كتاب : في ظلال القرآن
المؤلف : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي

{ في مقعد صدق عند مليك مقتدر } ومن ثم فهي غير مقيدة ولا محدودة بحدود من أي اعتبارات قائمة في الأرض؛ إنما هي طليقة ترتفع إلى أقصى ما يطيقه البشر ، لأنها تتطلع إلى تحقيق صفات الله الطليقة من كل حد ومن كل قيد .
ثم إنها ليست فضائل مفردة . . صدق . وأمانة ، وعدل ، ورحمة . وبر . . . . إنما هي منهج متكامل ، تتعاون فيه التربية التهذيبية مع الشرائع التنظيمية؛ وتقوم عليه فكرة الحياة كلها واتجاهاتها جميعاً ، وتنتهي في خاتمة المطاف إلى الله . لا إلى أي اعتبار آخر من اعتبارات هذه الحياة
وقد تمثلت هذه الأخلاقية الإسلامية بكمالها وجمالها وتوازنها واستقامتها واطرادها وثباتها في محمد صلى الله عليه وسلم وتمثلت في ثناء الله العظيم ، وقوله : { وإنك لعلى خلق عظيم } . .
وبعد هذا الثناء الكريم على عبده يطمئنه إلى غده مع المشركين ، الذين رموه بذلك البهت اللئيم؛ ويهددهم بافتضاح أمرهم وانكشاف بطلانهم وضلالهم المبين :
{ فستبصر ويبصرون . بأيكم المفتون . إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } . .
والمفتون الذي يطمئن الله نبيه إلى كشفه وتعيينه هو الضال . أو هو الممتحن الذي يكشف الامتحان عن حقيقتة . وكلا المدلولين قريب من قريب . . وهذا الوعد فيه من الطمأنينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه ، بقدر ما فيه من التهديد للمناوئين له المفترين عليه . . أياً كان مدلول الجنون الذي رموه به . والأقرب إلى الظن أنهم لم يكونوا يقصدون به ذهاب العقل . فالواقع يكذب هذا القول . إنما كانوا يعنون به مخالطة الجنة له ، وإيحاءهم إليه بهذا القول الغريب البديع كما كانوا يظنون أن لكل شاعر شيطاناً هو الذي يمده ببديع القول وهو مدلول بعيد عن حقيقة حال النبي صلى الله عليه وسلم وغريب عن طبيعة ما يوحى إليه من القول الثابت الصادق المستقيم .
وهذا الوعد من الله يشير إلى أن الغد سيكشف عن حقيقة النبي وحقيقة مكذبيه . ويثبت أيهم الممتحن بما هو فيه؛ أو أيهم الضال فيما يدعيه . ويطمئنه إلى أن ربه { هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } . . وربه هو الذي أوحى إليه ، فهو يعلم أنه المهتدي ومن معه . وفي هذا ما يطمئنه وما يقلق أعداءه ، وما يبعث في قلوبهم التوجس والقلق لما سيجيء
ثم يكشف الله له عن حقيقة حالهم ، وحقيقة مشاعرهم ، وهم يخاصمونه ويجادلونه في الحق الذي معه ، ويرمونه بما يرمونه . وهم مزعزعو العقيدة فيما لديهم من تصورات الجاهلية ، التي يتظاهرون بالتصميم عليها . إنهم على استعداد للتخلي عن الكثير منها في مقابل أن يتخلى هو عن بعض ما يدعوهم إليه على استعداد أن يدهنوا ويلينوا ويحافظوا فقط على ظاهر الأمر لكي يدهن هو لهم ويلين .

. فهم ليسوا أصحاب عقيدة يؤمنون بأنها الحق ، وإنما هم أصحاب ظواهر يهمهم أن يستروها :
{ فلا تطع المكذبين . ودوا لو تدهن فيدهنون } . .
فهي المساومة إذن ، والالتقاء في منتصف الطريق . كما يفعلون في التجارة . وفرق بين الاعتقاد والتجارة كبير فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها؛ لأن الصغير منها كالكبير . بل ليس في العقيدة صغير وكبير . إنها حقيقة واحدة متكاملة الأجزاء . لا يطيع فيها صاحبها أحداً ، ولا يتخلى عن شيء منها أبداً .
وما كان يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق ، ولا أن يلتقيا في أي طريق . وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان . جاهلية الأمس وجاهلية اليوم ، وجاهلية الغد كلها سواء . إن الهوة بينها وبين الإسلام لا تعبر ، ولا تقام عليها قنطرة ، ولا تقبل قسمة ولا صلة . وإنما هو النضال الكامل الذي يستحيل فيه التوفيق
ولقد وردت روايات شتى فيما كان يدهن به المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم ليدهن لهم ويلين؛ ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم ، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه ، وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حاسماً في موقفه من دينه ، لا يدهن فيه ولا يلين . وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانباً وأحسنهم معاملة وأبرهم بعشيرة وأحرصهم على اليسر والتيسير . فأما الدين فهو الدين وهو فيه عند توجيه ربه : { فلا تطع المكذبين }
ولم يساوم صلى الله عليه وسلم في دينه وهو في أحرج المواقف العصبية في مكة . وهو محاصر بدعوته . وأصحابه القلائل يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون . ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء المتجبرين ، تأليفاً لقلوبهم ، أو دفعاً لأذاهم . ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب أو من بعيد . .
روى ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق قال :
« فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام . وصدع به كما أمره الله ، لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه فيما بلغني حتى ذكر آلهتهم وعابها . فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه ، وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب ومنعه ، وقام دونه ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله مظهراً لأمره ، لا يرده عنه شيء » .

« فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم ، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب . . عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب بن أمية . وأبو البختري واسمه العاص بن هشام . والأسود بن المطلب بن أسد . وأبو جهل ( واسمه عمرو بن هشام وكان يكنى ابا الحكم ) والوليد بن المغيرة ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر . . أو من مشى منهم . . فقالوا : يا أبا طالب . إن ابن اخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه؛ فنكفيكه فقال لهم أبو طالب قولاً وفيقاً ، وردهم رداً جميلاً ، فانصرفوا عنه .
» ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه : يظهر دين الله ، ويدعو إليه . ثم شري الأمر بينه وبينهم حتى تباعدوا وتضاغنوا ، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذامروا فيه . وحض بعضهم بعضاً عليه . ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى . فقالوا له : يا أبا طالب ، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا . وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا؛ وإنا والله لا نصبر على هذا : من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا ، حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين أو كما قالوا له . . ثم انصرفوا عنه . فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه . قال ابن إسحق : وحدثني يعقوب بن عقبة بن المغيرة بن الأخنس ، أنه حدّث ، أن قريشاً حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : يا بن أخي . إن قومك قد جاءوني فقالوا لي : كذا وكذا ( للذي كانوا قالوا له ) فأبق عليَّ وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق . قال : فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء ، وأنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : « يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته » . قال : واستعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى .

ثم قام . فلما ولى ناداه أبو طالب فقال : أقبل يا بن أخي . قال : فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً « .
فهذه صورة من إصرار النبي صلى الله عليه وسلم على دعوته في اللحظة التي تخلى عنه فيها عمه . حاميه وكافيه ، وآخر حصن من حصون الأرض يمنعه المتربصين به المتذامرين فيه
هذه هي صورة قوية رائعة جديدة في نوعها من حيث حقيقتها ، ومن حيث صورها وظلالها ومن حيث عباراتها وألفاظها . . جديدة جدة هذه العقيدة ، رائعة روعة هذه العقيدة ، قوية قوة هذه العقيدة . فيها مصداق قول الله العظيم : { وإنك لعلى خلق عظيم } . .
وصورة أخرى رواها كذلك ابن اسحق ، كانت في مساومة مباشرة من المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إذ أعياهم أمره ، ووثبت كل قبيلة على من أسلم منها تعذبه وتفتنه عن دينه .
قال ابن إسحق : وحدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيداً ، قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده : » يا معشر قريش . ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة ، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون . فقالوا : يا أبا الوليد قم إليه فكلمه . فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا بن أخي . إنك منا حيث علمت : من السطة في العشيرة والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم . فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها ، لعلك تقبل منها بعضها . قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - : « قل يا أبا الوليد أسمع » . قال : يا بن أخي . إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا . وإن كنت إنما تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك . وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه أو كما قال له حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال : « أقد فرغت يا أبا الوليد؟ » قال : نعم . قال : « فاستمع مني » . قال : أفعل . فقال : { بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون . بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون؟ وقالوا : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب ، فاعمل إننا عاملون . قل : إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنمآ إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين . . . } ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه . فلما سمعها منه عتبة أنصت لها . وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليها يسمع منه . ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد . ثم قال . « قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت . فأنت وذاك » . . فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائي أنني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش أطيعوني ، واجعلوها بي ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم . فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم . وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به . قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه . قال : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم . . «

وفي رواية أخرى أن عتبة استمع حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } فقام مذعوراً فوضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أنشدك الله والرحم يا محمد وذلك مخافة أن يقع النذير . وقام إلى القوم فقال ما قال
وعلى أية حال فهذه صورة أخرى من صور المساومة . وهي كذلك صورة من صور الخلق العظيم . تبدو في أدبه صلى الله عليه وسلم وهو يستمع إلى عتبة حتى يفرغ من قوله الفارغ الذي لا يستحق الانتباه من مثل محمد صلى الله عليه وسلم في تصوره لقيم هذا الكون ، وفي ميزانه للحق ولعرض هذه الأرض . ولكن خلقه يمسك به لا يقاطع ولا يتعجل ولا يغضب ولا يضجر ، حتى يفرغ الرجل من مقالته ، وهو مقبل عليه . ثم يقول في هدوء : « أقد فرغت يا أبا الوليد؟ » زيادة في الإملاء والتوكيد . إنها الطمأنينة الصادقة للحق مع الأدب الرفيع في الاستماع والحديث .

. وهما معاً بعض دلالة الخلق العظيم .
وصورة ثالثة للمساومة فيما رواه ابن اسحق قال :
« واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة فيما بلغني الأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العزى والوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل السهمي . وكانوا ذوي أسنان في قومهم . فقالوا : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، فنشترك نحن وأنت في الأمر . فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه ، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه فأنزل الله تعالى فيهم : { قل : يا أيها الكافرون . لا أعبد ما تعبدون } السورة كلها . .
وحسم الله المساومة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة . وقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمره ربه أن يقول . .
ثم يبرز قيمة العنصر الأخلاقي مرة أخرى في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن إطاعة أحد هؤلاء المكذبين بالذات ، ويصفه بصفاته المزرية المنفرة ، ويتوعده بالإذلال والمهانة :
{ ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشآء بنميم . مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . أن كان ذا مال وبنين . إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين . سنسمه على الخرطوم } . .
وقد قيل : إنه الوليد بن المغيرة ، وإنه هو الذي نزلت فيه كذلك آيات من سورة المدثر : { ذرني ومن خلقت وحيداً ، وجعلت له مالاً ممدوداً ، وبنين شهودا ، ومهدت له تمهيداً . ثم يطمع أن أزيد . كلا إنه كان لآياتنا عنيدا . سأرهقه صعوداً . إنه فكَّر وقدَّر . فقتل كيف قدر؟ ثم قتل كيف قدر؟ ثم نظر . ثم عبس وبسر . ثم أدبر واستكبر . فقال : إن هذآ إلا سحر يؤثر . إن هذآ إلا قول البشر . سأصليه سقر } ورويت عنه مواقف كثيرة في الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنذار أصحابه ، والوقوف في وجه الدعوة ، والصد عن سبيل الله . . كما قيل : إن آيات سورة القلم نزلت في الأخنس بن شريق . . وكلاهما كان ممن خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولجوا في حربة والتأليب عليه أمداً طويلاً .
وهذه الحملة القرآنية العنيفة في هذه السورة ، والتهديدات القاصمة في السورة الأخرى ، وفي سواها ، شاهد على شدة دوره سواء كان هو الوليد أو الأخنس والأول أرجح ، في حرب الرسول والدعوة ، كما هي شاهد على سوء طويته ، وفساد نفسه ، وخلوها من الخير .
والقرآن يصفه هنا بتسع صفات كلها ذميم . .
فهو حلاف . . كثير الحلف . ولا يكثر الحلف إلا إنسان غير صادق ، يدرك أن الناس يكذبونه ولا يثقون به ، فيحلف ويكثر من الحلف ليداري كذبه ، ويستجلب ثقة الناس .
وهو مهين . . لا يحترم نفسه ، ولا يحترم الناس قوله .

وآية مهانته حاجته إلى الحلف ، وعدم ثقته بنفسه وعدم ثقة الناس به . ولو كان ذا مال وذا بنين وذا جاه . فالمهانة صفة نفسية تلصق بالمرء ولو كان سلطاناً طاغية جباراً . والعزة صفة نفسية لا تفارق النفس الكريمة ولو تجردت من كل أعراض الحياة الدنيا
وهو هماز . . يهمز الناس ويعيبهم بالقول والإشارة في حضورهم أو في غيبتهم سواء . وخلق الهمز يكرهه الإسلام أشد الكراهية؛ فهو يخالف المروءة ، ويخالف أدب النفس ، ويخالف الأدب في معاملة الناس وحفظ كراماتهم صغروا أم كبروا . وقد تكرر ذم هذا الخلق في القرآن في غير موضع؛ فقال : { ويل لكل همزة لمزة } وقال : { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نسآء من نسآء عسى أن يكن خيراً منهن . ولا تلمزوا أنفسكم . ولا تنابزوا بالألقاب } وكلها أنواع من الهمز في صورة من الصور . .
وهو مشاء بنميم . يمشي بين الناس بما يفسد قلوبهم ، ويقطع صلاتهم ، ويذهب بموداتهم . وهو خلق ذميم كما أنه خلق مهين ، لا يتصف به ولا يقدم عليه إنسان يحترم نفسه أو يرجو لنفسه احتراماً عند الآخرين . حتى أولئك الذين يفتحون آذانهم للنمام ، ناقل الكلام ، المشاء بالسوء بين الأوداء . حتى هؤلاء الذين يفتحون آذانهم له لا يحترمونه في قرارة نفوسهم ولا يودونه .
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن ينقل إليه أحد ما يغير قلبه على صاحب من أصحابه . وكان يقول : « لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر » .
وثبت في الصحيحين من حديث مجاهد عن طاووس عن ابن عباس قال : « مر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقبرين ، فقال : إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير . أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة » .
وروى الإمام أحمد بإسناده عن حذيفة قال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يدخل الجنة قتات » أي نمام ( ورواه الجماعة إلا ابن ماجه ) .
وروى الإمام أحمد كذلك بإسناده عن يزيد بن السكن . أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ألا أخبركم بخياركم؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : » الذين إذا رؤوا ذكر الله عز وجل « ثم قال : ألا أخبركم بشراركم؟ المشاءون بالنميمة المفسدون بين الأحبة ، الباغون للبرآء العيب » .
ولم يكن بد للإسلام أن يشدد في النهي عن هذا الخلق الذميم الوضيع ، الذي يفسد القلب ، كما يفسد الصحب ، ويتدنى بالقائل قبل أن يفسد بين الجماعة ، ويأكل قلبه وخلقه قبل أن يأكل سلامة المجتمع ، ويفقد الناس الثقة بعضهم ببعض ، ويجني على الأبرياء في معظم الأحايين
وهو مناع للخير .

. يمنع الخير عن نفسه وعن غيره . ولقد كان يمنع الإيمان وهو جماع الخير . وعرف عنه أنه كان يقول لأولاده وعشيرته ، كلما آنس منهم ميلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم : لئن تبع دين محمد منكم أحد لا أنفعه بشيء أبدا . فكان يمنعهم بهذا التهديد عن الإسلام . ومن ثم سجل القرآن عليه هذه الصفة { مناع للخير } فيما كان يفعل ويقول .
وهو معتد . . متجاوز للحق والعدل إطلاقاً . ثم هو معتد على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين وعلى أهله وعشيرته الذين يصدهم عن الهدى ويمنعهم من الدين . . والاعتداء صفة ذميمة تنال من عناية القرآن والحديث اهتماماً كبيراً . . وينهى عنها الإسلام في كل صورة من صورها ، حتى في الطعام والشراب : { كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه } . . لأن العدل والاعتدال طابع الإسلام الأصيل .
وهو أثيم . . يرتكب المعاصي حتى يحق عليه الوصف الثابت . { أثيم } . . بدون تحديد لنوع الآثام التي يرتكبها . فاتجاه التعبير إلى إثبات الصفة ، وإلصاقها بالنفس كالطبع المقيم
وهو بعد هذا كله { عتل } . . وهي لفظة تعبر بجرسها وظلها عن مجموعة من الصفات ومجموعة من السمات ، لا تبلغها مجموعة ألفاظ وصفات . فقد يقال : إن العتل هو الغليظ الجافي . وإنه الأكول الشروب . وإنه الشره المنوع . وإنه الفظ في طبعه ، اللئيم في نفسه ، السِّيئ في معاملته . . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه : « العتل كل رغيب الجوف ، وثيق الخلق ، أكول شروب ، جموع للمال ، منوع له » . . ولكن تبقى كلمة { عتل } بذاتها أدل على كل هذا ، وأبلغ تصويراً للشخصية الكريهة من جميع الوجوه .
وهو زنيم . . وهذه خاتمة الصفات الذميمة الكريهة المتجمعة في عدو من أعداء الإسلام وما يعادي الإسلام ويصر على عداوته إلا أناس من هذا الطراز الذميم والزنيم من معانيه اللصيق في القوم لا نسب له فيهم ، أو أن نسبه فيهم ظنين . ومن معانيه ، الذي اشتهر وعرف بين الناس بلؤمه وخبثه وكثرة شروره . والمعنى الثاني هو الأقرب في حالة الوليد بن المغيرة . وإن كان إطلاق اللفظ يدمغه بصفة تدعه مهيناً في القوم ، وهو المختال الفخور .
ثم يعقب على هذه الصفات الذاتية بموقفه من آيات الله ، مع التشنيع بهذا الموقف الذي يجزي به نعمة الله عليه بالمال والبنين :
{ أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين } . .
وما أقبح ما يجزي إنسان نعمة الله عليه بالمال والبنين؛ استهزاء بآياته ، وسخرية من رسوله ، واعتداء على دينه . . وهذه وحدها تعدل كل ما مر من وصف ذميم .
ومن ثم يجيء التهديد من الجبار القهار ، يلمس في نفسه موضع الاختيال والفخر بالمال والبنين؛ كما لمس وصفه من قبل موضع الاختيال بمكانته ونسبه .

. ويسمع وعد الله القاطع :
{ سنسمه على الخرطوم } . .
ومن معاني الخرطوم طرف أنف الخنزير البري . . ولعله هو المقصود هنا كناية عن أنفه والأنف في لغة العرب يكنى به عن العزة فيقال : أنف أشم للعزيز . وأنف في الرغام للذليل . . أي في التراب ويقال ورم أنفه وحمي أنفه ، إذا غضب معتزاً . ومنه الأنفة . . والتهديد بوسمه على الخرطوم يحوي نوعين من الإذلال والتحقير . . الأول الوسم كما يوسم العبد . . والثاني جعل أنفه خرطوماً كخرطوم الخنزير
وما من شك أن وقع هذه الآيات على نفس الوليد كان قاصماً . فهو من أمة كانت تعد هجاء شاعر ولو بالباطل مذمة يتوقاها الكريم فكيف بدمغه بالحق من خالق السماوات والأرض . بهذا الأسلوب الذي لا يبارى . في هذا السجل الذي تتجاوب بكل لفظ من ألفاظه جنبات الوجود . ثم يستقر في كيان الوجود . . في خلود . .
إنها القاصمة التي يستأهلها عدو الإسلام وعدو الرسول الكريم صاحب الخلق العظيم . .
وبمناسبة الإشارة إلى المال والبنين ، والبطر الذي يبطره المكذبون ، يضرب لهم مثلاً بقصة يبدو أنها كانت معروفة عندهم ، شائعة بينهم ، ويذكرهم فيها بعاقبة البطر بالنعمة ، ومنع الخير والاعتداء على حقوق الآخرين؛ ويشعرهم أن ما بين أيديهم من نعم المال والبنين ، إنما هو ابتلاء لهم كما ابتلي أصحاب هذه القصة ، وأن له ما بعده ، وأنهم غير متروكين لما هم فيه :
{ إنا بلوناهم كما بلونآ أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ، ولا يستثنون . فطاف عليها طآئف من ربك وهم نآئمون ، فأصبحت كالصريم . فتنادوا مصبحين : أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين . فانطلقوا وهم يتخافتون : أن لاَّ يدخلنها اليوم عليكم مسكين . وغدوا على حرد قادرين . فلما رأوها قالوا : إنا لضآلون ، بل نحن محرومون . قال أوسطهم : ألم أقل لكم لولا تسبحون قالوا : سبحان ربنآ إنا كنا ظالمين . فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون ، قالوا : يا ويلنا إنا كنا طاغين ، عسى ربنآ أن يبدلنا خيراً منهآ إنآ إلى ربنا راغبون . . كذلك العذاب ، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } . .
وهذه القصة قد تكون متداولة ومعروفة ، ولكن السياق القرآني يكشف عما وراء حوادثها من فعل الله وقدرته ، ومن ابتلاء وجزاء لبعض عباده . ويكون هذا هو الجديد في سياقها القرآني .
ومن خلال نصوصها وحركاتها نلمح مجموعة من الناس ساذجة بدائية أشبه في تفكيرها وتصورها وحركتها بأهل الريف البسطاء السذج . ولعل هذا المستوى من النماذج البشرية كان أقرب إلى المخاطبين بالقصة ، الذين كانوا يعاندون ويجحدون ، ولكن نفوسهم ليست شديدة التعقيد ، إنما هي أقرب إلى السذاجة والبساطة
والقصة من ناحية الأداء تمثل إحدى طرق الأداء الفني للقصة في القرآن؛ وفيه مفاجآت مشوقة ، كما أن فيه سخرية بالكيد البشري العاجز أمام تدبير الله وكيده .

وفيه حيوية في العرض حتى لكأن السامع أو القارئ يشهد القصة حية تقع أحداثها أمامه وتتوالى . فلنحاول أن نراها كما هي في سياقها القرآني :
ها نحن أولاء أمام أصحاب الجنة جنة الدنيا لا جنة الآخرة وها هم أولاء يبيتون في شأنها أمراً . لقد كان للمساكين حظ من ثمرة هذه الجنة كما تقول الروايات على أيام صاحبها الطيب الصالح . ولكن الورثة يريدون أن يستأثروا بثمرها الآن ، وأن يحرموا المساكين حظهم . . فلننظر كيف تجري الأحداث إذن
{ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة . إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون } .
لقد قر رأيهم على أن يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر ، دون أن يستثنوا منه شيئاً للمساكين . وأقسموا على هذا ، وعقدوا النية عليه ، وباتوا بهذا الشر فيما اعتزموه . . فلندعهم في غفلتهم أو في كيدهم الذي بيتوه ، ولننظر ماذا يجري من ورائهم في بهمة الليل وهم لا يشعرون . فإن الله ساهر لا ينام كما ينامون ، وهو يدبر لهم غير ما يدبرون ، جزاء على ما بيتوا من بطر بالنعمة ومنع للخير ، وبخل بنصيب المساكين المعلوم . . إن هناك مفاجأة تتم في خفية . وحركة لطيفة كحركة الأشباح في الظلام . والناس نيام :
{ فطاف عليها طآئف من ربك وهم نآئمون . فأصبحت كالصريم } . .
فلندع الجنة وما ألم بها مؤقتاً لننظر كيف يصنع المبيتون الماكرون .
ها هم أولاء يصحون مبكرين كما دبروا ، وينادي بعضهم بعضاً لينفذوا ما اعتزموا :
{ فتنادوا مصبحين : أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين } . .
يذكر بعضهم بعضاً ويوصي بعضهم بعضاً ، ويحمس بعضهم بعضاً
ثم يمضي السياق في السخرية منهم ، فيصورهم منطلقين ، يتحدثون في خفوت ، زيادة في إحكام التدبير ، ليحتجنوا الثمر كله لهم ، ويحرموا منه المساكين
{ فانطلقوا وهم يتخافتون : أن لاَّ يدخلنها اليوم عليكم مسكين }
وكأنما نحن الذين نسمع القرآن أو نقرؤه نعلم ما لا يعلمه أصحاب الجنة من أمرها . . أجل فقد شهدنا تلك اليد الخفية اللطيفة تمتد إليها في الظلام ، فتذهب بثمرها كله . ورأيناها كأنما هي مقطوعة الثمار بعد ذلك الطائف الخفي الرهيب فلنمسك أنفاسنا إذن ، لنرى كيف يصنع الماكرون المبيتون .
إن السياق ما يزال يسخر من الماكرين المبيتين :
{ وغدوا على حرد قادرين }
أجل إنهم لقادرون على المنع والحرمان . . حرمان أنفسهم على أقل تقدير
وها هم أولاء يفاجأون . فلننطلق مع السياق ساخرين . ونحن نشهدهم مفجوئين :
{ فلما رأوها قالوا : إنا لضالون } . .
ما هذه جنتنا الموقرة بالثمار . فقد ضللنا إليها الطريق . . ولكنهم يعودون فيتأكدون :
{ بل نحن محرومون } . .
وهذا هو الخبر اليقين
والآن وقد حاقت بهم عاقبة المكر والتبييت ، وعاقبة البطر والمنع ، يتقدم أوسطهم وأعقلهم وأصلحهم ويبدو أنه كان له رأي غير رأيهم .

ولكنه تابعهم عندما خالفوه وهو فريد في رأيه ، ولم يصر على الحق الذي رآه فناله الحرمان كما نالهم . ولكنه يذكرهم ما كان من نصحه وتوجيهه :
{ قال أوسطهم : ألم أقل لكم : لولا تسبحون } ؟
والآن فقط يسمعون للناصح بعد فوات الأوان :
{ قالوا : سبحان ربنا ، إنا كنا ظالمين } . .
وكما يتنصل كل شريك من التبعة عند ما تسوء العاقبة ، ويتوجه باللوم إلى الآخرين . . ها هم أولاء يصنعون :
{ فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون }
ثم ها هم أولاء يتركون التلاوم ليعترفوا جميعاً بالخطيئة أمام العاقبة الرديئة . عسى أن يغفر الله لهم ، ويعوضهم من الجنة الضائعة على مذبح البطر والمنع والكيد والتدبير :
{ قالوا : يا ويلنا إنا كنا طاغين . عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون } . .
وقبل أن يسدل السياق الستار على المشهد الأخير نسمع التعقيب :
{ كذلك العذاب . ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } . .
وكذلك الابتلاء بالنعمة . فليعلم المشركون أهل مكة . { إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة } ولينظروا ماذا وراء الابتلاء . . ثم ليحذروا ما هو أكبر من ابتلاء الدنيا وعذاب الدنيا :
{ ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون }
وكذلك يسوق إلى قريش هذه التجربة من واقع البيئة ، ومما هو متداول بينهم من القصص ، فيربط بين سنته في الغابرين وسنته في الحاضرين؛ ويلمس قلوبهم بأقرب الأساليب إلى واقع حياتهم . وفي الوقت ذاته يشعر المؤمنين بأن ما يرونه على المشركين من كبراء قريش من آثار النعمة والثروة إنما هو ابتلاء من الله ، له عواقبه ، وله نتائجه . وسنته أن يبتلي بالنعمة كما يبتلي بالبأساء سواء . فأما المتبطرون المانعون للخير المخدوعون بما هم فيه من نعيم ، فذلك كان مثلاً لعاقبتهم : { ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } . . وأما المتقون الحذرون فلهم عند ربهم جنات النعيم :
{ إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم } . .
وهو التقابل في العاقبة ، كما أنه التقابل في المسلك والحقيقة . . تقابل النقيضين اللذين اختلفت بهما الطريق ، فاختلفت بهما خاتمة الطريق
وعند هاتين الخاتمتين يدخل معهم في جدل لا تعقيد فيه كذلك ولا تركيب . ويتحداهم ويحرجهم بالسؤال تلو السؤال عن أمور ليس لها إلا جواب واحد يصعب المغالطة فيه؛ ويهددهم في الآخرة بمشهد رهيب ، وفي الدنيا بحرب من العزيز الجبار القوي الشديد :
{ أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ ما لكم؟ كيف تحكمون؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ إن لكم فيه لما تخيرون؟ أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون؟ سلهم أيهم بذلك زعيم؟ أم لهم شركآء؟ فليأتوا بشركآئهم إن كانوا صادقين .

يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون . خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة . وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون . فذرني ومن يكذب بهذا الحديث ، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين . أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون؟ أم عندهم الغيب فهم يكتبون } ؟
والتهديد بعذاب الآخرة وحرب الدنيا يجيء كما نرى في خلال ذلك الجدل ، وهذا التحدي . فيرفع من حرارة الجدل ، ويزيد من ضغط التحدي .
والسؤال الاستنكاري الأول : { أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ } يعود إلى عاقبة هؤلاء وهؤلاء التي عرضها في الآيات السابقة . وهو سؤال ليس له إلا جواب واحد . . لا . لا يكون . فالمسلمون المذعنون المستسلمون لربهم ، لا يكونون أبداً كالمجرمين الذين يأتون الجريمة عن لجاج يسمهم بهذا الوصف الذميم وما يجوز في عقل ولا في عدل أن يتساوى المسلمون والمجرمون في جزاء ولا مصير .
ومن ثم يجيء السؤال الاستنكاري الآخر : { ما لكم؟ كيف تحكمون؟ } . . ماذا بكم؟ وعلام تبنون أحكامكم؟ وكيف تزنون القيم والأقدار؟ حتى يستوي في ميزانكم وحكمكم من يسلمون ومن يجرمون؟
ومن الاستنكار والإنكار عليهم ينتقل إلى التهكم بهم والسخرية منهم : { أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ إن لكم فيه لما تخيرون؟ } . . فهو التهكم والسخرية أن يسألهم إن كان لهم كتاب يدرسونه ، هو الذي يستمدون منه مثل ذلك الحكم الذي لا يقبله عقل ولا عدل؛ وهو الذي يقول لهم : إن المسلمين كالمجرمين إنه كتاب مضحك يوافق هواهم ويملق رغباتهم ، فلهم فيه ما يتخيرون من الأحكام وما يشتهون وهو لا يرتكن إلى حق ولا إلى عدل ، ولا إلى معقول أو معروف
{ أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون؟ } . . فإن لا يكن ذلك فهو هذا . وهو أن تكون لهم مواثيق على الله ، سارية إلى يوم القيامة ، مقتضاها أن لهم ما يحكمون ، وما يختارون وفق ما يشتهون وليس من هذا شيء . فلا عهود لهم عند الله ولا مواثيق . فعلام إذن يتكلمون؟ وإلام إذن يستندون؟
{ سلهم أيهم بذلك زعيم؟ } . . سلهم من منهم المتعهد بهذا؟ من منهم المتعهد بأن لهم على الله ما يشاءون ، وأن لهم ميثاقاً عليه ساري المفعول إلى يوم القيامة أن لهم ما يحكمون؟
وهو تهكم ساخر عميق بليغ يذيب الوجوه من الحرج والتحدي السافر المكشوف
{ أم لهم شركاء؟ فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين } . .
وهم كانوا يشركون بالله . ولكن التعبير يضيف الشركاء إليهم لا لله . ويتجاهل أن هناك شركاء . ويتحداهم أن يدعوا شركاءهم هؤلاء إن كانوا صادقين . . ولكن متى يدعونهم؟
{ يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون . خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة . وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } .

.
فيقفهم وجهاً لوجه أمام هذا المشهد كأنه حاضر اللحظة ، وكأنه يتحداهم فيه أن يأتوا بشركائهم المزعومين . وهذا اليوم حقيقة حاضرة في علم الله لا تتقيد في علمه بزمن . واستحضار للمخاطبين على هذا النحو يجعل وقعها عميقاً حياً حاضراً في النفوس على طريقة القرآن الكريم .
والكشف عن الساق كناية في تعبيرات اللغة العربية المأثورة عن الشدة والكرب . فهو يوم القيامة الذي يشمر فيه عن الساعد ويكشف فيه عن الساق ، ويشتد الكرب والضيق . . ويدعى هؤلاء المتكبرون إلى السجود فلا يملكون السجود ، إما لأن وقته قد فات ، وإما لأنهم كما وصفهم في موضع آخر يكونون : { مهطعين مقنعي رؤوسهم } وكأن أجسامهم وأعصابهم مشدودة من الهول على غير إرادة منهم وعلى أية حال فهو تعبير يشي بالكرب والعجز والتحدي المخيف . .
ثم يكمل رسم هيئتهم : { خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة } . . هؤلاء المتكبرون المتبجحون . والأبصار الخاشعة والذلة المرهقة هما المقابلان للهامات الشامخة والكبرياء المنفوخة . وهي تذكر بالتهديد الذي جاء في أول السورة : { سنسمه على الخرطوم } . . فإيحاء الذلة والانكسار ظاهر عميق مقصود
وبينما هم في هذا الموقف المرهق الذليل ، يذكرهم بما جرهم إليه من إعراض واستكبار : { وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } . . قادرون على السجود . فكانوا يأبون ويستكبرون . . كانوا . فهم الآن في ذلك المشهد المرهق الذليل . والدنيا وراءهم . وهم الآن يدعون إلى السجود فلا يستطيعون
وبينما هم في هذا الكرب ، يجيئهم التهديد الرعيب الذي يهد القلوب :
{ فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } . .
وهو تهديد مزلزل . . والجبار القهار القوي المتين يقول للرسول صلى الله عليه وسلم - : « خل بيني وبين من يكذب بهذا الحديث . وذرني لحربه فأنا به كفيل »
ومن هو هذا الذي يكذب بهذا الحديث؟
إنه ذلك المخلوق الصغير الهزيل المسكين الضعيف هذه النملة المضعوفة . بل هذه الهباءة المنثورة . . بل هذا العدم الذي لا يعني شيئاً أمام جبروت الجبار القهار العظيم
فيا محمد . خل بيني وبين هذا المخلوق . واسترح أنت ومن معك من المؤمنين . فالحرب معي لا معك ولا مع المؤمنين . الحرب معي . وهذا المخلوق عدوي ، وأنا سأتولى أمره فدعه لي ، وذرني معه ، واذهب أنت ومن معك فاستريحوا
أي هول مزلزل للمكذبين وأي طمأنينة للنبي والمؤمنين . . المستضعفين . . . ؟
ثم يكشف لهم الجبار القهار عن خطة الحرب مع هذا المخلوق الهزيل الصغير الضعيف
{ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين } . .
وإن شأن المكذبين ، وأهل الأرض أجمعين ، لأهون وأصغر من أن يدبر الله لهم هذه التدابير . . ولكنه سبحانه يحذرهم نفسه ليدركوا أنفسهم قبل فوات الأوان . وليعلموا أن الأمان الظاهر الذي يدعه لهم هو الفخ الذي يقعون فيه وهم غارّون .

وأن إمهالهم على الظلم والبغي والإعراض والضلال هو استدراج لهم إلى أسوأ مصير . وأنه تدبير من الله ليحملوا أوزارهم كاملة ، ويأتوا إلى الموقف مثقلين بالذنوب ، مستحقين للخزي والرهق والتعذيب . .
وليس أكبر من التحذير ، وكشف الاستدراج والتدبير ، عدلاً ولا رحمة . والله سبحانه يقدم لأعدائه وأعداء دينه ورسوله عدله ورحمته في هذا التحذير وذلك النذير . وهم بعد ذلك وما يختارون لأنفسهم ، فقد كشف القناع ووضحت الأمور
إنه سبحانه يمهل ولا يهمل . ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته . وهو هنا يكشف عن طريقته وعن سنته التي قدرها بمشيئته . ويقول لرسوله صلى الله عليه وسلم ذرني ومن يكذب بهذا الحديث ، وخل بيني وبين المعتزين بالمال والبنين والجاه والسلطان . فسأملي لهم ، واجعل هذه النعمة فخهم فيطمئن رسوله ، ويحذر أعداءه . . ثم يدعهم لذلك التهديد الرعيب
وفي ظل مشهد القيامة المكروب وظل هذا التهديد المرهوب يكمل الجدل والتحدي والتعجيب من موقفهم الغريب :
{ أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون؟ } . .
فثقل الغرامة التي تطلبها منهم أجراً على الهداية هو الذي يدفعهم إلى الإعراض والتكذيب ، ويجعلهم يؤثرون ذلك المصير البشع ، على فداحة ما يؤدون؟
{ أم عندهم الغيب فهم يكتبون؟ } . .
ومن ثم فهم على ثقة مما في الغيب ، فلا يخيفهم ما ينتظرهم فيه ، فقد اطلعوا عليه وكتبوه وعرفوه؟ أو أنهم هم الذين كتبوا ما فيه . فكتبوه ضامناً لما يشتهون؟
ولا هذا ولا ذاك؟ فما لهم يقفون هذا الموقف الغريب المريب؟
وبذلك التعبير الموحي الرعيب : { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } . . وبالإعلان عن خطة المعركة والكشف عن سنة الحرب بين الله وأعدائه المخدوعين . . بهذا وذلك يخلي الله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المعركة بين الإيمان والكفر . وبين الحق والباطل . فهي معركته سبحانه ، وهي حربه التي يتولاها بذاته .
والأمر كذلك في حقيقته ، مهما بدا أن للنبي صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين دوراً في هذه الحرب أصيلاً . إن دورهم حين ييسره الله لهم هو طرف من قدر الله في حربه مع أعدائه . فهم أداة يفعل الله بها أو لا يفعل . وهو في الحالين فعال لما يريد . وهو في الحالين يتولى المعركة بذاته وفق سنته التي يريد .
وهذا النص نزل والنبي صلى الله عليه وسلم في مكة ، والمؤمنون معه قلة لا تقدر على شيء . فكانت فيه الطمأنينة للمستضعفين ، والفزع للمغترين بالقوة والجاه والمال والبنين . ثم تغيرت الأحوال والأوضاع في المدينة . وشاء الله أن يكون للرسول ومن معه من المؤمنين دور ظاهر في المعركة . ولكنه هنالك أكد لهم ذلك القول الذي قاله لهم وهم في مكة قلة مستضعفون . وقال لهم وهم منتصرون في بدر :

{ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ، وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً ، إن الله سميع عليم } وذلك ليقر في قلوبهم هذه الحقيقة . حقيقة أن المعركة معركته هو سبحانه . وأن الحرب حربه هو سبحانه . وأن القضية قضيته هو سبحانه . وأنه حين يجعل لهم فيها دوراً فإنما ذلك ليبليهم منه بلاء حسناً . وليكتب لهم بهذا البلاء أجراً . أما حقيقة الحرب فهو الذي يتولاها . وأما حقيقة النصر فهو الذي يكتبها . . وهو سبحانه يجريها بهم وبدونهم . وهم حين يخوضونها أداة لقدرته ليست هي الأداة الوحيدة في يده
وهي حقيقة واضحة من خلال النصوص القرآنية في كل موضع ، وفي كل حال ، وفي كل وضع . كما أنها هي الحقيقة التي تتفق مع التصور الإيماني لقدرة الله وقدره ، ولسنته ومشيئته ، ولحقيقة القدرة البشرية التي تنطلق لتحقيق قدر الله . . أداة . . ولن تزيد على أن تكون أداة . .
وهي حقيقة تسكب الطمأنينة في قلب المؤمن ، في حالتي قوته وضعفه على السواء . ما دام يخلص قلبه لله ، ويتوكل في جهاده على الله . فقوته ليست هي التي تنصره في معركة الحق والباطل والإيمان والكفر ، إنما هو الله الذي يكفل له النصر . وضعفه لا يهزمه لأن قوة الله من ورائه وهي التي تتولى المعركة وتكفل له النصر . ولكن الله يملي ويستدرج ويقدر الأمور في مواقيتها وفق مشيئته وحكمته ، ووفق عدله ورحمته .
كما أنها حقيقة تفزع قلب العدو ، سواء كان المؤمن أمامه في حالة ضعف أم في حالة قوة . فليس المؤمن هو الذي ينازله ، إنما هو الله الذي يتولى المعركة بقوته وجبروته . الله الذي يقول لنبيه { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } وخل بيني وبين هذا البائس المتعوس والله يملي ويستدرج فهو في الفخ الرعيب المفزع المخيف ، ولو كان في أوج قوته وعدته . . فهذه القوة هي ذاتها الفخ وهذه العدة هي ذاتها المصيدة . . { وأملي لهم إن كيدي متين } أما متى يكون . فذلك علم الله المكنون فمن يأمن غيب الله ومكره؟ وهل يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقون؟
وأمام هذه الحقيقة يوجه الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الصبر . الصبر على تكاليف الرسالة . والصبر على التواءات النفوس . والصبر على الأذى والتكذيب . الصبر حتى يحكم الله في الوقت المقدر كما يريد . ويذكره بتجربة أخ له من قبل ضاق صدره بهذه التكاليف ، فلولا أن تداركته نعمة الله لنبذ وهو مذموم :
{ فاصبر لحكم ربك ، ولا تكن كصاحب الحوت . إذ نادى وهو مكظوم . لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعرآء وهو مذموم . فاجتباه ربه فجعله من الصالحين } . .
وصاحب الحوت هو يونس عليه السلام كما جاء في سورة الصافات . وملخص تجربته التي يذكر الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم لتكون له زاداً ورصيدا ، وهو خاتم النبيين ، الذي سبقته تجارب النبيين أجمعين في حقل الرسالة ، ليكون هو صاحب الحصاد الأخير ، وصاحب الرصيد الأخير ، وصاحب الزاد الأخير .

فيعينه هذا على عبئه الثقيل الكبير . عبء هداية البشرية جميعها لا قبيلة ولا قرية ولا أمة . وعبء هداية الأجيال جميعها لا جيل واحد ولا قرن واحد كما كانت مهمة الرسل قبله . وعبء إمداد البشرية بعده بكل أجيالها وكل أقوامها بمنهج دائم ثابت صالح لتلبية ما يجد في حياتها من أحوال وأوضاع وتجارب . وكل يوم يأتي بجديد . .
ملخص تلك التجربة أن يونس بن متى سلام الله عليه أرسله الله إلى أهل قرية . قيل اسمها نينوى بالموصل . فاستبطأ إيمانهم ، وشق عليه تلكؤهم ، فتركهم مغاضباً قائلاً في نفسه : إن الله لن يضيق عليّ بالبقاء بين هؤلاء المتعنتين المعاندين ، وهو قادر على أن يرسلني إلى قوم آخرين وقد قاده الغضب والضيق إلى شاطئ البحر ، حيث ركب سفينته ، فلما كانوا في وسط اللج ثقلت السفينة وتعرضت للغرق . فأقرعوا بين الركاب للتخفف من واحد منهم لتخف السفينة . . فكانت القرعة على يونس . . فألقوه في اليم فابتلعه الحوت .
عندئذ نادى يونس وهو كظيم في هذا الكرب الشديد في الظلمات في بطن الحوت ، وفي وسط اللجة ، نادى ربه : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } فتداركته نعمة من ربه ، فنبذه الحوت على الشاطئ . . لحماً بلا جلد . . ذاب جلده في بطن الحوت . وحفظ الله حياته بقدرته التي لا يقيدها قيد من مألوف البشر المحدود
وهنا يقول : إنه لولا هذه النعمة لنبذه الحوت وهو مذموم . أي مذموم من ربه . على فعلته . وقلة صبره . وتصرفه في شأن نفسه قبل أن يأذن الله له . ولكن نعمة الله وقته هذا ، وقبل الله تسبيحه واعترافه وندمه . وعلم منه ما يستحق عليه النعمة والاجتباء . { فاجتباه ربه فجعله من الصالحين } . .
هذه هي التجربة التي مر بها صاحب الحوت . يذكر الله بها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم في موقف العنت والتكذيب . بعد ما أخلاه من المعركة كما هي الحقيقة ، وأمره بتركها له يتولاها كما يريد . وقتما يريد . وكلفه الصبر لحكم الله وقضائه في تحديد الموعد ، وفي مشتقات الطريق حتى يحين الموعد المضروب
إن مشقة الدعوة الحقيقية هي مشقة الصبر لحكم الله ، حتى يأتي موعده ، في الوقت الذي يريده بحكمته . في الطريق مشقات كثيرة . مشقات التكذيب والتعذيب . ومشقات الالتواء والعناد . ومشقات انتفاش الباطل وانتفاخه . ومشقات افتتان الناس بالباطل المزهو المنتصر فيما تراه العيون . ثم مشقات إمساك النفس على هذا كله راضية مستقرة مطمئنة إلى وعد الله الحق ، لا ترتاب ولا تتردد في قطع الطريق ، مهما تكن مشقات الطريق .

الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

هذه سورة هائلة رهيبة؛ قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة . وهي منذ افتتاحها إلى ختامها تقرع هذا الحس ، وتطالعه بالهول القاصم ، والجد الصارم ، والمشهد تلو المشهد ، كله إيقاع ملح على الحس ، بالهول آناً وبالجلال آناً . وبالعذاب آناً ، وبالحركة القوية في كل آن
والسورة بجملتها تلقي في الحس بكل قوة وعمق إحساساً واحداً بمعنى واحد . . أن هذا الأمر ، أمر الدين والعقيدة ، جد خالص حازم جازم . جد كله لا هزل فيه . ولا مجال فيه للهزل . جد في الدنيا وجد في الآخرة ، وجد في ميزان الله وحسابه . جد لا يحتمل التلفت عنه هنا أو هناك كثيراً ولا قليلاً . وأي تلفت عنه من أي أحد يستنزل غضب الله الصارم ، وأخذه الحاسم . ولو كان الذي يتلفت عنه هو الرسول . فالأمر أكبر من الرسول وأكبر من البشر . . إنه الحق . حق اليقين . من رب العالمين .
يبرز هذا المعنى في اسم القيامة المختار في هذه السورة ، والذي سميت به السورة : « الحاقة » . . وهي بلفظها وجرسها ومعناها تلقي في الحس معنى الجد والصرامة والحق والاستقرار . وإيقاع اللفظ بذاته أشبه شيء برفع الثقل طويلاً ، ثم استقراره استقراراً مكيناً . رفعه في مدة الحاء بالألف . وجده في تشديد القاف بعدها ، واستقراره بالانتهاء بالتاء المربوطة التي تنطق هاء ساكنة .
ويبرز في مصارع المكذبين بالدين وبالعقيدة وبالآخرة قوماً بعد قوم ، وجماعة بعد جماعة . مصارعهم العاصفة القاصمة الحاسمة الجازمة : { كذبت ثمود وعاد بالقارعة . فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ، وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية . سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً ، فترى القوم فيها صرعى ، كأنهم أعجاز نخل خاوية . فهل ترى لهم من باقية؟ وجآء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة ، فعصوا رسول ربهم ، فأخذهم أخذة رابية . إنا لما طغا المآء حملناكم في الجارية ، لنجعلها لكم تذكرة وتعيهآ أذن واعية } . . وهكذا كل من تلفت عن هذا الأمر أخذ أخذة مروعة داهمة قاصمة ، تتناسب مع الجد الصارم الحاسم في هذا الأمر العظيم الهائل ، الذي لا يحتمل هزلاً ، ولا يحتمل لعباً ، ولا يحتمل تلفتاً عنه من هنا أو هناك
ويبرز في مشهد القيامة المروع ، وفي نهاية الكون الرهيبة ، وفي جلال التجلي كذلك وهو أروع وأهول :
{ فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة . وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ، فيومئذ وقعت الواقعة ، وانشقت السمآء فهي يومئذ واهية . . والملك على أرجآئهآ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } . .
ذلك الهول . وهذا الجلال . يخلعان الجد الرائع الجليل على مشهد الحساب عن ذلك الأمر المهول . ويشاركان في تعميق ذلك المعنى في الحس مع سائر إيقاعات السورة وإيحاءاتها . هو وما بعده من مقالة الناجين والمعذبين : { فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول : هآؤم اقرأوا كتابيه .

إني ظننت أني ملاق حسابيه } . . فقد نجا وما يكاد يصدق بالنجاة . . { وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول : يا ليتني لم أوت كتابيه ، ولم أدر ما حسابيه . يا ليتها كانت القاضية . مآ أغنى عني ماليه . هلك عني سلطانيه } . . بهذا التفجع الطويل ، الذي يطبع في الحس وقع هذا المصير . .
ثم يبدو ذلك الجد الصارم والهول القاصم في النطق العلوي بالقضاء الرهيب الرعيب ، في اليوم الهائل ، وفي الموقف الجليل : { خذوه . فغلوه . ثم الجحيم صلوه . ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه } . . وكل فقرة كأنها تحمل ثقل السماوات والأرض ، وتنقض في جلال مذهل ، وفي هول مروع ، وفي جد ثقيل . .
ثم ما يعقب كلمة القضاء الجليل ، من بيان لموجبات الحكم الرهيب ونهاية المذنب الرعيبة : { إنه كان لا يؤمن بالله العظيم . ولا يحض على طعام المسكين . فليس له اليوم ها هنا حميم . ولا طعام إلا من غسلين . لا يأكله إلا الخاطئون } . .
ثم يبرز ذلك المعنى في التلويح بقسم هائل ، وفي تقرير الله لحقيقة الدين الأخير : { فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون . إنه لقول رسول كريم . وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ، ولا بقول كاهن ، قليلاً ما تذكرون . تنزيل من رب العالمين } .
وأخيراً يبرز الجد في الإيقاع الأخير . وفي التهديد الجازم والأخذ القاصم لكل من يتلاعب في هذا الأمر أو يبدل . كائناً من كان ، ولو كان هو محمداً الرسول : { ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين . فما منكم من أحد عنه حاجزين } . . فهو الأمر الذي لا تسامح فيه ولا هوادة ولا لين . .
وعندئذ تختم السورة بالتقرير الجازم والقول الفصل الأخير عن هذا الأمر الخطير : { وإنه لتذكرة للمتقين . وإنا لنعلم أن منكم مكذبين . وإنه لحسرة على الكافرين . وإنه لحق اليقين . . فسبح باسم ربك العظيم } . . وهو الختام الذي يقطع كل قول ، ويلقي بكلمة الفصل ، وينتهي إلى الفراغ من كل لغو ، والتسبيح باسم الله العظيم . .
ذلك المعنى الذي تتمحض السورة لإلقائه في الحس ، يتكفل أسلوبها وإيقاعها ومشاهدها وصورها وظلالها بإلقائه وتقريره وتعميقه بشكل مؤثر حي عجيب :
إن أسلوب السورة يحاصر الحس بالمشاهد الحية ، المتناهية الحيوية ، بحيث لا يملك منها فكاكاً ، ولا يتصور إلا أنها حية واقعة حاضرة ، تطالعه بحيويتها وقوتها وفاعليتها بصورة عجيبة
فهذه مصارع ثمود وعاد وفرعون وقرى لوط ( المؤتفكات ) حاضرة شاخصة ، والهول المروع يجتاح مشاهدها لا فكاك للحس منها . وهذا مشهد الطوفان وبقايا البشرية محمولة في الجارية مرسوماً في آيتين اثنتين سريعتين . . ومن ذا الذي يقرأ : { وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية . سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً .

فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية؟ } . . ولا يتمثل لحسه منظر العاصفة المزمجرة المحطمة المدمرة . سبع ليال وثمانية أيام . ومشهد القوم بعدها صرعى مجدلين { كأنهم أعجاز نخل خاوية } .
وهو مشهد حي ماثل للعين ، ماثل للقلب ، ماثل للخيال وكذلك سائر مشاهد الأخذ الشديد العنيف في السورة .
ثم هذه مشاهد النهاية المروعة لهذا الكون . . هذه هي تخايل للحس ، وتقرقع حوله ، وتغمره بالرعب والهول والكآبة . ومن ذا الذي يسمع : { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة } . . ولا يسمع حسه القرقعة بعد ما ترى عينه الرفعة ثم الدكة ومن الذي يسمع : { وانشقت السماء فهي يومئذ واهية . والملك على أرجائها } . . ولا يتمثل خاطره هذه النهاية الحزينة ، وهذا المشهد المفجع للسماء الجميلة المتينة؟ ثم من الذي لا يغمر حسه الجلال والهول وهو يسمع : { والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية . يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية } . .
ومشهد الناجي الآخذ كتابه بيمينه والدنيا لا تسعه من الفرحه ، وهو يدعو الخلائق كلها لتقرأ كتابه في رنة الفرح والغبطة : { هاؤم اقرأوا كتابيه . إني ظننت أني ملاق حسابيه }
ومشهد الهالك الآخذ كتابه بشماله . والحسرة تئن في كلماته ونبراته وإيقاعاته : { يا ليتني لم أوت كتابيه . ولم أدر ما حسابيه . يا ليتها كانت القاضية . ما أغنى عني ماليه ، هلك عني سلطانية } .
ومن ذا الذي لا يرتعش حسه ، وهو يسمع ذلك القضاء الرهيب : { خذوه ، فغلوه ، ثم الجحيم صلوه ، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه . . الخ } . . وهو يشهد كيف يتسابق المأمورون إلى تنفيذ الأمر الرهيب الجليل في ذلك البائس الحسير
وحالة هناك : { فليس له اليوم ها هنا حميم ، ولا طعام إلا من غسلين . لا يأكله إلا الخاطئون } .
وأخيراً فمن ذا الذي تأخذه الرجفة وتلفه الرهبة ، وهو يتمثل في الخيال صورة التهديد الشديد : { ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل ، لأخذنا منه باليمين ، ثم لقطعنا منه الوتين . فما منكم من أحد عنه حاجزين } . .
إنها مشاهد من القوة والحيوية والحضور بحيث لا يملك الحس أن يتلفت عنها طوال السورة ، وهي تلح عليه ، وتضغط ، وتتخلل الأعصاب والمشاعر في تأثير حقيقي عنيف
ويشارك إيقاع الفاصلة في السورة ، برنته الخاصة ، وتنوع هذه الرنة ، وفق المشاهد والمواقف في تحقيق ذلك التأثير الحي العميق . . فمن المد والتشديد والسكت في مطلع السورة :
{ الحاقة . ما الحاقة؟ وما أدراك ما الحاقة؟ } . . إلى الرنة المدوية في الياء والهاء الساكنة بعدها . سواء كانت تاء مربوطة يوقف عليها بالسكون ، أو هاء سكت مزيدة لتنسيق الإيقاع ، طوال مشاهد التدمير في الدنيا والآخرة ، ومشاهد الفرحة والحسرة في موقف الجزاء . ثم يتغير الإيقاع عند إصدار الحكم إلى رنة رهيبة جليلة مديدة : { خذوه . فغلوه . ثم الجحيم صلوه .

