كتاب : في ظلال القرآن
المؤلف : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي

.
{ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ذلك الفوز الكبير } . .
إن الذي حدث في الأرض وفي الحياة الدنيا ليس خاتمة الحادث وليس نهاية المطاف . فالبقية آتية هناك . والجزاء الذي يضع الأمر في نصابه ، ويفصل فيما كان بين المؤمنين والطاغين آت . وهو مقرر مؤكد ، وواقع كما يقول عنه الله :
{ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } . . ومضوا في ضلالتهم سادرين ، لم يندموا على ما فعلوا { ثم لم يتوبوا } . . { فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق } . . وينص على { الحريق } . . وهو مفهوم من عذاب جهنم . ولكنه ينطق به وينص عليه ليكون مقابلاً للحريق في الأخدود . وبنفس اللفظ الذي يدل على الحدث . ولكن أين حريق من حريق؟ في شدته أو في مدته وحريق الدنيا بنار يوقدها الخلق . وحريق الآخرة بنار يوقدها الخالق وحريق الدنيا لحظات وتنتهي ، وحريق الاخرة آباد لا يعلمها إلا الله ومع حريق الدنيا رضى الله عن المؤمنين وانتصار لذلك المعنى الإنساني الكريم . ومع حريق الآخرة غضب الله ، والارتكاس الهابط الذميم
ويتمثل رضى الله وإنعامه على الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } . . وهذه هي النجاة الحقيقية : { ذلك الفوز الكبير } . . والفوز : النجاة والنجاح . والنجاة من عذاب الآخرة فوز . فكيف بالجنات تجري من تحتها الأنهار؟
بهذه الخاتمة يستقر الأمر في نصابه . وهي الخاتمة الحقيقية للموقف . فلم يكن ما وقع منه في الأرض إلا طرفاً من أطرافه ، لا يتم به تمامه . . وهذه هي الحقيقة التي يهدف إليها هذا التعقيب الأول على الحادث لتستقر في قلوب القلة المؤمنة في مكة ، وفي قلوب كل فئة مؤمنة تتعرض للفتنة على مدار القرون . ثم تتوالى التعقيبات . .
{ إن بطش ربك لشديد } . . وإظهار حقيقة البطش وشدته في هذا الموضع هو الذي يناسب ما مر في الحادث من مظهر البطش الصغير الهزيل الذي يحسبه أصحابه ويحسبه الناس في الأرض كبيراً شديداً . فالبطش الشديد هو بطش الجبار . الذي له ملك السماوات والأرض . لا بطش الضعاف المهازيل الذين يتسلطون على رقعة من الأرض محدودة ، في رقعة من الزمان محدودة . .
ويظهر التعبير العلاقة بين المخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم والقائل وهو الله عز وجل . وهو يقول له : { إن بطش ربك . . } ربك الذي تنتسب إلى ربوبيته ، وسندك الذي تركن إلى معونته . . ولهذه النسبة قيمتها في هذا المجال الذي يبطش فيه الفجار بالمؤمنين
{ إنه هو يبدئ ويعيد } . . والبدء والإعادة وإن اتجه معناهما الكلي إلى النشأة الأولى والنشأة الآخرة . . إلا أنهما حدثان دائبان في كل لحظة من ليل أو نهار . ففي كل لحظة بدء وإنشاء ، وفي كل لحظة إعادة لما بلي ومات .

والكون كله في تجدد مستمر . . وفي بلى مستمر . . وفي ظل هذه الحركة الدائبة الشاملة من البدء والإعادة يبدو حادث الأخدود ونتائجه الظاهرة مسألة عابرة في واقع الأمر وحقيقة التقدير . فهو بدء لإعادة . أو إعادة لبدء . في هذه الحركة الدائبة الدائرة . .
{ وهو الغفور الودود } . . والمغفرة تتصل بقوله من قبل : { ثم لم يتوبوا } . . فهي من الرحمة والفضل الفائض بلا حدود ولا قيود . وهي الباب المفتوح الذي لا يغلق في وجه عائد تائب . ولو عظم الذنب وكبرت المعصية . . أما الود . . فيتصل بموقف المؤمنين ، الذين اختاروا ربهم على كل شيء . وهو الإيناس اللطيف الحلو الكريم . حين يرفع الله عباده الذين يؤثرونه ويحبونه إلى مرتبة ، يتحرج القلم من وصفها لولا أن فضل الله يجود بها . . مرتبة الصداقة . . الصداقة بين الرب والعبد . . ودرجة الود من الله لأودائه وأحبائه المقربين . . فماذا تكون الحياة التي ضحوا بها وهي ذاهبة . وماذا يكون العذاب الذي احتملوه وهو موقوت؟ ماذا يكون هذا إلى جانب قطرة من هذا الود الحلو . وإلى جانب لمحة من هذا الإيناس الحبيب؟
إن عبيداً من رقيق هذه الأرض . عبيد الواحد من البشر ، ليلقون بأنفسهم إلى التهلكة لكلمة تشجيع تصدر من فمه ، أو لمحة رضاء تبدو في وجهه . . وهو عبد وهم عبيد . . فكيف بعباد الله . الذين يؤنسهم الله بوده الكريم الجليل ، الله { ذو العرش المجيد } العالي المهيمن الماجد الكريم؟ ألا هانت الحياة . وهان الألم . وهان العذاب . وهان كل غال عزيز ، في سبيل لمحة رضى يجود بها المولى الودود ذو العرش المجيد . .
{ فعال لما يريد } . . هذه صفته الكثيرة التحقق ، الدائبة العمل . . فعال لما يريد . . فهو مطلق الإرادة ، يختار ما يشاء؛ ويفعل ما يريده ويختاره ، دائماً أبداً ، فتلك صفته سبحانه .
يريد مرة أن ينتصر المؤمنون به في هذه الأرض لحكمة يريدها . ويريد مرة أن ينتصر الإيمان على الفتنة وتذهب الأجسام الفانية لحكمة يريدها . . يريد مرة أن يأخذ الجبارين في الأرض . ويريد مرة أن يمهلهم لليوم الموعود . . لحكمة تتحقق هنا وتتحقق هناك ، في قدره المرسوم . .
فهذا طرف من فعله لما يريد . يناسب الحادث ويناسب ما سيأتي من حديث فرعون وثمود . وتبقى حقيقة الإرادة الطليقة والقدرة المطلقة وراء الأحداث ووراء الحياة والكون تفعل فعلها في الوجود .
فعال لما يريد . . وهاك نموذجاً من فعله لما يريد :
{ هل أتاك حديث الجنود : فرعون وثمود؟ } . وهي إشارة إلى قصتين طويلتين ، ارتكاناً إلى المعلوم من أمرهما للمخاطبين ، بعدما ورد ذكرهما كثيراً في القرآن الكريم . ويسميهم الجنود . إشارة إلى قوتهم واستعدادهم . . هل أتاك حديثهم؟ وكيف فعل ربك بهم ما يريد؟
وهما حديثان مختلفان في طبعتهما وفي نتائجهما . . فأما حديث فرعون ، فقد أهلكه الله وجنده ونجى بني إسرائيل ، ومكن لهم في الأرض فترة ، ليحقق بهم قدراً من قدره ، وإرادة من إرادته .

وأما حديث ثمود فقد أهلكهم الله عن بكرة أبيهم وأنجى صالحاً والقلة معه حيث لم يكن بعد ذلك ملك ولا تمكين . إنما هي مجرد النجاة من القوم الفاسقين .
وهما نموذجان لفعل الإرادة ، وتوجه المشيئة . وصورتان من صور الدعوة إلى الله واحتمالاتها المتوقعة ، إلى جانب الاحتمال الثالث الذي وقع في حادث الأخدود . . وكلها يعرضها القرآن للقلة المؤمنة في مكة ، ولكل جيل من أجيال المؤمنين . .
وفي الختام يجيء إيقاعان قويان جازمان . في كل منهما تقرير ، وكلمة فصل وحكم أخير :
{ بل الذين كفروا في تكذيب ، والله من ورائهم محيط } . .
فشأن الكفار وحقيقة حالهم أنهم في تكذيب يمسون به ويصبحون . { والله من ورائهم محيط } . . وهم غافلون عما يحيط بهم من قهر الله وعلمه . فهم أضعف من الفيران المحصورة في الطوفان العميم
{ بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } . .
والمجيد الرفيع الكريم العريق . . وهل أمجد وأرفع وأعرق من قول الله العظيم؟ وهو في لوح محفوظ . لا ندرك نحن طبيعته ، لأنه من أمر الغيب الذي تفرد الله بعلمه . إنما ننتفع نحن بالظل الذي يلقيه التعبير ، والإيحاء الذي يتركه في القلوب . وهو أن هذا القرآن مصون ثابت ، قوله هو المرجع الأخير ، في كل ما يتناوله من الأمور . يذهب كل قول ، وقوله هو المرعي المحفوظ . .
ولقد قال القرآن قوله في حادث الأخدود ، وفي الحقيقة التي وراءه . . وهو القول الأخير . .

وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)

جاء في مقدمة هذا الجزء أن سوره تمثل طرقات متوالية على الحس . طرقات عنيفة قوية عالية ، وصيحات بنوّم غارقين في النوم . . تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات بإيقاع واحد ، ونذير واحد . « اصحوا . تيقظوا . انظروا . تلفتوا . تفكروا . تدبروا . إن هنالك إلهاً . وإن هنالك تدبيراً . وإن هنالك تقديراً . وإن هنالك ابتلاء . وإن هنالك تبعة . وإن هنالك حساباً وجزاء . وإن هنالك عذاباً شديداً ونعيماً كبيراً . . » . .
وهذه السورة نموذج واضح لهذه الخصائص . ففي إيقاعاتها حدة يشارك فيها نوع المشاهد ، ونوع الإيقاع الموسيقي ، وجرس الألفاظ ، وإيحاء المعاني .
ومن مشاهدها : الطارق . والثاقب . والدافق . والرجع . والصدع .
ومن معانيها : الرقابة على كل نفس : { إن كل نفس لما عليها حافظ } . . ونفي القوة والناصر : { يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر } . . والجد الصارم : { إنه لقول فصل وما هو بالهزل } . .
والوعيد فيها يحمل الطابع ذاته : { إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً . فمهل الكافرين أمهلهم رويداً }
وتكاد تتضمن تلك الموضوعات التي أشير إليها في مقدمة الجزء : « إن هنالك إلهاً . وإن هنالك تدبيراً . وإن هنالك تقديراً . وإن هنالك ابتلاء . وإن هنالك تبعة . وإن هنالك حساباً وجزاء . . الخ » .
وبين المشاهد الكونية والحقائق الموضوعية في السورة تناسق مطلق دقيق ملحوظ يتضح من استعراض السورة في سياقها القرآني الجميل . .
{ والسماء والطارق . وما أدراك ما الطارق؟ النجم الثاقب . إن كل نفس لما عليها حافظ } . .
هذا القسم يتضمن مشهداً كونياً وحقيقة إيمانية . وهو يبدأ بذكر السماء والطارق ويثني بالاستفهام المعهود في التعبير القرآني : { وما أدراك ما الطارق؟ } . . وكأنه أمر وراء الإدراك والعلم . ثم يحدده ويبينه بشكله وصورته : { النجم الثاقب } الذي يثقب الظلام بشعاعه النافذ . وهذا الوصف ينطبق على جنس النجم . ولا سبيل إلى تحديد نجم بذاته من هذا النص ، ولا ضرورة لهذا التحديد . بل إن الإطلاق أولى . ليكون المعنى : والسماء ونجومها الثاقبة للظلام ، النافذة من هذا الحجاب الذي يستر الأشياء . ويكون لهذه الإشارة إيحاؤها حول حقائق السورة وحول مشاهدها الأخرى . . كما سيأتي . .
يقسم بالسماء ونجمها الثاقب : أن كل نفس عليها من أمر الله رقيب : { إن كل نفس لما عليها حافظ } . . وفي التعبير بصيغته هذه معنى التوكيد الشديد . . ما من نفس إلا عليها حافظ . يراقبها ، ويحصى عليها ، ويحفظ عنها ، وهو موكل بها بأمر الله . ويعين النفس لأنها مستودع الأسرار والأفكار . وهي التي يناط بها العمل والجزاء .
ليست هنالك فوضى إذن ولا هيصة والناس ليسوا مطلقين في الأرض هكذا بلا حارس . ولا مهملين في شعابها بلا حافظ ، ولا متروكين يفعلون كيف شاءوا بلا رقيب . إنما هو الإحصاء الدقيق المباشر ، والحساب المبني على هذا الإحصاء الدقيق المباشر .

ويلقي النص إيحاءه الرهيب حيث تحس النفس أنها ليست أبداً في خلوة وإن خلت فهناك الحافظ الرقيب عليها حين تنفرد من كل رقيب ، وتتخفى عن كل عين ، وتأمن من كل طارق . هنالك الحافظ الذي يشق كل غطاء وينفذ إلى كل مستور . كما يطرق النجم الثاقب حجاب الليل الساتر . . وصنعة الله واحدة متناسقة في الأنفس وفي الآفاق .
ويخلص من هذه اللمسة التي تصل النفس بالكون ، إلى لمسة أخرى تؤكد التقدير والتدبير ، التي أقسم عليها بالسماء والطارق . فهذه نشأة الإنسان الأولى تدل على هذه الحقيقة؛ وتوحي بأن الإنسان ليس متروكاً سدى ، ولا مهملاً ضياعاً :
{ فلينظر الإنسان ممّ خلق . خلق من ماء دافق ، يخرج من بين الصلب والترائب } . .
فلينظر الإنسان من أي شيء خلق وإلى أي شيء صار . . إنه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب ، خلق من هذا الماء الذي يجتمع من صلب الرجل وهو عظام ظهره الفقارية ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها العلوية . . ولقد كان هذا سراً مكنوناً في علم الله لا يعلمه البشر . حتى كان نصف القرن الأخير حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته؛ وعرف أنه في عظام الظهر الفقارية يتكون ماء الرجل ، وفي عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة . حيث يلتقيان في قرار مكين فينشأ منهما الإنسان
والمسافة الهائلة بين المنشأ والمصير . . بين الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب وبين الإنسان المدرك العاقل المعقد التركيب العضوي والعصبي والعقلي والنفسي . . هذه المسافة الهائلة التي يعبرها الماء الدافق إلى الإنسان الناطق توحي بأن هنالك يداً خارج ذات الإنسان هي التي تدفع بهذا الشيء المائع الذي لا قوام له ولا إرادة ولا قدرة ، في طريق الرحلة الطويلة العجيبة الهائلة ، حتى تنتهي به إلى هذه النهاية الماثلة . وتشي بأن هنالك حافظاً من أمر الله يرعى هذه النطفة المجردة من الشكل والعقل ، ومن الإرادة والقدرة ، في رحلتها الطويلة العجيبة . وهي تحوي من العجائب أضعاف ما يعرض للإنسان من العجائب من مولده إلى مماته
هذه الخلية الواحدة الملقحة لا تكاد ترى بالمجهر ، إذ أن هنالك ملايين منها في الدفقة الواحدة . . هذه الخليقة التي لا قوام لها ولا عقل ولا قدرة ولا إرادة ، تبدأ في الحال بمجرد استقرارها في الرحم في عملية بحث عن الغذاء . حيث تزودها اليد الحافظة بخاصية أكالة تحوّل بها جدار الرحم حولها إلى بركة من الدم السائل المعد للغذاء الطازج وبمجرد اطمئنانها على غذائها تبدأ في عملية جديدة . عملية انقسام مستمرة تنشأ عنها خلايا . . وتعرف هذه الخليقة الساذجة التي لا قوام لها ولا عقل ولا قدرة ولا إرادة . . تعرف ماذا هي فاعلة وماذا هي تريد . . حيث تزودها اليد الحافظة بالهدى والمعرفة والقدرة والإرادة التي تعرف بها الطريق إنها مكلفة أن تخصص كل مجموعة من هذه الخلايا الجديدة لبناء ركن من أركان هذه العمارة الهائلة .

. عمارة الجسم الإنساني . . فهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الهيكل العظمي . وهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الجهاز العضلي . وهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الجهاز العصبي . وهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الجهاز للمفاوي . . إلى آخر هذه الأركان الأساسية في العمارة الإنسانية . . ولكن العمل ليس بمثل هذه البساطة . . إن هنالك تخصصاً أدق . فكل عظم من العظام . وكل عضلة من العضلات . وكل عصب من الأعصاب . . لا يشبه الآخر . لأن العمارة دقيقة الصنع ، عجيبة التكوين ، متنوعة الوظائف . . ومن ثم تتعلم كل مجموعة من الخلايا المنطلقة لبناء ركن من العمارة ، أن تتفرق طوائف متخصصة ، تقوم كل طائفة منها بنوع معين من العمل في الركن المخصص لها من العمارة ، الكبيرة . . إن كل خلية صغيرة تنطلق وهي تعرف طريقها . تعرف إلى أين هي ذاهبة ، وماذا هو مطلوب منها ولا تخطئ واحدة منها طريقها في هذه المتاهة الهائلة . فالخلايا المكلفة أن تصنع العين تعرف أن العين ينبغي أن تكون في الوجه ، ولا يجوز أبداً أن تكون في البطن أو القدم أو الذراع . مع أن كل موضع من هذه المواضع يمكن أن تنمو فيه عين . ولو أخذت الخلية الأولى المكلفة بصنع العين وزرعت في أي من هذه المواضع لصنعت عيناً هنالك ولكنها هي بذاتها حين تنطلق لا تذهب إلا للمكان المخصص للعين في هذا الجهاز الإنساني المعقد . . فمن ترى قال لها : إن هذا الجهاز يحتاج إلى عين في هذا المكان دون سواه؟ إنه الله . إنه الحافظ الأعلى الذي يرعاها ويوجهها ويهديها إلى طريقها في المتاهة التي لا هادي فيها إلا الله
وكل تلك الخلايا فرادى ومجتمعة تعمل في نطاق ترسمه لها مجموعة معينة من الوحدات كامنة فيها . هي وحدات الوراثة ، الحافظة لسجل النوع ولخصائص الأجداد . فخلية العين وهي تنقسم وتتكاثر لكي تكوّن العين ، تحاول أن تحافظ في أثناء العمل على شكل معين للعين وخصائص محددة تجعلها عين إنسان لا عين أي حيوان آخر . وإنسان لأجداده شكل معين للعين وخصائص معينة . . وأقل انحراف في تصميم هذه العين من ناحية الشكل أو ناحية الخصائص يحيد بها عن الخط المرسوم . فمن ذا الذي أودعها هذه القدرة؟ وعلمها ذلك التعليم؟ وهي الخلية الساذجة التي لا عقل لها ولا إدراك ، ولا إرادة لها ولا قوة؟ إنه الله . علمها ما يعجز الإنسان كله عن تصميمه لو وكل إليه تصميم عين أو جزء من عين . بينما خلية واحدة منه أو عدة خلايا ساذجة ، تقوم بهذا العمل العظيم
ووراء هذا اللمحة الخاطفة عن صور الرحلة الطويلة العجيبة بين الماء الدافق والإنسان الناطق ، حشود لا تحصى من العجائب والغرائب ، في خصائص الأجهزة والأعضاء ، لا نملك تقصيها في هذه الظلال .

. تشهد كلها بالتقدير والتدبير . وتشي باليد الحافظة الهادية المعينة . وتؤكد الحقيقة الأولى التي أقسم عليها بالسماء والطارق . كما تمهد للحقيقة التالية . حقيقة النشأة الآخرة التي لا يصدقها المشركون ، المخاطبون أول مرة بهذه السورة . .
{ إنه على رجعه لقادر . يوم تبلى السرائر . فما له من قوة ولا ناصر } . .
إنه الله الذي أنشأه ورعاه إنه لقادر على رجعة إلى الحياة بعد الموت ، وإلى التجدد بعد البلى ، تشهد النشأة الأولى بقدرته ، كما تشهد بتقديره وتدبيره . فهذه النشأة البالغة الدقة والحكمة تذهب كلها عبثاً إذا لم تكن هناك رجعة لتختبر السرائر وتجزى جزاءها العادل : { يوم تبلى السرائر } . . السرائر المكنونة ، المطوية على الأسرار المحجوبة . . يوم تبلى وتختبر ، وتتكشف وتظهر كما ينفذ الطارق من خلال الظلام الساتر؛ وكما ينفذ الحافظ إلى النفس الملفعة بالسواتر كذلك تبلى السرائر يوم يتجرد الإنسان من كل قوة ومن كل ناصر : { فما له من قوة ولا ناصر } . . ما له من قوة في ذاته ، وما له من ناصر خارج ذاته . . والتكشف من كل ستر ، مع التجرد من كل قوة ، يضاعف شدة الموقف؛ ويلمس الحس لمسة عميقة التأثير . وهو ينتقل من الكون والنفس ، إلى نشأة الإنسان ورحلته العجيبة ، إلى نهاية المطاف هناك ، حيث يتكشف ستره ويكشف سره ، ويتجرد من القوة والنصير . .
ولعل طائفاً من شك ، أو بقية من ريب ، تكون باقية في النفس ، في أن هذا لا بد كائن . . فمن ثم يجزم جزماً بأن هذا القول هو القول الفصل ، ويربط بين هذا القول وبين مشاهد الكون ، كما صنع في مطلع السورة :
{ والسماء ذات الرجع ، والأرض ذات الصدع ، إنه لقول فصل ، وما هو بالهزل } . .
والرجع المطر ترجع به السماء مرة بعد مرة ، والصدع النبت يشق الأرض وينبثق . . وهما يمثلان مشهداً للحياة في صورة من صورها . حياة النبات ونشأته الأولى : ماء يتدفق من السماء ، ونبت ينبثق من الأرض . . أشبه شيء بالماء الدافق من الصلب والترائب؛ والجنين المنبثق من ظلمات الرحم . الحياة هي الحياة . والمشهد هو المشهد . والحركة هي الحركة . . نظام ثابت ، وصنعة مُعلمة ، تدل على الصانع . الذي لا يشبهه أحد لا في حقيقة الصنعة ولا في شكلها الظاهر
وهو مشهد قريب الشبه بالطارق . النجم الثاقب . وهو يشق الحجب والستائر . كما أنه قريب الشبه بابتلاء السرائر وكشف السواتر . . صنعة واحدة تشير إلى الصانع
يقسم الله بهذين الكائنين وهذين الحدثين : السماء ذات الرجع . والأرض ذات الصدع . . حيث يوقع مشهدهما وإيحاؤهما ، كما يوحي جرس التعبير ذاته ، بالشدة والنفاذ والجزم . . يقسم بأن هذا القول الذي يقرر الرجعة والابتلاء أو بأن هذا القرآن عامة هو القول الفصل الذي لا يتلبس به الهزل . القول الفصل الذي ينهي كل قول وكل جدل وكل شك وكل ريب .

القول الذي ليس بعده قول . تشهد بهذا السماء ذات الرجع ، والأرض ذات الصدع
وفي ظل هذا القول الفصل بالرجعة والابتلاء يتجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ومن معه من القلة المؤمنة في مكة يعانون من كيد المشركين ومؤامراتهم على الدعوة والمؤمنين بها وقد كانوا في هم مقعد مقيم للكيد لها والتدبير ضدها وأخذ الطرق عليها وابتكار الوسائل في حربها يتجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتثبيت والتطمين وبالتهوين من أمر الكيد والكائدين . وأنه إلى حين . وأن المعركة بيده هو سبحانه وقيادته . فليصبر الرسول وليطمئن هو والمؤمنون :
{ إنهم يكيدون كيداً ، وأكيد كيداً ، فمهل الكافرين ، أمهلهم رويداً } . .
إنهم هؤلاء الذين خلقوا من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب بلا حول ولا قوة ولا قدرة ولا إرادة ، ولا معرفة ولا هداية . والذين تولتهم يد القدرة في رحلتهم الطويلة . والذين هم صائرون إلى رجعة تبلى فيها السرائر ، حيث لا قوة لهم ولا ناصر . . إنهم هؤلاء يكيدون كيداً . .
وأنا أنا المنشئ . . الهادي . الحافظ . الموجه . المعيد . المبتلي . القادر . القاهر . خالق السماء والطارق . وخالق الماء الدافق ، والإنسان الناطق ، وخالق السماء ذات الرجع ، والأرض ذات الصدع . . أنا الله . . أكيد كيداً . .
فهذا كيد . وهذا كيد . وهذه هي المعركة . . ذات طرف واحد في الحقيقة . . وإن صورت ذات طرفين لمجرد السخرية والهزاء
{ فمهل الكافرين } . . { أمهلهم رويداً } . . لا تعجل . ولا تستبطئ نهاية المعركة . وقد رأيت طبيعتها وحقيقتها . . فإنما الحكمة وراء الإمهال . الإمهال قليلاً . . وهو قليل حتى لو استغرق عمر الحياة الدنيا . فما هو عمر الحياة الدنيا إلى جانب تلك الآباد المجهولة المدى؟
ونلحظ في التعبير الإيناس الإلهي للرسول : { فمهل الكافرين أمهلهم رويداً } . . كأنه هو صلى الله عليه وسلم صاحب الأمر ، وصاحب الإذن ، وكأنه هو الذي يأذن بإمهالهم . أو يوافق على إمهالهم . وليس من هذا كله شيء للرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو الإيناس والود في هذا الموضع الذي تنسم نسائم الرحمة على قلبه - صلى الله عليه وسلم - الإيناس الذي يخلط بين رغبة نفسه وإرادة ربه . ويشركه في الأمر كأن له فيه شيئاً . ويرفع الفوارق والحواجز بينه وبين الساحة الإلهية التي يقضي فيها الأمر ويبرم . . وكأنما يقول له ربه : إنك مأذون فيهم . ولكن أمهلهم . أمهلهم رويداً . . فهو الود العطوف والإيناس اللطيف . يمسح على الكرب والشدة والعناء والكيد ، فتنمحي كلها وتذوب . . ويبقى العطف الودود . .

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)

في رواية للإمام أحمد عن الإمام علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب هذه السورة : { سبح اسم ربك الأعلى } . . وفي صحيح مسلم أنه كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى ، و { هل أتاك حديث الغاشية } . وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما . .
وحق لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحب هذه السورة وهي تحيل له الكون كله معبداً تتجاوب أرجاؤه بتسبيح ربه الأعلى وتمجيده ، ومعرضاً يحفل بموحيات التسبيح والتحميد : { سبح اسم ربك الأعلى . الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى . والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاء أحوى } . . وإيقاع السورة الرخي المديد يلقي ظلال التسبيح ذي الصدى البعيد . .
وحق له صلى الله عليه وسلم أن يحبها ، وهي تحمل له من البشريات أمراً عظيماً . وربه يقول له ، وهو يكلفه التبليغ والتذكير : { سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى . فذكر إن نفعت الذكرى } . . وفيها يتكفل له ربه بحفظ قلبه لهذا القرآن ، ورفع هذه الكلفة من عاتقه . ويعده أن ييسره لليسرى في كل أموره وأمور هذه الدعوة . وهو أمر عظيم جداً .
وحق له صلى الله عليه وسلم أن يحبها ، وهي تتضمن الثابت من قواعد التصور الإيماني : من توحيد الرب الخالق وإثبات الوحي الإلهي ، وتقرير الجزاء في الآخرة . وهي مقومات العقيدة الأولى . ثم تصل هذه العقيدة بأصولها البعيدة ، وجذورها الضاربة في شعاب الزمان : { إن هذا لفي الصحف الأولى . صحف إبراهيم وموسى } . . فوق ما تصوره من طبيعة هذه العقيدة ، وطبيعة الرسول الذي يبلغها والأمة التي تحملها . . طبيعة اليسر والسماحة . .
وكل واحدة من هذه تحتها موحيات شتى؛ ووراءها مجالات بعيدة المدى . .
{ سبح اسم ربك الأعلى . الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى . والذي أخرج المرعى . فجعله غثآء أحوى } . .
إن هذا الافتتاح ، بهذا المطلع الرخي المديد ، ليطلق في الجو ابتداء أصداء التسبيح ، إلى جانب معنى التسبيح . وإن هذه الصفات التي تلي الأمر بالتسبيح : { الأعلى الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى . والذي أخرج المرعى . فجعله غثاء أحوى } . . لتحيل الوجود كله معبداً يتجاوب جنباته بتلك الأصداء؛ ومعرضاً تتجلى فيه آثار الصانع المبدع : { الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى } . .
والتسبيح هو التمجيد والتنزيه واستحضار معاني الصفات الحسنى لله ، والحياة بين إشعاعاتها وفيوضاتها وإشراقاتها ومذاقاتها الوجدانية بالقلب والشعور . وليست هي مجرد ترديد لفظ : سبحان الله . . و { سبح اسم ربك الأعلى } . . تطلق في الوجدان معنى وحالة يصعب تحديدها باللفظ ، ولكنها تتذوق بالوجدان . وتوحي بالحياة مع الإشراقات المنبثقة من استحضار معاني الصفات .

والصفة الأولى القريبة في هذا النص هي صفة الرب . وصفة الأعلى . . والرب : المربي والراعي ، وظلال هذه الصفة الحانية مما يتناسق مع جو السورة وبشرياتها وإيقاعاتها الرخية . . وصفة الأعلى تطلق التطلع إلى الآفاق التي لا تتناهى؛ وتطلق الروح لتسبح وتسبح إلى غير مدى . . وتتناسق مع التمجيد والتنزيه ، وهو في صميمه الشعور بصفة الأعلى . .
والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء . وهذا الأمر صادر إليه من ربه . بهذه الصيغة : { سبح اسم ربك الأعلى } . . وفيه من التلطف والإيناس ما يجل عن التعبير . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذا الأمر ، ثم يعقب عليه بالاستجابة المباشرة ، قبل أن يمضي في آيات السورة ، يقول : { سبحان ربي الأعلى } . . فهو خطاب ورده . وأمر وطاعته . وإيناس ومجاوبته . . إنه في حضرة ربه ، يتلقى مباشرة ويستجيب . في أنس وفي اتصال قريب . وحينما نزلت هذه الآية قال : « اجعلوها في سجودكم » وحينما نزلت قبلها : { فسبح باسم ربك العظيم } قال : « اجعلوها في ركوعكم » . فهذا التسبيح في الركوع والسجود كلمة حية ألحقت بالصلاة وهي دافئة بالحياة . لتكون استجابه مباشرة لأمر مباشر . أو بتعبير أدق . . لإذن مباشر . . فإذن الله لعباده بأن يحمدوه ويسبحوه إحدى نعمه عليهم وأفضاله . إنه إذن بالاتصال به سبحانه في صورة مقربة إلى مدارك البشر المحدودة . صورة تفضل الله عليهم بها ليعرفهم ذاته . في صفاته . في الحدود التي يملكون أن يتطلعوا إليها . وكل إذن للعباد بالاتصال بالله في أي صورة من صور الاتصال ، هو مكرمة له وفضل على العباد .
{ سبح اسم ربك الأعلى } . . { الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى } . .
الذي خلق كل شيء فسواه ، فأكمل صنعته ، وبلغ به غاية الكمال الذي يناسبه . . والذي قدر لكل مخلوق وظيفته وغايته فهداه إلى ما خلقه لأجله ، وألهمه غاية وجوده؛ وقدر له ما يصلحه مدة بقائه ، وهداه إليه أيضاً . .
وهذه الحقيقة الكبرى ماثلة في كل شيء في هذا الوجود؛ يشهد بها كل شيء في رحاب الوجود . من الكبير إلى الصغير . ومن الجليل إلى الحقير . . كل شيء مسوى في صنعته ، كامل في خلقته . معد لأداء وظيفته . مقدر له غاية وجوده ، وهو ميسر لتحقيق هذه الغاية من أيسر طريق . . وجميع الأشياء مجتمعة كاملة التناسق ، ميسرة لكي تؤدي في تجمعها دورها الجماعي؛ مثلما هي ميسرة فرادى لكي تؤدي دورها الفردي .
الذرة بمفردها كاملة التناسق بين كهاربها وبروتوناتها وإلكتروناتها ، شأنها شأن المجموعة الشمسية في تناسق شمسها وكواكبها وتوابعها . . وهي تعرف طريقها وتؤدي مثلها وظيفتها . .
والخلية الحية المفردة كاملة الخلقة والاستعداد لأداء وظائفها كلها ، شأنها شأن أرقى الخلائق الحية المركبة المعقدة .
وبين الذرة المفردة والمجموعة الشمسية؛ كما بين الخلية الواحدة وأرقى الكائنات الحية ، درجات من التنظيمات والتركيبات كلها في مثل هذا الكمال الخلقي ، وفي مثل هذا التناسق الجماعي ، وفي مثل هذا التدبير والتقدير الذي يحكمها ويصرفها .

. والكون كله هو الشاهد الحاضر على هذه الحقيقة العميقة . .
هذه الحقيقة يدركها القلب البشري جملة حين يتلقى إيقاعات هذا الوجود؛ وحين يتدبر الأشياء في رحابه بحس مفتوح . وهذا الإدراك الإلهامي لا يستعصي على أي إنسان في أية بيئة ، وعلى أية درجة من درجات العلم الكسبي ، متى تفتحت منافذ القلب ، وتيقظت أوتاره لتلقي إيقاعات الوجود .
والملاحظة بعد ذلك والعلم الكسبي يوضحان بالأمثلة الفردية ما يدركه الإلهام بالنظرة الأولى . . وهناك من رصيد الملاحظة والدراسة ما يشير إلى طرف من تلك الحقيقة الشاملة لكل ما في الوجود .
يقول العالم ( ا . كريسي موريسون ) رئيس أكاديمية العلوم بنيورك في كتابه : « الإنسان لا يقوم وحده »
« إن الطيور لها غريزة العودة إلى الموطن . فعصفور الهزاز الذي عشش ببابك يهاجر جنوباً في الخريف . ولكنه يعود إلى عشه في الربيع التالي . وفي شهر سبتمبر تطير أسراب من معظم طيورنا إلى الجنوب . وقد تقطع في الغالب نحو ألف ميل فوق أرض البحار . ولكنها لا تضل طريقها . وحمام الزاجل إذا تحير من جراء أصوات جديدة عليه في رحلة طويلة داخل قفص ، يحوم برهة ثم يقصد قدماً إلى موطنه دون أن يضل . . والنحلة تجد خليتها مهما طمست الريح ، في هبوبها على الأعشاب والأشجار ، كل دليل يرى . وحاسة العودة إلى الوطن هذه هي ضعيفة في الإنسان ، ولكنه يكمل عتاده القليل منها بأدوات الملاحة . ونحن في حاجة إلى هذه الغريزة ، وعقولنا تسد هذه الحاجة . ولا بد أن للحشرات الدقيقة عيوناً ميكروسكوبية ( مكبرة ) لا ندري مبلغها من الإحكام؛ وأن للصقور بصراً تلسكوبياً ( مكبراً مقرباً ) . وهنا أيضاً يتفوق الإنسان بأدواته الميكانيكية فهو بتلسكوبه يبصر سديماً بلغ من الضعف أنه يحتاج إلى مضاعفة قوة إبصاره مليوني مرة ليراه . وهو بمكروسكوبه الكهربائي يستطيع أن يرى بكتريا كانت غير مرئية ( بل كذلك الحشرات الصغيرة التي تعضها ) . »
« وأنت إذا تركت حصانك العجوز وحده ، فإنه يلزم الطريق مهما اشتدت ظلمة الليل . وهو يقدر أن يرى ولو في غير وضوح . ولكنه يلحظ اختلاف درجة الحرارة في الطريق وجانبيه ، بعينين تأثرتا قليلاً بالأشعة تحت الحمراء التي للطريق . والبومة تستطيع أن تبصر الفأر الدافئ اللطيف وهو يجري على العشب البارد مهما تكن ظلمة الليل . ونحن نقلب الليل نهاراً بإحداث إشعاع في تلك المجموعة التي نسميها الضوء » . .
. . « إن العاملات من النحل تصنع حجرات مختلفات الأحجام في المشط الذي يستخدم في التربية . وتعد الحجرات الصغيرات للعمال ، والأكبر منها لليعاسيب ( ذكور النحل ) وتعد غرفة خاصة للملكات الحوامل . والنحلة الملكية تضع بيضاً غير مخصب في الخلايا المخصصة للذكور ، وبيضاً مخصباً في الحجرات الصحيحة المعدة للعاملات الإناث والملكات المنتظرات .

والعاملات اللائي هن إناث معدلات بعد أن انتظرن طويلاً مجيء الجيل الجديد ، تهيأن أيضاً لإعداد الغذاء للنحل الصغير بمضغ العسل واللقح ومقدمات هضمه . ثم ينقطعن عن عملية المضغ ومقدمات الهضم عند مرحلة معينة من تطور الذكور والإناث ، ولا يغذين سوى العسل واللقح . والإناث اللاتي يعالجن على هذا الشكل يصبحن عاملات « . .
» أما الإناث اللاتي في حجرات الملكة ، فإن التغذية بالمضغ ومقدمات الهضم تستمر بالنسبة لهن . وهؤلاء اللاتي يعاملن هذه المعاملة الخاصة يتطورن إلى ملكات نحل ، وهن وحدهن اللائي ينتجن بيضاً مخصباً . وعملية تكرار الإنتاج هذه تتضمن حجرات خاصة ، وبيضاً خاصاً ، كما تتضمن الأثر العجيب الذي لتغيير الغذاء ، وهذا يتطلب الانتظار والتمييز وتطبيق اكتشاف أثر الغذاء وهذه التغيرات تنطبق بوجه خاص على حياة الجماعة ، وتبدو ضرورية لوجودها . ولا بد أن المعرفة والمهارة اللازمتين لذلك قد تم اكتسابهما بعد ابتداء هذه الحياة الجماعة ، وليستا بالضرورة ملازمتين لتكوين النحل ولا لبقائه على الحياة . وعلى ذلك فيبدو أن النحل قد فاق الإنسان في معرفة تأثير الغذاء تحت ظروف معينة «
» والكلب بما أوتي من أنف فضولي يستطيع أن يحس الحيوان الذي مر . وليس ثمة من أداة من اختراع الإنسان لتقوي حاسة الشم الضعيفة لديه . ومع هذا فإن حاسة الشم الخاصة بنا على ضعفها قد بلغت من الدقة أنها يمكنها أن تتبين الذرات المكروسكوبية البالغة الدقة « . .
» وكل الحيوانات تسمع الأصوات التي يكون كثير منها خارج دائرة الاهتزازات الخاصة بنا ، وذلك بدقة تفوق كثيراً حاسة السمع المحدودة عندنا . وقد أصبح الإنسان يستطيع بفضل وسائله أن يسمع صوت ذبابة تطير على بعد أميال ، كما لو كانت فوق طبلة أذنه . ويستطيع بمثل تلك الأدوات أن يسجل وقع شعاع شمسي «
» إن إحدى العناكب المائية تصنع لنفسها عشاً على شكل منطاد ( بالون ) من خيوط العنكبوت . وتعلقه بشيء ما تحت الماء . ثم تمسك ببراعة فقاعة هواء في شعر جسمها ، وتحملها إلى الماء ، ثم تطلقها تحت العش . ثم تكرر هذه العملية حتى ينتفخ العش . وعندئذ تلد صغارها وتربيها ، آمنة عليها من هبوب الهواء . فها هنا نجد طريقة النسج ، بما يشمله من هندسة وتركيب وملاحة جوية «
وسمك » السلمون « الصغير يمضي سنوات في البحر ، ثم يعود إلى نهره الخاص به . والأكثر من ذلك أنه يصعد إلى جانب النهر الذي يصب عنده النهير الذي ولد فيه . . فما الذي يجعل السمك يرجع إلى مكان مولده بهذا التحديد؟ إن سمكة السلمون التي تصعد في النهر صعداً إذا انقلت إلى نهير آخر أدركت تواً أنه ليس جدولها . فهي لذلك تشق طريقها خلال النهر ، ثم تحيد ضد التيار ، قاصدة إلى مصيرها
» وهناك لغز أصعب من ذلك يتطلب الحل ، وهو الخاص بثعابين الماء التي تسلك عكس هذا المسلك ، فإن تلك المخلوقات العجيبة متى اكتمل نموها ، هاجرت من مختلف البرك والأنهار .

وإذا كانت في أوربا قطعت آلاف الأميال في المحيط قاصدة كلها إلى الأعماق السحيقة جنوبي برمودا . وهناك تبيض وتموت . أما صغارها تلك التي لا تملك وسيلة لتعرف بها أي شيء سوى أنها في مياه قفرة فإنها تعود أدراجها وتجد طريقها إلى الشاطئ الذي جاءت منه أمهاتها . ومن ثم إلى كل نهر أو بحيرة أو بركة صغيرة . ولذا يظل كل جسم من الماء آهلاً بثعابين البحار . لقد قاومت التيارات القوية ، وثبتت للأمداد والعواصف ، وغالبت الأمواج المتلاطمة على كل شاطئ . وهي الآن يتاح لها النمو . حتى إذا اكتمل نموها دفعها قانون خفي إلى الرجوع حيث كانت بعد أن تتم الرحلة كلها . فمن أين ينشأ الحافز الذي يواجهها لذلك؟ لم يحدث قط أن صيد ثعبان ماء أمريكي في المياه الأوربية ، أو صيد ثعبان ماء أوربي في المياه الأمريكية . والطبيعة تبطئ في إنماء ثعبان الماء الأوربي مدة سنة أو أكثر لتعوض من زيادة مسافة الرحلة التي يقطعها ( إذ إن مسافته أطول من مسافة زميله الأمريكي ) ترى هل الذرات والهباءات إذا توحدت معاً في ثعبان ماء يكون لها حاسة التوجيه وقوة الإرادة اللازمة للتنفيذ؟
. . « وإذا حمل الريح فراشة أنثى من خلال نافذة إلى علية بيتك ، فإنها لا تلبث حتى ترسل إشارة خفية . وقد يكون الذكر على مسافة بعيدة . ولكنه يتلقى هذه الإشارة ويجاوبها ، مهما أحدثت أنت من رائحة بعملك لتضليلهما . ترى هل لتلك المخلوقة الضئيلة محطة إذاعة . وهل لذكر الفراشة جهاز راديو عقلي ، فضلاً عن السلك اللاقط للصوت ( إيريال ) ؟ أتراها تهز الأثير فهو يتلقى الاهتزاز؟ »
. . « إن التليفون والراديو هما من العجائب الآلية . وهما يتيحان لنا الاتصال السريع . ولكنا مرتبطون في شأنهما بسلك ومكان . وعلى ذلك لا تزال الفراشة متفوقة علينا من هذه الوجهة » .
« والنبات يتحايل على استخدام وكلاء لمواصلة وجوده دون رغبة من جانبهم كالحشرات التي تحمل اللقح من زهرة إلى أخرى ، والرياح ، وكل شيء يطير أو يمشي ، ليوزع بذوره . وأخيراً أوقع النبات الإنسان ذا السيادة في الفخ فقد حسن الطبيعة وجازته بسخاء . غير أنه شديد التكاثر؛ حتى أصبح مقيداً بالمحراث ، وعليه أن يبذر ويحصد ويخزن ، وعليه أن يربي ويهجن ، وأن يشذب ويطعم . وإذا هو أغفل هذه الأعمال كانت المجاعة نصيبه ، وتدهورت المدنية ، وعادت الأرض إلى حالتها الفطرية » . .
« وكثير من الحيوانات هي مثل » سرطان البحر « الذي إذا فقد مخلباً عرف أن جزءاً من جسمه قد ضاع ، وسارع إلى تعويضه بإعادة تنشيط الخلايا وعوامل الوراثة؛ ومتى تم ذلك كفت الخلايا عن العمل ، لأنها تعرف بطريقة ما أن وقت الراحة قد حان »
« وكثير الأرجل المائي إذا انقسم إلى قسمين استطاع أن يصلح نفسه عن طريق أحد هذين النصفين .

