشتى الوسائل على مدار التاريخ ومن ثم فهذه الأحكام الواردة في هذه السورة أحكام أصيلة وشاملة وغير موقوتة بزمان ولا مقيدة بمكان . . ولكن العمل بالأحكام إنما يتم في إطار المنهج الحركي الإسلامي ، الذي يجب أن يتم الفقه به ، قبل أن يتحدث المتحدثون عن الأحكام في ذاتها . وقبل أن يحمل واقع ذراري المسلمين - الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - وضعفهم وانكسارهم على دين الله القوي المتين
إن الأحكام الفقهية في الإسلام كانت - وستظل دائماً - وليدة الحركة وفق المنهج الإسلامي . والنصوص لا يمكن فهمها إلا باستصحاب هذه الحقيقة . . وفرق بعيد بين النظرة إلى النصوص كأنها قوالب في فراغ؛ والنصوص في صورتها الحركية وفق المنهج الإسلامي . ولا بد من هذا القيد : « الحركة وفق المنهج الإسلامي » فليست هي الحركة المطلقة خارج المنهج؛ بحيث نعتبر « الواقع البشري » هو الأصل أياً كانت الحركة التي أنشأته ، ولكن « الواقع البشري » يصبح عنصراً أساسياً في فقه الأحكام إذا كان قد أنشأه المنهج الإسلامي ذاته .
وفي ظل هذه القاعدة تسهل رؤية تلك الأحكام النهائية في العلاقات بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم؛ وهي تتحرك الحركة الحية؛ في مجالها الواقعي؛ وفق ذلك المنهج الحركي الواقعي الإيجابي الشامل .
وحسبنا هذا التمهيد المجمل لنواجه في ظله النصوص القرآنية الواردة في هذا المقطع :
{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } . .
هذه الآية - والآيات التالية لها في السياق - كانت تمهيداً لغزوة تبوك؛ ومواجهة الروم وعمالهم من الغساسنة المسيحيين العرب . . وذلك يلهم أن الأوصاف الواردة فيها هي صفات قائمة بالقوم الموجهة إليهم الغزوة؛ وأنها إثبات حالة واقعة بصفاتها القائمة . وهذا ما يلهمه السياق القرآني في مثل هذه المواضع . . فهذه الصفات القائمة لم تذكر هنا على أنها شروط لقتال أهل الكتاب؛ إنما ذكرت على أنها أمور واقعة في عقيدة هؤلاء الأقوام وواقعهم؛ وأنها مبررات ودوافع للأمر بقتالهم . ومثلهم في هذا الحكم كل من تكون عقيدته وواقعه كعقيدتهم وواقعهم . .
وقد حدد السياق من هذه الصفات القائمة :
أولاً : أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر .
ثانياً : أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله .
ثالثاً : أنهم لا يدينون دين الحق .
ثم بين في الآيات التالية كيف أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق .

وذلك بأنهم :
أولاً : قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله؛ وأن هذا القول يضاهئ قول الذين كفروا من قبلهم من الوثنيين . فهم مثلهم في هذا الاعتقاد الذي لا يعد صاحبه مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر . ( وسنبين بالضبط كيف أنه لا يؤمن باليوم الآخر ) .
ثانياً : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، والمسيح ابن مريم . وأن هذا مخالف لدين الحق . . وهو الدينونة لله وحده بلا شركاء . . فهم بهذا مشركون لا يدينون دين الحق . .
ثالثاً : يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم . فهم محاربون لدين الله . ولا يحارب دين الله مؤمن بالله واليوم الآخر يدين دين الحق أبداً .
رابعاً : يأكل كثير من أحبارهم ورهبانهم أموال الناس بالباطل . فهم إذن لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ( سواء كان المقصود برسوله رسولهم أو محمد صلى الله عليه وسلم ) :
وهذه الصفات كلها كانت واقعة بالقياس إلى نصارى الشام والروم . كما أنها واقعة بالقياس إلى غيرهم منذ أن حرفت المجامع المقدسة دين المسيح عليه السلام؛ وقالت ببنوة عيسى عليه السلام ، وبتثليث الأقانيم - على كل ما بين المذاهب والفرق من خلاف يلتقي كله على التثليث - على مدار التاريخ حتى الآن
وإذن فهو أمر عام ، يقرر قاعدة مطلقة في التعامل مع أهل الكتاب ، الذين تنطبق عليهم هذه الصفات التي كانت قائمة في نصارى العرب ونصارى الروم . . ولا يمنع من هذا العموم أن الأوامر النبوية استثنت أفراداً وطوائف بأعيانها لتترك بلا قتال كالأطفال والنساء والشيوخ والعجزة والرهبان الذين حبسوا انفسهم في الأديرة . . . بوصفهم غير محاربين - فقد منع الإسلام أن يقاتل غير المحاربين من أية ملة - وهؤلاء لم تستثنهم الأوامر النبوية لأنهم لم يقع منهم اعتداء بالفعل على المسلمين . ولكن لأنه ليس من شأنهم أصلاً أن يقع منهم الاعتداء . فلا محل لتقييد هذا الأمر العام بأن المقصود به هم الذين وقع منهم اعتداء فعلاً - كما يقول المهزومون الذين يحاولون أن يدفعوا عن الإسلام الاتهام - فالاعتداء قائم ابتداء . الاعتداء على ألوهية الله والاعتداء على العباد بتعبيدهم لغير الله والإسلام حين ينطلق للدفاع عن ألوهية الله - سبحانه - والدفاع عن كرامة الإنسان في الأرض ، لا بد أن تواجهه الجاهلية بالمقاومة والحرب والعداء . . ولا مفر من مواجهة طبائع الأشياء
إن هذه الآية تأمر المسلمين بقتال أهل الكتاب { الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } . . والذي يقول ببنوة عزير لله أو بنوة المسيح لله لا يمكن أن يقال عنه : إنه يؤمن بالله . وكذلك الذي يقول : إن الله هو المسيح ابن مريم . أو إن الله ثالث ثلاثة . أن إن الله تجسد في المسيح . . . إلى آخر التصورات الكنسية التي صاغتها المجامع المقدسة على كل ما بينها من خلاف .

. والذين يقولون : إنهم لن يدخلوا النار إلا أياماً معدودات مهما ارتكبوا من آثام بسبب أنهم أبناء الله وأحباؤه وشعب الله المختار ، والذين يقولون : إن كل معصية تغفر بالاتحاد بالمسيح وتناول العشاء المقدس؛ وأنه لا مغفرة إلا عن هذا الطريق هؤلاء وهؤلاء لا يقال : إنهم يؤمنون باليوم الآخر . .
وهذه الآية تصف أهل الكتاب هؤلاء بأنهم { لا يحرمون ما حرم الله ورسوله } . وسواء كان المقصود بكلمة { رسوله } هو رسولهم الذي أرسل إليهم ، أو هو النبي - صلى الله عليه وسلم - فالفحوى واحدة . ذلك أن الآيات التالية فسرت هذا بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل . وأكل أموال الناس بالباطل محرم في كل رسالة وعلى يد كل رسول . . وأقرب النماذج لأكل أموال الناس بالباطل هو المعاملات الربوية . وهو ما يأخذه رجال الكنيسة مقابل « صك الغفران » وهو الصد عن دين الله والوقوف في وجهه بالقوة وفتنة المؤمنين عن دينهم . وهو تعبيد العباد لغير الله وإخضاعهم لأحكام وشرائع لم ينزلها الله . . فهذا كله ينطبق عليه : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } . . وهذا كله قائم في أهل الكتاب ، كما كان قائماً يومذاك
كذلك تصفهم الآية بأنهم { لا يدينون دين الحق } . . وهذا واضح مما سبق بيانه . فليس بدين الحق أي اعتقاد بربوبية أحد مع الله . كما أنه ليس بدين الحق التعامل بشريعة غير شريعة الله ، وتلقي الأحكام من غير الله ، والدينونة لسلطان غير سلطان الله . وهذا كله قائم في أهل الكتاب ، كما كان قائماً فيهم يومذاك . .
والشرط الذي يشترطه النص للكف عن قتالهم ليس أن يسلموا . . فلا إكراه في الدين . ولكن أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . . فما حكمة هذا الشرط ، ولماذا كانت هذه هي الغاية التي ينتهي عندها القتال؟
إن أهل الكتاب بصفاتهم تلك حرب على دين الله اعتقاداً وسلوكاً؛ كما أنهم حرب على المجتمع المسلم بحكم طبيعة التعارض والتصادم الذاتيين بين منهج الله ومنهج الجاهلية الممثلة في عقيدة أهل الكتاب وواقعهم - وفق ما تصوره هذه الآيات - كما أن الواقع التاريخي قد أثبت حقيقة التعارض وطبيعة التصادم؛ وعدم إمكان التعايش بين المنهجين؛ وذلك بوقوف أهل الكتاب في وجه دين الله فعلاً ، وإعلان الحرب عليه وعلى أهله بلا هوادة خلال الفترة السابقة لنزول هذه الآية ( وخلال الفترة اللاحقة لها إلى اليوم أيضاً ) .
والإسلام - بوصفه دين الحق الوحيد القائم في الأرض - لا بد أن ينطلق لإزالة العوائق المادية من وجهه؛ ولتحرير الإنسان من الدينونة بغير دين الحق؛ على أن يدع لكل فرد حرية الاختيار ، بلا إكراه منه ولا من تلك العوائق المادية كذلك .
وإذن فإن الوسيلة العملية لضمان إزالة العوائق المادية ، وعدم الإكراه على اعتناق الإسلام في الوقت نفسه ، هي كسر شوكة السلطات القائمة على غير دين الحق؛ حتى تستسلم؛ وتعلن استسلامها بقبول إعطاء الجزية فعلاً .

وعندئذ تتم عملية التحرير فعلاً ، بضمان الحرية لكل فرد أن يختار دين الحق عن اقتناع . فإن لم يقتنع بقي على عقيدته ، وأعطى الجزية . لتحقيق عدة أهداف :
أولها : أن يعلن بإعطائها استسلامه وعدم مقاومته بالقوة المادية للدعوة إلى دين الله الحق .
وثانيها : أن يساهم في نفقات الدفاع عن نفسه وماله وعرضه وحرماته التي يكفلها الإسلام لأهل الذمة ( الذين يؤدون الجزية فيصبحون في ذمة المسلمين وضمانتهم ) ويدفع عنها من يريد الاعتداء عليها من الداخل أو من الخارج بالمجاهدين من المسلمين .
وثالثها : المساهمة في بيت مال المسلمين الذي يضمن الكفالة والإعاشة لكل عاجز عن العمل ، بما في ذلك أهل الذمة ، بلا تفرقة بينهم وبين المسلمين دافعي الزكاة .
ولا نحب أن نستطرد هنا إلى الخلافات الفقهية حول من تؤخذ منهم الجزية ومن لا تؤخذ منهم . ولا عن مقادير هذه الجزية . ولا عن طرق ربطها ومواضع هذا الربط . . ذلك أن هذه القضية برمتها ليست معروضة علينا اليوم ، كما كانت معروضة علىعهود الفقهاء الذين أفتوا فيها واجتهدوا رأيهم في وقتها .
إنها قضية تعتبر اليوم « تاريخية » وليست « واقعية » . . إن المسلمين اليوم لا يجاهدون . . ذلك أن المسلمين اليوم لا يوجدون . . إن قضية « وجود » الإسلام ووجود المسلمين هي التي تحتاج اليوم إلى علاج
والمنهج الإسلامي - كما قلنا من قبل مراراً - منهج واقعي جاد؛ يأبى أن يناقش القضايا المعلقة في الفضاء؛ ويرفض أن يتحول إلى مباحث فقهية لا تطبق في عالم الواقع - لأن الواقع لا يضم مجتمعاً مسلماً تحكمه شريعة الله ، ويصرّف حياته الفقه الإسلامي - ويحتقر الذين يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بمثل هذه المباحث في أقضية لا وجود لها بالفعل؛ ويسميهم « الأرأيتيين » الذين يقولون : « أرأيت لو أن كذا وقع فما هو الحكم؟ » .
إن نقطة البدء الآن هي نقطة البدء في أول عهد الناس برسالة الإسلام . . أن يوجد في بقعة من الأرض ناس يدينون دين الحق؛ فيشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . . ومن ثم يدينون لله وحده بالحاكمية والسلطان والتشريع؛ ويطبقون هذا في واقع الحياة . . ثم يحاولون أن ينطلقوا في الأرض بهذا الإعلان العام لتحرير الإنسان . . ويومئذ - ويومئذ فقط - سيكون هناك مجال لتطبيق النصوص القرآنية والأحكام الإسلامية في مجال العلاقات بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات . . ويومئذ - ويومئذ فقط - يجوز الدخول في تلك المباحث الفقهية ، والاشتغال بصياغة الأحكام ، والتقنين للحالات الواقعة التي يواجهها الإسلام بالفعل ، لا في عالم النظريات
وإذا كنا قد تعرضنا لتفسير هذه الآية - من ناحية الأصل والمبدأ - فإنما فعلنا هذا لأنها تتعلق بمسألة اعتقادية وترتبط بطبيعة المنهج الإسلامي .

وعند هذا الحد نقف ، فلا نتطرق وراءه إلى المباحث الفقهية الفرعية احتراماً لجدية المنهج الإسلامي وواقعيته وترفعه على هذا الهزال
{ وقالت اليهود : عزير ابن الله؛ وقالت النصارى : المسيح ابن الله . ذلك قولهم بأفواههم ، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل . قاتلهم الله أنى يؤفكون؟ } . .
لما أمر الله المسلمين بقتال أهل الكتاب { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } . . كانت هنالك ملابسات في واقع المجتمع المسلم في المدينة - تحدثنا عنها في تقديم السورة وتقديم المقطع الأول منها - تدعو إلى توكيد هذا الأمر وتقويته؛ وجلاء الأسباب والعوامل التي تحتمه؛ وإزالة الشبهات والمعوقات التي تحيك في بعض النفوس تجاهه . وبخاصة أن طاعة هذا الأمر كانت تقتضي مواجهة الروم في أطراف الشام . والروم كانوا مرهوبين من العرب قبل الإسلام؛ وكانوا مسيطرين على شمال الجزيرة لفترة طويلة؛ ولهم أعوان من القبائل العربية ، وسلطنة خاضعة لنفوذهم هي سلطنة الغساسنة . . وحقيقة أن هذه لم تكن أول ملحمة يخوضها المسلمون مع الروم ، بعد أن أعز الله أولئك العرب بالإسلام ، وجعل منهم أمة تواجه الروم والفرس بعد أن كانوا قبائل لا تجرؤ ولا تفكر في الالتحام بالروم والفرس؛ وكل ما عرف عنها من شجاعة إنما يتبدى في قتال بعضها لبعض ، وفي الغارات والثارات والنهب والسلب ولكن مهابة الروم كانت ما تزال باقية في أعماق النفوس - وبخاصة تلك التي لم يتم انطباعها بالطابع الإسلامي الأصيل - وكانت آخر ملحمة كبيرة بين المسلمين والروم - وهي غزوة مؤتة - ليست في صالح المسلمين . وقد احتشد فيها من الروم وعملائهم من نصارى العرب ما روي أنه مائتا ألف
كل هذه الملابسات - سواء ما يتعلق منها بتركيب المجتمع المسلم في هذه الفترة؛ أو ما يختص برواسب المهابة للروم والتخوف من الالتحام معهم؛ مضافاً إليها ظروف الغزوة ذاتها - وقد سميت غزوة العسرة لما سنبينه من الظروف التي أحاطت بها - وفوق ذلك كله شبهة أن الروم وعمالهم من نصارى العرب هم أهل كتاب . . كل هذه الملابسات دعت إلى زيادة الإيضاحات والبيانات القوية لتقرير حتمية هذا الأمر ، وإزلة الشبهات والمعوقات النفسية ، وجلاء الأسباب والعوامل لتلك الحتمية . .
وفي هذه الآية يبين السياق القرآني ضلال عقيدة أهل الكتاب هؤلاء؛ وأنها تضاهئ عقيدة المشركين من العرب ، والوثنيين من قدامى الرومان وغيرهم . وأنهم لم يستقيموا على العقيدة الصحيحة التي جاءتهم بها كتبهم؛ فلا عبرة إذن بأنهم أهل كتاب ، وهم يخالفون في الاعتقاد الأصل الذي تقوم عليه العقيدة الصحيحة في كتبهم . والذي يلفت النظر هو ذكر اليهود هنا وقولهم : عزير ابن الله؛ في حين أن الآيات كانت بصدد التوجيه والتحضير لمواجهة الروم وحلفائهم من نصارى العرب .

. وذلك - على ما نرجح - يرجع إلى أمرين :
الأول : أنه لما كان نص الآيات عاماً؛ والأمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون عاما؛ فقد اقتضى السياق بيان الأصل الاعتقادي الذي يستند إليه هذا الأمر العام في شأن أهل الكتاب عامة من اليهود والنصارى سواء .
الثاني : أن اليهود كانوا قد رحلوا من المدينة إلى أطراف الشام؛ بعدما اشتبكوا مع الإسلام والمسلمين في حرب مريرة منذ مقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة؛ انتهت بإجلاء بني قينقاع وبني النضير إلى أطراف الشام؛ هم وأفراد من بني قريظة . فكان اليهود يومئذ في طريق الانطلاق الإسلامي إلى أطراف الشام . مما اقتضى أن يشملهم ذلك الأمر ، وأن يشملهم هذا البيان .
وقول النصارى : { المسيح ابن الله } معلوم مشهور؛ وما تزال عليه عقائدهم حتى اللحظة منذ أن حرفها بولس ، ثم تم تحريفها على أيدي المجامع المقدسة - كما سنبين - فأما قول اليهود : { عزير ابن الله } فليس شائعاً ولا معروفاً اليوم . والذي في كتب اليهود المدونة الباقية سفر باسم « عزرا » - وهو عزير - نعت فيه بأنه كاتب ماهر في توارة موسى ، وأنه وجه قلبه لالتماس شريعة الرب . . ولكن حكاية هذا القول عن اليهود في القرآن دليل قاطع على أن بعضهم على الأقل - وبخاصة يهود المدينة - زعموا هذا الزعم ، وراج بينهم؛ وقد كان القرآن يواجه اليهود والنصارى مواجهة واقعية؛ ولو كان فيما يحكيه من أقوالهم ما لا وجود له بينهم لكان هذا حجة لهم على تكذيب ما يرويه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولما سكتوا عن استخدام هذا على أوسع نطاق
وقد أورد المرحوم الشيخ رشيد رضا في الجزء العاشر من تفسير المنار ( ص 378 - ص 385 ) خلاصة مفيدة عن مكانة عزرا عند اليهود وعلق عليها كذلك تعليقاً مفيداً ننقل منه هنا فقرات تفيدنا في بيان حقيقة ما عليه اليهود إجمالاً . قال :
« جاء في دائرة المعارف اليهودية ( طبعة 1903 ) أن عصر عزرا هو ربيع التاريخ الملي لليهودية الذي تفتحت فيه أزهاره وعبق شذا ورده . وأنه جدير بأن يكون هو ناشر الشريعة ( وفي الأصل عربة أو مركبة الشريعة ) لو لم يكن جاء بها موسى ( التلمود 21ب ) فقد كانت نسيت . ولكن عزرا أعادها أو أحياها . ولولا خطايا بني إسرائيل لاستطاعوا رؤية الآيات ( المعجزات ) كما رأوها في عهد موسى . . اه . . وذكر فيها أنه كتب الشريعة بالحروف الأشورية - وكان يضع علامة على الكلمات التي يشك فيها - وأن مبدأ التاريخ اليهودي يرجع إلى عهده .
وقال الدكتور جورج بوست في قاموس الكتاب المقدس : عزرا ( عون ) كاهن يهودي وكاتب شهير سكن بابل مدة » ارتحشثتا « الطويل الباع؛ وفي السنة السابعة لملكه أباح لعزرا بأن يأخذ عدداً وافراً من الشعب إلى أورشليم سنة 457 ق .