. } . ثم يتغير مرة أخرى عند تقرير أسباب الحكم ، وتقرير جدية الأمر ، إلى رنة رزينة جادة حاسمة ثقيلة مستقرة على الميم أو النون : { إنه كان لا يؤمن بالله العظيم . ولا يحض على طعام المسكين . فليس له اليوم ها هنا حميم ولا طعام إلا من غسلين } . . { وإنه لحق اليقين . فسبح باسم ربك العظيم . . }
وهذا التغير في حرف الفاصلة وفي نوع المد قبلها وفي الإيقاع كله ظاهرة ملحوظة تتبع تغير السياق والمشاهد والجو ، وتتناسق مع الموضوع والصور والظلال تمام التناسق . وتشارك في إحياء المشاهد وتقوية وقعها على الحس . في السورة القوية الإيقاع العميقة التأثير .
إنها سورة هائلة رهيبة . قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة . وهي بذاتها أقوى من كل استعراض ومن كل تحليل ، ومن كل تعليق
{ الحاقة . ما الحاقة؟ . وما أدراك ما الحاقة؟ } . .
القيامة ومشاهدها وأحداثها تشغل معظم هذه السورة . ومن ثم تبدأ السورة باسمها ، وتسمى به ، وهو اسم مختار بجرسه ومعناه كما أسلفنا . فالحاقة هي التي تحق فتقع . أو تحق فتنزل بحكمها على الناس . أو تحق فيكون فيها الحق . . وكلها معان تقريرية جازمة تناسب اتجاه السورة وموضوعها . ثم هي بجرسها كما بينا من قبل تلقي إيقاعاً معيناً يساوق هذا المعنى الكامن فيها ، ويشارك في إطلاق الجو المراد بها؛ ويمهد لما حق على المكذبين بها . في الدنيا وفي الآخرة جميعاً .
والجو كله في السورة جو جد وجزم ، كما أنه جو هول وروع . وهو يوقع في الحس إلى جانب ما أسلفنا في التقديم ، شعوراً بالقدرة الإلهية الكبرى من جهة ، وبضآلة الكائن الإنساني تجاه هذه القدرة من جهة أخرى؛ وأخذها له أخذاً شديداً في الدنيا والآخرة ، عندما يحيد أو يتلفت عن هذا النهج الذي يريده الله للبشرية ، ممثلاً فيما يجيء به الرسل من الحق والعقيدة والشريعة؛ فهو لا يجيء ليهمل ، ولا ليبدل ، إنما يجيء ليطاع ويحترم ، ويقابل بالتحرج والتقوى . وإلا فهناك الأخذ والقصم ، وهناك الهول والروع .
والألفاظ في السورة بجرسها وبمعانيها وباجتماعها في التركيب ، وبدلالة التركيب كله . . تشترك في إطلاق هذا الجو وتصويره . فهو يبدأ فيلقيها كلمة مفردة ، لا خبر لها في ظاهر اللفظ : { الحاقة } . . ثم يتبعها باستفهام حافل بالاستهوال والاستعظام لماهية هذا الحدث العظيم : { ما الحاقة؟ } . . ثم يزيد هذا الاستهوال والاستعظام بالتجهيل ، وإخراج المسألة عن حدود العلم والإدراك : { وما أدراك ما الحاقة؟ } . . ثم يسكت فلا يجيب على هذا السؤال . ويدعك واقفاً أمام هذا الأمر المستهول المستعظم ، الذي لا تدريه ، ولا يتأتى لك أن تدريه لأنه أعظم من أن يحيط به العلم والإدراك
ويبدأ الحديث عن المكذبين به ، وما نالهم من الهول ، وما أخذوا به من القصم ، فذلك الأمر جدُّ لا يحتمل التكذيب ، ولا يذهب ناجياً من يصر فيه على التكذيب :
{ كذبت ثمود وعاد بالقارعة .

فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية . وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية . سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً . فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية . فهل ترى لهم من باقية؟ } .
وهذا اسم جديد للحاقة . إنها فوق أنها تحق . . فهي تقرع . . والقرع ضرب الشيء الصلب والنقر عليه بشيء مثله . والقارعة تقرع القلوب بالهول والرعب ، وتقرع الكون بالدمار والحطم . وها هي ذي بجرسها تقعقع وتقرقع ، وتقرع وتفزع . . وقد كذبت بها ثمود وعاد . فلننظر كيف كان عاقبة التكذيب . .
{ فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية } . .
وثمود كما جاء في مواضع أخرى كانت تسكن الحجر في شمالي الحجاز بين الحجاز والشام . وكان أخذهم بالصيحة كما سماها في غير موضع . أما هنا فهو يذكر وصف الصيحة دون لفظها . . { بالطاغية } . . لأن هذا الوصف يفيض بالهول المناسب لجو السورة . ولأن إيقاع اللفظ يتفق مع إيقاع الفاصلة في هذا المقطع منها . ويكتفي بهذه الآية الواحدة تطوي ثمود طياً ، وتغمرهم غمراً ، وتعصف بهم عصفاً ، وتغطى عليهم فلا تبقي لهم ظلا
وأما عاد فيفصل في أمر نكبتها ويطيل ، فقد استمرت وقعتها سبع ليال وثمانية أيام حسوماً . على حين كانت وقعة ثمود خاطفة . . صيحة واحدة . طاغية . . { وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية } . . والريح الصرصر الشديدة الباردة . واللفظ ذاته فيه صرصرة الريح . وزاد شدتها بوصفها { عاتية } . . لتناسب عتو عاد وجبروتها المحكيّ في القرآن ، وقد كانوا يسكنون الأحقاف في جنوب الجزيرة بين اليمن وحضرموت . وكانوا أشداء بطاشين جبارين . هذه الريح الصرصر العاتية : { سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً } . . والحسوم القاطعة المستمرة في القطع . والتعبير يرسم مشهد العاصفة المزمجرة المدمرة المستمرة هذه الفترة الطويلة المحددة بالدقة : { سبع ليال وثمانية أيام } . ثم يعرض المشهد بعدها شاخصاً : { فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية } . . فترى . . فالمنظر معروض تراه ، والتعبير يلح به على الحس حتى يتملاه { صرعى } . . مصروعين مجدلين متناثرين { كأنهم أعجاز نخل } بأصولها وجذوعها { خاوية } فارغة تآكلت أجوافها فارتمت ساقطة على الأرض هامدة إنه مشهد حاضر شاخص . مشهد ساكن كئيب بعد العاصفة المزمجرة المدمرة . . { فهل ترى لهم من باقية؟ } . . لا فليس لهم من باقية
ذلك شأن عاد وثمود . . وهو شأن غيرهما من المكذبين . وفي آيتين اثنتين يجمل وقائع شتى :
{ وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة . فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية } . .
وفرعون كان في مصر وهو فرعون موسى ومن قبله لا يذكر عنهم تفصيل . والمؤتفكات قرى لوط المدمرة التي اتبعت الإفك أو التي انقلبت ، فاللفظ يعني هذا وهذا . ويجمل السياق فعال هؤلاء جميعاً ، فيقول عنهم انهم جاءوا { بالخاطئة } أي بالفعلة الخاطئة . . من الخطيئة . . { فعصوا رسول ربهم } . . وهم عصوا رسلاً متعددين؛ ولكن حقيقتهم واحدة ، ورسالتهم في صميمها واحدة .

فهم إذن رسول واحد . يمثل حقيقة واحدة وذلك من بدائع الإشارات القرآنية الموحية وفي إجمال يذكر مصيرهم في تعبير يلقي الهول والحسم حسب جو السورة : { فأخذهم أخذة رابية } . . والرابية العالية الغامرة الطامرة . لتناسب { الطاغية } التي أخذت ثمود { والعاتية } التي أخذت عاداً ، وتناسب جو الهول والرعب في السياق بدون تفصيل ولا تطويل
ثم يرسم مشهد الطوفان والسفينة الجارية ، مشيراً بهذا المشهد إلى مصرع قوم نوح حين كذبوا . وممتناً على البشر بنجاة أصولهم التي انبثقوا منها ، ثم لم يشكروا ولم يعتبروا بتلك الآية الكبرى :
{ إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية ، لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية } . .
ومشهد طغيان الماء ومشهد الجارية على الماء الطاغي ، كلاهما يتناسق مع مشاهد السورة وظلالها . وجرس الجارية وواعية يتمشى كذلك مع إيقاع القافية . وهذه اللمسة { لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية } تلمس القلوب الخامدة والآذان البليدة ، التي تكذب بعد كل ما سبق من النذر وكل ما سبق من المصائر ، وكل ما سبق من الآيات ، وكل ما سبق من العظات ، وكل ما سبق من آلاء الله ونعمه على أصول هؤلاء الغافلين
وكل هذه المشاهد المروعة الهائلة القاصمة الحاسمة تبدو ضئيلة صغيرة إلى جانب الهول الأكبر . هول الحاقة والقارعة التي يكذب بها المكذبون ، وقد شهدوا مصارع المكذبين . .
إن الهول في هذه المصارع على ضخامتها محدود إذا قيس إلى هول القارعة المطلق من الحدود المدخر لذلك اليوم المشهود . وهنا بعد هذا التمهيد يكمل العرض ، ويكشف عن الهول كأنه التكملة المدخرة للمشاهد الأولى :
{ فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة . وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة . فيومئذ وقعت الواقعة . وانشقت السمآء فهي يومئذ واهية . والملك على أرجآئهآ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } . .
ونحن نؤمن أن هناك نفخة في الصور وهو البوق تحدث بعدها هذه الأحداث . ولا نزيد في تفصيلها شيئاً . لأنها غيب . ليس عندنا من دلائله إلا مثل هذه النصوص المجملة؛ وليس لنا مصدر آخر لتفصيل هذا الإجمال . والتفصيل لا يزيد في حكمة النص شيئاً ، والجري وراءه عبث لا طائل تحته ، إلا اتباع الظن المنهيّ عنه أصلاً .
فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ، فتبع هذه النفخة تلك الحركة الهائلة : { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة } . . ومشهد حمل الأرض والجبال ونفضها ودكها دكة واحدة تسوي عاليها بسافلها . . مشهد مروع حقاً . هذه الأرض التي يجوس الإنسان خلالها آمناً مطمئناً ، وهي تحته مستقرة مطمئنة . وهذه الجبال الراسية الوطيدة الراسخة التي تهول الإنسان بروعتها واستقرارها . . هذه مع هذه تحمل فتدك كالكرة في يد الوليد . . إنه مشهد يشعر معه الإنسان بضآلته وضآلة عالمه إلى جانب هذه القدرة القادرة ، في ذلك اليوم العظيم .

.
فإذا وقع هذا . إذا نفخ في الصور نفخة واحدة ، وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة . . فهو حينئذ الأمر الذي تتحدث عنه السورة : { فيومئذ وقعت الواقعة } . . والواقعة اسم من أسمائها كالحاقة والقارعة . فهي الواقعة لأنها لا بد واقعة . كأن طبيعتها وحقيقتها الدائمة أن تكون واقعة وهو اسم ذو إيحاء معين وهو إيحاء مقصود في صدد الارتياب فيها والتكذيب
ولا يقتصر الهول على حمل الأرض والجبال ودكها دكة واحدة ، فالسماء في هذا اليوم الهائل ليست بناجية :
{ وانشقت السماء فهي يومئذ واهية } . .
ونحن لا ندري على وجه التحقيق ما السماء المقصودة بهذا اللفظ في القرآن . ولكن هذا النص والنصوص الأخرى التي تشير إلى الأحداث الكونية في ذلك اليوم العظيم كلها تشير إلى انفراط عقد هذا الكون المنظور ، واختلال روابطه وضوابطه التي تمسك به في هذا النظام البديع الدقيق ، وتناثر أجزائه بعد انفلاتها من قيد الناموس . .
ولعله من المصادفات الغريبة أن يتنبأ الآن علماء الفلك بشيء يشبه هذا تكون فيه نهاية العالم ، استنباطاً من ملاحظتهم العلمية البحتة ، وحسب القليل الذي عرفوه من طبيعة هذا الكون وقصته كا افترضوها . .
فأما نحن فنكاد نشهد هذه المشاهد المذهلة ، من خلال النصوص القرآنية الجازمة؛ وهي نصوص مجملة توحي بشيء عام؛ ونحن نقف عند إيحاء هذه النصوص ، فهي عندنا الخبر الوحيد المستيقن عن هذا الشأن ، لأنها صادرة من صاحب الشأن ، الذي خلق ، والذي يعلم ما خلق علم اليقين . نكاد نشهد الأرض وهي تحمل بجبالها بكتلتها هذه ، الضخمة بالقياس إلينا ، الصغيرة كالهباءة بالقياس إلى الكون ، فتدك دكة واحدة؛ ونكاد نشهد السماء وهي مشققة واهية والكواكب وهي متناثرة منكدرة . . كل ذلك من خلال النصوص القرآنية الحية ، المشخصة المشاهد بكامل قوتها كأنها حاضرة . .
ثم يغمر الجلال المشهد ويغشيه ، وتسكن الضجة التي تملأ الحس من النفخة والدكة والتشقق والانتثار . يسكن هذا كله ويظهر في المشهد عرش الواحد القهار :
{ والملك على أرجائها ، ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } . .
والملائكة على أرجاء هذه السماء المنشقة وأطرافها ، والعرش فوقهم يحمله ثمانية . . ثمانية أملاك أو ثمانية صفوف منهم ، أو ثمانية طبقات من طبقاتهم ، أو ثمانية مما يعلم الله . لا ندري نحن من هم ولا ما هم . كما لا ندري نحن ما العرش؟ ولا كيف يحمل؟ ونخلص من كل هذه الغيبيات التي لا علم لنا بها ، ولم يكلفنا الله من علمها إلا ما قص علينا . نخلص من مفردات هذه الغيبيات إلى الظل الجليل الذي تخلعه على الموقف . وهو المطلوب منا أن تستشعره ضمائرنا . وهو المقصود من ذكر هذه الأحداث ليشعر القلب البشري بالجلال والرهبة والخشوع ، في ذلك اليوم العظيم ، وفي ذلك الموقف الجليل :
{ يؤمئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية } .

.
فالكل مكشوف . مكشوف الجسد ، مكشوف النفس ، مكشوف الضمير ، مكشوف العمل ، مكشوف المصير . وتسقط جميع الأستار التي كانت تحجب الأسرار ، وتتعرى النفوس تعري الأجساد ، وتبرز الغيوب بروز الشهود . . ويتجرد الإنسان من حيطته ومن مكره ومن تدبيره ومن شعوره ، ويفتضح منه ما كان حريصاً على أن يستره حتى عن نفسه وما أقسى الفضيحة على الملأ . وما أخزاها على عيون الجموع أما عين الله فكل خافية مكشوفة لها في كل آن . ولكن لعل الإنسان لا يشعر بهذا حق الشعور ، وهو مخدوع بستور الأرض . فها هو ذا يشعر به كاملاً وهو مجرد في يوم القيامة . وكل شيء بارز في الكون كله . الأرض مدكوكة مسواة لا تحجب شيئاً وراء نتوء ولا بروز . والسماء متشققة واهية لا تحجب وراءها شيئاً ، والأجسام معراة لا يسترها شيء ، والنفوس كذلك مكشوفة ليس من دونها ستر وليس فيها سر
ألا إنه لأمر عصيب . أعصب من دك الأرض والجبال ، وأشد من تشقق السماء وقوف الإنسان عريان الجسد ، عريان النفس ، عريان المشاعر ، عريان التاريخ ، عريان العمل ما ظهر منه وما استتر . أمام تلك الحشود الهائلة من خلق الله ، من الإنس والجن والملائكة ، وتحت جلال الله وعرشه المرفوع فوق الجميع . .
وإن طبيعة الإنسان لمعقدة شديدة التعقيد؛ ففي نفسه منحنيات شتى ودروب ، تتخفى فيها نفسه وتتدسس بمشاعرها ونزواتها وهفواتها وخواطرها وأسرارها وخصوصياتها . وان الإنسان ليصنع أشد مما تصنعه القوقعة الرخوة الهلامية حين تتعرض لوخزة إبرة ، فتنطوي سريعاً ، وتنكمش داخل القوقعة ، وتغلق على نفسها تماماً . إن الإنسان ليصنع أشد من هذا حين يحس أن عيناً تدسست عليه فكشفت منه شيئاً مما يخفيه ، وأن لمحة أصابت منه درباً خفياً أو منحنى سرياً ويشعر بقدر عنيف من الألم الواخز حين يطلع عليه أحد في خلوة من خلواته الشعورية . .
فكيف بهذا المخلوق وهو عريان . عريان حقاً . عريان الجسد والقلب والشعور والنية والضمير . عريان من كل ساتر . عريان . . كيف به وهو كذلك تحت عرش الجبار ، وأمام الحشد الزاخر بلا ستار؟
ألا إنه لأمر ، أمرُّ من كل أمر
وبعدئذ يعرض مشهد الناجين والمعذبين ، كأنه حاضر تراه العيون . .
{ فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول : هآؤم اقرأوا كتابيه ، إني ظننت أني ملاق حسابيه . . فهو في عيشة راضية . في جنة عالية . قطوفها دانية . كلوا واشربوا هنيئاً بمآ أسلفتم في الأيام الخالية } .
وأخذ الكتاب باليمين وبالشمال ومن وراء الظهر قد يكون حقيقة مادية ، وقد يكون تمثيلاً لغوياً جارياً على اصطلاحات اللغة العربية من تعبيرهم عن وجهة الخير باليمين ووجهة الشر بالشمال أو من وراء الظهر . . وسواء كان هذا أو ذاك فالمدلول واحد ، وهو لا يستدعي جدلاً يضيع فيه جلال الموقف
والمشهد المعروض هو مشهد الناجي في ذلك اليوم العصيب ، وهو ينطلق في فرحة غامرة ، بين الجموع الحاشدة ، تملأ الفرحة جوانحه ، وتغلبه على لسانه ، فيهتف : { هاؤم اقرأوا كتابيه } .

. ثم يذكر في بهجة أنه لم يكن يصدق أنه ناج ، بل كان يتوقع أن يناقش الحساب . . « ومن نوقش الحساب عذب » كما جاء في الأثر : عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من نوقش الحساب عذب » فقلت : أليس يقول الله تعالى : { فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً } فقال : « إنما ذلك العرض وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك » .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا بشر بن مطر الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عاصم ، عن الأحول ، عن أبي عثمان ، قال : المؤمن يعطى كتابه بيمينه في ستر من الله ، فيقرأ سيئاته ، فكلما قرأ سيئة تغير لونه ، حتى يمر بحسناته فيقرؤها فيرجع إليه لونه ، ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات . قال : فعند ذلك يقول : { هاؤم اقرأوا كتابيه } .
وروى عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال : إن الله يوقف عبده يوم القيامة فيبدي أي يظهر سيئاته في ظهر صحيفته ، فيقول له : أنت عملت هذا؟ فيقول : نعم أي رب فيقول له : إني لم أفضحك به ، وإني قد غفرت لك . فيقول عند ذلك : { هاؤم اقرأوا كتابيه . إني ظننت أني ملاق حسابيه } .
وفي الصحيح من حديث ابن عمر حين سئل عن النجوى ، فقال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » يدني الله العبد يوم القيامة ، فيقرره بذنوبه كلها ، حتى إذا رأى أنه قد هلك قال الله تعالى : إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم . ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه . وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين « .
ثم يعلن على رؤوس الأشهاد ما أعد لهذا الناجي من النعيم ، الذي تبدو فيه هنا ألوان من النعيم الحسي ، تناسب حال المخاطبين إذ ذاك ، وهم حديثو عهد بجاهلية ، ولم يسر من آمن منهم شوطاً طويلاً في الإيمان ، ينطبع به حسه ، ويعرف به من النعيم ما هو أرق وأعلى من كل متاع :
{ فهو في عيشة راضية . في جنة عالية . قطوفها دانية . كلوا وشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية } . .
وهذا اللون من النعيم ، مع هذا اللون من التكريم في الالتفات إلى أهله بالخطاب وقوله : { كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية } . . فوق أنه اللون الذي تبلغ إليه مدارك المخاطبين بالقرآن في أول العهد بالصلة بالله ، قبل أن تسمو المشاعر فترى في القرب من الله ما هو أعجب من كل متاع .

. فوق هذا فإنه يلبي حاجات نفوس كثيرة على مدى الزمان . والنعيم ألوان غير هذا وألوان . .
{ وأما من أوتي كتابه بشماله } وعرف أنه مؤاخذ بسيئاته ، وأن إلى العذاب مصيره ، فيقف في هذا المعرض الحافل الحاشد ، وقفة المتحسر الكسير الكئيب . . { فيقول : يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه } . .
وهي وقفة طويلة ، وحسرة مديدة ، ونغمة يائسة ، ولهجة بائسة . والسياق يطيل عرض هذه الوقفة حتى ليخيل إلى السامع أنها لا تنتهي إلى نهاية ، وأن هذا التفجع والتحسر سيمضي بلا غاية وذلك من عجائب العرض في إطالة بعض المواقف ، وتقصير بعضها ، وفق الإيحاء النفسي الذي يريد أن يتركه في النفوس . وهنا يراد طبع موقف الحسرة وإيحاء الفجيعة من وراء هذا المشهد الحسير . ومن ثم يطول ويطول ، في تنغيم وتفصيل . ويتمنى ذلك البائس أنه لم يأت هذا الموقف ، ولم يؤت كتابه ، ولم يدر ما حسابه؛ كما يتمنى أن لو كانت هذه القارعة هي القاضية ، التي تنهي وجوده أصلاً فلا يعود بعدها شيئاً . . ثم يتحسر أن لا شيء نافعه مما كان يعتز به أو يجمعه : { ما أغنى عني ماليه } . . { هلك عني سلطانيه } . . فلا المال أغنى أو نفع . ولا السلطان بقي أو دفع . . والرنة الحزينة الحسيرة المديدة في طرف الفاصلة الساكنة وفي ياء العلة قبلها بعد المد بالألف ، في تحزن وتحسر . . هي جزء من ظلال الموقف الموحية بالحسرة والأسى إيحاء عميقاً بليغاً . .
ولا يقطع هذه الرنة الحزينة المديدة إلا الأمر العلوي الجازم ، بجلاله وهوله وروعته :
{ خذوه . فغلوه ، ثم الجحيم صلوه . ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه } . .
يا للهول الهائل ويا للرعب القاتل ويا للجلال الماثل
{ خذوه } . .
كلمة تصدر من العلي الأعلى . فيتحرك الوجود كله على هذا المسكين الصغير الهزيل . ويبتدره المكلفون بالأمر من كل جانب ، كما يقول ابن أبي حاتم بإسناده عن المنهال بن عمرو : « إذا قال الله تعالى : خذوه ابتدره سبعون ألف ملك . وإن الملك منهم ليقول هكذا فيلقي سبعين ألفاً في النار » . . كلهم يبتدر هذه الحشرة الصغيرة المكروبة المذهولة
{ فغلوه } . .
فأي السبعين ألفاً بلغه جعل الغل في عنقه . .
{ ثم الجحيم صلوه } . .
ونكاد نسمع كيف تشويه النار وتصليه . .
{ ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه } . .
وذراع واحدة من سلاسل النار تكفيه ولكن إيحاء التطويل والتهويل ينضح من وراء لفظ السبعين وصورتها . ولعل هذا الإيحاء هو المقصود .
فإذا انتهى الأمر ، نشرت أسبابه على الحشود :
{ إنه كان لا يؤمن بالله العظيم .

ولا يحض على طعام المسكين } . .
إنه قد خلا قلبه من الإيمان بالله ، والرحمة بالعباد . فلم يعد هذا القلب يصلح إلا لهذه النار وذلك العذاب . خلا قلبه من الإيمان بالله فهو موات ، وهو خرب ، وهو بور . وهو خلو من النور . وهو مسخ من الكائنات لا يساوي الحيوان بل لا يساوي الجماد . فكل شيء مؤمن ، يسبح بحمد ربه ، موصول بمصدر وجوده . أما هو فمقطوع من الله . مقطوع من الوجود المؤمن بالله .
وخلا قلبه من الرحمة بالعباد . والمسكين هو أحوج العباد إلى الرحمة ولكن هذا لم يستشعر قلبه ما يدعو إلى الاحتفال بأمر المسكين . ولم يحض على طعامه وهي خطوة وراء إطعامه . توحي بأن هناك واجباً اجتماعياً يتحاض عليه المؤمنون . وهو وثيق الصلة بالإيمان . يليه في الميزان
{ فليس له اليوم ها هنا حميم . ولا طعام إلا من غسلين . لا يأكله إلا الخاطئون } .
وهي تكملة الإعلان العلوي عن مصير ذلك الشقي . فلقد كان لا يؤمن بالله العظيم ، وكان لا يحض على طعام المسكين . فهو هنا مقطوع { فليس له اليوم ها هنا حميم } . . وهو ممنوع : { ولا طعام إلا من غسلين } . . والغسلين هو غسالة أهل جهنم من قيح وصديدوهو يناسب قلبه النكد الخاوي من الرحمة بالعبيد طعام { لا يأكله إلا الخاطئون } . . المذنبون المتصفون بالخطيئة . . وهو منهم في الصميم
وبعد ، فذلك هو الذي يجعله الله مستحقاً للأخذ والغل والتصلية والسلسلة التي ذرعها سبعون ذراعاً في الجحيم . وهو أشد دركات جهنم عذاباً . . فكيف بمن يمنع طعام المسكين ومن يجيع الأطفال والنساء والشيوخ ، ومن يبطش بطشة الجبارين بمن يمد إليهم يده باللقمة والكساء في برد الشتاء؟ أين ترى يذهب هؤلاء ، وهم يوجدون في الأرض بين الحين والحين؟ وما الذي أعده الله لهم وقد أعد لمن لا يحض على طعام المسكين ، ذلك العذاب في الجحيم؟
وينتهي هذا المشهد العنيف المثير . الذي لعله جاء في هذه الصورة المفزعة لأن البيئة كانت جبارة قاسية عنيدة تحتاج إلى عرض هذه المشاهد العنيفة كي تؤثر فيها وتهزها وتستحييها . ومثل هذه البيئة يتكرر في الجاهليات التي تمر بها البشرية ، كما أنه يوجد في الوقت الواحد مع أرق البيئات وأشدها تأثراً واستجابة . لأن رقعة الأرض واسعة . وتوزيع المستويات والنفسيات فيها مختلف . والقرآن يخاطب كل مستوى وكل نفس بما يؤثر فيها ، وبما تستجيب له حين يدعوها . والأرض تحتوي اليوم في بعض نواحيها قلوباً أقسى ، وطبائع أجسى ، وجبلات لا يؤثر فيها إلا كلمات من نار وشواظ كهذه الكلمات . ومشاهد وصور مثيرة كهذه المشاهد والصور المثيرة . .
وفي ظل هذه المشاهد العنيفة المثيرة ، المتوالية منذ أول السورة ، مشاهد الأخذ في الدنيا والآخرة ، ومشاهد التدمير الكونية الشاملة ، ومشاهد النفوس المكشوفة العارية ، ومشاهد الفرحة الطائرة والحسرة الغامرة .