وأنت إذا قطعت رأس دودة الطعم تسارع إلى صنع رأس بدلاً منه . ونحن نستطيع أن ننشط التئام الجروح ، ولكن متى يتاح للجراحين أن يعرفوا كيف يحركون الخلايا لتنتج ذراعاً جديدة ، أو لحماً أو عظاماً أو أظافر أو أعصاباً؟ إذا كان ذلك في حيز الإمكان؟ «
» وهناك حقيقة مدهشة تلقي بعض الضوء على لغز هذا الخلق من جديد : فإن الخلايا في المراحل الأولى من تطورها ، إذا تفرقت ، صار لكل منها القدرة على خلق حيوان كامل . ومن ثم فإنه إذا انقسمت الخلية الأولى إلى قسمين ، وتفرق هذان ، تطور منهما فردان . وقد يكون في ذلك تفسير لتشابه التوأمين . ولكنه يدل على أكثر من ذلك . وهو أن كل خلية في البداية يمكن أن تكون فرداً كاملاً بالتفصيل . فليس هناك شك إذن ، في أنك أنت ، في كل خلية ونسيج « . .
ويقول في فصل آخر :
» إن جوزة البلوط تسقط على الأرض ، فتحفظها قشرتها السمراء الجامدة ، وتتدرج في حفرة ما من الأرض ، وفي الربيع تستيقظ الجرثومة ، فتنفجر القشرة ، وتزدرد الطعام من اللب الشبيه بالبيضة الذي اختفت فيه « الجينات » ( وحدات الوراثة ) وهي تمد الجذور في الأرض ، وإذا بك ترى فرخاً أو شتلة ( شجيرة ) وبعد سنوات شجرة وإن الجرثومة بما فيها من جينات قد تضاعفت ملايين الملايين ، فصنعت الجذع والقشرة وكل ورقة وكل ثمرة ، مماثلة لتلك التي لشجرة البلوط التي تولدت عنها . وفي خلايا مئات السنين قد بقي من ثمار البلوط التي لا تحصى نفس ترتيب الذرات تماماً الذي أنتج أول شجرة بلوط منذ ملايين السنين « .
وفي فصل ثالث يقول :
» وكل خلية تنتج في أي مخلوق حي يجب أن تكيف نفسها لتكون جزءاً من اللحم . أو أن تضحي بنفسها كجزء من الجلد الذي لا يلبث حتى يبلى . وعليها أن تصنع ميناء الأسنان ، وأن تنتج السائل الشفاف في العين ، أو أن تدخل في تكوين الأنف أو الأذن . ثم على كل خلية أن تكيف نفسها من حيث الشكل وكل خاصية أخرى لازمة لتأدية مهمتها . ومن العسير أن نتصور أن خلية ما هي ذات يد يمنى أو يسرى . ولكن إحدى الخلايا تصبح جزءاً من الأذن اليمنى ، بينما الأخرى تصبح جزءاً من الأذن اليسرى . «
. . » وإن مئات الآلاف من الخلايا تبدو كأنها مدفوعة لأن تفعل الشيء الصواب في الوقت الصواب . وفي المكان الصواب «
وفي فصل رابع .

.
. . « في خليط الخلق قد أتيح لكثير من المخلوقات أن تبدي درجة عالية من أشكال معينة من الغريزة أو الذكاء أو ما لا ندري . فالدبور مثلاً يصيد الجندب النطاط ، ويحفر حفرة في الأرض ، ويخز الجندب في المكان المناسب تماماً حتى يفقد وعيه ، ولكنه يعيش كنوع من اللحم المحفوظ . . وأنثى الدبور تضع بيضاً في المكان المناسب بالضبط ، ولعلها لا تدري أن صغارها حين تفقس يمكنها أن تتغذى ، دون أن تقتل الحشرة التي هي غذاؤها ، فيكون ذلك خطراً على وجودها . ولا بد أن الدبور قد فعل ذلك من البداية وكرره دائماً ، وإلا ما بقيت زنابير على وجه الأرض . . والعلم لا يجد تفسيراً لهذه الظاهرة الخفية ، ولكنها مع ذلك لا يمكن أن تنسب إلى المصادفة »
« وإن أنثى الدبور تغطي حفرة في الأرض ، وترحل فرحاً ، ثم تموت . فلا هي ولا أسلافها قد فكرت في هذه العملية ، وهي لا تعلم ماذا يحدث لصغارها ، أو أن هناك شيئاً يسمى صغاراً . . بل إنها لا تدري أنها عاشت وعملت لحفظ نوعها »
. . « وفي بعض أنواع النمل يأتي العملة منه بحبوب صغيرة لإطعام غيرها من النمل في خلال فصل الشتاء . وينشئ النمل ما هو معروف » بمخزن الطحن « وفيه يقوم النمل الذي أوتي أفكاكاً كبيرة معدة للطحن ، بإعداد الطعام للمستعمرة . وهذا هو شاغلها الوحيد . وحين يأتي الخريف ، وتكون الحبوب كلها قد طحنت ، فإن » أعظم خير لأكبر عدد « يتطلب حفظ تلك المؤونة من الطعام . وما دام الجيل الجديد سينتظم كثيراً من النمل الطحان؛ فإن جنود النمل تقتل النمل الطاحن الموجود . ولعلها ترضي ضميرها الحشري بأن ذلك النمل قد نال جزاءه الكافي ، إذ كانت له الفرصة الأولى في الإفادة من الغذاء أثناء طحنه »
« وهناك أنواع من النمل تدفعها الغريزة أو التفكير ( واختر منهما ما يحلو لك ) إلى زرع أعشاش للطعام فيما يمكن تسميته » بحدائق الأعشاش « . وتصيد أنواعاً معينة من الدود والأرق أو اليرق ( وهي حشرات صغيرة تسبب آفة الندوة العسلية ) فهذه المخلوقات هي بقر النمل وعنزاتها ومنها يأخذ النمل إفرازات معينة تشبه العسل ليكون طعاماً له » .
« والنمل يأسر طوائف منه ويسترقها . وبعض النمل حين يصنع أعشاشه ، يقطع الأوراق مطابقة للحجم المطلوب . وبينما يضع بعض عملة النمل الأطراف في مكانها ، تستخدم صغارها التي وهي في الدور اليرقي تقدر أن تغزل الحرير لحياكتها معاً وربما حرم طفل النمل عمل شرنقة لنفسه ، ولكنه قد خدم الجماعة »
« فكيف يتاح لذرات المادة التي تتكون منها النملة ، أن تقوم بهذه العمليات المعقدة؟ »
« لا شك أن هناك خالقاً أرشدها إلى كل ذلك » .

. انتهى . .
أجل . لا شك أن هناك خالقاً أرشدها ، وأرشد غيرها من الخلائق . كبيرها وصغيرها . إلى كل ذلك . . إنه { الأعلى الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى } . .
وهذه النماذج التي اقتطفناها من كلام ذلك العالم ليست سوى طرف صغير من الملاحظات التي سجلها البشر في عوالم النبات والحشرات والطيور والحيوان . ووراءها حشود من مثلها كثيرة . . وهذه الحشود لا تزيد على أن تشير إلى جانب صغير من مدلول قوله تعالى : { الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى } . . في هذا الوجود المشهود الذي لا نعرف عنه إلا أقل من القليل . ووراءه عالم الغيب الذي ترد لنا عنه لمحات فيما يحدثنا الله عنه؛ بالقدر الذي يطيقه تكويننا البشري الضعيف
وبعد عرض هذا المدى المتطاول ، من صفحة الوجود الكبيرة ، وإطلاق التسبيح في جنباته ، تتجاوب به أرجاؤه البعيدة ، يكمل التسبيحة الكبرى بلمسة في حياة النبات لها إيحاؤها ولها مغزاها :
{ والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى } .
والمرعى كل نبات . وما من نبات إلا وهو صالح لخلق من خلق الله . فهو هنا أشمل مما نعهده من مرعى أنعامنا . فالله خلق هذه الأرض وقدر فيها أقواتها لكل حي يدب فوق ظهرها أو يختبئ في جوفها ، أو يطير في جوها .
والمرعى يخرج في أول أمره خضراً ، ثم يذوي فإذا هو غثاء ، أميل إلى السواد فهو أحوى ، وقد يصلح أن يكون طعاماً وهو أخضر ، ويصلح أن يكون طعاماً وهو غثاء أحوى . وما بينهما فهو في كل حالة صالح لأمر من أمور هذه الحياة ، بتقدير الذي خلق فسوى وقدر فهدى .
والإشارة إلى حياة النبات هنا توحي من طرف خفي ، بأن كل نبت إلى حصاد وأن كل حي إلى نهاية . وهي اللمسة التي تتفق مع الحديث عن الحياة الدنيا والحياة الأخرى . . { بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى } . . والحياة الدنيا كهذا المرعى ، الذي ينتهي فيكون غثاء أحوى . . والآخرة هي التي تبقى .
وبهذا المطلع الذي يكشف عن هذا المدى المتطاول من صفحة الوجود الكبيرة . . تتصل حقائق السورة الآتية في سياقها ، بهذا الوجود؛ ويتصل الوجود بها ، في هذا الإطار الجميل . والملحوظ أن معظم السور في هذا الجزء تتضمن مثل هذا الإطار . الإطار الذي يتناسق مع جوها وظلها وإيقاعها تناسقاً كاملاً .
بعدئذ يجيء بتلك البشرى العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته من ورائه :
{ سنقرئك فلا تنسى إلا ما شآء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى . فذكر إن نفعت الذكرى } . . وتبدأ البشرى برفع عناء الحفظ لهذا القرآن والكد في إمساكه عن عاتق الرسول صلى الله عليه وسلم : { سنقرئك فلا تنسى } . . فعليه القراءة يتلقاها عن ربه ، وربه هو المتكفل بعد ذلك بقلبه ، فلا ينسى ما يقرئه ربه .

وهي بشرى للنبي صلى الله عليه وسلم تريحه وتطمئنه على هذا القرآن العظيم الجميل الحبيب إلى قلبه . الذي كان يندفع بعاطفة الحب له ، وبشعور الحرص عليه ، وبإحساس التبعة العظمى فيه . . إلى ترديده آية آية وجبريل يحمله إليه ، وتحريك لسانه به خيفة أن ينسى حرفاً منه . حتى جاءته هذه البشائر المطمئنة بأن ربه سيتكفل بهذا الأمر عنه .
وهي بشرى لأمته من ورائه ، تطمئن بها إلى أصل هذه العقيدة . فهي من الله . والله كافلها وحافظها في قلب نبيها . وهذا من رعايته سبحانه ، ومن كرامة هذا الدين عنده ، وعظمة هذا الأمر في ميزانه .
وفي هذا الموضع كما في كل موضع يرد فيه وعد جازم ، أو ناموس دائم ، يرد ما يفيد طلاقة المشيئة الإلهية من وراء ذلك ، وعدم تقيدها بقيد ما ولو كان هذا القيد نابعاً من وعدها وناموسها . فهي طليقة وراء الوعد والناموس . ويحرص القرآن على تقرير هذه الحقيقة في كل موضع كما سبق أن مثلنا لهذا في الظلال ومن ذلك ما جاء هنا :
{ إلا ما شاء الله } . . فهو الاحتراس الذي يقرر طلاقة المشيئة الإلهية ، بعد الوعد الصادق بأنه لا ينسى . ليظل الأمر في إطار المشيئة الكبرى ، ويظل التطلع دائماً إلى هذه المشيئة حتى فيما سلف فيه وعد منها . ويظل القلب معلقاً بمشيئة الله حياً بهذا التعلق أبداً . .
{ إنه يعلم الجهر وما يخفى } . . وكأن هذا تعليل لما مر في هذا المقطع من الإقرار والحفظ والاستثناء . . فكلها ترجع إلى حكمة يعلمها من يعلم الجهر وما يخفى؛ ويطلع على الأمر من جوانبه جميعاً ، فيقرر فيه ما تقتضيه حكمته المستندة إلى علمه بأطراف الأمر جميعاً .
والبشرى الثانية الشاملة :
{ ونيسرك لليسرى } . .
بشرى لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم وبشرى لأمته من ورائه . وتقرير لطبيعة هذا الدين ، وحقيقة هذه الدعوة ، ودورها في حياة البشر ، وموضعها في نظام الوجود . . وإن هاتين الكلمتين : { ونيسرك لليسرى } ، لتشتملان على حقيقة من أضخم حقائق هذه العقيدة ، وحقائق هذا الوجود أيضاً . فهي تصل طبيعة هذا الرسول بطبيعة هذه العقيدة بطعبية هذا الوجود . الوجود الخارج من يد القدرة في يسر . السائر في طريقه بيسر . المتجه إلى غايته بيسر . فهي انطلاقة من نور؛ تشير إلى أبعاد وآماد وآفاق من الحقيقة ليس لها حدود . .
إن الذي ييسره الله لليسرى ليمضي في حياته كلها ميسراً . يمضي مع هذا الوجود المتناسق التركيب والحركة والاتجاه . . إلى الله . . فلا يصطدم إلا مع المنحرفين عن خط هذا الوجود الكبير وهم لا وزن لهم ولا حساب حين يقاسون إلى هذا الوجود الكبير يمضي في حركة يسيرة لطيفة هينة لينة مع الوجود كله ومع الأحداث والأشياء والأشخاص ، ومع القدر الذي يصرف الأحداث والأشياء والأشخاص .

اليسر في يده . واليسر في لسانه . واليسر في خطوه . واليسر في عمله واليسر في تصوره . واليسر في تفكيره . واليسر في أخذه للأمور . واليسر في علاجه للأمور . اليسر مع نفسه واليسر مع غيره .
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمره . . ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما كما روت عنه عائشة رضي الله عنها وكما قالت عنه : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في بيته ألين الناس ، بساماً ضحاكاً » وفي صحيح البخاري : « كانت الأمة تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت »
وفي هديه صلى الله عليه وسلم في اللباس والطعام والفراش وغيرها ما يعبر عن اختيار اليسر وقلة التكليف ألبتة .
جاء في زاد المعاد لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن قيم الجوزية ، عن هديه صلى الله عليه وسلم في « ملابسه » : « كانت له عمامة تسمى السحاب كساها علياً ، وكان يلبسها ويلبس تحتها القلنسوة . وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة ، ويلبس العمامة بغير قلنسوة . وكان إذا اعتم أرخى عمامته بين كتفيه كما رواه مسلم في صحيحه . عن عمر بن حريث قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه . وفي مسلم أيضاً عن جابر ذؤابة ، فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائماً بين كتفيه . وقد يقال : إنه دخل مكة وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه فلبس في كل موطن ما يناسبه » .
وفي فصل آخر قال : « والصواب أن أفضل الطرق طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سنها وأمر بها ورغب فيها وداوم عليها . وهي أن هديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس . من الصوف تارة ، والقطن تارة ، والكتان تارة ، ولبس البرود اليمانية والبرد الأخضر . ولبس الجبة والقباء والقميص والسراويل والإزار والرداء والخف والنعل ، وأرخى الذؤابة من خلفه تارة وتركها تارة . . الخ » . .
وقال في هديه في الطعام : « وكذلك كان هديه صلى الله عليه وسلم وسيرته في الطعام ، لا يرد موجوداً ولا يتكلف مفقوداً . فما قرب إليه شيء من الطيبات إلا أكله إلا أن تعافه نفسه فيتركه من غير تحريم وما عاب طعاماً قط . إن اشتهاه أكله ، وإلا تركه ، كما ترك أكل الضب لما لم يعتده ، ولم يحرمه على الأمة ، بل أُكل على مائدته وهو ينظر . وأكل الحلوى والعسل وكان يحبهما وأكل الرطب والتمر ، وشرب اللبن خالصاً ومشوباً والسويق والعسل بالماء ، وشرب نقيع التمر ، وأكل الخزبرة وهي حساء يتخذ من اللبن والدقيق وأكل القثاء بالرطب ، وأكل الأقط ، وأكل التمر بالخبز ، وأكل الخبز بالخل ، وأكل القديد ، وأكل الدباء المطبوخة - وكان يحبها - وأكل المسلوقة ، وأكل الثريد بالسمن ، وأكل الجبن ، وأكل الخبز بالزيت ، وأكل البطيخ بالرطب .

وأكل التمر بالزبد وكان يحبه ولم يكن يرد طيباً ولا يتكلفه ، بل كان هديه أكل ما تيسر ، فإن أعوزه صبر . . الخ « .
وقال عن هديه في نومه وانتباهه : » كان ينام على فراشه تارة وعلى النطع تارة ، وعلى الحصير تارة ، وعلى الأرض تارة ، وعلى السرير تارة بين رماله ، وتارة على كساء أسود « . .
وأحاديثه التي تحض على اليسر والسماحة والرفق في تناول الأمور وفي أولها أمر العقيدة وتكاليفها كثيرة جداً يصعب تقصيها . من هذا قوله صلى الله عليه وسلم : » إن هذا الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه « ( أخرجه البخاري ) . . » لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد عليهم . . « ( أخرجه أبو داود ) . . » إن المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى « ( أخرجه البخاري ) . . » يسروا ولا تعسروا « ( أخرجه الشيخان ) .
وفي التعامل : » رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى « ( أخرجه البخاري ) » المؤمن هين لين « ( أخرجه البيهقي ) » المؤمن يألف ويؤلف « ( أخرجه الدارقطني ) . » إن أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم « ( أخرجه الشيخان ) .
ومن اللمحات العميقة الدلالة كراهيته صلى الله عليه وسلم للعسر والصعوبة حتى في الأسماء وسمات الوجوه ، مما يوحي بحقيقة فطرته وصنع ربه بها وتيسيره لليسرى انطباعاً وتكويناً . . عن سعيد ابن المسيب عن أبيه رضي الله عنه أنه جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما اسمك؟ قال : حَزْن ( أي صعب وعر ) قال : بل أنت سهل . قال : لا أغير اسماً سمانيه أبي قال ابن المسيب رحمه الله : » فما زالت فينا حزونة بعد « ( أخرجه البخاري ) . . » وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية وسماها جميلة « ( أخرجه مسلم ) . ومن قوله : » إن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق « ( أخرجه الترمذي ) . .
فهو الحس المرهف الذي يلمح الوعورة والشدة حتى في الأسماء والملامح فينفر منها ، ويميل بها إلى اليسر والهوادة
وسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلها صفحات من السماحة واليسر والهوادة واللين والتوفيق إلى اليسر في تناول الأمور جميعاً .
وهذا مثل من علاجه للنفوس ، يكشف عن طريقته صلى الله عليه وسلم وطبيعته :
» جاءه أعرابي يوماً يطلب منه شيئاً فأعطاه . قال له :

« أحسنت إليك؟ » قال الأعرابي : لا . ولا أجملت فغضب المسلمون ، وقاموا إليه؛ فأشار إليهم أن كفوا . ثم دخل منزله ، وأرسل إلى الأعرابي ، وزاده شيئاً . ثم قال : « أحسنت إليك؟ » قال : نعم . فجزاك الله من أهل ومن عشيرة خيراً . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك ، فإذا أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي ، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك » قال : نعم . فلما كان الغداة جاء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن هذا الأعرابي قال ما قال ، فزدناه ، فزعم أنه رضي . أكذلك؟ » فقال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً . فقال صلى الله عليه وسلم « إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه ، فتبعها الناس ، فلم يزيدوها إلا نفوراً ، فناداهم صاحب الناقة : خلوا بيني وبين ناقتي ، فإني أرفق بها وأعلم . فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها ، فأخذ لها من قمام الأرض ، فردها هوناً هوناً ، حتى جاءت واستناخت ، وشد عليها رحلها ، واستوى عليها . وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار » .
فهكذا كان أخذه صلى الله عليه وسلم للنفوس الشاردة . بهذه البساطة ، وبهذا اليسر ، وبهذا الرفق وبهذا التوفيق . . والنماذج شتى في سيرته كلها . وهي من التيسير لليسرى كما بشره ربه ووفقه في حياته وفي دعوته وفي أموره جميعاً . .
هذه الشخصية الكريمة الحبيبة الميسرة لليسرى كانت كذلك لكي تحمل إلى البشرية هذه الدعوة . فتكون طبيعتها من طبيعتها ، وحقيقتها من حقيقتها ، وتكون كفاء للأمانة الضخمة التي حملتها بتيسير الله وتوفيقه على ضخامتها . . حيث تتحول الرسالة بهذا التيسير من عبء مثقل ، إلى عمل محبب ، ورياضة جميلة ، وفرح وانشراح . .
وفي صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وصفة وظيفته التي جاء ليؤديها ورد في القرآن الكريم : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } فقد جاء صلى الله عليه وسلم رحمة للبشرية . جاء ميسراً يضع عن كواهل الناس الأثقال والأغلال التي كتبت عليهم ، حينما شددوا فشدد عليهم .
وفي صفة الرسالة التي حملها ورد : { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } { وما جعل عليكم في الدين من حرج } { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم } فقد جاءت هذه الرسالة ميسرة في حدود الطاقة لا تكلف الناس حرجاً ولا مشقة . وسرى هذا اليسر في روحها كما سرى في تكاليفها

{ فطرة الله التي فطر الناس عليها } وحيثما سار الإنسان مع هذه العقيدة وجد اليسر ومراعاة الطاقة البشرية ، والحالات المختلفة للإنسان ، والظروف التي يصادفها في جميع البيئات والأحوال . . العقيدة ذاتها سهلة التصور . إله واحد ليس كمثله شيء . أبدع كل شيء ، وهداه إلى غاية وجوده . وأرسل رسلاً تذكر الناس بغاية وجودهم ، وتردهم إلى الله الذي خلقهم . والتكاليف بعد ذلك كلها تنبثق من هذه العقيدة في تناسق مطلق لا عوج فيه ولا انحراف . وعلى الناس أن يأتوا منها بما في طوقهم بلا حرج ولا مشقة : « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه » . والمنهي عنه لا حرج فيه في حالة الضرورة : { إلا ما اضطررتم إليه } وبين هذه الحدود الواسعة تنحصر جميع التكاليف . . ومن ثم التقت طبيعة الرسول بطبيعة الرسالة ، والتقت حقيقة الداعي بحقيقة الدعوة . في هذه السمة الأصيلة البارزة . وكذلك كانت الأمة التي جاءها الرسول الميسر بالرسالة الميسرة . فهي الأمة الوسط ، وهي الأمة المرحومة الحاملة للرحمة . الميسرة الحاملة لليسر . . تتفق فطرتها هذه مع فطرة هذا الوجود الكبير . .
وهذا الوجود بتناسقه وانسياب حركته يمثل صنعة الله من اليسر والانسياب الذي لا تصادم فيه ولا احتكاك . . ملايين الملايين من الأجرام تسبح في فضاء الله وتنساب في مداراتها متناسقة متجاذبة . لا تصطدم ولا تضطرب ولا تميد . . وملايين من الخلائق الحية تجري بها الحياة إلى غاياتها القريبة والبعيدة في انتظام وفي إحكام .
وكل منها ميسر لما خلق له ، سائر في طريقه إلى غاية . وملايين الملايين من الحركات والأحداث والأحوال تتجمع وتتفرق وهي ماضية في طريقها كنغمات الفرقة العازفة بشتى الآلات ، لتجتمع كلها في لحن واحد طويل مديد
إنه التوافق المطلق بين طبيعة الوجود ، وطبيعة الرسالة ، وطبيعة الرسول ، وطبيعة الأمة المسلمة . . صنعة الله الواحد ، وفطرة المبدع الحكيم .
{ فذكر إن نفعت الذكرى } . .
لقد أقرأه فلا ينسى ( إلا ما شاء الله ) ويسره لليسرى . لينهض بالأمانة الكبرى . . ليذكر . فلهذا أعدّ ، ولهذا بُشر . . فذكر حيثما وجدت فرصة للتذكير ، ومنفذاً للقلوب ، ووسيلة للبلاغ . ذكر { إن نفعت الذكرى } . . والذكرى تنفع دائماً ، ولن تعدم من ينتفع بها كثيراً كان أو قليلاً . ولن يخلو جيل ولن تخلو أرض ممن يستمع وينتفع ، مهما فسد الناس وقست القلوب وران عليها الحجاب . .
وحين نتأمل هذا الترتيب في الآيات ، ندرك عظمة الرسالة ، وضخامة الأمانة ، التي اقتضت للنهوض بها هذا التيسير لليسرى ، وذلك الإقراء والحفظ وتكفل الله بهما؛ كي ينهض الرسول صلى الله عليه وسلم بعبء التذكير ، وهو مزود بهذا الزاد الكبير .
فإذا نهض صلى الله عليه وسلم بهذا العبء فقد أدى ما عليه ، والناس بعد ذلك وشأنهم؛ تختلف مسالكهم وتختلف مصائرهم ، ويفعل الله بهم ما يشاء وفق ما يستجيبون لهذه الذكرى :
{ سيذكر من يخشى ، ويتجنبها الأشقى ، الذى يصلى النار الكبرى ، ثم لا يموت فيها ولا يحيا .

قد أفلح من تزكى ، وذكر اسم ربه فصلى } . .
فذكّر . . وسينتفع بالذكرى { من يخشى } . . ذلك الذي يستشعر قلبه التقوى ، فيخشى غضب الله وعذابه . والقلب الحي يتوجس ويخشى ، مذ يعلم أن للوجود إلهاً خلق فسوى ، وقدر فهدى ، فلن يترك الناس سدى ، ولن يدعهم هملاً؛ وهو لا بد محاسبهم على الخير والشر ، ومجازيهم بالقسط والعدل . ومن ثم فهو يخشى . فإذا ذُكر ذكر ، وإذا بُصر أبصر ، وإذا وعظ اعتبر .
{ ويتجنبها الأشقى } . . يتجنب الذكرى ، فلا يسمع لها ولا يفيد منها . وهو إذن { الأشقى } الأشقى إطلاقاً وإجمالاً . الأشقى الذي تتمثل فيه غاية الشقوة ومنتهاها . الأشقى في الدنيا بروحه الخاوية الميتة الكثيفة الصفيقة ، التي لا تحس حقائق الوجود ، ولا تسمع شهادتها الصادقة ، ولا تتأثر بموحياتها العميقة . والذي يعيش قلقاً متكالباً على ما في الأرض كادحاً لهذا الشأن الصغير والأشقى في الآخرة بعذابها الذي لا يعرف له مدى :
{ الذي يصلى النار الكبرى . ثم لا يموت فيها ولا يحيا } . .
والنار الكبرى هي نار جهنم . الكبرى بشدتها ، والكبرى بمدتها ، والكبرى بضخامتها . . حيث يمتد بقاؤه فيها ويطول . فلا هو يموت فيجد طعم الراحة؛ ولا هو يحيا في أمن وراحة . إنما هو العذاب الخالد ، الذي يتطلع صاحبه إلى الموت كما يتطلع إلى الأمنية الكبرى
وفي الصفحة المقابلة نجد النجاة والفلاح مع التطهر والتذكر :
{ قد أفلح من تزكى . وذكر اسم ربه فصلى } . .
والتزكي : التطهر من كل رجس ودنس ، والله سبحانه يقرر أن هذا الذي تطهر وذكر اسم ربه ، فاستحضر في قلبه جلاله : { فصلى } . . إما بمعنى خشع وقنت . وإما بمعنى الصلاة الاصطلاحي ، فكلاهما يمكن أن ينشأ من التذكر واستحضار جلال الله في القلب ، والشعور بمهابته في الضمير . . هذا الذي تطهر وذكر وصلى { قد أفلح } يقينا . أفلح في دنياه ، فعاش موصولاً ، حي القلب ، شاعراً بحلاوة الذكر وإيناسه . وأفلح في أخراه ، فنجا من النار الكبرى ، وفاز بالنعيم والرضى . .
فأين عاقبة من عاقبة؟ وأين مصير من مصير؟
وفي ظل هذا المشهد . مشهد النار الكبرى للأشقى . والنجاة والفلاح لمن تزكى ، يعود بالمخاطبين إلى علة شقائهم ، ومنشأ غفلتهم ، وما يصرفهم عن التذكر والتطهر والنجاة والفلاح ، ويذهب بهم إلى النار الكبرى والشقوة العظمى :
{ بل تؤثرون الحياة الدنيا . والآخرة خير وأبقى } . .
إن إيثار الحياة الدنيا هو أساس كل بلوى . فعن هذا الإيثار ينشأ الإعراض عن الذكرى؛ لأنها تقتضيهم أن يحسبوا حساب الآخرة ويؤثروها . وهم يريدون الدنيا ، ويؤثرونها . .
وتسميتها { الدنيا } لا تجيء مصادفة . فهي الواطية الهابطة إلى جانب أنها الدانية : العاجلة : { والآخرة خير وأبقى } . . خير في نوعها ، وأبقى في أمدها .
وفي ظل هذه الحقيقة يبدو إيثار الدنيا على الآخرة حماقة وسوء تقدير . لا يقدم عليهما عاقل بصير .

وفي الختام تجيء الإشارة إلى قدم هذه الدعوة ، وعراقة منبتها ، وامتداد جذورها في شعاب الزمن ، وتوحد أصولها من وراء الزمان والمكان :
{ إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى } . .
هذا الذي ورد في هذه السورة وهو يتضمن أصول العقيدة الكبرى . هذا الحق الأصيل العريق . هو الذي في الصحف الأولى . صحف إبراهيم وموسى .
ووحدة الحق ، ووحدة العقيدة ، هي الأمر الذي تقتضيه وحدة الجهة التي صدر عنها . ووحدة المشيئة التي اقتضت بعثة الرسل إلى البشر . . إنه حق واحد ، يرجع إلى أصل واحد . تختلف جزئياته وتفصيلاته باختلاف الحاجات المتجددة ، والأطوار المتعاقبة . ولكنها تلتقي عند ذلك الأصل الواحد . الصادر من مصدر واحد . . من ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى . .

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)

هذه السورة واحدة من الإيقاعات العميقة الهادئة . الباعثة إلى التأمل والتدبر ، وإلى الرجاء والتطلع ، وإلى المخافة والتوجس ، وإلى عمل الحساب ليوم الحساب
وهي تطوّف بالقلب البشري في مجالين هائلين : مجال الآخرة وعالمها الواسع ، ومشاهدها المؤثرة . ومجال الوجود العريض المكشوف للنظر ، وآيات الله المبثوثة في خلائقه المعروضة للجميع . ثم تذكرهم بعد هاتين الجولتين بحساب الآخرة ، وسيطرة الله ، وحتمية الرجوع إليه في نهاية المطاف . . كل ذلك في أسلوب عميق الإيقاع ، هادئ ، ولكنه نافذ . رصين ولكنه رهيب
{ هل أتاك حديث الغاشية؟ } . .
بهذا المطلع تبدأ السورة التي تريد لترد القلوب إلى الله ، ولتذكرهم بآياته في الوجود ، وحسابه في الآخرة وجزائه الأكيد . وبهذا الاستفهام الموحي بالعظمة الدال على التقرير؛ الذي يشير في الوقت ذاته إلى أن أمر الآخرة مما سبق به التقرير والتذكير . وتسمى القيامة هذا الاسم الجديد : { الغاشية } . . أي الداهية التي تغشى الناس وتغمرهم بأهوالها . وهو من الأسماء الجديدة الموحية التي وردت في هذا الجزء . . الطامة . . الصاخة . . الغاشية . . القارعة . . مما يناسب طبيعة هذا الجزء المعهودة .
وهذا الخطاب : { هل أتاك . . ؟ } كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحس وقع توجيهه إلى شخصه ، حيثما سمع هذه السورة ، وكأنما يتلقاه أول مرة مباشرة من ربه ، لشدة حساسية قلبه بخطاب الله سبحانه واستحضاره لحقيقة الخطاب ، وشعوره بأنه صادر إليه بلا وسيط حيثما سمعته أذناه . . قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو بكر بن عباس ، عن أبي إسحاق ، عن عمر ابن ميمون ، قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ : { هل أتاك حديث الغاشية؟ } فقام يستمع ويقول : « نعم قد جاءني » .
والخطاب مع ذلك عام لكل من يسمع هذا القرآن . فحديث الغاشية هو حديث هذا القرآن المتكرر . يذكر به وينذر ويبشر؛ ويستجيش به في الضمائر الحساسية والخشية والتقوى والتوجس؛ كما يثير به الرجاء والارتقاب والتطلع . ومن ثم يستحيي هذه الضمائر فلا تموت ولا تغفل .
{ هل أتاك حديث الغاشية؟ } . . ثم يعرض شيئاً من حديث الغاشية :
{ وجوه يومئذ خاشعة . عاملة ناصبة . تصلى ناراً حامية . تسقى من عين آنية . ليس لهم طعام إلا من ضريع . لا يسمن ولا يغني من جوع } . .
إنه يعجل بمشهد العذاب قبل مشهد النعيم؛ فهو أقرب إلى جو { الغاشية } وظلها . . فهناك : يومئذ وجوه خاشعة ذليلة متعبة مرهقة؛ عملت ونصبت فلم تحمد العمل ولم ترض العاقبة ، ولم تجد إلا الوبال والخسارة ، فزادت مضضاً وإرهاقاً وتعباً ، فهي : { عاملة ناصبة } . . عملت لغير الله ، ونصبت في غير سبيله . عملت لنفسها ولأولادها . وتعبت لدنياها ولأطماعها . ثم وجدت عاقبة العمل والكد . وجدته في الدنيا شقوة لغير زاد .

ووجدته في الآخرة سواداً يؤدي إلى العذاب . وهي تواجه النهاية مواجهة الذليل المرهق المتعوس الخائب الرجاء
ومع هذا الذل والرهق العذاب والألم : { تصلى ناراً حامية } وتذوقها وتعانيها .
{ تسقى من عين آنية } . . حارة بالغة الحرارة . . { ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع } . . والضريع قيل : شجر من نار في جهنم . استناداً إلى ما ورد عن شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم . وقيل : نوع من الشوك اللاطئ بالأرض ، ترعاه الإبل وهو أخضر ، ويسمى « الشبرق » فإذا جني صار اسمه « الضريع » ولم تستطع الإبل مذاقه فهو عندئذ سام فهذا أو ذاك هو لون من ألوان الطعام مع الغسلين والغساق وباقي هذه الألوان التي لا تسمن ولا تغني من جوع
وواضح أننا لا نملك في الدنيا أن ندرك طبيعة هذا العذاب في الآخرة . إنما تجيء هذه الأوصاف لتلمس في حسنا البشري أقصى ما يملك تصوره من الألم ، الذي يتجمع من الذل والوهن والخيبة ومن لسع النار الحامية ، ومن التبرد والارتواء بالماء الشديد الحرارة والتغذي بالطعام الذي لا تقوى الإبل على تذوقه ، وهو شوك لا نفع فيه ولا غناء . . من مجموعة هذه التصورات يتجمع في حسنا إدراك لأقصى درجات الألم . وعذاب الآخرة بعد ذلك أشد . وطبيعته لا يتذوقها إلا من يذوقها والعياذ بالله
وعلى الجانب الآخر : { وجوه يومئذ ناعمة . لسعيها راضية : في جنة عالية . لا تسمع فيها لاغية . فيها عين جارية . فيها سرر مرفوعة . وأكواب موضوعة . ونمارق مصفوفة . وزرابي مبثوثة } . .
فهنا وجوه يبدو فيها النعيم . ويفيض منها الرضى . وجوه تنعم بما تجد ، وتحمد ما عملت . فوجدت عقباه خيراً ، وتستمتع بهذا الشعور الروحي الرفيع . شعور الرضى عن عملها حين ترى رضى الله عنها . وليس أروح للقلب من أن يطمئن إلى الخير ويرضى عاقبته ، ثم يراها ممثلة في رضى الله الكريم . وفي النعيم . ومن ثم يقدم القرآن هذا اللون من السعادة على ما في الجنة من رخاء ومتاع ، ثم يصف الجنة ومناعمها المتاحة لهؤلاء السعداء :
{ في جنة عالية } . . عالية في ذاتها رفيعة مجيدة . ثم هي عالية الدرجات . وعالية المقامات . وللعلو في الحس إيقاع خاص .
{ لا تسمع فيها لاغية } . . ويطلق هذا التعبير جواً من السكون والهدوء والسلام والاطمئنان والود والرضى والنجاء والسمر بين الأحباء والأوداء ، والتنزه والارتفاع عن كل كلمة لاغية ، لا خير فيها ولا عافية . . وهذه وحدها نعيم . وهذه وحدها سعادة . سعادة تتبين حين يستحضر الحس هذه الحياة الدنيا ، وما فيها من لغو وجدل وصراع وزحام ولجاج وخصام وقرقعة وفرقعة . وضجة وصخب ، وهرج ومرج . ثم يستسلم بعد ذلك لتصور الهدوء والأمن والسلام الساكن والود الرضي والظل الندي في العبارة الموحية : { لا تسمع فيها لاغية } وألفاظها ذاتها تنسم الروح والندى وتنزلق في نعومة ويسر ، وفي إيقاع موسيقي ندي رخي وتوحي هذه اللمسة بأن حياة المؤمنين في الأرض وهم ينأون عن الجدل واللغو ، هي طرف من حياة الجنة ، يتهيأون بها لذلك النعيم الكريم .

وهكذا يقدم الله من صفة الجنة هذا المعنى الرفيع الكريم الوضيء . ثم تجيء المناعم التي تشبع الحس والحواس . تجيء في الصورة التي يملك البشر تصورها . وهي في الجنة مكيفة وفق ما ترتقي إليه نفوس أهل الجنة . مما لا يعرفه إلا من يذوقه
{ فيها عين جارية } . . والعين الجارية : الينبوع المتدفق . وهو يجمع إلى الري الجمال . جمال الحركة والتدفق والجريان . والماء الجاري يجاوب الحس بالحيوية وبالروح التي تنتفض وتنبض وهو متعة للنظر والنفس من هذا الجانب الخفي ، الذي يتسرب إلى أعماق الحس .
{ فيها سرر مرفوعة } . . والارتفاع يوحي بالنظافة كما يوحي بالطهارة . . { وأكواب موضوعة } . . مصفوفة مهيأة للشراب لا تحتاج إلى طلب ولا إعداد { ونمارق مصفوفة } . . والنمارق الوسائد والحشايا للاتكاء في ارتياح { وزرابي مبثوثة } . . والزرابي البسط ذات الخمل « السجاجيد » مبثوثة هنا وهناك للزينة وللراحة سواء
وكلها مناعم مما يشهد الناس له أشباها في الأرض . وتذكر هذه الأشياء لتقريبها إلى مدارك أهل الأرض . أما طبيعتها وطبيعة المتاع بها فهي موكولة إلى المذاق هناك . للسعداء الذين يقسم الله لهم هذا المذاق
ومن اللغو الدخول في موازنات أو تحقيقات حول طبيعة النعيم أو طبيعة العذاب في الآخرة . فإدراك طبيعة شيء ما متوقف على نوع هذا الإدراك . وأهل الأرض يدركون بحس مقيد بظروف هذه الأرض وطبيعة الحياة فيها . فإذا كانوا هناك رفعت الحجب وأزيلت الحواجز وانطلقت الأرواح والمدارك ، وتغيرت مدلولات الألفاظ ذاتها بحكم تغير مذاقها ، وكان ما سيكون ، مما لا نملك أن ندرك الآن كيف يكون
إنما نفيد من هذه الأوصاف أن يستحضر أقصى ما يطيقه من صور اللذاذة والحلاوة والمتاع . وهو ما نملك تذوقه ما دمنا هنا . حتى نعرف حقيقته هناك . حين يكرمنا الله بفضله ورضاه .
وتنتهي هذه الجولة في العالم الآخر ، فيؤوب منها إلى هذا الوجود الظاهر . الحاضر . الموحي بقدرة القادر وتدبير المدبر ، وتميز الصنعة ، وتفرد الطابع . الدال على أن وراء التدبير والتقدير أمراً بعد هذه الحياة ، وشأناً غير شأن الأرض . وخاتمة غير خاتمة الموت :
{ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت ، وإلى الجبال كيف نصبت ، وإلى الأرض كيف سطحت؟ } . .
وتجمع هذه الآيات الأربعة القصار ، أطراف بيئة العربي المخاطب بهذا القرآن أول مرة . كما تضم أطراف الخلائق البارزة في الكون كله . حين تتضمن السماء والأرض والجبال والجمال ( ممثلة لسائر الحيوان ) على مزية خاصة بالإبل في خلقها بصفة عامة وفي قيمتها للعربي بصفة خاصة .
إن هذه المشاهد معروضة لنظر الإنسان حيثما كان . . السماء والأرض والجبال والحيوان .