م ( عزرا ص 7 ) وكانت مدة السفر أربعة أشهر .
« ثم قال : وفي تقليد اليهود يشغل عزرا موضعاً يقابل بموضع موسى وإيليا؛ ويقولون إنه أسس المجمع الكبير ، وأنه جمع أسفار الكتاب المقدس ، وأدخل الأحرف الكلدانية عوض العبرانية القديمة ، وأنه ألف أسفار » الأيام « و » عزرا « و » نحميا « .
» ثم قال : ولغة سفر « عزرا » من ص 4 : 8 - 6 : 19 كلدانية ، وكذلك ص 7 : 1 - 27 ، وكان الشعب بعد رجوعهم من السبي يفهمون الكلدانية أكثر من العبرانية . ا ه .
« وأقول : إن المشهور عند مؤرخي الأمم ، حتى أهل الكتاب منهم ، أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام ووضعها في تابوت العهد أو بجانبه ، قد فقدت قبل عهد سليمان عليه السلام . فإنه لما فتح التابوت في عهده لم يوجد فيه غير اللوحين اللذين كتبت فيهما الوصايا العشر ، كما تراه في سفر الملوك الأول . وأن ( عزرا ) هذا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي بالحروف الكلدانية ، واللغة الكلدانية الممزوجة ببقايا اللغة العبرية التي نسي اليهود معظمها . ويقول أهل الكتاب : إن عزرا كتبها كما كانت بوحي أو بإلهام من الله . . وهذا ما لا يسلمه لهم غيرهم ، وعليه اعتراضات كثيرة مذكورة في مواضعها من الكتب الخاصة بهذا الشأن ، حتى من تآليفهم ، كذخيرة الألباب للكاثوليك - وأصله فرنسي - وقد عقد الفصلين الحادي عشر والثاني عشر لذكر بعض الاعتراضات على كون الأسفار الخمسة لموسى . ومنها قوله :
» جاء في سفر عزرا ( 4 ف 14 عدد 21 ) أن جميع الأسفار المقدسة حرقت بالنار في عهد « نبوخذ نصر » حيث قال : « إن النار أبطلت شريعتك فلم يعد سبيل لأي امرئ أن يعرف ما صنعت » ويزاد على ذلك أن عزرا أعاد بوحي الروح القدس تأليف الأسفار المقدسة التي أبادتها النار ، وعضده فيها كتبة خمسة معاصرون ، ولذلك ترى « ثرثوليانوس » والقديس « إيريناوس » والقديس « إيرونيموس » والقديس « يوحنا الذهبي » والقديس « باسيليوس » وغيرهم يدعون عزرا : مرمم الأسفار المقدسة المعروفة عند اليهود . . اه . .
إلى أن قال :
. . . « نكتفي بهذا البيان هنا ولنا فيه غرضان : ( أحدهما ) : أن جميع أهل الكتاب مدينون لعزير هذا في مستند دينهم وأصل كتبهم المقدسة عندهم . ( وثانيهما ) : أن هذا المستند واهي النسيان متداعي الأركان ، وهذا هو الذي حققه علماء أوربة الأحرار . فقد جاء في ترجمته من دائرة المعارف البريطانية بعد ذكر ما في سفره وسفر نحميا من كتابته للشريعة : أنه جاء في روايات أخرى متأخرة عنها أنه لم يعد إليهم الشريعة التي أحرقت فقط ، بل أعاد جميع الأسفار العبرية التي كانت قد أتلفت ، وأعاد سبعين سفراً غير قانونية ( أبو كريف ) ثم قال كاتب الترجمة فيها : وإذا كانت الأسطورة الخاصة بعزرا هذا قد كتبها مَن كتبها من المؤرخين بأقلامهم من تلقاء أنفسهم ، ولم يستندوا في شيء منها إلى كتاب آخر ، فكتاب هذا العصر يرون أن أسطورة عزرا قد اختلقها أولئك الرواة اختلاقاً .

. . ( انظر ص 14 ج 9 من الطبعة الرابعة عشرة سنة 1929 ) .
« وجملة القول : أن اليهود كانوا وما يزالون يقدسون عزيرا هذا حتى إن بعضهم أطلق عليه لقب » ابن الله « . ولا ندري أكان إطلاقه عليه بمعنى التكريم الذي أطلق على إسرائيل وداود وغيرهما ، أم بالمعنى الذي سيأتي قريباً عن فيلسوفهم ( فيلو ) وهو قريب من فلسفة وثنيي الهند التي هي أصل عقيدة النصارى . وقد اتفق المفسرون على أن إسناد هذا القول إليهم يراد به بعضهم لا كلهم . .
. . . » وأما الذين قالوا هذا القول من اليهود فهم بعض يهود المدينة ، كالذين قال الله فيهم : { وقالت اليهود : يد الله مغلولة ، غلت أيديهم } الآية . . والذين قال فيهم : { لقد كفر الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء } رداً على قوله تعالى : { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } ويحتمل أن يكون قد سبقهم إليه غيرهم ولم ينقل إلينا . .
« روى ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن ابن عباس ( رضي ) قال : أتى رسول الله ( ص ) سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وأبو أنس وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، وأنت لا تزعم أن عزير ابن الله؟ . . . الخ .
» ومن المعلوم أن بعض النصارى الذين قالوا : إن المسيح ابن الله كانوا من اليهود . وقد كان ( فيلو ) الفيلسوف اليهودي الإسكندري المعاصر للمسيح يقول : إن لله ابناً هو كلمته التي خلق بها الأشياء . فعلى هذا لا يبعد أن يكون بعض المتقدمين على عصر البعثة المحمدية قد قالوا : إن عزيراً ابن الله بهذا المعنى « . .
ومن هذا البيان يتضح ما وراء حكاية القرآن لقول اليهود هذا - في هذه المناسبة التي يتوخاها السياق - فهي تقرير حقيقة ما عليه فريق من أهل الكتاب من فساد الاعتقاد ، الذي لا يتفق معه أن يكونوا مؤمنين بالله ، أو أن يكونوا يدينون دين الحق . وهذه هي الصفة الأساسية التي قام عليها حكم القتال . وإن يكن القصد من القتال ليس هو إكراههم على الإسلام؛ وإنما هو كسر شوكتهم التي يقفون بها في وجه الإسلام؛ واستسلامهم لسلطانه ليتحرر الأفراد - في ظل هذا الاستسلام - من التأثر بالضغوط التي تقيد إرادتهم في اختيار دين الحق من غير إكراه من هنا أو من هناك .

أما قول النصارى « المسيح ابن الله » وأنه ثالث ثلاثة فهو - كما قلنا - شائع مشهور ، وعليه جميع مذاهبهم منذ أن حرف بولس رسالة المسيح القائمة على التوحيد كبقية الرسالات؛ ثم أتمت تحريفها المجامع المقدسة ، وقضت على أصل فكرة التوحيد قضاء نهائياً
وسنكتفي مرة أخرى بنقل ملخص جيد في عقائد النصارى عن تفسير المنار للأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا - جاء فيه بعنوان : « ثالوث : Trinite - y »
« كلمة تطلق عند النصارى على وجود ثلاثة أقانيم معاً في اللاهوت تعرف بالأب والابن والروح القدس ، وهذا التعليم هو من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية والشرقية وعموم البروتستانت إلا ما ندر ، والذين يتمسكون بهذا التعليم يذهبون إلى أنه مطابق لنصوص الكتاب المقدس ، وقد أضاف اللاهوتيون إليه شروحاً وإيضاحات اتخذوها من تعاليم المجامع القديمة وكتابات آباء الكنيسة العظام . وهي تبحث عن طريقة ولادة الأقنوم الثاني وانبثاق الأقنوم الثالث ، وما بين الأقانيم الثلاثة من النسبة ، وصفاتهم المميزة وألقابهم . ومع أن لفظة ثالوث لا توجد في الكتاب المقدس ، ولا يمكن أن يؤتى بآية من العهد القديم تصرح بتعليم الثالوث ، قد اقتبس المؤلفون المسيحيون القدماء آيات كثيرة تشير إلى وجود صورة جمعية في اللاهوت؛ ولكن إذ كانت تلك الآيات قابلة لتفاسير مختلفة كانت لا يؤتى بها كبرهان قاطع على تعليم الثالوث بل كرموز إلى الوحي الواضح الصريح الذي يعتقدون أنه مذكور في العهد الجديد . وقد اقتبس منه مجموعان كبيران من الآيات كحجج لإثبات هذا التعليم ( أحدهما ) الآيات التي ذكر فيها الأب والابن والروح القدس معاً ( والآخر ) التي ذكر فيها كل منهم على حدة والتي تحتوي على نوع أخص صفاتهم ونسبة أحدهم إلى الآخر .
» والجدال عن الأقانيم في اللاهوت ابتدأ في العصر الرسولي . وقد نشأ على الأكثر عن تعاليم الفلاسفة الهيلانيين والغنوسطيين فإن ثيوفيلوس أسقف إنطاكية في القرن الثاني استعمل كلمة « ترياس » باليونانية ، ثم كان « ترتليانوس » أول من استعمل كلمة « ترينيتاس » المرادفة لها ومعناها الثالوث ، وفي الأيام السابقة للمجمع النيقاوي حصل جدال مستمر في هذا التعليم وعلى الخصوص في الشرق؛ وحكمت الكنيسة على كثير من الآراء بأنها أراتيكية ومن جملتها آراء الأبيونيين الذين كانوا يعتقدون أن المسيح إنسان محض « والسابيليين » الذين كانوا يعقتدون أن الأب والابن والروح القدس إنما هي صور مختلفة أعلن بها الله نفسه للناس « والأريوسيين » الذين كانوا يعتقدون أن الابن ليس أزلياً كالأب بل هو مخلوق منه قبل العالم ، ولذلك هو دون الأب وخاضع له ، « والمكدونيين » الذين أنكروا كون الروح القدس أقنوما .
« وأما تعليم الكنيسة فقد قرره المجمع النيقاوي سنة 325 للميلاد ، ومجمع القسطنطينية سنة 381 وقد حكما بأن الابن والروح القدس مساويان للأب في وحدة اللاهوت ، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الأب ، وأن الروح القدس منبثق من الأب ، ومجمع طليطلة المنعقد سنة 589 حكم بأن الروح القدس منبثق من الابن أيضاً ، وقد قبلت الكنيسة اللاتينية بأسرها هذه الزيادة وتمسكت بها ، وأما الكنيسة اليونانية فمع أنها كانت في أول الأمر ساكتة لا تقاوم قد أقامت الحجة فيما بعد على تغيير القانون حاسبة ذلك بدعة .

« وعبارة ( ومن الابن أيضاً ) لا تزال من جملة الموانع الكبرى للاتحاد بين الكنيسة اليونانية والكاثوليكية ، وكتب اللوثيريين والكنائس المصلحة أثبتت تعليم الكنيسة الكاثوليكية للثالوث على ما كان عليه من دون تغيير ، ولكن قد ضاد ذلك منذ القرن الثالث عشر جمهور كبير من اللاهوتيين وعدة طوائف جديدة كالسوسينيانيين والجرمانيين والموحدين والعموميين وغيرهم حاسبين ذلك مضاداً للكتاب المقدس والعقل ، وقد أطلق » سويد تيراغ « الثالوث على أقنوم المسيح معلماً بثالوث . ولكن لا ثالوث الأقانيم بل ثالوث الأقنوم . وكان يفهم بذلك أن ما هو إلهي في طبيعة المسيح هو الأب ، وأن الإلهي الذي اتحد بناسوت المسيح هو الابن ، وأن الإلهي الذي انبثق منه هو الروح القدس ، وانتشار مذهب العقليين في الكنائس اللوثيرية والمصلحة أضعف مدة من الزمان اعتقاد الثالوث بين عدد كبير من اللاهوتيين الجرمانيين .
» وقد ذهب ( كنت ) إلى أن الأب والابن والروح القدس إنما تدل على ثلاث صفات أساسية في اللاهوت ، وهي القدرة والحكمة والمحبة ، أو على ثلاثة فواعل عليا وهي الخلق والحفظ والضبط ، وقد حاول كل من هيجين وشلنغ أن يجعلا لتعليم الثالوث أساساً تخيليا وقد اقتدى بهما اللاهوتيون الجرمانيون المتأخرون ، وحاولوا المحاماة عن تعليم الثالوث بطرق مبنية على أسس تخيلية ولاهوتية؛ وبعض اللاهوتيين الذين يعتمدون على الوحي لا يتمسكون بتعليم استقامة الرأي الكنائسية بالتدقيق كما هي مقررة في مجمعي نيقية والقسطنطينية المسكونيين ، وقد قام محامون كثيرون في الأيام المتأخرة لعضد آراء السابيليين على الخصوص « اه .
ومن هذا العرض المجمل المفيد ، يتبين أن جميع الطوائف والمذاهب المسيحية الكنسية لا تدين دين الحق ، الذي يقوم على توحيد الله سبحانه؛ وعلى أنه ليس كمثله شيء؛ وأنه لا ينبثق منه - سبحانه - أحد
وكثيراً ما ذكر » الأريوسيون « على أنهم » موحدون « وإطلاق اللفظ هكذا مضلل فالآريوسيون لا يوحدون التوحيد المفهوم من دين الله الحق ، إنما هم يخلطون فبينما هم يقررون أن المسيح ليس أزلياً كالله - وهذا حق - - يقررون في الوقت نفسه أنه ( الابن ) وأنه مخلوق من ( الأب ) قبل خلق العالم وهذا لا يعتبر من » التوحيد « الحقيقي في شيء
ولقد صدر حكم الله بالكفر الصريح على من يقولون : المسيح ابن الله .

وعلى من يقولون : المسيح هو الله . وعلى من يقولون : إن الله ثالث ثلاثة . ولا تجتمع صفة الكفر وصفة الإيمان في عقيدة ، ولا في قلب . إنما هما أمران مختلفان
والتعقيب القرآني على قول اليهود : { عزير ابن الله } . وقول النصارى : { المسيح ابن الله } يثبت أنهم في هذا يماثلون قول الذين كفروا من قبل ومعتقداتهم وتصوراتهم :
{ ذلك قولهم بأفواههم ، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل } . .
فهو أولاً يثبت أن هذا القول صادر منهم ، وليس مقولاً عنهم . ومن ثم يذكر { أفواههم } لاستحضار الصورة الحسية الواقعية - على طريقة القرآن في التصوير - إذ أنه مفهوم أن قولهم يكون بأفواههم . فهذه الزيادة ليست لغواً - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - وليست إطناباً زائداً ، إنما هي طريقة التعبير القرآنية التصويرية؛ فهي التي تستحضر « صورة » القول ، وتحيلها واقعية كأنها مسموعة مرئية وذلك فضلاً على ما تؤديه من معنى بياني آخر - إلى جانب استحياء الصورة وإثباتها - وهو أن هذا القول لا حقيقة له في عالم الواقع؛ إنما هو مجرد قول بالأفواه ، ليس وراءه موضوع ولا حقيقة
ثم نجيء إلى ناحية أخرى من الإعجاز القرآني الدال على مصدره الرباني . ذلك قول الله سبحانه :
{ يضاهئون قول الذين كفروا من قبل } . .
ولقد كان المفسرون يقولون عن هذه الآية : إن المقصود بها أن قولتهم ببنوة أحد لله ، تماثل قول المشركين العرب ببنوة الملائكة لله . . وهذا صحيح . . ولكن دلالة هذا النص القرآني أبعد مدى . ولم يتضح هذا المدى البعيد إلا حديثاً بعد دراسة عقائد الوثنيين في الهند ومصر القديمة والإغريق . مما اتضح معه أصل العقائد المحرفة عند أهل الكتاب - وبخاصة النصارى - وتسربها من هذه الوثنيات إلى تعاليم « بولس الرسول » أولاً؛ ثم إلى تعاليم المجامع المقدسة أخيراً . .
إن الثالوث المصري المؤلف من أوزوريس وإيزيس وحوريس هو قاعدة الوثنية الفرعونية . وأزوريس يمثل ( الأب ) وحوريس يمثل ( الابن ) في هذا الثالوث .
وفي علم اللاهوت الإسكندري الذي كان يدرس قبل المسيح بسنوات كثيرة « الكلمة هي الإله الثاني » ويدعى أيضاً « ابن الله البكر » .
والهنود كانوا يقولون بثلاثة أقانيم أو ثلاث حالات يتجلى فيها الإله : « برهما » في حالة الخلق والتكوين . و « فشنو » في حالة الحفظ والقوامة . و « سيفا » في حالة الإهلاك والإبادة . . وفي هذه العقيدة ، أن « فشنو » هو ( الابن ) المنبثق والمتحول عن اللاهوتية في ( برهما )
وكان الأشوريون يؤمنون بالكلمة ، ويسمونها ( مردوخ ) ويعتقدون أن مردوخ هذا هو ابن الله البكر
وكان الإغريق يقولون بالإله المثلث الأقانيم . وإذا شرع كهنتهم في تقديم الذبائح يرشون المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات ، ويأخذون البخور من المبخرة بثلاث أصابع ، ويرشون المجتمعين حول المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات .

. إشارة إلى التثليث . . وهذه الشعائر هي التي أخذتها الكنيسة بما وراءها من العقائد الوثنية وضمتها للنصرانية تضاهئ بها قول الذين كفروا من قبل
ومراجعة عقائد الوثنيين القدامى - التي لم تكن معروفة وقت نزول القرآن - مع هذا النص القرآني : { يضاهئون قول الذين كفروا من قبل } - كما أنها تثبت أن أهل الكتاب لا يدينون دين الحق ، ولا يؤمنون بالله الإيمان الصحيح - تبين كذلك جانباً من جوانب الإعجاز في القرآن الكريم ، بالدلالة على مصدره ، أنه من لدن عليم خبير . .
وبعد هذا التقرير والبيان تختم الآية المبينة لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من الكفر والشرك ، بقوله تعالى :
{ قاتلهم الله أنى يؤفكون؟ } .
و . . نعم . . قاتلهم الله كيف يُصرفون عن الحق الواضح البسيط ، إلى هذه الوثنية المعقدة الغامضة التي لا تستقيم لدى عقل أو ضمير؟
ثم ينتقل السياق القرآني إلى صفحة أخرى من صحائف الانحراف الذي عليه أهل الكتاب؛ تتمثل في هذه المرة لا في القول والاعتقاد وحدهما؛ ولكن كذلك في الواقع القائم على الاعتقاد الفاسد :
{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم . وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً ، لا إله إلا هو ، سبحانه عما يشركون } . .
وفي هذه الآية استمرار في وجهة السياق في هذا المقطع من السورة . من إزالة الشبهة في أن هؤلاء أهل كتاب . . فهم إذن على دين الله . . فهي تقرر أنهم لم يعودوا على دين الله ، بشهادة واقعهم - بعد شهادة اعتقادهم - وأنهم أمروا بأن يعبدوا الله وحده ، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله - كما اتخذوا المسيح ابن مريم رباً - وأن هذا منهم شرك بالله . تعالى الله عن شركهم . . فهم إذن ليسوا مؤمنين بالله اعتقاداً وتصورا؛ كما أنهم لا يدينون دين الحق واقعاً وعملاً .
وقبل أن نقول : كيف اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً ، نحب أن نعرض الروايات الصحيحة التي تضمنت تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للآية . وهو فصل الخطاب .
الأحبار : جمع حَبر أو حِبر بفتح الحاء أو بكسرها ، وهو العالم من أهل الكتاب وكثر إطلاقه على علماء اليهود . . والرهبان : جمع راهب ، وهو عند النصارى المتبتل المنقطع للعبادة؛ وهو عادة لا يتزوج ، ولا يزاول الكسب ، ولا يتكلف للمعاش .
وفي « الدر المنثور » . . روى الترمذي ( وحسنه ) وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه وغيرهم عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ في سورة براءة : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } فقال : « أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه » .

وفي تفسير ابن كثير : وروى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير - من طرق - عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - أنه لما بلغته دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فر إلى الشام ، وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه . ثم منّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أخته وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدم عدي المدينة - وكان رئيساً في قومه طيئ وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم - فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عنق عدي صليب من فضة ، وهو يقرأ هذه الآية : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم . فقال : « بلى إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام ، فاتبعوهم : فذلك عبادتهم إياهم . . . » .
وقال السدي : استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم . ولهذا قال تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً } أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام ، وما حلله فهو الحلال وما شرعه اتبع ، وما حكم به نفذ .
وقال الألوسي في التفسير :
« الأكثرون من المفسرين قالوا : ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا أنهم آلهة العالم . بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم » . .
ومن النص القرآني الواضح الدلالة؛ ومن تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو فصل الخطاب ، ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين ، تخلص لنا حقائق في العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها هنا بغاية الاختصار .
* أن العبادة هي الاتباع في الشرائع بنص القرآن وتفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً بمعنى الاعتقاد بألوهيتهم أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم . . ومع هذا فقد حكم الله - سبحانه - عليهم بالشرك في هذه الآية - وبالكفر في آية تالية في السياق - لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها . . فهذا وحده - دون الاعتقاد والشعائر - يكفي لاعتبار من يفعله مشركاً بالله ، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين .
* أن النص القرآني يسوي في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله ، بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوه واتبعوه ، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقاداً وقدموا إليه الشعائر في العبادة . فهذه كتلك سواء في اعتبار فاعلها مشركاً بالله ، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين . .
* أن الشرك بالله يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عباده؛ ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهيته؛ ولا تقديم الشعائر التعبدية له .