.
في ظل هذه المشاهد العميقة الأثر في المشاعر يجيء التقرير الحاسم الجازم عن حقيقة هذا القول الذي جاءهم به الرسول الكريم ، فتلقوه بالشك والسخرية والتكذيب :
{ فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون . إنه لقول رسول كريم . وما هو بقول شاعر ، قليلاً ما تؤمنون . ولا بقول كاهن ، قليلاً ما تذكرون . تنزيل من رب العالمين } . .
إن الأمر لا يحتاج إلى قسم وهو واضح هذا الوضوح ، ثابت هذا الثبوت ، واقع هذا الوقوع . لا يحتاج إلى قسم أنه حق ، صادر عن الحق ، وليس شعر شاعر ، ولا كهانة كاهن ، ولا افتراه مفتر لا . فما هو بحاجة إلى توكيد بيمين :
{ فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون؟ } . .
بهذه الفخامة وبهذه الضخامة ، وبهذا التهويل بالغيب المكنون ، إلى جانب الحاضر المشهود . . والوجود أضخم بكثير مما يرى البشر . بل مما يدركون . وما يبصر البشر من الكون وما يدركون إلا أطرافاً قليلة محصورة ، تلبي حاجتهم إلى عمارة هذه الأرض والخلافة فيها كما شاء الله لهم والأرض كلها ليست سوى هباءة لا تكاد ترى أو تحس في ذلك الكون الكبير . والبشر لا يملكون أن يتجاوزوا ما هو مأذون لهم برؤيته وبإدراكه من هذا الملك العريض ، ومن شؤونه وأسراره ونواميسه التي أودعها إياه خالق الوجود . .
{ فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون } . .
ومثل هذه الإشارة تفتح القلب وتنبه الوعي إلى أن هناك وراء مد البصر ووراء حدود الإدراك جوانب وعوالم وأسراراً أخرى لا يبصرها ولا يدركها . وتوسع بذلك آفاق التصور الإنساني للكون والحقيقة . فلا يعيش الإنسان سجين ما تراه عيناه ، ولا أسير ما يدركه وعيه المحدود . فالكون أرحب والحقيقة أكبر من ذلك الجهاز الإنساني المزود بقدر محدود من الطاقة يناسب وظيفته في هذا الكون . ووظيفته في الحياة الدنيا هي الخلافة في هذه الأرض . . ولكنه يملك أن يكبر ويرتفع إلى آماد وآفاق أكبر وأرفع حين يستيقن أن عينه ومداركه محدودة ، وأن هناك وراء ما تدركه عينه ووعيه عوالم وحقائق أكبر بما لا يقاس مما وصل إليه . . عندئذ يتسامى على ذاته ويرتفع على نفسه ، ويتصل بينابيع المعرفة الكلية التي تفيض على قلبه بالعلم والنور والاتصال المباشر بما وراء الستور
إن الذين يحصرون أنفسهم في حدود ما ترى العين ، ويدرك الوعي ، بأدواته الميسرة له . . مساكين سجناء حسهم وإدراكهم المحدود . محصورون في عالم ضيق على سعته ، صغير حين يقاس إلى ذلك الملك الكبير . .
وفي فترات مختلفة من تاريخ هذه البشرية كان كثيرون أو قليلون يسجنون أنفسهم بأيديهم في سجن الحس المحدود ، والحاضر المشهود؛ ويغلقون على أنفسهم نوافذ المعرفة والنور ، والاتصال بالحق الكبير ، عن طريق الإيمان والشعور . ويحاولون أن يغلقوا هذه النوافذ على الناس بعد ما أغلقوها على أنفسهم بأيديهم .

. تارة باسم الجاهلية . وتارة باسم العلمانية وهذه كتلك سجن كبير . وبؤس مرير . وانقطاع عن ينابيع المعرفة والنور
والعلم يتخلص في هذا القرن الأخير من تلك القضبان الحديدية التي صاغها بحمق وغرور حول نفسه في القرنين الماضيين . . يتخلص من تلك القضبان ، ويتصل بالنور عن طريق تجاربه ذاتها بعد ما أفاق من سكرة الغرور والاندفاع من أسر الكنيسة الطاغية في أوربا؛ وعرف حدوده ، وجرب أن أدواته المحدوده تقوده إلى غير المحدود في هذا الكون وفي حقيقته المكنونة . وعاد « العلم يدعو إلى الإيمان » في تواضع تبشر أوئله بالفرج أي نعم بالفرج . فما يسجن الإنسان نفسه وراء قضبان المادة الموهومة إلا وقد عليه الضيق
ولقد رأينا عالماً مثل ألكسيس كاريل الطبيب المتخصص في بحوث الخلية ونقل الدم والمشتغل بالطب علماً وجراحة وإشرافاً على معاهد العلاج والنظريات العلاجية ، وصاحب جائزة نوبل سنة 1912ومدير معهد الدراسات الإنسانية بفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية يرى :
« أن الكون على رحبه مملوء بعقول فعالة غير عقولنا ، وأن العقل الإنساني هاد قاصد بين دروب التيه التي حوله إذا كان معوله كله على هدايته . وأن الصلاة من وسائل الاتصال بالعقول التي حولنا ، وبالعقل الأبدي المسيطر على مقادير الأكوان قاطبة ، فيما هو ظاهر لنا وما هو محتجب عنا في طي الخفاء » .
« وأن الشعور بالقداسة مع غيره من قوى النشاط الروحاني له شأن خاص في الحياة ، لأنه يقيمنا على اتصال بآفاق الخفاء الهائل من عالم الروح » . .
ورأينا طبيباً آخر مثل « دي نوي » الذي اشتغل بمباحث التشريح والعلم الطبيعي ، وعمل مع الأستاذ كوري وقرينته ، واستدعاه معهد روكفلر لمواصلة بحث مع أعضائه في خصائص وعلاج الجراح . . يقول :
« كثير من الأذكياء وذوي النية الحسنة يتخيلون أنهم لا يستطيعون الإيمان بالله لأنهم لا يستطيعون أن يدركوه . على أن الإنسان الأمين الذي تنطوي نفسه على الشوق العلمي لا يلزمه أن يتصور الله إلا كما يلزم العالم الطبيعي أن يتصور الكهرب . فإن التصور في كلتا الحالتين ناقص وباطل . وليس الكهرب قابلاً للتصور في كيانه المادي وإنه مع هذا لأثبت في آثاره من قطعة الخشب » . .
ورأينا عالماً طبيعياً مثل سير أرثر طومسون المؤلف الاسكتلندي الشهير يقول : « إننا في زمن شفت فيه الأرض الصلبة ، وفقد فيه الأثير كيانه المادي ، فهو أقل الأزمنة صلاحاً للغلو في التأويلات المادية » .
ويقول في مجموعة « العلم والدين » :
« ليس للعقل المتدين أن يأسف اليوم لأن العالم الطبيعي لا يخلص من الطبيعة إلى رب الطبيعة . إذ ليست هذه وجهته .

وقد تكون النتيجة أكبر جداً من المقدمة إذا خرج العلماء بالاستنتاج من الطبيعة إلى ما فوق الطبيعة . إلا أننا خلقاء أن نغتبط لأن العلماءالطبيعيين قد يسروا للنزعة الدينية أن تتنفس في جو العلم ، حيث لم يكن ذلك يسيراً في أيام آبائنا وأجدادنا . . فإذا لم يكن عمل الطبيعيين أن يبحثوا في الله كما زعم مستر لانجدون دافيز خطأ في كتابه البديع عن الإنسان وعالمه فنحن نقرر عن روية أن أعظم خدمة قام بها العلم ، أنه قاد الإنسان إلى فكرة عن الله أنبل وأسمى ، ولا نجاوز المعنى الحرفي حين نقول : إن العلم أنشأ للإنسان سماء جديدة وأرضاً جديدة ، وحفزه من ثم إلى غاية جهده العقلي ، فإذا به ، في كثير من الأحيان ، لا يجد السلام إلا حيث يتخطى مدى الفهم ، وذلك في اليقين والاطمئنان إلى الله « .
ورأينا عالماً مثل » ا . كريسي موريسون « رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك وعضو المجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي بالولايات المتحدة سابقاً يقول في كتابه : » الإنسان لا يقوم وحده « :
» إننا نقترب فعلاً من عالم المجهول الشاسع ، إذ ندرك أن المادة كلها قد أصبحت من الوجهة العلمية مجرد مظهر لوحدة عالمية هي في جوهرها كهربائية . ولكن مما لا ريب فيه أن المصادفة لم يكن لها دخل في تكوين الكون ، لأن هذا العالم العظيم خاضع للقانون « .
» إن ارتقاء الإنساني الحيواني إلى درجة كائن مفكر شاعر بوجوده ، هو خطوه أعظم من أن تتم عن طريق التطور المادي ، ودون قصد ابتداعي « .
» وإذا قبلت واقعية القصد ، فإن الإنسان بوصفه هذا قد يكون جهازاً . ولكن ما الذي يدير هذا الجهاز؟ لأنه بدون أن يدار لا فائدة منه . والعلم لا يعلل من يتولى إدارته ، وكذلك لا يزعم أنه مادي « .
» لقد بلغنا من التقدم درجة تكفي لأن نوقن بأن الله قد منح الإنسان قبساً من نوره . . . « .
وهكذا بدأ العلم يخرج من سجن المادية وجدرانها بوسائله الذاتية ، فيتصل بالجو الطليق الذي يشير القرآن إليه بمثل تلك الآية الكريمة : { فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون } . ونظائره المتعددة . وإن يكن بيننا نحن من أقزام التفكير والشعور من لا يزال يغلق بكلتا يديه نوافذ النور على نفسه وعلى من حوله باسم العلم في تخلف عقلي عن العلم ، وفي تخلف روحي عن الدين ، وفي تخلف شعوري عن الحرية الطليقة في معرفة الحقيقة وفي تخلف إنساني عما يليق بالكائن الإنساني الكريم
فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون . . { إنه لقول رسول كريم . وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ، ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون .

تنزيل من رب العالمين } . .
ولقد كان مما تقوّل به المشركون على القرآن وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم إنه شاعر . وإنه كاهن . متأثرين في هذا بشبهة سطحية ، منشؤها أن هذا القول فائق في طبيعته على كلام البشر . وأن الشاعر في وهمهم له رئي من الجن يأتيه بالقول الفائق ، وأن الكاهن كذلك متصل بالجن . فهم الذين يمدونه بعلم ما وراء الواقع وهي شبهة تسقط عند أقل تدبر لطبيعة القرآن والرسالة ، وطبيعة الشعر أو الكهانة . .
فالشعر قد يكون موسيقي الإيقاع ، رائع الأخيلة ، جميل الصور والظلال؛ ولكنه لا يختلط أبداً ولا يشتبه بهذا القرآن إن هنالك فارقاً أساسياً فاصلاً بينهما . إن هذا القرآن يقرر منهجاً متكاملاً للحياة يقوم على حق ثابت ، ونظرة موحدة ، ويصدر عن تصور للوجود الإلهي ثابت ، وللكون والحياة كذلك . والشعر انفعالات متوالية وعواطف جياشة ، قلما تثبت على نظرة واحدة للحياة في حالات الرضى والغضب ، والانطلاق والانكماش ، والحب والكره ، والتأثرات المتغيرة على كل حال
هذا إلى أن التصور الذي جاء به القرآن قد أنشأه القرآن من الأساس ، في كلياته وجزئياته ، مع تعين مصدره الإلهي . فكل ما في هذا التصور يوحي بأنه ليس من عمل البشر ، فليس من طبيعة البشر أن ينشئوا تصوراً كونياً كاملاً كهذا التصور . . لم يسبق لهم هذا ولم يلحق . . وهذا كل ما أبدعته قرائح البشر من تصورات للكون وللقوة المنشئة له المدبرة لنظامه . . هذا هو معروضاً مسجلاً في الفلسفة وفي الشعر وفي غيرها من المذاهب الفكرية؛ فإذا قرن إلى التصور القرآني وضح أن هذا التصور صادر من جهة غير تلك الجهة وأنه متفرد بطابع معين يميزه من كل تصورات البشر .
كذلك الأمر في الكهانة وما يصدر عنها . فلم يعرف التاريخ من قبل أو بعد كاهناً أنشأ منهجاً متكاملاً ثابتاً كالمنهج الذي جاء به القرآن . وكل ما نقل عن الكهنة أسجاع لفظية أو حكمة مفردة ، أو إشارة ملغزة
وهناك لفتات ليس من طبيعة البشر أن يلتفتوها ، وقد وقفنا عند بعضها في هذه الظلال أحياناً . فلم يسبق لبشر ولم يلحق كذلك أن أراد التعبير عن العلم الشامل الدقيق اللطيف ، فاتجه إلى مثل هذه الصورة التي جاءت في القرآن :
{ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو ، ويعلم ما في البر والبحر ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } أو إلى مثل هذه الصورة : { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها ، وهو معكم أين ما كنتم ، والله بما تعملون بصير } أو إلى مثل هذه الصورة : { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه . وما يُعمَّرُ من مُعمَّر ولا يُنقَص من عمره إلا في كتاب . إن ذلك على الله يسير }

كذلك لم يسبق لبشر ولم يلحق أن التفت مثل هذه اللفتة إلى القدرة التي تمسك هذا الكون وتدبره : { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتآ إن أمسكهما من أحد من بعده } أو هذه اللفتة إلى انبثاقات الحياة في الكون من يد القدرة المبدعة وما يحيط بالحياة من موافقات كونية مدبرة مقدرة :
{ إن الله فالق الحب والنوى ، يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي . ذلكم الله . فأنى تؤفكون . فالق الإصباح . وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ، ذلك تقدير العزيز العليم . وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ، قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون . وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع ، قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون . وهو الذي أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به نبات كل شيء ، فأخرجنا منه خضراً ، نخرج منه حباً متراكباً ، ومن النخل من طلعها قنوان دانية ، وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه . انظروا إلى ثمره إذآ أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } وهذه اللفتات الكونية كثيرة في القرآن كثرة ملحوظة ، ولا نظير لها فيما تتجه إليه خواطر البشر للتعبير عن مثل المعاني التي يعبر عنها القرآن . . وهذه وحدها كافية لمعرفة مصدر هذا الكتاب . . بغض النظر عن كل دلالة أخرى من صلب الكتاب أو من الملابسات المصاحبة له على السواء .
فالشبهة واهية سطحية . حتى حين كان القرآن لم يكتمل ، ولم تتنزل منه إلا سور وآيات عليها ذلك الطابع الإلهي الخاص ، وفيها ذلك القبس الموحي بمصدرها الفريد .
وكبراء قريش كانوا يراجعون أنفسهم ، ويردون على هذه الشبهة بين الحين والحين . ولكن الغرض يعمي ويصم . وإذ لم يهتدوا به فسيقولون : هذا إفك قديم . كما يقول القرآن الكريم
وقد حكت كتب السيرة مواقف متعددة لزعماء قريش ، وهم يراجعون هذه الشبهة وينفونها فيما بينهم .
من ذلك ما رواه ابن اسحق عن الوليد بن المغيرة ، وعن النضر بن الحارث ، وعن عتبة بن ربيعة وقد جاء في روايته عن الأول :
« ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش . وكان ذا سن فيهم؛ وقد حضر الموسم . فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا؛ فأجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً ، ويرد قولكم بعضه بعضاً ، فقالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل ، وأقم لنا رأياً نقل به . قال : بل أنتم فقولوا أسمع . قالوا : نقول : كاهن . قال : لا والله ، ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه .

قالوا : فنقول : مجنون . قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته . قالوا : فنقول : شاعر . قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر . قالوا : فنقول : ساحر . قال : ما هو بساحر؛ لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم . . قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا : هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته . فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا لهم أمره . . « .
وحكى عن الثاني ( النضر بن الحارث ) قال :
» فقال يا معشر قريش . إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد . قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً ، أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثاً ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحر لا والله ، ما هو بساحر . لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم . وقلتم كاهن لا والله ما هو بكاهن . قد رأينا الكهنة وتخالجهم ، وسمعنا سجعهم . وقلتم : شاعر لا والله ما هو بشاعر . قد رأينا الشعر ، وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه . وقلتم : مجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه . يا معشر قريش ، فانظروا في شأنكم ، فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم . . « .
والمطابقة تكاد تكون تامة بين قوله وقول عتبة . وقد يكون هو حادثاً واحداً نسب مرة إلى هذا ومرة إلى ذاك . ولكن لا نستبعد كذلك أن يتطابق قولان لرجلين من كبار قريش في موقفين متشابهين من مواقف حيرتهم تجاه هذا القرآن
وأما موقف عتبة فقد سبقت حكايته في استعراضنا لسورة القلم في هذا الجزء . . وهو قريب من موقف الوليد والنضر تجاه محمد وتجاه القول الذي جاء به . .
فما كان قولهم : ساحر أو كاهن ، إلا حيلة ماكرة أحياناً وشبهة مفضوحة أحياناً . والأمر أوضح من أن يلتبس عند أول تدبر وأول تفكير . وهو من ثم لا يحتاج إلى قسم بما يعملون وما لا يعلمون : إنه لقول رسول كريم . وما هو بقول شاعر . ولا بقول كاهن . . إنما هو تنزيل من رب العالمين .
وتقرير أنه قول رسول كريم لا يعني أنه من إنشائه ، ولكن المراد هنا أنه قول من نوع آخر . لا يقوله شاعر ، ولا يقوله كاهن ، إنما يقوله رسول ، يرسل به من عند الله ، فيحمله من هناك ، من ذلك المصدر الذي أرسله .

والذي يعين هذا المعنى هو كلمة رسول . أي مرسل به من عند ربه ، وليس شاعراً ولا كاهناً يقوله من عند نفسه . أو بمساعدة رئي أو شيطان . . إنما هو رسول يقول ما يحمله عمن أرسله . ويقرر هذا تقريراً حاسماً ما جاء بعده : { تنزيل من رب العالمين } . .
والتعقيب : { قليلاً ما تؤمنون } . . { قليلاً ما تذكرون } . . مدلوله نفي الإيمان ، ونفي التذكر . وفق تعبيرات اللغة المألوفة . وفي الحديث في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم « إنه كان يقل اللغو » أي لا يلغو أصلاً . . فقد نفى عنهم أصل الإيمان وأصل التذكر . وإلا فما يقول مؤمن عن الرسول : إنه شاعر ، ولا يقول متذكر متدبر : إنه كاهن . إنما هما الكفر والغفلة ينضحان بهذا القول النكير
وفي النهاية يجيء ذلك التهديد الرعيب ، لمن يفتري على الله في شأن العقيدة وهي الجد الذي لا هوادة فيه . يجيء لتقرير الاحتمال الواحد الذي لا احتمال غيره ، وهو صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأمانته فيما أبلغه إليهم أو يبلغه . بشهادة أن الله لم يأخذه أخذاً شديداً . كما هو الشأن لو انحرف أقل انحراف عن أمانة التبليغ :
{ ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل . لأخذنا منه باليمين . ثم لقطعنا منه الوتين . فما منكم من أحد عنه حاجزين } . .
ومفاد هذا القول من الناحية التقريرية أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق فيما أبلغهم . وأنه لو تقول بعض الأقاويل التي لم يوج بها إليه ، لأخذه الله فقتله على هذا النحو الذي وصفته الآيات . ولما كان هذا لم يقع فهو لا بد صادق .
هذه هي القضية من الناحية التقريرية . . ولكن المشهد المتحرك الذي ورد فيه هذا التقرير شيء آخر ، يلقي ظلالاً بعيدة وراء المعنى التقريري . ظلالاً فيها رهبة وفيها هول . كما أن فيها حركة وفيها حياة . ووراءها إيحاءات وإيماءات وإيقاعات
فيها حركة الأخذ باليمين وقطع الوتين . وهي حركة عنيفة هائلة مروعة حية في الوقت ذاته . ووراءها الإيحاء بقدرة الله العظيمة وعجز المخلوق البشري أمامها وضعفه . . البشر أجمعين . . كما أن وراءها الإيمان إلى جدية هذا الأمر التي لا تحتمل تسامحاً ولا مجاملة لأحد كائنا من كان . ولو كان هو محمد الكريم عند الله الأثير الحبيب . ووراءها بعد هذا كله إيقاع الرهبة والهول والخشوع
وأخيراً تجيء الخاتمة التقريرية بحقيقة هذا الأمر وطبيعته القوية :
{ وإنه لتذكرة للمتقين . وإنا لنعلم أن منكم مكذبين . وإنه لحسرة على الكافرين . وإنه لحق اليقين } .
فهذا القرآن يذكر القلوب التقية فتذكر . إن الحقيقة التي جاء بها كامنة فيها . فهو يثيرها فيها ويذكرها بها فتتذكرها . فأما الذين لا يتقون فقلوبهم مطموسة غافلة لا تتفتح ولا تتذكر ، ولا تفيد من هذا الكتاب شيئاً .

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)

هذه السورة حلقة من حلقات العلاج البطيء ، المديد ، العميق ، الدقيق ، لعقابيل الجاهلية في النفس البشرية كما واجهها القرآن في مكة؛ وكما يمكن أن يواجهها في أية جاهلية أخرى مع اختلافات في السطوح لا في الأعماق وفي الظواهر لا في الحقائق
أو هي جولة من جولات المعركة الطويلة الشاقة التي خاضها في داخل هذه النفس ، وفي خلال دروبها ومنحنياتها ، ورواسبها وركامها . وهي أضخم وأطول من المعارك الحربية التي خاضها المسلمون فيما بعد كما أن هذه الرواسب وتلك العقابيل هي أكبر وأصعب من القوى التي كانت مرصودة ضد الدعوة الإسلامية والتي ما تزال مرصودة لها في الجاهليات القديمة والحديثة
والحقيقة الأساسية التي تعالج السورة إقرارها هي حقيقة الآخرة وما فيها من جزاء؛ وعلى وجه الخصوص ما فيها من عذاب للكافرين ، كما أوعدهم القرآن الكريم . وهي تلم في طريقها إلى إقرار هذه الحقيقة بحقيقة النفس البشرية في السراء والضراء . وهي حقيقة تختلف حين تكون مؤمنة وحين تكون خاوية من الإيمان . كما تلم بسمات النفس المؤمنة ومنهجها في الشعور والسلوك ، واستحقاقها للتكريم . وبهوان الذين كفروا على الله وما أعده لهم من مذلة ومهانة تليق بالمستكبرين . . وتقرر السورة كذلك اختلاف القيم والمقاييس في تقدير الله وتقدير البشر ، واختلاف الموازين . .
وتؤلف بهذه الحقائق حلقة من حلقات العلاج الطويل لعقابيل الجاهلية وتصوراتها ، أو جولة من جولات المعركة الشاقة في دروب النفس البشرية ومنحنياتها . تلك المعركة التي خاضها القرآن فانتصر فيها في النهاية مجرداً من كل قوة غير قوته الذاتية . فقد كان انتصار القرآن الحقيقي في داخل النفس البشرية ابتداء قبل أن يكون له سيف يدفع الفتنة عن المؤمنين به فضلاً على أن يرغم به أعداءه على الاستسلام له
والذي يقرأ هذا القرآن وهو مستحضر في ذهنه لأحداث السيرة يشعر بالقوة الغالبة والسلطان البالغ الذي كان هذا القرآن يواجه به النفوس في مكة ويروضها حتى تسلس قيادها راغبة مختارة . ويرى أنه كان يواجه النفوس بأساليب متنوعة تنوعاً عجيباً . . تارة يواجهها بما يشبه الطوفان الغامر من الدلائل الموحية والمؤثرات الجارفة وتارة يواجهها بما يشبه الهراسة الساحقة التي لا يثبت لها شيء مما هو راسخ في كيانها من التصورات والرواسب وتارة يواجهها بما يشبه السياط اللاذعة تلهب الحس فلا يطيق وقعها ولا يصبر على لذعها وتارة يواجهها بما يشبه المناجاة الحبيبة ، والمسارة الودود ، التي تهفو لها المشاعر وتأنس لها القلوب وتارة يواجهها بالهول المرعب ، والصرخة المفزعة ، التي تفتح الأعين على الخطر الداهم القريب وتارة يواجهها بالحقيقة في بساطة ونصاعة لا تدع مجالاً للتلفت عنها ولا الجدال فيها .

وتارة يواجهها بالرجاء الصبوح والأمل الندي الذي يهتف لها ويناجيها . وتارة يتخلل مساربها ودروبها ومنحنياتها فيلقي عليها الأضواء التي تكشفها لذاتها فترى ما يجري في داخلها رأي العين ، وتخجل من بعضه ، وتكره بعضه ، وتتيقظ لحركاتها وانفعالاتها التي كانت غافلة عنها . . ومئات من اللمسات ، ومئات من اللفتات ، ومئات من الهتافات ، ومئات من المؤثرات . . يطلع عليها قارئ القرآن ، وهو يتبع تلك المعركة الطويلة ، وذلك العلاج البطيء . ويرى كيف انتصر القرآن على الجاهلية في تلك النفوس العصية العنيدة .
وهذه السورة تكشف عن جانب من هذه المحاولة في إقرار حقيقة الآخرة ، والحقائق الأخرى التي ألمت بها في الطريق إليها .
وحقيقة الآخرة هي ذاتها التي تصدت لها سورة الحاقة . ولكن هذه السورة تعالجها بطريقة أخرى ، وتعرض لها من زاوية جديدة ، وصور وظلال جديدة . .
في سورة الحاقة كان الاتجاه إلى تصوير الهول والرعب في هذا اليوم ، ممثلين في حركات عنيفة في مشاهد الكون الهائلة : { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ، وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة . فيومئذ وقعت الواقعة ، وانشقت السمآء فهي يومئذ واهية } وفي الجلال المهيب في ذلك المشهد المرهوب : { والملك على أرجآئهآ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } وفي التكشف الذي ترتج له وتستهوله المشاعر : { يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية } كذلك كان الهول والرعب يتمثلان في مشاهد العذاب ، حتى في النطق بالحكم بهذا العذاب : { خذوه . فغلوه . ثم الجحيم صلوه . ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه } كما يتجلى في صراخ المعذبين وتأوهاتهم وحسراتهم : { يا ليتني لم أوت كتابيه . ولم أدر ما حسابيه . يا ليتها كانت القاضية . . } فأما هنا في هذه السورة فالهول يتجلى في ملامح النفوس وسماتها وخوالجها وخطواتها ، أكثر مما يتجلى في مشاهد الكون وحركاته . حتى المشاهد الكونية يكاد الهول فيها نفسياً وهو على كل حال ليس أبرز ما في الموقف من أهوال . إنما الهول مستكن في النفس يتجلى مداه في مدى ما يحدثه فيها من خلخله وذهول وروعة : { يوم تكون السمآء كالمهل ، وتكون الجبال كالعهن . ولا يسأل حميم حميماً . يُبَصَّرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ، وصاحبته وأخيه ، وفصيلته التي تؤويه ، ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه } . .
وجهنم هنا « نفس » ذات مشاعر وذات وعي تشارك مشاركة الأحياء في سمة الهول الحي : { إنها لظى . نزاعة للشوى . تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى } . .
والعذاب ذاته يغلب عليه طابع نفسي أكثر منه حسياً : { يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون ، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ، ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون } . .
فالمشاهد والصور والظلال لهذا اليوم تختلف في سورة المعارج عنها في سورة الحاقة ، باختلاف طابعي السورتين في عمومه . مع اتحاد الحقيقة الرئيسية التي تعرضها السورتان في هذه المشاهد .