. وأياً كان حظ الإنسان من العلم والحضارة فهذه المشاهد داخلة في عالمه وإدراكه . موحية له بما وراءها حين يوجه نظره وقلبه إلى دلالتها .
والمعجزة كامنة في كل منها . وصنعة الخالق فيها معلمة لا نظير لها . وهي وحدها كافية لأن توحي بحقيقة العقيدة الأولى . ومن ثم يوجه القرآن الناس كافة إليها :
{ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟ } . . والإبل حيوان العربي الأول . عليها يسافر ويحمل . ومنها يشرب ويأكل . ومن أوبارها وجلودها يلبس وينزل . فهي مورده الأول للحياة . ثم إن لها خصائص تفردها من بين الحيوان . فهي على قوتها وضخامتها وضلاعة تكوينها ذلول يقودها الصغير فتنقاد ، وهي على عظم نفعها وخدمتها قليلة التكاليف . مرعاها ميسر ، وكلفتها ضئيلة ، وهي أصبر الحيوان المستأنس على الجوع والعطش والكدح وسوء الأحوال . . ثم إن لهيئتها مزية في تناسق المشهد الطبيعي المعروض كما سيجيء . .
لهذا كله يوجه القرآن أنظار المخاطبين إلى تدبر خلق الإبل؛ وهي بين أيديهم ، لا تحتاج منهم إلى نقلة ولا علم جديد . . { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟ } . . أفلا ينظرون إلى خلقتها وتكوينها؟ ثم يتدبرون : كيف خلقت على هذا النحو المناسب لوظيفتها ، المحقق لغاية خلقها ، المتناسق مع بيئتها ووظيفتها جميعاً إنهم لم يخلقوها . وهي لم تخلق نفسها ، فلا يبقى إلا أن تكون من إبداع المبدع المتفرد بصنعته ، التي تدل عليه ، وتقطع بوجوده؛ كما تشي بتدبيره وتقديره .
{ وإلى السماء كيف رفعت؟ } . . وتوجيه القلب إلى السماء يتكرر في القرآن . وأولى الناس بأن يتوجهوا إلى السماء هم سكان الصحراء . حيث للسماء طعم ومذاق ، وإيقاع وإيحاء ، كأنما ليست السماء إلا هناك في الصحراء
السماء بنهارها الواضح الباهر الجاهر . والسماء بأصيلها الفاتن الرائق الساحر . والسماء بغروبها البديع الفريد الموحي . والسماء بليلها المترامي ونجومها المتلألئة وحديثها الفاتر . والسماء بشروقها الجميل الحي السافر .
هذه السماء . في الصحراء . . أفلا ينظرون إليها؟ أفلا ينظرون إليها كيف رفعت؟ من ذا رفعها بلا عمد؟ ونثر فيها النجوم بلا عدد؟ وجعل فيها هذه البهجة وهذا الجمال وهذا الإيحاء؟ إنهم لم يرفعوها وهي لم ترفع نفسها . فلا بد لها من رافع ولا بد لها من مبدع . لا يحتاج الأمر إلى علم ولا إلى كد ذهن . فالنظرة الواعية وحدها تكفي . .
{ وإلى الجبال كيف نصبت؟ } . . والجبال عند العربي بصفة خاصة ملجأ وملاذ ، وأنيس وصاحب ، ومشهدها يوحي إلى النفس الإنسانية بصفة عامة جلالاً واستهوالاً . حيث يتضاءل الإنسان إلى جوارها ويستكين ، ويخشع للجلال السامق الرزين . والنفس في أحضان الجبل تتجه بطبيعتها إلى الله؛ وتشعر أنها إليه أقرب ، وتبعد عن واغش الأرض وضجيجها وحقاراتها الصغيرة . ولم يكن عبثاً ولا مصادفة أن يتحنث محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء في جبل ثور . وأن يتجه إلى الجبل من يريدون النجوة بأرواحهم فترات من الزمان
والجبال هنا { كيف نصبت } لأن هذه اللمحة تتفق من الناحية التصويرية مع طبيعة المشهد كما سيجيء .

{ وإلى الأرض كيف سطحت؟ } . . والأرض مسطوحة أمام النظر ، ممهدة للحياة والسير والعمل ، والناس لم يسطحوها كذلك . فقد سحطت قبل أن يكونوا هم . . أفلا ينظرون إليها ويتدبرون ما وراءها ، ويسألون : من سطحها ومهدها هكذا للحياة تمهيداً؟
إن هذه المشاهد لتوحي إلى القلب شيئاً . بمجرد النظر الواعي والتأمل الصاحي . وهذا القدر يكفي لاستجاشة الوجدان واستحياء القلب . وتحرك الروح نحو الخالق المبدع لهذه الخلائق .
ونقف وقفة قصيرة أمام جمال التناسق التصويري لمجموعة المشهد الكوني لنرى كيف يخاطب القرآن الوجدان الديني بلغة الجمال الفني ، وكيف يعتنقان في حس المؤمن الشاعر بجمال الوجود . .
إن المشهد الكلي يضم مشهد السماء المرفوعة والأرض المبسوطة . وفي هذا المدى المتطاول تبرز الجبال { منصوبة } السنان لا راسية ولا ملقاة ، وتبرز الجمال منصوبة السنام . . خطان أفقيان وخطان رأسيان في المشهد الهائل في المساحة الشاسعة . ولكنها لوحة متناسقة الأبعاد والاتجاهات على طريقة القرآن في عرض المشاهد ، وفي التعبير بالتصوير على وجه الإجمال .
والآن بعد الجولة الأولى في عالم الآخرة ، والجولة الثانية في مشاهد الكون المعروضة ، يلتفت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يوجهه إلى حدود واجبه وطبيعة وظيفته ، ويلمس قلوبهم اللمسة الأخيرة الموقظة :
{ فذكر إنما أنت مذكر . لست عليهم بمسيطر . إلا من تولى وكفر . فيعذبه الله العذاب الأكبر . إن إلينا إيابهم . ثم إن علينا حسابهم } . .
فذكر بهذا وذاك . ذكرهم بالآخرة وما فيها . وذكرهم بالكون وما فيه . إنما أنت مذكر . هذه وظيفتك على وجه التحديد . وهذا دورك في هذه الدعوة ، ليس لك ولا عليك شيء وراءه . عليك أن تذكر . فإنك ميسر لهذا ومكلف إياه .
{ لست عليهم بمسيطر } . . فأنت لا تملك من أمر قلوبهم شيئاً . حتى تقهرها وتقسرها على الإيمان . فالقلوب بين أصابع الرحمن ، لا يقدر عليها إنسان .
فأما الجهاد الذي كتب بعد ذلك فلم يكن لحمل الناس على الإيمان . إنما كان لإزالة العقبات من وجه الدعوة لتبلغ إلى الناس . فلا يمنعوا من سماعها . ولا يفتنوا عن دينهم إذا سمعوها . كان لإزالة العقبات من طريق التذكير . الدور الوحيد الذي يملكه الرسول .
وهذا الإيحاء بأن ليس للرسول من أمر هذه الدعوة شيء إلا التذكير والبلاغ يتكرر في القرآن لأسباب شتى . في أولها إعفاء أعصاب الرسول من حمل هم الدعوة بعد البلاغ ، وتركها لقدر الله يفعل بها ما يشاء . فإلحاح الرغبة البشرية بانتصار دعوة الخير وتناول الناس لهذا الخير ، إلحاح عنيف جداً يحتاج إلى هذا الإيحاء المتكرر بإخراج الداعية لنفسه ولرغائبه هذه من مجال الدعوة ، كي ينطلق إلى أدائها كائنة ما كانت الاستجابة ، وكائنة ما كانت العاقبة . فلا يعني نفسه بهمّ من آمن وهمّ من كفر .

ولا يشغل باله بهذا الهم الثقيل حين تسوء الأحوال من حول الدعوة ، وتقل الاستجابة ، ويكثر المعرضون والمخاصمون .
ومما يدل على إلحاح الرغبة البشرية في انتصار دعوة الله وتذوق الناس لما فيها من خير ورحمة ، هذه التوجيهات المتكررة للرسول صلى الله عليه وسلم وهو من هو تأدباً بأدب الله ومعرفة لحدوده ولقدر الله . . ومن ثم اقتضى إلحاح هذه الرغبة هذا العلاج الطويل المتكرر في شتى الأحيان . .
ولكن إذا كان هذا هو حد الرسول ، فإن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد . ولا يذهب المكذبون ناجين ، ولا يتولون سالمين . إن هنالك الله وإليه تصير الأمور :
{ إلا من تولى وكفر . فيعذبه الله العذاب الأكبر } . .
وهم راجعون إلى الله وحده قطعاً ، وهو مجازيهم وحده حتماً . وهذا هو الإيقاع الختامي في السورة في صيغة الجزم والتوكيد .
{ إن إلينا إيابهم . ثم إن علينا حسابهم } . .
بهذا يتحدد دور الرسول في هذه الدعوة . ودور كل داعية إليها بعده . . إنما أنت مذكر وحسابهم بعد ذلك على الله . ولا مفر لهم من العودة إليه ، ولا محيد لهم من حسابه وجزائه . غير أنه ينبغي أن نفهم أن من التذكير إزالة العقبات من وجه الدعوة لتبلغ إلى الناس وليتم التذكير . فهذه وظيفة الجهاد كما تفهم من القرآن ومن سيرة الرسول سواء ، بلا تقصير فيها ولا اعتداء . .

وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)

هذه السورة في عمومها حلقة من حلقات هذا الجزء في الهتاف بالقلب البشري إلى الإيمان والتقوى واليقظة والتدبر . . ولكنها تتضمن ألواناً شتى من الجولات والإيقاعات والظلال . ألواناً متنوعة تؤلف من تفرقها وتناسقها لحناً واحداً متعدد النغمات موحد الإيقاع
في بعض مشاهدها جمال هادئ رفيق ندي السمات والإيقاعات ، كهذا المطلع الندي بمشاهده الكونية الرقيقة ، وبظل العبادة والصلاة في ثنايا تلك المشاهد . . { الفجر . وليال عشر . والشفع والوتر . والليل إذا يسر . . } .
وفي بعض مشاهدها شد وقصف . سواء مناظرها أو موسيقاها كهذا المشهد العنيف المخيف : { كلا . إذا دكت الأرض دكاً دكاً . وجاء ربك والملك صفاً صفاً . وجيء يومئذ بجهنم . يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى . يقول : يا ليتني قدمت لحياتي . فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد } . . وفي بعض مشاهدها نداوة ورقة ورضى يفيض وطمأنينة . تتناسق فيها المناظر والأنغام ، كهذا الختام : { يا أيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية . فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } . .
وفيها إشارات سريعة لمصارع الغابرين المتجبرين ، وإيقاعها بين بين . بين إيقاع القصص الرخي وإيقاع المصرع القوي : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد . إرم ذات العماد . التي لم يخلق مثلها في البلاد . وثمود الذين جابوا الصخر بالواد . وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد . فصب عليهم ربك سوط عذاب . إن ربك لبالمرصاد } .
وفيها بيان لتصورات الإنسان غير الإيمانية وقيمه غير الإيمانية . وهي ذات لون خاص في السورة تعبيراً وإيقاعاً : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول : ربي أكرمن . وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول : ربي أهانن . . } .
ثم الرد على هذه التصورات ببيان حقيقة حالهم التي تنبع منها هذه التصورات . وهي تشمل لونين من ألوان العبارة والتنغيم : { كلا . بل لا تكرمون اليتم . ولا تحاضون على طعام المسكين . وتأكلون التراث أكلاً لما ، وتحبون المال حباً جماً } . .
ويلاحظ أَن هذا اللون الأخير هو قنطرة بين تقرير حالهم وما ينتظرهم في مآلهم . فقد جاء بعده : { كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً . . . الخ } . . فهو وسط في شدة التنغيم بين التقرير الأول والتهديد الأخير
ومن هذا الاستعراض السريع تبدو الألوان المتعددة في مشاهد السورة . وإيقاعاتها في تعبيرها وفي تنغيمها . . كما يبدو تعدد نظام الفواصل وتغير حروف القوافي . بحسب تنوع المعاني والمشاهد . فالسورة من هذا الجانب نموذج واف لهذا الأفق من التناسق الجمالي في التعبير القرآني . فوق ما فيها عموماً من جمال ملحوظ مأنوس
فأما أغراض السورة الموضوعية التي يحملها هذا التعبير المتناسق الجميل . فنعرضها فيما يلي بالتفصيل :
{ والفجر وليال عشر . والشفع والوتر . والليل إذا يسر . هل في ذلك قسم لذي حجر؟ } .

.
هذا القسم في مطلع السورة يضم هذه المشاهد والخلائق . ذات الأرواح اللطيفة المأنوسة الشفيفة : { والفجر } . . ساعة تنفس الحياة في يسر ، وفرح ، وابتسام ، وإيناس ودود ندي ، والوجود الغافي يستيقظ رويداً رويداً ، وكأن أنفاسه مناجاة ، وكأن تفتحه ابتهال
{ وليال عشر } أطلقها النص القرآني ووردت فيها روايات شتى . . قيل هي العشر من ذي الحجة ، وقيل هي العشر من المحرم . وقيل هي العشر من رمضان . . وإطلاقها هكذا أوقع وأندى . فهي ليال عشر يعلمها الله . ولها عنده شأن . تلقي في السياق ظل الليلات ذات الشخصية الخاصة . وكأنها خلائق حية معينة ذوات أرواح ، تعاطفنا ونعاطفها من خلال التعبير القرآني الرفاف
{ والشفع والوتر } . . يطلقان روح الصلاة والعبادة في ذلك الجو المأنوس الحبيب . جو الفجر والليالي العشر . . « ومن الصلاة الشفع والوتر » ( كما جاء في حديث أخرجه الترمذي ) وهذا المعنى هو أنسب المعاني في هذا الجو . حيث تلتقي روح العبادة الخاشعة ، بروح الوجود الساجية وحيث تتجاوب الأرواح العابدة مع أرواح الليالي المختارة ، وروح الفجر الوضيئة .
{ والليل إذا يسر } . . والليل هنا مخلوق حي ، يسري في الكون ، وكأنه ساهر يجول في الظلام أو مسافر يختار السرى لرحلته البعيدة يا لأناقة التعبير ويا لأنس المشهد ويا لجمال النغم ويا للتناسق مع الفجر ، والليالي العشر . والشفع والوتر
إنها ليست ألفاظاً وعبارات . إنما هي أنسام من أنسام الفجر ، وأنداء مشعشعة بالعطر أم إنه النجاء الأليف للقلب؟ والهمس اللطيف للروح؟ واللمس الموحي للضمير؟
إنه الجمال . . الجمال الحبيب الهامس اللطيف . الجمال الذي لا يدانيه جمال التصورات الشاعرية الطليقة . لأنه الجمال الإبداعي ، المعبر في الوقت ذاته عن حقيقة .
ومن ثم يعقب عليه في النهاية : { هل في ذلك قسم لذي حجر } ؟ وهو سؤال للتقرير . إن في ذلك قسماً لذي لب وعقل . إن في ذلك مقنعاً لمن له إدراك وفكر . ولكن صيغة الاستفهام مع إفادتها التقرير أرق حاشية . فهي تتناسق مع ذلك الجو الهامس الرقيق
أما المقسم عليه بذلك القسم ، فقد طواه السياق ، ليفسره ما بعده ، فهو موضوع الطغيان والفساد ، وأخذ ربك لأهل الطغيان والفساد ، فهو حق واقع يقسم عليه بذلك القسم في تلميح يناسب لمسات السورة الخفيفة على وجه الإجمال :
{ ألم تر كيف فعل ربك بعاد ، إرم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد؟ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد؟ وفرعون ذى الأوتاد؟ . . الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد ، فصب عليهم ربك سوط عذاب؟ إن ربك لبالمرصاد } . .
وصيغة الاستفهام في مثل هذا السياق أشد إثارة لليقظة والالتفات . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ابتداء . ثم هو لكل من تتأتى منه الرؤية أو التبصر في مصارع أولئك الأقوام ، وكلها مما كان المخاطبون بالقرآن أول مرة يعرفونه؛ ومما تشهد به الآثار والقصص الباقية في الأجيال المتعاقبة ، وإضافة الفعل إلى { ربك } فيها للمؤمن طمأنينة وأنس وراحة .

وبخاصة أولئك الذين كانوا في مكة يعانون طغيان الطغاة ، وعسف الجبارين من المشركين ، الواقفين للدعوة وأهلها بالمرصاد .
وقد جمع الله في هذه الآيات القصار مصارع أقوى الجبارين الذين عرفهم التاريخ القديم . . مصرع : « عاد إرم » وهي عاد الأولى . وقيل : إنها من العرب العاربة أو البادية . وكان مسكنهم بالأحقاف وهي كثبان الرمال . في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن . وكانوا بدواً ذوي خيام تقوم على عماد . وقد وصفوا في القرآن بالقوة والبطش ، فقد كانت قبيلة عاد هي أقوى قبيلة في وقتها وأميزها : { التي لم يخلق مثلها في البلاد } في ذلك الأوان . .
{ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد } . . وكانت ثمود تسكن بالحجر في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام . وقد قطعت الصخر وشيدته قصوراً؛ كما نحتت في الجبال ملاجئ ومغارات . .
{ وفرعون ذي الأوتاد } . . وهي على الأرجح الأهرامات التي تشبه الأوتاد الثابتة في الأرض المتينة البنيان . وفرعون المشار إليه هنا هو فرعون موسى الطاغية الجبار .
هؤلاء هم { الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد } . . وليس وراء الطغيان إلا الفساد . فالطغيان يفسد الطاغية ، ويفسد الذين يقع عليهم الطغيان سواء . كما يفسد العلاقات والارتباطات في كل جوانب الحياة . ويحول الحياة عن خطها السليم النظيف ، المعمر الباني ، إلى خط آخر لا تستقيم معه خلافة الإنسان في الأرض بحال . .
إنه يجعل الطاغية أسير هواه ، لأنه لا يفيء إلى ميزان ثابت ، ولا يقف عند حد ظاهر ، فيفسد هو أول من يفسد؛ ويتخذ له مكاناً في الأرض غير مكان العبد المستخلف؛ وكذلك قال فرعون . . { أنا ربكم الأعلى } عندما أفسده طغيانه ، فتجاوز به مكان العبد المخلوق ، وتطاول به إلى هذا الادعاء المقبوح ، وهو فساد أي فساد .
ثم هو يجعل الجماهير أرقاء أذلاء ، مع السخط الدفين والحقد الكظيم ، فتتعطل فيهم مشاعر الكرامة الإنسانية ، وملكات الابتكار المتحررة التي لا تنمو في غير جو الحرية . والنفس التي تستذل تأسن وتتعفن ، وتصبح مرتعاً لديدان الشهوات الهابطة والغرائز المريضة . وميداناً للانحرافات مع انطماس البصيرة والإدراك . وفقدان الأريحية والهمة والتطلع والارتفاع ، وهو فساد أي فساد . .
ثم هو يحطم الموازين والقيم والتصورات المستقيمة ، لأنها خطر على الطغاة والطغيان . فلا بد من تزييف للقيم ، وتزوير في الموازين ، وتحريف للتصورات كي تقبل صورة البغي البشعة ، وتراها مقبولة مستساغة . . وهو فساد أي فساد .
فلما أكثروا في الأرض الفساد ، كان العلاج هو تطهير وجه الأرض من الفساد :
{ فصب عليهم ربك سوط عذاب . إن ربك لبالمرصاد } . .
فربك راصد لهم ومسجل لأعمالهم . فلما أن كثر الفساد وزاد صب عليهم سوط عذاب ، وهو تعبير يوحي بلذع العذاب حين يذكر السوط ، وبفيضه وغمره حين يذكر الصب . حيث يجتمع الألم اللاذع والغمرة الطاغية ، على الطغاة الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد .

ومن وراء المصارع كلها تفيض الطمأنينة على القلب المؤمن وهو يواجه الطغيان في أي زمان وأي مكان . ومن قوله تعالى : { إن ربك لبالمرصاد } تفيض طمأنينة خاصة . فربك هناك . راصد لا يفوته شيء . مراقب لا يند عنه شيء . فليطمئن بال المؤمن ، ولينم ملء جفونه . فإن ربه هناك . . بالمرصاد . . للطغيان والشر والفساد
وهكذا نرى هنا نماذج من قدر الله في أمر الدعوة ، غير النموذج الذي تعرضه سورة البروج لأصحاب الأخدود . وقد كان القرآن ولا يزال يربي المؤمنين بهذا النموذج وذاك . وفق الحالات والملابسات . ويعد نفوس المؤمنين لهذا وذاك على السواء . لتطمئن على الحالين . وتتوقع الأمرين ، وتكل كل شيء لقدر الله يجريه كما يشاء .
{ إن ربك لبالمرصاد } . . يرى ويحسب ويحاسب ويجازي ، وفق ميزان دقيق لا يخطئ ولا يظلم ولا يأخذ بظواهر الأمور لكن بحقائق الأشياء . . فأما الإنسان فتخطئ موازينه وتضل تقديراته ، ولا يرى إلا الظواهر ، ما لم يتصل بميزان الله :
{ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه ، فيقول : ربي أكرمن . وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول : ربي أهانن } . .
فهذا هو تصور الإنسان لما يبتليه الله به من أحوال ، ومن بسط وقبض ، ومن توسعة وتقدير . . يبتليه بالنعمة والإكرام . بالمال أو المقام . فلا يدرك أنه الابتلاء ، تمهيداً للجزاء . إنما يحسب هذا الرزق وهذه المكانة دليلاً على استحقاقه عند الله للأكرام ، وعلامة على اصطفاء الله له واختياره . فيعتبر البلاء جزاء والامتحان نتيجة ويقيس الكرامة عند الله بعرض هذه الحياة ويبتليه بالتضييق عليه في الرزق ، فيحسب الابتلاء جزاء كذلك ، ويحسب الاختبار عقوبة ، ويرى في ضيق الرزق مهانة عند الله ، فلو لم يرد مهانته ما ضيق عليه رزقه . .
وهو في كلتا الحالتين مخطئ في التصور ومخطئ في التقدير . فبسط الرزق أو قبضه ابتلاء من الله لعبده . ليظهر منه الشكر على النعمة أو البطر . ويظهر منه الصبر على المحنة او الضجر . والجزاء على ما يظهر منه بعد . وليس ما أعطي من عرض الدنيا أو منع هو الجزاء . . وقيمة العبد عند الله لا تتعلق بما عنده من عرض الدنيا . ورضى الله أو سخطه لا يستدل عليه بالمنح والمنع في هذه الأرض . فهو يعطي الصالح والطالح ، ويمنع الصالح والطالح . ولكن ما وراء هذا وذلك هو الذي عليه المعول . إنه يعطي ليبتلي ويمنع ليبتلي . والمعول عليه هو نتيجة الابتلاء
غير أن الإنسان حين يخلو قلبه من الإيمان لا يدرك حكمة المنع والعطاء . ولا حقيقة القيم في ميزان الله . . فإذا عمر قلبه بالإيمان اتصل وعرف ما هنالك . وخفت في ميزانه الأعراض الزهيدة ، وتيقظ لما وراء الابتلاء من الجزاء ، فعمل له في البسط والقبض سواء . واطمأن إلى قدر الله به في الحالين؛ وعرف قدره في ميزان الله بغير هذه القيم الظاهرة الجوفاء
وقد كان القرآن يخاطب في مكة أناساً يوجد أمثالهم في كل جاهلية تفقد اتصالها بعالم أرفع من الأرض وأوسع أناساً ذلك ظنهم بربهم في البسط والقبض .

وذلك تقديرهم لقيم الناس في الأرض . ذلك أن المال والجاه عندهم كل شيء . وليس وراءهما مقياس ومن ثم كان تكالبهم على المال عظيماً ، وحبهم له حباً طاغياً ، مما يورثهم شراهة وطمعاً . كما يورثهم حرصاً وشحاً . . ومن ثم يكشف لهم عن ذوات صدورهم في هذا المجال ، ويقرر أن هذا الشره والشح هما علة خطئهم في إدراك معنى الابتلاء من وراء البسط والقبض في الأرزاق .
{ كلا . بل لا تكرمون اليتيم ، ولا تحاضون على طعام المسكين . وتأكلون التراث أكلاً لما ، وتحبون المال حباً جما } . .
كلا ليس الأمر كما يقول الإنسان الخاوي من الإيمان . ليس بسط الرزق دليلاً على الكرامة عند الله . وليس تضييق الرزق دليلاً على المهانة والإهمال . إنما الأمر أنكم لا تنهضون بحق العطاء ، ولا توفون بحق المال . فأنتم لا تكرمون اليتيم الصغير الذي فقد حاميه وكافله حين فقد أباه ، ولا تتحاضون فيما بينكم على إطعام المسكين . الساكن الذي لا يتعرض للسؤال وهو محتاج وقد اعتبر عدم التحاض والتواصي على إطعام المسكين قبيحاً مستنكراً . كما يوحي بضرورة التكافل في الجماعة في التوجيه إلى الواجب وإلى الخير العام . وهذه سمة الإسلام .
. . إنكم لا تدركون معنى الابتلاء . فلا تحاولون النجاح فيه ، بإكرام اليتيم والتواصي على إطعام المسكين ، بل أنتم على العكس تأكلون الميراث أكلاً شرهاً جشعاً؛ وتحبون المال حباً كثيراً طاغياً ، لا يستبقي في نفوسكم أريحية ولا مكرمة مع المحتاجين إلى الإكرام والطعام .
وقد كان الإسلام يواجه في مكة كما ذكرنا من قبل حالة من التكالب على جمع المال بكافة الطرق ، تورث القلوب كزازة وقساوة . وكان ضعف اليتامى مغرياً بانتهاب أموالهم وبخاصة الإناث منهم في صور شتى؛ وبخاصة ما يتعلق بالميراث ( كما سبق بيانه في مواضع متعددة في الظلال ) كما كان حب المال وجمعه بالربا وغيره ظاهرة بارزة في المجتمع المكي قبل الإسلام . وهي سمة الجاهليات في كل زمان ومكان حتى الآن
وفي هذه الآيات فوق الكشف عن واقع نفوسهم ، تنديد بهذا الواقع ، وردع عنه ، يتمثل في تكرار كلمة { كلا } كما يتمثل في بناء التعبير وإيقاعه ، وهو يرسم بجرسه شدة التكالب وعنفه :
{ وتأكلون التراث أكلاً لما . وتحبون المال حباً جما } . .
وعند هذا الحد من فضح حقيقة حالهم المنكرة ، بعد تصوير خطأ تصورهم في الابتلاء بالمنع والعطاء . يجيء التهديد الرعيب بيوم الجزاء وحقيقته ، بعد الابتلاء ونتيجته ، في إيقاع شديد :
{ كلا . إذا دكت الأرض دكاً دكا . وجآء ربك والملك صفاً صفا . وجيء يومئذ بجهنم .

يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى؟ يقول : يا ليتني قدمت لحياتي . فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد } . .
ودك الأرض ، تحطيم معالمها وتسويتها؛ وهو أحد الانقلابات الكونية التي تقع في يوم القيامة . فأما مجيء ربك والملائكة صفاً صفا ، فهو أمر غيبي لا ندرك طبيعته ونحن في هذه الأرض . ولكنا نحس وراء التعبير بالجلال والهول . كذلك المجيء بجهنم . نأخذ منه قربها منهم وقرب المعذبين منها وكفى . فأما حقيقة ما يقع وكيفيته فهي من غيب الله المكنون ليومه المعلوم .
إنما يرتسم من وراء هذه الآيات ، ومن خلال موسيقاها الحادة التقسيم ، الشديدة الأسر ، مشهد ترجف له القلوب ، وتخشع له الأبصار . والأرض تدك دكاً دكا والجبار المتكبر يتجلى ويتولى الحكم والفصل ، ويقف الملائكة صفاً صفا . ثم يجاء بجهنم فتقف متأهبة هي الأخرى
{ يومئذ يتذكر الإنسان } . . الإنسان الذي غفل عن حكمة الابتلاء بالمنع والعطاء . والذي أكل التراث أكلاً لما ، وأحب المال حباً جما . والذي لم يكرم اليتيم ولم يحض على طعام المسكين . والذي طغى وأفسد وتولى . . يومئذ يتذكر . يتذكر الحق ويتعظ بما يرى . . ولكن لقد فات الأوان { وأنَّى له الذكرى؟ } . . ولقد مضى عهد الذكرى ، فما عادت تجدي هنا في دار الجزاء أحداً وإن هي إلا الحسرة على فوات الفرصة في دار العمل في الحياة الدنيا
وحين تتجلى له هذه الحقيقة : { يقول : يا ليتني قدمت لحياتي } . . يا ليتني قدمت شيئاً لحياتي هنا . فهي الحياة الحقيقية التي تستحق اسم الحياة . وهي التي تستأهل الاستعداد والتقدمة والادخار لها . يا ليتني . . أمنية فيها الحسرة الظاهرة ، وهي أقسى ما يملكه الإنسان في الآخرة
ثم يصور مصيره بعد الحسرة الفاجعة والتمنيات الضائعة : { فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد } . . إنه الله القهار الجبار . الذي يعذب يومئذ عذابه الفذ الذي لا يملك مثله أحد . والذي يوثق وثاقه الفذ الذي لا يوثق مثله أحد . وعذاب الله ووثاقه يفصلهما القرآن في مواضع أخرى في مشاهد القيامة الكثيرة المنوعة في ثنايا القرآن كله ، ويجملهما هنا حيث يصفهما بالتفرد بلا شبيه من عذاب البشر ووثاقهم . أو عذاب الخلق جميعاً ووثاقهم . وذلك مقابل ما أسلف في السورة من طغيان الطغاة ممثلين في عاد وثمود وفرعون ، وإكثارهم من الفساد في الأرض ، مما يتضمن تعذيب الناس وربطهم بالقيود والأغلال . فها هو ذا ربك أيها النبي وأيها المؤمن يعذب ويوثق من كانوا يعذبون الناس ويوثقونهم . ولكن شتان بين عذاب وعذاب ، ووثاق ووثاق . . وهان ما يملكه الخلق من هذا الأمر ، وجل ما يفعله صاحب الخلق والأمر . فليكن عذاب الطغاة للناس ووثاقهم ما يكون . فسيعذبون هم ويوثقون ، عذاباً ووثاقاً وراء التصورات والظنون
وفي وسط هذا الهول المروع ، وهذا العذاب والوثاق ، الذي يتجاوز كل تصور تنادى { النفس } المؤمنة من الملأ الأعلى :
{ يا أيتها النفس المطمئنة .

ارجعي إلى ربك راضية مرضية . فادخلي في عبادي . وادخلي جنتي } . .
هكذا في عطف وقرب : { يا أيتها } وفي روحانية وتكريم : { يا أيتها النفس } . . وفي ثناء وتطمين . . { يا أيتها النفس المطمئنة } . . وفي وسط الشد والوثاق ، الانطلاق والرخاء : { ارجعي إلى ربك } ارجعي إلى مصدرك بعد غربة الأرض وفرقة المهد . ارجعي إلى ربك بما بينك وبينه من صلة ومعرفة ونسبة . . { راضية مرضية } بهذه النداوة التي تفيض على الجو كله بالتعاطف وبالرضى . . { فادخلي في عبادي } . . المقربين المختارين لينالوا هذه القربى . . { وادخلي جنتي } . . في كنفي ورحمتي . .
إنها عطفة تنسم فيها أرواح الجنة . منذ النداء الأول : { يا أيتها النفس المطمئنة } . . المطمئنة إلى ربها . المطمئنة إلى طريقها . المطمئنة إلى قدر الله بها . المطمئنة في السراء والضراء ، وفي البسط والقبض ، وفي المنع والعطاء . المطمئنة فلا ترتاب . والمطمئنة فلا تنحرف . والمطمئنة فلا تتلجلج في الطريق . والمطمئنة فلا ترتاع في يوم الهول الرعيب . .
ثم تمضي الآيات تباعاً تغمر الجو كله بالأمن والرضى والطمأنينة ، والموسيقى الرخية الندية حول المشهد ترف بالود والقربى والسكينة .
ألا إنها الجنة بأنفاسها الرضية الندية ، تطل من خلايا هذه الآيات . وتتجلى عليها طلعة الرحمن الجليلة البهية . .

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

تضم هذه السورة الصغيرة جناحيها على حشد من الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني ذات الإيحاءات الدافعة واللمسات الموحية . حشد يصعب أن يجتمع في هذا الحيز الصغير في غير القرآن الكريم ، وأسلوبه الفريد في التوقيع على أوتار القلب البشري بمثل هذه اللمسات السريعة العميقة . .
تبدأ السورة بالتلويح بقسم عظيم ، على حقيقة في حياة الإنسان ثابتة :
{ لا أقسم بهذا البلد . وأنت حل بهذا البلد . ووالد ما ولد . لقد خلقنا الإنسان في كبد } .
والبلد هو مكة . بيت الله الحرام . أول بيت وضع للناس في الأرض . ليكون مثابة لهم وأمناً . يضعون عنده سلاحهم وخصوماتهم وعداواتهم ، ويلتقون فيه مسالمين ، حراماً بعضهم على بعض ، كما أن البيت وشجره وطيره وكل حي فيه حرام . ثم هو بيت إبراهيم والد إسماعيل أبي العرب والمسلمين أجمعين .
ويكرم الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فيذكره ويذكر حله بهذا البلد وإقامته ، بوصفها ملابسة تزيد هذا البلد حرمة ، وتزيده شرفاً ، وتزيده عظمة . وهي إيماءة ذات دلالة عميقة في هذا المقام . والمشركون يستحلون حرمة البيت ، فيؤذون النبي والمسلمين فيه ، والبيت كريم ، يزيده كرماً أن النبي صلى الله عليه وسلم حل فيه مقيم . وحين يقسم الله سبحانه بالبلد والمقيم به ، فإنه يخلع عليه عظمة وحرمة فوق حرمته ، فيبدو موقف المشركين الذين يدعون أنهم سدنة البيت وأبناء إسماعيل وعلى ملة إبراهيم ، موقفاً منكراً قبيحاً من جميع الوجوه .
ولعل هذا المعنى يرشح لاعتبار : { ووالد وما ولد } . . إشارة خاصة إلى إبراهيم ، أو إلى إسماعيل عليهما السلام وإضافة هذا إلى القسم بالبلد والنبي المقيم به ، وبانيه الأول وما ولد . . وإن كان هذا الاعتبار لا ينفي أن يكون المقصود هو : والد وما ولد إطلاقاً . وأن تكون هذه إشارة إلى طبيعة النشأة الإنسانية ، واعتمادها على التوالد . تمهيداً للحديث عن حقيقة الإنسان التي هي مادة السورة الأساسية .
وللأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في هذا الموضع من تفسيره للسورة في « جزء عم » لفتة لطيفة تتسق في روحها مع روح هذه « الظلال » فنستعيرها منه هنا . . قال رحمه الله :
« ثم أقسم بوالد وما ولد ، ليلفت نظرنا إلى رفعة قدر هذا الطور من أطوار الوجود وهو طور التوالد وإلى ما فيه من بالغ الحكمة وإتقان الصنع ، وإلى ما يعانيه الوالد والمولود في إبداء النشء وتكميل الناشئ ، وإبلاغه حده من النمو المقدر له » .
« فإذا تصورت في النبات كم تعاني البذرة في أطوار النمو : من مقاومة فواعل الجو ، ومحاولة امتصاص الغذاء مما حولها من العناصر ، إلى أن تستقيم شجرة ذات فروع وأغصان ، وتستعد إلى أن تلد بذرة أو بذوراً أخرى تعمل عملها ، وتزين الوجود بجمال منظرها إذا أحضرت ذلك في ذهنك ، والتفت إلى ما فوق النبات من الحيوان والإنسان ، حضر لك من أمر الوالد والمولود فيهما ما هو أعظم ، ووجدت من المكابدة والعناء الذي يلاقيه كل منهما في سبيل حفظ الأنواع ، واستبقاء جمال الكون بصورها ما هو أشد وأجسم » .

. انتهى . .
يقسم هذا القسم على حقيقة ثابتة في حياة الكائن الإنساني :
{ لقد خلقنا الإنسان في كبد } . .
في مكابدة ومشقة ، وجهد وكد ، وكفاح وكدح . . كما قال في السورة الأخرى : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } . .
الخلية الأولى لا تستقر في الرحم حتى تبدأ في الكبد والكدح والنصب لتوفر لنفسها الظروف الملائمة للحياة والغذاء بإذن ربها وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج ، فتذوق من المخاض إلى جانب ما تذوقه الوالدة ما تذوق . وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضغط ودفع حتى كاد يختنق في مخرجه من الرحم
ومنذ هذه اللحظة يبدأ الجهد الأشق والكبد الأمر . يبدأ الجنين ليتنفس هذا الهواء الذي لا عهد له به ، ويفتح فمه ورئتيه لأول مرة ليشهق ويزفر في صراخ يشي بمشقة البداية وتبدأ دورته الهضمية ودورته الدموية في العمل على غير عادة ويعاني في إخراج الفضلات حتى يروض أمعاءه على هذا العمل الجديد وكل خطوة بعد ذلك كبد ، وكل حركة بعد ذلك كبد . والذي يلاحظ الوليد عندما يهم بالحبو وعندما يهم بالمشي يدرك كم يبذل من الجهد العنيف للقيام بهذه الحركة الساذجة .
وعند بروز الأسنان كبد . وعند انتصاب القامة كبد . وعند الخطو الثابت كبد . وعند التعلم كبد . وعند التفكر كبد . وفي كل تجربة جديدة كبد كتجربة الحبو والمشي سواء
ثم تفترق الطرق ، وتتنوع المشاق؛ هذا يكدح بعضلاته . وهذا يكدح بفكره . وهذا يكدح بروحه . وهذا يكدح للقمة العيش وخرقة الكساء . وهذا يكدح ليجعل الألف ألفين وعشرة آلاف . . وهذا يكدح لملك أو جاه ، وهذا يكدح في سبيل الله . وهذا يكدح لشهوة ونزوة . وهذا يكدح لعقيدة ودعوة . وهذا يكدح إلى النار . وهذا يكدح إلى الجنة . . والكل يحمل حمله ويصعد الطريق كادحاً إلى ربه فيلقاه وهناك يكون الكبد الأكبر للأشقياء . وتكون الراحة الكبرى للسعداء .
إنه الكبد طبيعة الحياة الدنيا . تختلف أشكاله وأسبابه . ولكنه هو الكبد في النهاية . فأخسر الخاسرين هو من يعاني كبد الحياة الدنيا لينتهي إلى الكبد الأشق الأمرّ في الأخرى . وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كبد الحياة ، وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال الله .
على أن في الأرض ذاتها بعض الجزاء على ألوان الكدح والعناء . إن الذي يكدح للأمر الجليل ليس كالذي يكدح للأمر الحقير .

ليس مثله طمأنينة بال وارتياحاً للبذل ، واسترواحاً بالتضحية ، فالذي يكدح وهو طليق من أثقال الطين ، أو للانطلاق من هذه الأثقال ، ليس كالذي يكدح ليغوص في الوحل ويلصق بالأرض كالحشرات والديدان والذي يموت في سبيل دعوة ليس كالذي يموت في سبيل نزوة . . ليس مثله في خاصة شعوره بالجهد والكبد الذي يلقاه .
وبعد تقرير هذه الحقيقة عن طبيعة الحياة الإنسانية يناقش بعض دعاوى « الإنسان » وتصوراته التي تشي بها تصرفاته :
{ أيحسب أن لن يقدر عليه أحد؟ يقول : أهلكت مالاً لبدا . أيحسب أن لم يره أحد؟ } .
إن هذا « الإنسان » المخلوق في كبد ، الذي لا يخلص من عناء الكدح والكد ، لينسى حقيقة حاله وينخدع بما يعطيه خالقه من أطراف القوة والقدرة والوجدان والمتاع ، فيتصرف تصرف الذي لا يحسب أنه مأخوذ بعمله ، ولا يتوقع أن يقدر عليه قادر فيحاسبه . . فيطغى ويبطش ويسلب وينهب ، ويجمع ويكثر ، ويفسق ويفجر ، دون أن يخشى ودون أن يتحرج . . وهذه هي صفة الإنسان الذي يعرى قلبه من الإيمان .
ثم إنه إذا دعي للخير والبذل ( في مثل المواضع التي ورد ذكرها في السورة ) { يقول : أهلكت مالاً لبداً } . . وأنفقت شيئاً كثيراً فحسبي ما أنفقت وما بذلت { أيحسب أن لم يره أحد } ؟ وينسى أن عين الله عليه ، وأن علمه محيط به ، فهو يرى ما أنفق ، ولماذا أنفق؟ ولكن هذا « الإنسان » كأنما ينسى هذه الحقيقة ، ويحسب أنه في خفاء عن عين الله
وأمام هذا الغرور الذي يخيل للإنسان أنه ذو منعة وقوة ، وأمام ضنه بالمال وادعائه أنه بذل الكثير ، يجابهه القرآن بفيض الآلاء عليه في خاصة نفسه ، وفي صميم تكوينه ، وفي خصائص طبيعته واستعدادته ، تلك الآلاء التي لم يشكرها ولم يقم بحقها عنده :
{ ألم نجعل له عينين؟ ولساناً وشفتين؟ وهديناه النجدين؟ } . .
إن الإنسان يغتر بقوته ، والله هو المنعم عليه بهذا القدر من القوة . ويضن بالمال . والله هو المنعم عليه بهذا المال . ولا يهتدي ولا يشكر ، وقد جعل له من الحواس ما يهديه في عالم المحسوسات : جعل له عينين على هذا القدر من الدقة في تركيبهما وفي قدرتهما على الإبصار . وميزه بالنطق ، وأعطاه أداته المحكمة : { ولساناً وشفتين } . . ثم أودع نفسه خصائص القدرة على إدراك الخير والشر ، والهدى والضلال ، والحق والباطل : { وهديناه النجدين } . . ليختار أيهما شاء ، ففي طبيعته هذا الاستعداد المزدوج لسلوك أي النجدين . والنجد الطريق المرتفع . وقد اقتضت مشيئة الله أن تمنحه القدرة على سلوك أيهما شاء ، وأن تخلقه بهذا الازدواج طبقاً لحكمة الله في الخلق ، وإعطاء كل شيء خلقه ، وتيسيره لوظيفته في هذا الوجود .
وهذه الآية تكشف عن حقيقة الطبيعة الإنسانية؛ كما أنها تمثل قاعدة « النظرية النفسية الإسلامية » هي والآيات الأخرى في سورة الشمس :

{ ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } ( وسنرجئ عرضها بشيء من التفصيل إلى الموضع الآخر في سورة الشمس لأنه أوسع مجالاً ) .
هذه الآلاء التي أفاضها الله على الجنس الإنسان في خاصة نفسه ، وفي صميم تكوينه ، والتي من شأنها أن تعينه على الهدى : عيناه بما تريان في صفحات هذا الكون من دلائل القدرة وموحيات الإيمان؛ وهي معروضة في صفحات الكون مبثوثة في حناياه . ولسانه وشفتاه وهما أداة البيان والتعبير؛ وعنهما يملك الإنسان أن يفعل الشيء الكثير . والكلمة أحياناً تقوم مقام السيف والقذيفة وأكثر؛ وأحياناً تهوي بصاحبها في النار كما ترفعه أو تخفضه . في هذه النار . . « عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأصبحت يوماً قريباً منه ، ونحن نسير ، فقلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ، ويباعدني عن النار . قال : » سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه : تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وصلاة الرجل في جوف الليل شعار الصالحين . ثم تلا قوله تعالى : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع . . . . . } . ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد . ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : كف عليك هذا ، وأشار إلى لسانه . قلت : يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال : ثكلتك أمك وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال : على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ « رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه .
وهدايته إلى إدراك الخير والشر ، ومعرفة الطريق إلى الجنة والطريق إلى النار ، وإعانته على الخير بهذه الهداية . .
هذه الآلاء كلها لم تدفع هذا » الإنسان « إلى اقتحام العقبة التي تحول بينه وبين الجنة . هذه العقبة التي يبينها الله له في هذه الآيات :
{ فلا اقتحم العقبة . . وما أدراك ما العقبة؟ فك رقبة . أو إطعام في يوم ذي مسغبة ، يتيماً ذا مقربة ، أو مسكيناً ذا متربة . ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة . أولئك أصحاب الميمنة } . .
هذه هي العقبة التي يقتحمها الإنسان إلا من استعان بالإيمان هذه هي العقبة التي تقف بينه وبين الجنة . لو تخطاها لوصل وتصويرها كذلك حافز قوي ، واستجاشة للقلب البشري ، وتحريك له ليقتحم العقبة وقد وضحت ووضح معها أنها الحائل بينه وبين هذا المكسب الضخم . . { فلا اقتحم العقبة } ففيه تحضيض ودفع وترغيب
ثم تفخيم لهذا الشأن وتعظيم : { وما أدراك ما العقبة } .