. كما هو واضح من الفقرة السابقة . . ولكنا إنما نزيدها هنا بياناً
وهذه الحقائق - وإن كان المقصود الأول بها في السياق هو مواجهة الملابسات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومذاك من التردد والتهيب للمعركة مع الروم ، وجلاء شبهة أنهم مؤمنون بالله لأنهم أهل كتاب - هي كذلك حقائق مطلقة تفيدنا في تقرير « حقيقة الدين » عامة . .
إن دين الحق الذي لا يقبل الله من الناس كلهم ديناً غيره هو « الإسلام » . . والإسلام لا يقوم إلا باتباع الله وحده في الشريعة - بعد الاعتقاد بألوهيته وحده وتقديم الشعائر التعبدية له وحده - فإذا اتبع الناس شريعة غير شريعة الله صح فيهم ما صح في اليهود والنصارى من أنهم مشركون لا يؤمنون بالله - مهما كانت دعواهم في الإيمان - لأن هذا الوصف يلحقهم بمجرد اتباعهم لتشريع العباد لهم من دون الله ، بغير إنكار منهم يثبت منه أنهم لا يتبعون إلا عن إكراه واقع بهم ، لا طاقة لهم بدفعه ، وأنهم لا يقرون هذا الافتئات على الله . .
إن مصطلح « الدين » قد انحسر في نفوس الناس اليوم ، حتى باتوا يحسبونه عقيدة في الضمير ، وشعائر تعبدية تقام وهذا ما كان عليه اليهود الذين يقرر هذا النص المحكم - ويقرر تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنهم لم يكونوا يؤمنون بالله ، وأنهم أشركوا به ، وأنهم خالفوا عن أمره بألا يعبدوا إلا إلهاً واحداً ، وأنهم اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله .
إن المعنى الأول للدين هو الدينونة - أي الخضوع والاستسلام والاتباع - وهذا يتجلى في اتباع الشرائع كما يتجلى في تقديم الشعائر . والأمر جد لا يقبل هذا التميع في اعتبار من يتبعون شرائع غير الله - دون إنكار منهم يثبتون به عدم الرضا عن الافتئات على سلطان الله - مؤمنين بالله ، مسلمين ، لمجرد أنهم يعتقدون بألوهية الله سبحانه ويقدمون له وحده الشعائر . . وهذا التميع هو أخطر ما يعانيه هذا الدين في هذه الحقبة من التاريخ؛ وهو أفتك الأسلحة التي يحاربه بها أعداؤه؛ الذين يحرصون على تثبيت لافتة « الإسلام » على أوضاع ، وعلى أشخاص ، يقرر الله سبحانه في أمثالهم أنهم مشركون لا يدينون دين الحق ، وأنهم يتخذون أرباباً من دون الله . . وإذا كان أعداء هذا الدين يحرصون على تثبيت لافتة الإسلام على تلك الأوضاع وهؤلاء الأشخاص؛ فواجب حماة هذا الدين أن ينزعوا هذه اللافتات الخادعة؛ وأن يكشفوا ما تحتها من شرك وكفر واتخاذ أرباب من دون الله . . { وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } .

. .
ثم يمضي السياق خطوة أخرى في تحريض المؤمنين على القتال :
{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون . هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله . ولو كره المشركون } . .
إن أهل الكتاب هؤلاء لا يقفون عند حد الانحراف عن دين الحق ، وعبادة أرباب من دون الله . وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر - وفق المفهوم الصحيح للإيمان بالله واليوم الآخر - إنما هم كذلك يعلنون الحرب على دين الحق؛ ويريدون إطفاء نور الله في الأرض المتمثل في هذا الدين ، وفي الدعوة التي تنطلق به في الأرض ، وفي المنهج الذي يصوغ على وفقه حياة البشر . .
{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } . .
فهم محاربون لنور الله . سواء بما يطلقونه من أكاذيب ودسائس وفتن؛ أو بما يحرضون به أتباعهم وأشياعهم على حرب هذا الدين وأهله ، والوقوف سداً في وجهه - كما كان هو الواقع الذي تواجهه هذه النصوص وكما هو الواقع على مدار التاريخ .
وهذا التقرير - وإن كان يراد به استجاشة قلوب المسلمين إذا ذاك - هو كذلك يصور طبيعة الموقف الدائم لأهل الكتاب من نور الله المتمثل في دينه الحق الذي يهدي الناس بنور الله .
{ ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } . .
وهو الوعد الحق من الله ، الدال على سنته التي لا تتبدل ، في إتمام نوره بإظهار دينه ولو كره الكافرون . .
وهو وعد تطمئن له قلوب الذين آمنوا؛ فيدفعهم هذا إلى المضي في الطريق على المشقة واللأواء في الطريق؛ وعلى الكيد والحرب من الكافرين ( والمراد بهم هنا هم أهل الكتاب السابق ذكرهم ) . . كما أنه يتضمن في ثناياه الوعيد لهؤلاء الكافرين وأمثالهم على مدار الزمان
ويزيد السياق هذا الوعيد وذلك الوعد توكيداً :
{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون } . .
وفي هذا النص يتبين أن المراد بدين الحق الذي سبق في قوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } . . هو هذا الدين الذي أرسل الله به رسوله الأخير . وأن الذين لا يدينون بهذا الدين هم الذين يشملهم الأمر بالقتال . .
وهذا صحيح على أي وجه أوّلنا الآية . فالمقصود إجمالاً بدين الحق هو الدينونة لله وحده في الاعتقاد والشعائر والشرائع - وهذه هي قاعدة دين الله كله ، وهو الدين الممثل أخيراً فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم - فأيما شخص أو قوم لم يدينوا لله وحده في الاعتقاد والشعائر والشرائع مجتمعة؛ انطبق عليهم أنهم لا يدينون دين الحق ، ودخلوا في مدلول آية القتال .

. مع مراعاة طبيعة المنهج الحركي للإسلام ، ومراحله المتعددة ، ووسائله المتجددة كما قلنا مراراً .
{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون } . .
وهذا توكيد لوعد الله الأول : { ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } . . ولكن في صورة أكثر تحديداً . فنور الله الذي قرر سبحانه أن يتمه ، هو دين الحق الذي أرسل به رسوله ليظهره على الدين كله .
ودين الحق - كما أسلفنا - هو الدينونة لله وحده في الاعتقاد والعبادة والتشريع مجتمعة . وهو متمثل في كل دين سماوي جاء به رسول من قبل . ولا يدخل فيه طبعاً تلك الديانات المحرفة المشوهة المشوبة بالوثنيات في الاعتقاد التي عليها اليهود والنصارى اليوم . كما لا تدخل فيه الأنظمة والأوضاع التي ترفع لافتة الدين ، وهي تقيم في الأرض أرباباً يعبدها الناس من دون الله ، في صورة الاتباع للشرائع التي لم ينزلها الله .
والله سبحانه يقول : إنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله . . ويجب أن نفهم { الدين } بمدلوله الواسع الذي بيناه ، لندرك أبعاد هذا الوعد الإلهي ومداه . .
إن { الدين } هو « الدينونة » . . فيدخل فيه كل منهج وكل مذهب وكل نظام يدين الناس له بالطاعة والاتباع والولاء . .
والله سبحانه يعلن قضاءه بظهور دين الحق الذي أرسل به رسوله على { الدين } كله بهذا المدلول الشامل العالم
إن الدينونة ستكون لله وحده . والظهور سيكون للمنهج الذي تتمثل فيه الدينونة لله وحده .
ولقد تحقق هذا مرة على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه ومن جاء بعدهم فترة طويلة من الزمان . وكان دين الحق أظهر وأغلب؛ وكانت الأديان التي لا تخلص فيها الدينونة لله تخاف وترجف ثم تخلى أصحاب دين الحق عنه؛ خطوة فخطوة بفعل عوامل داخلة في تركيب المجتمعات الإسلامية من ناحية وبفعل الحرب الطويلة المدى ، المنوعة الأساليب ، التي أعلنها عليه أعداؤه من الوثنيين وأهل الكتاب سواء . .
ولكن هذه ليست نهاية المطاف . . إن وعد الله قائم ، ينتظر العصبة المسلمة ، التي تحمل الراية وتمضي مبتدئة من نقطة البدء ، التي بدأت منها خطوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحمل دين الحق ويتحرك بنور الله . .
ثم يخطو السياق الخطوة الأخيرة في هذا المقطع من السورة ، مصوراً كيف أن أهل الكتاب لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، بعد ما أشار إلى هذه الحقيقة في قوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } التي فسرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم « أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال ، فاتبعوهم » . فبين أنهم إذن لا يحرمون ما حرم الله ورسوله؛ إنما يحرمون ما حرمه عليهم الأحبار والرهبان
يخطو السياق الخطوة الأخيرة في بيان هذه الحقيقة مخاطباً بها الذين آمنوا كاشفاً لهم في هذا الخطاب عن حقيقة أهل الكتاب :
{ يا أيها الذين آمنوا ، إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ، ويصدون عن سبيل الله .

والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم . يوم يحمى عليها في نار جهنم ، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم . هذا ما كنزتم لأنفسكم ، فذوقوا ما كنتم تكنزون } . .
وفي الآية الأولى استطراد في بيان دور الأحبار والرهبان الذين اتخذهم أهل الكتاب أرباباً من دون الله ، فاتبعوهم فيما يشرعون لهم من المعاملات ومن العبادات سواء . فهؤلاء الأحبار والرهبان يجعلون من أنفسهم ويجعلهم قومهم أرباباً تتبع وتطاع؛ وهم فيما يشرعون يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله .
وأكل أموال الناس كان يتمثل في صور شتى وما يزال :
منها ما يأخذونه على فتاوى تحليل الحرام وتحريم الحلال لصالح من يملكون المال أو السلطان . ومنها ما يأخذه القسيس أو الكاهن مقابل الاعتراف له بالخطايا وغفرانه - بالسلطان المخول للكنيسة في زعمهم - لتلك الخطايا ومنها الربا - وهو أوسع أبوابها وأبشعها - وغيرها كثير .
كذلك ما يجمعونه من أموال الناس لمحاربة دين الحق؛ وقد كان الرهبان والأساقفة والكرادلة والبابوات يجمعون مئات الملايين في الحروب الصليبية ، وما يزالون يجمعونها للتبشير والاستشراق للصد عن سبيل الله .
ولا بد أن نلحظ الدقة القرآنية والعدل الإلهي في قول الله تعالى في ذلك .
{ إن كثيرا ًمن الأحبار والرهبان . . } . .
للاحتراز من الحكم على القليل منها الذي لا يزاول هذه الخطيئة . ولا بد من أفراد في أية جماعة من الناس فيهم بقية خير . . ولا يظلم ربك أحداً . .
والكثير من الأحبار والرهبان يكنزون هذه الأموال التي يأكلونها بالباطل . وقد شهد تاريخ هؤلاء الناس أموالاً ضخمة تنتهي إلى أيدي رجال الدين وتؤول إلى الكنائس والأديرة . وقد جاء عليهم زمان كانوا أكثر ثراء من الملوك المتسلطين والأباطرة الطغاة
والسياق القرآني يصور عذابهم في الآخرة بما كنزوا ، وعذاب كل من يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله ، في مشهد من المشاهد التصويرية الرائعة المروعة :
{ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم . يوم يحمى عليها في نار جهنم ، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } . .
إن رسم المشهد هكذا في تفصيل؛ وعرض مشهد العملية منذ خطواتها الأولى إلى خطواتها الأخيرة ، ليطيل المشهد في الخيال والحس . . وهي إطالة مقصودة .
{ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } . .
ويسكت السياق : وتنتهي الآية على هذا الإجمال والإبهام في العذاب . .
ثم يأخذ في التفصيل بعد الإجمال :
{ يوم يحمى عليها في نار جهنم } .

وينتظر السامع عملية الإحماء ثم ها هي ذي حميت واحمرت وها هي ذي معدة مهيأة فليبدأ العذاب الأليم ها هي ذي الجباه تكوى لقد انتهت عملية الكي في الجباه فليداروا على الجنوب ها هي ذي الجنوب تكوى لقد انتهت هذه فليداروا على الظهور ها هي ذي الظهور تكوى لقد انتهى هذا اللون من العذاب ; فليتبعه الترذيل والتأنيب هذا ما كنزتم لأنفسكم هذا هو بذاته الذي كنزتموه للذة فانقلب أداة لهذا اللون الأليم من العذاب فذوقوا ما كنتم تكنزون ذوقوه بذاته فهو هو الذي تذوقون منه مسه للجنوب والظهور والجباه ألا إنه لمشهد مفزع مروع يعرض في تفصيل وتطويل وأناة وهو يعرض أولاً لتصوير مصائر الكثير من الأحبار والرهبان ثم لتصوير مصائر الكانزين للذهب والفضة لا ينفقونها في سبيل اللّه والسياق يمهد لغزوة العسرة كذلك حينذاك وبعد فلا بد أن نقف هنا وقفة قصيرة للتعقيب نبرز فيها دلالة هذا البيان الرباني لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من عقيدة ومن دين ومن خلق ومن سلوك وذلك بالإضافة إلى الإشارات التي أوردناها خلال الفقرات السابقة إن تعرية أهل الكتاب من شبهة أنهم على شيء من دين اللّه ألزم وأشد ضرورة من بيان حال المشركين الصريحين في شركهم الشاهدين على أنفسهم بالكفر بظاهر عقائدهم وشعائرهم ذلك أن نفوس المسلمين لا تنطلق الانطلاق الكامل لمواجهة الجاهلية إلا حين يتجلى لها تماماً وجه الجاهلية ووجه الجاهلية مكشوف صريح فيما يختص بالمشركين ; وليس الحال كذلك فيما يختص بأهل الكتاب ومن يزعمون أنهم على شيء من دين اللّه من أمثالهم كالشأن في الغالبية العظمى ممن يدعون أنفسهم اليوم مسلمين ولقد احتاج الانطلاق الكامل لمواجهة المشركين كثيراً من البيان في هذه السورة نظراً للملابسات التي شرحناها في التقديم لهذه السورة وفي التقديم للمقطع الأول منها كذلك حيث قال اللّه سبحانه للمؤمنين كيف يكون للمشركين عهد عند اللّه وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن اللّه يحب المتقين كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمة ; يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بآيات اللّه ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة وأولئك هم المعتدون ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فاللّه أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب اللّه على من يشاء واللّه عليم حكيم ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد اللّه شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون الخ الخ وإذا كان الانطلاق لمجاهدة المشركين قد اقتضى كل هذه الحملة وأمرهم ظاهر نظراً لتلك الملابسات التي كانت قائمة في التكوين العضوي للمجتمع المسلم في تلك الفترة فقد كان الانطلاق لمجاهدة أهل الكتاب في حاجة إلى حملة أشد وأعمق تستهدف أول ما تستهدف تعرية أهل الكتاب هؤلاء من تلك اللافتة الشكلية التي لم تعد وراءها حقيقة ; وتظهرهم على حقيقتهم الواقعية مشركين كالمشركين كفاراً كالكفار محاربين للّه ولدينه الحق كأمثالهم من المشركين الكافرين ضلالاً يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللّه في مثل هذه النصوص القاطعة الصريحة قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقالت اليهود عزير ابن اللّه وقالت النصارى المسيح ابن اللّه ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم اللّه أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللّه الخ وذلك بالإضافة إلى التقريرات القرآنية الحاسمة في السور المكية والمدنية على السواء عن حقيقة ما انتهى إليه أمر أهل الكتاب من الشرك والكفر والخروج من دين اللّه الذي جاءهم به أنبياؤهم من قبل ; فضلاً على وقفتهم من رسالة اللّه الأخيرة التي على أساس موقفهم منها يتحدد وصفهم بالكفر أو بالإيمان فلقد سبق أن ووجه أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء من دين اللّه أصلاً في قوله تعالى قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين المائدة كذلك سبق وصفهم بالكفر وضمهم إلى المشركين في هذه الصفة يهوداً ونصارى أو مجتمعين في صفة أهل الكتاب في مثل قوله تعالى وقالت اليهود يد اللّه مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً المائدة لقد كفر الذين قالوا إن اللّه هو المسيح ابن مريم المائدة لقد كفر الذين قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة المائدة لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة البينة وغيرها كثير أثبتنا بعضه فيما تقدم والقرآن الكريم مكيُّه ومدنيّه حافل بمثل هذه التقريرات وإذا كانت الأحكام القرآنية قد جعلت لأهل الكتاب بعض الامتيازات في التعامل عن المشركين وذلك كإحلال طعامهم للمسلمين وإجازة التزوج بالمحصنات أي العفيفات من نسائهم فإن ذلك لم يكن مبيناً على أساس أنهم على شيء من دين اللّه الحق ; ولكن كان مراعى فيه واللّه أعلم أن لهم أصلاً من دين وكتاب وإن كانوا لا يقيمونه فمن الممكن محاكمتهم إلى هذا الأصل الذي يدعون أنهم عليه فهم في هذا يفترقون عن المشركين الوثنيين الذين لا كتاب لهم ; لأنه ليس لهم من أصل يردون إليه ويمكن محاكمتهم له أما تقريرات القرآن عن حقيقة ما عليه أهل الكتاب من عقيدة ودين فهي صريحة وحاسمة في أنهم ليسوا على شيء من دين اللّه ; بعد ما تركوا كتبهم ودينهم إلى ذلك الذي صنعه لهم أحبارهم ورهبانهم ومجامعهم وكنائسهم وفي قول اللّه سبحانه فصل الخطاب في هذا الموضوع والمهم الآن أن نبرز دلالة هذا البيان الرباني لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من العقيدة والدين إن هذه اللافتة المضللة التي ليس وراءها شيء من الحقيقة تحول دون الانطلاق الإسلامي الكامل لمواجهة الجاهلية فتتحتم إذن إزالة هذه اللافتة ; وتعريتهم من ظلها الخادع ; وكشفهم على حقيقتهم الواقعة ولا نغفل الملابسات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومذاك والتي أشرنا إليها من قبل سواء منها ما يختص بالتكوين العضوي لهذا المجتمع يومها وما يختص بظروف الغزوة ذاتها في الحر والعسرة وما يختص كذلك بالتهيب من لقاء الروم بسبب ما كان لهم في نفوس العرب قبل الإسلام من هيبة وسمعة ومخافة ولكن الأعمق من هذا كله هو ما يحيك في النفس المسلمة عند الأمر بقتال أهل الكتاب على هذا النحو الشامل وهم أهل كتاب وأعداء هذا الدين الراصدون لحركات البعث الإسلامي الجديدة في هذا الجيل يرصدونها عن خبرة واسعة بطبيعة النفس البشرية وبتاريخ الحركة الإسلامية على السواء وهم من أجل ذلك حريصون كل الحرص على رفع لافتة إسلامية على الأوضاع والحركات والاتجاهات والقيم والتقاليد والأفكار التي يعدونها ويقيمونها ويطلقونها لسحق حركات البعث الإسلامي الجديدة في أرجاء الأرض جميعاً ذلك لتكون هذه اللافتة الخادعة مانعة من الانطلاق الحقيقي لمواجهة الجاهلية الحقيقية القابعة وراء تلك اللافتة الكاذبة لقد أخطأوا مضطرين مرة أو مرات في إعلان حقيقة بعض الأوضاع والحركات ; وفي الكشف عن الوجه الكالح للجاهلية المنقضة على الإسلام فيها وأقرب مثال لذلك حركة أتاتورك اللاإسلامية الكافرة في تركيا وكان وجه الاضطرار فيها هو حاجتهم الملحة إلى إلغاء آخر مظهر للتجمع الإسلامي تحت راية العقيدة ذلك المظهر الذي كان يتمثل في قيام الخلافة وهو وإن كان مجرد مظهر كان آخر عروة تنقض قبل نقض عروة الصلاة كما قال رسول اللّه ص « ينقض هذا الدين عروة عروة فأولها الحكم وآخرها الصلاة » ولكن أولئك الأعداء الواعين من أهل الكتاب والملحدين الذين لا يجتمعون إلا حين تكون المعركة مع هذا الدين لم يكادوا يتجاوزون منطقة الاضطرار في الكشف عن الوجهة اللاإسلامية الكافرة في حركة أتاتورك حتى عادوا يحرصون بشدة على ستر الأوضاع التالية المماثلة لحركة أتاتورك في وجهتها الدينية بستار الإسلام ; ويحرصون على رفع تلك اللافتة الخادعة على تلك الأوضاع وهي أشد خطراً على الإسلام من حركة أتاتورك السافرة ويفتنون افتناناً في ستر حقيقة هذه الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها اقتصادياً وسياسياً وفكرياً ; ويهيئون لها أسباب الحماية بأقلام مخابراتهم وبأدوات إعلامهم العالمية ; وبكل ما يملكونه من قوة وحيلة وخبرة ; ويتعاون أهل الكتاب والملحدون على تقديم المعونات المتنوعة لها ; لتؤدي لهم هذه المهمة التي لم تنته منها الحروب الصليبية قديماً ولا حديثاً ; يوم كانت هذه الحروب الصليبية معركة سافرة بين الإسلام وأعدائه المكشوفين الظاهرين والسذج ممن يدعون أنفسهم مسلمين يخدعون في هذه اللافتة ومن هؤلاء السذج كثير من الدعاة إلى الإسلام في الأرض فيتحرجون من إنزالها عن الجاهلية القائمة تحتها ويتحرجون من وصف هذه الأوضاع بصفتها الحقيقية التي تحجبها هذه اللافتة الخادعة صفة الشرك والكفر الصريحة ويتحرجون من وصف الناس الراضين بهذه الأوضاع بصفتهم الحقيقية كذلك وكل هذا يحول دون الانطلاق الحقيقي الكامل لمواجهة هذه الجاهلية مواجهة صريحة ; لا تحرج فيها ولا تأثم من وصفها بصفتها الحقيقية الواقعة بذلك تقوم تلك اللافتة بعملية تخدير خطرة لحركات البعث الإسلامي ; كما تقوم حاجزاً دون الوعي الحقيقي ودون الانطلاق الحقيقي لمواجهة جاهلية القرن العشرين التي تتصدى لسحق الجذور الباقية لهذا الدين هؤلاء السذج من الدعاة إلى الإسلام أخطر في نظري على حركات البعث الإسلامي من أعداء هذا الدين الواعين الذين يرفعون لافتة الإسلام على الأوضاع والحركات والاتجاهات والأفكار والقيم والتقاليد التي يقيمونها ويكفلونها لتسحق لهم هذا الدين إن هذا الدين يَغلب دائماً عندما يصل الوعي بحقيقته وحقيقة الجاهلية إلى درجة معينة في نفوس العصبة المؤمنة في أي زمان وفي أي مكان والخطر الحقيقي على هذا الدين ليس كامناً في أن يكون له أعداء أقوياء واعون مدربون ; بقدر ما يكمن في أن يكون له أصدقاء سذج مخدوعون يتحرجون في غير تحرج ; ويقبلون أن يتترس أعداؤهم بلافتة خادعة من الإسلام ; بينما يرمون الإسلام من وراء هذه اللافتة الخادعة إن الواجب الأول للدعاة إلى هذا الدين في الأرض أن ينزلوا تلك اللافتات الخادعة المرفوعة على الأوضاع الجاهلية والتي تحمي هذة الأوضاع المقامة لسحق جذور هذا الدين في الأرض جميعاً وإن نقطة البدء في أية حركة إسلامية هي تعرية الجاهلية من ردائها الزائف ; وإظهارها على حقيقتها شركاً وكفراً ووصف الناس بالوصف الذي يمثل واقعهم ; كيما تواجههم الحركة الإسلامية بالطلاقة الكاملة بل كيما ينتبه هؤلاء الناس أنفسهم إلى حقيقة ما انتهى إليه حالهم وهي الحقيقة التي انتهى إليها حال أهل الكتاب كما يقررها الحكيم الخبير عسى أن يوقظهم هذا التنبيه إلى تغيير ما بأنفسهم ليغير اللّه ما بهم من الشقوة والنكد والعذاب الأليم الذي هم فيه مبلسون وكل تحرج في غير موضعه ; وكل انخداع بالأشكال والظواهر واللافتات ; هو تعويق لنقطة الانطلاق الأولى لأية حركة إسلامية في الأرض جميعاً ; وهو تمكين لأعداء هذا الدين من مكرهم الذي أرادوه بالحرص على إقامة تلك اللافتات بعد ما انكشفت حركة أتاتورك في التاريخ الحديث ; وباتت عاجزة عن المضي خطوة واحدة بعد إلغاء آخر مظهر من مظاهر التجمع الإسلامي على أساس العقيدة نظراً لانكشاف وجهتها هذا الانكشاف الصريح مما دعا كاتباً صليبياً شديد المكر عميق الخبث مثل ولفرد كانتول سميث في كتابه الإسلام في التاريخ الحديث إلى محاولة تغطية حركة أتاتورك مرة أخرى ونفي الإلحاد عنها واعتبارها أعظم وأصح حركة بعث إسلامي كذا في التاريخ الحديث الدرس السادس تحريم النسيء وإعادة شهور السنة لوضعها الأصلي مقدمة الدرس السادس هذا المقطع في السياق استطراد في إزالة المعوقات التي كانت قائمة في طريق النفرة إلى جهاد الروم وحلفائهم من نصارى العرب في شمال الجزيرة ذلك أن الاستنفار لهذه الغزوة تبوك كان في رجب من الأشهر الحرم ولكن كانت هناك ملابسة واقعة وهي أن رجب في هذا العام لم يكن في موعده الحقيقي وذلك بسبب النسيء الذي ورد ذكره في الآية الثانية كما سنبين فقد ورد أن ذا الحجة في هذا العام لم يكن في موعده كذلك إنما كان في ذي القعدة فكأن رجب كان في جمادى الآخرة وسر هذا الاضطراب كله هو اضطراب الجاهلية في تقاليدها ; وعدم التزامها بالحرمات إلا شكلاً ; والتأويلات والفتاوى التي تصدر عن البشر ما دام أن أمر التحليل والتحريم يوكل في الجاهلية إلى البشر وبيان هذه القضية أن اللّه حرم الأشهر الحرم الأربعة وهي الثلاثة المتوالية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم والشهر الرابع المفرد رجب والواضح أن هذا التحريم كان مع فرض الحج في أشهره المعلومات منذ إبراهيم وإسماعيل وعلى كثرة ما حرف العرب في دين إبراهيم وعلى شدة ما انحرفوا عنه في جاهليتهم قبل الإسلام ; فإنهم بقوا يعظمون الأشهر الحرم هذه ; لارتباطها بموسم الحج ; الذي كانت تقوم عليه حياة الحجازيين وبخاصة سكان مكة كيما يكون هناك السلام الشامل في الجزيرة الذي يسمح بالموسم والانتقال إليه والتجارة فيه ثم كانت بعد ذلك تعرض حاجات لبعض القبائل العربية تتعارض مع تحريم هذه الأشهر وهنا تلعب الأهواء ; ويقوم من يفتي باستحلال أحد الأشهر الحرم عن طريق تأخيره في عام وتقديمه في عام آخر فتكون عدة الأشهر المحرمة أربعة ولكن أعيان هذه الأشهر تتبدل ليواطئوا عدة ما حرم اللّه فيحلوا ما حرم اللّه فلما كان هذا العام التاسع كان رجب الحقيقي غير رجب وكان ذو الحجة الحقيقي غير ذي الحجة كان رجب هو جمادى الآخرة وكان ذو الحجة هو ذا القعدة وكان النفير في جمادى الآخرة فعلاً وواقعاً ولكنه كان في رجب اسماً بسبب هذا النسيء فجاءت هذه النصوص تبطل النسيء ; وتبين مخالفته ابتداء لدين اللّه الذي يجعل التحليل والتحريم والتشريع كله حقاً خالصاً للّه ; وتجعل مزاولته من البشر بغير ما أذن اللّه كفراً بل زيادة في الكفر ومن ثم تزيل العقبة التي تحيك في بعض النفوس من استحلال رجب وفي الوقت ذاته تقرر أصلاً من أصول العقيدة الأساسية ; وهو قصر حق التشريع في الحل والحرمة على اللّه وحده وتربط هذه الحقيقة بالحق الأصيل في بناء الكون كله يوم خلق اللّه السماوات والأرض فتشريع اللّه للناس إنما هو فرع عن تشريعه للكون كله بما فيه هؤلاء الناس والحيدة عنه مخالفة لأصل تكوين هذا الكون وبنائه ; فهو زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا وحقيقة أخرى تقررها هذه النصوص تتعلق بما سبق تقريره في المقطع السابق مباشرة من اعتبار أهل الكتاب مشركين وضمهم في العداوة والجهاد إلى المشركين والأمر بقتالهم كافة المشركين وأهل الكتاب كما أنهم يقاتلون المسلمين كافة الأمر الذي يقرره الواقع التاريخي كله ; كما تقرره من قبل كلمات اللّه سبحانه وهي تعبر عن وحدة الهدف تماماً بين المشركين وأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين وعن وحدة الصف التي تجمعهم كذلك عند ما تكون المعركة مع الإسلام والمسلمين مهما يكن بينهم هم من عداوات قبل ذلك وثارات واختلافات في تفصيلات العقيدة كذلك لا تقدم شيئاً ولا تؤخر في تجمعهم جميعاً في وجه الانطلاق الإسلامي ; وفي عملهم متجمعين لسحق الوجود الإسلامي وهذه الحقيقة الأخيرة الخاصة بأن أهل الكتاب مشركون كالمشركين وأن المشركين هؤلاء وهؤلاء يقاتلون المسلمين كافة فوجب على المسلمين أن يقاتلوهم كافة بالإضافة إلى الحقيقة الأولى وهي أن النسيء زيادة في الكفر لأنه مزاولة للتشريع بغير ما أنزل اللّه فهو كفر يضاف إلى الكفر الاعتقادي ويزيد فيه هاتان الحقيقتان هما المناسبة التي تربط هاتين الآيتين بما قبلهما وما بعدهما في السياق ; الذي يعالج المعوقات دون النفير العام والانطلاق الإسلامي تجاه المشركين وأهل الكتاب