ومن ثم فقد تناولت سورة المعارج فيما تناولت تصوير النفس البشرية في الضراء والسراء ، في حالتي الإيمان والخواء من الإيمان . وكان هذا متناسقاً مع طابعها « النفسي » الخاص : فجاء في صفة الإنسان : { إن الإنسان خلق هلوعا . إذا مسه الشر جزوعا ، وإذا مسه الخير منوعا . إلا المصلين ، الذين هم على صلاتهم دآئمون . . . الخ } . .
واستطرد السياق فصور هنا صفات النفوس المؤمنة وسماتها الظاهرة والمضمرة تمشياً مع طبيعة السورة وأسلوبها : { إلا المصلين . الذين هم على صلاتهم دآئمون . والذين في أموالهم حق معلوم للسآئل والمحروم . والذين يصدقون بيوم الدين . والذين هم من عذاب ربهم مشفقون . إن عذاب ربهم غير مأمون . والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فأنهم غير ملومين . فمن ابتغى ورآء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون . والذين هم بشهاداتهم قائمون . والذين هم على صلاتهم يحافظون . . . } . .
ولقد كان الاتجاه الرئيسي في سورة الحاقة إلى تقرير حقيقة الجد الصارم في شأن العقيدة . ومن ثم كانت حقيقة الآخرة واحدة من حقائق أخرى في السورة ، كحقيقة أخذ المكذبين أخذاً صارماً في الأرض؛ وأخذ كل من يبدل في العقيدة بلا تسامح . . فأما الاتجاه الرئيسي في سورة المعارج فهو إلى تقرير حقيقة الآخرة وما فيها من جزاء ، وموازين هذا الجزاء . فحقيقة الآخرة هي الحقيقة الرئيسية فيها .
ومن ثم كانت الحقائق الأخرى في السورة كلها متصلة اتصالاً مباشراً بحقيقة الآخرة فيها . من ذلك حديث السورة عن الفارق بين حساب الله في أيامه وحساب البشر ، وتقدير الله لليوم الآخر وتقدير البشر : { تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فاصبر صبراً جميلاً . إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً . . الخ } وهو متعلق باليوم الآخر .
ومنه ذلك الفارق بين النفس البشرية في الضراء والسراء في حالتي الإيمان والخلو من الإيمان . وهما مؤهلان للجزاء في يوم الجزاء .
ومنه غرور الذين كفروا وطمعهم أن يدخلوا كلهم جنات نعيم ، مع هوانهم على الله وعجزهم عن سبقه والتفلت من عقابه . وهو متصل اتصالاً وثيقاً بمحور السورة الأصيل .
وهكذا تكاد السورة تقتصر على حقيقة الآخرة وهي الحقيقة الكبيرة التي تتصدى لإقرارها في النفوس . مع تنوع اللمسات والحقائق الأخرى المصاحبة للموضوع الأصيل .
ظاهرة أخرى في هذا الإيقاع الموسيقي للسورة ، الناشئ من بنائها التعبيري . . فقد كان التنوع الإيقاعي في الحاقة ناشئاً من تغير القافية في السياق من فقرة لفقرة . وفق المعنى والجو فيه . . فأما هنا في سورة المعارج فالتنوع أبعد نطاقاً ، لأنه يشمل تنوع الجملة الموسيقية كلها لا إيقاع القافية وحدها . والجملة الموسيقية هنا أعمق وأعرض وأشد تركيباً . ويكثر هذا التنوع في شطر السورة الأول بشكل ملحوظ .

ففي هذا المطلع ثلاث جمل موسيقية منوعة مع اتحاد الإيقاع في نهاياتها من حيث الطول ومن حيث الإيقاعات الجزئية فيها على النحو التالي :
{ سأل سآئل بعذاب واقع . للكافرين ليس له دافع . من الله ذي المعارج . تعرج الملائكة والروح إليه . في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة . فاصبر صبراً جميلاً } . . حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الخامس .
{ إنهم يرونه بعيداً . ونراه قريباً } . . حيث يتكرر الإيقاع بمد الألف مرتين .
{ يوم تكون السماء كالمهل . وتكون الجبال كالعهن . ولا يسأل حميم حميماً } . . حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الثالث . مع تنوع الإيقاع في الداخل .
{ يُبصَّرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه . وصاحبته وأخيه . وفصيلته التي تؤويه . ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه . كلا إنها لظى } . . حيث ينتهي بمد الألف في الإيقاع الخامس كالأول .
{ نزاعة للشوى . . تدعو من أدبر وتولى . وجمع فأوعى . إن الإنسان خلق هلوعاً . إذا مسه الشر جزوعاً . وإذا مسه الخير منوعاً } . . حيث يتكرر إيقاع المد بالألف خمس مرات منهما اثنتان في النهاية تختلفان عن الثلاثة الأولى .
ثم يستقيم الإيقاع في باقي السورة على الميم والنون وقبلهما واو أو ياء . .
والتنويع الإيقاعي في مطلع السورة عميق وشديد التعقيد في الصياغة الموسيقية بشكل يلفت الأذن الموسيقية إلى ما في هذا التنويع المعقد الراقي موسيقياً من جمال غريب على البيئة العربية وعلى الإيقاع الموسيقي العربي . ولكن الأسلوب القرآني يطوعه ويمنحه اليسر الذي يدخل به إلى الأذن العربية فتقبل عليه ، وإن كان فناً إبداعياً عميقاً جديداً على مألوفها الموسيقي .
والآن نستعرض السورة تفصيلاً . . .
{ سأل سآئل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع ، من الله ذي المعارج ، تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فاصبر صبراً جميلاً ، إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً ، يوم تكون السمآء كالمهل ، وتكون الجبال كالعهن ، ولا يسأل حميم حميماً ، يُبَصَّرونهم ، يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ، وصاحبته وأخيه ، وفصيلته التي تؤويه ، ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه . كلا إنها لظى ، نزاعة للشوى ، تدعو من أدبر وتولى ، وجمع فأوعى } . .
كانت حقيقة الآخرة من الحقائق العسيرة الإدراك عند مشركي العرب؛ ولقد لقيت منهم معارضة نفسية عميقة ، وكانوا يتلقونها بغاية العجب والدهش والاستغراب؛ وينكرونها أشد الإنكار ، ويتحدون الرسول صلى الله عليه وسلم في صور شتى أن يأتيهم بهذا اليوم الموعود ، أو أن يقول لهم : متى يكون .
وفي رواية عن ابن عباس أن الذي سأل عن العذاب هو النضر بن الحارث . وفي رواية أخرى عنه : قال : ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع بهم .
وعلى أية حال فالسورة تحكي أن هناك سائلاً سأل وقوع العذاب واستعجله .

وتقرر أن هذا العذاب واقع فعلا ، لأنه كائن في تقدير الله من جهة ، ولأنه قريب الوقوع من جهة أخرى . وأن أحداً لا يمكنه دفعه ولا منعه . فالسؤال عنه واستعجاله وهو واقع ليس له من دافع يبدو تعاسة من السائل المستعجل؛ فرداً كان أو مجموعة
وهذا العذاب للكافرين . . إطلاقاً . . فيدخل فيه أولئك السائلون المستعجلون كما يدخل فيه كل كافر . وهو واقع من الله { ذي المعارج } . . وهو تعبير عن الرفعة والتعالي ، كما قال في السورة الأخرى : { رفيع الدرجات ذو العرش } وبعد هذا الافتتاح الذي يقرر كلمة الفصل في موضوع العذاب ، ووقوعه ، ومستحقيه ، ومصدره ، وعلو هذا المصدر ورفعته ، مما يجعل قضاءه أمراً علوياً نافذاً لا مرد له ولا دافع . . بعد هذا أخذ في وصف ذلك اليوم الذي سيقع فيه هذا العذاب ، والذي يستعجلون به وهو منهم قريب . ولكن تقدير الله غير تقدير البشر ، ومقاييسه غير مقاييسهم :
{ تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فاصبر صبراً جميلاً ، إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً } . .
والأرجح أن اليوم المشار إليه هنا هو يوم القيامة ، لأن السياق يكاد يعين هذا المعنى . وفي هذا اليوم تصعد الملائكة والروح إلى الله . والروح : الأرجح أنه جبريل عليه السلام ، كما سمي بهذا الاسم في مواضع أخرى . وإنما أفرد بالذكر بعد الملائكة لما له من شأن خاص . وعروج الملائكة والروح في هذا اليوم يفرد كذلك بالذكر ، إيحاء بأهميته في هذا اليوم وخصوصيته ، وهم يعرجون في شؤون هذا اليوم ومهامه . ولا ندري نحن ولم نكلف أن ندري طبيعة هذه المهام ، ولا كيف يصعد الملائكة ، ولا إلى أين يصعدون . فهذه كلها تفصيلات في شأن الغيب لا تزيد شيئاً من حكمة النص ، وليس لنا إليها من سبيل ، وليس لنا عليها من دليل . فحسبنا أن نشعر من خلال هذا المشهد بأهمية ذلك اليوم ، الذي ينشغل فيه الملائكة والروح بتحركات تتعلق بمهام ذلك اليوم العظيم .
وأما { كان مقداره خمسين ألف سنة } . . فقد تكون كناية عن طول هذا اليوم كما هو مألوف في التعبير العربي . وقد تعني حقيقة معينة ، ويكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة من سني أهل الأرض فعلا وهو يوم واحد وتصور هذه الحقيقة قريب جداً الآن . فإن يومنا الأرضي هو مقياس مستمد من دورة الأرض حول نفسها في أربع وعشرين ساعة . وهناك نجوم دورتها حول نفسها تستغرق ما يعادل يومنا هذا آلاف المرات . . ولا يعني هذا أنه المقصود بالخمسين ألف سنة هنا . ولكننا نذكر هذه الحقيقة لتقرب إلى الذهن تصور اختلاف المقاييس بين يوم ويوم
وإذا كان يوم واحد من أيام الله يساوي خمسين ألف سنة ، فإن عذاب يوم القيامة قد يرونه هم بعيداً ، وهو عند الله قريب .

. ومن ثم يدعو الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الصبر الجميل على استعجالهم وتكذيبهم بذلك العذاب القريب .
{ فاصبر صبراً جميلاً . إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً } . .
والدعوة إلى الصبر والتوجيه إليه صاحبت كل دعوة ، وتكررت لكل رسول ، ولكل مؤمن يتبع الرسول . وهي ضرورية لثقل العبء ومشقة الطريق ، ولحفظ هذه النفوس متماسكة راضية ، موصولة بالهدف البعيد ، متطلعة كذلك إلى الأفق البعيد . .
والصبر الجميل هو الصبر المطمئن ، الذي لا يصاحبه السخط ولا القلق ولا الشك في صدق الوعد . صبر الواثق من العاقبة ، الراضي بقدر الله ، الشاعر بحكمته من وراء الابتلاء ، الموصول بالله المحتسب كل شيء عنده مما يقع به .
وهذا اللون من الصبر هو الجدير بصاحب الدعوة . فهي دعوة الله ، وهي دعوة إلى الله . ليس له هو منها شيء . وليس له وراءها من غاية . فكل ما يلقاه فيها فهو في سبيل الله ، وكل ما يقع في شأنها هو من أمر الله . فالصبر الجميل إذن ينبعث متناسقاً مع هذه الحقيقة ، ومع الشعور بها في أعماق الضمير .
والله صاحب الدعوة التي يقف لها المكذبون ، وصاحب الوعد الذي يستعجلون به ويكذبون ، يقدر الأحداث ويقدر مواقيتها كما يشاء وفق حكمته وتدبيره للكون كله . ولكن البشر لا يعرفون هذا التدبير وذلك التقدير؛ فيستعجلون . وإذا طال عليهم الأمد يستريبون . وقد يساور القلق أصحاب الدعوة أنفسهم ، وتجول في خاطرهم أمنية ورغبة في استعجال الوعد ووقوع الموعود . . عندئذ يجيء مثل هذا التثبيت وهذا التوجيه من الله الخبير :
{ فاصبر صبراً جميلاً } . .
والخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم تثبيتاً لقلبه على ما يلقى من عنت المناوأة والتكذيب . وتقريراً للحقيقة الأخرى : وهي أن تقدير الله للأمور غير تقدير البشر؛ ومقاييسه المطلقة غير مقاييسهم الصغيرة :
{ إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً } . .
ثم يرسم مشاهد اليوم الذي يقع فيه ذلك العذاب الواقع ، الذي يرونه بعيداً ويراه الله قريباً . يرسم مشاهده في مجالي الكون وأغوار النفس . وهي مشاهد تشي بالهول المذهل المزلزل في الكون وفي النفس سواء :
{ يوم تكون السماء كالمهل ، وتكون الجبال كالعهن } . .
والمهل ذوب المعادن الكدر كدرديّ الزيت . والعهن هو الصوف المنتفش . والقرآن يقرر في مواضع مختلفة أن أحداثاً كونية كبرى ستقع في هذا اليوم ، تغير أوضاع الأجرام الكونية وصفاتها ونسبها وروابطها . ومن هذه الأحداث أن تكون السماء كالمعادن المذابة . وهذه النصوص جديرة بأن يتأملها المشتغلون بالعلوم الطبيعية والفلكية . فمن المرجح عندهم أن الأجرام السماوية مؤلفة من معادن منصهرة إلى الدرجة الغازية وهي بعد درجة الانصهار والسيولة بمراحل فلعلها في يوم القيامة ستنطفئ كما قال :

{ وإذا النجوم انكدرت } وستبرد حتى تصير معادن سائلة وبهذا تتغير طبيعتها الحالية وهي الطبيعة الغازية
على أية حال هذا مجرد احتمال ينفع الباحثين في هذه العلوم أن يتدبروه . أما نحن فنقف أمام هذا النص نتملى ذلك المشهد المرهوب ، الذي تكون فيه السماء كذوب المعادن الكدر ، وتكون فيه الجبال كالصوف الواهن المنتفش . ونتملى ما وراء هذا المشهد من الهول المذهل الذي ينطبع في النفوس ، فيعبر عنه القرآن أعمق تعبير :
{ ولا يسأل حميم حميماً . يُبَصَّرونهم . يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه . وصاحبته وأخيه . وفصيلته التي تؤويه . ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه } .
إن الناس في هم شاغل ، لا يدع لأحد منهم أن يتلفت خارج نفسه ، ولا يجد فسحة في شعوره لغيره : { ولا يسأل حميم حميماً } . فلقد قطع الهول المروّع جميع الوشائج ، وحبس النفوس على همها لا تتعداه . . وإنهم ليعرضون بعضهم على بعض { يُبَصَّرونهم } كأنما عمداً وقصداً ولكن لكل منهم همه ، ولكل ضمير منهم شغله ، فلا يهجس في خاطر صديق أن يسأل صديقه عن حاله ، ولا أن يسأله عونه . فالكرب يلف الجميع ، والهول يغشى الجميع . .
فما بال { المجرم } ؟ إن الهول ليأخذ بحسه ، وإن الرعب ليذهب بنفسه ، وإنه ليود لو يفتدى من عذاب يومئذ بأعز الناس عليه ، ممن كان يفتديهم بنفسه في الحياة ، ويناضل عنهم ، ويعيش لهم . . ببنيه . . وزوجه . وأخيه ، وعشيرته القريبة التي تؤويه وتحميه . بل إن لهفته على النجاة لتفقده الشعور بغيره على الإطلاق ، فيود لو يفتدي بمن في الأرض جميعاً ثم ينجيه . . وهي صورة للهفة الطاغية والفزع المذهل والرغبة الجامحة في الإفلات صورة مبطنة بالهول ، مغمورة بالكرب ، موشاة بالفزع ، ترتسم من خلال التعبير القرآني الموحي .
وبينما المجرم في هذه الحال ، يتمنى ذلك المحال ، يسمع ما ييئس ويقنط من كل بارقة من أمل ، أو كل حديث خادع من النفس . كما يسمع الملأ جميعاً حقيقة الموقف وما يجري فيه :
{ كلا إنها لظى . نزاعة للشوى . تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى } . .
إنه مشهد تطير له النفس شعاعاً ، بعد ما أذهلها كرب الموقف وهوله . . { كلا } في ردع عن تلك الأماني المستحيلة في الافتداء بالبنين والزوج والأخ والعشيرة ومن في الأرض جميعاً . . . { كلا إنها لظى } نار تتلظى وتتحرق { نزاعة للشوى } تنزع الجلود عن الوجوه والرؤوس نزعا . . وهي غول مفزعة . ذات نفس حية تشارك في الهول والعذاب عن إرادة وقصد : { تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى } . . تدعوه كما كان يدعى من قبل إلى الهدى فيدبر ويتولى . ولكنه اليوم إذ تدعوه جهنم لا يملك أن يدبر ويتولى ولقد كان من قبل مشغولا عن الدعوة بجمع المال وحفظه في الأوعية فأما اليوم فالدعوة من جهنم لا يملك أن يلهو عنها . ولا يملك أن يفتدي بما في الأرض كله منها
والتوكيد في هذه السورة والسورة السابقة قبلها وفي سورة القلم كذلك على منع الخير ، وعدم الحض على طعام المسكين ، وجمع المال في الأوعية إلى جانب الكفر والتكذيب والمعصية .

. هذا التوكيد يدل على أن الدعوة كانت تواجه في مكة حالات خاصة يجتمع فيها البخل والحرص والجشع إلى الكفر والتكذيب والضلالة . مما اقتضى تكرار الإشارة إلى هذا الأمر ، والتخويف من عاقبته ، بوصفه من موجبات العذاب بعد الكفر والشرك بالله .
وفي هذه السورة إشارات أخرى تفيد هذا المعنى ، وتؤكد ملامح البيئة المكية التي كانت تواجهها الدعوة . فقد كانت بيئة مشغولة بجمع المال من التجارة ومن الربا . وكان كبراء قريش هم أصحاب هذه المتاجر ، وأصحاب القوافل في رحلتي الشتاء والصيف . وكان هنالك تكالب على الثراء ، وشح النفوس يجعل الفقراء محرومين ، واليتامى مضيعين . ومن ثم تكرر الأمر في هذا الشأن وتكرر التحذير . وظل القرآن يعالج هذا الجشع وهذا الحرص؛ ويخوض هذه المعركة مع الجشع والحرص في أغوار النفس ودروبها قبل الفتح وبعده على السواء . مما هو ظاهر لمن يتتبع التحذير من الربا ، ومن أكل أموال الناس بالباطل ، ومن أكل أموال اليتامى إسرافاً وبدارا أن يكبروا ومن الجور على اليتيمات واحتجازهن للزواج الجائر رغبة في أموالهن ومن نهر السائل ، وقهر اليتيم ، ومن حرمان المساكين . . إلى آخر هذه الحملات المتتابعة العنيفة الدالة على الكثير من ملامح البيئة . فضلاً على أنها توجيهات دائمة لعلاج النفس الإنسانية في كل بيئة . وحب المال ، والحرص عليه ، وشح النفس به ، والرغبة في احتجانه ، آفة تساور النفوس مساورة عنيفة ، وتحتاج للانطلاق من إسارها والتخلص من أوهاقها ، والتحرر من ربقتها ، إلى معارك متلاحقة ، وإلى علاج طويل
والآن وقد انتهى من تصوير الهول في مشاهد ذلك اليوم ، وفي صورة ذلك العذاب؛ فإنه يتجه إلى تصوير حقيقة النفس البشرية في مواجهة الشر والخير ، في حالتي إيمانها وخلوها من الإيمان . ويقرر مصير المؤمنين كما قرر مصير المجرمين :
{ إن الإنسان خلق هلوعا : إذا مسه الشر جزوعا ، وإذا مسه الخير منوعا . إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دآئمون . والذين في أموالهم حق معلوم للسآئل والمحروم . والذين يصدقون بيوم الدين . والذين هم من عذاب ربهم مشفقون . إن عذاب ربهم غير مأمون . والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغى ورآء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون . والذين هم بشهاداتهم قائمون . والذين هم على صلاتهم يحافظون . أولئك في جنات مكرمون } .
وصورة الإنسان عند خواء قلبه من الإيمان كما يرسمها القرآن صورة عجيبة في صدقها ودقتها وتعبيرها الكامل عن الملامح الأصيلة في هذا المخلوق؛ التي لا يعصمه منها ولا يرفعه عنها إلا العنصر الإيماني ، الذي يصله بمصدر يجد عنده الطمأنينة التي تمسك به من الجزع عند ملاقاة الشر ، ومن الشح عند امتلاك الخير .

{ إن الإنسان خلق هلوعاً : إذا مسه الشر جزوعاً . وإذا مسه الخير منوعاً } . .
لكأنما كل كلمة لمسة من ريشة مبدعة تضع خطاً في ملامح هذا الإنسان . حتى إذا اكتملت الآيات الثلاث القصار المعدودة الكلمات نطقت الصورة ونبضت بالحياة . وانتفض من خلالها الإنسان بسماته وملامحه الثابتة . هلوعاً . . جزوعاً عند مس الشر ، يتألم للذعته ، ويجزع لوقعه ، ويحسب أنه دائم لا كاشف له . ويظن اللحظة الحاضرة سرمداً مضروباً عليه؛ ويحبس نفسه بأوهامه في قمقم من هذه اللحظة وما فيها من الشر الواقع به . فلا يتصور أن هناك فرجاً؛ ولا يتوقع من الله تغييراً . ومن ثم يأكله الجزع ، ويمزقه الهلع . ذلك أنه لا يأوي إلى ركن ركين يشد من عزمه ، ويعلق به رجاءه وأمله . . منوعاً للخير إذا قدر عليه . يحسب أنه من كده وكسبه فيضن به على غيره ، ويحتجنه لشخصه ، ويصبح أسير ما ملك منه ، مستعبدا للحرص عليه ذلك أنه لا يدرك حقيقة الرزق ودوره هو فيه . ولا يتطلع إلى خير منه عند ربه وهو منقطع عنه خاوي القلب من الشعور به . . فهو هلوع في الحالتين . . هلوع من الشر . . هلوع على الخير . . وهي صورة بائسة للإنسان ، حين يخلو قلبه من الإيمان .
ومن ثم يبدو الإيمان بالله مسألة ضخمة في حياة الإنسان . لا كلمة تقال باللسان ، ولا شعائر تعبدية تقام . إنه حالة نفس ومنهج حياة ، وتصور كامل للقيم والأحداث والأحوال . وحين يصبح القلب خاوياً من هذا المقوم فإنه يتأرجح ويهتز وتتناوبه الرياح كالريشة ويبيت في قلق وخوف دائم ، سواء أصابه الشر فجزع ، أم أصابه الخير فمنع . فأما حين يعمره الإيمان فهو منه في طمأنينة وعافية ، لأنه متصل بمصدر الأحداث ومدبر الأحوال؛ مطمئن إلى قدره شاعر برحمته ، مقدر لابتلائه ، متطلع دائما إلى فرجه من الضيق ، ويسره من العسر . متجه إليه بالخير ، عالم أنه ينفق مما رزقه ، وأنه مجزي على ما أنفق في سبيله ، معوض عنه في الدنيا والآخرة . . فالإيمان كسب في الدنيا يتحقق قبل جزاء الآخرة ، يتحقق بالراحة والطمأنينة والثبات والاستقرار طوال رحلة الحياة الدنيا .
وصفة المؤمنين المستثنين من الهلع ، تلك السمة العامة للإنسان ، يفصلها السياق هنا ويحددها :
{ إلا المصلين . الذين هم على صلاتهم دائمون } . .
والصلاة فوق أنها ركن الإسلام وعلامة الإيمان ، هي وسيلة الاتصال بالله والاستمداد من ذلك الرصيد . ومظهر العبودية الخالصة التي يتجرد فيها مقام الربوبية ومقام العبودية في صورة معينة . وصفة الدوام التي يخصصها بها هنا : { الذين هم على صلاتهم دائمون } . . تعطي صورة الاستقرار والاستطراد ، فهي صلاة لا يقطعها الترك والإهمال والكسل وهي صلة بالله مستمرة غير منقطعة .

. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل شيئاً من العبادة أثبته أي داوم عليه وكان يقول : « وإن أحب الأعمال إلى الله تعالى ما دام وإن قل . . » لملاحظة صفة الاطمئنان والاستقرار والثبات على الاتصال بالله ، كما ينبغي من الاحترام لهذا الاتصال . فليس هو لعبة توصل أو تقطع ، حسب المزاج
{ والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } . .
وهي الزكاة على وجه التخصيص والصدقات المعلومة القدر . . وهي حق في أموال المؤمنين . . أو لعل المعنى أشمل من هذا وأكبر . وهو أنهم يجعلون في أموالهم نصيباً معلوماً يشعرون أنه حق للسائل والمحروم . وفي هذا تخلص من الشح واستعلاء على الحرص كما أن فيه شعوراً بواجب الواجد تجاه المحروم ، في هذه الأمة المتضامنة المتكافلة . . والسائل الذي يسأل؛ والمحروم الذي لا يسأل ولا يعبر عن حاجته فيحرم . أو لعله الذي نزلت به النوازل فحرم وعف عن السؤال . والشعور بأن للمحتاجين والمحرومين حقاً في الأموال هو شعور بفضل الله من جهة ، وبآصرة الإنسانية من جهة ، فوق ما فيه من تحرر شعوري من ربقة الحرص والشح . وهو في الوقت ذاته ضمانة اجتماعية لتكافل الأمة كلها وتعاونها . فهي فريضة ذات دلالات شتى ، في عالم الضمير وعالم الواقع سواء . . . وذكرها هنا فوق أنه يرسم خطاً في ملامح النفس المؤمنة فهو حلقة من حلقات العلاج للشح والحرص في السورة .
{ والذين يصدقون بيوم الدين } . .
وهذه الصفة ذات علاقة مباشرة بموضوع السورة الرئيسي . وهي في الوقت ذاته ترسم خطاً أساسياً في ملامح النفس المؤمنة . فالتصديق بيوم الدين شطر الإيمان . وهو ذو أثر حاسم في منهج الحياة شعوراً وسلوكاً . والميزان في يد المصدق بيوم الدين غير الميزان في يد المكذب بهذا اليوم أو المستريب فيه . ميزان الحياة والقيم والأعمال والأحداث . . المصدق بيوم الدين يعمل وهو ناظر لميزان السماء لا لميزان الأرض ، ولحساب الآخرة لا لحساب الدنيا ويتقبل الأحداث خيرها وشرها وفي حسابه أنها مقدمات نتائجها هناك ، فيضيف إليها النتائج المرتقبة حين يزنها ويقوّمها . . والمكذب بيوم الدين يحسب كل شيء بحسب ما يقع له منه في هذه الحياة القصيرة المحدودة ، ويتحرك وحدوده هي حدود هذه الأرض وحدود هذا العمر . ومن ثم يتغير حسابه وتختلف نتائج موازينه ، وينتهي إلى نتائج خاطئه فوق ما ينحصر في مساحة من المكان ومساحة من الزمان محدوده . . وهو بائس مسكين معذب قلق لأن ما يقع في هذا الشطر من الحياة الذي يحصر فيه تأملاته وحساباته وتقديراته ، قد لا يكون مطمئناً ولا مريحاً ولا عادلاً ولا معقولاً ، ما لم يضف إليه حساب الشطر الآخر وهو أكبر وأطول . ومن ثم يشقى به من لا يحسب حساب الآخرة أو يشقى غيره من حوله .