. إنه ليس تضخيم العقبة ، ولكنه تعظيم شأنها عند الله ، ليحفز به « الإنسان » إلى اقتحامها وتخطيها؛ مهما تتطلب من جهد ومن كبد . فالكبد واقع واقع . وحين يبذل لاقتحام العقبة يؤتي ثمره ويعوض المقتحم عما يكابده ، ولا يذهب ضياعاً وهو واقع واقع على كل حال
ويبدأ كشف العقبة وبيان طبيعتها بالأمر الذي كانت البيئة الخاصة التي تواجهها الدعوة في أمسّ الحاجة إليه : فك الرقاب العانية؛ وإطعام الطعام والحاجة إليه ماسة للضعاف الذين تقسو عليهم البيئة الجاحدة المتكالبة ، وينتهي بالأمر الذي لا يتعلق ببيئة خاصة ولا بزمان خاص ، والذي تواجهه النفوس جميعاً ، وهي تتخطى العقبة إلى النجاة : { ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة } . .
وقد ورد أن فك الرقبة هو المشاركة في عتقها ، وأن العتق هو الاستقلال بهذا . . وأياً ما كان المقصود فالنتيجة الحاصلة واحدة .
وقد نزل هذا النص والإسلام في مكة محاصر؛ وليست له دولة تقوم على شريعته . وكان الرق عاماً في الجزيرة العربية وفي العالم من حولها . وكان الرقيق يعاملون معاملة قاسية على الإطلاق . فلما أن أسلم بعضهم كعمار بن ياسر وأسرته ، وبلال بن رباح ، وصهيب . . وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً اشتد عليهم البلاء من سادتهم العتاة ، وأسلموهم إلى تعذيب لا يطاق . وبدا أن طريق الخلاص لهم هو تحريرهم بشرائهم من سادتهم القساة ، فكان أبو بكر رضي الله عنه هو السابق كعادته دائماً إلى التلبية والاستجابة في ثبات وطمأنينة واستقامة . .
قال ابن إسحاق : « وكان بلال مولى أبي بكر رضي الله عنهما لبعض بني جمح مولدا من مولديهم وكان صادق الإسلام ، طاهر القلب ، وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة؛ ثم يأمرهم بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى . فيقول وهو في ذلك البلاء : أحد أحد . . »
« حتى مر به أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوماً وهم يصنعون ذلك به وكانت دار أبي بكر في بني جمح . فقال لأمية بن خلف ، ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟ قال : أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى . فقال أبو بكر : أفعل . عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى ، على دينك » أعطيكه به . قال : قد قبلت . قال : هو لك . فأعطاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه غلامه ذلك وأخذه وأعتقه .
« ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب . بلال سابعهم : عامر بن فهيرة ( شهد بدراً وقتل يوم بئر معونة شهيداً ) وأم عبيس ، وزنيرة .

( وأصيب بصرها حين أعتقها ، فقالت قريش : ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى فقالت : كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان . فرد الله بصرها ) وأعتق النهدية وابنتها ، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول : والله لا أعتقكما أبداً . فقال أبو بكر رضي الله عنه حلٌ يا أم فلان ( أي تحللي من يمينك ) فقالت : حل أنت أفسدتهما فأعتقهما . قال فبكم هما؟ قالت : بكذا وكذا . قال : قد أخذتهما وهما حرتان . أرجعا إليها طحينها . قالتا : أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال : ذلك إن شئتما .
« ومر بجارية بني مؤمل هي من بني عدي وكانت مسلمة ، وكان عمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام وهو يومئذ مشرك وهو يضربها ، حتى إذا مل قال : إني أعتذر إليك ، إني لم أتركك إلا ملالة فتقول : كذلك فعل الله بك فابتاعها أبو بكر فأعتقها » .
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن عبد الله بن أبي عتيق ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن بعض أهله ، قال : قال أبو قحافة لأبي بكر : يا بني إني أراك تعتق رقاباً ضعافاً . فلو أنك إذا فعلت ما فعلت أعتقت رجالاً جُلدا يمنعونك ويقومون دونك قال : فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا أبت إني إنما أريد ما أريد لله . . . « . .
لقد كان رضي الله عنه يقتحم العقبة وهو يعتق هذه الرقاب العانية . . لله . . وكانت الملابسات الحاضرة في البيئة تجعل هذا العمل يذكر في مقدمة الخطوات والوثنيات لاقتحام العقبة في سبيل الله .
{ أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتمياً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة } . .
والمسغبة : المجاعة ، ويوم المجاعة الذي يعز فيه الطعام هو محك لحقيقة الإيمان . وقد كان اليتيم يجد في البيئة الجاهلية المتكالبة الخسف والغبن . ولو كان ذا قربى . وقد حفل القرآن بالوصية باليتيم . مما يدل على قسوة البيئة من حول اليتامى . وظلت هذه الوصايا تتوالى حتى في السور المدنية بمناسبة تشريعات الميراث والوصاية والزواج . وقد مر منها الكثير في سورة النساء خاصة . . وفي سورة البقرة وغيرهما . وكذلك إطعام المسكين ذي المتربة أي اللاصق بالتراب من بؤسه وشدة حاله في يوم المسغبة يقدمه السياق القرآني خطوة في سبيل اقتحام العقبة ، لأنه محك للمشاعر الإيمانية من رحمة وعطف وتكافل وإيثار ، ومراقبة لله في عياله ، في يوم الشدة والمجاعة والحاجة . وهاتان الخطوتان : فك الرقاب وإطعام الطعام كانتا من إيحاءات البيئة الملحة ، وإن كانت لهما صفة العموم ، ومن ثم قدمها في الذكر . ثم عقب بالوثبة الكبرى الشاملة :
{ ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر ، وتواصوا بالمرحمة } .

.
و { ثم } هنا ليست للتراخي الزمني ، إنما هي للتراخي المعنوي باعتبار هذه الخطوة هي الأشمل والأوسع نطاقاً والأعلى أفقاً . وإلا فما ينفع فك رقاب ولا إطعام طعام بلا إيمان . فالإيمان مفروض وقوعه قبل فك الرقاب وإطعام الطعام . وهو الذي يجعل للعمل الصالح وزناً في ميزان الله . لأنه بمنهج ثابت مطرد . فلا يكون الخير فلتة عارضة ترضية لمزاج متقلب ، أو ابتغاء محمدة من البيئة أو مصلحة .
وكأنما قال : فك رقبة . أو إطعام في يوم ذي مسغبة ، يتيماً ذا مقربة ، أو مسكيناً ذا متربة . . وفوق ذلك كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة . فثم هنا لإفادة معنى الفضل والعلو .
والصبر هو العنصر الضروري للإيمان بصفة عامة ، ولاقتحام العقبة بصفة خاصة . والتواصي به يقرر درجة وراء درجة الصبر ذاته . درجة تماسك الجماعة المؤمنة ، وتواصيها على معنى الصبر ، وتعاونها على تكاليف الإيمان . فهي أعضاء متجاوبة الحس . تشعر جميعاً شعوراً واحداً بمشقة الجهاد لتحقيق الإيمان في الأرض وحمل تكاليفه ، فيوصي بعضها بعضاً بالصبر على العبء المشترك؛ ويثبت بعضها بعضاً فلا تتخاذل؛ ويقوي بعضها بعضاً فلا تنهزم . وهذا أمر غير الصبر الفردي . وإن يكن قائماً على الصبر الفردي . وهو إيحاء بواجب المؤمن في الجماعة المؤمنة . وهو ألا يكون عنصر تخذيل بل عنصر تثبيت ، ولا يكون داعية هزيمة بل داعية اقتحام؛ ولا يكون مثار جزع بل مهبط طمأنينة .
وكذلك التواصي بالمرحمة . فهو أمر زائد على المرحمة . إنه إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة عن طريق التواصي به ، والتحاض عليه ، واتخاذه واجباً جماعياً فردياً في الوقت ذاته ، يتعارف عليه الجميع ، ويتعاون عليه الجميع .
فمعنى الجماعة قائم في هذا التوجيه . وهو المعنى الذي يبرزه القرآن كما تبرزه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهميته في تحقيق هذا الدين . فهو دين جماعة ، ومنهج أمة ، مع وضوح التبعة الفردية والحساب الفردي فيه وضوحاً كاملاً . .
وأولئك الذين يقتحمون العقبة كما وصفها القرآن وحددها { أولئك أصحاب الميمنة } . . وهم أصحاب اليمين كما جاء في مواضع أخرى . أو أنهم أصحاب اليمين والحظ والسعادة . . وكلا المعنيين متصل في المفهوم الإيماني .
{ والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة . عليهم نار مؤصدة } . .
ولم يحتج هنا إلى ذكر أوصاف أخرى لفريق المشأمة غير أن يقول : { والذين كفروا بآياتنا } . . لأن صفة الكفر تنهي الموقف . فلا حسنة مع الكفر . ولا سيئة إلا والكفر يتضمنها أو يغطي عليها . فلا ضرورة للقول بأنهم الذين لا يفكون الرقاب ولا يطعمون الطعام ، ثم هم الذين كفروا بآياتنا . . فإذا كفروا فما هو بنافعهم شيء من ذلك حتى لو فعلوه
وهم أصحاب المشأمة . أي أصحاب الشمال أو هم أصحاب الشؤم والنحس . . وكلاهما كذلك قريب في المفهوم الإيماني . وهؤلاء هم الذين بقوا وراء العقبة لم يقتحموها
{ عليهم نار مؤصدة } . . أي مغلقة . . إما على المعنى القريب . . أي أبوابها مغلقة عليهم وهم في العذاب محبوسون . وإما على لازم هذا المعنى القريب؛ وهو أنهم لا يخرجون منها . فبحكم إغلاقها عليهم لا يمكن أن يزايلوها . . وهذان المعنيان متلازمان . .
هذه هي الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني ، وفي التصور الإيماني . تعرض في هذا الحيز الصغير . بهذه القوة وبهذا الوضوح . . وهذه خاصية التعبير القرآني الفريد . . .

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)

هذه السورة القصيرة ذات القافية الواحدة ، والإيقاع الموسيقي الموحد ، تتضمن عدة لمسات وجدانية تنبثق من مشاهد الكون وظواهره التي تبدأ بها السورة والتي تظهر كأنها إطار للحقيقة الكبيرة التي تتضمنها السورة . حقيقة النفس الإنسانية ، واستعداداتها الفطرية ، ودور الإنسان في شأن نفسه ، وتبعته في مصيرها . . هذه الحقيقة التي يربطها سياق بحقائق الكون ومشاهده الثابتة .
كذلك تتضمن قصة ثمود ، وتكذيبها بإنذار رسولها ، وعقرها للناقة ، ومصرعها بعد ذلك وزوالها . وهي نموذج من الخيبة التي تصيب من لا يزكي نفسه ، فيدعها للفجور ، ولا يلزمها تقواها : كما جاء في الفقرة الأولى في السورة : { قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها } . .
{ والشمس وضحاها . والقمر إذا تلاها . والنهار إذا جلاَّها . والليل إذا يغشاها . والسمآء وما بناها . والأرض وما طحاها . ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها } . .
يقسم الله سبحانه بهذه الخلائق والمشاهد الكونية ، كما يقسم بالنفس وتسويتها وإلهامها . ومن شأن هذا القسم أن يخلع على هذه الخلائق قيمة كبرى؛ وأن يوجه إليها القلوب تتملاها ، وتتدبر ماذا لها من قيمة وماذا بها من دلالة ، حتى استحقت أن يقسم بها الجليل العظيم .
ومشاهد الكون وظواهره إطلاقاً بينها وبين القلب الإنساني لغة سرية متعارف عليها في صميم الفطرة وأغوار المشاعر . وبينها وبين الروح الإنساني تجاوب ومناجاة بغير نبرة ولا صوت ، وهي تنطق للقلب ، وتوحي للروح ، وتنبض بالحياة المأنوسة للكيان الإنساني الحي ، حيثما التقى بها وهو مقبل عليها ، متطلع عندها إلى الأنس والمناجاة والتجاوب والإيحاء .
ومن ثم يكثر القرآن من توجيه القلب إلى مشاهد الكون بشتى الأساليب ، في شتى المواضع . تارة بالتوجيهات المباشرة ، وتارة باللمسات الجانبية كهذا القسم بتلك الخلائق والمشاهد ، ووضعها إطاراً لما يليها من الحقائق . وفي هذا الجزء بالذات لاحظنا كثرة هذه التوجيهات واللمسات كثرة ظاهرة . فلا تكاد سورة واحدة تخلو من إيقاظ القلب لينطلق إلى هذا الكون ، يطلب عنده التجاوب والإيحاء . ويتلقى عنه بلغة السر المتبادل ما ينطق به من دلائل وما يبثه من مناجاة
وهنا نجد القسم الموحي بالشمس وضحاها . . بالشمس عامة وحين تضحى وترتفع عن الأفق بصفة خاصة . وهي أروق ما تكون في هذه الفترة وأحلى . في الشتاء يكون وقت الدفء المستحب الناعش . وفي الصيف يكون وقت الإشراق الرائق قبل وقدة الظهيرة وقيظها . فالشمس في الضحى في أروق أوقاتها وأصفاها . وقد ورد أن المقصود بالضحى هو النهار كله ، ولكنا لا نرى ضرورة للعدول عن المعنى القريب للضحى . وهو ذو دلالة خاصة كما رأينا .
وبالقمر إذا تلاها . . إذا تلا الشمس بنوره اللطيف الشفيف الرائق الصافي . . وبين القمر والقلب البشري ود قديم موغل في السرائر والأعماق ، غائر في شعاب الضمير ، يترقرق ويستيقظ كلما التقى به القلب في أية حال .

وللقمر همسات وإيحاءات للقلب ، وسبحات وتسبيحات للخالق ، يكاد يسمعها القلب الشاعر في نور القمر المنساب . . وإن القلب ليشعر أحياناً أنه يسبح في فيض النور الغامر في الليلة القمراء ، ويغسل أدرانه ، ويرتوي ، ويعانق هذا النور الحبيب ويستروح فيه روح الله .
ويقسم بالنهار إذا جلاها . . مما يوحي بأن المقصود بالضحى هو الفترة الخاصة لا كل النهار . والضمير في { جلاها } . . الظاهر أن يعود إلى الشمس المذكورة في السياق . . ولكن الإيحاء القرآني يشي بأنه ضمير هذه البسيطة . وللأسلوب القرآني إيحاءات جانبية كهذه مضمرة في السياق لأنها معهودة في الحس البشري ، يستدعيها التعبير استدعاء خفياً . فالنهار يجلي البسيطة ويكشفها . وللنهار في حياة الإنسان آثاره التي يعلمها . وقد ينسى الإنسان بطول التكرار جمال النهار وأثره . فهذه اللمسة السريعة في مثل هذا السياق توقظه وتبعثه للتأمل في هذه الظاهرة الكبرى .
ومثله : { والليل إذا يغشاها } . . والتغشية هي مقابل التجلية . والليل غشاء يضم كل شيء ويخفيه . وهو مشهد له في النفس وقع . وله في حياة الإنسان أثر كالنهار سواء .
ثم يقسم بالسماء وبنائها : { والسماء وما بناها } . . { وما } هنا مصدرية . ولفظ السماء حين يذكر يسبق إلى الذهن هذا الذي نراه فوقنا كالقبة حيثما اتجهنا ، تتناثر فيه النجوم والكواكب السابحة في أفلاكها ومداراتها . فأما حقيقة السماء فلا ندريها . وهذا الذي نراه فوقنا متماسكاً لا يختل ولا يضطرب تتحقق فيه صفة البناء بثباته وتماسكه . أما كيف هو مبني ، وما الذي يمسك أجزاءه فلا تتناثر وهو سابح في الفضاء الذي لا نعرف له أولاً ولا آخراً . . فذلك ما لا ندريه . وكل ما قيل عنه مجرد نظريات قابلة للنقض والتعديل . ولا قرار لها ولا ثبات . . إنما نوقن من وراء كل شيء أن يد الله هي تمسك هذا البناء : { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا . ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده } وهذا هو العلم المستيقن الوحيد
كذلك يقسم بالأرض وطحوِها : { والأرض وما طحاها } . . والطحو كالدحو : البسط والتمهيد للحياة . وهي حقيقة قائمة تتوقف على وجودها حياة الجنس البشري وسائر الأجناس الحية . وهذه الخصائص والموافقات التي جعلتها يد الله في هذه الأرض هي التي سمحت بالحياة فيها وفق تقديره وتدبيره . وحسب الظاهر لنا أنه لو اختلت إحداها ما أمكن أن تنشأ الحياة ولا أن تسير في هذا الطريق الذي سارت فيه . . وطحو الأرض أو دحوها كما قال في الآية الأخرى : { والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها } وهو أكبر هذه الخصائص والموافقات . ويد الله وحدها هي التي تولت هذا الأمر . فحين يذكر هنا بطحو الأرض ، فإنما يذكر بهذه اليد التي وراءه . ويلمس القلب البشري هذه اللمسة للتدبر والذكرى .

ثم تجيء الحقيقة الكبرى عن النفس البشرية في سياق هذا القسم ، مرتبطة بالكون ومشاهده وظواهره . وهي إحدى الآيات الكبرى في هذا الوجود المترابط المتناسق :
{ ونفس وما سواها . فألهما فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها } . .
وهذه الآيات الأربع ، بالإضافة إلى آية سورة البلد السابقة : { وهديناه النجدين } وآية سورة الإنسان : { إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً } تمثل قاعدة النظرية النفسية للإسلام . . وهي مرتبطة ومكملة للآيات التي تشير إلى ازدواج طبيعة الإنسان ، كقوله تعالى في سورة « ص » : { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين . فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } كما أنها مرتبطة ومكملة للآيات التي تقرر التعبة الفردية : كقوله تعالى في سورة المدثر : { كل نفس بما كسبت رهينة } والآيات التي تقرر أن الله يرتب تصرفه بالإنسان على واقع هذا الإنسان ، كقوله تعالى في سورة الرعد : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ومن خلال هذه الآيات وأمثالها تبرز لنا نظرة الإسلام إلى الإنسان بكل معالمها . .
إن هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة ، مزدوج الاستعداد ، مزدوج الاتجاه ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه ( من طين الأرض ومن نفخة الله فيه من روحه ) مزود باستعدادات متساوية للخير والشر ، والهدى والضلال . فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر . كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء . وأن هذه القدرة كامنة في كيانه ، يعبرعنها القرآن بالإلهام تارة : { ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها } . . ويعبر عنها بالهداية تارة : { فهديناه النجدين } فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد . . والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجهها هنا أو هناك . ولكنها لا تخلقها خلقاً . لأنها مخلوقة فطرة ، وكائنة طبعاً ، وكامنة إلهاماً .
وهناك إلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان . هي التي تناط بها التبعة . فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعداد الخير فيها ، وتغليبه على استعداد الشر . . فقد أفلح . ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب : { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } . .
وهنالك إذن تبعة مترتبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه . توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشر سواء . فهي حرية تقابلها تبعة ، وقدرة يقابلها تكليف ، ومنحة يقابلها واجب . .
ورحمة من الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي ، ولا للقوة الواعية المالكة للتصرف ، فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة ، وتكشف له عن موحيات الإيمان ، ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله ، وتجلو عنه غواشي الهوى فيبصر الحق في صورته الصحيحة . . وبذلك يتضح له الطريق وضوحاً كاشفاً لا غبش فيه ولا شبهة فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه .

وهذه في جملتها هي مشيئة الله بالإنسان . وكل ما يتم في دائرتها فهو محقق لمشيئة الله وقدره العام .
هذه النظرة المجملة إلى أقصى حد تنبثق منها جملة حقائق ذات قيمة في التوجيه التربوي : فهي أولاً ترتفع بقيمة هذا الكائن الإنساني ، حين تجعله أهلاً لاحتمال تبعة اتجاهه ، وتمنحه حرية الاختيار ( في إطار المشيئة الإلهية التي شاءت له هذه الحرية فيما يختار ) فالحرية والتبعة يضعان هذا الكائن في مكان كريم ، ويقرران له في هذا الوجود منزلة عالية تليق بالخليقة التي نفخ الله فيها من روحه وسواها بيده ، وفضلها على كثير من العالمين .
وهي ثانياً تلقي على هذا الكائن تبعة مصيره ، وتجعل أمره بين يديه ( في إطار المشيئة الكبرى كما أسلفنا ) فتثير في حسه كل مشاعر اليقظة والتحرج والتقوى . وهو يعلم أن قدر الله فيه يتحقق من خلال تصرفه هو بنفسه : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } وهي تبعة ثقيلة لا يغفل صاحبها ولا يغفو
وهي ثالثاً تشعر هذا الإنسان بالحاجة الدائمة للرجوع إلى الموازين الإلهية الثابتة ، ليظل على يقين أن هواه لم يخدعه ، ولم يضلله ، كي لا يقوده الهوى إلى المهلكة ، ولا يحق عليه قدر الله فيمن يجعل إلهه هواه . وبذلك يظل قريباً من الله ، يهتدي بهديه ، ويستضيء بالنور الذي أمده به في متاهات الطريق
ومن ثم فلا نهاية لما يملك هذا الإنسان أن يصل إليه من تزكية النفس وتطهيرها ، وهو يغتسل في نور الله الفائض ، ويتطهر في هذا العباب الذي يتدفق حوله من ينابيع الوجود . .
بعد ذلك يعرض نموذجاً من نماذج الخيبة التي ينتهي إليها من يدسي نفسه ، فيحجبها عن الهدى ويدنسها . ممثلاً هذا النموذج فيما أصاب ثمود من غضب ونكال وهلاك :
{ كذبت ثمود بطغواها . إذ انبعث أشقاها . فقال لهم رسول الله : ناقة الله وسقياها . فكذبوه فعقروها . فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها . ولا يخاف عقباها } . .
وقد وردت قصة ثمود ونبيها صالح عليه السلام في مواضع شتى من القرآن . وسبق الحديث عنها في كل موضع . وأقربها ما جاء في هذا الجزء في سورة « الفجر » فيرجع إلى تفصيلات القصة هناك .
فأما في هذا الموضع فهو يذكر أن ثمود بسبب من طغيانها كذبت نبيها ، فكان الطغيان وحده هو سبب التكذيب . وتمثل هذا الطغيان في انبعاث أشقاها . وهو الذي عقر الناقة . وهو أشدها شقاء وأكثرها تعاسة بما ارتكب من الإثم . وقد حذرهم رسول الله قبل الإقدام على الفعلة فقال لهم . احذروا أن تمسوا ناقة الله أو أن تمسوا الماء الذي جعل لها يوماً ولهم يوماً كما اشترط عليهم عند ما طلبوا منه آية فجعل الله هذه الناقة آية ولا بد أنه كان لها شأن خاص لا نخوض في تفصيلاته ، لأن الله لم يقل لنا عنه شيئاً فكذبوا النذير فعقروا الناقة .

والذي عقرها هو هذا الأشقى . ولكنهم جميعاً حملوا التبعة وعُدوا أنهم عقروها ، لأنهم لم يضربوا على يده ، بل استحسنوا فعلته . وهذا مبدأ من مبادئ الإسلام الرئيسية في التكافل في التبعة الاجتماعية في الحياة الدنيا . لا يتعارض مع التبعة الفردية في الجزاء الأخروي حيث لا تزر وازرة وزر أخرى . على أنه من الوزر إهمال التناصح والتكافل والحض على البر والأخذ على يد البغي والشر .
عندئذ تتحرك يد القدرة لتبطش البطشة الكبرى : { فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها } . .
والدمدمة الغضب وما يتبعه من تنكيل . واللفظ ذاته . . { دمدم } يوحي بما وراءه ، ويصور معناه بجرسه ، ويكاد يرسم مشهداً مروعاً مخيفاً وقد سوى الله أرضهم عاليها بسافلها ، وهو المشهد الذي يرتسم بعد الدمار العنيف الشديد . .
{ ولا يخاف عقباها } . . سبحانه وتعالى . . ومن ذا يخاف؟ وماذا يخاف؟ وأنى يخاف؟ إنما يراد من هذا التعبير لازمه المفهوم منه . فالذي لا يخاف عاقبة ما يفعل ، يبلغ غاية البطش حين يبطش . وكذلك بطش الله كان : إن بطش ربك لشديد . فهو إيقاع يراد إيحاؤه وظله في النفوس . .
وهكذا ترتبط حقيقة النفس البشرية بحقائق هذا الوجود الكبيرة ، ومشاهدة الثابتة ، كما ترتبط بهذه وتلك سنة الله في أخذ المكذبين والطغاة ، في حدود التقدير الحكيم الذي يجعل لكل شيء أجلاً ، ولكل حادث موعداً ، ولكل أمر غاية ، ولكل قدر حكمة ، وهو رب النفس والكون والقدر جميعاً . .

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)

في إطار من مشاهد الكون وطبيعة الإنسان تقرر السورة حقيقة العمل والجزاء . ولما كانت هذه الحقيقة منوعة المظاهر : { إن سعيكم لشتى . فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى . وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } . . وكانت العاقبة كذلك في الآخرة مختلفة وفق العمل والوجهة : { فأنذرتكم ناراً تلظى . لا يصلاها إلا الأشقى . الذي كذب وتولى . وسيجنبها الأتقى ، الذى يؤتي ماله يتزكى . . } .
لما كانت مظاهر هذه الحقيقة ذات لونين ، وذات اتجاهين . . كذلك كان الإطار المختار لها في مطلع السورة ذا لونين في الكون وفي النفس سواء : { والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى } . . { وما خلق الذكر والأنثى } . . وهذا من بدائع التناسق في التعبير القرآني .
{ والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى . . وما خلق الذكر والأنثى } . .
يقسم الله سبحانه بهاتين الآيتين : الليل والنهار . مع صفة كل منهما الصفة المصورة للمشهد . { والليل إذا يغشى } . . { والنهار إذا تجلى } . . الليل حين يغشى البسيطة ، ويغمرها ويخفيها . والنهار حين يتجلى ويظهر ، فيظهر في تجلية كل شيء ويسفر . وهما آنان متقابلان في دورة الفلك ، ومتقابلان في الصورة ، ومتقابلان في الخصائص ، ومتقابلان في الآثار . . كذلك يقسم بخلقه الأنواع جنسين متقابلين : { وما خلق الذكر والأنثى } . . تكملة لظواهر التقابل في جو السورة وحقائقها جميعاً .
والليل والنهار ظاهرتان شاملتان لهما دلالة توحيان بها إيحاء للقلب البشري؛ ولهما دلالة كذلك أخرى عند التدبر والتفكر فيهما وفيما وراءهما . والنفس تتأثر تأثراً تلقائياً بتقلب الليل والنهار . الليل إذا يغشى ويعم ، والنهار إذا تجلى وأسفر . ولهذا التقلب حديث وإيحاء . حديث عن هذا الكون المجهول الأسرار ، وعن هذه الظواهر التي لا يملك البشر من أمرها شيئاً . وإيحاء بما وراء هذا التقلب من قدرة تدير الآونة في الكون كما تدار العجلة اليسيرة وبما هنالك من تغير وتحول لا يثبت أبداً على حال .
ودلالتهما عند التدبر والتفكر قاطعة في أن هنالك يداً أخرى تدير هذا الفلك ، وتبدل الليل والنهار . بهذا الانتظام وهذا الاطراد وهذه الدقة . وأن الذي يدير الفلك هكذا يدير حياة البشر أيضاً . ولا يتركهم سدى ، كما أنه لا يخلقهم عبثاً .
ومهما حاول المنكرون والمضلون أن يلغوا في هذه الحقيقة ، وأن يحولوا الأنظار عنها ، فإن القلب البشري سيظل موصولاً بهذا الكون ، يتلقى إيقاعاته ، وينظر تقلباته ، ويدرك تلقائياً كما يدرك بعد التدبر والتفكر ، أن هنالك مدبراً لا محيد من الشعور به ، والاعتراف بوجوده من وراء اللغو والهذر ، ومن وراء الجحود والنكران
وكذلك خلقة الذكر والأنثى . . إنها في الإنسان والثدييات الحيوانية نطفة تستقر في رحم . وخلية تتحد ببويضة . ففيم هذا الاختلاف في نهاية المطاف؟ ما الذي يقول لهذه : كوني ذكراً ، ويقول لهذه : كوني أنثى؟ .

. إن كشف العوامل التي تجعل هذه النطفة تصبح ذكراً ، وهذه تصبح أنثى لا يغير من واقع الأمر شيئاً . . فإنه لماذا تتوفر هذه العوامل هنا وهذه العوامل هناك؟ وكيف يتفق أن تكون صيرورة هذه ذكراً ، وصيرورة هذه أنثى هو الحدث الذي يتناسق مع خط سير الحياة كلها ، ويكفل امتدادها بالتناسل مرة أخرى؟
مصادفة؟ إن للمصادفة كذلك قانوناً يستحيل معه أن تتوافر هذه الموافقات كلها من قبيل المصادفة . . فلا يبقى إلا أن هنالك مدبراً يخلق الذكر والأنثى لحكمة مرسومة وغاية معلومة . فلا مجال للمصادفة ، ولا مكان للتلقائية في نظام هذا الوجود أصلاً .
والذكر والأنثى شاملان بعد ذلك للأنواع كلها غير الثدييات . فهي مطردة في سائر الأحياء ومنها النبات . . قاعدة واحدة في الخلق لا تتخلف . لا يتفرد ولا يتوحد إلا الخالق سبحانه الذي ليس كمثله شيء . .
هذه بعض إيحاءات تلك المشاهد الكونية ، وهذه الحقيقة الإنسانية التي يقسم الله سبحانه بها ، لعظيم دلالتها وعميق إيقاعها . والتي يجعلها السياق القرآني إطاراً لحقيقة العمل والجزاء في الحياة الدنيا وفي الحياة الأخرى . .
يقسم الله بهذه الظواهر والحقائق المتقابلة في الكون وفي الناس ، على أن سعي الناس مختلف وطرقهم مختلفة ، ومن ثم فجزاؤهم مختلف كذلك؛ فليس الخير كالشر ، وليس الهدى كالضلال . وليس الصلاح كالفساد ، وليس من أعطى واتقى كمن بخل واستغنى ، وليس من صدق وآمن كمن كذب وتولى . وأن لكل طريقاً ، ولكل مصيراً ، ولكل جزاء وفاقاً :
{ إن سعيكم لشتى . فأما من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى ، فسنيسره لليسرى . وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ، فسنيسره للعسرى ، وما يغني عنه ماله إذا تردى } . .
إن سعيكم لشتى . . مختلف في حقيقته . مختلف في بواعثه . مختلف في اتجاهه . مختلف في نتائجه . . والناس في هذه الأرض تختلف طبائعهم ، وتختلف مشاربهم ، وتختلف تصوراتهم ، وتختلف اهمتاماتهم ، حتى لكأن كل واحد منهم عالم خاص يعيش في كوكب خاص .
هذه حقيقة . ولكن هناك حقيقة أخرى . حقيقة إجمالية تضم أشتات البشر جميعاً . وتضم هذه العوامل المتباينة كلها . تضمها في حزمتين اثنتين . وفي صفين متقابلين . تحت رايتين عامتين : { من أعطى واتقى وصدق بالحسنى } . . و { من بخل واستغنى وكذب بالحسنى } . .
من أعطى نفسه وماله . واتقى غضب الله وعذابه . وصدق بهذه العقيدة التي إذا قيل { الحسنى } كانت اسماً لها وعلماً عليها .
ومن بخل بنفسه وماله . واستغنى عن الله وهداه . وكذب بهذه الحسنى . .
هذان هما الصفان اللذان يلتقي فيهما شتات النفوس ، وشتات السعي ، وشتات المناهج ، وشتات الغايات . ولكل منهما في هذه الحياة طريق . . ولكل منهما في طريقه توفيق
{ فأما من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى . . فسنيسره لليسرى } . .
والذي يعطي ويتقي ويصدق بالحسنى يكون قد بذل أقصى ما في وسعه ليزكي نفسه ويهديها . عندئذ يستحق عون الله وتوفيقه الذي أوجبه سبحانه على نفسه بإرادته ومشيئته .

والذي بدونه لا يكون شيء ، ولا يقدر الإنسان على شيء .
ومن يسره الله لليسرى فقد وصل . . وصل في سر وفي رفق وفي هوادة . . وصل وهو بعد في هذه الأرض . وعاش في يسر . يفيض اليسر من نفسه على كل ما حوله وعلى كل من حوله . اليسر في خطوه . واليسر في طريقه . واليسر في تناوله للأمور كلها . والتوفيق الهادئ المطمئن في كلياتها وجزئياتها . وهي درجة تتضمن كل شيء في طياتها . حيث تسلك صاحبها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في وعد ربه له : { ونيسرك لليسرى } . .
{ وأما من بخل واستغنى . وكذب بالحسنى . . فسنيسره للعسرى . وما يغني عنه ماله إذا تردى } . .
والذي يبخل بنفسه وماله ، ويستغني عن ربه وهداه ، ويكذب بدعوته ودينه . . يبلغ أقصى ما يبلغه إنسان بنفسه من تعريضها للفساد . ويستحق أن يعسر الله عليه كل شيء ، فييسره للعسرى ويوفقه إلى كل وعورة ويحرمه كل تيسير ويجعل في كل خطوة من خطاه مشقة وحرجاً ، ينحرف به عن طريق الرشاد . ويصعد به في طريق الشقاوة . وإن حسب أنه سائر في طريق الفلاح . وإنما هو يعثر فيتقي العثار بعثرة أخرى تبعده عن طريق الله ، وتنأى به عن رضاه . . فإذا تردى وسقط في نهاية العثرات والانحرافات لم يغن عنه ماله الذي بخل به ، والذي استغنى به كذلك عن الله وهداه . . { وما يغني عنه ماله إذا تردى } . . والتيسير للشر والمعصية من التيسير للعسرى ، وإن أفلح صاحبها في هذه الأرض ونجا . . وهل أعسر من جهنم؟ وإنها لهي العسرى .
هكذا ينتهي المقطع الأول في السورة . وقد تبين طريقان ونهجان للجموع البشرية في كل زمان ومكان . وقد تبين أنهما حزبان ورايتان مهما تنوعت وتعددت الأشكال والألوان . وأن كل إنسان يفعل بنفسه ما يختار لها فييسر الله له طريقه : إما إلى اليسرى وإما إلى العسرى .
فأما المقطع الثاني فيتحدث عن مصير كل فريق . ويكشف عن نهاية المطاف لمن يسره لليسرى ، ومن يسره للعسرى . وقبل كل شيء يقرر أن ما يلاقيه كل فريق من عاقبة ومن جزاء هو عدل وحق ، كما أنه واقع وحتم . فقد بين الله للناس الهدى ، وأنذرهم ناراً تلظى :
{ إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى . فأنذرتكم ناراً تلظى ، لا يصلاهآ إلا الأشقى الذي كذب وتولى . وسيجنبها الأتقى ، الذى يؤتي ماله يتزكى ، وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ، ولسوف يرضى } . .
لقد كتب الله على نفسه فضلاً منه بعباده ورحمة أن يبين الهدى لفطرة الناس ووعيهم . وأن يبينه لهم كذلك بالرسل والرسلات والآيات ، فلا تكون هناك حجة لأحد ، ولا يكون هناك ظلم لأحد : { إن علينا للهدى } . .
واللمسة الثانية هي التقرير الجازم لحقيقة السيطرة التي تحيط بالناس ، فلا يجدون من دونها موئلاً : { وإن لنا للآخرة والأولى } .

. فأين يذهب من يريد أن يذهب عن الله بعيداً؟
وتفريعاً على أن الله كتب على نفسه بيان الهدى للعباد ، وأن له الآخرة والأولى داري الجزاء والعمل . تفريعاً على هذا يذكرهم أنه أنذرهم وحذرهم وبين لهم : { فأنذرتكم ناراً تلظى } . . وتتسعر . . هذه النار المتسعرة { لا يصلاها إلا الأشقى } . . أشقى العباد جميعاً . وهل بعد الصلي في النار شقوة؟ ثم يبين من هو الأشقى . إنه : { الذي كذب وتولى } . . كذب بالدعوة وتولى عنها . تولى عن الهدى وعن دعوة ربه له ليهديه كما وعد كل من يأتي إليه راغباً .
{ وسيجنبها الأتقى } . . وهو الأسعد في مقابل الأشقى . . ثم يبين من هو الأتقى : { الذي يؤتي ماله يتزكى } . . الذي ينفق ماله ليتطهر بإنفاقه ، لا ليرائي به ويستعلي . ينفقه تطوعاً لا رداً لجميل أحد ، ولا طلباً لشكران أحد ، وإنما ابتغاء وجه ربه خالصاً . . ربه الأعلى . .
{ وما لأحد عنده من نعمة تجزى . إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } . .
ثم ماذا؟ ماذا ينتظر هذا الأتقى ، الذي يؤتي ماله تطهراً ، وابتغاء وجه ربه الأعلى؟ إن الجزاء الذي يطالع القرآن به الأرواح المؤمنة هنا عجيب . ومفاجئ . وعلى غير المألوف .
{ ولسوف يرضى } .
إنه الرضى ينسكب في قلب هذا الأتقى . إنه الرضى يغمر روحه . إنه الرضى يفيض على جوارحه . إنه الرضى يشيع في كيانه . إنه الرضى يندي حياته . .
ويا له من جزاء ويا لها من نعمة كبرى
{ ولسوف يرضى } . . يرضى بدينه . ويرضى بربه . ويرضى بقدره . ويرضى بنصيبه . ويرضى بما يجد من سراء وضراء . ومن غنى وفقر . ومن يسر وعسر . ومن رخاء وشدة . يرضى فلا يقلق ولا يضيق ولا يستعجل ولا يستثقل العبء ، ولا يستبعد الغاية . . إن هذا الرضى جزاء جزاء أكبر من كل جزاء جزاء يستحقه من يبذل له نفسه وماله من يعطي ليتزكى . ومن يبذل ابتغاء وجه ربه الأعلى .
إنه جزاء لا يمنحه إلا الله . وهو يسكبه في القلوب التي تخلص له ، فلا ترى سواه أحداً .
{ ولسوف يرضى } . .
يرضى وقد بذل الثمن . وقد أعطى ما أعطى . .
إنها مفاجأة في موضعها هذا . ولكنها المفاجأة المرتقبة لمن يبلغ ما بلغه الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ، وما لأحد عنده من نعمة تجزى ، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى . .
{ ولسوف يرضى } . .

وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

هذه السورة بموضوعها ، وتعبيرها ، ومشاهدها ، وظلالها وإيقاعها ، لسمة من حنان ، ونسمة من رحمة . وطائف من ود . ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع ، وتنسم بالروْح والرضى والأمل . وتسكب البرد والطمأنينة واليقين .
إنها كلها خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم كلها نجاء له من ربه ، وتسرية وتسلية وترويح وتطمين . كلها أنسام من الرحمة وأنداء من الود ، وألطاف من القربى ، وهدهدة للروح المتعب ، والخاطر المقلق ، والقلب الموجوع .
ورد في روايات كثيرة أن الوحي فتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطأ عليه جبريل عليه وسلم فقال المشركون : ودع محمداً ربه فأنزل الله تعالى هذه السورة . .
والوحي ولقاء جبريل والاتصال بالله ، كانت هي زاد الرسول صلى الله عليه وسلم في مشقة الطريق . وسقياه في هجير الجحود . وروْحه في لأواء التكذيب . وكان صلى الله عليه وسلم يحيا بها في هذه الهاجرة المحرقة التي يعانيها في النفوس النافرة الشاردة العصية العنيدة . ويعانيها في المكر والكيد والأذى المصبوب على الدعوة ، على الإيمان ، وعلى الهدى من طغاة المشركين .
فلما فتر الوحي انقطع عنه الزاد ، وانحبس عنه الينبوع ، واستوحش قلبه من الحبيب . وبقي للهاجرة وحده . بلا زاد . وبلا ري . وبغير ما اعتاد من رائحة الحبيب الودود . وهو أمر أشد من الاحتمال من جميع الوجوه . .
عندئذ نزلت هذه السورة . نزل هذا الفيض من الود والحب والرحمة والإيناس والقربى والأمل والرضى والطمأنينة واليقين . .
{ ما ودعك ربك وما قلى . وللآخرة خير لك من الأولى . ولسوف يعطيك ربك فترضى } . .
وما تركك ربك من قبل أبداً ، وما قلاك من قبل قط ، وما أخلاك من رحمته ورعايته وإيوائه . .
{ ألم يجدك يتيماً فآوى؟ ووجدك ضالاً فهدى؟ ووجدك عائلاً فأغنى؟ } . .
ألا تجد مصداق هذا في حياتك؟ ألا تحس مسّ هذا في قلبك؟ ألا ترى أثر هذا في واقعك؟
لا . لا . . { ما ودعك ربك وما قلى } . . وما انقطع عنك بره وما ينقطع أبدا . . { وللآخرة خير لك من الأولى } . . وهناك ما هو أكثر وأوفى : { ولسوف يعطيك ربك فترضى }
ومع هذه الأنسام اللطيفة من حقيقة الأمر وروحه . . الأنسام اللطيفة في العبارة والإيقاع . . وفي الإطار الكوني الذي وضعت فيه هذه الحقيقة :
{ والضحى . والليل إذا سجى } . .
« لقد أطلق التعبير جواً من الحنان اللطيف ، والرحمة الوديعة ، والرضى الشامل ، والشجى الشفيف » :
{ ما ودعك ربك وما قلى . وللآخرة خير لك من الأولى . ولسوف يعطيك ربك فترضى } . . { ألم يجدك يتيماً فآوى؟ ووجدك ضالاً فهدى؟ ووجدك عائلاً فأغنى؟ } . . ذلك الحنان . وتلك الرحمة . وذاك الرضى . وهذا الشجى : تنسرب كلها من خلال النظم اللطيف العبارة ، الرقيق اللفظ ، ومن هذه الموسيقى السارية في التعبير .