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)

هذا المقطع في السياق استطراد في إزالة المعوقات التي كانت قائمة في طريق النفرة إلى جهاد الروم وحلفائهم من نصارى العرب في شمال الجزيرة . . ذلك أن الاستنفار لهذه الغزوة - تبوك - كان في رجب من الأشهر الحرم . ولكن كانت هناك ملابسة واقعة . وهي أن رجب في هذا العام لم يكن في موعده الحقيقي وذلك بسبب { النسيء } الذي ورد ذكره في الآية الثانية - كما سنبين - فقد ورد أن ذا الحجة في هذا العام لم يكن في موعده كذلك ، إنما كان في ذي القعدة فكأن رجب كان في جمادى الآخرة . . وسر هذا الاضطراب كله هو اضطراب الجاهلية في تقاليدها؛ وعدم التزامها بالحرمات إلا شكلاً؛ والتأويلات والفتاوى التي تصدر عن البشر ، ما دام أن أمر التحليل والتحريم يوكل في الجاهلية إلى البشر
وبيان هذه القضية : أن الله حرم الأشهر الحرم الأربعة وهي الثلاثة المتوالية : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، والشهر الرابع المفرد : رجب . . والواضح أن هذا التحريم كان مع فرض الحج في أشهره المعلومات منذ إبراهيم وإسماعيل . . وعلى كثرة ما حرف العرب في دين إبراهيم ، وعلى شدة ما انحرفوا عنه في جاهليتهم قبل الإسلام ، فإنهم بقوا يعظمون الأشهر الحرم هذه؛ لارتباطها بموسم الحج؛ الذي كانت تقوم عليه حياة الحجازيين ، وبخاصة سكان مكة . كيما يكون هناك السلام الشامل في الجزيرة الذي يسمح بالموسم ، والانتقال إليه ، والتجارة فيه
ثم كانت - بعد ذلك - تعرض حاجات لبعض القبائل العربية تتعارض مع تحريم هذه الأشهر . . وهنا تلعب الأهواء؛ ويقوم من يفتي باستحلال أحد الأشهر الحرم عن طريق تأخيره في عام وتقديمه في عام آخر ، فتكون عدة الأشهر المحرمة أربعة ، ولكن أعيان هذه الأشهر تتبدل { ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله } . . فلما كان هذا العام التاسع كان رجب الحقيقي غير رجب ، وكان ذو الحجة الحقيقي غير ذي الحجة كان رجب هو جمادى الآخرة ، وكان ذو الحجة هو ذا القعدة وكان النفير في جمادى الآخرة فعلاً وواقعاً ، ولكنه كان في رجب اسماً بسبب هذا النسيء فجاءت هذه النصوص تبطل النسيء؛ وتبين مخالفته ابتداء لدين الله ، الذي يجعل التحليل والتحريم ( والتشريع كله ) حقاً خالصاً لله؛ وتجعل مزاولته من البشر - بغير ما أذن الله - كفراً . . بل زيادة في الكفر . . ومن ثم تزيل العقبة التي تحيك في بعض النفوس من استحلال رجب . وفي الوقت ذاته تقرر أصلاً من أصول العقيدة الأساسية؛ وهو قصر حق التشريع في الحل والحرمة على الله وحده . وتربط هذه الحقيقة بالحق الأصيل في بناء الكون كله ، يوم خلق الله السماوات والأرض . فتشريع الله للناس إنما هو فرع عن تشريعه للكون كله بما فيه هؤلاء الناس .

والحيدة عنه مخالفة لأصل تكوين هذا الكون وبنائه؛ فهو زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا . .
وحقيقة أخرى تقررها هذه النصوص ، تتعلق بما سبق تقريره في المقطع السابق مباشرة ، من اعتبار أهل الكتاب مشركين ، وضمهم في العداوة والجهاد إلى المشركين ، والأمر بقتالهم كافة . . المشركين وأهل الكتاب . . كما أنهم يقاتلون المسلمين كافة . . الأمر الذي يقرره الواقع التاريخي كله؛ كما تقرره من قبل كلمات الله - سبحانه - وهي تعبر عن وحدة الهدف تماماً بين المشركين وأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين ، وعن وحدة الصف التي تجمعهم كذلك عند ما تكون المعركة مع الإسلام والمسلمين ، مهما يكن بينهم هم من عداوات قبل ذلك وثارات واختلافات في تفصيلات العقيدة كذلك ، لا تقدم شيئاً ولا تؤخر في تجمعهم جميعاً في وجه الانطلاق الإسلامي؛ وفي عملهم متجمعين لسحق الوجود الإسلامي .
وهذه الحقيقة الأخيرة الخاصة بأن أهل الكتاب مشركون كالمشركين ، وأن المشركين هؤلاء وهؤلاء يقاتلون المسلمين كافة فوجب على المسلمين أن يقاتلوهم كافة . . بالإضافة إلى الحقيقة الأولى : وهي أن النسيء زيادة في الكفر ، لأنه مزاولة للتشريع بغير ما أنزل الله ، فهو كفر يضاف إلى الكفر الاعتقادي ويزيد فيه . . هاتان الحقيقتان هما المناسبة التي تربط هاتين الآيتين بما قبلهما وما بعدهما في السياق؛ الذي يعالج المعوقات دون النفير العام ، والانطلاق الإسلامي تجاه المشركين وأهل الكتاب . .
{ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم . ذلك الدين القيم } . .
إن هذا النص القرآني يرد معيار الزمن ، وتحديد دورانه إلى طبيعة الكون التي فطره الله عليها . وإلى أصل الخلقة . خلقة السماوات والأرض . ويشير إلى أن هناك دورة زمنية ثابتة ، مقسمة إلى اثني عشر شهراً . يستدل على ثباتها بثبات عدة الأشهر؛ فلا تزيد في دورة وتنقص في دورة . وأن ذلك في كتاب الله - أي في ناموسه الذي أقام عليه نظام هذا الكون . فهي ثابتة على نظامها ، لا تتخلف ولا تتعرض للنقص والزيادة . لأنها تتم وفق قانون ثابت ، هو ذلك الناموس الكوني الذي أراده الله يوم خلق السماوات والأرض :
هذه الإشارة إلى ثبات الناموس يقدم بها السياق لتحريم الأشهر الحرم وتحديدها ، ليقول : إن هذا التحديد والتحريم جزء من نواميس الله كثباتها ، لا يجوز تحريفه بالهوى ، ولا يجوز تحريكه تقديماً وتأخيراً ، لأنه يشبه دورة الزمن التي تتم بتقدير ثابت ، وفق ناموس لا يتخلف :
{ ذلك الدين القيم } . .
فهذا الدين مطابق للناموس الأصيل ، الذي تقوم به السماوات والأرض ، منذ أن خلق الله السماوات والأرض .
وهكذا يتضمن ذلك النص القصير سلسلة طويلة من المدولات العجيبة . . يتبع بعضها بعضاً ، ويمهد بعضها لبعض ، ويقوي بعضها بعضاً .

ويشتمل على حقائق كونية يحاول العلم الحديث جاهداً أن يصل إليها بطريقته ومحاولاته وتجاربه . ويربط بين نواميس الفطرة في خلق الكون وأصول هذا الدين وفرائضه ، ليقر في الضمائر والأفكار عمق جذوره ، وثبات أسسه ، وقدم أصوله . . كل أولئك في إحدى وعشرين كلمة تبدو في ظاهرها عادية بسيطة قريبة مألوفة .
{ ذلك الدين القيم . فلا تظلموا فيهن أنفسكم } . .
لا تظلموا أنفسكم في هذه الأشهر الحرم التي يتصل تحريمها بناموس كوني تقوم عليه السماوات والأرض . ذلك الناموس هو أن الله هو المشرع للناس كما أنه هو المشرع للكون . . لا تظلموا أنفسكم بإحلال حرمتها التي أرادها الله لتكون فترة أمان وواحة سلام؛ فتخالفوا عن إرادة الله . وفي هذه المخالفة ظلم للأنفس بتعريضها لعذاب الله في الآخرة ، وتعريضها للخوف والقلق في الأرض ، حين تستحيل كلها جحيماً حربية ، لا هدنة فيها ولا سلام .
{ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } . .
ذلك في غير الأشهر الحرم ، ما لم يبدأ المشركون بالقتال فيتعين رد الاعتداء في تلك الأشهر ، لأن الكف عن القتال من جانب واحد يضعف القوة الخيرة ، المنوط بها حفظ الحرمات ، ووقف القوة الشريرة المعتدية؛ ويشيع الفساد في الأرض؛ والفوضى في النواميس . فرد الاعتداء في هذه الحالة وسيلة لحفظ الأشهر الحرم ، فلا يعتدى عليها ولا تهان .
{ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } . .
قاتلوهم جميعاً بلا استثناء أحد منهم ولا جماعة ، فهم يقاتلونكم جميعاً لا يستثنون منكم أحداً ، ولا يبقون منكم على جماعة . والمعركة في حقيقتها إنما هي معركة بين الشرك والتوحيد . وبين الكفر والإيمان وبين الهدى والضلال . معركة بين معسكرين متميزين لا يمكن أن يقوم بينهما سلام دائم ، ولا أن يتم بينهما اتفاق كامل لأن الخلاف بينهما ليس عرضياً ولا جزئياً . ليس خلافاً على مصالح يمكن التوفيق بينهما ، ولا على حدود يمكن أن يعاد تخطيطها . وإن الأمة المسلمة لتخدع عن حقيقة المعركة بينها وبين المشركين - وثنيين وأهل كتاب - إذا هي فهمت أو أفهمت أنها معركة اقتصادية أو معركة قومية ، أو معركة وطنية ، أو معركة استراتيجية . . كلا . إنها قبل كل شيء معركة العقيدة . والمنهج الذي ينبثق من هذه العقيدة . . أي الدين . . وهذه لا تجدي فيها أنصاف الحلول . ولا تعالجها الاتفاقات والمناورات . ولا علاج لها إلا بالجهاد والكفاح الجهاد الشامل والكفاح الكامل . سنة الله التي لا تتخلف ، وناموسه الذي تقوم عليه السماوات والأرض ، وتقوم عليه العقائد والأديان ، وتقوم عليه الضمائر والقلوب . في كتاب الله يوم خلق الله السماوات والأرض .
{ واعلموا أن الله مع المتقين } . .
فالنصر للمتقين الذين يتقون أن ينتهكوا حرمات الله ، وأن يحلوا ما حرم الله ، وأن يحرفوا نواميس الله . فلا يقعد المسلمون عن جهاد المشركين كافة ، ولا يتخوفوا من الجهاد الشامل . فهو جهاد في سبيل الله يقفون فيه عند حدوده وآدابه؛ ويتوجهون به إلى الله يراقبونه في السر والعلانية .

فلهم النصر ، لأن الله معهم ، ومن كان الله معه فهو المنصور بلا جدال .
{ إنما النسيء زيادة في الكفر . يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ، ليواطئوا عدة ما حرم الله ، فيحلوا ما حرم الله . زين لهم سوء أعمالهم ، والله لا يهدي القوم الكافرين } . .
قال مجاهد - رضي الله عنه - : كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول : أيها الناس . إني لا أعاب ولا أخاب ، ولا مرد لما أقول . إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر . ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ، ويقول : إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فهو قوله : { ليواطئوا عدة ما حرم الله } قال : يعني الأربعة . فيحلوا ما حرم الله تأخير هذا الشهر الحرام .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذا رجل من بني كنانة يقال له القلمس ، وكان في الجاهلية وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام ، يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يمد إليه يده؛ فلما كان هو قال : اخرجوا بنا . قالوا له : هذا المحرم . قال : ننسئه العام . هما العام صفران . فإذا كان العام القابل قضينا . . جعلناهما محرمين . . قال ففعل ذلك . فلما كان عام قابل لا قال تغزوا في صفر . حرموه مع المحرم . هما محرمان . .
فهذان قولان في الآية ، وصورتان من صور النسيء . في الصورة الأولى يحرم صفر بدل المحرم فالشهور المحرمة أربعة في العدد ، ولكنها ليست هي التي نص عليها الله ، بسبب إحلال شهر المحرم . وفي الصورة الثانية يحرم في عام ثلاثة أشهر وفي عام آخر خمسة أشهر فالمجموع ثمانية في عامين بمتوسط أربعة في العام ولكن حرمة المحرم ضاعت في أحدهما ، وحل صفر ضاع في ثانيهما
وهذه كتلك في إحلال ما حرم الله؛ ولمخالفة عن شرع الله . .
{ زيادة في الكفر } . .
ذلك أنه - كما أسلفنا - كفر مزاولة التشريع إلى جانب كفر الاعتقاد .
{ يضل به الذين كفروا } . .
ويخدعون بما فيه من تلاعب وتحريف وتأويل . .
{ زين لهم سوء أعمالهم } . .
فإذا هم يرون السوء حسناً ، ويرون قبح الانحراف جمالاً ، ولا يدركون ما هم فيه من ضلال ولجاج في الكفر بهذه الأعمال .
{ والله لا يهدي القوم الكافرين } . .
الذين ستروا قلوبهم عن الهدى وستروا دلائل الهدى عن قلوبهم . فاستحقوا بذلك أن يتركهم الله لما هم فيه من ظلام وضلال .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)

هذا المقطع من سياق السورة يرجح أنه نزل بعد الأمر بالنفير العام لغزوة تبوك . ذلك حين بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الروم قد جمعوا له على أطراف الجزيرة بالشام ، وأن هرقل قد رزق أصحابه رزق سنة ، وانضمت إليهم لخم وجدَام وعاملة وغسان من قبائل العرب . وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء من أعمال الشام . فاستنفر الناس إلى قتال الروم . وكان - صلى الله عليه وسلم - قلما يخرج إلى غزوة إلى ورّى بغيرها مكيدة في الحرب ، إلا ما كان من هذه الغزوة . فقد صرح بها لبعد الشقة وشدة الزمان . إذا كان ذلك في شدة الحر ، حين طابت الظلال ، وأينعت الثمار ، وحبب إلى الناس المقام . . عندئذ بأدت تظهر في المجتمع المسلم تلك الأعراض التي تحدثنا عنها في تقديم السورة . كما وجد المنافقون فرصتهم للتخذيل . فقالوا : لا تنفروا في الحر . وخوفوا الناس بعد الشقة ، وحذروهم بأس الروم . . وكان لهذه العوامل المختلفة أثرها في تثاقل بعض الناس عن النفرة . . وهذا ما تعالجه هذه الفقرة . .
{ يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض . أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل . إلاّ تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ، ولا تضروه شيئاً ، والله على كل شيء قدير . إلاّ تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار ، إذ يقول لصاحبه : لا تحزن إن الله معنا ، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة الله هي العليا ، والله عزيز حكيم . انفروا خفافاً وثقالاً ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } . .
ذلك بدء العتاب للمتخلفين والتهديد بعاقبة التثاقل عن الجهاد في سبيل الله ، والتذكير لهم بما كان من نصر الله لرسوله ، قبل أن يكون معه منهم أحد ، وبقدرته على إعادة هذا النصر بدونهم ، فلا ينالهم عندئذ إلا إثم التخلف والتقصير .
{ يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض؟ } . .
إنها ثقلة الأرض ، ومطامع الأرض ، وتصورات الأرض . . ثقلة الخوف على الحياة ، والخوف على المال ، والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع . . ثقلة الدعة والراحة والاستقرار . . ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب . . ثقلة اللحم والدم والتراب . . والتعبير يلقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه : { اثاقلتم } . وهي بجرسها تمثل الجسم المسترخي الثقيل ، يرفعه الرافعون في جهد فيسقط منهم في ثقل ويلقيها بمعنى ألفاظه : { اثاقلتم إلى الأرض } . . وما لها من جاذبية تشد إلى أسفل وتقاوم رفرفة الأرواح وانطلاق الأشواق .