ولا تستقيم له حياة رفيعة لا يجد جزاءها في هذه الأرض واضحاً . . ومن ثم كان التصديق باليوم الآخر شطر الإيمان الذي يقوم عليه منهج الحياة في الإسلام .
{ والذين هم من عذاب ربهم مشفقون . إن عذاب ربهم غير مأمون } . .
وهذه درجة أخرى وراء مجرد التصديق بيوم الدين . درجة الحساسية المرهفة ، والرقابة اليقظة ، والشعور بالتقصير في جناب الله على كثرة العبادة ، والخوف من تلفت القلب واستحقاقه للعذاب في أية لحظة ، والتطلع إلى الله للحماية والوقاية .
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من هو عند الله . وهو يعرف أن الله قد اصطفاه ورعاه . . كان دائم الحذر دائم الخوف لعذاب الله . وكان على يقين أن عمله لا يعصمه ولا يدخله الجنة إلا بفضل من الله ورحمة . وقال لأصحابة : « لن يدخل الجنة أحداً عمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته »
وفي قوله هنا : { إن عذاب ربهم غير مأمون } . . إيحاء بالحساسية الدائمة التي لا تغفل لحظة ، فقد تقع موجبات العذاب في لحظة الغفلة فيحق العذاب . والله لا يطلب من الناس إلا هذه اليقظة وهذه الحساسية ، فإذا غلبهم ضعفهم معها ، فر حمته واسعة ، ومغفرته حاضرة . وباب التوبة مفتوح ليست عليه مغاليق وهذا قوام الأمر في الإسلام بين الغفلة والقلق . والإسلام غير هذا وتلك . والقلب الموصول بالله يحذر ويرجو ، ويخاف ويطمع ، وهو مطمئن لرحمة الله على كل حال .
{ والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } . .
وهذه تعني طهارة النفس والجماعة ، فالإسلام يريد مجتمعاً طاهراً نظيفاً ، وفي الوقت ذاته ناصعاً صريحاً . مجتمعاً تؤدى فيه كل الوظائف الحيوية ، وتلبي فيه كل دوافع الفطرة . ولكن بغير فوضى ترفع الحياء الجميل ، وبغير التواء يقتل الصراحة النظيفة . مجتمعاً يقوم على أساس الأسرة الشرعية المتينة القوائم . وعلى البيت العلني الواضح المعالم . مجتمعاً يعرف فيه كل طفل أباه . ولا يخجل من مولده . لا لأن الحياء منزوع من الوجوه والنفوس . ولكن لأن العلاقات الجنسية قائمة على أساس نظيف صريح ، طويل الأمد ، واضح الأهداف ، يرمي إلى النهوض بواجب إنساني واجتماعي ، لا لمجرد إرضاء النزوة الحيوانية والشهوة الجنسية
ومن ثم يذكر القرآن هنا من صفات المؤمنين { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } .
فيقرر نظافة الاتصال بالأزواج وبما ملكت الأيمان من الإماء حين يوجدن بسبب مشروع والسبب المشروع الوحيد الذي يعترف به الإسلام هو السبي في قتال في سبيل الله . وهي الحرب الوحيدة التي يقرها الإسلام والأصل في حكم هذا السبي هو ما ذكرته آية سورة محمد :

{ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، فإما مَنّاً بعد وإما فداءً حتى تضع الحرب أوزارها } ولكن قد يتخلف بعض السبي بلا منّ ولا فداء لملابسات واقعية؛ فهذا يظل رقيقاً إذا كان المعسكر الآخر يسترق أسرى المسلمين في أية صورة من صور الرق ولو سماه بغير اسمه ويجوّز الإسلام وطء الإمام عندئذ من صاحبهن وحده ، ويجعل عتقهن موكولاً إلى الوسائل الكثيرة التي شرعها الإسلام لتجفيف هذا المورد . ويقف الإسلام بمبادئه صريحاً نظيفاً لا يدع هؤلاء الأسيرات لفوضى الاختلاط الجنسي القذر كما يقع لأسيرات الحروب قديماً وحديثاً ولا يتدسس ويلتوي فيسميهن حرات وهن إماء في الحقيقة
{ فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } . . وبذلك يغلق الباب في وجه كل قذارة جنسية ، في أية صورة غير هاتين الصورتين الواضحتين الصريحتين . . فلا يرى في الوظيفة الطبيعية قذارة في ذاتها؛ ولكن القذارة في الالتواء بها . والإسلام نظيف صريح قويم . .
{ والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } .
وهذه من القوائم الأخلاقية التي يقيم الإسلام عليها نظام المجتمع . ورعاية الأمانات والعهود في الإسلام تبدأ من رعاية الأمانة الكبرى التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان . وهي أمانة العقيدة والاستقامة عليها اختياراً لا اضطراراً . . ومن رعاية العهد الأول المقطوع على فطرة الناس وهم بعد في الأصلاب أن الله ربهم الواحد ، وهم بخلقهم على هذا العهد شهود . . ومن رعاية تلك الأمانة وهذا العهد تنبثق رعاية سائر الأمانات والعهود في معاملات الأرض وقد شدد الإسلام في الأمانة والعهد وكرر وأكد ، ليقيم المجتمع على أسس متينة من الخلق والثقة والطمأنينة . وجعل رعاية الأمانة والعهد سمة النفس المؤمنة ، كما جعل خيانة الأمانة وإخلاف العهد سمة النفس المنافقة والكافرة . ورد هذا في مواضع شتى من القرآن والسنة لا تدع مجالاً للشك في أهمية هذا الأمر البالغة في عرف الإسلام .
{ والذين هم بشهاداتهم قائمون } . .
وقد ناط الله بأداء الشهادة حقوقاً كثيرة ، بل ناط بها حدود الله ، التي تقام بقيام الشهادة . فلم يكن بد أن يشدد الله في القيام بالشهادة ، وعدم التخلف عنها ابتداء ، وعدم كتمانها عند التقاضي ، ومن القيام بها أداؤها بالحق دون ميل ولا تحريف . وقد جعلها الله شهادة له هو ليربطها بطاعته ، فقال : { وأقيموا الشهادة لله } . . وجعلها هنا سمة من سمات المؤمنين وهي أمانة من الأمانات ، أفردها بالذكر للتعظيم من شأنها وإبراز أهميتها . .
وكما بدأ سمات النفوس المؤمنة بالصلاة ، ختمها كذلك بالصلاة :
{ والذين هم على صلاتهم يحافظون } . .
وهي صفة غير صفة الدوام التي ذكرت في صدر هذه الصفات .

تتحقق بالمحافظة على الصلاة في مواعيدها ، وفي فرائضها ، وفي سننها ، وفي هيئتها ، وفي الروح التي تؤدى بها . فلا يضيعونها إهمالاً وكسلا . ولا يضيعونها بعدم إقامتها على وجهها . . وذكر الصلاة في المطلع والختام يوحي بالاحتفال والاهتمام . وبهذا تختم سمات المؤمنين . .
وعندئذ يقرر مصير هذا الفريق من الناس بعد ما قرر من قبل مصير الفريق الآخر :
{ أولئك في جنات مكرمون } . .
ويجمع هذا النص القصير بين لون من النعيم الحسي ولون من النعيم الروحي . فهم في جنات . وهم يلقون الكرامة في هذه الجنات . فتجتمع لهم اللذة بالنعيم مع التكريم ، جزاء على هذا الخلق الكريم ، الذي يتميز به المؤمنون .
ثم يعرض السياق مشهداً من مشاهد الدعوة في مكة ، والمشركون يسرعون الخطى إلى المكان الذي يكون فيه الرسول صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن . ثم يتفرقون حواليه جماعات . ويستنكر إسراعهم هذا وتجمعهم في غير ما رغبة في الاهتداء بما يسمعون :
{ فما للذين كفروا قبلك مهطعين؟ عن اليمين وعن الشمال عزين؟ } . .
المهطع هو الذي يسرع الخطى ماداً عنقه كالمقود . وعزين جمع عزة كفئة وزناً ومعنى . . وفي التعبير تهكم خفي بحركتهم المريبة . وتصوير لهذه الحركة وللهيئة التي تتم بها . وتعجب منهم . وتساؤل عن هذا الحال منهم وهم لا يسرعون الخطى تجاه الرسول ليسمعوا ويهتدوا ، ولكن فقط ليستطلعوا في دهشة ثم يتفرقوا كي يتحلقوا حلقات يتناجون في الكيد والرد على ما يسمعون
ما لهم؟ { أيطمع كل امرئ منهم أن يُدخل جنة نعيم؟ } . .
وهم على هذه الحال التي لا تؤدي إلى جنة نعيم ، إنما تؤدي إلى لظى مأوى المجرمين
ألعلهم يحسبون أنفسهم شيئاً عظيماً عند الله؛ فهم يكفرون ويؤذون الرسول ، ويسمعون القرآن ويتناجون بالكيد . ثم يدخلون الجنة بعد هذا كله لأنهم في ميزان الله شيء عظيم؟ .
{ كلا } في ردع وفي تحقير . . { إنا خلقناهم مما يعلمون }
وهم يعلمون مم خلقوا من ذلك الماء المهين الذي يعرفون والتعبير القرآني المبدع يلمسهم هذه اللمسة الخفية العميقة في الوقت ذاته؛ فيمسح بها كبرياءهم مسحاً ، وينكس به خيلاءهم تنكيساً ، دون لفظة واحدة نابية ، أو تعبير واحد جارح . بينما هذه الإشارة العابرة تصور الهوان والزهادة والرخص أكمل تصوير فكيف يطمعون أن يدخلوا جنة نعيم على الكفر وسوء الصنيع؟ وهم مخلوقون مما يعلمون وهم أهون على الله من أن تكون لهم دالة عليه ، وخرق لسنته في الجزاء العادل باللظى وبالنعيم .
واستطراداً في تهوين أمرهم ، وتصغير شأنهم ، وتنكيس كبريائهم ، ويقرر أن الله قادر على أن يخلق خيراً منهم ، وأنهم لا يعجزونه فيذهبون دون ما يستحقون من جزاء أليم :
{ فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون ، على أن نبدل خيراً منهم وما نحن بمسبوقين } .

إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)

هذه السورة كلها تقص قصة نوح عليه السلام مع قومه؛ وتصف تجربة من تجارب الدعوة في الأرض؛ وتمثل دورة من دورات العلاج الدائم الثابت المتكرر للبشرية ، وشوطاً من أشواط المعركة الخالدة بين الخير والشر ، والهدى والضلال ، والحق والباطل .
هذه التجربة تكشف عن صورة من صور البشرية العنيدة ، الضالة ، الذاهبة وراء القيادات المضللة ، المستكبرة عن الحق ، المعرضة عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان ، المعروضة أمامها في الأنفس والآفاق ، المرقومة في كتاب الكون المفتوح ، وكتاب النفس المكنون .
وهي في الوقت ذاته تكشف عن صورة من صور الرحمة الإلهية تتجلى في رعاية الله لهذا الكائن الإنساني ، وعنايته بأن يهتدي . تتجلى هذه العناية في إرسال الرسل تترى إلى هذه البشرية العنيدة الضالة الذاهبة وراء القيادات المضللة المستكبرة عن الحق والهدى .
ثم هي بعد هذا وذلك تعرض صورة من صور الجهد المضني ، والعناء المرهق ، والصبر الجميل ، والإصرار الكريم من جانب الرسل صلوات الله عليهم لهداية هذه البشرية الضالة العنيدة العصية الجامحة . وهم لا مصلحة لهم في القضية ولا أجر يتقاضونه من المهتدين على الهداية ، ولا مكافأة ولا جُعل يحصلونه على حصول الإيمان كالمكافأة أو النفقة التي تتقاضاها المدارس والجامعات والمعاهد والمعلمون ، في زماننا هذا وفي كل زمان في صورة نفقات للتعليم
هذه الصورة التي يعرضها نوح عليه السلام على ربه ، وهو يقدم له حسابه الأخير بعد ألف سنة إلا خمسين عاماً قضاها في هذا الجهد المضني ، والعناء المرهق ، مع قومه المعاندين ، الذاهبين وراء قيادة ضالة مضللة ذات سلطان ومال وعزوة . وهو يقول :
{ رب . إني دعوت قومي ليلاً ونهارا . فلم يزدهم دعآئي إلا فرارا . وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم ، وأصروا واستكبروا استكبارا . ثم إني دعوتهم جهاراً . ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا . فقلت : استغفروا ربكم ، إنه كان غفارا ، يرسل السمآء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبنين ، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا . ما لكم لا ترجون لله وقارا؟ وقد خلقكم أطوارا؟ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً؟ وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً؟ والله أنبتكم من الأرض نباتاً ، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا . والله جعل لكم الأرض بساطاً ، لتسلكوا منها سبلاً فجاجا } . .
ثم يقول بعد عرض هذا الجهد الدائب الملح الثابت المصر :
{ رب إنهم عصوني ، واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا . ومكروا مكراً كبارا . وقالوا : لا تذرن آلهتكم ، ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا . وقد أضلوا كثيراً . . } . .
وهي حصيلة مريرة . ولكن الرسالة هي الرسالة
هذه التجربة المريرة تعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي انتهت إليه أمانة دعوة الله في الأرض كلها في آخر الزمان ، واضطلع بأكبر عبء كلفه رسول .

. يرى فيها صورة الكفاح النبيل الطويل لأخ له من قبل ، لإقرار حقيقة الإيمان في الأرض . ويطلع منها على عناد البشرية أمام دعوة الحق؛ وفساد القيادة الضالة وغلبتها على القيادة الراشدة . ثم إرادة الله في إرسال الرسل تترى بعد هذا العناد والضلال منذ فجر البشرية على يدي جدها نوح عليه السلام .
وتعرض على الجماعة المسلمة في مكة ، وعلى الأمة المسلمة بعامة ، وهي الوارثة لدعوة الله في الأرض ، وللمنهج الإلهي المنبثق من هذه الدعوة ، القائمة عليه في وسط الجاهلية المشتركة يومذاك ، وفي وسط كل جاهلية تالية . . ترى فيها صورة الكفاح والإصرار والثبات هذا المدى الطويل من أبي البشرية الثاني . كما ترى فيها عناية الله بالقلة المؤمنة ، وإنجاءها من الهلاك الشامل في ذلك الحين .
وتعرض على المشركين ليروا فيها مصير أسلافهم المكذبين؛ ويدركوا نعمة الله عليهم في إرساله إليهم رسولاً رحيماً بهم ، لا يدعو عليهم بالهلاك الشامل؛ وذلك لما قدره الله من الرحمة بهم وإمهالهم إلى حين . فلم تصدر من نبيهم دعوة كدعوة نوح ، بعدما استنفد كل الوسائل ، وألهم الدعاء على القوم بما ألهم :
{ ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً } . .
{ وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً . إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا } . .
ومن خلال عرض هذه الحلقة من حلقات الدعوة الإلهية على البشرية تتجلى حقيقة وحدة العقيدة وثبات أصولها ، وتأصل جذورها . كما يتجلى ارتباطها بالكون وبإرادة الله وقدره ، وأحداث الحياة الواقعة وفق قدر الله . وذلك من خلال دعوة نوح لقومه : { قال : يا قوم إني لكم نذير مبين . أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون . يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ، إن أجل الله إذا جآء لا يؤخر ، لو كنتم تعلمون } . . وفي حكاية قوله لهم : { ما لكم لا ترجون لله وقاراً وقد خلقكم أطواراً؟ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً؟ وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً؟ والله أنبتكم من الأرض نباتاً ، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً ، والله جعل لكم الأرض بساطاً لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً } . .
ولإقرار هذه الحقيقة في نفوس المسلمين قيمته في شعورهم بحقيقة دعوتهم ، وحقيقة نسبهم العريق وحقيقة موكبهم المتصل من مطلع البشرية . وحقيقة دورهم في إقرار هذه الدعوة والقيام عليها . وهي منهج الله القويم القديم .
وإن الإنسان ليأخذه الدهش والعجب ، كما تغمره الروعة والخشوع ، وهو يستعرض بهذه المناسبة ذلك الجهد الموصول من الرسل عليهم صلوات الله وسلامه لهداية البشرية الضالة المعاندة .

ويتدبر إرادة الله المستقرة على إرسال هؤلاء الرسل واحداً بعد واحد لهذه البشرية المعرضة العنيدة .
وقد يعن للإنسان أن يسأل : ترى تساوي الحصيلة هذا الجهد الطويل ، وتلك التضحيات النبيلة ، من لدن نوح عليه السلام إلى محمد عليه الصلاة والسلام ثم ما كان بينهما وما تلاهما من جهود المؤمنين بدعوة الله وتضحياتهم الضخام؟
ترى هل تساوي هذا الجهد الذي وصفه نوح في هذه السورة وفي غيرها من سور القرآن ، وقد استغرق عمراً طويلاً بالغ الطول ، لم يكتف قومه فيه بالإعراض ، بل أتبعوه بالسخرية والاتهام . وهو يتلقاهما بالصبر والحسنى ، والأدب الجميل والبيان المنير .
ثم تلك الجهود الموصولة منذ ذلك التاريخ ، وتلك التضحيات النبيلة التي لم تنقطع على مدار التاريخ . من رسل يستهزأ بهم ، أو يحرقون بالنار ، أو ينشرون بالمنشار ، أو يهجرون الأهل والديار . . حتى تجيء الرسالة الأخيرة ، فيجهد فيها محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الجهد المشهود المعروف ، هو والمؤمنون معه . ثم تتوالى الجهود المضنية والتضحيات المذهلة من القائمين على دعوته في كل أرض وفي كل جيل؟؟
ترى تساوي الحصيلة كل هذه الجهود ، وكل هذه التضحيات ، وكل هذا الجهاد المرير الشاق؟ ثم . . ترى هذه البشرية كلها تساوي تلك العناية الكريمة من الله ، المتجلية في استقرار إرادته سبحانه على إرسال الرسل تترى بعد العناد والإعراض والإصرار والاستكبار ، من هذا الخلق الهزيل الصغير المسمى بالإنسان؟
والجواب بعد التدبر : أن نعم : وبلا جدال . .
إن استقرار حقيقة الإيمان بالله في الأرض يساوي كل هذا الجهد ، وكل هذا الصبر ، وكل هذه المشقة ، وكل هذه التضحيات النبيلة المطردة من الرسل وأتباعهم الصادقين في كل جيل
ولعل استقرار هذه الحقيقة أكبر من وجود الإنسان ذاته؛ بل أكبر من الأرض وما عليها؛ بل أكثر من هذا الكون الهائل الذي لا تبلغ الأرض أن تكون فيه هباءة ضائعة لا تكاد تحس أو ترى
وقد شاءت إرادة الله أن يخلق هذا الكائن الإنساني بخصائص معينة ، تجعل استقرار هذه الحقيقة في ضميره وفي نظام حياته موكولاً إلى الجهد الإنساني ذاته ، بعون الله وتوفيقه . ولسنا نعلم لم خلق الله هذا الكائن بهذه الخصائص . . ووكله إلى إدراكه وجهده وإرادته في تحقيق حقيقة الإيمان في ذاته وفي نظام حياته؛ ولم يجبله على الإيمان والطاعة لا يعرف غيرهما كالملائكة ، أو يمحضه للشر والمعصية لا يعرف غيرهما كإبليس .
لسنا نعلم سر هذا . ولكننا نؤمن بأن هنالك حكمة تتعلق بنظام الوجود كله في خلق هذا الكائن بهذه الخصائص
وإذن فلا بد من جهد بشري لإقراره حقيقة الإيمان في عالم الإنسان . هذا الجهد اختار الله له صفوة من عباده هم الأنبياء والرسل . وثلة مختارة من أتباعهم هم المؤمنون الصادقون .

اختارهم لإقرار هذه الحقيقة في الأرض ، لأنها تساوي كل ما يبذلون فيها من جهود مضنية مريرة ، وتضحيات شاقة نبيلة .
إن استقرار هذه الحقيقة في قلب معناه أن ينطوي هذا القلب على قبس من نور الله؛ وأن يكون مستودعاً لسر من أسراره؛ وأن يكون أداة من أدوات قدره النافذ في هذا الوجود . . وهذه حقيقة لا مجرد تصوير وتقريب . . وهي حقيقة أكبر من الإنسان ذاته ومن أرضه وسمائه ، ومن كل هذا الكون الكبير
كما أن استقرار حقيقة الإيمان في حياة البشر أو جماعة منهم معناه اتصال هذه الحياة الأرضية بالحياة الأبدية ، وارتفاعها إلى المستوى الذي يؤهلها لهذا الاتصال . معناه اتصال الفناء بالبقاء والجزء بالكل والمحدود الناقص بالكمال المطلق . . وهي حصيلة تربى على كل جهد وكل تضحية ولو تحققت على الأرض يوماً أو بعض يوم في عمر البشرية الطويل ، لأن تحققها ولو في هذه الصورة يرفع أمام البشرية في سائر أجيالها مشعل النور في صورة عملية واقعية ، تجاهد لتبلغ إليها طوال الأجيال
ولقد أثبت الواقع التاريخي المتكرر أن النفس البشرية لم تبلغ إلى آفاق الكمال المقدر لها بأية وسيلة كما بلغتها باستقرار حقيقة الإيمان بالله فيها . وأن الحياة البشرية لم ترتفع إلى هذه الآفاق بوسيلة أخرى كما ارتفعت بهذه الوسيلة . وأن الفترات التي استقرت فيها هذه الحقيقة في الأرض ، وتسلم أهلها قيادة البشرية كانت قمة في تاريخ الإنسان سامقة ، بل كانت حلماً أكبر من الخيال ، ولكنه متمثل في واقع يحياه الناس .
وما يمكن أن ترتقي البشرية ولا أن ترتفع عن طريق فلسفة أو علم أو فن أو مذهب من المذاهب أو نظام ، إلى المستوى الذي وصلت أو تصل إليه عن طريق استقرار حقيقة الإيمان بالله في نفوس الناس وحياتهم وأخلاقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم . . وهذه الحقيقة ينبثق منها منهج حياة كامل ، سواء جاءت مجملة كما هي في الرسالات الأولى ، أو مفصلة شاملة دقيقة كما هي في الرسالة الأخيرة .
والدليل القاطع على أن هذه العقيدة حقيقة من عند الله؛ هو هذا الذي أثبته الواقع التاريخي من بلوغ البشرية باستقرار حقيقة الإيمان في حياتها ما لم تبلغه قط بوسيلة أخرى من صنع البشر : لا علم ، ولا فلسفة ، ولا فن ، ولا نظام من النظم . وأنها حين فقدت قيادة المؤمنين الحقيقيين لم ينفعها شيء من ذلك كله؛ بل انحدرت قيمها وموازينها وإنسانيتها ، كما غرقت في الشقاء النفسي والحيرة الفكرية والأمراض العصبية ، على الرغم من تقدمها الحضاري في سائر الميادين ، وعلى الرغم من توافر عوامل الراحة البدنية والمتاع العقلي ، وأسباب السعادة المادية بجملتها . ولكنها لم تنل السعادة والطمأنينة والراحة الإنسانية أبداً . ولم يرتفع تصورها للحياة قط كما ارتفع في ظل الحقيقة الإيمانية ، ولم تتوثق صلتها بالوجود قط كما توثقت في ظل هذه العقيدة ، ولم تشعر بكرامة « النفس الإنسانية » قط كما شعرت بها في تلك الفترة التي استقرت فيها تلك الحقيقة .

والدراسة الواعية للتصور الإسلامي لغاية الوجود كله وغايه الوجود الإنساني تنتهي حتماً إلى هذه النتيجة .
وهذا كله يستحق بدون تردد كل ما يبذله المؤمنون من جهود مضنية ، ومن تضحيات نبيلة ، لإقرار حقيقة الإيمان بالله في الأرض . وإقامة قلوب تنطوي على قبس من نور الله ، وتتصل بروح الله . وإقامة حياة إنسانية يتمثل فيها منهج الله للحياة . وترتفع فيها تصورات البشر وأخلاقهم ، كما يرتفع فيها واقع حياتهم إلى ذلك المستوى الرفيع ، الذي شهدته البشرية واقعاً في فترة من فترات التاريخ .
وستعرض البشرية كما أعرضت عن دعوة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم الكرام . وستذهب مع القيادات الضالة المضلة الممعنة في الضلال . وستعذب الدعاة إلى الحق أنواعاً مختلفة من العذاب ، وتنكل بهم ألواناً شتى من النكال . كما ألقت إبراهيم في النار . ونشرت غيره بالمنشار ، وسخرت واستهزأت بالرسل والأنبياء على مدار التاريخ .
ولكن الدعوة إلى الله لا بد أن تمضي في طريقها كما أراد الله . لأن الحصيلة تستحق الجهود المضنية والتضحيات النبيلة ، ولو صغرت فانحصرت في قلب واحد ينطوي على قبس من نور الله ، ويتصل بروح الله
إن هذا الموكب المتصل من الرسل والرسالات من عهد نوح عليه السلام إلى عهد محمد عليه أزكى السلام لينبئ عن استقرار إرادة الله على اطراد الدعوة إلى حقيقة الإيمان الكبيرة ، وعلى قيمة هذه الدعوة وقيمة الحصيلة . وأقل نسبة لهذه الحصيلة هي أن تستقر حقيقة الإيمان في قلوب الدعاة أنفسهم حتى يلاقوا الموت وما هو أشد من الموت في سبيلها ولا ينكصون عنها . وبهذا يرتفعون على الأرض كلها وينطلقون من جواذبها ، ويتحررون من ربقتها . وهذا وحده كسب كبير ، أكبر من الجهد المرير . كسب للدعاة . وكسب للإنسانية التي تشرف بهذا الصنف منها وتكرم . وتستحق أن يُسجد الله الملائكة لهذا الكائن ، الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء . ولكنه يتهيأ بجهده هو ومحاولته وتضحيته لاستقبال قبس من نور الله . كما يتهيأ لأن ينهض وهو الضعيف العاجز بتحقيق قدر الله في الأرض ، وتحقيق منهجه في الحياة . ويبلغ من الطلاقة والتحرر الروحي أن يضحي بالحياة ، ويحتمل من المشقة ما هو أكبر من ضياع الحياة ، لينجو بعقيدته وينهض بواجبه في محاولة إقرارها في حياة الآخرين ، وتحقيق السعادة لهم والتحرر والارتفاع . وحين يتحقق لروح الإنسان هذا القدر من التحرر والانطلاق ، يهون الجهد ، وتهون المشقة ، وتهون التضحية ، ويتوارى هذا كله ، لتبرز تلك الحصيلة الضخمة التي ترجح الأرض والسماء في ميزان الله .

.
والآن نستعرض قصة نوح في هذه السورة ، وما تمثله من حقيقة تلك الحقيقة
{ إنآ أرسلنا نوحاً إلى قومه : أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم . قال : يا قوم : إني لكم نذير مبين : أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون . يغفر لكم من ذنوبكم ، ويؤخركم إلى أجل مسمى ، إن أجل الله إذا جآء لا يؤخر ، لو كنتم تعلمون } . .
تبدأ السورة بتقرير مصدر الرسالة والعقيدة وتوكيده : { إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه } . . فهذا هو المصدر الذي يتلقى منه الرسل التكليف ، كما يتلقون حقيقة العقيدة . وهو المصدر الذي صدر منه الوجود كله ، وصدرت منه الحياة . وهو الله الذي خلق البشر وأودع فطرتهم الاستعداد لأن تعرفه وتعبده ، فلما انحرفوا عنها وزاغوا أرسل إليهم رسله ، يردونهم إليه . ونوح عليه السلام كان أول هؤلاء الرسل بعد آدم عليه السلام . وآدم لا يذكر القرآن له رسالة بعد مجيئه إلى هذه الأرض ، وممارسته لهذه الحياة؛ ولعله كان معلماً لأبنائه وحفدته حتى إذا طال عليهم الأمد بعد وفاته ضلوا عن عبادة الله الواحد . واتخذوا لهم أصناماً آلهة . اتخذوها في أول الأمر انصاباً ترمز إلى قوى قدسوها . قوى غيبية أو مشهودة . ثم نسوا الرمز وعبدوا الأصنام وأشهرها تلك الخمسة التي سيرد ذكرها في السورة . فأرسل الله إليهم نوحاً يردهم إلى التوحيد ، ويصحح لهم تصورهم عن الله وعن الحياة والوجود . والكتب المقدسة السابقة تجعل إدريس عليه السلام سابقاً لنوح . ولكن ما ورد في هذه الكتب لا يدخل في تكوين عقيدة المسلم ، لشبهة التحريف والتزيد والإضافة إلى تلك الكتب .
والذي يتجه إليه من يقرأ قصص الأنبياء في القرآن ، أن نوحاً كان في فجر البشرية؛ وأن طول عمره الذي قضى منه ألف سنة إلا خمسين عاماً في دعوته لقومه ، ولا بد أنهم كانوا طوال الأعمار بهذه النسبة . . أن طول عمره وأعمار جيله هكذا يوحي بأن البشر كانوا ما يزالون قلة لم تتكاثر بعد كما تكاثرت في الأجيال التالية . وذلك قياساً على ما نراه من سنة الله في الأحياء من طول العمر إذا قل العدد ، كأن ذلك للتعويض والتعادل . . والله أعلم بذلك . . إنما هي نظرة في سنة الله وقياس
تبدأ السورة بتقرير مصدر الرسالة وتوكيده ، ثم تذكر فحوى رسالة نوح في اختصار وهي الإنذار :
{ أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم } . .
والحالة التي كان قوم نوح قد انتهوا إليها ، من إعراض واستكبار وعناد وضلال كما تبرز من خلال الحساب الذي قدمه نوح في النهاية لربه تجعل الإنذار هو أنسب ما تلخص به رسالته ، وأول ما يفتتح به الدعوة لقومه ، الإنذار بعذاب أليم ، في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما جميعاً .