الموسيقى الرتيبة الحركات ، الوئيدة الخطوات ، الرقيقة الأصداء ، الشجية الإيقاع . . فلما أراد إطاراً لهذا الحنان اللطيف ، ولهذه الرحمة الوديعة ، ولهذا الرضى الشامل ، ولهذا الشجى الشفيف ، جعل الإطار من الضحى الرائق ، ومن الليل الساجي . أصفى آنين من آونة الليل والنهار . وأشف آنين تسري فيهما التأملات . وتتصل الروح بالوجود وخالق الوجود . وتحس بعبادة الكون كله لمبدعه ، وتوجهه لبارئه بالتسبيح والفرح والصفاء . وصوّرهما في اللفظ المناسب . فالليل هو { الليل إذا سجى } ، لا الليل على إطلاقه بوحشته وظلامه . الليل الساجي الذي يرق ويسكن ويصفو ، وتغشاه سحابة رقيقة من الشجى الشفيف ، والتأمل الوديع . كجو اليتم والعيلة . ثم ينكشف ويجلي مع الضحى الرائق الصافي . . فتلتئم ألوان الصورة مع ألوان الإطار . ويتم التناسق والاتساق « .
إن هذا الإبداع في كمال ليدل على الصنعة . صنعة الله التي لا تماثلها صنعة ، ولا يتلبس بها تقليد
{ والضحى . والليل إذا سجى . ما ودعك ربك . وما قلى . وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى } . .
يقسم الله سبحانه بهذين الآنين الرائقين الموحيين . فيربط بين ظواهر الكون ومشاعر النفس . ويوحي إلى القلب البشري بالحياة الشاعرة المتجاوبة مع هذا الوجود الجميل الحي ، المتعاطف مع كل حي . فيعيش ذلك القلب في أنس من هذا الوجود ، غير موحش ولا غريب فيه فريد . . وفي هذه السورة بالذات يكون لهذا الأنس وقعه . فظل الأنس هو المراد مده . وكأنما يوحي الله لرسوله صلى الله عليه وسلم منذ مطلع السورة ، أن ربه أفاض من حوله الأنس في هذا الوجود ، وأنه من ثم غير مجفوّ فيه ولا فريد
وبعد هذا الإيحاء الكوني يجيء التوكيد المباشر : { ما ودعك ربك وما قلى } . . ما تركك ربك ولا جفاك كما زعم من يريدون إيذاء روحك وإيجاع قلبك وإقلاق خاطرك . . وهو { ربك } وأنت عبده المنسوب إليه ، المضاف إلى ربوبيته ، وهو راعيك وكافلك . .
وما غاض معين فضله وفيض عطائه . فإن لك عنده في الآخرة من الحسنى خيراً مما يعطيك منها في الدنيا : { وللآخرة خير لك من الأولى } . . فهو الخير أولاً وأخيراً . .
وإنه ليدخر لك ما يرضيك من التوفيق في دعوتك ، وإزاحة العقبات من طريقك ، وغلبة منهجك ، وظهور حقك . . وهي الأمور التي كانت تشغل باله صلى الله عليه وسلم وهو يواجه العناد والتكذيب والأذى والكيد . . والشماتة . . { ولسوف يعطيك ربك فترضى } . .
ويمضي سياق السورة يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان من شأن ربه معه منذ أول الطريق . ليستحضر في خاطره جميل صنع ربه به ، ومودته له ، وفيضه عليه ، ويستمتع باستعادة مواقع الرحمة والود والإيناس الإلهي . وهو متاع فائق تحييه الذكرى على هذا النحو البديع :
{ ألم يجدك يتيماً فآوى؟ ووجدك ضالاً فهدى . ووجدك عائلاً فأغنى؟ } .

.
انظر في واقع حالك ، وماضي حياتك . . هل ودعك ربك وهل قلاك حتى قبل أن يعهد إليك بهذا الأمر؟ ألم تحط يتمك رعايته؟ ألم تدرك حيرتك هدايته؟ ألم يغمر فقرك عطاؤه؟
لقد ولدت يتيماً فآواك إليه ، وعطف عليك القلوب حتى قلوب عمك أبي طالب وهو على غير دينك
ولقد كنت فقيراً فأغنى الله نفسك بالقناعة ، كما أغناك بكسبك ومال أهل بيتك ( خديجة رضي الله عنها ) عن أن تحس الفقر ، أو تتطلع إلى ما حولك من ثراء
ثم لقد نشأت في جاهلية مضطربة التصورات والعقائد ، منحرفة السلوك والأوضاع ، فلم تطمئن روحك إليها . ولكنك لم تكن تجد لك طريقاً واضحاً مطمئناً . لا فيما عند الجاهلية ولا فيما عند أتباع موسى وعيسى الذين حرفوا وبدلوا وانحرفوا وتاهوا . . ثم هداك الله بالأمر الذي أوحى به إليك ، وبالمنهج الذي يصلك به .
والهداية من حيرة العقيدة وضلال الشعاب فيها هي المنة الكبرى ، التي لا تعدلها منة؛ وهي الراحة والطمأنينة من القلق الذي لا يعدله قلق؛ ومن التعب الذي لا يعدله تعب ، ولعلها كانت بسبب مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعانيه في هذه الفترة ، من انقطاع الوحي وشماتة المشركين ووحشة الحبيب من الحبيب . فجاءت هذه تذكره وتطمئنه على أن ربه لن يتركه بلا وحي في التيه وهو لم يتركه من قبل في الحيرة والتيه
وبمناسبة ما ذكره ربه بإيوائه من اليتم ، وهدايته من الحيرة وإغنائه من العيلة . . يوجهه ويوجه المسلمين من ورائه إلى رعاية كل يتيم ، وإلى كفاية كل سائل ، وإلى التحدث بنعمة الله الكبرى عليه ، وفي أولها : الهداية إلى هذا الدين :
{ فأما اليتيم فلا تقهر . وأما السائل فلا تنهر . وأما بنعمة ربك فحدث } . .
وهذه التوجيهات إلى إكرام اليتيم والنهي عن قهره وكسر خاطره وإذلاله ، وإلى إغناء السائل مع الرفق به والكرامة ، كانت كما ذكرنا مراراً من أهم إيحاءات الواقع في البيئة الجاحدة المتكالبة ، التي لا ترعى حق ضعيف ، غير قادر على حماية حقه بسيفه حيث رفع الإسلام هذه البيئة بشرعة الله إلى الحق والعدل ، والتحرج والتقوى ، والوقوف عند حدود الله ، الذي يحرس حدوده ويغار عليها ويغضب للاعتداء على حقوق عباده الضعاف الذين لا يملكون قوة ولا سيفا يذودون به عن هذه الحقوق .
وأما التحدث بنعمة الله وبخاصة نعمة الهدى والإيمان فهو صورة من صور الشكر للمنعم . يكملها البر بعباده ، وهو المظهر العملي للشكر ، والحديث الصامت النافع الكريم . .

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

نزلت هذه السورة بعد سورة الضحى . وكأنها تكملة لها . فيها ظل العطف الندي . وفيها روح المناجاة الحبيب . وفيها استحضار مظاهر العناية . واستعراض مواقع الرعاية . وفيها البشرى باليسر والفرج . وفيها التوجيه إلى سر اليسر وحبل الاتصال الوثيق . .
{ ألم نشرح لك صدرك؟ ووضعنا عنك وزرك . الذي أنقض ظهرك؟ ورفعنا لك ذكرك؟ }
وهي توحي بأن هناك ضائقة كانت في روح الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر من أمور هذه الدعوة التي كلفها ، ومن العقبات الوعرة في طريقها؛ ومن الكيد والمكر المضروب حولها . . توحي بأن صدره صلى الله عليه وسلم كان مثقلاً بهموم هذه الدعوة الثقيلة ، وأنه كان يحس العبء فادحاً على كاهله . وأنه كان في حاجة إلى عون وزاد ورصيد . .
ثم كانت هذه المناجاة الحلوة ، وهذا الحديث الودود
{ ألم نشرح لك صدرك؟ } . . ألم نشرح صدرك لهذه الدعوة؟ ونيسر لك أمرها؟ . ونجعلها حبيبة لقلبك ، ونشرع لك طريقها؟ وننر لك الطريق حتى ترى نهايته السعيدة
فتش في صدرك ألا تجد فيه الروْح والانشراح والإشراق والنور؟ واستعد في حسك مذاق هذا العطاء ، وقل : ألا تجد معه المتاع مع كل مشقة والراحة مع كل تعب ، واليسر مع كل عسر ، والرضى مع كل حرمان؟
{ ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك } . . ووضعنا عنك عبئك الذي أثقل ظهرك حتى كاد يحطمه من ثقله . . وضعناه عنك بشرح صدرك له فخف وهان . وبتوفيقك وتيسيرك للدعوة ومداخل القلوب . . وبالوحي الذي يكشف لك عن الحقيقة ويعينك على التسلل بها إلى النفوس في يسر وهوادة ولين .
ألا تجد ذلك العبء الذي أنقض ظهرك؟ ألا تجد عبئك خفيفاً بعد أن شرحنا لك صدرك؟
{ ورفعنا لك ذكرك } . . رفعناه في الملأ الأعلى ، ورفعناه في الأرض ، ورفعناه في هذا الوجود جميعاً . . رفعناه فجعلنا اسمك مقروناً باسم الله كلما تحركت به الشفاه :
« لا إله إلا الله . محمد رسول الله » . . وليس بعد هذا رفع ، وليس وراء هذا منزلة . وهو المقام الذي تفرد به صلى الله عليه وسلم دون سائر العالمين . .
ورفعنا لك ذكرك في اللوح المحفوظ ، حين قدر الله أن تمر القرون ، وتكر الأجيال ، وملايين الشفاه في كل مكان تهتف بهذا الاسم الكريم ، مع الصلاة والتسليم ، والحب العميق العظيم .
ورفعنا لك ذكرك . وقد ارتبط بهذا المنهج الإلهي الرفيع . وكان مجرد الاختيار لهذا الأمر رفعة ذكر لم ينلها أحد من قبل ولا من بعد في هذا الوجود . .
فأين تقع المشقة والتعب والضنى من هذا العطاء الذي يمسح على كل مشقة وكل عناء؟
ومع هذا فإن الله يتلطف مع حبيبه المختار ، ويسري عنه ، ويؤنسه ، ويطمئنه ويطلعه على اليسر الذي لا يفارقه :
{ فإن مع العسر يسرا .

إن مع العسر يسرا } . .
إن العسر لا يخلو من يسر يصاحبه ويلازمه . وقد لازمه معك فعلاً . فحينما ثقل العبء شرحنا لك صدرك ، فخف حملك ، الذي أنقض ظهرك . وكان اليسر مصاحباً للعسر ، يرفع إصره ، ويضع ثقله .
وإنه لأمر مؤكد يكرره بألفاظه : { فإن مع العسر يسرا . إن مع العسر يسرا } . . وهذا التكرار يشي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في عسرة وضيق ومشقة ، اقتضت هذه الملاحظة ، وهذا التذكير ، وهذا الاستحضار لمظاهر العناية ، وهذا الاستعراض لمواقع الرعاية ، وهذا التوكيد بكل ضروب التوكيد . . والأمر الذي يثقل على نفس محمد هكذا لا بد أنه كان أمراً عظيماً . .
ثم يجيء التوجيه الكريم لمواقع التيسير ، وأسباب الانشراح ، ومستودع الري والزاد في الطريق الشاق الطويل :
{ فإذا فرغت فانصب . وإلى ربك فارغب } . .
إن مع العسر يسرا . . فخذ في أسباب اليسر والتيسير . فإذا فرغت من شغلك مع الناس ومع الأرض ، ومع شواغل الحياة . . إذا فرغت من هذا كله فتوجه بقلبك كله إذن إلى ما يستحق أن تنصب فيه وتكد وتجهد . . العبادة والتجرد والتطلع والتوجه . . { وإلى ربك فارغب } . . إلى ربك وحده خالياً من كل شيء حتى من أمر الناس الذين تشتغل بدعوتهم . . إنه لا بد من الزاد للطريق . وهنا الزاد . ولا بد من العدة للجهاد . وهنا العدة . . وهنا ستجد يسرا مع كل عسر ، وفرجاً مع كل ضيق . . هذا هو الطريق
وتنتهي هذه السورة كما انتهت سورة الضحى ، وقد تركت في النفس شعورين ممتزجين : الشعور بعظمة الود الحبيب الجليل الذي ينسم على روح الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه الودود الرحيم . والشعور بالعطف على شخصه صلى الله عليه وسلم ونحن نكاد نلمس ما كان يساور قلبه الكريم في هذه الآونة التي اقتضت ذلك الود الجميل .
إنها الدعوة . هذه الأمانة الثقيلة وهذا العبء الذي ينقض الظهر . وهي مع هذا وهذا مشرق النور الإلهي ومهبطه ، ووصلة الفناء بالبقاء ، والعدم بالوجود

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)

الحقيقة الرئيسية التي تعرضها هذه السورة هي حقيقة الفطرة القويمة التي فطر الله الإنسان عليها ، واستقامة طبيعتها مع طبيعة الإيمان ، والوصول بها معه إلى كمالها المقدور لها . وهبوط الإنسان وسفوله حين ينحرف عن سواء الفطرة واستقامة الإيمان .
ويقسم الله سبحانه على هذه الحقيقة بالتين والزيتون ، وطور سينين ، وهذا البلد الأمين ، وهذا القسم على ما عهدنا في كثير من سور هذا الجزء هو الإطار الذي تعرض فيه تلك الحقيقة . وقد رأينا في السور المماثلة أن الإطار يتناسق مع الحقيقة التي تعرض فيه تناسقاً دقيقاً .
وطور سينين هو الطور الذي نودي موسى عليه السلام من جانبه . والبلد الأمين هو مكة بيت الله الحرام . . وعلاقتهما بأمر الدين والإيمان واضحة . . فأما التين والزيتون فلا يتضح فيهما هذا الظل فيما يبدو لنا .
وقد كثرت الأقوال المأثورة في التين والزيتون . . قيل : إن التين إشارة إلى طورتينا بجوار دمشق .
وقيل : هو إشارة إلى شجرة التين التي راح آدم وزوجه يخصفان من ورقها على سوآتهما في الجنة التي كانا فيها قبل هبوطهما إلى هذه الحياة الدنيا . وقيل : هو منبت التين في الجبل الذي استوت عليه سفينة نوح عليه السلام .
وقيل في الزيتون : إنه إشارة إلى طورزيتا في بيت المقدس . وقيل : هو إشارة إلى بيت المقدس نفسه . وقيل : هو إشارة إلى غصن الزيتون الذي عادت به الحمامة التي أطلقها نوح عليه السلام من السفينة لترتاد حالة الطوفان . فلما عادت ومعها هذا الغصن عرف أن الأرض انكشفت وأنبتت
وقيل : بل التين والزيتون هما هذان الأكلان اللذان نعرفهما بحقيقتهما . وليس هناك رمز لشيء وراءهما . . أو أنهما هما رمز لمنبتهما من الأرض . .
وشجرة الزيتون أشير إليها في القرآن في موضع آخر بجوار الطور : فقال : { وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين } كما ورد ذكر الزيتون : { وزيتوناً ونخلاً } فأما « التين » فذكره يرد في هذا الموضع لأول مرة وللمرة الوحيدة في القرآن كله .
ومن ثم فإننا لا نملك أن نجزم بشيء في هذا الأمر . وكل ما نملك أن نقوله اعتماداً على نظائر هذا الإطار في السور القرآنية : إن الأقرب أن يكون ذكر التين والزيتون إشارة إلى أماكن أو ذكريات ذات علاقة بالدين والإيمان . أو ذات علاقة بنشأة الإنسان في أحسن تقويم ( وربما كان ذلك في الجنة التي بدأ فيها حياته ) . . كي تلتئم هذه الإشارة مع الحقيقة الرئيسية البارزة في السورة؛ ويتناسق الإطار مع الحقيقة الموضوعة في داخله . على طريقة القرآن . . .
فأما الحقيقة الداخلية في السورة فهي هذه : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم . ثم رددناه أسفل سافلين .

إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون } . .
ومنها تبدو عناية الله بخلق هذا الإنسان ابتداء في أحسن تقويم . والله سبحانه أحسن كل شيء خلقه . فتخصيص الإنسان هنا وفي مواضع قرآنية أخرى بحسن التركيب ، وحسن التقويم ، وحسن التعديل . . فيه فضل عناية بهذا المخلوق .
وإن عناية الله بأمر هذا المخلوق على ما به من ضعف وعلى ما يقع منه من انحراف عن الفطرة وفساد لتشير إلى أن له شأناً عند الله ، ووزناً في نظام هذا الوجود . وتتجلى هذه العناية في خلقه وتركيبه على هذا النحو الفائق ، سواء في تكوينه الجثماني البالغ الدقة والتعقيد ، أم في تكوينه العقلي الفريد ، أم في تكوينه الروحي العجيب .
والتركيز في هذا المقام على خصائصه الروحية . فهي التي تنتكس إلى أسفل سافلين حين ينحرف عن الفطرة ويحيد عن الإيمان المستقيم معها . إذ إنه من الواضح أن خلقته البدنية لا تنتكس إلى أسفل سافلين .
وفي هذه الخصائص الروحية يتجلى تفوق التكوين الإنساني . فهو مهيأ لأن يبلغ من الرفعة مدى يفوق مقام الملائكة المقربين . كما تشهد بذلك قصة المعراج . . حيث وقف جبريل عليه السلام عند مقام ، وارتفع محمد بن عبد الله الإنسان إلى المقام الأسنى .
بينما هذا الإنسان مهيأ حين ينتكس لأن يهوي إلى الدرك الذي لا يبلغ إليه مخلوق قط : { ثم رددناه أسفل سافلين } . . حيث تصبح البهائم أرفع منه وأقوم ، لاستقامتها على فطرتها ، وإلهامها تسبيح ربها ، وأداء وظيفتها في الأرض على هدى . بينما هو المخلوق في أحسن تقويم ، يجحد ربه ، ويرتكس مع هواه ، إلى درك لا تملك البهيمة أن ترتكس إليه .
{ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } . . فطرة واستعداداً . . { ثم رددناه أسفل سافلين } . . حين ينحرف بهذه الفطرة عن الخط الذي هداه الله إليه ، وبينه له ، وتركه ليختار أحد النجدين .
{ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } . . فهؤلاء هم الذين يبقون على سواء الفطرة ، ويكملونها بالإيمان والعمل الصالح ، ويرتقون بها إلى الكمال المقدر لها ، حتى ينتهوا بها إلى حياة الكمال في دار الكمال . { فلهم أجر غير ممنون } دائم غير مقطوع .
فأما الذين يرتكسون بفطرتهم إلى أسفل سافلين ، فيظلون ينحدرون بها في المنحدر ، حتى تستقر في الدرك الأسفل . هناك في جهنم ، حيث تهدر آدميتهم ، ويتمحضون للسفول
فهذه وتلك نهايتان طبيعيتان لنقطة البدء . . إما استقامة على الفطرة القويمة . وتكميل لها بالإيمان ، ورفع لها بالعمل الصالح . . فهي واصلة في النهاية إلى كمالها المقدر في حياة النعيم . . وإما انحراف عن الفطرة القويمة ، واندفاع مع النكسة ، وانقطاع عن النفخة الإلهية . . فهي واصلة في النهاية إلى دركها المقرر في حياة الجحيم .
ومن ثم تتجلى قيمة الإيمان في حياة الإنسان . . إنه المرتقى الذي تصل فيه الفطرة القويمة إلى غاية كمالها .

إنه الحبل الممدود بين الفطرة وبارئها . إنه النور الذي يكشف لها مواقع خطاها في المرتقى الصاعد إلى حياة الخالدين المكرمين .
وحين ينقطع هذا الحبل ، وحين ينطفئ هذا النور ، فالنتيجة الحتمية هي الارتكاس في المنحدر الهابط إلى أسفل سافلين ، والانتهاء إلى إهدار الآدمية كلية ، حين يتمحض الطين في الكائن البشري ، فإذا هو وقود النار مع الحجارة سواء بسواء
وفي ظل هذه الحقيقة ينادى « الإنسان » :
{ فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين؟ } . .
فما يكذبك بالدين بعد هذه الحقيقة؟ وبعد إدراك قيمة الإيمان في حياة البشرية؟ وبعد تبين مصير الذين لا يؤمنون ، ولا يهتدون بهذا النور ، ولا يمسكون بحبل الله المتين؟
{ أليس الله بأحكم الحاكمين؟ } . . أليس الله بأعدل العادلين حين يحكم في أمر الخلق على هذا النحو؟ أو . . أليست حكمة الله بالغة في هذا الحكم على المؤمنين وغير المؤمنين؟
والعدل واضح . والحكمة بارزة . . ومن ثم ورد في الحديث المرفوع عن أبي هريرة : « فإذا قرأ أحدكم { والتين والزيتون } فأتى آخرها : { أليس الله بأحكم الحاكمين؟ } . . فليقل . . بلى وأنا على ذلك من الشاهدين » . .

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)

مطلع هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن باتفاق . والروايات التي تذكر نزول غيرها ابتداء ليست وثيقة . قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر بن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت :
« أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ثم حبب إليه الخلاء . وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد ، قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود إلى ذلك . ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها . حتى جاءه الحق وهو في غار حراء . فجاءه الملك ، فقال : » اقرأ . قال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد . ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثالثة ، ثم قال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم } « . فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره ، حتى دخل على خديجة ، فقال » زملوني زملوني « فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال : يا خديجة مالي؟ وأخبرها الخبر . وقال : » قد خشيت على نفسي « فقالت له : كلا . أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً . إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها . وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية . كان يكتب الكتاب العربي ، وكتب العبرانية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً قد عمي . فقالت خديجة : أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال ورقة : ابن أخي ، ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى . فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى . ليتني فيها جذع ، ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أو مخرجي هم؟ « فقال ورقة : نعم . لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عُودِيَ ، وإن أدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً . ثم لم ينشب ورقة أن توفي . . الخ » . وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري . .
وروى الطبري بإسناده عن عبد الله بن الزبير . قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب . فقال : اقرأ . فقلت : ما أقرأ . فغتني حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ماذا أقرأ؟ وما أقول ذلك إلا افتداء من أن يعود إليّ بمثل ما صنع بي . قال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق . . إلى قوله : علم الإنسان ما لم يعلم } قال : فقرأته . ثم انتهى ، ثم انصرف عني . وهببت من نومي ، وكأنما كتب في قلبي كتاباً . قال : ولم يكن من خلق الله أبغض علي من شاعر أو مجنون . كنت لا أطيق أن أنظر إليهما ، قال : قلت : إن الأبعد يعني نفسه لشاعر أو مجنون لا تحدث بها عني قريش أبداً لأعمدنَّ إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن قال : فخرجت أريد ذلك . حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول : يا محمد . أنت رسول الله وأنا جبريل . قال فرفعت رأسي إلى السماء ، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل . قال : فوقفت أنظر إليه ، وشغلني ذلك عما أردت ، فما أتقدم وما أتأخر ، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء ، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك . فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي ، ولا أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني . ثم انصرف عني وانصرفت راجعاً إلى أهلي . . » .
وقد رواه ابن إسحاق مطولاً عن وهب بن كيسان عن عبيد أيضاً . .
وقفت هنا أمام هذا الحادث الذي طالما قرأناه في كتب السيرة وفي كتب التفسير ، ثم مررنا به وتركناه ، أو تلبثنا عنده قليلاً ثم جاوزناه
إنه حادث ضخم . ضخم جداً . ضخم إلى غير حد . ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته ، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا
إنه حادث ضخم بحقيقته . وضخم بدلالته . وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعاً . . وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد بغير مبالغة هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل .
ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة؟
حقيقته أن الله جل جلاله ، العظيم الجبار القهار المتكبر ، مالك الملك كله ، قد تكرم في عليائه فالتفت إلى هذه الخليقة المسماة بالإنسان ، القابعة في ركن من أركان الكون لا يكاد يرى اسمه الأرض . وكرّم هذه الخليقة باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي ، ومستودع حكمته ، ومهبط كلماته ، وممثل قدره الذي يريده سبحانه بهذه الخليقة .
وهذه حقيقة كبيرة . كبيرة إلى غير حد . تتكشف جوانب من عظمتها حين يتصور الإنسان قدر طاقته حقيقة الألوهية المطلقة الأزلية الباقية .

ويتصور في ظلها حقيقة العبودية المحدودة الحادثة الفانية . ثم يستشعر وقع هذه العناية الربانية بهذا المخلوق الإنساني؛ ويتذوق حلاوة هذا الشعور؛ ويتلقاه بالخشوع والشكر والفرح والابتهال . . وهو يتصور كلمات الله ، تتجاوب بها جنبات الوجود كله ، منزّلة لهذا الإنسان في ذلك الركن المنزوي من أركان الوجود الضئيلة
وما دلالة هذا الحادث؟
دلالته في جانب الله سبحانه أنه ذو الفضل الواسع ، والرحمة السابغة ، الكريم الودود المنان . يفيض من عطائه ورحمته بلا سبب ولا علة ، سوى أن الفيض والعطاء بعض صفاته الذاتية الكريمة .
ودلالته في جانب الإنسان أن الله سبحانه قد أكرمه كرامة لا يكاد يتصورها ، ولا يملك أن يشكرها . وأن هذه وحدها لا ينهض لها شكره ولو قضى عمره راكعاً ساجداً . . هذه . . أن يذكره الله ، ويلتفت إليه ، ويصله به ، ويختار من جنسه رسولاً يوحي إليه بكلماته . وأن تصبح الأرض . . مسكنه . . مهبطاً لهذه الكلمات التي تتجاوب بها جنبات الوجود في خشوع وابتهال .
فأما آثار هذا الحادث الهائل في حياة البشرية كلها فقد بدأت منذ اللحظة الأولى . بدأت في تحويل خط التاريخ ، منذ أن بدأت في تحويل خط الضمير الإنساني . . منذ أن تحددت الجهة التي يتطلع إليها الإنسان ويتلقى عنها تصوراته وقيمه وموازينه . . إنها ليست الأرض وليس الهوى . . إنما هي السماء والوحي الإلهي .
ومنذ هذه اللحظة عاش أهل الأرض الذين استقرت في أرواحهم هذه الحقيقة . . في كنف الله ورعايته المباشرة الظاهرة . عاشوا يتطلعون إلى الله مباشرة في كل أمرهم . كبيره وصغيره . يحسون ويتحركون تحت عين الله . ويتوقعون أن تمتد يده سبحانه فتنقل خطاهم في الطريق خطوة خطوة . تردهم عن الخطأ وتقودهم إلى الصواب . . وفي كل ليلة كانوا يبيتون في ارتقاب أن يتنزل عليهم من الله وحي يحدثهم بما في نفوسهم ، ويفصل في مشكلاتهم ، ويقول لهم : خذوا هذا ودعوا ذاك
ولقد كانت فترة عجيبة حقاً . فترة الثلاثة والعشرين عاماً التالية ، التي استمرت فيها هذه الصلة الظاهرة المباشرة بين البشر والملأ الأعلى . فترة لا يتصور حقيقتها إلا الذين عاشوها . وأحسوها . وشهدوا بدأها ونهايتها . وذاقوا حلاوة هذا الاتصال . وأحسوا يد الله تنقل خطاهم في الطريق . ورأوا من أين بدأوا وإلى أين انتهوا . . وهي مسافة هائلة لا تقاس بأي مقياس من مقاييس الأرض . مسافة في الضمير لا تعدلها مسافة في الكون الظاهر ، ولا يماثلها بعد بين الأجرام والعوالم المسافة بين التلقي من الأرض والتلقي من السماء . بين الاستمداد من الهوى والاستمداد من الوحي . بين الجاهلية والإسلام . بين البشرية والربانية ، وهي أبعد مما بين الأرض والسماء في عالم الأجرام
وكانوا يعرفون مذاقها . ويدركون حلاوتها . ويشعرون بقيمتها ، ويحسون وقع فقدانها حينما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وانقطعت هذه الفترة العجيبة التي لا يكاد العقل يتصورها لولا أنها وقعت حقاً .

عن أنس رضي الله عنه قال : قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها . فلما أتيا إليها بكت . فقالا لها : ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : بلى ، إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء . فهيجتهما على البكاء ، فجعلا يبكيان معها . . . ( أخرجه مسلم ) . .
ولقد ظلت آثار هذه الفترة تعمل في حياة البشر منذ تلك اللحظة إلى هذه اللحظة ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
لقد ولد الإنسان من جديد باستمداد قيمه من السماء لا من الأرض ، واستمداد شريعته من الوحي لا من الهوى .
لقد تحول خط التاريخ كما لم يتحول من قبل قط ، وكما لم يتحول من بعد أيضاً . وكان هذا الحدث هو مفرق الطريق . وقامت المعالم في الأرض واضحة عالية لا يطمسها الزمان ، ولا تطمسها الأحداث . وقام في الضمير الإنساني تصور للوجود وللحياة وللقيم لم يسبق أن اتضح بمثل هذه الصورة . ولم يجيء بعده تصور في مثل شموله ونصاعته وطلاقته من اعتبارات الأرض جميعاً ، مع واقعيته وملاءمته للحياة الإنسانية . ولقد استقرت قواعد هذا المنهج الإلهي في الأرض وتبينت خطوطه ومعالمه . { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة } لا غموض ولا إبهام . إنما هو الضلال عن علم ، والانحراف عن عمد ، والالتواء عن قصد
إنه الحادث الفذ في تلك اللحظة الفريدة . الحادث الكوني الذي ابتدأ به عهد في هذه الأرض وانتهى عهد . والذي كان فرقاناً في تاريخ البشر لا في تاريخ أمة ولا جيل ، والذي سجلته جنبات الوجود كله وهي تتجاوب به ، وسجله الضمير الإنساني . وبقي أن يتلفت هذا الضمير اليوم على تلك الذكرى العظيمة ولا ينساها . وأن يذكر دائماً أنه ميلاد جديد للإنسانية لم يشهده إلا مرة واحدة في الزمان . .
ذلك شأن المقطع الأول من السورة . فأما بقيتها فواضح أنها نزلت فيما بعد . فهي تشير إلى مواقف وحوادث في السيرة لم تجيء إلا متأخرة ، بعد تكليف الرسول صلى الله عليه وسلم إبلاغ الدعوة ، والجهر بالعبادة ، وقيام المشركين بالمعارضة . وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في السورة : { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى؟ } . . الخ
ولكن هناك تناسقاً كاملاً بين أجزاء السورة ، وتسلسلاً في ترتيب الحقائق التي تضمنتها بعد هذا المطلع المتقدم .

يجعل من السورة كلها وحدة منسقة متماسكة . .
{ اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم } . .
إنها السورة الأولى من هذا القرآن ، فهي تبدأ باسم الله . وتوجه الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما توجه ، في أول لحظة من لحظات اتصاله بالملأ الأعلى ، وفي أول خطوة من خطواته في طريق الدعوة التي اختير لها . . توجهه إلى أن يقرأ باسم الله : { اقرأ باسم ربك } . .
وتبدأ من صفات الرب بالصفة التي بها الخلق والبدء : { الذي خلق } .
ثم تخصص : خلق الإنسان ومبدأه : { خلق الإنسان من علق } . . من تلك النقطة الدموية الجامدة العالقة بالرحم . من ذلك المنشأ الصغير الساذج التكوين . فتدل على كرم الخالق فوق ما تدل على قدرته . فمن كرمه رفع هذا العلق إلى درجة الإنسان الذي يُعلم فيتعلم : { اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم } . .
وإنها لنقلة بعيدة جداً بين المنشأ والمصير . ولكن الله قادر . ولكن الله كريم . ومن ثم كانت هذه النقلة التي تدير الرؤوس
وإلى جانب هذه الحقيقة تبرز حقيقة التعليم . . تعليم الرب للإنسان { بالقلم } . . لأن القلم كان وما يزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثراً في حياة الإنسان . . ولم تكن هذه الحقيقة إذ ذاك بهذا الوضوح الذي نلمسه الآن ونعرفه في حياة البشرية . ولكن الله سبحانه كان يعلم قيمة القلم ، فيشير إليه هذه الإشارة في أول لحظة من لحظات الرسالة الأخيرة للبشرية . في أول سورة من سور القرآن الكريم . . هذا مع أن الرسول الذي جاء بها لم يكن كاتباً بالقلم ، وما كان ليبرز هذه الحقيقة منذ اللحظة الأولى لو كان هو الذي يقول هذا القرآن . لولا أنه الوحي ، ولولا أنها الرسالة
ثم تبرز مصدر التعليم . . إن مصدره هو الله . منه يستمد الإنسان كل ما علم ، وكل ما يعلم . وكل ما يفتح له من أسرار هذا الوجود ، ومن أسرار هذه الحياة ، ومن أسرار نفسه . فهو من هناك . من ذلك المصدر الواحد ، الذي ليس هناك سواه .
وبهذا المقطع الواحد الذي نزل في اللحظة الأولى من اتصال الرسول صلى الله عليه وسلم بالملأ الأعلى ، بهذا المقطع وضعت قاعدة التصور الإيماني العريضة . .
كل أمر . كل حركة . كل خطوة . كل عمل . باسم الله . وعلى اسم الله . باسم الله تبدأ . وباسم الله تسير . وإلى الله تتجه ، وإليه تصير .
والله هو الذي خلق . وهو الذي علم . فمنه البدء والنشأة ، ومنه التعليم والمعرفة . . والإنسان يتعلم ما يتعلم ، ويعلم ما يعلم . . فمصدر هذا كله هو الله الذي خلق والذي علم . . { علم الإنسان ما لم يعلم } . .
وهذه الحقيقة القرأنية الأولى ، التي تلقاها قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللحظة الأولى هي التي ظلت تصرف شعوره ، وتصرف لسانه ، وتصرف عمله واتجاهه ، بعد ذلك طوال حياته .

بوصفها قاعدة الإيمان الأولى .
قال الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية في كتابه : « زاد المعاد في هدي خير العباد » يلخص هدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذكر الله :
كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق ذكراً لله عز وجل . بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه . وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكراً منه لله ، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكراً منه له ، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتحميده وتسبيحه ذكراً منه له ، وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكراً منه له . وسكوته وصمته ذكراً منه له بقلبه . فكان ذاكراً لله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله . وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائماً وقاعداً وعلى جنبه ، وفي مشيته وركوبه ، وسيره ونزوله ، وظعنه وإقامته .
وكان إذا استيقظ قال : « الحمد لله الذي أحياناً بعد ما أماتنا وإليه النشور . » وقالت عائشة كان إذا هب من الليل كبر عشراً ، وهلل عشراً ، ثم قال : « اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة عشراً ، ثم يستفتح الصلاة . وقالت أيضاً : كان إذا استيقظ من الليل قال : لا إله إلا أنت سبحانك . اللهم أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك . اللهم زدني علماً . ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة ، إنك أنت الوهاب » « ذكرها أبو داود » . وأخبر أن من استيقظ من الليل فقال : « لا إله إلا الله وحده ، لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهوعلى كل شيء قدير ، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » ثم قال : « اللهم أغفر لي » ، أو دعاء آخر استجيب له . فإن توضأ وصلى قبلت صلاته « ذكره البخاري » .
وقال ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم ليلة مبيته عنده : إنه لما استيقظ رفع رأسه للسماء ، وقال العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران . . { إن في خلق السماوات والأرض . . الخ } ثم قال . . « اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن . ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن . ولك الحمد أنت الحق ، ووعدك الحق ، وقولك الحق ، ولقاؤك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد حق ، والساعة حق ، اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت . أنت إلهي لا إله إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » .

وقد قالت عائشة رضي الله عنها كان إذا قام من الليل قال : « اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم » . وربما قالت : كان يفتتح صلاته بذلك .
وكان إذا أوتر ختم وتره بعد فراغه بقوله : « سبحان الله القدوس ( ثلاثاً ) » ويمد بالثالثة صوته .
وكان إذا خرج من بيته يقول : « بسم الله توكلت على الله ، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل ، أو أزل ، أو أظلم أو أُظلم ، أو أجهل ، أو يُجهل علي » ( حديث صحيح ) .
« قال صلى الله عليه وسلم : من قال إذا خرج من بيته بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له : هديت وكفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان » ( حديث حسن ) .
وقال ابن عباس عنه ليلة مبيته عنده : إنه خرج إلى صلاة الفجر وهو يقول : « اللهم اجعل في قلبي نوراً ، واجعل في لساني نوراً ، واجعل في سمعي نوراً ، واجعل في بصري نوراً ، واجعل من خلفي نوراً ، ومن أمامي نوراً ، واجعل من فوقي نوراً ، واجعل من تحتي نوراً . اللهم أعظم لي نوراً » .
وقال فضل بن مرزوق عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما خرج رجل من بيته إلى الصلاة فقال : اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ، وبحق ممشاي إليك ، فإني لم أخرج بطراً ولا أشراً ولا رياء ولا سمعة ، وإنما خرجت اتقاء سخطك ، وابتغاء مرضاتك ، أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . إلا وكل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له ، وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته » .
وذكر أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال « أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم ، من الشيطان الرجيم . فإذا قال ذلك قال الشيطان : حفظ مني سائر اليوم » .
وقال صلى الله عليه وسلم : « إذا دخل أحدكم المسجد فليصل وليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، فإذا خرج فليقل : اللهم إني أسألك من فضلك » . وذكر عنه أنه كان إذا دخل المسجد صلى على محمد وآله وسلم ، ثم يقول : « اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك » فإذا خرج صلى على محمد وآله وسلم ، ثم يقول : « اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي باب فضلك » .

وكان إذا صلى الصبح جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس يذكر الله عز وجل . وكان يقول إذا أصبح : « اللهم بك أصبحنا ، وبك أمسينا ، وبك نحيا ، وبك نموت ، وإليك النشور » ( حديث صحيح ) . وكان يقول : « أصبحنا وأصبح الملك لله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . رب أسألك خير ما في هذا اليوم وخير ما بعده ، وأعوذ بك من شر هذا اليوم ، وشر ما بعده؛ رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر ، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر . وإذا أمسى قال : أمسينا وأمسى الملك لله . . . الخ » ( ذكره مسلم ) . وقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت . قال : قل : « اللهم فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، رب كل شيء مليكه ومالكه . أشهد أن لا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه ، وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم . قال : قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك » ( حديث صحيح ) . « ثم ذكر أحاديث كثيرة في هذا الباب » .
. . وكان صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوباً سماه باسمه عمامة أو قميصاً أو رداء . ثم يقول : « اللهم لك الحمد ، أنت كسوتنيه ، أسألك خيره وخير ما صنع له ، أعوذ بك من شره وشر ما صنع له » . ( حديث صحيح ) .
ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا انقلب إلى بيته : « الحمد لله الذي كفاني وآواني ، والحمد لله الذي أطعمني وسقاني ، والحمد لله الذي منَّ علي . أسألك أن تجيرني من النار » .
وثبت عنه في الصحيحين أنه كان يقول عند دخول الخلاء : « اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث » .
وكان إذا خرج من الخلاء قال : « غفرانك » ويذكر عنه أنه كان يقول : « الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني » ( ذكره ابن ماجه ) .
وثبت عنه أنه وضع يده في الإناء الذي فيه الماء ، ثم قال للصحابه : « توضأوا باسم الله » .
ويذكر عنه أنه كان يقول « عند رؤية الهلال » : « اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، ربي وربك الله » ( قال الترمذي حديث حسن ) .
وكان إذا وضع يده في الطعام قال : « باسم الله » ويأمر الآكل بالتسمية ويقول : « إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى ، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل : باسم الله في أوله وأخره » ( حديث صحيح ) .
وهكذا كانت حياته كلها صلى الله عليه وسلم بدقائقها متأثرة بهذا التوجيه الإلهي الذي تلقاه في اللحظة الأولى .

وقام به تصوره الإيماني على قاعدته الأصيلة العريقة . .
ولقد كان من مقتضيات تلك الحقيقة : حقيقة أن الله هو الذي خلق . وهو الذي علم . وهو الذي أكرم . أن يعرف الإنسان . ويشكر . ولكن الذي حدث كان غير هذا ، وهذا الانحراف هو الذي يتحدث عنه المقطع الثاني للسورة :
{ كلا إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى . إن إلى ربك الرجعى } . .
إن الذي أعطاه فأغناه هو الله . كما أنه هو الذي خلقه وأكرمه وعلمه . ولكن الإنسان في عمومه لا يستثنى إلا من يعصمه إيمانه لا يشكر حين يُعطى فيستغني؛ ولا يعرف مصدر النعمة التي أغنته ، وهو المصدر الذي أعطاه خلقه وأعطاه علمه . . ثم أعطاه رزقه . . ثم هو يطغى ويفجر ، ويبغي ويتكبر ، من حيث كان ينبغي أن يعرف ثم يشكر .
وحين تبرز صورة الإنسان الطاغي الذي نسي نشأته وأبطره الغنى ، يجيء التعقيب بالتهديد الملفوف : { إن إلى ربك الرجعى } فأين يذهب هذا الذي طغى واستغنى؟
وفي الوقت ذاته تبرز قاعدة أخرى من قواعد التصور الإيماني . قاعدة الرجعة إلى الله . الرجعة إليه في كل شيء وفي كل أمر ، وفي كل نية ، وفي كل حركة . فليس هناك مرجع سواه . إليه يرجع الصالح والطالح . والطائع والعاصي . والمحق والمبطل . والخير والشّرير . والغني والفقير . . وإليه يرجع هذا الذي يطغى أن رآه استغنى . ألا إلى الله تصير الأمور . . ومنه النشأة وإليه المصير . .
وهكذا تجتمع في المقطعين أطراف التصور الإيماني . . الخلق والنشأة . والتكريم والتعليم . . ثم . . الرجعة والمآب لله وحده بلا شريك : { إن إلى ربك الرجعى } . .
ثم يمضي المقطع الثالث في السورة القصيرة يعرض صورة من صور الطغيان : صورة مستنكرة يعجب منها ، ويفظع وقوعها في أسلوب قرآني فريد .
{ أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى؟ أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى؟ أرأيت إن كذب وتولى؟ ألم يعلم بأن الله يرى؟ } .
والتشنيع والتعجيب واضح في طريقة التعبير ، التي تتعذر مجاراتها في لغة الكتابة . ولا تؤدّى إلا في أسلوب الخطاب الحي . الذي يعبر باللمسات المتقطعة في خفة وسرعة
{ أرأيت } ؟ أرأيت هذا الأمر المستنكر؟ أرأيته يقع؟ { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى؟ } .
أرأيت حين تضم شناعة إلى شناعة؟ وتضاف بشاعة إلى بشاعة؟ أرأيت إن كان هذا الذي يصلي ويتعرض له من ينهاه عن صلاته . . إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى؟ ثم ينهاه من ينهاه . مع أنه على الهدى ، آمر بالتقوى؟ .
أرأيت إن أضاف إلى الفعلة المستنكرة فعلة أخرى أشد نكراً؟ { أرأيت إن كذب وتولى؟ } .
هنا يجيء التهديد الملفوف كما جاء في نهاية المقطع الماضي : { ألم يعلم بأن الله يرى؟ } يرى تكذيبه وتوليه . ويرى نهيه للعبد المؤمن إذا صلى ، وهو على الهدى ، آمر بالتقوى .