.
إن النفرة للجهاد في سبيل الله انطلاق من قيد الأرض ، وارتفاع على ثقلة اللحم والدم؛ وتحقيق للمعنى العلوي في الإنسان ، وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد والضرورة؛ وتطلع إلى الخلود الممتد ، وخلاص من الفناء المحدود :
{ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } .
وما يحجم ذوعقيدة في الله عن النفرة للجهاد في سبيله ، إلا وفي هذه العقيدة دخل ، وفي إيمان صاحبها بها وهن . لذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - « من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق » فالنفاق - وهو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال - هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل الله خشية الموت أو الفقر ، والآجال بيد الله ، والرزق من عند الله . وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .
ومن ثم يتوجه الخطاب إليهم بالتهديد :
{ إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ، ولا تضروه شيئاً ، والله على كل شيء قدير } . .
والخطاب لقوم معينين في موقف معين . ولكنه عام في مدلوله لكل ذوي عقيدة في الله . والعذب الذي يهتددهم ليس عذاب الآخرة وحده ، فهو ذلك عذاب الدنيا . عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح ، والغلبة عليهم للأعداء ، والحرمان من الخيرات واستغلالها للمعادين؛ وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد؛ ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء . وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل ، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء . .
{ ويستبدل قوماً غيركم } . .
يقومون على العقيدة ، ويؤدون ثمن العزة ، ويستعلون على أعداء الله :
{ ولا تضروه شيئاً } . .
ولا يقام لكم وزن ، ولا تقدمون أو تؤخرون في الحساب
{ والله على كل شيء قدير } . .
لا يعجزه أن يذهب بكم ، ويستبدل قوماً غيركم ، ويغفلكم من التقدير والحساب
إن الاستعلاء على ثقلة الأرض وعلى ضعف النفس ، إثبات للوجود الإنساني الكريم . فهو حياة بالمعنى العلوي للحياة : إن التثاقل إلى الإرض والاستسلام للخوف إعدام للوجود الإنساني الكريم . فهو فناء في ميزان الله وفي حساب الروح المميزة للأنسان .
ويضرب الله لهم المثل من الواقع التاريخي الذي يعلمونه ، على نصرة الله لرسوله بلا عون منهم ولا ولاء ، والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء :
{ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ، ثاني اثنين إذ هما في الغار . إذ يقول لصاحبه : لا تحزن إن الله معنا . فأنزل الله سكينته عليه ، وأيده بجنود لم تروها ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة الله هي العليا ، والله عزيز حكيم } .

.
ذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعاً ، كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق ، لا تملك لها دفعاً ، ولا تطيق عليها صبراً ، فائتمرت به ، وقررت أن تتخلص منه؛ فأطلعه الله على ما ائتمرت ، وأوحي إليه بالخروج ، فخرج وحيداً إلا من صاحبه الصدّيق ، لا جيش ولا عدة ، وأعداؤه كثر ، وقوتهم إلى قوته ظاهرة . والسياق يرسم مشهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه :
{ إذ هما في الغار } .
والقوم على إثرهما يتعقبون ، والصديق - رضي الله عنه - يجزع - لا على نفسه ولكن على صاحبه - أن يطلعواعليها فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب ، يقول له : لو أن أحدهم نظر إلى قدمية لأبصرنا تحت قدميه . والرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد أنزل الله سكينته على قلبه ، يهدئ من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له : « يا أبا بكر ما ظنك بأثنين الله ثالثهما؟ » .
ثم ماذا كانت العاقبة ، والقوة المادية كلها في جانب ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - مع صاحبه منها مجرد؟ كان النصر المؤزر من عند الله بجنود لم يرها الناس . وكانت الهزيمة للذين كفروا والذل والصغار :
{ وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } .
وظلت كلمة الله في مكانها العالي منتصرة قوية نافذة :
{ وكلمة الله هي العليا } . .
وقد قرئ « { وكلمةَ الله } بالنصب . ولكن القراءة بالرفع أقوى في المعنى . لأنها تعطي معنى التقرير . فكلمة الله هي العليا طبيعة وأصلاً ، بدون تصيير متعلق بحادثة معينة . والله { عزيز } لا يذل أولياؤه { حكيم } يقدر النصر في حينه لمن يستحقه
ذلك مثل على نصرة الله لرسوله ولكلمته؛ والله قادر على أن يعيده على أيدي قوم آخرين غير الذين يتثاقلون ويتباطأون . وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجة بعد قول الله إلى دليل
وفي ظلال هذا المثل الواقع المؤثر يدعوهم إلى النفرة العامة ، لا يعوقهم معوق . ولا يقعد بهم طارئ ، إن كانوا يريدون لأنفسهم الخير في هذه الأرض وفي الدار الآخرة :
{ انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله . ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } . .
انفروا في كل حال ، وجاهدوا بالنفوس والأموال ، ولا تتلمسوا الحجج والمعاذير ، ولا تخضعوا للعوائق والتعلات .
{ ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } .
وأدرك المؤمنون المخلصون هذا الخير . فنفروا والعوائق في طريقهم ، والأعذار حاضرة لو أرادوا التمسك بالأعذار . ففتح الله عليهم القلوب والأرضين ، وأعز بهم كلمة الله ، وأعزهم بكلمة الله ، وحقق على أيديهم ما يعد خارقة في تاريخ الفتوح .
قرأ أبو طلحة - رضي الله عنه - سورة براءة فأتى على هذه الآية فقال : أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباناً ، جهزوني يا بني . فقال بنوه : يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى مات ، ومع أبي بكر حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك .

فأبى فركب البحر فمات ، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام ، فلم يتغير ، فدفنوه بها .
وروى ابن جرير بإسناده - عن أبي راشد الحراني قال : « وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة ، وقد فضل عنها من عظمه يريد الغزو؛ فقلت له قد أعذر الله إليك . فقال : أتت علينا سورة البعوث .
{ انفروا خفافاً وثقالاً } .
وروى كذلك بإسناده - عن حيان بن زيد الشرعبي قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو ، وكان والياً على حمص قبل الأفسوس إلى الجراجمة فرأيت شيخا كبيراً هما ، قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار ، فأقبلت إليه فقلت : يا عم لقد أعذر الله إليك . قال : فرفع حاجبيه فقال يا ابن أخي استنفرنا الله ، خفافاً وثقالاً . ألا إنه من يحبه الله يبتليه ، ثم يعيده فيبقيه ، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا الله عز وجل .
وبمثل هذا الجد في أخذ كلمات الله انطلق الإسلام في الأرض ، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، وتمت تلك الخارقة في تلك الفتوح التحريرية الفريدة .

لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)

من هنا يبدأ الحديث عن الطوائف التي ظهرت عليها أعراض الضعف في الصف . وبخاصة جماعة المنافقين ، الذين اندسوا في صفوف المسلمين باسم الإسلام ، بعد أن غلب وظهر ، فرأى هؤلاء أن حب السلامة وحب الكسب يقتضيان أن يحنوا رؤوسهم للإسلام ، وأن يكيدوا له داخل الصفوف بعد أن عز عليهم أن يكيدوا له خارج الصفوف .
وسنرى في هذا المقطع كل الظواهر التي تحدثنا عنها في تقديم السورة كما يصورها السياق القرآني . ونحسب أنها ستكون مفهومة واضحة في ضوء ذلك التقديم الذي أسفلنا .
{ لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ، ولكن بعدت عليهم الشقة؛ وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ، يهلكون أنفسهم ، والله يعلم إنهم لكاذبون . عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين؟ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين . إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون؛ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم ، فثبطهم ، وقيل : اقعدوا مع القاعدين . لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ، وفيكم سماعون لهم ، والله عليم بالظالمين . لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون } . .
لو كان الأمر أمر عرض قريب من أعراض هذه الأرض ، وأمر سفر قصير الأمد مأمون العاقبة لاتبعوك ولكنها الشقة البعيدة التي تتقاصر دونها الهمم الساقطة والعزائم الضعيفة . ولكنه الجهد الخطر الذي تجزع منه الأرواح الهزيلة والقلوب المنخوبة . ولكنه الأفق العالي الذي تتخاذل دونه النفوس الصغيرة والبنية المهزولة .
وإنه لنموذج مكرور في البشرية ذلك الذي ترسمه تلك الكلمات الخالدة :
{ لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة } . .
فكثيرون هم أولئك الذين يتهاوون في الطريق الصاعد إلى الآفاق الكريمة . كثيرون أولئك الذين يجهدون لطول الطريق فيتخلفون عن الركب ويميلون إلى عرض تافه أو مطلب رخيص . كثيرون تعرفهم البشرية في كل زمان وفي كل مكان ، فما هي قلة عارضة ، إنما هي النموذج المكرور . وإنهم ليعيشون على حاشية الحياة ، وإن خيل إليهم أنهم بلغوا منافع ونالوا مطالب ، واجتنبوا أداء الثمن الغالي ، فالثمن القليل لا يشتري سوى التافه الرخيص
{ وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم } . .
فهو الكذب المصاحب للضعف أبداً . وما يكذب إلا الضعفاء . أجل ما يكذب إلا ضعيف ولو بدا في صورة الأقوياء الجبارين في بعض الأحايين . فالقوي يواجه والضعيف يداور . وما تتخلف هذه القاعدة في موقف من المواقف ولا في يوم من الأيام . .
{ يهلكون أنفسهم } . .
بهذا الحلف وبهذا الكذب ، الذي يخيل إليهم أنه سبيل النجاة عند الناس ، والله يعلم الحق ، ويكشفه للناس ، فيهلك الكاذب في الدنيا بكذبه ، ويهلك في الآخرة يوم لا يجدي النكران .

{ والله يعلم إِنهم لكاذبون } . .
{ عفا الله عنك . لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } . .
إنه لطف الله برسوله ، فهو يعجل له بالعفو قبل العتاب . فلقد تدارى المتخلفون خلف إذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم بالقعود حين قدموا له المعاذير . وقبل أن ينكشف صدقهم من كذبهم في هذه المعاذير وكانوا سيتخلفون عن الركب حتى ولو لم يأذن لهم . فعندئذ تتكشف حقيقتهم ، ويسقط عنهم ثوب النفاق ، ويظهرون للناس على طبيعتهم ، ولا يتوارون خلف إذن الرسول .
وإذا لم يكن ذلك فإن القرآن يتولى كشفهم ، ويقرر القواعد التي يمتاز بها المؤمنون والمنافقون .
{ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين . إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم ، فهم في ريبهم يترددون } .
وهذه هي القاعدة التي لا تخطئ . فالذين يؤمنون بالله ، ويعتقدون بيوم الجزاء ، لا ينتظرون أن يؤذن لهم في أداء فريضة الجهاد؛ ولا يتلكأون في تلبية داعي النفرة في سبيل الله بالأموال والأرواح؛ بل يسارعون إليها خفافاً وثقالاً كما أمرهم الله ، طاعة لأمره ، ويقيناً بلقائه ، وثقة بجزائه ، وابتغاء لرضاه . وإنهم ليتطوعون تطوعاً فلا يحتاجون إلى من يستحثهم ، فضلاً عن الإذن لهم . إنما يستأذن أولئك الذين خلت قلوبهم من اليقين فهم يتلكأون ويتلمسون المعاذير ، لعل عائقاً من العوائق يحول بينهم وبين النهوض بتكاليف العقيدة التي يتظاهرون بها ، وهم يرتابون فيها ويترددون .
إن الطريق إلى الله واضحة مستقيمة ، فما يتردد ويتلكأ إلا الذي لا يعرف الطريق ، أو الذي يعرفها ويتنكبها اتقاء لمتاعب الطريق
ولقد كان أولئك المتخلفون ذوي قدرة على الخروج ، لديهم وسائله ، وعندهم عدته :
{ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة } . .
وقد كان فيهم عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، وكان فيهم الجد بن قيس ، وكانوا أشرافاً في قومهم أثرياء .
{ ولكن كره الله انبعاثهم } . .
لما يعلمه من طبيعتهم ونفاقهم ، ونواياهم المنطوية على السوء للمسلمين كما سيجيء .
{ فثبطهم } . .
ولم يبعث فيهم الهمة للخروج .
{ وقيل : اقعدوا مع القاعدين } . .
وتخلفوا مع العجائز والنساء والأطفال الذين لا يستطيعون الغزو ، ولا ينبعثون للجهاد . فهذا مكانكم اللائق بالهمم الساقطة والقلوب المرتابة والنفوس الخاوية من اليقين .
وكان ذلك خيراً للدعوة وخيراً للمسلمين :
{ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ، وفيكم سماعون لهم ، والله عليم بالظالمين } . .
والقلوب الحائرة تبث الخور والضعف في الصفوف ، والنفوس الخائنة خطر على الجيوش؛ ولو خرج أولئك المنافقون ما زادوا المسلمين قوة بخروجهم بل لزادوهم اضطراباً وفوضى . ولأسرعوا بينهم بالوقيعة والفتنة والتفرقة والتخذيل . وفي المسلمين من يسمع لهم في ذلك الحين .

ولكن الله الذي يرعى دعوته ويكلأ رجالها المخلصين ، كفى المؤمنين الفتنة ، فترك المنافقين المتخاذلين قاعدين :
{ والله عليم بالظالمين } . .
والظالمون هنا معناهم « المشركون » فقد ضمهم كذلك إلى زمرة المشركين
وإن ماضيهم ليشهد بدخل نفوسهم ، وسوء طويتهم ، فلقد وقفوا في وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبذلوا ما في طوقهم ، حتى غلبوا على أمرهم فاستسلموا وفي القلب ما فيه :
{ لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون } . .
وكان ذلك عند مقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، قبل أن يظهره الله على أعدائه . ثم جاء الحق وانتصرت كلمة الله فحنوا لها رؤوسهم وهم كارهون ، وظلوا يتربصون الدوائر بالإسلام والمسلمين .
ثم يأخذ السياق في عرض نماذج منهم ومن معاذيرهم المفتراة؛ ثم يكشف عما تنطوي عليه صدورهم من التربص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين :
{ ومنهم من يقول : ائذن لي ولا تفتني . ألا في الفتنة سقطوا ، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين . إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا : قد أخذنا أمرنا من قبل ، ويتولوا وهم فرحون . قل : لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون . قل : هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين؟ ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا . فتربصوا إنا معكم متربصون } .
روى محمد بن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن قتادة قالوا : « قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ، وهو في جهازه ( أي لغزوة تبوك ) للجد بن قيس أخي بني سلمة : هل لك يا جد في جلاد بني الأصفر؟ » ( يعني الروم ) فقال : يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني؟ فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن . فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : « قد أذنت لك » ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية .
بمثل هذه المعاذير كان المنافقون يعتذرون . والرد عليهم :
{ ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } . .
والتعبير يرسم مشهداً كأن الفتنة فيه هاوية يسقط فيها المفتونون؛ وكأن جهنم من ورائهم تحيط بهم ، وتأخذ عليهم المنافذ والمتجهات فلا يفلتون . كناية عن مقارفتهم للخطيئة كاملة وعن انتظار العقاب عليها حتماً ، جزاء الكذب والتخلف والهبوط إلى هذا المستوى المنحط من المعاذير . وتقريراً لكفرهم وإن كانوا يتظاهرون بالإسلام وهم فيه منافقون .
إنهم لا يريدون بالرسول خيراً ولا بالمسلمين؛ وإنهم ليسؤوهم أن يجد الرسول والمسلمون خيراً :
{ إن تصبك حسنة تسؤهم } . .
وإنهم ليفرحون لما يحل بالمسلمين من مصائب وما ينزل بهم من مشقة :
{ وإن تصبك مصيبة يقولوا : قد أخذنا أمرنا من قبل } .

.
واحتطنا ألا نصاب مع المسلمين بشرّ ، وتخلفنا عن الكفاح والغزو
{ ويتولوا وهم فرحون } . .
بالنجاة وبما أصاب المسلمين من بلاء .
ذلك أنهم يأخذون بظواهر الأمور ، ويحسبون البلاء شراً في كل حال ، ويظنون أنهم يحققون لأنفسهم الخير بالتخلف والقعود . وقد خلت قلوبهم من التسليم لله ، والرضى بقدره ، واعتقاد الخير فيه . والمسلم الصادق يبذل جهده ويقدم لا يخشى ، اعتقاداً بأن ما يصيبه من خير أو شر معقود بإرادة الله ، وأن الله ناصر له ومعين :
{ قل : لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . .
والله قد كتب للمؤمنين النصر ، ووعدهم به في النهاية ، فمهما يصبهم من شدة ، ومهما يلاقوا من ابتلاء؛ فهو إعداد للنصر الموعود ، ليناله المؤمنون عن بينة ، وبعد تمحيص ، وبوسائله التي اقتضتها سنة الله ، نصراً عزيزاً لا رخيصاً ، وعزة تحميها نفوس عزيزة مستعدة لكل ابتلاء ، صابرة على كل تضحية . والله هو الناصر وهو المعين :
{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . .
والاعتقاد بقدر الله ، والتوكل الكامل على الله ، لا ينفيان اتخاذ العدة بما في الطوق . فذلك أمر الله الصريح :
{ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة . . . } وما يتكل على الله حق الاتكال من لا ينفذ أمر الله ، ومن لا يأخذ بالأسباب ، ومن لا يدرك سنة الله الجارية التي لا تحابي أحداً ، ولا تراعي خاطر إنسان
على أن المؤمن أمره كله خير . سواء نال النصر أو نال الشهادة . والكافر أمره كله شر سواء أصابه عذاب الله المباشر أو على أيدي المؤمنين :
{ قل : هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا . فتربصوا إنا معكم متربصون } . .
فماذا يتربص المنافقون بالمؤمنين؟ إنها الحسنى على كل حال . النصر الذي تعلو به كلمة الله ، فهو جزاؤهم في هذه الأرض . أو الشهادة في سبيل الحق عليا الدرجات عند الله . وماذا يتربص المؤمنون بالمنافقين؟ إنه عذاب الله يأخذهم كما أخذ من قبلهم من المكذبين؛ أو ببطش المؤمنين بهم كما وقع من قبل للمشركين . . { فتربصوا إنا معكم متربصون } والعاقبة معروفة . . والعاقبة للمؤمنين .
ولقد كان بعض هؤلاء المعتذرين المتخلفين المتربصين ، قد عرض ماله ، وهو يعتذر عن الجهاد ، ذلك ليمسك العصا من الوسط على طريقة المنافقين في كل زمان ومكان . فرد الله عليهم مناورتهم ، وكلف رسوله أن يعلن أن إنفاقهم غير مقبول عند الله ، لأنهم إنما ينفقونه عن رياء وخوف ، لا عن إيمان وثقة ، وسواء بذلوه عن رضا منهم بوصفه ذريعة يخدعون بها المسلمين ، أو عن كره خوفاً من انكشاف أمرهم ، فهو في الحالتين مردود ، لا ثواب له ولا يحسب لهم عند الله :
{ قل : أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم ، إنكم كنتم قوماً فاسقين .

وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ورسوله ، ولا يأتون الصلاة إلى وهم كسالى ، ولا ينفقون إلا وهم كارهون } . .
إنها صورة المنافقين في كل آن . خوف ومداراة ، وقلب منحرف وضمير مدخول . ومظاهر خالية من الروح ، وتظاهر بغير ما يكنه الضمير .
والتعبير القرآني الدقيق :
{ ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى } . .
فهم يأتونها مظهراً بلا حقيقة ، ولا يقيمونها إقامة واستقامة . يأتونها كسالى لأن الباعث عليها لا ينبثق من أعماق الضمير ، إنما يدفعون إليها دفعاً ، فيحسون أنهم عليها مسخرون وكذلك ينفقون ما ينفقون كارهين مكرهين .
وما كان الله ليقبل هذه الحركات الظاهرة التي لا تحدو إليها عقيدة ، ولا يصاحبها شعور دافع . فالباعث هو عمدة العمل والنية هي مقياسه الصحيح .
ولقد كان هؤلاء المنفقون وهم كارهون ذوي مال وذوي أولاد ، وذوي جاه في قومهم وشرف . ولكن هذا كله ليس بشيء عند الله . وكذلك يجب ألا يكون شيئاً عند الرسول والمؤمنين . فما هي بنعمة يسبغها الله عليهم ليهنأوا بها ، إنما هي الفتنة يسوقها الله إليهم ويعذبهم بها :
{ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ، وتزهق أنفسهم وهم كافرون } .
إن الأموال والأولاد قد تكون نعمة يسبغها الله على عبد من عباده ، حين يوفقه إلى الشكر على النعمة ، والإصلاح بها في الأرض ، والتوجه بها إلى الله ، فإذا هو مطمئن الضمير ، ساكن النفس ، واثق من المصير . كلما أنفق احتسب وشعر أنه قدم لنفسه ذخراً ، وكلما أصيب في ماله أو بنيه احتسب ، فإذا السكينة النفسية تغمره . والأمل في الله يسري عنه . . وقد تكون نقمة يصيب الله بها عبداً من عباده ، لأنه يعلم من أمره الفساد والدخل ، فإذا القلق على الأموال والأولاد يحول حياته جحيماً ، وإذا الحرص عليها يؤرقه ويتلف أعصابه ، وإذا هو ينفق المال حين ينفقه فيما يتلفه ويعود عليه بالأذى ، وإذا هو يشقى بأبنائه إذا مرضوا ويشقى بهم إذا صحوا ، وكم من الناس يعذبون بأبنائهم لسبب من الأسباب
وهؤلاء الذين كانوا على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمثالهم في كل زمان ، يملكون الأموال ويرزقون الأولاد ، يعجب الناس ظاهرها ، وهي لهم عذاب على نحو من الأنحاء . عذاب في الحياة الدنيا ، وهم - بما علم الله من دخيلتهم - صائرون إلى الهاوية . هاوية الموت على الكفر والعياذ بالله من هذا المصير .
والتعبير { وتزهق أنفسهم } يلقي ظل الفرار لهذه النفوس أو الهلاك . ظلاً مزعجاً لا هدوء فيه ولا اطمئنان ، فيتسق هذا الظل مع ظل العذاب في الحياة الدنيا بالأموال والأولاد . فهو القلق والكرب في الدنيا والآخرة . وما يحسد أحد على هذه المظاهر التي تحمل في طياتها البلاء
ولقد كان أولئك المنافقون يدسون أنفسهم في الصف ، لا عن إيمان واعتقاد ، ولكن عن خوف وتقية ، وعن طمع ورهب .

ثم يحلفون أنهم من المسلمين ، أسلموا اقتناعاً ، وآمنوا اعتقاداً . . فهذه السورة تفضحهم وتكشفهم على حقيقتهم ، فهي الفاضحة التي تكشف رداء المداورة وتمزق ثوب النفاق :
{ ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون . لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لولوا إليه وهم يجمحون } .
إنهم جبناء . والتعبير يرسم لهذا الجبن مشهداً ويجسمه في حركة . حركة النفس والقلب ، يبرزها في حركة جسد وعيان :
{ لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لولوا إليه وهم يجمحون } . .
فهم متطلعون أبداً إلى مخبأ يحتمون به ، ويأمنون فيه . حصناً أو مغارة أو نفقاً . إنهم مذعورون مطاردون . يطاردهم الفزع الداخلي والجبن الروحي . ومن هنا :
{ يحلفون بالله إنهم لمنكم } . .
بكل أدوات التوكيد ، ليداروا ما في نفوسهم ، وليتقوا انكشاف طويتهم ، وليأمنوا على ذواتهم . . وإنها لصورة زرية للجبن والخوف والملق والرياء . لا يرسمها إلا هذا الاسلوب القرآني العجيب . الذي يبرز حركات النفس شاخصة للحس على طريقة التصوير الفني الموحي العميق .
ثم يستمر سياق السورة في الحديث عن المنافقين ، وما يند منهم من أقوال وأعمال ، تكشف عن نواياهم التي يحاولون سترها ، فلا يستطيعون . فمنهم من يلمز النبي - صلى الله عليه وسلم - في توزيع الصدقات ، ويتهم عدالته في التوزيع ، وهو المعصوم ذو الخلق العظيم ، ومنهم من يقول : هو اذن يستمع لكل قائل ، ويصدق كل ما يقال ، وهو النبي الفطن البصير ، المفكر المدبر الحكيم . ومنهم من يتخفى بالقولة الفاجرة الكافرة ، حتى إذا انكشف أمره استعان بالكذب والحلف ليبرئ نفسه من تبعة ما قال . ومنهم من يخشى أن ينزل الله على رسوله سورة تفضح نفاقهم وتكشفهم للمسلمين .
ويعقب على استعراض هذه الصنوف من المنافقين ، ببيان طبيعة النفاق والمنافقين ، ويربط بينهم وبين الكفار الذين خلوا من قبل ، فأهلكهم الله بعد ما استمتعوا بنصيبهم إلى أجل معلوم . ذلك ليكشف عن الفوارق بين طبيعتهم هذه وطبيعة المؤمنين الصادقين ، الذين يخلصون العقيدة ولا ينافقون .
{ ومنهم من يلمزك في الصدقات ، فإن أعطوا منها رضوا ، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون . ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله ، وقالوا : حسبنا الله ، سيؤتينا الله من فضله ورسوله ، إنا إلى الله راغبون . إنما الصدقات للفقراء والمساكين ، والعاملين عليها ، والمؤلفة قلوبهم ، وفي الرقاب ، والغارمين ، وفي سبيل الله وابن السبيل ، فريضة من الله والله عليم حكيم } . .
من المنافقين من يغمزك بالقول ، ويعيب عدالتك في توزيع الصدقات ، ويدعي أنك تحابي في قسمتها . وهم لا يقولون ذلك غضباً للعدل ، ولا حماسة للحق ، ولا غيرة على الدين ، إنما يقولونه لحساب ذواتهم وأطماعهم ، وحماسة لمنفعتهم وأنانيتهم :
{ فإن أعطوا منها رضوا } ولم يبالوا الحق والعدل والدين
{ وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون }
وقد وردت روايات متعددة عن سبب نزول الآية ، تقص حوادث معينة عن أشخاص بأعيانهم لمزوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عدالة التوزيع .

روى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم قسماً إذ جاءه ذو الخويصر التميمي ، فقال : أعدل يا رسول الله . فقال : « ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ » فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ائذن لي فأضرب عنقه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم في الرمية . . . » قال أبو سعيد ، فنزلت فيهم : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } .
وروى ابن مردويه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : « لما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - غنائم حنين سمعت رجلاً يقول : إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله . فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ذلك فقال : » رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر « ونزل { ومنهم من يلمزك في الصدقات } .
وروى سنيد وابن جرير عن داود بن أبي عاصم قال : أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بصدقة فقسمها ها هنا وها هنا حتى ذهبت ، ورآه رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل . فنزلت هذه الآية .
وقال قتادة في قوله : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } يقول : ومنهم من يطعن عليك في الصدقات . وذكر لنا أن رجلاً من أهل البادية حديث عهد بأعرابية أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم ذهباً وفضة ، فقال : يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت ، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - » ويلك فمن ذا الذي يعدل عليك بعدي؟ «
وعلى أية حال فالنص القرآني يقرر أن القولة قولة فريق من المنافقين . يقولونها لا غيرة على الدين ، ولكن غضباً على حظ أنفسهم ، وغيظاً أن لم يكن لهم نصيب . . وهي آية نفاقهم الصريحة . فما يشك في خلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - مؤمن بهذا الدين ، وهو المعروف حتى قبل الرسالة بأنه الصادق الأمين ، والعدل فرع من أمانات الله التي ناطها بالمؤمنين فضلاً على نبي المؤمنين . وواضح أن هذه النصوص تحكي وقائع وظواهر وقعت من قبل ، ولكنها تتحدث عنها في ثنايا الغزوة لتصوير أحوال المنافقين الدائمة المتصلة قبل الغزوة وفي ثناياها .
وبهذه المناسبة يرسم السياق الطريق اللائق بالمؤمنين الصادقي الإيمان :
{ ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله ، وقالوا : حسبنا الله ، سيؤتينا الله من فضله ورسوله .

إنا إلى الله راغبون } . .
فهذا هو أدب النفس وأدب اللسان ، وأدب الإيمان : الرضا بقسمة الله ورسوله ، رضا التسليم والاقتناع لا رضا القهر والغلب . والاكتفاء بالله ، والله كاف عبده . والرجاء في فضل الله ورسوله والرغبة في الله خالصة من كل كسب مادي ، ومن كل طمع دنيوي . . ذلك أدب الإيمان الصحيح الذي ينضح به قلب المؤمن . وإن كانت لا تعرفه قلوب المنافقين ، الذين لم تخالط بشاشة الإيمان أرواحهم ، ولم يشرق في قلوبهم نور اليقين .
وبعد بيان هذا الأدب اللائق في حق الله وحق رسوله ، تطوعاً ورضا وإسلاماً ، يقرر أن الأمر - مع ذلك - ليس أمر الرسول؛ إنما هو أمر الله وفريضته وقسمته ، وما الرسول فيها إلا منفذ للفريضة المقسومة من رب العالمين . فهذه الصدقات - أي الزكاة - تؤخذ من الأغنياء فريضة من الله ، وترد على الفقراء فريضة من الله . وهي محصورة في طوائف من الناس يعينهم القرآن ، وليست متروكة لاختيار أحد ، حتى لا اختيار الرسول :
{ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل . فريضة من الله والله عليم حكيم } . .
وبذلك تأخذ الزكاة مكانها في شريعة الله ، ومكانها في النظام الإسلامي ، لا تطوعاً ولا تفضلاً ممن فرضت عليهم . فهي فريضة محتمة . ولا منحة ولا جزافاً من القاسم الموزع . فهي فريضة معلومة . إنها إحدى فرائض الإسلام تجمعها الدولة المسلمة بنظام معين لتؤدي بها خدمة اجتماعية محددة . وهي ليست إحساناً من المعطي وليست شحاذة من الآخذ . . كلا فما قام النظام الاجتماعي في الإسلام على التسول ، ولن يقوم
إن قوام الحياة في النظام الإسلامي هو العمل - بكل صنوفه وألوانه - وعلى الدولة المسلمة أن توفر العمل لكل قادر عليه ، وأن تمكنه منه بالإعداد له ، وبتوفير وسائله ، وبضمان الجزاء الأوفى عليه ، وليس للقادرين على العمل من حق في الزكاة ، فالزكاة ضريبة تكافل اجتماعي بين القادرين والعاجزين ، تنظمها الدولة وتتولاها في الجمع والتوزيع؛ متى قام المجتمع على أساس الإسلام الصحيح ، منفذاً شريعة الله ، لا يبتغي له شرعاً ولا منهجاً سواه .
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي » .
وعن عبد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألانه من الصدقة ، فقلب فيهما البصر ، فرآهما جلدين ، فقال : « إن شئتما أعطيتكما . ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب » .
إن الزكاة فرع من فروع نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام . وهذا النظام أشمل وأوسع كثيراً من الزكاة؛ لأنه يتمثل في عدة خطوط تشمل فروع الحياة كلها ، ونواحي الارتباطات البشرية بأكملها ، والزكاة خط أساسي من هذه الخطوط .

والزكاة تجمع بنسبة العشر ونصف العشر وربع العشر من أصل المال حسب أنواع الأموال . وهي تجمع من كل من يملك حوالي عشرين جنيهاً فائضة عن حاجته يحول عليها الحول . وبذلك يشترك في حصيلتها معظم أفراد الأمة . ثم تنفق في المصارف التي بينتها الآية هنا ، وأول المستحق لها هم الفقراء والمساكين . والفقراء هم الذين يجدون دون الكفاية ، والمساكين مثلهم ولكنهم هم الذين يتجملون فلا يبدون حاجتهم ولا يسألون .
وإن كثيراً ممن يؤدون الزكاة في عام ، قد يكونون في العام التالي مستحقين للزكاة . بنقص ما في أيديهم عن الوفاء بحاجاتهم . فهي من هذه الناحية تأمين اجتماعي . وبعضهم يكون لم يؤد شيئاً في حصيلة الزكاة ولكنه يستحقها . فهي من هذه الناحية ضمان اجتماعي . . وهي قبل هذا وذاك فريضة من الله ، تزكو النفس بأدائها وهي إنما تعبد بها الله ، وتخلص من الشح وتستعلي عليه في هذا الأداء .
{ إنما الصدقات للفقراء والمساكين } . . وقد سبق بيانهما .
{ والعاملين عليها } . . أي الذين يقومون على تحصيلها .
{ والمؤلفة قلوبهم } . . وهم طوائف ، منهم الذين دخلوا حديثاً في الإسلام ويراد تثبيتهم عليه . ومنهم الذين يرجى أن تتألف قلوبهم فيسلموا . ومنهم الذين أسلموا وثبتوا ويرجى تأليف قلوب أمثالهم في قومهم ليثوبوا إلى الإسلام حين يرون إخوانهم يرزقون ويزادون . . وهناك خلاف فقهي حول سقوط سهم هؤلاء المؤلفة قلوبهم بعد غلبة الإسلام . . ولكن المنهج الحركي لهذا الدين سيظل يواجه في مراحله المتعددة كثيراً من الحالات ، تحتاج إلى إعطاء جماعة من الناس على هذا الوجه؛ إما إعانة لهم على الثبات على الإسلام إن كانوا يحاربون في أرزاقهم لإسلامهم ، وإما تقريباً لهم من الإسلام كبعض الشخصيات غير المسلمة التي يرجى أن تنفع الإسلام بالدعوة له والذب عنه هنا وهناك . ندرك هذه الحقيقة ، فنرى مظهراً لكمال حكمة الله في تدبيره لأمر المسلمين على اختلاف الظروف والأحوال .
{ وفي الرقاب } . . ذلك حين كان الرق نظاماً عالمياً ، تجري المعاملة فيه على المثل في استرقاق الأسرى بين المسلمين وأعدائهم . ولم يكن للإسلام بد من المعاملة بالمثل حتى يتعارف العالم على نظام آخر غير الاسترقاق . . وهذا السهم كان يستخدم في إعانة من يكاتب سيده على الحرية في نظير مبلغ يؤديه له ، ليحصل على حريته بمساعدة قسطه من الزكاة . أو بشراء رقيق وإعتاقهم بمعرفة الدولة من هذا المال .
{ والغارمين } . . وهم المدينون في غير معصية . يعطون من الزكاة ليوفوا ديونهم . بدلاً من إعلان إفلاسهم كما تصنع الحضارة المادية بالمدينين من التجارة مهما تكن الأسباب فالإسلام نظام تكافلي ، لا يسقط فيه الشريف ، ولا يضيع فيه الأمين ، ولا يأكل الناس بعضهم بعضاً في صورة قوانين نظامية ، كما يقع في شرائع الأرض أو شرائع الغاب
{ وفي سبيل الله } .

. وذلك باب واسع يشمل كل مصلحة للجماعة ، تحقق كلمة الله .
{ وابن السبيل } . . وهو المسافر المنقطع عن ماله ، ولو كان غنياً في بلده .
هذه هي الزكاة التي يتقول عليها المتقولون في هذا الزمان ، ويلمزونها بأنها نظام تسول وإحسان . . هذه هي فريضة اجتماعية ، تؤدى في صورة عبادة إسلامية . ذلك ليطهر الله بها القلوب من الشح؛ وليجعلها وشيجة تراحم وتضامن بين أفراد الأمة المسلمة . تندّي جو الحياة الإنسانية ، وتمسح على جراح البشرية؛ وتحقق في الوقت ذاته التأمين الاجتماعي والضمان الاجتماعي في أوسع الحدود . وتبقى لها صفة العبادة التي تربط بين القلب البشري وخالقه ، كما تربط بينه وبين الناس :
{ فريضة من الله } الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية ، ويدبر أمرها بالحكمة :
{ والله عليم حكيم } .
وبعد بيان قواعد الصدقات ، التي يرجع إليها التوزيع والتقسيم . ذلك البيان الذي يكشف عن جهل الذين يلمزون الرسول - صلى الله عليه وسلم - فوق سوء أدبهم حين يلمزون الرسول الأمين . بعد هذا يمضي السياق يعرض صنوف المنافقين ، وما يقولون وما يفعلون :
{ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون : هو أذن . قل : أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ، ورحمة للذين آمنوا منكم ، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم . يحلفون بالله لكم ليرضوكم ، والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين . ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها . ذلك الخزي العظيم . يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم . قل : استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون . ولئن سألتهم ليقولن : إنما كنا نخوض ونلعب . قال : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم؛ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين } . .
إنه سوء الأدب في حق الرسول ، يبدو في صورة أخرى غير صورة اللمز في الصدقات . إنهم يجدون من النبي - صلى الله عليه وسلم - أدباً رفيعاً في الاستماع إلى الناس بإقبال وسماحة؛ ويعاملهم بظاهرهم حسب أصول شريعته؛ ويهش لهم ويفسح لهم من صدره . فيسمون هذا الأدب العظيم بغير اسمه ، ويصفونه بغير حقيقته ، ويقولون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - { هو أذن } أي سماع لكل قول ، يجوز عليه الكذب والخداع والبراعة ، ولا يفطن إلى غش القول وزوره . من حلف له صدقه ، ومن دس عليه قولاً قبله . يقولون هذا بعضهم لبعض تطميناً لأنفسهم أن يكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - حقيقة أمرهم ، أو يفطن إلى نفاقهم . أو يقولونه طعناً على النبي في تصديقه للمؤمنين الخلص الذين ينقلون له ما يطلعون عليه من شؤون المنافقين وأعمالهم وأقوالهم عن الرسول وعن المسلمين . وقد وردت الروايات بهذا وذلك في سبب نزول الآية .

وكلاهما يدخل في عمومها . وكلاهما يقع من المنافقين .
ويأخذ القرآن الكريم كلامهم ليجعل منه رداً عليهم :
{ ويقولون : هو أذن } . .
نعم . . ولكن .
{ قل : أذن خير لكم } . .
أذن خير يستمع إلى الوحي ثم يبلغه لكم وفيه خيركم وصلاحكم . وأذن خير يستمع إليكم في أدب ولا يجبهكم بنفاقكم ، ولا يرميكم بخداعكم ، ولا يأخذكم بريائكم .
{ يؤمن بالله } .
فيصدق كل ما يخبره به عنكم وعن سواكم .
{ ويؤمن للمؤمنين } . .
فيطمئن إليهم ويثق بهم ، لأنه يعلم منهم صدق الإيمان الذي يعصمهم من الكذب والالتواء والرياء .
{ ورحمة للذين آمنوا منكم } . .
يأخذ بيدهم إلى الخير .
{ والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } . .
من الله غيرة على الرسول أن يؤذى وهو رسول الله .
{ يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين } .
يحلفون بالله لكم ليرضوكم ، على طريقة المنافقين في كل زمان ، الذين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون من وراء الظهور؛ ثم يجبنون عن المواجهة ، ويضعفون عن المصارحة ، فيتضاءلون ويتخاذلون للناس ليرضوهم .
{ والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين } . .
فماذا يكون الناس؟ وماذا تبلغ قوتهم؟ ولكن الذي لا يؤمن بالله عادة ولا يعنو له ، يعنو لإنسان مثله ويخشاه؛ ولقد كان خيراً أن يعنو لله الذي يتساوى أمامه الجميع ، ولا يذل من يخضع له ، إنما يذل من يخضع لعباده ، ولا يصغر من يخشاه ، إنما يصغر من يعرضون عنه فيخشون من دونه من عباد الله .
{ ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالداً فيها ، ذلك الخزي العظيم } . . سؤال للتأنيب والتوبيخ ، فإنهم ليدعون الإيمان ، ومن يؤمن يعلم أن حرب الله ورسوله كبرى الكبائر ، وأن جهنم في انتظار من يرتكبها من العباد ، وأن الخزي هو الجزاء المقابل للتمرد . فإذا كانوا قد آمنوا كما يدعون ، فكيف لا يعلمون؟
إنهم يخشون عباد الله فيحلفون لهم ليرضوهم ، ولينفوا ما بلغهم عنهم . فكيف لا يخشون خالق العباد ، وهم يؤذون رسوله ، ويحاربون دينه . فكأنما يحاربون الله ، تعالى الله أن يقصده أحد بحرب إنما هو تفظيع ما يرتكبون من إثم ، وتجسيم ما يقارفون من خطيئة ، وتخويف من يؤذون رسول الله ، ويكيدون لدينه في الخفاء .
وإنهم لأجبن من أن يواجهوا الرسول والذين معه ، وإنهم ليخشون أن يكشف الله سترهم ، وأن يطلع الرسول - صلى الله عليه وسلم - على نواياهم :
{ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم . قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون . ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب . قل : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم؛ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين } . .
إن النص عام في حذر المنافقين أن ينزل الله قرآناً يكشف خبيئتهم ، ويتحدث عما في قلوبهم .