ومن مشهد التكليف ينتقل السياق مباشرة إلى مشهد التبليغ في اختصار ، البارز فيه هو الإنذار ، مع الإطماع في المغفرة على ما وقع من الخطايا والذنوب؛ وتأجيل الحساب إلى الأجل المضروب في الآخرة للحساب؛ وذلك مع البيان المجمل لأصول الدعوة التي يدعوهم إليها :
{ قال : يا قوم إني لكم نذير مبين . أن اعبدوا الله ، واتقوه ، وأطيعون . يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى . إن أجل الله إذا جآء لا يؤخر لو كنتم تعلمون } . .
{ يا قوم إني لكم نذير مبين } . . مفصح عن نذارته ، مبين عن حجته ، لا يتمتم ولا يجمجم ، ولا يتلعثم في دعوته ، ولا يدع لبساً ولا غموضاً في حقيقة ما يدعو إليه ، وفي حقيقة ما ينتظر المكذبين بدعوته .
وما يدعو إليه بسيط واضح مستقيم : { أن اعبدوا الله ، واتقوه وأطيعون } . . عبادة لله وحده بلا شريك . وتقوى لله تهيمن على الشعور والسلوك . وطاعة لرسوله تجعل أمره هو المصدر الذي يستمدون منه نظام الحياة وقواعد السلوك .
وفي هذه الخطوط العريضة تتلخص الديانة السماوية على الإطلاق . ثم تفترق بعد ذلك في التفصيل والتفريع . وفي مدى التصور وضخامته وعمقه وسعته وشموله وتناوله للجوانب المختلفة للوجود كله ، وللوجود الإنساني في التفصيل والتفريع .
وعبادة الله وحده منهج كامل للحياة ، يشمل تصور الإنسان لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية؛ ولحقيقة الصلة بين الخلق والخالق ، ولحقيقة القوى والقيم في الكون وفي حياة الناس . . ومن ثم ينبثق نظام للحياة البشرية قائم على ذلك التصور ، فيقوم منهج للحياة خاص . منهج رباني مرجعه إلى حقيقة الصلة بين العبودية والألوهية ، وإلى القيم التي يقررها الله للأحياء والأشياء .
وتقوى الله . . هي الضمانة الحقيقية لاستقامة الناس على ذلك المنهج ، وعدم التلفت عنه هنا أو هناك ، وعدم الاحتيال عليه أو الالتواء في تنفيذه . كما أنها هي مبعث الخلق الفاضل المنظور فيه إلى الله ، بلا رياء ولا تظاهر ولا مماراة .
وطاعة الرسول . . هي الوسيلة للاستقامة على الطريق ، وتلقي الهدى من مصدره المتصل بالمصدر الأول للخلق والهداية ، وبقاء الاتصال بالسماء عن طريق محطة الاستقبال المباشرة السليمة المضمونة
فهذه الخطوط العريضة التي دعا نوح إليها قومه في فجر البشرية هي خلاصة دعوة الله في كل جيل بعده ، وقد وعدهم عليها ما وعد الله به التائبين الثائبين :
{ يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى } . .
وجزاء الاستجابة للدعوة إلى عبادة الله وتقواه وطاعة رسوله هي المغفرة والتخليص من الذنوب التي سلفت؛ وتأخير الحساب إلى الأجل المضروب له في علم الله . وهو اليوم الآخر . وعدم الأخذ في الحياة الدنيا بعذاب الاستئصال ( وسيرد في الحساب الذي قدمه نوح لربه أنه وعدهم أشياء أخرى في أثناء الحياة ) .
ثم بين لهم أن ذلك الأجل المضروب حتمي في موعده ، ولا يؤخر كما يؤخر عذاب الدنيا .

. وذلك لتقرير هذه الحقيقة الاعتقادية الكبرى :
{ إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ، لو كنتم تعلمون } . .
كما أن النص يحتمل أن يكون هذا تقريراً لكل أجل يضربه الله؛ ليقر في قلوبهم هذه الحقيقة بوجه عام . بمناسبة الحديث عن الوعد بتأخير حسابهم لو أطاعوا وأنابوا إلى يوم الحساب .
وراح نوح عليه السلام يواصل جهوده النبيلة الخالصة الكريمة لهداية قومه ، بلا مصلحة له ، ولا منفعة؛ ويحتمل في سبيل هذه الغاية النبيلة ما يحتمل من إعراض واستكبار واستهزاء . . ألف سنة إلا خمسين عاماً . . وعدد المستجيبين له لا يكاد يزيد؛ ودرجة الإعراض والإصرار على الضلال ترتفع وتزداد ثم عاد في نهاية المطاف يقدم حسابه لربه الذي كلفه هذا الواجب النبيل وذلك الجهد الثقيل عاد يصف ما صنع وما لاقى . . وربه يعلم . وهو يعرف أن ربه يعلم . ولكنها شكوى القلب المتعب في نهاية المطاف ، إلى الجهة الوحيدة التي يشكو إليها الأنبياء والرسل والمؤمنون حقيقة الإيمان . . إلى الله . .
{ قال : رب إني دعوت قومي ليلاً ونهارا ، فلم يزدهم دعآئي إلا فرارا؛ وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم ، واستغشوا ثيابهم ، وأصروا ، واستكبروا استكبارا . ثم إني دعوتهم جهارا ، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا . فقلت : استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، يرسل السمآء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبنين ، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا . ما لكم لا ترجون لله وقارا؟ وقد خلقكم أطوارا؟ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا؟ وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجا؟ والله أنبتكم من الأرض نباتا ، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا . والله جعل لكم الأرض بساطا ، لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً } . . .
هذا ما صنع نوح وهذا ما قال؛ عاد يعرضه على ربه وهو يقدم حسابه الأخير في نهاية الأمد الطويل . وهو يصور الجهد الدائب الذي لا ينقطع : { إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً } . .
ولا يمل ولا يفتر ولا ييئس أمام الإعراض والإصرار : { فلم يزدهم دعائي إلا فراراً } . . فراراً من الداعي إلى الله . مصدر الوجود والحياة ، ومصدر النعم والآلاء ، ومصدر الهدى والنور . وهو لا يطلب أجراً على السماع ولا ضريبة عل الاهتداء الفرار ممن يدعوهم إلى الله ليغفر لهم ويخلصهم من جريرة الإثم والمعصية والضلال
فإذا لم يستطيعوا الفرار ، لأن الداعي واجههم مواجهة ، وتحين الفرصة ليصل إلى أسماعهم بدعوته ، كرهوا أن يصل صوته إلى أسماعهم . وكرهوا أن تقع عليه أنظارهم ، وأصروا على الضلال ، واستكبروا عن الاستجابة لصوت الحق والهدى : { وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم ، واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً } . . وهي صورة لإصرار الداعية على الدعوة وتحين كل فرصة ليبلغهم إياها؛ وإصرارهم هم على الضلال .

تبرز من ثناياها ملامح الطفولة البشرية العنيدة . تبرز في وضع الأصابع في الآذان ، وستر الرؤوس والوجوه بالثياب . والتعبير يرسم بكلماته صورة العناد الطفولي الكامل ، وهو يقول : إنهم { جعلوا أصابعهم في آذانهم } وآذانهم لا تسع أصابعهم كاملة ، إنما هم يسدونها بأطراف الأصابع . ولكنهم يسدونها في عنف بالغ ، كأنما يحاولون أن يجعلوا أصابعهم كلها في آذانهم ضماناً لعدم تسرب الصوت إليها بتاتاً وهي صورة غليظة للإصرار والعناد ، كما أنها صورة بدائية لأطفال البشرية الكبار
ومع الدأب على الدعوة ، وتحين كل فرصة ، والإصرار على المواجهة . . اتبع نوح عليه السلام كل الأساليب فجهر بالدعوة تارة ، ثم زاوج بين الإعلان والإسرار تارة : { ثم إني دعوتهم جهاراً ، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً } . .
وفي أثناء ذلك كله أطمعهم في خير الدنيا والآخرة . أطمعهم في الغفران إذا استغفروا ربهم فهو سبحانه غفار للذنوب : { فقلت : استغفروا ربكم إنه كان غفاراً } . . وأطمعهم في الرزق الوفير الميسور من أسبابه التي يعرفونها ويرجونها وهي المطر الغزير ، الذي تنبت به الزروع ، وتسيل به الأنهار ، كما وعدهم برزقهم الآخر من الذرية التي يحبونها وهي البنين والأموال التي يطلبونها ويعزونها : { يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً } . .
وقد ربط بين الاستغفار وهذه الأرزاق . وفي القرآن مواضع متكررة فيها هذا الارتباط بين صلاح القلوب واستقامتها على هدى الله ، وبين تيسير الأرزاق ، وعموم الرخاء . . جاء في موضع : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السمآء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } وجاء في موضع : { ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم . ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم . . } وجاء في موضع : { ألا تعبدوا إلا الله إنَّني لكم منه نذير وبشير ، وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله . . . } وهذه القاعدة التي يقررها القرآن في مواضع متفرقة ، قاعدة صحيحة تقوم على أسبابها من وعد الله ، ومن سنة الحياة؛ كما أن الواقع العملي يشهد بتحققها على مدار القرون . والحديث في هذه القاعدة عن الأمم لا عن الأفراد . وما من أمة قام فيها شرع الله ، واتجهت اتجاهاً حقيقياً لله بالعمل الصالح والاستغفار المنبئ عن خشية الله . . ما من أمة اتقت الله وعبدته وأقامت شريعته ، فحققت العدل والأمن للناس جميعاً ، إلا فاضت فيها الخيرات ، ومكن الله لها في الأرض واستخلفها فيها بالعمران وبالصلاح سواء .
ولقد نشهد في بعض الفترات أمماً لا تتقي الله ولا تقيم شريعته؛ وهي مع هذا موسع عليها في الرزق ، ممكن لها في الأرض .

. ولكن هذا إنما هو الابتلاء : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } ثم هو بعد ذلك رخاء مؤوف ، تأكله آفات الاختلال الاجتماعي والانحدار الأخلاقي ، أو الظلم والبغي وإهدار كرامة الإنسان . . وأمامنا الآن دولتان كبيرتان موسع عليهما في الرزق ، ممكن لهما في الأرض . إحداهما رأسمالية والأخرى شيوعية . وفي الأولى يهبط المستوى الأخلاقي إلى الدرك الأسفل من الحيوانية ، ويهبط تصور الحياة إلى الدرك الأسفل كذلك فيقوم كله على الدولار وفي الثانية تهدر قيمة « الإنسان » إلى درجة دون الرقيق وتسود الجاسوسية ويعيش الناس في وجل دائم من المذابح المتوالية؛ ويبيت كل إنسان وهو لا يضمن أنه سيصبح ورأسه بين كتفيه لا يطيح في تهمة تحاك في الظلام وليست هذه أو تلك حياة إنسانية توسم بالرخاء
ونمضي مع نوح في جهاده النبيل الطويل . فنجده يأخذ بقومه إلى آيات الله في أنفسهم وفي الكون من حولهم ، وهو يعجب من استهتارهم وسوء أدبهم مع الله ، وينكر عليهم ذلك الاستهتار :
{ ما لكم لا ترجون لله وقاراً؟ وقد خلقكم أطواراً؟ } . .
والأطوار التي يخاطب بها قوم نوح في ذلك الزمان لا بد أن تكون أمراً يدركونه ، أو أن يكون أحد مدلولاتها مما يملك أولئك القوم في ذلك الزمان أن يدركوه ، ليرجو من وراء تذكيرهم به أن يكون له في نفوسهم وقع مؤثر ، يقودهم إلى الاستجابة . والذي عليه أكثر المفسرين أنها الأطوار الجنينية من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى الهيكل إلى الخلق الكامل . . وهذا يمكن أن يدركه القوم إذا ذكر لهم . لأن الأجنة التي تسقط قبل اكتمالها في الأرحام يمكن أن تعطيهم فكرة عن هذه الأطوار . وهذا أحد مدلولات هذه الآية . ويمكن أن يكون مدلولها ما يقوله علم الأجنة . من أن الجنين في أول أمره يشبه حيوان الخلية الواحدة؛ ثم بعد فترة من الحمل يمثل الجنين شبه الحيوان المتعدد الخلايا . ثم يأخذ شكل حيوان مائي . ثم شكل حيوان ثديي . ثم شكل المخلوق الإنساني . . وهذا أبعد عن إدراك قوم نوح . فقد كشف هذا حديثاً جداً . وقد يكون هذا هو مدلول قوله تعالى في موضع آخر بعد ذكر أطوار الجنين : { ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } كما أن هذا النص وذاك قد تكون لهما مدلولات أخرى لم تتكشف للعلم بعد . . ولا نقيدهما . .
وعلى أية حال فقد وجه نوح قومه إلى النظر في أنفسهم ، وأنكر عليهم أن يكون الله خلقهم أطواراً ، ثم هم بعد ذلك لا يستشعرون في أنفسهم توقيراً للجليل الذي خلقهم . . وهذا أعجب وأنكر ما يقع من مخلوق
كذلك وجههم إلى كتاب الكون المفتوح : { ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً؟ وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً؟ } .

. والسماوات السبع لا يمكن حصرها في مدلول مما تقول به الفروض العلمية في التعريف بالكون . فهي كلها مجرد فروض . إنما وجه نوح قومه إلى السماء وأخبرهم كما علمه الله أنها سبع طباق . فيهن القمر نور وفيهن الشمس سراج . وهم يرون القمر ويرون الشمس ، ويرون ما يطلق عليه اسم السماء . وهو هذا الفضاء ذو اللون الأزرق . أما ما هو؟ فلم يكن ذلك مطلوباً منهم . ولم يجزم أحد إلى اليوم بشيء في هذا الشأن . . وهذا التوجيه يكفي لإثارة التطلع والتدبر فيما وراء هذه الخلائق الهائلة من قدرة مبدعة . . وهذا هو المقصود من ذلك التوجيه . ثم عاد نوح فوجه قومه إلى النظر في نشأتهم من الأرض وعودتهم إليها بالموت ليقرر لهم حقيقة إخراجهم منها بالبعث : { والله أنبتكم من الأرض نباتاً ، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً } . .
والتعبير عن نشأة الإنسان من الأرض بالإنبات تعبير عجيب موح . وهو يكرر في القرآن في صور شتى . كقوله تعالى : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً } وهو يشير في هذا إلى نشأة الناس كنشأة النبات . كما يقرن نشأة الإنسان بنشأة النبات في مواضع متفرقة : ففي سورة الحج يجمع بينهما في آية واحدة في صدد البرهنة على حقيقة البعث فيقول : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة ، لنبين لكم ، ونقر في الأرحام ما نشآء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ، ثم لتبلغوا أشدكم ، ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً ، وترى الأرض هامدة ، فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج } وفي سورة « المؤمنون » يذكر أطوار النشأة الجنينية قريباً مما ذكرت في سورة الحج ويجيء بعدها : { فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب } وهكذا .
وهي ظاهرة تستدعي النظر ولا ريب . فهي توحي بالوحدة بين أصول الحياة على وجه الأرض . وأن نشأة الإنسان من الأرض كنشأة النبات . من عناصرها الأولية يتكون . ومن عناصرها الأولية يتغذى وينمو ، فهو نبات من نباتها . وهبة الله هذا اللون من الحياة كما وهب النبات ذلك اللون من الحياة . وكلاهما من نتاج الأرض ، وكلاهما يرضع من هذه الأم
وكذلك ينشئ الإيمان في المؤمن تصوراً حقيقياً حياً لعلاقته بالأرض وبالأحياء . تصوراً فيه دقة العلم وفيه حيوية الشعور . لأنه قائم على الحقيقة الحية في الضمير . وهذه ميزة المعرفة القرآنية الفريدة .
والناس الذين نبتوا من الأرض يعودون إلى جوفها مرة أخرى . ويعيدهم الله إليها كما أنبتهم منها . فيختلط رفاتهم بتربتها ، وتندمج ذراتهم في ذراتها ، كما كانوا فيها من قبل أن ينبتوا منها ثم يخرجهم الذي أول مرة؛ وينبتهم كما أنبتهم أول مرة .

. مسألة سهلة يسيرة لا تستدعي التوقف عندها لحظة ، حين ينظر الإنسان إليها من هذه الزاوية التي يعرضها القرآن منها
ونوح عليه السلام وجه قومه إلى هذه الحقيقة لتستشعر قلوبهم يد الله وهي تنبتهم من هذه الأرض نباتاً ، وهي تعيدهم فيها مرة أخرى . ثم تتوقع النشأة الأخرى وتحسب حسابها ، وهي كائنة بهذا اليسر وبهذه البساطة . بساطة البداهة التي لا تقبل جدلاً
وأخيراً وجه نوح قلوب قومه إلى نعمة الله عليهم في تيسير الحياة لهم على هذه الأرض وتذليلها لسيرهم ومعاشهم وانتقالهم وطرائق حياتهم : { والله جعل لكم الأرض بساطاً ، لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً } . .
وهذه الحقيقة القريبة من مشاهدتهم وإدراكهم تواجههم مواجهة كاملة ، ولا يملكون الفرار منها كما كانوا يفرون من صوت نوح وإنذاره . فهذه الأرض بالقياس إليهم مبسوطة ممهدة حتى جبالها قد جعل لهم عبرها دروباً وفجاجاً ، كما جعل في سهولها من باب أولى . وفي سبلها ودروبها يمشون ويركبون وينتقلون؛ ويبتغون من فضل الله ، ويتعايشون في يسر وتبادل للمنافع والأرزاق .
وهم كانوا يدركون هذه الحقيقة المشاهدة لهم بدون حاجة إلى دراسات علمية عويصة ، يدرسون بها النواميس التي تحكم وجودهم على هذه الأرض ، وتيسر لهم الحياة فيها . وكلما زاد الإنسان علماً أدرك من هذه الحقيقة جوانب جديدة وآفاقاً بعيدة .
هكذا سلك نوح أو حاول أن يسلك إلى آذان قومه وقلوبهم وعقولهم بشتى الأساليب ، ومتنوع الوسائل في دأب طويل ، وفي صبر جميل ، وفي جهد نبيل ، ألف سنة إلا خمسين عاماً . ثم عاد إلى ربه الذي أرسله إليهم ، يقدم حسابه ، ويبث شكواه ، في هذا البيان المفصل ، وفي هذه اللهجة المؤثرة . ومن هذا البيان الدقيق نطلع على تلك الصورة النبيلة من الصبر والجهد والمشقة ، وهي حلقة واحدة في سلسلة الرسالة السماوية لهذه البشرية الضالة العصية فماذا كان بعد كل هذا البيان؟
{ قال نوح : رب إنهم عصوني ، واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً . ومكروا مكراً كباراً . وقالوا لا تذرن آلهتكم ، ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً . وقد أضلوا كثيراً . ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً } . .
رب إنهم عصوني بعد كل هذا الجهاد ، وبعد كل هذا العناء . وبعد كل هذا التوجيه . وبعد كل هذا التنوير . وبعد الإنذار والإطماع والوعد بالمال والبنين والرخاء . . بعد هذا كله كان العصيان . وكان السير وراء القيادات الضالة المضللة ، التي تخدع الأتباع بما تملك من المال والأولاد ، ومظاهر الجاه والسلطان . ممن { لم يزده ماله وولده إلا خساراً } فقد أغراهم المال والولد بالضلال والإضلال ، فلم يكن وراءهما إلا الشقاء والخسران .
هؤلاء القادة لم يكتفوا بالضلال .

. { ومكروا مكراً كباراً } . مكراً متناهياً في الكبر . مكروا لإبطال الدعوة وإغلاق الطريق في وجهها إلى قلوب الناس . ومكروا لتزيين الكفر والضلال والجاهلية التي تخبط فيها القوم . وكان من مكرهم تحريض الناس على الاستمساك بالأصنام التي يسمونها آلهة : { وقالوا : لا تذرن آلهتكم } . . بهذه الإضافة : { آلهتكم } لإثارة النخوة الكاذبة والحمية الآثمة في قلوبهم . وخصصوا من هذه الأصنام أكبرها شأناً فخصوها بالذكر ليهيج ذكرها في قلوب العامة المضللين الحمية والاعتزاز . . { ولا تذرن وداً ، ولا سواعاً ، ولا يغوث ، ويعوق ، ونسراً } . . وهي أكبر آلهتهم التي ظلت تعبد في الجاهليات بعدهم إلى عهد الرسالة المحمدية .
وهكذا تلك القيادات الضالة المضللة تقيم أصناماً ، تختلف أسماؤها وأشكالها ، وفق النعرة السائدة في كل جاهلية؛ وتجمع حواليها الأتباع ، وتهيج في قلوبهم الحمية لهذه الأصنام ، كي توجههم من هذا الخطام إلى حيث تشاء ، وتبقيهم على الضلال الذي يكفل لها الطاعة والانقياد : { وقد أضلوا كثيراً } ككل قيادة ضالة تجمع الناس حول الأصنام . . أصنام الأحجار . وأصنام الأشخاص . وأصنام الأفكار . . سواء للصد عن دعوة الله ، وتوجيه القلوب بعيداً عن الدعاة ، بالمكر الكبّار ، والكيد والإصرار
هنا انبعث من قلب النبي الكريم نوح عليه السلام ذلك الدعاء على الظالمين الضالين المضلين ، الماكرين الكائدين :
{ ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً } . .
ذلك الدعاء المنبعث من قلب جاهد طويلاً ، وعانى كثيراً ، وانتهى بعد كل وسيلة إلى اقتناع بأن لا خير في القلوب الظالمة الباغية العاتية؛ وعلم أنها لا تستحق الهدى ولا تستأهل النجاة .
وقبل أن يعرض السياق بقية دعاء نوح عليه السلام يعرض ما صار إليه الظالمون الخاطئون في الدنيا والآخرة جميعاً فأمر الآخرة كأمر الدنيا حاضر بالقياس إلى علم الله ، وبالقياس إلى الوقوع الثابت الذي لا تغيير فيه :
{ مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً . فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً } .
فبخطيئاتهم وذنوبهم ومعصياتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً . والتعقيب بالفاء مقصود هنا ، لأن إدخالهم النار موصول بإغراقهم؛ والفاصل الزمني القصير كأنه غير موجود ، لأنه في موازين الله لا يحسب شيئاً . فالترتيب مع التعقيب كائن بين إغراقهم في الأرض وإدخالهم النار يوم القيامة . وقد يكون هو عذاب القبر في الفترة القصيرة بين الدنيا والآخرة . . { فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً } . .
لا بنون ولا مال ولا سلطان ولا أولياء من الآلهة المدعاة
وفي آيتين اثنتين قصيرتين ينتهي أمر هؤلاء العصاة العتاة ، ويطوى ذكرهم من الحياة وذلك قبل أن يذكر السياق دعاء نوح عليهم بالهلاك والفناء . . ولا يفصل هنا قصة غرقهم ، ولا قصة الطوفان الذي أغرقهم . لأن الظل المراد إبقاؤه في هذا الموقف هو ظل الإجهاز السريع ، حتى ليعبر المسافة بين الإغراق والإحراق في حرف الفاء على طريقة القرآن في إيقاعاته التعبيرية والتصويرية المبدعة .

فنقف نحن في ظلال السياق لا نتعداها إلى تفصيل قصة الإغراق . . ولا الإحراق . .
ثم يكمل دعاء نوح الأخير؛ وابتهاله إلى ربه في نهاية المطاف :
{ وقال نوح : رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً . إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً . رب اغفر لي ولوالدي ، ولمن دخل بيتي مؤمناً ، وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً } . .
فقد ألهم قلب نوح أن الأرض تحتاج إلى غسل يطهر وجهها من الشر العارم الخالص الذي انتهى إليه القوم في زمانه . وأحياناً لا يصلح أي علاج آخر غير تطهير وجه الأرض من الظالمين ، لأن وجودهم يجمد الدعوة إلى الله نهائياً ، ويحول بينها وبين الوصول إلى قلوب الآخرين . وهي الحقيقة التي عبر عنها نوح ، وهو يطلب الإجهاز على أولئك الظالمين إجهازاً كاملاً لا يبقي منهم دياراً أي صاحب ديار فقال : { إنك إن تذرهم يضلوا عبادك } . . ولفظة { عبادك } توحي بأنهم المؤمنون . فهي تجيء في السياق القرآني في مثل هذا الموضوع بهذا المعنى . وذلك بفتنتهم عن عقيدتهم بالقوة الغاشمة ، أو بفتنة قلوبهم بما ترى من سلطان الظالمين وتركهم من الله في عافيه
ثم إنهم يوجدون بيئة وجواً يولد فيها الكفار ، وتوحي بالكفر من الناشئة الصغار ، بما يطبعهم به الوسط الذي ينشئه الظالمون ، فلا توجد فرصة لترى الناشئة النور ، من خلال ما تغمرهم به البيئة الضالة التي صنعوها . وهي الحقيقة التي أشار إليها قول النبي الكريم نوح عليه السلام ، وحكاها عنه القرآن : { ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } . . فهم يطلقون في جو الجماعة أباطيل وأضاليل ، وينشئون عادات وأوضاعاً ونظماً وتقاليد ، ينشأ معها المواليد فجاراً كفاراً ، كما قال نوح . .
من أجل هذا دعا نوح عليه السلام دعوته الماحقة الساحقة . ومن أجل هذا استجاب الله دعوته ، فغسل وجه الأرض من ذلك الشر؛ وجرف العواثير التي لا تجرفها إلا قوة الجبار القدير .
وإلى جانب الدعوة الساحقة الماحقة التي جعلها خاتمة دعائه وهو يقول : { ولا تزد الظالمين إلا تباراَ } أي هلاكاً ودماراً إلى جانب هذا كان الابتهال الخاشع الودود :
{ رب اغفر لي ولوالدي ، ولمن دخل بيتي مؤمناً ، وللمؤمنين والمؤمنات . . . } .
ودعاء نوح النبي لربه أن يغفر له . . هو الأدب النبوي الكريم في حضرة الله العلي العظيم . . أدب العبد في حضرة الرب . العبد الذي لا ينسى أنه بشر ، وأنه يخطئ ، وأنه يقصر ، مهما يطع ويعبد ، وأنه لا يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله بفضله ، كما قال أخوه النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو الاستغفار الذي دعا قومه العصاة الخاطئين إليه ، فاستكبروا عليه .