يرى . وللرؤية ما بعدها { ألم يعلم بأن الله يرى } .
وأمام مشهد الطغيان الذي يقف في وجه الدعوة وفي وجه الإيمان ، وفي وجه الطاعة ، يجيء التهديد الحاسم الرادع الأخير ، مكشوفاً في هذه المرة لا ملفوفاً : { كلا . لئن لم ينته لنسفعن بالناصية . ناصية كاذبة خاطئة . فليدع ناديه . سندع الزبانية } .
إنه تهديد في إبانه . في اللفظ الشديد العنيف : { كلا . لئن لم ينته لنسفعن بالناصية } .
هكذا { لنسفعن } بهذا اللفظ الشديد المصور بجرسه لمعناه . والسفع : الأخذ بعنف . والناصية : الجبهة . أعلى مكان يرفعة الطاغية المتكبر . مقدم الرأس المتشامخ : إنها ناصية تستحق السفع والصرع : { ناصية كاذبة خاطئة } وإنها للحظة سفع وصرع . فقد يخطر له أن يدعو من يعتز بهم من أهله وصحبه : { فليدع ناديه } أما نحن فإننا { سندع الزبانية } الشداد الغلاظ . . والمعركة إذن معروفة المصير
وفي ضوء هذا المصير المتخيل الرعيب . . تختم السورة بتوجيه المؤمن الطائع إلى الإصرار والثبات على إيمانه وطاعته . .
{ كلا . لا تطعه ، واسجد ، واقترب . }
كلا لا تطع هذا الطاغي الذي ينهى عن الصلاة والدعوة . واسجد لربك واقترب منه بالطاعة والعبادة . ودع هذا الطاغي . الناهي . دعه للزبانية
ولقد وردت بعض الروايات الصحيحة بأن السورة عدا المقطع الأول منها قد نزلت في أبي جهل إذ مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند المقام . فقال ( يا محمد . ألم أنهك عن هذا؟ وتوعده . فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره . . ) ولعلها هي التي أخذ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بخناقه وقال به : { أولى لك ثم أولى } فقال : يا محمد بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي نادياً ، فأنزل الله : { فليدع نادية . . . } وقال ابن عباس لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته . ولكن دلالة السورة عامة في كل مؤمن طائع عابد داع إلى الله . وكل طاغ باغ ينهى عن الصلاة ، ويتوعد على الطاعة ، ويختال بالقوة . . والتوجيه الرباني الأخير { كلا لا تطعه واسجد واقترب } . .
وهكذا تتناسق مقاطع السورة كلها وتتكامل إيقاعاتها . .

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال . ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى . ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة ذات الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته ، وفي دلالته ، وفي آثاره في حياة البشرية جميعاً . العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري : { إنا أنزلناه في ليلة القدر . وما أدراك ما ليلة القدر؟ } . . { ليلة القدر خير من ألف شهر } . .
والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحدث تكاد ترف وتنير . بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود . نور الله المشرق في قرآنه : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } ونور الملائكة والروح وهم في غدوهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض والملأ الأعلى :
{ تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من أكل أمر } . . ونور الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقاً مع نور الوحي ونور الملائكة ، وروح السلام المرفوف على الوجود وعلى الأرواح السارية في هذا الوجود : { سلام هي حتى مطلع الفجر } . .
والليلة التي تتحدث عنها السورة هي الليلة التي جاء ذكرها في سورة الدخان : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة ، إنا كنا منذرين ، فيها يفرق كل أمر حكيم . أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم } والمعروف أنها ليلة من ليالي رمضان ، كما ورد في سورة البقرة : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } أي التي بدأ فيها نزول القرآن على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ليبلغه إلى الناس . وفي رواية ابن إسحاق أن أول الوحي بمطلع سورة العلق كان في شهر رمضان ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء .
وقد ورد في تعيين هذه الليلة آثار كثيرة . بعضها يعين الليلة السابعة والعشرين من رمضان . وبعضها يعين الليلة الواحدة والعشرين . وبعضها يعينها ليلة من الليالي العشر الأخيرة . وبعضها يطلقها في رمضان كله . فهي ليلة من ليالي رمضان على كل حال في أرجح الآثار .
واسمها : { ليلة القدر } . . قد يكون معناه التقدير والتدبير . وقد يكون معناه القيمة والمقام . وكلاهما يتفق مع ذلك الحدث الكوني العظيم . حدث القرآن والوحي والرسالة . . وليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث هذا الوجود . وليس أدل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد . وهي خير من ألف شهر . والعدد لا يفيد التحديد . في مثل هذه المواضع من القرآن . إنما هو يفيد التكثير . والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر . فكم من آلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات .

والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري : { وما أدراك ما ليلة القدر؟ } وذلك بدون حاجة إلى التعلق بالأساطير التي شاعت حول هذه الليلة في أوهام العامة . فهي ليلة عظيمة باختيار الله لها لبدء تنزيل هذا القرآن . وإضافة هذا النور على الوجود كله ، وإسباغ السلام الذي فاض من روح الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية ، وبما تضمنه هذا القرآن من عقيدة وتصور وشريعة وآداب تشيع السلام في الأرض والضمير . وتنزيل الملائكة وجبريل عليه السلام خاصة ، بإذن ربهم ، ومعهم هذا القرآن باعتبار جنسه الذي نزل في هذه الليلة وانتشارهم فيما بين السماء والأرض في هذا المهرجان الكوني ، الذي تصوره كلمات السورة تصويراً عجيباً . .
وحين ننظر اليوم من وراء الأجيال المتطاولة إلى تلك الليلة المجيدة السعيدة ، ونتصور ذلك المهرجان العجيب الذي شهدته الأرض في هذه الليلة ، ونتدبر حقيقة الأمر الذي تم فيها ، ونتملى آثاره المتطاولة في مراحل الزمان ، وفي واقع الأرض ، وفي تصورات القلوب والعقول . . فإننا نرى أمراً عظيماً حقاً . وندرك طرفاً من مغزى هذه الإشارة القرآنية إلى تلك الليلة : { وما أدراك ما ليلة القدر؟ } . .
لقد فرق فيها من كل أمر حكيم . وقد وضعت فيها من قيم وأسس وموازين . وقد قررت فيها من أقدار أكبر من أقدار الأفراد . أقدار أمم ودول وشعوب . بل أكثر وأعظم . . أقدار حقائق وأوضاع وقلوب
ولقد تغفل البشرية لجهالتها ونكد طالعها عن قدر ليلة القدر . وعن حقيقة ذلك الحدث ، وعظمة هذا الأمر . وهي منذ أن جهلت هذا وأغفلته فقدت أسعد وأجمل آلاء الله عليها ، وخسرت السعادة والسلام الحقيقي سلام الضمير وسلام البيت وسلام المجتمع الذي وهبها إياه الإسلام . ولم يعوضها عما فقدت ما فتح عليها من أبواب كل شيء من المادة والحضارة والعمارة . فهي شقية ، شقية على الرغم من فيض الإنتاج وتوافر وسائل المعاش
لقد أنطفأ النور الجميل الذي أشرق في روحها مرة ، وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت إلى الملأ الأعلى . وغاب السلام الذي فاض على الأرواح والقلوب . فلم يعوضها شيء عن فرحة الروح ونور السماء وطلاقة الرفرفة إلى عليين . .
ونحن المؤمنين مأمورون أن لا ننسى ولا نغفل هذه الذكرى؛ وقد جعل لنا نبينا صلى الله عليه وسلم سبيلاً هيناً ليناً لاستحياء هذه الذكرى في أرواحنا لتظل موصولة بها أبداً ، موصولة كذلك بالحدث الكوني الذي كان فيها . وذلك فيما حثنا عليه من قيام هذه الليلة من كل عام ، ومن تحريها والتطلع إليها في الليالي العشر الأخيرة من رمضان . . في الصحيحين : « تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان » وفي الصحيحين كذلك :

« من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه »
والإسلام ليس شكليات ظاهرية . ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في القيام في هذه الليلة أن يكون « إيماناً واحتساباً » . . وذلك ليكون هذا القيام استحياء للمعاني الكبيرة التي اشتملت عليها هذه الليلة « إيماناً » وليكون تجرداً لله وخلوصاً « واحتساباً » . . ومن ثم تنبض في القلب حقيقة معينة بهذا القيام . ترتبط بذلك المعنى الذي نزل به القرآن .
والمنهج الإسلامي في التربية يربط بين العبادة وحقائق العقيدة في الضمير ، ويجعل العبادة وسيلة لاستحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حية تتخلل المشاعر ولا تقف عند حدود التفكير .
وقد ثبت أن هذا المنهج وحده هو أصلح المناهج لإحياء هذه الحقائق ومنحها الحركة في عالم الضمير وعالم السلوك . وأن الإدراك النظري وحده لهذه الحقائق بدون مساندة العبادة ، وعن غير طريقها ، لا يقر هذه الحقائق ، ولا يحركها حركة دافعة في حياة الفرد ولا في حياة الجماعة . .
وهذا الربط بين ذكرى ليلة القدر وبين القيام فيها إيماناً واحتساباً ، هو طرف من هذا المنهج الإسلامي الناجح القويم .

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

هذه السورة معدودة في المصحف وفي أكثر الروايات أنها مدنية . وقد وردت بعض الروايات بمكيتها . ومع رجحان مدنيتها من ناحية الرواية ، ومن ناحية أسلوب التعبير التقريري ، فإن كونها مكية لا يمكن استبعاده . وذكر الزكاة فيها وذكر أهل الكتاب لا يعتبر قرينة مانعة . فقد ورد ذكر أهل الكتاب في بعض السور المقطوع بمكيتها . وكان في مكة بعض أهل الكتاب الذين آمنوا ، وبعضهم لم يؤمنوا . كما أن نصارى نجران وفدوا على الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة وآمنوا كما هو معروف . وورد ذكر الزكاة كذلك في سور مكية .
والسورة تعرض عدة حقائق تاريخية وإيمانية في أسلوب تقريري هو الذي يرجح أنها مدنية إلى جانب الروايات القائلة بهذا .
والحقيقة الأولى هي أن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت ضرورية لتحويل الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين عما كانوا قد انتهوا إليه من الضلال والاختلاف ، وما كانوا ليتحولوا عنه بغير هذه البعثة :
{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة : رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة ، فيها كتب قيمة } . .
والحقيقة الثانية : أن أهل الكتاب لم يختلفوا في دينهم عن جهالة ولا عن غموض فيه ، إنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم وجاءتهم البينة : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } .
والحقيقة الثالثة : أن الدين في أصله واحد ، وقواعده بسيطة واضحة ، لا تدعو إلى التفرق والاختلاف في ذاتها وطبيعتها البسيطة اليسيرة : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وذلك دين القيمة } .
والحقيقة الرابعة : أن الذين كفروا بعد ما جاءتهم البينة هم شر البرية ، وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية . ومن ثم يختلف جزاء هؤلاء عن هؤلاء اختلافاً بيناً :
{ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيهآ . أولئك هم شر البرية . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ، جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، رضى الله عنهم ورضوا عنه ، ذلك لمن خشي ربه } . .
وهذه الحقائق الأربع ذات قيمة في إدراك دور العقيدة الإسلامية ودور الرسالة الأخيرة . وفي التصور الإيماني كذلك . نفصلها فيما يلي :
{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة : رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة ، فيها كتب قيمة } .
لقد كانت الأرض في حاجة ماسة إلى رسالة جديدة . كان الفساد قد عم أرجاءها كلها بحيث لا يرتجى لها صلاح إلا برسالة جديدة ، ومنهج جديد ، وحركة جديدة . وكان الكفر قد تطرق إلى عقائد أهلها جميعاً سواء أهل الكتاب الذين عرفوا الديانات السماوية من قبل ثم حرفوها ، أو المشركين في الجزيرة العربية وفي خارجها سواء .

وما كانوا لينفكوا ويتحولوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه إلا بهذه الرسالة الجديدة ، وإلا على يد رسول يكون هو ذاته بينة واضحة فارقة فاصلة : { رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة } . . مطهرة من الشرك والكفر { فيها كتب قيمة } . . والكتاب يطلق على الموضوع ، كما يقال كتاب الطهارة وكتاب الصلاة ، وكتاب القدر ، وكتاب القيامة ، وهذه الصحف المطهرة وهي هذا القرآن فيها كتب قيمة أي موضوعات وحقائق قيمة . .
ومن ثم جاءت هذه الرسالة في إبانها ، وجاء هذا الرسول في وقته ، وجاءت هذه الصحف وما فيها من كتب وحقائق وموضوعات لتحدث في الأرض كلها حدثاً لا تصلح الأرض إلا به . فأما كيف كانت الأرض في حاجة إلى هذه الرسالة وإلى هذا الرسول فنكتفي في بيانه باقتطاف لمحات كاشفة من الكتاب القيم كتبه الرجل المسلم « السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي » بعنوان : « ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين » . . وهو أوضح وأخصر ما قرأناه في موضوعه :
جاء في الفصل الأول من الباب الأول :
كان القرن السادس والسابع لميلاد المسيح من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف . فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون . وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي وقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها وشدة في إسفافها . وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه ، فنسي نفسه ومصيره ، وفقد رشده ، وقوة التمييز بين الخير والشر ، والحسن والقبيح . وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن ، والمصابيح التي أوقدوها قد انطفأت من العواصف التي هبت بعدها ، أو بقيت ونورها ضعيف ضئيل لا ينير إلا بعض القلوب ، فضلاً عن البيوت ، فضلاً عن البلاد . وقد انسحب رجال الدين من ميدان الحياة ، ولاذوا بالأديرة والكنائس والخلوات فراراً بدينهم من الفتن ، وضناً بأنفسهم ، أو رغبة إلى الدعة والسكون ، فراراً من تكاليف الحياة وجدها ، أو فشلاً في كفاح الدين والسياسة ، والروح والمادة؛ ومن بقي منهم في تيار الحياة اصطلح مع الملوك وأهل الدنيا وعاونهم على إثمهم وعدوانهم ، وأكل أموال الناس بالباطل . .
« أصبحت الديانات العظيمة فريسة العابثين والمتلاعبين؛ ولعبة المجرمين والمنافقين ، حتى فقدت روحها وشكلها ، فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها؛ وأصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام وعسف الحكام ، وشغلت بنفسها لا تحمل للعالم رسالة ، ولا للأمم دعوة ، وأفلست في معنوياتها ، ونضب معين حياتها ، لا تملك مشرعاً صافياً من الدين السماوي ، ولا نظاماً ثابتاً من الحكم البشري » . .
هذه اللمحة السريعة تصور في إجمال حالة البشرية والديانات قبيل البعثة المحمدية . وقد أشار القرآن إلى مظاهر الكفر الذي شمل أهل الكتاب والمشركين في مواضع شتى .

.
من ذلك قوله عن اليهود والنصارى : { وقالت اليهود عزير ابن الله . وقالت النصارى المسيح ابن الله } { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء } وقوله عن اليهود : { وقالت اليهود : يد الله مغلولة . غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا . بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } وقوله عن النصارى : { لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم } { لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة } وقوله عن المشركين : { قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد . ولا أنا عابد ما عبدتم؛ ولا أنتم عابدون ما أعبد . لكم دينكم ولي دين } وغيرهما كثير . .
وكان وراء هذا الكفر ما وراءه من الشر والانحطاط والشقاق والخراب الذي عم أرجاء الأرض . . « وبالجملة لم تكن على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج ، ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة ، ولا حكومة مؤسسة على أساس العدل والرحمة ، ولا قيادة مبنية على العلم والحكمة ، ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء » .
ومن ثم اقتضت رحمة الله بالبشرية إرسال رسول من عنده يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة . وما كان الذين كفروا من المشركين ومن الذين أوتوا الكتاب ليتحولوا عن ذلك الشر والفساد إلا ببعثة هذا الرسول المنقذ الهادي المبين . .
ولما قرر هذه الحقيقة في مطلع السورة عاد يقرر أن أهل الكتاب خاصة لم يتفرقوا ويختلفوا في دينهم عن جهل أو عن غموض في الدين أو تعقيد . إنما هم تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ومن بعد ما جاءتهم البينة من دينهم على أيدي رسلهم :
{ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } . .
وكان أول التفرق والاختلاف ما وقع بين طوائف اليهود قبل بعثة عيسى عليه السلام فقد انقسموا شعباً وأحزاباً . مع أن رسولهم هو موسى عليه السلام وكتابهم هو التوراة . فكانوا طوائف خمسة رئيسية هي طوائف الصدوقيين ، والفريسيين ، والآسيين ، والغلاة ، والسامريين . . ولكل طائفة سمة واتجاه . ثم كان التفرق بين اليهود والنصارى ، مع أن المسيح عليه السلام هو أحد أنبياء بني إسرائيل وآخرهم ، وقد جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة ، ومع هذا فقد بلغ الخلاف والشقاق بين اليهود والمسيحيين حد العداء العنيف والحقد الذميم . وحفظ التاريخ من المجازر بين الفريقين ما تقشعر له الأبدان .
« وقد تجدد في أوائل القرن السابع من الحوادث ما بغضهم ( أي اليهود ) إلى المسيحيين وبغض المسيحيين إليهم ، وشوه سمعتهم . ففي السنة الأخيرة من حكم فوكاس ( 610م ) أوقع اليهود بالمسيحيين في أنطاكية ، فأرسل الأمبراطور قائده » ابنوسوس « ليقضي على ثورتهم ، فذهب وأنفذ عمله بقسوة نادرة ، فقتل الناس جميعاً قتلاً بالسيف ، وشنقاً ، وإغراقاً ، وإحراقاً ، وتعذيباً ، ورمياً للوحوش الكاسرة .

. وكان ذلك بين اليهود والنصارى مرة بعد مرة ، قال المقريزي في كتاب الخطط : « وفي أيام ( فوقا ) ملك الروم ، بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر فخربوا كنائس القدس ، وفلسطين وعامة بلاد الشام ، وقتلوا النصارى بأجمعهم ، وأتوا إلى مصر في طلبهم ، وقتلوا منهم أمة كبيرة ، وسبوا منهم سبيا لا يدخل تحت حصر . وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم؛ وأقبلوا نحو الفرس من طبرية ، وجبل الجليل ، وقرية الناصرة ومدينة صور ، وبلاد القدس؛ فنالوا من النصارى كل منال وأعظموا النكاية فيهم ، وخربوا لهم كنيستين بالقدس ، وأحرقوا أماكنهم ، وأخذوا قطعة من عود الصليب ، وأسروا بطرك القدس وكثيراً من أصحابه . إلى أن قال بعد أن ذكر فتح القدس :
» فثارت اليهود في أثناء ذلك بمدينة صور ، وأرسلوا بقيتهم في بلادهم ، وتواعدوا على الإيقاع بالنصارى وقتلهم ، فكانت بينهم حرب ، اجتمع فيها من اليهود نحو 20 ألفاً وهدموا كنائس النصارى خارج صور . فقوّس النصارى عليهم وكاثروهم فانهزم اليهود هزيمة قبيحة ، وقتل منهم كثير . وكان هرقل قد ملك الروم بقسطنطينية ، وغلب الفرس بحيلة دبرها على كسرى حتى رحل عنه ، ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر ، ويجدد ما خربه الفرس ، فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها ، وقدموا لها الهدايا الجليلة وطلبوا منه أن يؤمنهم منه ويحلف لهم على ذلك ، فأمنهم وحلف لهم . ثم دخل القدس ، وقد تلقاهم النصارى بالأناجيل والصلبان والبخور والشموع المشعلة ، فوجد المدينة وكنائسها خراباً ، فساءه ذلك ، وتوجع لهم ، وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس ، وإيقاعهم بالنصارى وتخريبهم الكنائس ، وأنهم كانوا أشد نكاية لهم من الفرس ، وقاموا قياماً كبيراً في قتلهم عن آخرهم ، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم ، وحسنوا له ذلك . فاحتج عليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه ، فأفتاه رهبانهم وبطارقتهم وقسيسوهم بأنه لا حرج عليه في قتلهم ، فإنهم عملوا عليه حيلة حتى أمنهم من غير أن يعلم بما كان منهم ، وأنهم يقومون عنه بكفارة يمينه بأن يلتزموا ويلزموا النصارى بصوم جمعة في كل سنة عنه على مر الزمان والدهور فمال إلى قولهم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعهم فيها ، حتى لم يبق في مماليك الروم والشام إلا من فر واختفى . .
« وبهذه الروايات يعلم ما وصل إليه الفريقان : اليهود والنصارى ، من القسوة والضراوة بالدم الإنساني ، وتحين الفرص للنكاية في العدو ، وعدم مراعاة الحدود في ذلك » .
ثم كان التفرق والاختلاف بين النصارى أنفسهم ، مع أن كتابهم واحد ونبيهم واحد . تفرقوا واختلفوا أولاً في العقيدة . ثم تفرقوا واختلفوا طوائف متعادية متنافرة متقابلة . وقد دارت الخلافات حول طبيعة المسيح عليه السلام وعما إذا كانت لاهوتية أو ناسوتية .

وطبيعة أمه مريم . وطبيعة الثالوث الذي يتألف منه « الله » في زعمهم وحكى القرآن قولين منها أو ثلاثة في قوله : { لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم } { لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة } { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس : اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ } « وكان أشد مظاهر هذا الخلاف الديني ما كان بين نصارى الشام والدولة الرومية ، وبين نصارى مصر . أو بين » الملكانية « ، » المنوفوسية « بلفظ أصح . فكان شعار الملكانية عقيدة ازدواج طبيعة المسيح ، وكان المنوفوسيون يعتقدون أن للسيد المسيح طبيعة واحدة هي الإلاهية . التي تلاشت فيها طبيعة المسيح البشرية كقطرة من الخل تقع في بحر عميق لا قرار له . وقد اشتد هذا الخلاف بين الحزبين في القرنين السادس والسابع ، حتى صار كأنه حرب عوان بين دينين متنافسين ، أو كأنه خلاف بين اليهود والنصارى . . كل طائفة تقول للأخرى : إنها ليست على شيء .
» وحاول الإمبراطور هرقل ( 610 641 ) بعد انتصاره على الفرس ( سنة 638 ) جمع مذاهب الدولة المتصارعة وتوحيدها ، وأراد التوفيق ، وتقررت صورة التوفيق أن يمتنع الناس عن الخوض في الكلام عن كنه طبيعة السيد المسيح ، وعما إذا كانت له صفة واحدة أم صفتان ، ولكن عليهم بأن يشهدوا بأن الله له إرادة واحدة أو قضاء واحد . وفي صدر عام 631 حصل وفاق على ذلك ، وصار المذهب المنوثيلي مذهباً رسمياً للدولة ، ومن تضمهم من أتباع الكنيسة المسيحية . وصمم هرقل على إظهار المذهب الجديد على ما عداه من المذاهب المخالفة ، متوسلاً إلى ذلك بكل الوسائل . ولكن القبط نابذوه العداء ، وتبرأوا من هذه البدعة والتحريف وصمدوا له واستماتوا في سبيل عقيدتهم القديمة . وحاول الإمبراطور مرة أخرى توحيد المذاهب وحسم الخلاف فاقتنع بأن يقر الناس بأن الله له إرادة واحدة . وأما المسألة الأخرى وهي نفاذ تلك الإرادة بالفعل فأرجأ القول فيه ، ومنع الناس أن يخوضوا في مناظراته . وجعل ذلك رسالة رسمية ، ذهب بها إلى جميع جهات العالم الشرقي . ولكن الرسالة لم تهدئ العاصفة في مصر ، ووقع اضطهاد فظيع على يد قيصر في مصر استمر عشر سنين ، ووقع في خلالها ما تقشعر منه الجلود ، فرجال كانوا يعذبون ثم يقتلون غرقاً ، وتوقد المشاعل وتسلط نارها على الأشقياء حتى يسيل الدهن من الجانبين إلى الأرض ويوضع السجين في كيس مملوء بالرمل ويرمى في البحر . إلى غير ذلك من الفظائع « .
وكان هذا الخلاف كله بين أهل الكتاب جميعاً { من بعد ما جاءتهم البينة } . . فلم يكن ينقصهم العلم والبيان؛ إنما كان يجرفهم الهوى والانحراف .
على أن الدين في أصله واضح والعقيدة في ذاتها بسيطة :
{ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } وهذه هي قاعدة دين الله على الإطلاق :
عبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له ، والميل عن الشرك وأهله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة : { وذلك دين القيمة } .

. عقيدة خالصة في الضمير ، وعبادة لله ، تترجم عن هذه العقيدة ، وإنفاق للمال في سبيل الله ، وهو الزكاة . . فمن حقق هذه القواعد ، فقد حقق الإيمان كما أمر به أهل الكتاب ، وكما هو في دين الله على الإطلاق . دين واحد . وعقيدة واحدة ، تتوالى بها الرسالات ، ويتوافى عليها الرسل . . دين لا غموض فيه ولا تعقيد . وعقيدة لا تدعو إلى تفرق ولا خلاف ، وهي بهذه النصاعة ، وبهذه البساطة ، وبهذا التيسير . فأين هذا من تلك التصورات المعقدة ، وذلك الجدل الكثير؟
فأما وقد جاءتهم البينة من قبل في دياناتهم على أيدي رسلهم؛ ثم جاءتهم البينة ، حية في صورة رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة؛ ويقدم لهم عقيدة ، واضحة بسيطة ميسرة ، فقد تبين الطريق . ووضح مصير الذين يكفرون والذين يؤمنون :
{ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية . جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا . رضى الله عنهم ورضوا عنه ، ذلك لمن خشي ربه } . .
إن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الرسول الأخير؛ وإن الإسلام الذي جاء به هو الرسالة الأخيرة . وقد كانت الرسل تتوالى كلما فسدت الأرض لترد الناس إلى الصلاح . وكانت هناك فرصة بعد فرصة ومهلة بعد مهلة ، لمن ينحرفون عن الطريق فأما وقد شاء الله أن يختم الرسالات إلى الأرض بهذه الرسالة الأخيرة الجامعة الشاملة الكاملة ، فقد تحددت الفرصة الأخيرة ، فإما إيمان فنجاة ، وإما كفر فهلاك . ذلك أن الكفر حينئذ دلالة على الشر الذي لا حد له ، وأن الإيمان دلالة على الخير البالغ أمده .
{ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها . أولئك هم شر البرية } حكم قاطع لا جدال فيه ولا محال . مهما يكن من صلاح بعض أعمالهم وآدابهم ونظمهم ما دامت تقوم على غير إيمان ، بهذه الرسالة الأخيرة ، وبهذا الرسول الأخير . لا نستريب في هذا الحكم لأي مظهر مظاهر الصلاح ، المقطوعة الاتصال بمنهج الله الثابت القويم .
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أولئك هم خير البرية } .
حكم كذلك قاطع لا جدال فيه ولا محال . ولكن شرطه كذلك واضح لا غموض فيه ولا احتيال . إنه الإيمان . لا مجرد مولد في أرض تدعى الإسلام ، أو في بيت يقول : إنه من المسلمين . ولا بمجرد كلمات يتشدق بها الإنسان إنه الإيمان الذي ينشئ آثاره في واقع الحياة : { وعملوا الصالحات } . وليس هو الكلام الذي لا يتعدى الشفاه والصالحات هي كل ما أمر الله بفعله من عبادة وخلق وعمل وتعامل .

وفي أولها إقامة شريعة الله في الأرض ، والحكم بين الناس بما شرع الله . فمن كانوا كذلك فهم خير البرية .
{ جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً } . .
جنات للإقامة الدائمة في نعيمها الذي يمثله هنا الأمن من الفناء والفوات . والطمأنينة من القلق الذي يعكر وينغص كل طيبات الأرض . . كما يمثله جريان الأنهار من تحتها ، وهو يلقي ظلال النداوة والحياة والجمال
ثم يرتقي السياق درجة أو درجات في تصوير هذا النعيم المقيم :
{ رضي الله عنهم ورضوا عنه } . .
هذا الرضا من الله وهو أعلى وأندى من كل نعيم . . وهذا الرضا في نفوسهم عن ربهم . الرضا عن قدره فيهم . والرضا عن إنعامه عليهم . والرضا بهذه الصلة بينه وبينهم . الرضا الذي يغمر النفس بالهدوء والطمأنينة والفرح الخالص العميق . .
إنه تعبير يلقي ظلاله بذاته . . { رضي الله عنهم ورضوا عنه } حيث يعجز أي تعبير آخر عن إلقاء مثل هذه الظلال
{ ذلك لمن خشي ربه } .
وذلك هو التوكيد الأخير . التوكيد على أن هذا كله متوقف على صلة القلب بالله ، ونوع هذه الصلة ، والشعور بخشيته خشية تدفع إلى كل صلاح ، وتنهى عن انحراف . . الشعور الذي يزيح الحواجز ، ويرفع الأستار ، ويقف القلب عارياً أمام الواحد القهار . والذي يخلص العبادة ويخلص العمل من شوائب الرياء والشرك في كل صورة من صوره . فالذي يخشى ربه حقاً لا يملك أن يُخطر في قلبه ظلاً لغيره من خلقه . وهو يعلم أن الله يرد كل عمل ينظر فيه العبد إلى غيره معه ، فهو أغنى الشركاء عن الشرك . فإما عمل خالص له ، وإلا لم يقبله .
تلك الحقائق الأربعة الكبيرة هي مقررات هذه السورة الصغيرة ، يعرضها القرآن بأسلوبه الخاص ، الذي يتجلى بصفة خاصة في هذه السور القصار . .

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

هذه السورة مدنية في المصحف وفي بعض الروايات؛ ومكية في بعض الروايات الأخرى . ونحن نرجح الروايات التي تقول بأنها مكية . وأسلوبها التعبيري وموضوعها يؤيدان هذا .
إنها هزة عنيفة للقلوب الغافلة . هزة يشترك فيها الموضوع والمشهد والإيقاع اللفظي . وصيحة قوية مزلزلة للأرض ومن عليها؛ فما يكادون يفيقون حتى يواجههم الحساب والوزن والجزاء في بضع فقرات قصار
وهذا هو طابع الجزء كله ، يتمثل في هذه السورة تمثلاً قوياً . .
{ إذا زلزلت الأرض زلزالها ، وأخرجت الأرض أثقالها ، وقال الإنسان مالها؟ يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها } .
إنه يوم القيامة حيث ترتجف الأرض الثابتة ارتجافاً ، وتزلزل زلزالا ، وتنفض ما في جوفها نفضاً ، وتخرج ما يثقلها من أجساد ومعادن وغيرها مما حملته طويلاً . وكأنها تتخفف من هذه الأثقال ، التي حملتها طويلاً
وهو مشهد يهز تحت أقدام المستمعين لهذه السورة كل شيء ثابت؛ ويخيل إليهم أنهم يترنحون ويتأرجحون ، والأرض من تحتهم تهتز وتمور مشهد يخلع القلوب من كل ما تتشبث به من هذه الأرض ، وتحسبه ثابتاً باقياً؛ وهو الإيحاء الأول لمثل هذه المشاهد التي يصورها القرآن ، ويودع فيها حركة تكاد تنتقل إلى أعصاب السامع بمجرد سماع العبارة القرآنية الفريدة
ويزيد هذا الأثر وضوحاً بتصوير « الإنسان » حيال المشهد المعروض ، ورسم انفعالاته وهو يشهده :
{ وقال الإنسان : ما لها؟ } . .
وهو سؤال المشدوه المبهوت المفجوء ، الذي يرى ما لم يعهد ، ويواجه ما لا يدرك ، ويشهد ما لا يملك الصبر أمامه والسكوت . مالها؟ ما الذي يزلزلها هكذا ويرجها رجا؟ مالها؟ وكأنه يتمايل على ظهرها ويترنح معها؛ ويحاول أن يمسك بأي شيء يسنده ويثبته ، وكل ما حوله يمور موراً شديداً
« والإنسان » قد شهد الزلازل والبراكين من قبل . وكان يصاب منها بالهلع والذعر ، والهلاك والدمار ، ولكنه حين يرى زلزال يوم القيامة لا يجد أن هناك شبهاً بينه وبين ما كان يقع من الزلازل والبراكين في الحياة الدنيا . فهذا أمر جديد لا عهد للإنسان به . أمر لا يعرف له سراً ، ولا يذكر له نظيراً . أمر هائل يقع للمرة الأولى
{ يومئذ } . . يوم يقع هذا الزلزال ، ويُشدَه أمامه الإنسان { تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها } . . يومئذ تحدث هذه الأرض أخبارها ، وتصف حالها وما جرى لها . . لقد كان ما كان لها { بأن ربك أوحى لها } . . وأمرها أن تمور موراً ، وأن تزلزل زلزالها ، وأن تخرج أثقالها فأطاعت أمر ربها { وأذنت لربها وحقت } تحدث أخبارها . فهذا الحال حديث واضح عما وراءه من أمر الله ووحيه إليها . .
وهنا و { الإنسان } مشدوه مأخوذ ، والإيقاع يلهث فزعاً ورعباً ، ودهشة وعجبا ، واضطراباً وموراً . . هنا و { الإنسان } لا يكاد يلتقط أنفاسه وهو يتساءل : مالها مالها؟ هنا يواجه بمشهد الحشر والحساب والوزن والجزاء :
{ يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم .

فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره . ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } .
وفي لمحة نرى مشهد القيام من القبور : { يومئذ يصدر الناس أشتاتاً } . . نرى مشهدهم شتيتاً منبعثاً من أرجاء الأرض { كأنهم جراد منتشر } . . وهو مشهد لا عهد للأنسان به كذلك من قبل . مشهد الخلائق في أجيالها جميعاً تنبعث من هنا ومن هناك : { يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً } وحيثما امتد البصر رأى شبحاً ينبعث ثم ينطلق مسرعاً لا يلوي على شيء ، ولا ينظر وراءه ولا حواليه : { مهطعين إلى الداع } ممدودة رقابهم ، شاخصة أبصارهم . { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } إنه مشهد لا تعبر عن صفته لغة البشر . هائل مروّع . مفزع . مرعب . مذهل . .
كل أولئك وسائر ما في المعجم من أمثالها لا تبلغ من وصف هذا المشهد شيئاً مما يبلغه إرسال الخيال قليلاً يتملاه بقدر ما يملك وفي حدود ما يطيق
{ يومئذ يصدر الناس أشتاتاً } . . { ليروا أعمالهم } . . وهذه أشد وأدهى . . إنهم ذاهبون إلى حيث تعرض عليهم أعمالهم ، ليواجهوها ، ويواجهوا جزاءها . ومواجهة الإنسان لعمله قد تكون أحياناً أقسى من كل جزاء . وإن من عمله ما يهرب من مواجهته بينه وبين نفسه ، ويشيح بوجهه عنه لبشاعته حين يتمثل له في نوبة من نوبات الندم ولذع الضمير . فكيف به وهو يواجه بعمله على رؤوس الأشهاد ، في حضرة الجليل العظيم الجبار المتكبر؟
إنها عقوبة هائلة رهيبة . . مجرد أن يُروا أعمالهم ، وأن يواجهوا بما كان منهم
ووراء رؤيتها الحساب الدقيق الذي لا يدع ذرة من خير أو من شر لا يزنها ولا يجازي عليها .
{ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره . ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } . .
ذرة . . كان المفسرون القدامى يقولون : إنها البعوضة . وكانوا يقولون : إنها الهباءة التي ترى في ضوء الشمس . . فقد كان ذلك أصغر ما يتصورون من لفظ الذرة . . .
فنحن الآن نعلم أن الذرة شيء محدد يحمل هذا الاسم ، وأنه أصغر بكثير من تلك الهباءة التي ترى في ضوء الشمس ، فالهباءة ترى بالعين المجردة . أما الذرة فلا ترى أبداً حتى بأعظم المجاهر في المعامل . إنما هي « رؤيا » في ضمير العلماء لم يسبق لواحد منهم أن رآها بعينه ولا بمجهره . وكل ما رآه هو آثارها
فهذه أو ما يشبهها من ثقل ، من خير أو شر ، تحضر ويراها صاحبها ويجد جزاءها . .
عندئذ لا يحقر « الإنسان » شيئاً من عمله . خيراً كان أو شراً . ولا يقول : هذه صغيرة لا حساب لها ولا وزن . إنما يرتعش وجدانه أمام كل عمل من أعماله ارتعاشه ذلك الميزان الدقيق الذي ترجح به الذرة أو تشيل
إن هذا الميزان لم يوجد له نظير أو شبيه بعد في الأرض . . إلا في القلب المؤمن . .
القلب الذي يرتعش لمثقال ذرة من خير أو شر . . وفي الأرض قلوب لا تتحرك للجبل من الذنوب والمعاصي والجرائر . . ولا تتأثر وهي تسحق رواسي من الخير دونها رواسي الجبال . .
إنها قلوب عتلة في الأرض ، مسحوقة تحت أثقالها تلك في يوم الحساب

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

يجري سياق هذه السورة في لمسات سريعة عنيفة مثيرة ، ينتقل من إحداها إلى الأخرى قفزاً وركضاً ووثباً ، في خفة وسرعة وانطلاق ، حتى ينتهي إلى آخر فقرة فيها فيستقر عندها اللفظ والظل والموضوع والإيقاع كما يصل الراكض إلى نهاية المطاف
وتبدأ بمشهد الخيل العادية الضابحة ، القادحة للشرر بحوافرها ، المغيرة مع الصباح ، المثيرة للنقع وهو الغبار ، الداخلة في وسط العدو فجأة تأخذه على غرة ، وتثير في صفوفه الذعر والفرار
يليه مشهد في النفس من الكنود والجحود والأثرة والشح الشديد
ثم يعقبه مشهد لبعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور
وفي الختام ينتهي النقع المثار ، وينتهي الكنود والشح ، وتنتهي البعثرة والجمع . . إلى نهايتها جميعاً . إلى الله . فتستقر هناك : { إن ربهم بهم يومئذ لخبير } . .
والإيقاع الموسيقي فيه خشونة ودمدمة وفرقعة ، تناسب الجو الصاخب المعفر الذي تنشئه القبور المبعثرة ، والصدور المحصل ما فيها بشدة وقوة ، كما تناسب جو الجحود والكنود ، والأثرة والشح الشديد . . فلما أراد لهذا كله إطاراً مناسباً ، اختاره من الجو الصاخب المعفر كذلك ، تثيره الخيل العادية في جريها ، الصاخبة بأصواتها ، القادحة بحوافرها ، المغيرة فجاءة مع الصباح ، المثيرة للنقع والغبار ، الداخلة في وسط العدو على غير انتظار . . فكان الإطار من الصورة والصورة من الإطار
{ والعاديات ضبحا ، فالموريات قدحا ، فالمغيرات صبحا ، فأثرن به نقعا ، فوسطن به جمعا . . إن الإنسان لربه لكنود . وإنه على ذلك لشهيد . وإنه لحب الخير لشديد . . . }
يقسم الله سبحانه بخيل المعركة ، ويصف حركاتها واحدة واحدة منذ أن تبدأ عدوها وجريها ضابحة بأصواتها المعروفة حين تجري ، قارعة للصخر بحوافرها حتى توري الشرر منها ، مغيرة في الصباح الباكر لمفاجأة العدو ، مثيرة للنقع والغبار . غبار المعركة على غير انتظار . وهي تتوسط صفوف الأعداء على غرة فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب
إنها خطوات المعركة على ما يألفه المخاطبون بالقرآن أول مرة . . والقسم بالخيل في هذا الإطار فيه إيحاء قوي بحب هذه الحركة والنشاط لها ، بعد الشعور بقيمتها في ميزان الله والتفاته سبحانه إليها؟
وذلك فوق تناسق المشهد مع المشاهد المقسم عليها والمعقب بها كما أسلفنا . أما الذي يقسم الله سبحانه عليه ، فهو حقيقة في نفس الإنسان ، حين يخوى قلبه من دوافع الإيمان . حقيقة ينبهه القرآن إليها ، ليجند إرادته لكفاحها ، مذ كان الله يعلم عمق وشائجها في نفسه ، وثقل وقعها في كيانه :
{ إن الإنسان لربه لكنود . وإنه على ذلك لشهيد . وإنه لحب الخير لشديد } . .
إن الإنسان ليجحد نعمة ربه ، وينكر جزيل فضله . ويتمثل كنوده وجحوده في مظاهر شتى تبدو منه أفعالاً وأقوالاً ، فتقوم عليه مقام الشاهد الذي يقرر هذه الحقيقة . وكأنه يشهد على نفسه بها . أو لعله يشهد على نفسه يوم القيامة بالكنود والجحود : { وإنه على ذلك لشهيد } .