فينكشف للناس ما يخبئونه . وقد وردت عدة روايات عن حوادث معينة في سبب نزول هذه الآيات .
قال أبو معشر المديني عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : قال رجل من المنافقين : ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة ، وأجبننا عند اللقاء ( يقصدون قراء القرآن ) فرفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ارتحل وركب ناقته؛ فقال : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ، فقال : { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ } إلى قوله : { كانوا مجرمين } وإن رجليه لتسفعان الحجارة ، وما يلتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متعلق بسيف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال محمد بن إسحاق : وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف ، ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير يسيرون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منطلق إلى تبوك؛ فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال . . إرجافاً وترهيباً للمؤمنين . فقال مخشي ابن حمير : والله لوددت أن أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة ، وأننا ننجوا أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه . « وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني لعمار بن ياسر أدرك القوم فإنهم قد احترقوا ، فاسألهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى قلتم كذا وكذا » فانطلق إليهم عمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتذرون إليه . فقال وديعة بن ثابت ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف على راحلته ، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب . فقال مخشي بن حمير : يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي . فكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشي بن حمير ، فتسمى عبد الرحمن ، وسأل الله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه ، فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر .
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : « بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوته إلى تبوك ، وبين يديه أناس من المنافقين فقالوا : أيرجو هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات . فأطلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - » احبسوا على هؤلاء الركب « فأتاهم فقال : قلتم كذا . قلتم كذا . قالوا : يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب ، فأنزل الله فيهم ما تسمعون .

إنما كنا نخوض ونلعب . . كأن هذه المسائل الكبرى التي يتصدون لها ، وهي ذات صلة وثيقة بأصل العقيدة . . كأن هذه المسائل مما يخاض فيه ويلعب . { قل : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ } .
لذلك ، لعظم الجريمة ، يجبههم بأنهم قالوا كلمة الكفر . وكفروا بعد إيمانهم الذي أظهروه ، وينذرهم بالعذاب ، الذي إن تخلف عن بعضهم لمسارعته إلى التوبة وإلى الإيمان الصحيح ، فإنه لن يصرف عن بعضهم الذي ظل على نفاقه واستهزائه بآيات الله ورسوله ، وبعقيدته ودينه :
{ بأنهم كانوا مجرمين } . .
وعندما يصل السياق إلى هذا الحد في استعراض تلك النماذج من أقوال المنافقين وأعمالهم وتصوراتهم ، يعمد إلى تقرير حقيقة المنافقين بصفة عامة ، وعرض الصفات الرئيسية التي تميزهم عن المؤمنين الصادقين ، وتحديد العذاب الذي ينتظرهم أجمعين :
{ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ، ويقبضون أيديهم . نسوا الله فنسيهم . إن المنافقين هم الفاسقون . وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها؛ هي حسبهم ، ولعنهم الله ، ولهم عذاب مقيم } .
المنافقون والمنافقات من طينة واحدة ، وطبيعة واحدة . المنافقون في كل زمان وفي كل مكان . تختلف أفعالهم وأقوالهم ، ولكنها ترجع إلى طبع واحد ، وتنبع من معين واحد . سوء الطوية ولؤم السريرة ، والغمز والدس ، والضعف عن المواجهة ، والجبن عن المصارحة . تلك سماتهم الأصلية . أما سلوكهم فهو الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ، والبخل بالمال إلا أن يبذلوه رئاء الناس . وهم حين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف يستخفون بهما ، ويفعلون ذلك دساً وهمساً ، وغمزاً ولمزاً ، لأنهم لا يجرؤون على الجهر إلا حين يأمنون . إنهم { نسوا الله } فلا يحسبون إلا حساب الناس وحساب المصلحة ، ولا يخشون إلا الأقوياء من الناس يذلون لهم ويدارونهم { فنسيهم } الله فلا وزن لهم ولا اعتبار . وإنهم لكذلك في الدنيا بين الناس ، وإنهم لكذلك في الآخرة عند الله . وما يحسب الناس حساباً إلا للرجال الأقوياء الصرحاء ، الذين يجهرون بآرائهم ، ويوقفون خلف عقائدهم ، ويواجهون الدنيا بأفكارهم ، ويحاربون أو يسالمون في وضح النهار . أولئك ينسون الناس ليذكروا إله الناس ، فلا يخشون في الحق لومة لائم ، وأولئك يذكرهم الله فيذكرهم الناس ويحسبون حسباهم .
{ إن المنافقين هم الفاسقون } . .
فهم خارجون عن الإيمان ، منحرفون عن الطريق ، وقد وعدهم الله مصيراً كمصير الكفار :
{ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها ، هي حسبهم } . .
وفيها كفايتهم وهي كفاء إجرامهم .
{ ولعنهم الله } . .
فهم مطرودون من رحمته . .
{ ولهم عذاب مقيم } . .
هذه الطبيعة الفاسقة المنحرفة الضالة ، ليست جديدة ، ففي تاريخ البشرية لها نظائر وأمثال . ولقد حوى تاريخ البشرية من قبل هؤلاء نماذج كثيرة من هذا الطراز . ولقد لاقى السابقون مصائر تليق بفسوقهم عن الفطرة المستقيمة والطريق القويمة ، بعدما استمتعوا بنصيبهم المقدر لهم في هذه الأرض ، وكانوا أشد قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فلم يغن عنهم من ذلك كله شيء .

والقرآن يذكر القوم بما كان من أسلافهم ، ويبصرهم بأنهم يسلكون طريقهم ، ويحذرهم أن يلاقوا مصيرهم . لعلهم يهتدون :
{ كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً ، فاستمتعوا بخلاقهم . فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ، وخضتم كالذي خاضوا . أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون } .
إنها الفتنة بالقوة ، والفتنة بالأموال والأولاد . فأما الذين اتصلت قلوبهم بالقوة الكبرى فهم لا يفتنون بالقوة العارضة التي تخول لهم في الأرض ، لأنهم يخشون من هو أقوى ، فينفقون قوتهم في طاعته وإعلاء كلمته . وهم لا يفتنون بالأموال والأولاد ، لأنهم يذكرون من أنعم عليهم بالأموال والأولاد ، فيحرصون على شكر نعمته ، وتوجيه أموالهم وأولادهم إلى طاعته . . وأما الذين انحرفت قلوبهم عن مصدر القوة والنعمة فهم يبطرون ويفجرون في الأرض ، ويتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام :
{ أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } . .
وبطلت بطلاناً أساسياً ، لأنها كالنبتة بلا جذور ، لا تستقر ولا تنمو ولا تزدهر .
{ وأولئك هم الخاسرون } . .
الذين خسروا كل شيء على وجه الإجمال بلا تحديد ولا تفصيل .
ويلتفت السياق من خطابهم إلى خطاب عام ، كأنما يعجب من هؤلاء الذين يسيرون في طريق الهالكين ولا يعتبرون :
{ ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات؟ أتتهم رسلهم بالبينات ، فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } . .
هؤلاء الذين يستمتعون غير شاعرين ، ويسيرون في طريق الهلكى ولا يتعظون . . هؤلاء { ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم } ممن ساروا في نفس الطريق؟ { قوم نوح } وقد غمرهم الطوفان وطواهم اليم في تيار الفناء المرهوب { وعاد } وقد أهلكوا بريح صرصر عاتية { وثمود } وقد أخذتهم الصيحة { وقوم إبراهيم } وقد أهلك طاغيتهم المتجبر وأنجى إبراهيم { وأصحاب مدين } وقد أصابتهم الرجفة وخنقتهم الظلة { والمؤتفكات } قرى قوم لوط وقد قطع الله دابرهم إلا الأقلين . . ألم يأتهم نبأ هؤلاء الذين { أتتهم رسلهم بالبينات } فكذبوا بها ، فأخذهم الله بذنوبهم :
{ فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } ؟
إن النفس المنحرفة تبطرها القوة فلا تذكر ، وتعميها النعمة فلا تنظر . وما تنفع عظات الماضي ولا عبره إلا من تتفتح بصائرهم لإدراك سنة الله التي لا تتخلف ، ولا تتوقف ، ولا تحابي أحداً من الناس . وإن كثيراً ممن يبتليهم الله بالقوة وبالنعمة لتغشى أبصارهم وبصائرهم غشاوة ، فلا يبصرون مصارع الأقوياء قبلهم ، ولا يستشعرون مصير البغاة الطغاة من الغابرين . عندئذ تحق عليهم كلمة الله ، وعندئذ تجري فيهم سنة الله ، وعندئذ يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر . وهم في نعمائهم يتقلبون ، وبقوتهم يتخايلون . والله من ورائهم محيط .
إنها الغفلة والعمى والجهالة نراها تصاحب القوة والنعمة والرخاء ، نراها في كل زمان وفي كل مكان . إلا من رحم الله من عباده المخلصين .

وفي مقابل المنافقين والكفار ، يقف المؤمنون الصادقون . طبيعة غير الطبيعة ، وسلوكاً غير السلوك ، ومصيراً غير المصير :
{ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة؛ ويطيعيون الله ورسوله . أولئك سيرحمهم الله ، إن الله عزيز حكيم . وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، ومساكن طيبة في جنات عدن ، ورضوان من الله أكبر ، ذلك هو الفوز العظيم } . .
إذا كان المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض . إذا كانوا جبلة واحدة وطبيعة واحدة . . فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض . أن المنافقين والمنافقات مع وحدة طبيعتهم لا يبلغون أن يكونوا أولياء بعضهم لبعض . فالولاية تحتاج إلى شجاعة وإلى نجدة وإلى تعاون وإلى تكاليف . وطبيعة النفاق تأبى هذا كله ولو كان بين المنافقين أنفسهم . إن المنافقين أفراد ضعاف مهازيل ، وليسوا جماعة متماسكة قوية متضامنة ، على ما يبدو بينهم من تشابه في الطبيعة والخلق والسلوك . والتعبير القرآني الدقيق لا يغفل هذا المعنى في وصف هؤلاء وهؤلاء . .
{ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } . .
{ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } . .
إن طبيعة المؤمن هي طبيعة الأمة المؤمنة . طبيعة الوحدة وطبيعة التكافل ، وطبيعة التضامن ، ولكنه التضامن في تحقيق الخير ودفع الشر .
{ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } . . وتحقيق الخير ودفع الشر يحتاج إلى الولاية والتضامن والتعاون . ومن هنا تقف الأمة المؤمنة صفاً واحداً . لا تدخل بينها عوامل الفرقة . وحيثما وجدت الفرقة في الجماعة المؤمنة فثمة ولا بد عنصر غريب عن طبيعتها ، وعن عقيدتها ، هو الذي يدخل بالفرقة . ثمة غرض أو مرض يمنع السمة الأولى ويدفعها . السمة التي يقررها العليم الخبير
{ بعضهم أولياء بعض } . . يتجهون بهذه الولاية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإعلاء كلمة الله ، وتحقيق الوصاية لهذه الأمة في الأرض .
{ ويقيمون الصلاة } . .
الصلة التي تربطهم بالله .
{ ويؤتون الزكاة } . .
الفريضة التي تربط بين الجماعة المسلمة ، وتحقق الصورة المادية والروحية للولاية والتضامن .
{ ويطيعون الله ورسوله } . .
فلا يكون لهم هوى غير أمر الله وأمر رسوله ، ولا يكون لهم دستور إلا شريعة الله ورسوله . ولا يكون لهم منهج إلا دين الله ورسوله ، ولا يكون لهم الخيرة إذا قضى الله ورسوله . . وبذلك يوحدون نهجهم ويوحدون هدفهم ويوحدون طريقتهم ، فلا تتفرق بهم السبل عن الطريق الواحد الواصل المستقيم .
{ أولئك سيرحمهم الله } . .
والرحمة لا تكون في الآخرة وحدها ، إنما تكون في هذه الأرض أولاً ورحمة الله تشمل الفرد الذي ينهض بتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛ وتشمل الجماعة المكونة من أمثال هذا الفرد الصالح . رحمة الله في اطمئنان القلب ، وفي الاتصال بالله ، وفي الرعاية والحماية من الفتن والأحداث . ورحمة الله في صلاح الجماعة وتعاونها وتضامنها واطمئنان كل فرد للحياة واطمئنانه لرضاء الله .
إن هذه الصفات الأربع في المؤمنين : الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، لتقابل من صفات المنافقين : الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ونسيان الله وقبض الأيدي .

. وإن رحمة الله للمؤمنين لتقابل لعنته للمنافقين والكفار . . وإن تلك الصفات لهي التي وعد الله المؤمنين عليها بالنصر والتمكين في الأرض ليحققوها في وصايتهم الرشيدة على البشرية :
{ إن الله عزيز حكيم } . .
قادر على إعزاز الفئة المؤمنة ليكون بعضها أولياء بعض في النهوض بهذه التكاليف ، حكيم في تقدير النصر والعزة لها ، لتصلح في الأرض ، وتحرس كلمة الله بين العباد .
وإذا كان عذاب جهنم ينتظر المنافقين والكافرين ، وكانت لعنته لهم بالمرصاد ، وكان نسيانه لهم يدمغهم بالضآلة والحرمان . فإن نعيم الجنة ينتظر المؤمنين :
{ جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن } . .
للإقامة المطمئنة . ولهم فوقها ما هو أكبر وأعظم :
{ ورضوان من الله أكبر } . .
وإن الجنة بكل ما فيها من نعيم لتتضاءل وتتوارى في هالات ذلك الرضوان الكريم .
{ ورضوان من الله أكبر } . .
إن لحظة اتصال بالله . لحظة شهود لجلاله . لحظة انطلاق من حبسة هذه الأمشاج ، ومن ثقلة هذه الأرض وهمومها القريبة . لحظة تنبثق فيها في أعماق القلب البشري شعاعة من ذلك النور الذي لا تدركه الأبصار . لحظة إشراق تنير فيها حنايا الروح بقبس من روح الله . . إن لحظة واحدة من هذه اللحظات التي تتفق للندرة القليلة من البشر في ومضة صفاء ، ليتضاءل إلى جوارها كل متاع ، وكل رجاء . . فكيف برضوان من الله يغمر هذا الأرواح ، وتستشعره بدون انقطاع؟
{ ذلك هو الفوز العظيم } . .
وبعد بيان صفة المؤمنين الصادقين وصفة المنافقين الذين يدّعون الإيمان . . يأمر الله نبيه أن يجاهد الكفار والمنافقين . ويقرر القرآن الكريم أن هؤلاء المنافقين قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ، وهموا بأمر خيبهم الله فيه ، وهو من وحي الكفر الذي صاروا إليه . ويعجب من نقمتهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كان لهم من بعثته إلا الخير والغنى . ويرغبهم في التوبة ويخوفهم التمادي في الكفر والنفاق :
{ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ، ومأواهم جهنم وبئس المصير . يحلفون بالله ما قالوا ، ولقد قالوا كلمة الكفر ، وكفروا بعد إسلامهم ، وهموا بما لم ينالوا . وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله . فإن يتوبوا يك خيراً لهم ، وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة ، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير } . .
لقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لاين المنافقين كثيراً ، وأغضى عنهم كثيراً ، وصفح عنهم كثيراً . فها هو ذا يبلغ الحلم غايته ، وتبلغ السماحة أجلها ، ويأمره ربه أن يبدأ معهم خطة جديدة ، ويلحقهم بالكافرين في النص ، ويكلفه جهاد هؤلاء وهؤلاء جهاداً عنيفاً غليظاً لا رحمة فيه ولا هوادة .

إن للين مواضعه وللشدة مواضعها . فإذا انتهى أمد اللين فلتكن الشدة؛ وإذا انقضى عهد المصابرة فليكن الحسم القاطع . . وللحركة مقتضياتها ، وللمنهج مراحله ، واللين في بعض الأحيان قد يؤذي ، والمطاولة قد تضر .
وقد اختلف في الجهاد والغلظة على المنافقين . أتكون بالسيف كما روي عن علي - كرم الله وجهه - واختاره ابن جرير - رحمه الله - أم تكون في المعاملة والمواجهة وكشف خبيئاتهم للأنظار كما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - والذي وقع - كما سيجيء - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل المنافقين . .
{ يحلفون بالله ما قالوا . ولقد قالوا كلمة الكفر ، وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا } . .
والنص في عمومه يستعرض حالة المنافقين في كثير من مواقفهم ، ويشير إلى ما أرادوه مراراً من الشر للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين . . وهناك روايات تحدد حادثة خاصة لسبب نزول الآية :
قال قتادة : نزلت في عبد الله بن أبي . وذلك أنه اقتتل رجلان ، جهني وأنصاري ، فعلا الجهني على الأنصاري ، فقال عبد الله للأنصاري : ألا تنصرون أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك . وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليه فسأله ، فجعل يحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله فيه هذه الآية .
ويروي الإمام أبو جعفر بن جرير بإسناده عن ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً تحت ظل شجرة ، فقال : « إنه سيأتيكم إنسان ، فينظر إليكم بعين الشيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه » فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « علام تشتمني أنت وأصحابك؟ » فانطلق الرجل فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا ، حتى تجاوز عنهم ، فأنزل الله عز وجل : { يحلفون بالله ما قالوا . . الآية } .
وروي عن عروة بن الزبير وغيره ما مؤداه : أنها نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت . كان له ربيب من امرأته اسمه عمير بن سعد ، فقال الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقاً فنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها . فقال عمير : والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي ، وأحسنهم عندي بلاء ، وأعزهم على أن يصله شيء يكره ، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحني ، ولئن كتمتها لتهلكني ، ولإحداهما أهون عليّ من الأخرى . فأخبر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكرها وحلف بالله ما قالها ، فأنزل الله الآيات . فقال الرجل قد قلته ، وقد عرض الله عليّ التوبة ، فأنا أتوب ، فقبل منه ذلك .

ولكن هذه الروايات لا تنسجم مع عبارة : { وهموا بما لم ينالوا } وهذه تضافر الروايات على أن المعنيّ بها ما أراده جماعة من المنافقين في أثناء العودة من الغزوة ، من قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيلة وهو عائد من تبوك . فنختار إحداها .
قال الإمام أحمد - رحمه الله - حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال : لما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك أمر منادياً فنادى : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ العقبة ، فلا يأخذها أحد . فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل ، فغشوا عماراً وهو يسوق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل عمار - رضي الله عنه - يضرب وجوه الرواحل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة « قد . قد » حتى هبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجع عمار . فقال يا عمار : « هل عرفت القوم؟ » فقال : لقد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون . قال : « هل تدري ما أرادوا؟ » قال : الله ورسوله أعلم . قال : « أرادوا أن ينفروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - راحلته فيطرحوه » قال : فسأل عمار رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : نشدتك بالله ، كم تعلم كان أصحاب العقبة؟ قال : أربعة عشر رجلاً . فقال : إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر . قال : فعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم ثلاثة قالوا : والله ما سمعنا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما علمنا ما أراد القوم . فقال عمار : أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
هذه الحادثة تكشف عن دخيلة القوم . وسواء كانت هي أو شيء مثلها هي الذي تعنيه الآية ، فإنه ليبدو عجيباً أن تنطوي صدور القوم على مثل هذه الخيانة . والنصر يعجب هنا منهم :
{ وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } . .
فما من سيئة قدمها الإسلام لهم ينقمون عليه هذه النقمة من أجلها . اللهم إلا أن يكون الغنى الذي غمرهم بعد الإسلام ، والرخاء الذي أصابهم بسببه هو ما ينقمون
ثم يعقب على هذا التعجيب من أمرهم ، بعد كشف خبيئاتهم بالحكم الفاصل :
{ فإن يتوبوا يك خيراً لهم ، وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة ، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير } . .
بعد هذا كله يظل باب التوبة مفتوحاً على مصراعيه . فمن شاء لنفسه الخير فليدلف إلى الباب المفتوح .