. يوم ينطق بالحق على نفسه حيث لا جدال ولا محال
{ وإنه لحب الخير لشديد } فهو شديد الحب لنفسه ، ومن ثم يحب الخير . ولكن كما يتمثله مالا وسلطة ومتاعاً بأعراض الحياة الدنيا . .
هذه فطرته . وهذا طبعه . ما لم يخالط الإيمان قلبه . فيغير من تصوراته وقيمه وموازينه واهتماماته . ويحيل كنوده وجحوده اعترافاً بفضل الله وشكراناً . كما يبدل أثرته وشحه إيثاراً ورحمة . ويريه القيم الحقيقية التي تستحق الحرص والتنافس والكد والكدح . وهي قيم أعلى من المال والسلطة والمتاع الحيواني بأعراض الحياة الدنيا . .
إن الإنسان بغير إيمان حقير صغير . حقير المطامع ، صغير الاهتمامات . ومهما كبرت أطماعه . واشتد طموحه ، وتعالت أهدافه ، فإنه يظل مرتكساً في حمأة الأرض ، مقيداً بحدود العمر ، سجيناً في سجن الذات . . لا يطلقه ولا يرفعه إلا الاتصال بعالم أكبر من الأرض ، وأبعد من الحياة الدنيا ، وأعظم من الذات . . عالم يصدر عن الله الأزلي ، ويعود إلى الله الأبدي ، وتتصل فيه الدنيا بالآخرة إلى غير انتهاء . .
ومن ثم تجيء اللفتة الأخيرة في السورة لعلاج الكنود والجحود والأثرة والشح ، لتحطيم قيد النفس وإطلاقها منه . مع عرض مشهد البعث والحشر في صورة تنسي حب الخير ، وتوقظ من غفلة البطر :
{ أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور ، وحصل ما في الصدور؟ } . .
وهو مشهد عنيف مثير . بعثرة لما في القبور . بعثرة بهذا اللفظ العنيف المثير . وتحصيل لأسرار الصدور التي ضنت بها وخبأتها بعيداً عن العيون . تحصيل بهذا اللفظ العنيف القاسي . . فالجو كله عنف وشدة وتعفير
أفلا يعلم إذا كان هذا؟ ولا يذكر ماذا يعلم؟ لأن علمه بهذا وحده يكفي لهز المشاعر . ثم ليدع النفس تبحث عن الجواب ، وترود كل مراد ، وتتصور كل ما يمكن أن يصاحب هذه الحركات العنيفة من آثار وعواقب
ويختم هذه الحركات الثائرة باستقرار ينتهي إليه كل شيء ، وكل أمر ، وكل مصير :
{ إن ربهم بهم يومئذ لخبير } . .
فالمرجع إلى ربهم . وإنه لخبير بهم { يومئذ } وبأحوالهم وأسرارهم . . والله خبير بهم في كل وقت وفي كل حال . ولكن لهذه الخبرة { يومئذ } آثار هي التي تثير انتباههم لها في هذا المقام . . إنها خبرة وراءها عاقبة . خبرة وراءها حساب وجزاء . وهذا المعنى الضمني هو الذي يلوح به في هذا المقام
إن السورة مشوار واحد لاهث صاخب ثائر . . حتى ينتهي إلى هذا القرار . . معنى ولفظاً وإيقاعاً ، على طريقة القرآن

الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)

القارعة : القيامة . كالطامة ، والصاخة ، والحاقة ، والغاشية . والقارعة توحي بالقرع واللطم ، فهي تقرع القلوب بهولها .
والسورة كلها عن هذه القارعة . حقيقتها . وما يقع فيها . وما تنتهي إليه . . فهي تعرض مشهداً من مشاهد القيامة .
والمشهد المعروض هنا مشهد هول تتناول آثاره الناس والجبال . فيبدو الناس في ظله صغاراً ضئالاً على كثرتهم : فهم { كالفراش المبثوث } مستطارون مستخفون في حيرة الفراش الذي يتهافت على الهلاك ، وهو لا يملك لنفسه وجهة ، ولا يعرف له هدفاً وتبدو الجبال التي كانت ثابتة راسخة كالصوف المنفوش تتقاذفه الرياح وتعبث به حتى الأنسام فمن تناسق التصوير أن تسمى القيامة بالقارعة ، فيتسق الظل الذي يلقيه اللفظ ، والجرس الذي تشترك فيه حروفه كلها ، مع آثار القارعة في الناس والجبال سواء وتلقي إيحاءها للقلب والمشاعر ، تمهيداً لما ينتهي إليه المشهد من حساب وجزاء
{ القارعة . ما القارعة؟ وما أدراك ما القارعة؟ } . .
لقد بدأ بإلقاء الكلمة مفردة كأنها قذيفة : { القارعة } بلا خبر ولا صفة . لتلقي بظلها وجرسها الإيحاء المدوي المرهوب
ثم أعقبها سؤال التهويل : { ما القارعة؟ } . . فهي الأمر المستهول الغامض الذي يثير الدهش والتساؤل
ثم أجاب بسؤال التجهيل : { وما أدراك ما القارعة؟ } . . فهي أكبر من أن يحيط بها الإدراك ، وأن يلم بها التصور
ثم الإجابة بما يكون فيها ، لا بماهيتها . فماهيتها فوق الإدراك والتصور كما أسلفنا :
{ يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ، وتكون الجبال كالعهن المنفوش } . .
هذا هو المشهد الأول للقارعة . مشهد تطير له القلوب شعاعاً ، وترجف منه الأوصال ارتجافاً . ويحس السامع كأن كل شيء يتشبث به في الأرض قد طار حوله هباء ثم تجيء الخاتمة للناس جميعاً :
{ فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية ، وأما من خفت موازينه فأمه هاوية . وما أدراك ماهيه؟ نار حامية } .
وثقل الموازين وخفتها تفيدنا : قيماً لها عند الله اعتبار ، وقيماً ليس لها عنده اعتبار . وهذا ما يلقيه التعبير بجملته ، وهذا الله أعلم ما يريده الله بكلماته . فالدخول في جدل عقلي ولفظي حول هذه التعبيرات هو جفاء للحس القرآني ، وعبث ينشئه الفراغ من الاهتمام الحقيقي بالقرآن والإسلام
{ فأما من ثقلت موازينه } في اعتبار الله وتقويمه { فهو في عيشة راضية } . . ويدعها مجملة بلا تفصيل ، توقع في الحس ظلال الرضى وهو أروح النعيم .
{ وأما من خفت موازينه } في اعتبار الله وتقويمه { فأمه هاوية } . . والأم هي مرجع الطفل وملاذه . فمرجع القوم وملاذهم يومئذ هو الهاوية وفي التعبير أناقة ظاهرة ، وتنسيق خاص . وفيه كذلك غموض يمهد لإيضاح بعده يزيد في عمق الأثر المقصود :
{ وما أدراك ماهيه؟ } . .
سؤال التجهيل والتهويل المعهود في القرآن ، لإخراج الأمر عن حدود التصور وحيز الإدراك
ثم يجيء الجواب كنبرة الختام :
{ نار حامية } . .
هذه هي أم الذي خفت موازينه أمه التي يفيء إليها ويأوي والأم عندها الأمن والراحة . فماذا هو واجد عند أمه هذه . . الهاوية . . النار . . الحامية
إنها مفاجأة تعبيرية تمثل الحقيقة القاسية

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

هذه السورة ذات إيقاع جليل رهيب عميق وكأنما هي صوت نذير ، قائم على شرف عال . يمد بصوته ويدوي بنبرته . يصيح بنوّم غافلين مخمورين سادرين ، أشرفوا على الهاوية وعيونهم مغمضة ، وحسهم مسحور . فهو يمد بصوته إلى أعلى وأبعد ما يبلغ :
{ ألهاكم التكاثر . حتى زرتم المقابر } . .
أيها السادرون المخمورون . أيها اللاهون المتكاثرون بالأموال والأولاد وأعراض الحياة وأنتم مفارقون . أيها المخدوعون بما أنتم فيه عما يليه . أيها التاركون ما تتكاثرون فيه وتتفاخرون إلى حفرة ضيقة لا تكاثر فيها ولا تفاخر . . استيقظوا وانظروا . . فقد { ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر } .
ثم يقرع قلوبهم بهول ما ينتظرهم هناك بعد زيارة المقابر في إيقاع رزين :
{ كلا سوف تعلمون } . .
ويكرر هذا الإيقاع بألفاظه وجرسه الرهيب الرصين :
{ ثم كلا سوف تعلمون } .
ثم يزيد التوكيد عمقاً ورهبة . وتلويحاً بما وراءه من أمر ثقيل . لا يتبينون حقيقته الهائلة في غمرة الخمار والاستكثار :
{ كلا لو تعلمون علم اليقين } . .
ثم يكشف عن هذه الحقيقة المطوية الرهيبة :
{ لتروُنّ الجحيم } . .
ثم يؤكد هذه الحقيقة ويعمق وقعها الرهيب في القلوب :
{ ثم لتروّنها عين اليقين } . .
ثم يلقي بالإيقاع الأخير ، الذي يدع المخمور يفيق ، والغافل يتنبه ، والسادر يتلفت ، والناعم يرتعش ويرتجف مما في يديه من نعيم :
{ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم }
لتسألن عنه من أين نلتموه؟ وفيم أنفقتموه؟ أمن طاعة وفي طاعة؟ أم من معصية وفي معصية؟ أمن حلال وفي حلال؟ أم من حرام وفي حرام؟ . هل شكرتم؟ هل أديتم؟ هل شاركتم؟ هل استأثرتم؟
{ لتسألن } عما تتكاثرون به وتتفاخرون . . فهو عبء تستخفونه في غمرتكم ولهوكم ولكن وراءه ما وراءه من هم ثقيل
إنها سورة تعبر بذاتها عن ذاتها . وتلقي في الحس ما تلقي بمعناها وإيقاعها . وتدع القلب مثقلاً مشغولاً بهم الآخرة عن سفساف الحياة الدنيا وصغائر اهتماماتها التي يهش لها الفارغون
إنها تصور الحياة الدنيا كالومضة الخاطفة في الشريط الطويل . . { ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر } . . وتنتهي ومضة الحياة وتنطوي صفحتها الصغيرة . . ثم يمتد الزمن بعد ذلك وتمتد الأثقال؛ ويقوم الأداء التعبيري ذاته بهذا الإيحاء . فتتسق الحقيقة مع النسق التعبيري الفريد . .
وما يقرأ الإنسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة ، بإيقاعاتها الصاعدة الذاهبة في الفضاء إلى بعيد في مطلعها ، الرصينة الذاهبة إلى القرار العميق في نهايتها . . حتى يشعر بثقل ما على عاتقه من أعقاب هذه الحياة الوامضة التي يحياها على الأرض ، ثم يحمل ما يحمل منها ويمضي به مثقلاً في الطريق
ثم ينشئ يحاسب نفسه على الصغير والزهيد

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

في هذه السورة الصغيرة ذات الآيات الثلاث يتمثل منهج كامل للحياة البشرية كما يريدها الإسلام . وتبرز معالم التصور الإيماني بحقيقته الكبيرة الشاملة في أوضح وأدق صورة . إنها تضع الدستور الإسلامي كله في كلمات قصار . وتصف الأمة المسلمة : حقيقتها ووظيفتها . في آية واحدة هي الآية الثالثة من السورة . . وهذا هو الإعجاز الذي لا يقدر عليه إلا الله . .
والحقيقة الضخمة التي تقررها هذه السورة بمجموعها هي هذه :
إنه على امتداد الزمان في جميع الأعصار ، وامتداد الإنسان في جميع الأدهار ، ليس هنالك إلا منهج واحد رابح ، وطريق واحد ناج . هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده ، وهو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه . وكل ما وراء ذلك ضياع وخسار . .
{ والعصر ، إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات ، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } .
إنه الإيمان . والعمل الصالح . والتواصي بالحق . والتواصي بالصبر . .
فما الإيمان؟؟
نحن لا نعرّف الإيمان هنا تعريفه الفقهي؛ ولكننا نتحدث عن طبيعته وقيمته في الحياة .
إنه اتصال هذا الكائن الإنساني الفاني الصغير المحدود بالأصل المطلق الأزلي الباقي الذي صدر عنه الوجود . ومن ثم اتصاله بالكون الصادر عن ذات المصدر ، وبالنواميس التي تحكم هذا الكون ، وبالقوى والطاقات المذخورة فيه . والانطلاق حينئذ من حدود ذاته الصغيرة إلى رحابة الكون الكبير . ومن حدود قوته الهزيلة إلى عظمة الطاقات الكونية المجهولة . ومن حدود عمره القصير إلى امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا الله .
وفضلاً عما يمنحه هذا الاتصال للكائن الإنساني من قوة وامتداد وانطلاق ، فإنه يمنحه إلى جانب هذا كله متاعاً بالوجود وما فيه من جمال ، ومن مخلوقات تتعاطف أرواحها مع روحه . فإذا الحياة رحلة في مهرجان إلهي مقام للبشر في كل مكان وفي كل أوان . . وهي سعادة رفيعة ، وفرح نفيس ، وأنس بالحياة والكون كأنس الحبيب بالحبيب . وهو كسب لا يعدله كسب . وفقدانه خسران لا يعدله خسران . .
ثم إن مقومات الإيمان هي بذاتها مقومات الإنسانية الرفيعة الكريمة . .
التعبد لإله واحد ، يرفع الإنسان عن العبودية لسواه ، ويقيم في نفسه المساواة مع جميع العباد ، فلا يذل لأحد ، ولا يحني رأسه لغير الواحد القهار . . ومن هنا الانطلاق التحرري الحقيقي للإنسان . والانطلاق الذي ينبثق من الضمير ومن تصور الحقيقة الواقعة في الوجود . إنه ليس هناك إلا قوة واحدة وإلا معبود واحد . فالانطلاق التحرري ينبثق من هذا التصور انبثاقاً ذاتياً ، لأنه هو الأمر المنطقي الوحيد .
والربانية التي تحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان تصوراته وقيمه وموازينه واعتباراته وشرائعه وقوانينه ، وكل ما يربطه بالله ، أو بالوجود ، أو بالناس . فينتفي من الحياة الهوى والمصلحة ، وتحل محلهما الشريعة والعدالة . وترفع من شعور المؤمن بقيمة منهجه ، وتمده بالاستعلاء على تصورات الجاهلية وقيمها واعتباراتها ، وعلى القيم المستمدة من الارتباطات الأرضية الواقعة .

. ولو كان فرداً واحداً ، لأنه إنما يواجهها بتصورات وقيم واعتبارات مستمدة من الله مباشرة فهي الأعلى والأقوى والأولى بالاتباع والاحترام .
ووضوح الصلة بين الخالق والمخلوق ، وتبين مقام الألوهية ومقام العبودية على حقيقتها الناصعة ، مما يصل هذه الخليقة الفانية بالحقيقة الباقية في غير تعقيد ، وبلا وساطة في الطريق . ويودع القلب نوراً ، والروح طمأنينة ، والنفس أنساً وثقة . وينفي التردد والخوف والقلق والاضطراب كما ينفي الاستكبار في الأرض بغير الحق ، والاستعلاء على العباد بالباطل والافتراء
والاستقامة على المنهج الذي يريده الله . فلا يكون الخير فلته عارضة ، ولا نزوة طارئة ، ولا حادثة منقطعة . إنما ينبعث عن دوافع ، ويتجه إلى هدف ، ويتعاون عليه الأفراد المرتبطون في الله ، فتقوم الجماعة المسلمة ذات الهدف الواحد الواضح ، والراية الواحدة المتميزة . كما تتضامن الأَجيال المتعاقبة الموصولة بهذا الحبل المتين .
والاعتقاد بكرامة الإنسان على الله ، يرفع من اعتباره في نظر نفسه ، ويثير في ضميره الحياء من التدني عن المرتبة التي رفعه الله إليها . وهذا أرفع تصور يتصوره الإنسان لنفسه . . أنه كريم عند الله . . وكل مذهب أو تصور يحط من قدر الإنسان في نظر نفسه ، ويرده إلى منبت حقير ، ويفصل بينه وبين الملأ الأعلى . . هو تصور أو مذهب يدعوه إلى التدني والتسفل ولو لم يقل له ذلك صراحة
ومن هنا كانت إيحاءات الدارونية والفرويدية والماركسية هي أبشع ما تبتلى به الفطرة البشرية والتوجيه الإنساني ، فتوحي إلى البشر بأن كل سفالة وكل قذارة وكل حقارة هي أمر طبيعي متوقع ، ليس فيه ما يستغرب ، ومن ثم ليس فيه ما يخجل . . وهي جناية على البشرية تستحق المقت والازدراء
ونظافة المشاعر تجيء نتيجة مباشرة للشعور بكرامة الإنسان على الله . ثم برقابة الله على الضمائر واطلاعه على السرائر . وإن الإنسان السوي الذي لم تمسخه إيحاءات فرويد وكارل ماركس وأمثالهما ، ليستحيي أن يطلع إنسان مثله على شوائب ضميره وخائنة شعوره . والمؤمن يحس وقع نظر الله سبحانه في أطواء حسه إحساساً يرتعش له ويهتز . فأولى أن يطهر حسه هذا وينظفه
والحاسة الأخلاقية ثمرة طبيعية وحتمية للإيمان بإله عادل رحيم عفو كريم ودود حليم ، يكره الشر ويحب الخير . ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
وهناك التبعة المترتبة على حرية الإرادة وشمول الرقابة ، وما تثيره في حس المؤمن من يقظة وحساسية ، ومن رزانة وتدبر . وهي ليست تبعة فردية فحسب ، إنما هي كذلك تبعة جماعية ، وتبعة تجاه الخير في ذاته ، وإزاء البشرية جميعاً . . أمام الله . . وحين يتحرك المؤمن حركة فهو يحس بهذا كله ، فيكبر في عين نفسه ، ويقدر نتيجة خطوه قبل أن يمد رجله . . إنه كائن له قيمة في الوجود ، وعليه تبعة في نظام هذا الوجود .

.
والارتفاع عن التكالب على أعراض الحياة الدنيا وهو بعض إيحاءات الإيمان واختيار ما عند الله ، وهو خير وأبقى . { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } والتنافس على ما عند الله يرفع ويطهر وينظف . . يساعد على هذا سعة المجال الذي يتحرك فيه المؤمن . . بين الدنيا والآخرة ، والأرض والملأ الأعلى . مما يهدئ في نفسه القلق على النتيجة والعجلة على الثمرة . فهو يفعل الخير لأنه الخير ، ولأن الله يريده ، ولا عليه ألا يدرّ الخير خيراً على مشهد من عينيه في عمره الفردي المحدود . فالله الذي يفعل الخير ابتغاء وجهه لا يموت سبحانه - ولا ينسى ، ولا يغفل شيئاً من عمله . والأرض ليست دار جزاء . والحياة الدنيا ليست نهاية المطاف . ومن ثم يستمد القدرة على مواصلة الخير من هذا الينبوع الذي لا ينضب . وهذا هو الذي يكفل أن يكون الخير منهجاً موصولاً ، لا دفعة طارئة ، ولا فلتة مقطوعة . وهذا هو الذي يمد المؤمن بهذه القوة الهائلة التي يقف بها في وجه الشر . سواء تمثل في طغيان طاغية ، أو في ضغط الاعتبارات الجاهلية ، أو في اندفاع نزواته هو وضغطها على إرادته . هذا الضغط الذي ينشأ أول ما ينشأ من شعور الفرد بقصر عمره عن استيعاب لذائذه وتحقيق أطماعه ، وقصره كذلك عن رؤية النتائج البعيدة للخير ، وشهود انتصار الحق على الباطل والإيمان يعالج هذا الشعور علاجاً أساسياً كاملاً .
إن الإيمان هو أصل الحياة الكبير ، الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير ، وتتعلق به كل ثمرة من ثماره ، وإلا فهو فرع مقطوع من شجرته ، صائر إلى ذبول وجفاف . وإلا فهي ثمرة شيطانية ، وليس لها امتداد أو دوام
وهو المحور الذي تشد إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة . وإلا فهي مفلتة لا تمسك بشيء ، ذاهبة بدداً مع الأهواء والنزوات . .
وهو المنهج الذي يضم شتات الأعمال ، ويردها إلى نظام تتناسق معه وتتعاون ، وتنسلك في طريق واحد ، وفي حركة واحدة ، لها دافع معلوم ، ولها هدف مرسوم . .
ومن ثم يهدر القرآن قيمة كل عمل لا يرجع إلى هذا الأصل ، ولا يشد إلى هذا المحور ، ولا ينبع من هذا المنهج . والنظرية الإسلامية صريحة في هذا كل الصراحة . . جاء في سورة إبراهيم : { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف . لا يقدرون مما كسبوا على شيء } وجاء في سورة النور : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } وهي نصوص صريحة في إهدار قيمة العمل كله ، ما لم يستند إلى الإيمان ، الذي يجعل له دافعاً موصولاً بمصدر الوجود ، وهدفاً متناسقاً مع غاية الوجود . وهذه هي النظرة المنطقية لعقيدة ترد الأمور كلها إلى الله . فمن انقطع عنه فقد انقطع وفقد حقيقة معناه .
إن الإيمان دليل على صحة الفطرة وسلامة التكوين الإنساني ، وتناسقه مع فطرة الكون كله ، ودليل التجاوب بين الإنسان والكون من حوله .

فهو يعيش في هذا الكون ، وحين يصح كيانه لا بد أن يقع بينه وبين هذا الكون تجاوب . ولا بد أن ينتهي هذا التجاوب إلى الإيمان ، بحكم ما في الكون ذاته من دلائل وإيحاءات عن القدرة المطلقة التي أبدعته على هذا النسق . فإذا فقد هذا التجاوب أو تعطل ، كان هذا بذاته دليلاً على خلل ونقص في الجهاز الذي يتلقى ، وهو هذا الكيان الإنساني . وكان هذا دليل فساد لا يكون معه إلا خسران . ولا يصح معه عمل ولو كان في ظاهره مسحة من الصلاح .
وإن عالم المؤمن من السعة والشمول والامتداد والارتفاع والجمال والسعادة بحيث تبدو إلى جانبه عوالم غير المؤمنين صغيرة ضئيلة هابطة هزيلة شائهة شقية . . خاسرة أي خسران
والعمل الصالح وهو الثمرة الطبيعية للإيمان ، والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب . فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة . ما إن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح . . هذا هو الإيمان الإسلامي . . لا يمكن أن يظل خامداً لا يتحرك ، كامناً لا يتبدى في صورة حية خارج ذات المؤمن . . فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت . شأنه شأن الزهرة لا تمسك أريجها . فهو ينبعث منها انبعاثاً طبيعياً . وإلا فهو غير موجود
ومن هنا قيمة الإيمان . . إنه حركة عمل وبناء وتعمير . . يتجه إلى الله . . إنه ليس انكماشاً وسلبية وانزواء في مكنونات الضمير . وليس مجرد النوايا الطيبة التي لا تتمثل في حركة وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منة قوة بناء كبرى في صميم الحياة .
وهذا مفهوم ما دام الإيمان هو الارتباط بالمنهج الرباني . وهذا المنهج حركة دائمة متصلة في صميم الوجود . صادرة عن تدبير ، متجهة إلى غاية . وقيادة الإيمان للبشرية هي قيادة لتحقيق منهج الحركة التي هي طبيعة الوجود . الحركة الخيرة النظيفة البانية المعمرة اللائقة بمنهج يصدر عن الله .
أما التواصي بالحق والتواصي بالصبر فتبرز من خلالها صورة الأمة المسلمة أو الجماعة المسلمة ذات الكيان الخاص ، والرابطة المميزة ، والوجهة الموحدة . الجماعة التي تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها . والتي تعرف حقيقة ما هي مقدمة عليه من الإيمان والعمل الصالح ، الذي يشمل فيما يشمل قيادة البشرية في طريق الإيمان والعمل الصالح؛ فتتواصى فيما بينها بما يعينها على النهوض بالأمانة الكبرى .
فمن خلال لفظ التواصي ومعناه وطبيعته وحقيقته تبرز صورة الأمة أو الجماعة المتضامة المتضامنة . الأمة الخيرة . الواعية . القيمة في الأرض على الحق والعدل والخير . . وهي أعلى وأنصع صورة للأمة المختارة . . وهكذا يريد الإسلام أمة الإسلام . . هكذا يريدها أمة خيرة قوية واعية قائمة على حراسة الحق والخير ، متواصية بالحق والصبر في مودة وتعاون وتآخ تنضح بها كلمة التواصي في القرآن .

.
والتواصي بالحق ضرورة . فالنهوض بالحق عسير . والمعوقات عن الحق كثيرة : هوى النفس ، ومنطق المصلحة ، وتصورات البيئة . وطغيان الطغاة ، وظلم الظلمة ، وجور الجائرين . . والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية ، والأخوة في العبء والأمانة . فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية ، إذ تتفاعل معاً فتتضاعف . تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولا يخذله . . وهذا الدين وهو الحق لا يقوم إلا في حراسة جماعة متواصية متكافلة متضامنة على هذا المثال .
والتواصي بالصبر كذلك ضرورة . فالقيام على الإيمان والعمل الصالح ، وحراسة الحق والعدل ، من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة . ولا بد من الصبر . لا بد من الصبر على جهاد النفس ، وجهاد الغير . والصبر على الأذى والمشقة . والصبر على تبجح الباطل وتنفج الشر . والصبر على طول الطريق وبطء المراحل ، وانطماس المعالم ، وبعد النهاية
والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة ، بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف ، ووحدة المتجه ، وتساند الجميع ، وتزودهم بالحب والعزم والإصرار . . إلى آخر ما يثيره من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوها ، ولا تبرز إلا من خلالها . . وإلا فهو الخسران والضياع .
وننظر اليوم من خلال هذا الدستور الذي يرسمه القرآن لحياة الفئة الرابحة الناجية من الخسران ، فيهولنا أن نرى الخسر يحيق بالبشرية في كل مكان على ظهر الأرض بلا استثناء . يهولنا هذا الضياع الذي تعانيه البشرية في الدنيا قبل الآخرة يهولنا أن نرى إعراض البشرية ذلك الإعراض البائس عن الخير الذي أفاضه الله عليها؛ مع فقدان السلطة الخيرة المؤمنة القائمة على الحق في هذه الأرض . . هذا والمسلمون أو أصحاب دعوى الإسلام بتعبير أدق هم أبعد أهل الأرض عن هذا الخير ، وأشدهم إعراضاً عن المنهج الإلهي الذي اختاره الله لهم ، وعن الدستور الذي شرعه لأمتهم ، وعن الطريق الوحيد الذي رسمه للنجاة من الخسران والضياع . والبقاع الي انبعث منها هذا الخير أول مرة تترك الراية التي رفعها لها الله ، راية الإيمان ، لتتعلق برايات عنصرية لم تنل تحتها خيراً قط في تاريخها كله . لم يكن لها تحتها ذكر في الأرض ولا في السماء . حتى جاء الإسلام فرفع لها هذه الراية المنتسبة لله ، لا شريك له ، المسماة باسم الله لا شريك له ، الموسومة بميسم الله لا شريك له . . الراية التي انتصر العرب تحتها وسادوا وقادوا البشرية قيادة خيرة قوية واعية ناجية لأول مرة في تاريخهم وفي تاريخ البشرية الطويل . .
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم : « ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ » . . عن هذه القيادة الخيرة الفذة في التاريخ كله ، وتحت عنوان « عهد القيادة الإسلامية » : « الأئمة المسلمون وخصائصهم » :
« ظهر المسلمون ، وتزعموا العالم ، وعزلوا الأمم المزيفة من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها ، وساروا بالإنسانية سيراً حثيثاً متزناً عادلاً ، وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم ، وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم » .

« أولاً : أنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية ، فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم . لأن ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم ، ولا يخبطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خبط عشواء ، وقد جعل الله لهم نوراً يمشون به في الناس ، وجعل لهم شريعة يحكمون بها الناس { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؟ } وقد قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى ، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } ثانياً : أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس ، بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر ، بل مكثوا زمناً طويلاً تحت تربية محمد صلى الله عليه وسلم وإشرافه الدقيق ، يزكيهم ويؤدبهم ، ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والإيثار وخشية الله ، وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها . يقول : » إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله ، أو أحداً حرص عليه « .
ولا يزال يقرع سمعهم : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين } فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب ، فضلاً عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة ، ويزكوا أنفسهم ، وينشروا دعاية لها ، وينفقوا الأموال سعياً وراءها . فإذا تولوا شيئاً من أمور الناس لم يعدوه مغنماً أو طعمة أو ثمناً لما أنفقوا من مال أو جهد؛ بل عدوه أمانة في عنقهم ، وامتحاناً من الله؛ ويعلمون أنهم موقوفون عند ربهم ، ومسؤولون عن الدقيق والجليل ، وتذكروا دائماً قول الله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } وقوله . . { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ، ليبلوكم فيما آتاكم } » ثالثاً : إنهم لم يكونوا خدمة جنس ، ورسل شعب أو وطن ، يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده؛ ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان ، لم يخلقوا إلا ليكونوا حكاماً ، ولم تخلق إلا لتكون محكومة لهم . ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها ، ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها ، ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكم أنفسهم إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعاً إلى عبادة الله وحده . كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد : الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام « .

فالأمم عندهم سواء ، والناس عندهم سواء الناس كلهم من آدم ، وآدم من تراب . لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وقد قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص عامل مصر وقد ضرب ابنه مصرياً وافتخر بآبائه قائلاً : خذها من ابن الأكرمين . فاقتص منه عمر : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أحراراً أمهاتهم؟ فلم يبخل هؤلاء بما عندهم من دين وعلم وتهذيب على أحد ، ولم يراعوا في الحكم والإمارة والفضل نسباً ولوناً ووطناً ، بل كانوا سحابة انتظمت البلاد وعمت العباد ، وغوادي مزنة أثنى عليها السهل والوعر ، وانتفعت بها البلاد والعباد على قدر قبولها وصلاحها .
في ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب حتى المضطهدة منها في القديم أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكومة ، وأن تساهم العرب في بناء العالم الجديد ، بل إن كثيراً من أفرادها فاقوا العرب في بعض الفضائل ، وكان منهم أئمة هم تيجان مفارق العرب وسادة المسلمين من الأئمة والفقهاء والمحدثين . .
« رابعاً : إن الإنسان جسم وروح ، وهو ذو قلب وعقل وعواطف وجوارح ، لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رقياً متزناً عادلاً حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نمواً متناسباً لائقاً بها ، ويتغذى غذاء صالحاً ، ولا يمكن أن توجد المدنية الصالحة ألبتة إلا إذا ساد وسط ديني خلقي عقلي جسدي يمكن فيه للإنسان بسهولة أن يبلغ كماله الإنساني . وقد أثبتت التجربة أنه لا يكون ذلك إلا إذا مكنت قيادة الحياة وإدارة دفة المدنية بين الذين يؤمنون بالروح والمادة ، ويكونون أمثلة كاملة في الحياة الدينية والخلقية ، وأصحاب عقول سليمة راجحة ، وعلوم صحيحة نافعة » . .
إلى أن يقول تحت عنوان : « دور الخلافة الراشدة مثل المدنية الصالحة » :
« وكذلك كان ، فلم نعرف دوراً من أدوار التاريخ أكمل وأجمل وأزهر في جميع هذه النواحي من هذا الدور دور الخلافة الراشدة فقد تعاونت فيه قوة الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المادية في تنشئة الإنسان الكامل . وفي ظهور المدنية الصالحة . . كانت حكومة من أكبر حكومات العالم ، وقوة سياسية مادية تفوق كل قوة في عصرها ، تسود فيها المثل الخلقية العليا ، وتحكم معايير الأخلاق الفاضلة في حياة الناس ونظام الحكم ، وتزدهر فيها الأخلاق والفضيلة مع التجارة والصناعة ، ويساير الرقي الخلقي والروحي اتساع الفتوح واحتفال الحضارة ، فتقل الجنايات ، وتندر الجرائم بالنسبة إلى مساحة المملكة وعدد سكانها ورغم دواعيها وأسبابها ، وتحسن علاقة الفرد بالفرد ، والفرد بالجماعة ، وعلاقة الجماعة بالفرد .

وهو دور كمالي لم يحلم الإنسان بأرقى منه ، ولم يفترض المفترضون أزهى منه . . « .
هذه بعض ملامح تلك الحقبة السعيدة التي عاشتها البشرية في ظل الدستور الإسلامي الذي تضع » سورة العصر « قواعده ، وتحت تلك الراية الإيمانية التي تحملها جماعة الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر .
فأين منها هذا الضياع الذي تعانيه البشرية اليوم في كل مكان ، والخسار الذي تبوء به في معركة الخير والشر ، والعماء عن ذلك الخير الكبير الذي حملته الأمة العربية للبشر يوم حملت راية الإسلام فكانت لها القيادة . ثم وضعت هذه الراية فإذا هي في ذيل القافلة . وإذا القافلة كلها تعطو إلى الضياع والخسار . وإذا الرايات كلها بعد ذلك للشيطان ليس فيها راية واحدة لله . وإذا هي كلها للباطل ليس فيها راية واحدة للحق . وإذا هي كلها للعماء والضلال ليس فيها راية واحدة للهدى والنور ، وإذا هي كلها للخسار ليس فيها راية واحدة للفلاح وراية الله ما تزال . وإنها لترتقب اليد التي ترفعها والأمة التي تسير تحتها إلى الخير والهدى والصلاح والفلاح .
ذلك شأن الربح والخسر في هذه الأرض . وهو على عظمته إذا قيس بشأن الآخرة صغير . وهناك . هناك الربح الحق والخسر الحق . هناك في الأمد الطويل ، وفي الحياة الباقية ، وفي عالم الحقيقة . . هناك الربح والخسر : ربح الجنة والرضوان ، أو خسر الجنة والرضوان . هناك حيث يبلغ الإنسان أقصى الكمال المقدر له ، أو يرتكس فتهدر آدميته ، وينتهي إلى أن يكون حجراً في القيمة ودون الحجر في الراحة :
{ يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر : يا ليتني كنت تراباً } وهذه السورة حاسمة في تحديد الطريق . . إنه الخسر . . { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } . . طريق واحد لا يتعدد . طريق الإيمان والعمل الصالح وقيام الجماعة المسلمة ، التي تتواصى بالحق وتتواصى بالصبر . وتقوم متضامنة على حراسة الحق مزودة بزاد الصبر .
إنه طريق واحد . ومن ثم كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة » والعصر « ثم يسلم أحدهما على الآخر . . لقد كانا يتعاهدان على هذا الدستور الإلهي ، يتعاهدان على الإيمان والصلاح ، ويتعاهدان على التواصي بالحق والتواصي بالصبر . ويتعاهدان على أنهما حارسان لهذا الدستور . ويتعاهدان على أنهما من هذه الأمة القائمة على هذا الدستور . .

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

تعكس هذه السورة من الصور الواقعية في حياة الدعوة في عهدها الأول . وهي في الوقت ذاته نموذج يتكرر في كل بيئة . . صورة اللئيم الصغير النفس ، الذي يؤتى المال فتسيطر نفسه به ، حتى ما يطيق نفسه ويروح يشعر أن المال هو القيمة العليا في الحياة . القيمة التي تهون أمامها جميع القيم وجميع الأقدار : أقدار الناس . وأقدار المعاني . وأقدار الحقائق . وأنه وقد ملك المال فقد ملك كرامات الناس وأقدارهم بلا حساب
كما يروح يحسب أن هذا المال إله قادر على كل شيء؛ لا يعجز عن فعل شيء حتى دفع الموت وتخليد الحياة . ودفع قضاء الله وحسابه وجزائه إن كان هناك في نظره حساب وجزاء
ومن ثم ينطلق في هوس بهذا المال يعده ويستلذ تعداده؛ وتنطلق في كيانه نفخة فاجرة ، تدفعه إلى الاستهانة بأقدار الناس وكراماتهم . ولمزهم وهمزهم . . يعيبهم بلسانه ويسخر منهم بحركاته . سواء بحكاية حركاتهم وأصواتهم ، أو بتحقير صفاتهم وسماتهم . . بالقول والإشارة . بالغمز واللمز . باللفتة الساخرة والحركة الهازئة
وهي صورة لئيمة حقيرة من صور النفوس البشرية حين تخلو من المروءة وتعرى من الإيمان . والإسلام يكره هذه الصورة الهابطة من صور النفوس بحكم ترفعه الأخلاقي . وقد نهى عن السخرية واللمز والعيب في مواضع شتى . إلا أن ذكرها هنا بهذا التشنيع والتقبيح مع الوعيد والتهديد ، يوحي بأنه كان يواجه حالة واقعية من بعض المشركين تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجاه المؤمنين . . فجاء الرد عليها في صورة الردع الشديد ، والتهديد الرعيب . وقد وردت روايات بتعيين بعض الشخصيات . ولكنها ليست وثيقة . فنكتفي نحن بما قررناه عنها . .
والتهديد يجيء في صورة مشهد من مشاهد القيامة يمثل صورة للعذاب مادية ونفسية ، وصورة للنار حسية ومعنوية . وقد لوحظ فيها التقابل بين الجرم وطريقة الجزاء وجو العقاب . فصورة الهمزة اللمزة ، الذي يدأب على الهزء بالناس وعلى لمزهم في أنفسهم وأعراضهم ، وهو يجمع المال فيظنه كفيلاً بالخلود صورة هذا المتعالي الساخر المستقوي بالمال ، تقابلها صورة « المنبوذ » المهمل المتردي في { الحطمة } التي تحطم كل ما يلقى إليها ، فتحطم كيانه وكبرياءه . وهي { نار الله الموقدة } وإضافتها لله وتخصيصها هكذا يوحي بأنها نار فذة ، غير معهودة ، ويخلع عليها رهبة مفزعة رعيبة . وهي { تطلع } على فؤاده الذي ينبعث منه الهمز واللمز ، وتكمن فيه السخرية والكبرياء والغرور . . وتكملة لصورة المحطم المنبوذ المهمل . . هذه النار مغلقة عليه ، لا ينقذه منها أحد ، ولا يسأل عنه فيها أحد وهو موثق فيها إلى عمود كما توثق البهائم بلا احترام وفي جرس الألفاظ تشديد : { عدّده . كلا . لينبذن . تطلع . ممدّدة } وفي معاني العبارات توكيد بشتى أساليب التوكيد : { لينبذن في الحطمة .

وما أدراك ما الحطمة؟ نار الله الموقدة . . } فهذا الإجمال والإبهام . ثم سؤال الاستهوال . ثم الاجابة والبيان . . كلها من أساليب التوكيد والتضخيم . . وفي التعبير تهديد { ويل . لينبذن . الحطمة . . نار الله الموقدة . التي تطلع على الأفئدة . إنها عليهم مؤصدة . في عمد ممددة } . .
وفي ذلك كله لون من التناسق التصويري والشعوري يتفق مع فعلة { الهمزة اللمزة }
لقد كان القرآن يتابع أحداث الدعوة ويقودها في الوقت ذاته . وكان هو السلاح البتار الصاعق الذي يدمر كيد الكائدين ، ويزلزل قلوب الأعداء ، ويثبت أرواح المؤمنين .
وإنا لنرى في عناية الله سبحانه بالرد على هذه الصورة معنيين كبيرين :
الأول : تقبيح الهبوط الأخلاقي وتبشيع هذه الصورة الهابطة من النفوس .
والثاني : المنافحة عن المؤمنين وحفظ نفوسهم من أن تتسرب إليها مهانة الإهانة ، وإشعارهم بأن الله يرى ما يقع لهم ، ويكرهه ، ويعاقب عليه . . وفي هذا كفاية لرفع أرواحهم واستعلائها على الكيد اللئيم . .

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)

تشير هذه السورة إلى حادث مستفيض الشهرة في حياة الجزيرة العربية قبل البعثة ، عظيم الدلالة على رعاية الله لهذه البقعة المقدسة التي اختارها الله لتكون ملتقى النور الأخير ، ومحضن العقيدة الجديدة ، والنقطة التي تبدأ منها زحفها المقدس لمطاردة الجاهلية في أرجاء الأرض ، وإقرار الهدى والحق والخير فيها . .
وجملة ما تشير إليه الروايات المتعددة عن هذا الحادث ، أن الحاكم الحبشي لليمن في الفترة التي خضعت فيها اليمن لحكم الحبشة بعد طرد الحكم الفارسي منها وتسميه الروايات : « أبرهة » ، كان قد بنى كنيسة في اليمن باسم ملك الحبشة وجمع لها كل أسباب الفخامة ، على نية أن يصرف بها العرب عن البيت الحرام في مكة ، وقد رأى مبلغ انجذاب أهل اليمن الذين يحكمهم إلى هذا البيت ، شأنهم شأن بقية العرب في وسط الجزيرة وشماليها كذلك . وكتب إلى ملك الحبشة بهذه النية . .
ولكن العرب لم ينصرفوا عن بيتهم المقدس ، فقد كانوا يعتقدون أنهم أبناء إبراهيم وإسماعيل صاحبي هذا البيت ، وكان هذا موضع اعتزازهم على طريقتهم بالفخر بالأنساب . وكانت معتقداتهم على تهافتها أفضل في نظرهم من معتقدات أهل الكتاب من حولهم ، وهم يرون ما فيها من خلل واضطراب وتهافت كذلك .
عندئذ صح عزم « أبرهة » على هدم الكعبة ليصرف الناس عنهم؛ وقاد جيشاً جراراً تصاحبه الفيلة ، وفي مقدمتها فيل عظيم ذو شهرة خاصة عندهم . فتسامع العرب به وبقصده . وعز عليهم أن يتوجه لهدم كعبتهم . فوقف في طريقه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن البيت الحرام ، فأجابه إلى ذلك من أجابه . ثم عرض له فقاتله ، ولكنه هزم وأخذه أبرهة أسيراً .
ثم وقف له في الطريق كذلك نفيل ابن حبيب الخثعمي في قبيلتين من العرب ومعهما عرب كثير ، فهزمهم كذلك وأسر نفيلا ، الذي قبل أن يكون دليله في أرض العرب .
حتى إذا مر بالطائف خرج إليه رجال من ثقيف فقالوا له : إن البيت الذي يقصده ليس عندهم إنما هو في مكة . وذلك ليدفعوه عن بيتهم الذي بنوه للاّت وبعثوا معه من يدله على الكعبة
فلما كان أبرهة بالمغمس بين الطائف ومكة ، بعث قائداً من قواده حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال تهامة من قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله . ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوا ذلك .
وبعث أبرهة رسولاً إلى مكة يسأل عن سيد هذا البلد ، ويبلغه أن الملك لم يأت لحربهم وإنما جاء لهدم هذا البيت ، فإن لم يتعرضوا له فلا حاجة له في دمائهم فإذا كان سيد البلد لا يريد الحرب جاء به إلى الملك .