ومن أراد أن يمضي في طريقه الأعوج ، فالعاقبة كذلك معروفة : العذاب الأليم في الدنيا والآخرة . وانعدام الناصر والمعين في هذه الأرض . . ولمن شاء أن يختار ، وهو وحده الملوم :
{ فإن يتوبوا يك خيراً لهم ، وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة ، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير } . .
ثم يمضي السياق في عرض نماذج من المنافقين وأحوالهم وأقوالهم من قبل الغزوة وفي ثناياها .
{ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين . فلما آتاهم من فضله بخلوا به ، وتولوا وهم معرضون ، فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه ، بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } .
من المنافقين من عاهد الله لئن أنعم الله عليه ورزقه ، ليبذلن الصدقة ، وليصلحن العمل . ولكن هذا العهد إنما كان في وقت فقره وعسرته ، في وقت الرجاء والطمع . فلما أن استجاب الله له ورزقه من فضله نسي عهده ، وتنكر لوعده ، وأدركه الشح والبخل فقبض يده ، وتولى معرضاً عن الوفاء بما عاهد . فكان هذا النكث بالعهد مع الكذب على الله فيه سبباً في التمكين للنفاق في قلبه ، والموت مع هذا النفاق ، ولقاء الله به .
والنفس البشرية ضعيفة شحيحة ، إلا من عصم الله؛ ولا تطهر من هذا الشح إلا أن تعمر بالإيمان ، وترتفع على ضرورات الأرض ، وتنطلق من قيود الحرص على النفع القريب ، لأنها تؤمل في خلف أعظم ، وتؤمل في رضوان من الله أكبر . والقلب المؤمن يطمئن بالإيمان ، فلا يخشى الفقر بسبب الإنفاق ، لأنه يثق بأن ما عند الناس ينفد وما عند الله باق . وهذا الاطمئنان يدفع به إلى إنفاق المال في سبيل الله تطوعاً ورضى وتطهراً ، وهو آمن مغبته . فحتى لو فقد المال وافتقر منه ، فإن له عوضاً أعظم عند الله .
فأما حين يقفر القلب من الإيمان الصحيح ، فالشح الفطري يهيج في نفسه كلما دعي إلى نفقه أو صدقة ، والخوف من الفقر يتراءى له فيقعد به عن البذل . ثم يبقى سجين شحه وخوفه بلا أمن ولا قرار .
والذي يعاهد الله ثم يخلف العهد ، والذي يكذب على الله فلا يفي بما وعد ، لا يسلم قلبه من النفاق : « آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان » .
فلا جرم يعقب إخلاف العهد والكذب على الله نفاقاً دائماً في قلوب تلك الطائفة التي تشير إليها الآية :
{ فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } . .
{ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب } ؟
ألم يعلموا - وهم يدعون الإيمان - أن الله مطلع على السرائر ، عالم بما يدور بينهم من أحاديث ، يحسبونها سراً بينهم لأنهم يتناجون بها في خفية عن الناس؟ وأن الله يعلم الغيب الخافي المستور ، فيعلم حقيقة النوايا في الصدور؟ ولقد كان من مقتضى علمهم بهذا ، ألا يستخفوا عن الله بنية ، وألا تحدثهم نفوسهم بإخلاف ما عاهدوا الله عليه ، والكذب عليه في إعطاء العهود .

وقد وردت روايات عن سبب نزول الآيات الثلاث ، نذكر منها رواية عن ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث معان - بإسناده - عن أبي أمامة الباهلي عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ادع الله أن يرزقني مالاً . قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ويحك يا ثعلبة ، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه » قال : ثم قال مرة أخرى . فقال : « أما ترضى أن تكون مثل نبي الله فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت » قال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « اللهم ارزق ثعلبة مالاً » قال : فاتخذ غنماً فنمت كما ينمي الدود ، فضاقت المدينة ، فتنحى عنها فنزل وادياً من أوديتها ، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما ، ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمي كما ينمي الدود حتى ترك الجمعة ، فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة ليسألهم عن الأخبار . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « ما فعل ثعلبة؟ » فقالوا يا رسول الله اتخذ غنماً فضاقت عليه المدينة ، فأخبروه بأمره ، فقال : « يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة » وأنزل الله جل ثناؤه : { خذ من أموالهم صدقة } الآية . . ونزلت فرائض الصدقة ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلين على الصدقة من المسلمين . رجلاً من جهينة ورجلاً من سليم ، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين؛ وقال لهما : « مرا بثعلبة وبفلان - رجل من نبي سليم - فخذا صدقاتهما » فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما هذه إلا جزية . وما هذه إلا أخت الجزية . ما أدري ما هذا؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليّ . وسمع بهما السلمي ، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها ، فلما رأوها قالوا : ما يجب عليك هذا ، وما نريد أن نأخذ هذا منك . فقال : بل فخذوها فإن نفسي بذلك طيبة وإنما هي له ، فأخذاها منه ومرا على الناس فأخذا الصدقات . ثم رجعا إلى ثعلبة فقال : أروني كتابكما فقرأه : فقال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية .

انطلقا حتى أرى رأيي . فانطلقا حتى أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رآهما قال : « يا ويح ثعلبة » قبل أن يكلمهما ، ودعا للسلمي بالبركة ، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي . فأنزل الله عز وجل { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن . . . } الآية . وعند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من أقارب ثعلبة فسمع بذلك ، فخرج حتى أتاه ، فقال : ويحك يا ثعلبة أنزل الله فيك كذا وكذا؛ فخرج ثعلبة حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يقبل منه صدقته ، فقال : « إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك » فجعل يحثو على رأسه التراب ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « هذا عملك ، قد أمرتك فلم تطعني » فلما أبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقبض صدقته رجع إلى منزله؛ فقبض رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم يقبل منه شيئاً . ثم أتى أبا بكر - رضي الله عنه - حين استخلف ، فقال : قد علمت منزلتي من رسول الله وموضعي من الأنصار فاقبل صدقتي؛ فقال أبو بكر : لم يقبلها منك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى أن يقبلها؛ فقبض أبو بكر ولم يقبلها . فلما ولي عمر - رضي الله عنه - أتاه فقال : يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي فقال : لم يقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ، وأنا أقبلها منك؟ فقبض ولم يقبلها . فلما ولي عثمان - رضي الله عنه - أتاه فقال : اقبل صدقتي ، فقال : لم يقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر ، وأنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها منه . فهلك ثعلبة في خلافة عثمان . .
وسواء كانت هذه الواقعة مصاحبة لنزول الآيات أو كان غيرها ، فإن النص عام ، وهو يصور حالة عامة ، ويرسم نموذجاً مكرراً للنفوس التي لم تستيقن ، ولم يبلغ الإيمان فيها أن يتمكن . وإذا كانت الرواية صحيحة في ربط الحادثة بنزول الآيات ، فإن علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن نقض العهد والكذب على الله قد أورث المخلفين نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه ، يكون هو الذي منعه من قبول صدقة ثعلبة وتوبته التي ظهر بها ، ولم يعامله بالظاهر حسب الشريعة . إنما عامله بعلمه بحاله الذي لا شك فيه ، لأنه إخبار من العليم الخبير ، وكان تصرفه - صلى الله عليه وسلم - تصرفاً تأديبياً برد صدقته . مع عدم اعتباره مرتداً فيؤخذ بعقوبة الردة ولا مسلماً فتقبل منه زكاته . ولا يعني هذا إسقاط الزكاة عن المنافقين شريعة .

إن الشريعة تأخذ الناس بظاهرهم . فيما ليس فيه علم يقيني ، كالذي كان في هذا الحادث الخاص ، فلا يقاس عليه .
غير أن رواية الحادث تكشف لنا كيف كان المسلمون الأوائل ينظرون إلى الزكاة المفروضة . إنهم كانوا يحتسبونها نعمة عليهم ، من يحرم أداءها أو يحرم قبولها منه ، فهو الخاسر . الذي يستحق الترحم مما أصابه من رفض زكاته مدركين لحقيقة المعنى الكامن في قوله تعالى :
{ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } . .
فكانت لهم غنماً ينالونه لا غرماً يحملونه . وهذا هو الفارق بين فريضة تؤدى ابتغاء رضوان الله وضريبة تدفع لأن القانون يحتمها ويعاقب عليها الناس
والآن يعرض السياق لوناً آخر من تصورات المنافقين للزكاة يخالفون به ذلك التصور الحق عند المؤمنين الصادقين؛ ويكشف عن لون من طبيعة الغمز فيهم واللمز ، النابعين من طبعهم المنحرف المدخول :
{ الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ، والذين لا يجدون إلا جهدهم ، فيسخرون منهم . سخر الله منهم ولهم عذاب أليم } . .
والقصة المروية عن سبب نزول هذه الآية ، تصور نظرة المنافقين المنحرفة لطبيعة الإنفاق في سبيل الله وبواعثه في النفوس .
أخرج ابن جرير من طريق يحيى بن أبي كثير ، ومن طريق سعيد عن قتادة وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة - بألفاظ مختلفة - قال : حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة ( يعني في غزوة تبوك ) فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقال : يا رسول الله مالي ثمانية آلاف ، جئتك بنصفها وأمسكت نصفها . فقال : « بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت » وجاء أبوعقيل بصاع من تمر فقال : يا رسول الله أصبت صاعين من تمر صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي . قال : فلمزه المنافقون ، وقالوا : ما الذي أعطى ابن عوف إلا رياء . وقالوا : ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟
وفي روايات أخرى أنهم قالوا عن أبي عقيل ، وهو الذي بات يعمل ليحصل على صاعين أجر له ، جاء بأحدهما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه إنما أراد أن يذكر بنفسه
وهكذا تقولوا على المؤمنين الذين انبعثوا إلى الصدقة عن طواعية نفس ، ورضا قلب ، واطمئنان ضمير ، ورغبة في المساهمة في الجهاد كل على قدر طاقته ، وكل على غاية جهده . ذلك أنهم لا يدركون بواعث هذا التطوع في النفوس المؤمنة . لا يدركون حساسية الضمير التي لا تهدأ إلا بالبذل عن طيب خاطر . لا يدركون المشاعر الرفرافة التي تنبعث انبعاثاً ذاتياً ، لتلبي دواعي الإيمان والتضحية والمشاركة . من أجل هذا يقولون عن المكثر : إنه يبذل رياء ، وعن المقل إنه يذكر بنفسه . يجرحون صاحب الكثير لأنه يبذل كثيراً ، ويحتقرون صاحب القليل لأنه يبذل القليل . فلا يسلم من تجريحهم وعيبهم أحد من الخيرين .

ذلك وهم قاعدون متخلفون منقبضو الأيدي شحيحو الأنفس ، لا ينفقون إلا رياء ، ولا يدركون من بواعث النفوس إلا مثل هذا الباعث الصغير الحقير .
ومن ثم يجبههم الرد الحاسم الجازم :
{ سخر الله منهم ولهم عذاب أليم } . .
ويالهولها سخرية . ويالهولها عاقبة . فمن شر ذمة صغيرة هزيلة من البشر الضعاف الفانين وسخرية الخالق الجبار تنصب عليهم وعذابه يترقبهم؟ ألا إنه للهول المفزع الرهيب
{ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ، ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله ، والله لا يهدي القوم الفاسقين } . .
هؤلاء المنافقون الذين يلمزون المتطوعين بالصدقات على هذا النحو ، قد تقرر مصيرهم ، فما عاد يتبدل :
{ فلن يغفر الله لهم } . .
لن يجديهم استغفار ، فإنه وعدم الاستغفار لهم سواء .
ويبدو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يستغفر للمخطئين عسى أن يتوب الله عليهم . فأما هؤلاء فقد أخبر بأن مصيرهم قد تقرر ، فلا رجعة فيه :
{ ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله } . . { والله لا يهدي القوم الفاسقين } .
أولئك الذين انحرفوا عن الطريق فلم تعد ترجى لهم أوبة . وفسدت قلوبهم فلم يعد يرجى لها صلاح . .
{ إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } . .
والسبعون تذكر عادة للتكثير . لا على أنها رقم محدد . والمعنى العام أن لا رجاء لهم في مغفرة ، لأنه لا سبيل لهم إلى توبة . والقلب البشري حين يصل إلى حد معين من الفساد لا يصلح ، والضلال حين ينتهي إلى أمد معين لا يرجى بعده اهتداء . والله أعلم بالقلوب .
وينتقل السياق - مرة أخرى - إلى الحديث عن المتخلفين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك :
{ فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، وقالوا : لا تنفروا في الحر . قل : نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون . فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون . فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل : لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً . إنكم رضيتم بالعقود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين . ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ، إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون . ولا تعجبك أموالهم وأولادهم ، إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا ، وتزهق أنفسهم وهم كافرون } . .
هؤلاء الذين أدركتهم ثقلة الأرض . ثقلة الحرص على الراحة ، والشح بالنفقة . وقعد بهم ضعف الهمة وهزال النخوة ، وخواء القلب من الإيمان . . هؤلاء المخلفون - والتعبير يلقي ظل الإهمال كما لو كانوا متاعاً يخلف أو هملاً يترك - فرحوا بالسلامة والراحة { خلاف رسول الله } وتركوا المجاهدين يلاقون الحر والجهد ، وحسبوا أن السلامة غاية يحرص عليها الرجال { وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } .

. { وقالوا : لا تنفروا في الحر } وهي قولة المسترخي الناعم الذي لا يصلح لشيء مما يصلح له الرجال .
إن هؤلاء لهم نموذج لضعف الهمة ، وطراوة الإرادة؛ وكثيرون هم الذين يشفقون من المتاعب ، وينفرون من الجهد ، ويؤثرون الراحة الرخيصة على الكدح الكريم ، ويفضلون السلامة الذليلة على الخطر العزيز . وهم يتساقطون إعياء خلف الصفوف الجادة الزاحفة العارفة بتكاليف الدعوات . ولكن هذه الصفوف تظل في طريقها المملوء بالعقبات والأشواك ، لأنها تدرك بفطرتها أن كفاح العقبات والأشواك فطرة في الإنسان ، وأنه ألذ وأجمل من القعود والتخلف والراحة البليدة التي لا تليق بالرجال .
والنص يرد عليهم بالتهكم المنطوي على الحقيقة :
{ وقالوا : لا تنفروا في الحر . قل : نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون } . .
فإن كانوا يشفقون من حر الأرض ، ويؤثرون الراحة المسترخية في الظلال . فكيف بهم في حر جهنم وهي أشد حراً ، وأطول أمداً؟ وإنها لسخرية مريرة ، ولكنها كذلك حقيقة . فإما كفاح في سبيل الله فترة محدودة في حر الأرض ، وإما انطراح في جهنم لا يعلم مداه إلا الله :
{ فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون } . .
وإنه لضحك في هذه الأرض وأيامها المعدودة ، وإنه لبكاء في أيام الآخرة الطويلة . وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما يعدون .
{ جزاء بما كانوا يكسبون } . .
فهو الجزاء من جنس العمل ، وهو الجزاء العادل الدقيق .
هؤلاء الذين آثروا الراحة على الجهد - في ساعة العسرة - وتخلفوا عن الركب في أول مرة . هؤلاء لا يصلحون لكفاح ، ولا يُرجون لجهاد ، ولا يجوز أن يؤخذوا بالسماحة والتغاضي ، ولا أن يتاح لهم شرف الجهاد الذي تخلوا عنه راضين :
{ فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج ، فقل : لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً ، إنكم رضيتم بالقعود أول مرة ، فاقعدوا مع الخالفين } . .
إن الدعوات في حاجة إلى طبائع صلبة مستقيمة ثابتة مصممة تصمد في الكفاح الطويل الشاق . والصف الذي يتخلله الضعاف المسترخون لا يصمد لأنهم يخذلونه في ساعة الشدة فيشيعون فيه الخذلان والضعف والاضطراب . فالذين يضعفون ويتخلفون يجب نبذهم بعيداً عن الصف وقاية له من التخلخل والهزيمة . والتسامح مع الذين يتخلفون عن الصف في ساعة الشدة ، ثم يعودون إليه في ساعة الرخاء ، جناية على الصف كله ، وعلى الدعوة التي يكافح في سبيلها كفاحة المرير . .
{ فقل : لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً } .
لماذا؟ .
{ إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } . .
ففقدتم حقكم في شرف الخروج؛ وشرف الانتظام في الكتيبة ، والجهاد عبء لا ينهض به إلا من هم له أهل . فلا سماحة في هذا ولا مجاملة :
{ فاقعدوا مع الخالفين } . .
المتجانسين معكم في التخلف والقعود .
هذا هو الطريق الذي رسمه الله تعالى لنبيه الكريم ، وإنه لطريق هذه الدعوة ورجالها أبداً .

فليعرف أصحابها في كل زمان وفي كل مكان ذلك الطريق . .
وكما أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بألا يسمح للمتخلفين في ساعة العسرة أن يعودوا فينتظموا في الصفوف ، كذلك أمره ألا يخلع عليهم أي ظلال من ظلال التكريم :
{ ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره . إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } .
ولقد ذكر المفسرون حوادث خاصة عنتها هذه الآية . ولكن دلالة الآية أعم من الحوادث الخاصة . فهي تقرر أصلاً من أصول التقدير في نظام الجماعة المكافحة في سبيل العقيدة ، هو عدم التسامح في منح مظاهر التكريم لمن يؤثرون الراحة المسترخية على الكفاح الشاق؛ وعدم المجاملة في تقدير منازل الأفراد في الصف . ومقياس هذا التقدير هو الصبر والثبات والقوة والإصرار والعزيمة التي لا تسترخي ولا تلين .
والنص يعلل هذا النهي في موضعه هنا { إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } وهو تعليل خاص بعدم الصلاة أو قيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قبر منافق . . ولكن القاعدة - كما ذكرنا - أوسع من المناسبة الخاصة . فالصلاة والقيام تكريم . والجماعة المسلمة يجب ألا تبذل هذا التكريم لمن يتخلف عن الصف في ساعة الجهاد ، لتبقى له قيمته ، ولتظل قيم الرجال منوطة بما يبذلون في سبيل الله ، وبما يصبرون على البذل ، ويثبتون على الجهد ، ويخلصون أنفسهم وأموالهم لله لا يتخلفون بهما في ساعة الشدة ، ثم يعودون في الصف مكرمين
لا التكريم الظاهر ينالونه في أعين الجماعة ، ولا التكريم الباطن ينالونه في عالم الضمير :
{ ولا تعجبك أموالهم وأولادهم . إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون } . .
والمعنى العام للآية قد سبق في السياق . أما مناسبة ورودها فتختلف . فالمقصود هنا ألا يقام وزن لأموالهم وأولادهم ، لأن الأعجاب بها نوع من التكريم الشعوري لهم . وهم لا يستحقونه لا في الظاهر ولا في الشعور . إنما هو الاحتقار والإهمال لهم ولما يملكون .
{ وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم ، وقالوا : ذرنا نكن مع القاعدين : رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون . لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، وأولئك لهم الخيرات ، وأولئك هم المفلحون ، أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها ، ذلك الفوز العظيم } . .
إنهما طبيعتان . . طبيعة النفاق والضعف والاستخذاء . وطبيعة الإيمان والقوة والبلاء . وإنهما خطتان . . خطة الالتواء والتخلف والرضى بالدون . وخطة الاستقامة والبذل والكرامة .
فإذا أنزلت سورة تأمر بالجهاد جاء أولوا الطول ، الذين يملكون وسائل الجهاد والبذل . جاءوا لا ليتقدموا الصفوف كما تقتضيهم المقدرة التي وهبها الله لهم ، وشكر النعمة التي أعطاها الله إياهم ، ولكن ليتخاذلوا ويعتذروا ويطلبوا أن يقعدوا مع النساء لا يذودون عن حرمة ولا يدفعون عن سكن .

دون أن يستشعروا ما في هذه القعدة الذليلة من صغار وهوان ، ما دام فيها السلامة ، وطلاب السلامة لا يحسون العار ، فالسلامة هدف الراضين بالدون :
{ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } . .
{ وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون } . .
ولو كانوا يفقهون لأدركوا ما في الجهاد من قوة وكرامة وبقاء كريم ، وما في التخلف من ضعف ومهانة وفناء ذميم .
« إن للذل ضريبة كما أن للكرامة ضريبة . وإن ضريبة الذل لأفدح في كثير من الأحايين . وإن بعض النفوس الضعيفة ليخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تطاق ، فتختار الذل والمهانة هرباً من هذه التكاليف الثقال ، فتعيش عيشة تافهة رخيصة ، مفزعة قلقة ، تخاف من ظلها ، وتفرق من صداها ، يحسبون كل صيحة عليهم ، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة . . هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة . إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة . يؤدونها من نفوسهم ، ويؤدونها من أقدارهم ، ويؤدونها من سمعتهم ، ويؤدونها من اطمئنانهم ، وكثيراً ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون » ومن هؤلاْ . . أولئك الذين { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون } . .
{ لكن الرسول والذين آمنوا معه } . . وهم طراز آخر غير ذلك الطراز . . { جاهدوا بأموالهم وأنفسهم } . . فنهضوا بتكاليف العقيدة ، وأدوا واجب الإيمان؛ وعملوا للعزة التي لا تنال بالقعود { وأولئك لهم الخيرات } . . خيرات الدنيا والآخرة ، في الدنيا لهم العزة ولهم الكرامة ولهم المغنم ولهم الكلمة العالية . وفي الآخرة لهم الجزاء الأوفى ، ولهم رضوان الله الكريم { وأولئك هم المفلحون } . . الفلاح في الدنيا بالعيش الكريم القويم والفلاح في الآخرة بالأجر العظيم : { أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } . . { ذلك الفوز العظيم } .
{ وجاء المعذّرون من الأعراب ليؤذن لهم ، وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ، سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم } . .
فأما الأولون فهم ذوو الأعذار الحقيقية فلهم عذرهم إن استأذنوا في التخلف ، وأما الآخرون فقعدوا بلا عذر . قعدوا كاذبين على الله والرسول . وهؤلاء ينتظر الذين كفروا منهم عذاب أليم . أما الذين يتوبون ولا يكفرون فمسكوت عنهم لعل لهم مصيراً غير هذا المصير .
وأخيراً يحدد التبعة . فليس الخروج ضربة لازب على من يطيقون ومن لا يطيقون . فالإسلام دين اليسر ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها . والذين عجزوا عن النفرة لا تثريب عليهم ولا مؤاخذة لهم ، لأنهم معذورون :
{ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ، ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله . ما على المحسنين من سبيل ، والله غفور رحيم . ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون } .
ليس على الضعفاء العاجزين عن القتال لعلة في تكوينهم ، أو لشيخوخة تقعدهم؛ ولا على المرضى الذين لا يستطيعون الحركة والجهد؛ ولا على المعدمين الذين لا يجدون ما يتزودون به .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36