. فلما كلم عبد المطلب فيما جاء به قال له : والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة . هذا بيت الله الحرام . وبيت خليله إبراهيم عليه السلام . . فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه . . فانطلق معه إلى أبرهة . .
قال ابن إسحاق : وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم . فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه ، وأكرمه عن أن يجلسه تحته ، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه . فنزل أبرهة عن سريره ، فجلس على بساطه وأجلسه معه إلى جانبه . ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك؟ فقال : حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي . فلما قال ذلك ، قال أبرهة لترجمانه؛ قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟ قال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل . وإن للبيت رباً سيمنعه . قال : ما كان ليمتنع مني . قال : أنت وذاك . . فرد عليه إبله .
ثم انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة ، والتحرز في شعف الجبال . ثم قام فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه . وروي عن عبد المطلب أنه أنشد :
لا هُمَّ إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك . ... لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك ... إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمرٌ ما بدا لك ... فأما أبرهة فوجه جيشه وفيله لما جاء له . فبرك الفيل دون مكة لا يدخلها ، وجهدوا في حمله على اقتحامها فلم يفلحوا . وهذه الحادثة ثابتة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية حين بركت ناقته القصواء دون مكة ، فقالوا : خلأت القصواء ( أي حرنت ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل . . » وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : « إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب » ، فهي حادثة ثابتة أنه قد حبس الفيل عن مكة في يوم الفيل . .
ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده ، فأرسل عليهم جماعات من الطير تحصبهم بحجارة من طين وحجر ، فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة . كما يحكي عنهم القرآن الكريم . . وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة ، حتى قدموا به صنعاء ، فما مات حتى انشق صدره عن قلبه كما تقول الروايات .

.
وتختلف الروايات هنا في تحديد نوع هذه الجماعات من الطير ، وأشكالها ، وأحجامها ، وأحجام هذه الحجارة ونوعها وكيفية فعلها . كما أن بعضها يروي أن الجدري والحصبة ظهرا في هذا العام في مكة .
ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات ، وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعمل عملها ، أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى . وأن الطير قد تكون هي الذباب والبعوض التي تحمل الميكروبات ، فالطير هو كل ما يطير .
قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره للسورة في جزء عم :
« وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة . . قال عكرمة : وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب . وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث : إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام . وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله . فكان لحمهم يتناثر ويتساقط فذعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين ، وأصيب الجيش ، ولم يزل يسقط لحمه قطعة قطعة ، وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء .
» هذا ما اتفقت عليه الروايات ، ويصح الاعتقاد به . وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح « .
» فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض ، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات ، فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه ، فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه . وأن كثيراً من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر ، وأن هذا الحيوان الصغير الذي يسمونه الآن بالمكروب لا يخرج عنها . وهو فرق وجماعات لا يحصي عددها إلا بارئها . . ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين ، على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال ، ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب ، ولا على أن يكون له ألوان خاصة به ، ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها . . فلله جند من كل شيء « .
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد
» وليست في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوته . فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت ، أرسل الله عليه من الطير ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة ، فأهلكته وأهلكت قومه ، قبل أن يدخل مكة . وهي نعمة غمر الله بها أهل حرمه على وثينتهم حفظاً لبيته ، حتى يرسل من يحميه بقوة دينه صلى الله عليه وسلم وإن كانت نعمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت دون جرم اجترمه ، ولا ذنب اقترفه « .

« هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة . وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل ، إن صحت روايته . ومما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسماً ويهلك ، بحيوان صغير لا يظهر للنظر ، ولا يدرك بالبصر ، حيث ساقه القدر . لا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر » .
ونحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الأستاذ الإمام صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم أو تلك التي جاءت بها بعض الروايات من أن الحجارة تخرق الرؤوس والأجسام وتنفذ منها وتمزق الأجساد فتدعها كفتات ورق الشجر الجاف وهو « العصف » . . لا نرى أن هذه الصورة أو تلك أدل على قدرة الله ، ولا أولى بتفسير الحادث . فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع . ومن حيث الدلالة على قدرة الله وتدبيره ، ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس ، المعهودة المكشوفة لعلمهم ، هي التي جرت فأهلكت قوماً أراد الله إهلاكهم . أو أن تكون سنة الله قد جرت بغير المألوف للبشر ، وغير المعهود المكشوف لعلمهم ، فحققت قدره ذاك .
إن سنة الله ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه . وما يعرف البشر من سنة الله إلا طرفاً يسيراً يكشفه الله لهم بمقدار ما يطيقون ، وبمقدار ما يتهيأون له بتجاربهم ومداركهم في الزمن الطويل ، فهذه الخوارق كما يسمونها هي من سنة الله . ولكنها خوارق بالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه
ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة مترددين ولا مؤولين لها متى صحت الرواية أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت خارقة ، ولم تجر على مألوف الناس ومعهودهم . وفي الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على ألسنة المألوفة أقل وقعاً ولا دلالة من جريانه على ألسنة الخارقة للمألوف . فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر . . إن طلوع الشمس وغروبها خارقة وهي معهودة كل يوم وإن ولادة كل طفل خارقة وهي تقع كل لحظة ، وإلا فليجرب من شاء أن يجرب وإن تسليط طير كائناً ما كان يحمل حجارة مسحوقة ملوثة بميكروبات الجدري والحصبة وإلقائها في هذه الأرض ، في هذا الأوان ، وإحداث هذا الوباء في الجيش ، في اللحظة التي يهم فيها باقتحام البيت . . إن جريان قدر الله على هذا النحو خارقة بل عدة خوارق كاملة الدلالة على القدرة وعلى التقدير . وليست بأقل دلالة ولا عظمة من أن يرسل الله طيراً خاصاً يحمل حجارة خاصة تفعل بالأجسام فعلاً خاصاً في اللحظة المقررة .

. هذه من تلك . . هذه خارقة وتلك خارقة على السواء . .
فأما في هذا الحادث بالذات ، فنحن أميل إلى اعتبار أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة ، وأن الله أرسل طيراً أبابيل غير معهودة وإن لم تكن هناك حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفاً مثيراً ، نجد له نظائر في مواضع أخرى تشي بأن عنصر المبالغة والتهويل مضاف إليها تحمل حجارة غير معهودة ، تفعل بالأجسام فعلاً غير معهود . .
نحن أميل إلى هذا الاعتبار . لا لأنه أعظم دلالة ولا أكبر حقيقة . ولكن لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب . فقد كان الله سبحانه يريد بهذا البيت أمراً . كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمناً؛ وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة ، في أرض حرة طليقة ، لا يهيمن عليها أحد من خارجها ، ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها . ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال ، حتى ليمتن بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة ، ويضربها مثلاً لرعاية الله لحرماته وغيرته عليها . . فمما يتناسق مع جو هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود ، بكل مقوّماته وبكل أجزائه ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذ . .
وبخاصة أن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده ، فإن الجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضواً عضواً وأنملة أنملة ، ولا يشق الصدر عن القلب . .
وهذه الصورة هي التي يوحي بها النص القرآني : { فجعلهم كعصف مأكول } . . إيحاء مباشراً قريباً .
ورواية عكرمة وما حدث به يعقوب بن عتبة ليست نصاً في أن الجيش أصيب بالجدري . فهي لا تزيد على أن تقول : إن الجدري ظهر في الجزيرة في هذا العام لأول مرة . ولم ترد في أقوالهما أية إشارة لأبرهة وجيشه خاصة بالإصابة بهذا المرض . . ثم إن إصابة الجيش على هذا النحو وعدم إصابة العرب القريبين بمثله في حينه تبدو خارقة إذا كانت الطير تقصد الجيش وحده بما تحمل . وما دامت المسألة خارقة فعلام العناء في حصرها في صورة معينة لمجرد أن هذه الصورة مألوفة لمدارك البشر وجريان الأمر على غير المألوف أنسب لجو الحادث كله؟
إننا ندرك ونقدر دوافع المدرسة العقلية التي كان الأستاذ الإمام رحمه الله على رأسها في تلك الحقبة . . ندرك ونقدر دوافعها إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات في تفسير القرآن الكريم وأحداث التاريخ ، ومحاولة ردها إلى المألوف المكشوف من السنن الكونية .

. فلقد كانت هذه المدرسة تواجه النزعة الخرافية الشائعة التي تسيطر على العقلية العامة في تلك الفترة؛ كما تواجه سيل الأساطير والإسرائيليات التي حشيت بها ، كتب التفسير والرواية في الوقت الذي وصلت فيه الفتنة بالعلم الحديث إلى ذروتها ، وموجة الشكّ في مقومات الدين إلى قمتها . فقامت هذه المدرسة تحاول أن ترد إلى الدين اعتباره على أساس أن كل ما جاء به موافق للعقل . ومن ثم تجتهد في تنقيته من الخرافات والأساطير . كما تحاول أن تنشئ عقلية دينية تفقه السنن الكونية ، وتدرك ثباتها واطرادها ، وترد إليها الحركات الإنسانية كما ترد إليها الحركات الكونية في الأجرام والأجسام وهي في صميمها العقلية القرآنية فالقرآن يرد الناس الناس إلى سنن الله الكونية باعتبارها القاعدة الثابتة المطردة المنظمة لمفردات الحركات والظواهر المتناثرة .
ولكن مواجهة ضغط الخرافة من جهة وضغط الفتنة بالعلم من جهة أخرى تركت آثارها في تلك المدرسة . من المبالغة في الاحتياط ، والميل إلى جعل مألوف السنن الكونية هو القاعدة الكلية لسنة الله . فشاع في تفسير الأستاذ الشيخ محمد عبده كما شاع في تفسير تلميذيه الأستاذ الشيخ رشيد رضا والأستاذ عبد القادر المغربي رحمهم الله جميعاً شاع في هذا التفسير الرغبة الواضحة في رد الكثير من الخوارق إلى مألوف سنة الله دون الخارق منها ، وإلى تأويل بعضها بحيث يلائم ما يسمونه « المعقول » وإلى الحذر والاحتراس الشديد في تقبل الغيبيات .
ومع إدراكنا وتقديرنا للعوامل البيئية الدافعة لمثل هذا الاتجاه ، فإننا نلاحظ عنصر المبالغة فيه ، وإغفال الجانب الآخر للتصور القرآني الكامل . وهو طلاقة مشيئة الله وقدرته من وراء السنن التي اختارها سواء المألوف منها للبشر أو غير المألوف هذه الطلاقة التي لا تجعل العقل البشري هو الحاكم الأخير . ولا تجعل معقول هذا العقل هو مرد كل أمر بحيث يتحتم تأويل ما لا يوافقه كما يتكرر هذا القول في تفسير أعلام هذه المدرسة .
هذا إلى جانب أن المألوف من سنة الله ليس هو كل سنة الله . إنما هو طرف يسير لا يفسر كل ما يقع من هذه السنن في الكون . وأن هذه كتلك دليل على عظمة القدرة ودقة التقدير . .
وكل ذلك مع الاحتياط من الخرافة ونفي الأسطورة في اعتدال كامل ، غير متأثر بإيحاء بيئة خاصة ، ولا مواجهة عرف تفكيري شائع في عصر من العصور
إن هنالك قاعدة مأمونة في مواجهة النصوص القرآنية ، لعل هنا مكان تقريرها . . إنه لا يجوز لنا أن نواجه النصوص القرآنية بمقررات عقلية سابقة . لا مقررات عامة . ولا مقررات في الموضوع الذي تعالجه النصوص . بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص لنتلقى منها مقرراتنا . فمنها نتلقى مقرراتنا الإيمانية ، ومنها نكوّن قواعد منطقنا وتصوراتنا جميعاً؛ فإذا قررت لنا أمراً فهو المقرر كما قررته ذلك أن ما نسميه « العقل » ونريد أن نحاكم إليه مقررات عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبية هو إفراز واقعنا البشري المحدود ، وتجاربنا البشرية المحدودة .

وهذا العقل وإن يكن في ذاته قوة مطلقة لا تتقيد بمفردات التجارب والوقائع بل تسمو عليها إلى المعنى المجرد وراء ذواتها ، إلا أنه في النهاية محدود بحدود وجودنا البشري . وهذا الوجود لا يمثل المطلق كما هو عند الله . والقرآن صادر عن هذا المخلوق فهو الذي يحكمنا . ومقرراته هي التي نستقي منها مقرراتنا العقلية ذاتها . ومن ثم لا يصلح أن يقال : إن مدلول هذا النص يصطدم مع العقل فلا بد من تأويله كما يرد كثيراً في مقررات أصحاب هذه المدرسة . وليس معنى هذا هو الاستسلام للخرافة . ولكن معناه أن العقل ليس هو الحكم في مقررات القرآن . ومتى كانت المدلولات التعبيرية مستقيمة واضحة فهي التي تقرر كيف تتلقاها عقولنا ، وكيف تصوغ منها قواعد تصورها ومنطقها تجاه مدلولاتها ، وتجاه الحقائق الكونية الأخرى . .
ونعود من هذا الاستطراد إلى سورة الفيل ، وإلى دلالة القصة . .
{ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل؟ } . . وهو سؤال للتعجيب من الحادث ، والتنبيه إلى دلالته العظيمة . فالحادث كان معروفاً للعرب ومشهوراً عندهم ، حتى لقد جعلوه مبدأ تاريخ . يقولون حدث كذا عام الفيل ، وحدث كذا قبل عام الفيل بعامين ، وحدث كذا بعد عام الفيل بعشر سنوات . . والمشهور أن مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في عام الفيل ذاته . ولعل ذلك من بدائع الموافقات الإلهية المقدرة
وإذن فلم تكن السورة للإخبار بقصة يجهلونها ، إنما كانت تذكيراً بأمر يعرفونه ، المقصود به ما وراء هذا التذكير . .
ثم أكمل القصة بعد هذا المطلع في صورة الاستفهام التقريري كذلك :
{ ألم يجعل كيدهم في تضليل؟ } . . أي ألم يضل مكرهم فلا يبلغ هدفه وغايته ، شأن من يضل الطريق فلا يصل إلى ما يبتغيه . . ولعله كان بهذا يذكر قريشاً بنعمته عليهم في حماية هذا البيت وصيانته ، في الوقت الذي عجزوا هم عن الوقوف في وجه أصحاب الفيل الأقوياء . لعلهم بهذه الذكرى يستحون من جحود الله الذي تقدمت يده عليهم في ضعفهم وعجزهم ، كما يطامنون من اغترارهم بقوتهم اليوم في مواجهة محمد صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه . فقد حطم الله الأقوياء حينما شاءوا الاعتداء على بيته وحرمته؛ فلعله يحطم الأقوياء الذين يقفون لرسوله ودعوته .
فأما كيف جعل كيدهم في تضليل فقد بينه في صورة وصفية رائعة : { وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل . فجعلهم كعصف مأكول } . . والأبابيل : الجماعات . وسجيل كلمة فارسية مركبة من كلمتين تفيدان : حجر وطين . أو حجارة ملوثة بالطين . والعصف : الجاف من ورق الشجر . ووصفه بأنه مأكول : أي فتيت طحين حين تأكله الحشرات وتمزقه ، أو حين يأكله الحيوان فيمضغه ويطحنه وهي صورة حسية للتمزيق البدني بفعل هذه الأحجار التي رمتهم بها جماعات الطير .

ولا ضرورة لتأويلها بأنها تصوير لحال هلاكهم بمرض الجدري أو الحصبة .
فأما دلالة هذا الحادث والعبر المستفادة من التذكير به فكثيرة . .
وأول ما توحي به أن الله سبحانه لم يرد أن يكل حماية بيته إلى المشركين ، ولو أنهم كانوا يعتزون بهذا البيت ، ويحمونه ويحتمون به . فلما أراد أن يصونه ويحرسه ويعلن حمايته له وغيرته عليه ترك المشركين يهزمون أمام القوة المعتدية . وتدخلت القدرة سافرة لتدفع عن بيت الله الحرام ، حتى لا تتكون للمشركين يد على بيته ولا سابقة في حمايته ، بحميتهم الجاهلية . ولعل هذه الملابسة ترجح ترجيحاً قوياً أن الأمر جرى في إهلاك المعتدين مجرى السنة الخارقة لا السنة المألوفة المعهودة فهذا أنسب وأقرب . .
ولقد كان من مقتضى هذا التدخل السافر من القدرة الإلهية لحماية البيت الحرام أن تبادر قريش ويبادر العرب إلى الدخول في دين الله حينما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم وألا يكون اعتزازهم بالبيت وسدانته وما صاغوا حوله من وثنية هو المانع لهم من الإسلام وهذا التذكير بالحادث على هذا النحو هو طرف من الحملة عليهم ، والتعجيب من موقفهم العنيد
كذلك توحي دلالة هذا الحادث بأن الله لم يقدّر لأهل الكتاب أبرهة وجنوده أن يحطموا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة . حتى والشرك يدنسه ، والمشركون هم سدنته . ليبقي هذا البيت عتيقاً من سلطان المتسلطين ، مصوناً من كيد الكائدين . وليحفظ لهذه الأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة حرة طليقة ، لا يهيمن عليها سلطان ، ولا يطغى فيها طاغية ، ولا يهيمن على هذا الدين الذي جاء ليهيمن على الأديان وعلى العباد ، ويقود البشرية ولا يقاد . وكان هذا من تدبير الله لبيته ولدينه قبل أن يعلم أحد أن نبي هذا الدين قد ولد في هذا العام
ونحن نستبشر بإيحاء هذه الدلالة اليوم ونطمئن ، إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرة ماكرة ترف حول الأماكن المقدسة من الصليبية العالمية والصهيونية العالمية ، ولا تني أو تهدأ في التمهيد الخفي اللئيم لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة . فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب وسدنته مشركون ، سيحفظه إن شاء الله ، ويحفظ مدينة رسوله من كيد الكائدين ومكر الماكرين
والإيحاء الثالث هو أن العرب لم يكن لهم دور في الأرض . بل لم يكن لهم كيان . قبل الإسلام . كانوا في اليمن تحت حكم الفرس أو الحبشة . وكانت دولتهم حين تقوم هناك أحياناً تقوم تحت حماية الفرس . وفي الشمال كانت الشام تحت حكم الروم إما مباشرة وإما بقيام حكومة عربية تحت حماية الرومان .

. ولم ينج إلا قلب الجزيرة من تحكم الأجانب فيه . ولكنه ظل في حالة بداوة أو في حالة تفكك لا تجعل منه قوة حقيقية في ميدان القوى العالمية . وكان يمكن أن تقوم الحروب بين القبائل أربعين سنة ، ولكن لم تكن هذه القبائل متفرقة ولا مجتمعة ذات وزن عند الدول القوية المجاورة . وما حدث في عام الفيل كان مقياساً لحقيقة هذه القوة حين تتعرض لغزو أجنبي .
وتحت راية الإسلام ولأول مرة في تاريخ العرب أصبح لهم دور عالمي يؤدونه ، وأصبحت لهم قوة دولية يحسب لها حساب . قوة جارفة تكتسح الممالك وتحطم العروش ، وتتولى قيادة البشرية ، بعد أن تزيح القيادات الجاهلية المزيفة الضالة . . ولكن الذي هيأ للعرب هذا لأول مرة في تاريخهم هو أنهم نسوا أنهم عرب نسوا نعرة الجنس ، وعصبية العنصر ، وذكروا أنهم مسلمون . ومسلمون فقط . ورفعوا راية الإسلام ، وراية الإسلام وحدها . وحملوا عقيدة ضخمة قوية يهدونها إلى البشرية رحمة وبراً بالبشرية؛ ولم يحملوا قومية ولا عنصرية ولا عصبية . حملوا فكرة سماوية يعلمون الناس بها لا مذهباً أرضياً يخضعون الناس لسلطانه . وخرجوا من أرضهم جهاداً في سبيل الله وحده ، ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها ، ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها ، ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكمهم أنفسهم إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعاً إلى عبادة الله وحده ، كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد : « الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام » .
عندئذ فقط كان للعرب وجود ، وكانت لهم قوة ، وكانت لهم قيادة . . ولكنها كانت كلها لله وفي سبيل الله . وقد ظلت لهم قوتهم . وظلت لهم قيادتهم ما استقاموا على الطريقة . حتى إذا انحرفوا عنها وذكروا عنصريتهم وعصبيتهم ، وتركوا راية الله ليرفعوا راية العصبية نبذتهم الأرض وداستهم الأمم ، لأن الله قد تركهم حيثما تركوه ، ونسيهم مثلما نسوه
وما العرب بغير الإسلام؟ ما الفكرة التي قدموها للبشرية أو يملكون تقديمها إذا هم تخلوا عن هذه الفكرة؟ وما قيمة أمة لا تقدم للبشرية فكرة؟ إن كل أمة قادت البشرية في فترة من فترات التاريخ كانت تمثل فكرة . والأمم التي لم تكن تمثل فكرة كالتتار الذين اجتاحوا الشرق ، والبرابرة الذين اجتاحوا الدولة الرومانية في الغرب لم يستطيعوا الحياة طويلاً ، إنما ذابوا في الأمم التي فتحوها . والفكرة الوحيدة التي تقدم بها العرب للبشرية كانت هي العقيدة الإسلامية ، وهي التي رفعتهم إلى مكان القيادة ، فإذا تخلوا عنها لم تعد لهم في الأرض وظيفة ، ولم يعد لهم في التاريخ دور . . وهذا ما يجب أن يذكره العرب جيداً إذا هم أرادوا الحياة ، وأرادوا القوة ، وأرادوا القيادة . . والله الهادي من الضلال . .

لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

استجاب الله دعوة خليله إبراهيم ، وهو يتوجه إليه عقب بناء البيت وتطهيره : { رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات } فجعل هذا البيت آمناً ، وجعله عتيقاً من سلطة المتسلطين وجبروت الجبارين؛ وجعل من يأوي إليه آمناً والمخافة من حوله في كل مكان . . حتى حين انحرف الناس وأشركوا بربهم وعبدوا معه الأصنام . . لأمر يريده سبحانه بهذا البيت الحرام .
ولما توجه أصحاب الفيل لهدمه كان من أمرهم ما كان ، مما فصلته سورة الفيل ، وحفظ الله للبيت أمنه ، وصان حرمته؛ وكان مَنْ حوله كما قال الله فيهم : { أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم؟ } وقد كان لحادث الفيل أثر مضاعف في زيادة حرمة البيت عند العرب في جميع أنحاء الجزيرة ، وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش ، مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين ، حيثما حلوا وجدوا الكرامة والرعاية ، وشجعهم على إنشاء خطين عظيمين من خطوط التجارة عن طريق القوافل إلى اليمن في الجنوب ، وإلى الشام في الشمال . وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين : إحداهما إلى اليمن في الشتاء ، والثانية إلى الشام في الصيف .
ومع ما كانت عليه حالة الأمن في شعاب الجزيرة من سوء؛ وعلى ما كان شائعاً من غارات السلب والنهب ، فإن حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرته الأمن والسلامة في هذه التجارة المغرية ، وجعلت لقريش بصفة خاصة ميزة ظاهرة؛ وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول ، في أمان وسلام وطمأنينة . وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين ، فصارتا لهم عادة وإلفاً
هذه هي المنة التي يذكرهم الله بها بعد البعثة كما ذكرهم منة حادث الفيل في السورة السابقة ، منة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف ، ومنة الرزق الذي أفاضه عليهم بهاتين الرحلتين وبلادهم قفرة جفرة وهم طاعمون هانئون من فضل الله . . ومنة أمنهم الخوف . سواء في عقر دارهم بجوار بيت الله ، أم في أسفارهم وترحالهم في رعاية حرمة البيت التي فرضها الله وحرسها من كل اعتداء .
يذكرهم بهذه المنن ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير الله معه؛ وهو رب هذا البيت الذي يعيشون في جواره آمنين طاعمين؛ ويسيرون باسمه مرعيين ويعودون سالمين . .
يقول لهم : من أجل إيلاف قريش : رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة ، وتنال من ورائها ما تنال { فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع } . . وكان الأصل بحسب حالة أرضهم أن يجوعوا ، فأطعمهم الله وأشبعهم من هذا الجوع { وآمنهم من خوف } . . وكان الأصل بحسب ما هم فيه من ضعف وبحسب حالة البيئة من حولهم أن يكونوا في خوف فآمنهم من هذا الخوف
وهو تذكير يستجيش الحياء في النفوس .

ويثير الخجل في القلوب . وما كانت قريش تجهل قيمة البيت وأثر حرمته في حياتها . وما كانت في ساعة الشدة والكربة تلجأ إلا إلى رب هذا البيت وحده . وها هو ذا عبد المطلب لا يواجه أبرهة بجيش ولا قوة . إنما يواجهه برب هذا البيت الذي يتولى حماية بيته لم يواجهه بصنم ولا وثن ، ولم يقل له . . إن الآلهة ستحمي بيتها . إنما قال له : « أنا رب الإبل وإن للبيت رباً سيمنعه » . . ولكن انحراف الجاهلية لا يقف عند منطق ، ولا يثوب إلى حق ، ولا يرجع إلى معقول .
وهذه السورة تبدو امتداداً لسورة الفيل قبلها من ناحية موضوعها وجوها . وإن كانت سورة مستقلة مبدوءة بالبسملة ، والروايات تذكر أنه يفصل بين نزول سورة الفيل وسورة قريش تسع سور . ولكن ترتبيهما في المصحف متواليتين يتفق مع موضوعهما القريب . .

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)

هذه السورة مكية في بعض الروايات ، ومكية مدنية في بعض الروايات ( الثلاث الآيات الأولى مكية والباقيات مدنية ) وهذه الأخيرة هي الأرجح . وإن كانت السورة كلها وحدة متماسكة ، ذات اتجاه واحد ، لتقرير حقيقة كلية من حقائق هذه العقيدة ، مما يكاد يميل بنا إلى اعتبارها مدنية كلها ، إذ إن الموضوع الذي تعالجه هو من موضوعات القرآن المدني وهو في جملته يمت إلى النفاق والرياء مما لم يكن معروفاً في الجماعة المسلمة في مكة . ولكن قبول الروايات القائلة بأنها مكية مدنية لا يمتنع لاحتمال تنزيل الآيات الأربع الأخيرة في المدينة وإلحاقها بالآيات الثلاث الأولى لمناسبة التشابه والاتصال في الموضوع . . وحسبنا هذا لنخلص إلى موضوع السورة وإلى الحقيقة الكبيرة التي تعالجها . .
إن هذه السورة الصغيرة ذات الآيات السبع القصيرة تعالج حقيقة ضخمة تكاد تبدل المفهوم السائد للإيمان والكفر تبديلاً كاملاً . فوق ما تطلع به على النفس من حقيقة باهرة لطبيعة هذه العقيدة ، وللخير الهائل العظيم المكنون فيها لهذه البشرية ، وللرحمة السابغة التي أرادها الله للبشر وهو يبعث إليهم بهذه الرسالة الأخيرة . .
إن هذا الدين ليس دين مظاهر وطقوس؛ ولا تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر ، ما لم تكن صادرة عن إخلاص لله وتجرده ، مؤدية بسبب هذا الإخلاص إلى آثار في القلب تدفع إلى العمل الصالح ، وتتمثل في سلوك تصلح به حياة الناس في هذه الأرض وترقى .
كذلك ليس هذا الدين أجزاء وتفاريق موزعة منفصلة ، يؤدي منها الإنسان ما يشاء ، ويدع منها ما يشاء . . إنما هو منهج متكامل ، تتعاون عباداته وشعائره ، وتكاليفه الفردية والاجتماعية ، حيث تنتهي كلها إلى غاية تعود كلها على البشر . . غاية تتطهر معها القلوب ، وتصلح الحياة ، ويتعاون الناس ويتكافلون في الخير والصلاح والنماء . . وتتمثل فيها رحمة الله السابغة بالعباد .
ولقد يقول الإنسان بلسانه : إنه مسلم وإنه مصدق بهذا الدين وقضاياه . وقد يصلي ، وقد يؤدي شعائر أخرى غير الصلاة ولكن حقيقة الإيمان وحقيقة التصديق بالدين تظل بعيدة عنه ويظل بعيداً عنها ، لأن لهذه الحقيقة علامات تدل على وجودها وتحققها . وما لم توجد هذه العلامات فلا إيمان ولا تصديق مهما قال اللسان ، ومهما تعبد الإنسان
إن حقيقة الإيمان حين تستقر في القلب تتحرك من فورها ( كما قلنا في سورة العصر ) لكي تحقق ذاتها في عمل صالح . فإذا لم تتخذ هذه الحركة فهذا دليل على عدم وجودها أصلاً . وهذا ما تقرره هذه السورة نصاً . .
{ أرأيت الذي يكذب بالدين؟ فذلك الذي يدع اليتيم ، ولا يحض على طعام المسكين } . .
إنها تبدأ بهذا الاستفهام الذي يوجه كل من تتأتى منه الرؤية ليرى : { أرأيت الذي يكذب بالدين؟ } وينتظر من يسمع هذا الاستفهام ليرى أين تتجه الإشارة وإلى من تتجه؟ ومن هو هذا الذي يكذب بالدين ، والذي يقرر القرآن أنه يكذب بالدين .

. وإذا الجواب : { فذلك الذي يدع اليتيم . ولا يحض على طعام المسكين }
وقد تكون هذه مفاجأة بالقياس إلى تعريف الإيمان التقليدي . . ولكن هذا هو لباب الأمر وحقيقته . . إن الذي يكذب بالدين هو الذي يدفع اليتيم دفعاً بعنف أي الذي يهين اليتيم ويؤذيه . والذي لا يحض على طعام المسكين ولا يوصي برعايته . . فلو صدّق بالدين حقاً ، ولو استقرت حقيقة التصديق في قلبه ما كان ليدع اليتيم ، وما كان ليقعد عن الحض على طعام المسكين .
إن حقيقة التصديق بالدين ليست كلمة تقال باللسان؛ إنما هي تحول في القلب يدفعه إلى الخير والبر بإخوانه في البشرية ، المحتاجين إلى الرعاية والحماية . والله لا يريد من الناس كلمات . إنما يريد منهم معها أعمالاً تصدقها ، وإلا فهي هباء ، لا وزن لها عنده ولا اعتبار .
وليس أصرح من هذه الآيات الثلاث في تقرير هذه الحقيقة التي تمثل روح هذه العقيدة وطبيعة هذا الدين أصدق تمثيل .
ولا نحب أن ندخل هنا في جدل فقهي حول حدود الإيمان وحدود الإسلام . فتلك الحدود الفقهية إنما تقوم عليها المعاملات الشرعية . فأما هنا فالسورة تقرر حقيقة الأمر في اعتبار الله وميزانه . وهذا أمر آخر غير الظواهر التي تقوم عليها المعاملات
ثم يرتب على هذه الحقيقة الأولى صورة تطبيقية من صورها :
{ فويل للمصلين ، الذين هم عن صلاتهم ساهون ، الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون } إنه دعاء أو وعيد بالهلاك للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون . . فمن هم هؤلاء الذين هم عن صلاتهم ساهون
إنهم { الذين هم يراءون ويمنعون الماعون } . .
إنهم أولئك الذين يصلون ، ولكنهم لا يقيمون الصلاة . الذين يؤدون حركات الصلاة ، وينطقون بأدعيتها ، ولكن قلوبهم لا تعيش معها ، ولا تعيش بها ، وأرواحهم لا تستحضر حقيقة الصلاة وحقيقة ما فيها من قراءات ودعوات وتسبيحات . إنهم يصلون رياء الناس لا إخلاصاً لله . ومن ثم هم ساهون عن صلاتهم وهم يؤدونها . ساهون عنها لم يقيموها . والمطلوب هو إقامة الصلاة لا مجرد أدائها . وإقامتها لا تكون إلا باستحضار حقيقتها والقيام لله وحده بها .
ومن هنا لا تنشئ الصلاة آثارها في نفوس هؤلاء المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون . فهم يمنعون الماعون . يمنعون المعونة والبر والخير عن إخوانهم في البشرية . يمنعون الماعون عن عباد الله . ولو كانوا يقيمون الصلاة حقاً لله ما منعوا العون عن عباده ، فهذا هو محك العبادة الصادقة المقبولة عند الله . .
وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام حقيقة هذه العقيدة ، وأمام طبيعة هذا الدين . ونجد نصاً قرآنياً ينذر مصلين بالويل . لأنهم لم يقيموا الصلاة حقاً . إنما أدوا حركات لا روح فيها . ولم يتجردوا لله فيها . إنما أدوها رياء .

ولم تترك الصلاة أثرها في قلوبهم وأعمالهم فهي إذن هباء . بل هي إذن معصية تنتظر سوء الجزاء
وننظر من وراء هذه وتلك إلى حقيقة ما يريده الله من العباد ، حين يبعث إليهم برسالاته ليؤمنوا به وليعبدوه . .
إنه لا يريد منهم شيئاً لذاته سبحانه فهو الغني إنما يريد صلاحهم هم أنفسهم . يريد الخير لهم . يريد طهارة قلوبهم ويريد سعادة حياتهم . يريد لهم حياة رفيعة قائمة على الشعور النظيف ، والتكافل الجميل ، والأريحية الكريمة والحب والإخاء ونظافة القلب والسلوك .
فأين تذهب البشرية بعيداً عن هذا الخير؟ وهذه الرحمة؟ وهذا المرتقى الجميل الرفيع الكريم؟ أين تذهب لتخبط في متاهات الجاهلية المظلمة النكدة وأمامها هذا النور في مفرق الطريق؟

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)

هذه السورة خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كسورة الضحى ، وسورة الشرح . يسري عنه ربه فيها ، ويعده بالخير ، ويوعد أعداءه بالبتر ، ويوجهه إلى طريق الشكر .
ومن ثم فهي تمثل صورة من حياة الدعوة ، وحياة الداعية في أول العهد بمكة . صورة من الكيد والأذى للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوة الله التي يبشر بها؛ وصورة من رعاية الله المباشرة لعبده وللقلة المؤمنة معه؛ ومن تثبيت الله وتطمينه وجميل وعده لنبيه ومرهوب وعيده لشانئه .
كذلك تمثل حقيقة الهدى والخير والإيمان . وحقيقة الضلال والشر والكفران . . الأولى كثرة وفيض وامتداد . والثانية قلة وانحسار وانبتار . وإن ظن الغافلون غير هذا وذاك .
ورد أن سفهاء قريش ممن كانوا يتابعون الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته بالكيد والمكر وإظهار السخرية والاستهزاء . ليصرفوا جمهرة الناس عن الاستماع للحق الذي جاءهم به من عند الله ، من أمثال العاص ابن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي لهب ، وأبي جهل ، وغيرهم ، كانوا يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه أبتر . يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده . وقال أحدهم : دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره
وكان هذا اللون من الكيد اللئيم الصغير يجد له في البيئة العربية التي تتكاثر بالأبناء صدى ووقعاً . وتجد هذه الوخزة الهابطة من يهش لها من أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وشانئيه ، ولعلها أوجعت قلبه الشريف ومسته بالغم أيضاً .
ومن ثم نزلت هذه السورة تمسح على قلبه صلى الله عليه وسلم بالرّوح والندى ، وتقرر حقيقة الخير الباقي الممتد الذي اختاره له ربه؛ وحقيقة الانقطاع والبتر المقدر لأعدائه .
{ إنا أعطيناك الكوثر } . . والكوثر صيغة من الكثرة . . وهو مطلق غير محدود . يشير إلى عكس المعنى الذي أطلقه هؤلاء السفهاء . . إنا أعطيناك ما هو كثر فائض غزير . غير ممنوع ولا مبتور . . فإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه فهو واجده حيثما نظر أو تصور .
هو واجده في النبوة . في هذا الاتصال بالحق الكبير ، والوجود الكبير . الوجود الذي لا وجود غيره ولا شيء في الحقيقة سواه . وماذا فقد من وجد الله؟
وهو واجده في هذا القرآن الذي نزل عليه . وسورة واحدة منه كوثر لا نهاية لكثرته ، وينبوع ثر لا نهاية لفيضه وغزارته
وهو واجده في الملأ الأعلى الذي يصلي عليه ، ويصلي على من يصلي عليه في الأرض ، حيث يقترن اسمه باسم الله في الأرض والسماء .
وهو واجده في سنته الممتدة على مدار القرون ، في أرجاء الأرض . وفي الملايين بعد الملايين السائرة على أثره ، وملايين الملايين من الألسنة والشفاه الهاتفة باسمه ، وملايين الملايين من القلوب المحبة لسيرته وذكراه إلى يوم القيامة .

وهو واجده في الخير الذي فاض على البشرية في جميع أجيالها بسببه وعن طريقه . سواء من عرفوا هذا الخير فآمنوا به ، ومن لم يعرفوه ولكنه فاض عليهم فيما فاض
وهو واجده في مظاهر شتى ، محاولة إحصائها ضرب من تقليلها وتصغيرها
إنه الكوثر ، الذي لا نهاية لفيضه ، ولا إحصاء لعوارفه ، ولا حد لمدلوله . ومن ثم تركه النص بلا تحديد ، يشمل كل ما يكثر من الخير ويزيد . .
وقد وردت روايات من طرق كثيرة أن الكوثر نهر في الجنة أوتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ابن عباس أجاب بأن هذا النهر هو من بين الخير الكثير الذي أوتيه الرسول . فهو كوثر من الكوثر وهذا هو الأنسب في هذا السياق وفي هذه الملابسات .
{ فصل لربك وانحر } .
بعد توكيد هذا العطاء الكثير الفائض الكثرة ، على غير ما أرجف المرجفون وقال الكائدون ، وجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى شكر النعمة بحقها الأول . حق الإخلاص والتجرد لله في العبادة وفي الاتجاه . . في الصلاة وفي ذبح النسك خالصاً لله : { فصل لربك وانحر } . . غير ملق بالاً إلى شرك المشركين ، وغير مشارك لهم في عبادتهم أو في ذكر غير اسم الله على ذبائحهم .
وفي تكرار الإشارة إلى ذكر اسم الله على الذبائح ، وتحريم ما أهل به لغير الله ، وما لم يذكر اسم الله عليه . . ما يشي بعناية هذا الدين بتخليص الحياة كلها من عقابيل الشرك وآثاره . لا تخليص التصور والضمير وحدهما . فهو دين الوحدة بكل معنى من معانيها ، وكل ظل من ظلالها؛ كما أنه دين التوحيد الخالص المجرد الواضح . ومن ثم فهو يتتبع الشرك في كل مظاهره ، وفي كل مكامنه؛ ويطارده مطاردة عنيفة دقيقة سواء استكن في الضمير ، أم ظهر في العبادة ، أم تسرب إلى تقاليد الحياة فالحياة وحدة ما ظهر منها وما بطن ، والإسلام يأخذها كلا لا يتجزأ ، ويخلصها من شوائب الشرك جميعاً ، ويتجه بها إلى الله خالصة واضحة ناصعة ، كما نرى في مسألة الذبائح وفي غيرها من شعائر العبادة أو تقاليد الحياة . .
{ إن شانئك هو الأبتر } . .
في الآية الأولى قرر أنه ليس أبتر بل هو صاحب الكوثر . وفي هذه الآية يرد الكيد على كائديه ، ويؤكد سبحانه أن الأبتر ليس هو محمد ، إنما هم شانئوه وكارهوه .
ولقد صدق فيهم وعيد الله . فقد انقطع ذكرهم وانطوى . بينما امتد ذكر محمد وعلا . ونحن نشهد اليوم مصداق هذا القول الكريم ، في صورة باهرة واسعة المدى كما لم يشهده سامعوه الأولون
إن الإيمان والحق والخير لا يمكن أن يكون أبتر . فهو ممتد الفروع عميق الجذور . وإنما الكفر والباطل والشر هو الأبتر مهما ترعرع وزها وتجبر .

.
إن مقاييس الله غير مقاييس البشر . ولكن البشر ينخدعون ويغترون فيحسبون مقاييسهم هي التي تقرر حقائق الأمور وأمامنا هذا المثل الناطق الخالد . . فأين الذين كانوا يقولون عن محمد صلى الله عليه وسلم قولتهم اللئيمة ، وينالون بها من قلوب الجماهير ، ويحسبون حينئذ أنهم قد قضوا على محمد وقطعوا عليه الطريق؟ أين هم؟ وأين ذكراهم ، وأين آثارهم؟ إلى جوار الكوثر من كل شيء ، ذلك الذي أوتيه من كانوا يقولون عنه : الأبتر؟
إن الدعوة إلى الله والحق والخير لا يمكن أن تكون بتراء ولا أن يكون صاحبها أبتر ، وكيف وهي موصولة بالله الحي الباقي الأزلي الخالد؟ إنما يبتر الكفر والباطل والشر ويبتر أهله ، مهما بدا في لحظة من اللحظات أنه طويل ممتد الجذور . .
وصدق الله العظيم . وكذب الكائدون الماكرون . .

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)

لم يكن العرب يجحدون الله ولكن كانوا لا يعرفونه بحقيقته التي وصف بها نفسه . أحد . صمد . فكانوا يشركون به ولا يقدرونه حق قدره ، ولا يعبدونه حق عبادته . كانوا يشركون به هذه الأصنام التي يرمزون بها إلى أسلافهم من الصالحين أو العظماء . أو يرمزون بها إلى الملائكة . . وكانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله ، وأن بينه سبحانه وبين الجنة نسباً ، أو ينسون هذا الرمز ويعبدون هذه الآلهة ، وفي هذه الحالة أو تلك كانوا يتخذونها لتقربهم من الله كما حكى عنهم القرآن الكريم في سورة الزمر قولهم : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ولقد حكى القرآن عنهم أنهم كانوا يعترفون بخلق الله والسماوات والأرض ، وتسخيره للشمس والقمر ، وإنزاله الماء من السماء كالذي جاء في سورة العنكبوت : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله } { ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله } وفي إيمانهم كانوا يقولون : والله وتالله . وفي دعائهم كانوا يقولون : اللهم . . الخ .
ولكنهم مع إيمانهم بالله كان هذا الشرك يفسد عليهم تصورهم كما كان يفسد عليهم تقاليدهم وشعائرهم ، فيجعلون للآلهة المدعاة نصيباً في زرعهم وأنعامهم ونصيباً في أولادهم . حتى ليقتضي هذا النصيب أحياناً التضحية بأبنائهم . وفي هذا يقول القرآن الكريم عنهم في سورة الأنعام . { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً . فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا . فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله . وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم . ساء ما يحكمون وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ، وليلبسوا عليهم دينهم ، ولو شاء الله ما فعلوه ، فذرهم وما يفترون . وقالوا : هذه أنعام وحرث حِجر لا يطعمها إلا من نشأ بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه . سيجزيهم بما كانوا يفترون ، وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ، ومحرم على أزواجنا ، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء . سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم . قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم . وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله . قد ضلوا وما كانوا مهتدين } وكانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم ، وأنهم أهدى من أهل الكتاب ، الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة العربية ، لأن اليهود كانوا يقولون : عزير ابن الله . والنصارى كانوا يقولون : عيسى ابن الله . بينما هم كانوا يعبدون الملائكة والجن على اعتبار قرابتهم من الله بزعمهم فكانوا يعدون أنفسهم أهدى . لأن نسبة الملائكة إلى الله ونسبة الجن كذلك أقرب من نسبة عزير وعيسى . . وكله شرك . وليس في الشرك خيار .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36