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)

هذه السورة تبده الحس قبل أن ينظر إلى المعاني والحقائق الواردة فيها بشيء آخر واضح كل الوضوح فيها . . إنها قطعة موسيقية مطردة الإيقاع ، قوية التنغيم ، ظاهرة الرنين؛ مع صبغة من الحزن في إيقاعها ، ومسحة من الأسى في تنغيمها ، وطائف من الشجى في رنينها ، يساند هذه الظاهرة ويتناسق معها صور السورة وظلالها ومشاهدها ، ثم روح الإيحاء فيها . وبخاصة في الشطر الأخير منها بعد انتهاء حكاية قول الجن ، والاتجاه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الخطاب الذي يثير العطف على شخص الرسول في قلب المستمع لهذه السورة ، عطفاً مصحوباً بالحب وهو يؤمر أن يعلن تجرده من كل شيء في أمر هذه الدعوة إلا البلاغ ، والرقابة الإلهية المضروبة حوله وهو يقوم بهذا البلاغ :
{ قل : إنمآ أدعو ربي ولا أشرك به أحداً . . قل : إني لا أملك لكم ضَرَّاً ولا رشداً قل : إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً ، إلا بلاغاً من الله ورسالاته ، ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيهآ أبداً ، حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً . . قل : إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمداً ، عالم الغيب فلا يُظِهر على غيبه أحداً ، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، وأحاط بما لديهم ، وأحصى كل شيء عدداً } . .
وذلك كله إلى جانب الإيقاع النفسي للحقائق التي وردت في حكاية قول الجن ، وبيانهم الطويل المديد . وهي حقائق ذات ثقل ووزن في الحس والتصور؛ والاستجابة لها تغشى الحس بحالة من التدبر والتفكير ، تناسب مسحة الحزن ورنة الشجى المتمشية في إيقاع السورة الموسيقي
وقراءة هذه السورة بشيء من الترتيل الهادئ ، توقع في الحس هذا الذي وصفناه من المسحة الغالبة عليها . .
فإذا تجاوزنا هذه الظاهرة التي تبده الحس؛ إلى موضوع السورة ومعانيها واتجاهها فإننا نجدها حافلة بشتى الدلالات والإيحاءات .
إنها ابتداء شهادة من عالم آخر بكثير من قضايا العقيدة التي كان المشركون يجحدونها ويجادلون فيها أشد الجدل ، ويرجمون في أمرها رجماً لا يستندون فيه إلى حجة ، ويزعمون أحياناً أن محمداً صلى الله عليه وسلم يتلقى من الجن ما يقوله لهم عنها فتجيء الشهادة من الجن أنفسهم بهذه القضايا التي يجحدونها ويجادلون فيها؛ وبتكذيب دعواهم في استمداد محمد من الجن شيئاً . والجن لم يعلموا بهذا القرآن إلا حين سمعوه من محمد صلى الله عليه وسلم فهالهم وراعهم ومسهم منه ما يدهش ويذهل ، وملأ نفوسهم وفاض حتى ما يملكون السكوت على ما سمعوا ، ولا الإجمال فيما عرفوا ، ولا الاختصار فيما شعروا .

فانطلقوا يحدثون في روعة المأخوذ ، ووهلة المشدوه ، عن هذا الحادث العظيم ، الذي شغل السماء والأرض والإنس والجن والملائكة والكواكب . وترك آثاره ونتائجه في الكون كله . . وهي شهادة لها قيمتها في النفس البشرية حتماً .
ثم إنها تصحيح لأوهام كثيرة عن عالم الجن في نفوس المخاطبين ابتداء بهذه السورة ، وفي نفوس الناس جميعاً من قبل ومن بعد؛ ووضع حقيقة هذا الخلق المغيب في موضعها بلا غلو ولا اعتساف . فقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعتقدون أن للجن سلطاناً في الأرض ، فكان الواحد منهم إذا أمسى بواد أو قفر ، لجأ إلى الاستعاذة بعظيم الجن الحاكم لما نزل فيه من الأرض ، فقال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه . . ثم بات آمناً كذلك كانوا يعتقدون أن الجن تعلم الغيب وتخبر به الكهان فيتنبأون بما يتنبأون . وفيهم من عبد الجن وجعل بينهم وبين الله نسباً ، وزعم له سبحانه وتعالى زوجة منهم تلد له الملائكة
والاعتقاد في الجن على هذا النحو أو شبهه كان فاشياً في كل جاهلية ، ولا تزال الأوهام والأساطير من هذا النوع تسود بيئات كثيرة إلى يومنا هذا
وبينما كانت الأوهام والأساطير تغمر قلوب الناس ومشاعرهم وتصوراتهم عن الجن في القديم ، وما تزال . . نجد في الصف الآخر اليوم منكرين لوجود الجن أصلاً ، يصفون أي حديث عن هذا الخلق المغيب بأنه حديث خرافة . .
وبين الإغراق في الوهم ، والإغراق في الإنكار ، يقرر الإسلام حقيقة الجن ، ويصحح التصورات العامة عنهم ، ويحرر القلوب من خوفها وخضوعها لسلطانهم الموهوم :
فالجن لهم حقيقة موجودة فعلاً وهم كما يصفون أنفسهم هنا : { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدداً } . . ومنهم الضالون المضلون ومنهم السذج الأبرياء الذين ينخدعون : { وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططاً ، وأنا ظننا أن لن تقول الأنس والجن على الله كذباً } . . وهم قابلون للهداية من الضلال ، مستعدون لإدراك القرآن سماعاً وفهماً وتأثراً : { قل : أوحي إليَّ انه استمع نفر من الجن فقالوا : إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ، ولن نشرك بربنا أحداً } . . وأنهم قابلون بخلقتهم لتوقيع الجزاء عليهم وتحقيق نتائج الإيمان والكفر فيهم : { وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به ، فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً . وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون ، فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً ، وأما القاسطون ، فكانوا لجهنم حطباً } . . وأنهم لا ينفعون الإنس حين يلوذون بهم بل يرهقونهم : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } . . وأنهم لا يعلمون الغيب ، ولم تعد لهم صلة بالسماء : { وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً ، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع ، فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً ، وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً } .

. وأنهم لا صهر بينهم وبين الله سبحانه وتعالى ولا نسب : { وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولداً } . . وأن الجن لا قوة لهم مع قوة الله ولا حيلة : { وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هرباً } . .
وهذا الذي ذكر في هذه السورة عن الجن بالإضافة إلى ما جاء في القرآن من صفات أخرى كتسخير طائفة من الشياطين لسليمان وهم من الجن وأنهم لم يعلموا بموته إلا بعد فترة ، فدل هذا على أنهم لا يعلمون الغيب : { فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته ، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } ومثل قوله تعالى عن خصيصة من خصائص إبليس وقبيله وهو من الجن غير أنه تمحض للشر والفساد والإغراء : { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } . . وما يدل عليه من أن كيان الجن غير مرئي للبشر ، في حين أن كيان الإنس مرئي للجن .
هذا بالإضافة إلى ما قرره في سورة الرحمن عن المادة التي منها كيان الجن والمادة التي منها كيان الإنسان في قوله : { خلق الإنسان من صلصال كالفخار ، وخلق الجان من مارج من نار } يعطي صورة عن ذلك الخلق المغيب ، تثبت وجوده ، وتحدد الكثير من خصائصه؛ وفي الوقت ذاته تكشف الأوهام والأساطير ، العالقة بالأذهان عن ذلك الخلق ، وتدع تصور المسلم عنه واضحاً دقيقاً متحرراً من الوهم والخرافة ، ومن التعسف في الإنكار الجامح كذلك
وقد تكفلت هذه السورة بتصحيح ما كان مشركو العرب وغيرهم يظنونه عن قدرة الجن ودورهم في هذا الكون . أما الذين ينكرون وجود هذا الخلق إطلاقاً ، فلا أدري علام يبنون هذا الإنكار ، بصيغة الجزم والقطع ، والسخرية من الاعتقاد بوجوده ، وتسميته خرافة
ألأنهم عرفوا كل ما في هذا الكون من خلائق فلم يجدوا الجن من بينها؟ إن أحداً من العلماء لا يزعم هذا حتى اليوم . وإن في هذه الأرض وحدها من الخلائق الحية لكثيراً مما يكشف وجوده يوماً بعد يوم ، ولم يقل أحد إن سلسلة الكشوف للأحياء في الأرض وقفت أو ستقف في يوم من الأيام
ألأنهم عرفوا كل القوى المكنونة في هذا الكون فلم يجدوا الجن من بينها؟ إن أحداً لا يدعي هذه الدعوى . فهناك قوى مكنونة تكشف كل يوم؛ وهي كانت مجهولة بالأمس . والعلماء جادون في التعرف إلى القوى الكونية ، وهم يعلنون في تواضع قادتهم إليه كشوفهم العلمية ذاتها ، أنهم يقفون على حافة المجهول في هذا الكون ، وأنهم لم يكادوا يبدأون بعد
ألأنهم رأوا كل القوى التي استخدموها ، فلم يروا الجن من بينها؟ ولا هذه .

فإنهم يتحدثون عن الكهرب بوصفه حقيقة علمية منذ توصلوا إلى تحطيم الذرة . ولكن أحداً منهم لم ير الكهرب قط . وليس في معاملهم من الأجهزة ما يفرزون به كهربا من هذه الكهارب التي يتحدثون عنها
ففيم إذن هذا الجزم بنفي وجود الجن؟ ومعلومات البشر عن هذا الكون وقواه وسكانه من الضآلة بحيث لا تسمح لإنسان يحترم عقله أن يجزم بشيء؟ ألأن هذا الخلق المسمى الجن تعلقت به خرافات شتى وأساطير كثيرة؟ إن طريقنا في هذه الحالة هو إبطال هذه الخرافات والأساطير كما صنع القرآن الكريم ، لا التبجح بنفي وجود هذا الخلق من الأساس ، بلا حجة ولا دليل ومثل هذا الغيب ينبغي تلقي نبئه من المصدر الوحيد الموثوق بصحته ، وعدم معارضة هذا المصدر بتصورات سابقة لم تستمد منه . فما يقوله هو كلمة الفصل في مثل هذا الموضوع .
والسورة التي بين أيدينا بالإضافة إلى ما سبق تساهم مساهمة كبيرة في إنشاء التصور الإسلامي عن حقيقة الألوهية ، وحقيقة العبودية ، ثم عن هذا الكون وخلائقه ، والصلة بين هذه الخلائق المنوعة .
وفي مقالة الجن ما يشهد بوحدانية الله ، ونفي الصاحبة والولد ، وإثبات الجزاء في الآخرة؛ وأن أحداً من خلق الله لا يعجزه في الأرض ولا يفلت من يديه ويفوته ، فلا يلاقي جزاءه العادل . وتتكرر بعض هذه الحقائق فيما يوجه للرسول صلى الله عليه وسلم من الخطاب : { قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً } . . . { قل : إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً } . . وذلك بعد شهادة الجن بهذه الحقيقة شهادة كاملة صريحة .
كما أن تلك الشهادة تقرر أن الألوهية لله وحده ، وأن العبودية هي أسمى درجة يرتفع إليها البشر : { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً } . . ويؤكد السياق هذه الحقيقة فيما يوجه للرسول صلى الله عليه وسلم من خطاب : { قل : إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً } .
والغيب موكول لله وحده؛ لا تعرفه الجن : { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً } . . ولا تعرفه الرسل إلا ما يطلعهم الله عليه منه لحكمة يعلمها : { قل : إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمداً . عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً ، إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً . . . } . .
أما العباد والعبيد في هذا الكون ، فقد علمتنا السورة أن بين بعضها والبعض الآخر مشاركات ومنافذ ، ولو اختلف تكوينها ، كالمشاركات التي بين الجن والإنس ، مما حكته السورة وحكاه القرآن في مواضع أخرى .

فالإنسان ليس بمعزل حتى في هذه الأرض عن الخلائق الأخرى . وبينه وبينها اتصال وتفاعل في صورة من الصور . وهذه العزلة التي يحسها الإنسان بجنسه بله العزلة الفردية أو القبلية أو القومية لا وجود لها في طبيعة الكون ولا في واقعه . وأحرى بهذا التصور أن يفسح في شعور الإنسان بالكون وما يعمره من أرواح وقوى وأسرار . قد يجهلها الإنسان ، ولكنها موجودة بالفعل من حوله ، فهو ليس الساكن الوحيد لهذا الكون كما يعن له أحياناً أن يشعر
ثم إن هناك ارتباطاً بين استقامة الخلائق على الطريقة ، وتحركات هذا الكون ونتائجها ، وقدر الله في العباد : { وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم مآء غدقاً لنفتنهم فيه . ومن يُعرِض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعداً } . . وهذه الحقيقة تؤلف جانباً من التصور الإسلامي للارتباطات بين الإنسان والكون وقدر الله .
وهكذا تمتد إيحاءات السورة إلى مساحات ومسافات وأبعاد وآماد واسعة بعيدة ، وهي سورة لا تتجاوز الثماني والعشرين آية ، نزلت في حادثة معينة ومناسبة خاصة . .
فأما هذا الحادث الذي أشارت إليه السورة . حادث استماع نفر من الجن للقرآن . فتختلف بشأنه الروايات .
قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه : « دلائل النبوة » : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا إسماعيل القاضي ، أخبرنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم . انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، أرسلت عليهم الشهب . فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب . قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء . فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء . فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامداً إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا إليه ، فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم قالوا : { إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً } . . وانزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم : { قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن } . . وإنما أوحي إليه قول الجن ( ورواه البخاري عن مسدد بنحو هذا ، وأخرجه مسلم عن شيبان ابن فروخ عن أبي عوانة بهذا النص ) .

فهذه رواية . وهناك رواية أخرى . . قال مسلم في صحيحه : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود وهو ابن أبي هند ، عن عامر ، قال : « سألت علقمة : هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال : فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود رضي الله عنه فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقيل : استطير؟ اغتيل؟ قال : فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم . فلما أصبحنا إذا هو ، جاء من قبل حراء . قال : فقلنا : يا رسول الله ، فقدناك فطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فقال : » أتاني داعي الجن ، فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن « . قال : » فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم « وسألوه الزاد فقال : » كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً ، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم « . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم » .
وهناك رواية أخرى عن ابن مسعود أنه كان تلك الليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن إسناد الرواية الأولى أوثق . فنضرب عن هذه وأمثالها . . ومن الروايتين الواردتين في الصحيحين يتبين أن ابن عباس يقول : إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرف بحضور النفر من الجن ، وأن ابن مسعود يقول : إنهم استدعوه . ويوفق البيهقي بين الروايتين بأنهما حادثان لا حادث واحد .
وهناك رواية ثالثة لابن اسحق قال :
« ولما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف ، والمنعة بهم من قومه ، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل ، فخرج إليهم وحده » .
« قال ابن اسحق : فحدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي قال : » لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم ، وهم إخوة ثلاثة : يا ليل بن عمرو بن عمير ، ومسعود بن عمرو بن عمير ، وحبيب بن عمرو بن عمير . . وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح . فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الله ، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه . فقال له أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة ( أي يمزقها ) إن كان الله أرسلك وقال الآخر : أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟ وقال الثالث : والله لا أكلمك أبداً لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام . ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف . وقد قال لهم فيما ذكر لي : « إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني » . وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه ، فيذئرهم ( أي يحرشهم ) ذلك عليه «

« فلم يفعلوا ، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ، حتى اجتمع عليه الناس ، وألجأوه إلى حائط ( أي بستان ) لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل حبلة من عنب ( أي طاقة من قضبان الكرم ) فجلس فيه ، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف . . فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما ذكر لي : » اللهم إليك اشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني؟ إلى عبد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك . .
قال : فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي تحركت له رحمهما ، فدعوا غلاماً لهما نصرانياً يقال له : عداس . فقال له : خذ قطفاً من هذا العنب ، فضعه في هذا الطبق ، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل ، فقل له يأكل منه . ففعل عداس ، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له : كل . فلما وضع رسول الله صلى الله وعليه وسلم فيه يده قال : « بسم الله » ثم أكل . فنظر عداس في وجهه ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟ » قال : نصراني ، وأنا رجل من أهل نينوى . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ » فقال عداس : وما يدريك ما يونس ابن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ذاك اخي . كان نبياً وأنا نبي » فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه . قال : يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه أما غلامك فقد أفسده عليك فلما جاءهما عداس قالا له : ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال : يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا . لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي . قالا له : ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك ، فإن دينك خير من دينه «

« قال : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعاً إلى مكة ، حين يئس من خير ثقيف ، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي . فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى ، وهم فيما ذكر لي سبعة نفر من جن أهل نصيبين ، فاستمعوا له ، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا . فقص الله خبرهم عليه صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل : { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن } إلى قوله : { ويجركم من عذاب أليم } وقال تبارك وتعالى : { قل أوحى إلي أنه استمع نفر من الجن } إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة » .
وقد علق ابن كثير في تفسيره على رواية ابن اسحاق هذه فقال : « هذا صحيح . ولكن قوله : إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر . فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور . وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان بعد موت عمه . وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره . والله أعلم » .
وإذا صحت رواية ابن إسحاق عن أن الحادث وقع عقب عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من الطائف ، مكسور الخاطر من التصرف اللئيم العنيد الذي واجهه به كبراء ثقيف ، وبعد ذلك الدعاء الكسير الودود لربه ومولاه ، فإنه ليكون عجيباً حقاً من هذا الجانب . أن يصرف الله إليه ذلك النفر من الجن ، وأن يبلغه ما فعلوا وما قالوا لقومهم ، وفيه من الدلالات اللطيفة الموحية ما فيه . .
وأياً كان زمان هذا الحادث وملابساته فهو أمر ولا شك عظيم .

عظيم في دلالاته وفيما انطوى عليه . وفيما أعقبه من مقالة الجن عن هذا القرآن وعن هذا الدين . . فلنمض مع هذا كله كما يعرضه القرآن الكريم .
{ قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا : إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ، ولن نشرك بربنآ أحداً ، وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولداً ، وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططاً ، وأنا ظننآ أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً ، وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً . وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً } . .
والنفر ما بين الثلاثة والتسعة كالرهط . وقيل كانوا سبعة .
وهذا الافتتاح يدل على أن معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بأمر استماع الجن له ، وما كان منهم بعد أن سمعوا القرآن منه . . كانت بوحي من الله سبحانه إليه ، وإخباراً عن أمر وقع ولم يعلم به الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الله أطلعه عليه . وقد تكون هذه هي المرة الأولى ، ثم كانت هناك مرة أو مرات أخرى قرأ النبي فيها على الجن عن علم وقصد . ويشهد بهذا ما جاء بشأن قراءته صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن « أخرجه الترمذي بإسناده عن جابر رضي الله عنه قال : » خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن إلى آخرها ، فسكتوا . فقال : لقد قرأتها على الجن فكانوا أحسن ردوداً منكم . كنت كلما أتيت على قوله تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } قالوا : لا بشيء من نعمك ربنا نكذب ، فلك الحمد « . وهذه الرواية تؤيد رواية ابن مسعود رضي الله عنه التي سبقت الإشارة إليها في المقدمة » .
ولا بد أن هذه المرة التي تحكيها هذه السورة هي التي تحكيها آيات الأحقاف : { وإذ صرفنآ إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن . فلما حضروه قالوا : أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا : يا قومنآ إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى ، مصدقاً لما بين يديه ، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنآ أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أوليآء أولئك في ضلال مبين } فإن هذه الآيات كالسورة تنبئ عن وهلة المفاجأة بهذا القرآن للجن؛ مفاجأة تماسكهم ، وزلزلت قلوبهم ، وهزت مشاعرهم ، وأطلقت في كيانهم دفعة عنيفة من التأثر امتلأ بها كيانهم كله وفاض ، فانطلقوا إلى قومهم بنفوس محتشدة مملوءة فائضة بما لا تملك له دفعاً ، ولا تملك عليه صبراً ، قبل أن تفيضه على الآخرين في هذا الأسلوب المتدفق ، النابض بالحرارة والانفعال ، وبالجد والاحتفال في نفس الأوان ، وهي حالة من يفاجأ أول مرة بدفعة قوية ترج كيانه ، وتخلخل تماسكه ، وتدفعه دفعاً إلى نقل ما يحسه إلى نفوس الآخرين في حماسة واندفاع ، وفي جد كذلك واحتفال
{ إنا سمعنا قرآناً عجباً } .

.
فأول ما بدههم منه أنه « عجب » غير مألوف ، وأنه يثير الدهش في القلوب ، وهذه صفة القرآن عند من يتلقاه بحس واع وقلب مفتوح ، ومشاعر مرهفة ، وذوق ذواق . . عجب ذو سلطان متسلط ، وذو جاذبية غلابة ، وذو إيقاع يلمس المشاعر ويهز أوتار القلوب . . عجب فعلاً . يدل على أن أولئك النفر من الجن كانوا حقيقة يتذوقون
{ يهدي إلى الرشد } . .
وهذه هي الصفة الثانية البارزة كذلك في هذا القرآن ، والتي أحسها النفر من الجن ، حين وجدوا حقيقتها في قلوبهم . . وكلمة الرشد في ذاتها دلالة واسعة المدى . فهو يهدي إلى الهدى والحق والصواب . ولكن كلمة الرشد تلقي ظلاً آخر وراء هذا كله . ظل النضوج والاستواء والمعرفة الرشيدة للهدى والحق والصواب . ظل الإدراك الذاتي البصير لهذه الحقائق والمقومات ، فهو ينشئ حالة ذاتية في النفس تهتدي بها إلى الخير والصواب .
والقرآن يهدي إلى الرشد بما ينشئه في القلب من تفتح وحساسية ، وإدراك ومعرفة ، واتصال بمصدر النور والهدى ، واتساق مع النواميس الإلهية الكبرى . كما يهدي إلى الرشد بمنهجه التنظيمي للحياة وتصريفها . هذا المنهج الذي لم تبلغ البشرية في تاريخها كله ، في ظل حضارة من الحضارات ، أو نظام من الأنظمة ، ما بلغته في ظله أفراداً وجماعات ، قلوباً ومجتمعات ، أخلاقاً فردية ومعاملات اجتماعية . . على السواء .
{ فآمنا به } . .
وهي الاستجابة الطبيعية المستقيمة لسماع القرآن ، وإدراك طبيعته ، والتأثر بحقيقته . . يعرضها الوحي على المشركين الذين كانوا يسمعون هذا القرآن ثم لا يؤمنون . وفي الوقت ذاته ينسبونه إلى الجن ، فيقولون : كاهن أو شاعر أو مجنون . . وكلها صفات للجن فيها تأثير . وهؤلاء هم الجن مبهورين بالقرآن مسحورين متأثرين أشد التأثر ، منفعلين أشد الانفعال ، لا يملكون أنفسهم من الهزة التي ترج كيانهم رجاً . . ثم يعرفون الحق ، فيستجيبون له مذعنين معلنين هذا الإذعان : { فآمنا به } غير منكرين لما مس نفوسهم منه ولا معاندين ، كما كان المشركون يفعلون
{ ولن نشرك بربنا أحداً } . .
فهو الإيمان الخالص الصريح الصحيح . غير مشوب بشرك ، ولا ملتبس بوهم ، ولا ممتزج بخرافة ، الإيمان الذي ينبعث من إدراك حقيقة القرآن ، والحقيقة التي يدعو إليها القرآن ، حقيقة التوحيد لله بلا شريك .
{ وأنه تعالى جد ربنا ، ما اتخذ صاحبة ولا ولداً } . .
والجد : الحظ والنصيب . وهو القدر والمقام . وهو العظمة والسلطان . . وكلها إشعاعات من اللفظ تناسب المقام . والمعنى الإجمالي منها في الآية هو التعبير عن الشعور باستعلاء الله سبحانه وبعظمته وجلاله عن أن يتخذ صاحبة أي زوجة وولداً بنين أو بنات
وكانت العرب تزعم أن الملائكة بنات الله ، جاءته من صهر مع الجن فجاءت الجن تكذب هذه الخرافة الأسطورية في تسبيح لله وتنزيه ، واستنكاف من هذا التصور أن يكون وكانت الجن حرية أن تفجر بهذا الصهر الخرافي الأسطوري لو كان يشبه أن يكون فهي قذيفة ضخمة تطلق على ذلك الزعم الواهي في تصورات المشركين وكل تصور يشبه هذه التصورات ، ممن زعموا أن لله ولداً سبحانه في أية صورة وفي أي تصوير
{ وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططاً ، وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً } .

.
وهذه مراجعة من الجن لما كانوا يسمعون من سفائهم من الشرك بالله ، وادعاء الصاحبة والولد والشريك ، بعدما تبين لهم من سماع القرآن أنه لم يكن حقاً ولا صواباً ، وأن قائليه إذن سفهاء فيهم خرق وجهل؛ وهم يعللون تصديقهم لهؤلاء السفهاء من قبل بأنهم كانوا لا يتصورون أن أحداً يمكن أن يكذب على الله من الإنس أو الجن . فهم يستعظمون ويستهولون أن يجرؤ أحد على الكذب على الله . فلما قال لهم سفهاؤهم : إن لله صاحبة وولداً ، وإن له شريكاً صدقوهم ، لأنهم لم يتصوروا أنهم يكذبون على الله أبداً . . وهذا الشعور من هؤلاء النفر بنكارة الكذب على الله ، هو الذي أهلهم للإيمان . فهو دلالة على أن قلوبهم نظيفة مستقيمة؛ إنما جاءها الضلال من الغرارة والبراءة فلما مسها الحق انتفضت ، وأدركت ، وتذوقت وعرفت . وكان منهم هذا الهتاف المدوي : { إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ، ولن نشرك بربنآ أحداً . وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولداً } . .
وهذه الانتفاضة من مس الحق ، جديرة بأن تنبه قلوباً كثيرة مخدوعة في كبراء قريش ، وزعمهم أن لله شركاء أو صاحبة وولداً . وأن تثير في هذه القلوب الحذر واليقظة ، والبحث عن الحقيقة فيما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم وما يقوله كبراء قريش ، وأن تزلزل الثقة العمياء في مقالات السفهاء من الكبراء وقد كان هذا كله مقصوداً بذكر هذه الحقيقة . وكان جولة من المعركة الطويلة بين القرآن وبين قريش العصية المعاندة؛ وحلقة من حلقات العلاج البطيء لعقابيل الجاهلية وتصوراتها في تلك القلوب . التي كان الكثير منها غراً بريئاً ، ولكنه مضلل مقود بالوهم والخرافة وأضاليل المضللين من القادة الجاهليين
{ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } . .
وهذه إشارة من الجن إلى ما كان متعارفاً في الجاهلية وما يزال متعارفاً إلى اليوم في بيئات كثيرة من أن للجن سلطاناً على الأرض وعلى الناس ، وأن لهم قدرة على النفع والضر ، وأنهم محكمون في مناطق من الأرض أو البحر أو الجو .

. إلى آخر هذه التصورات . مما كان يقتضي القوم إذا باتوا في فلاة أو مكان موحش ، أن يستعيذوا بسيد الوادي من سفهاء قومه ، ثم يبيتون بعد ذلك آمنين
والشيطان مسلط على قلوب بني آدم إلا من اعتصم بالله فهو في نجوة منه وأما من يركن إليه فهو لا ينفعه . فهو له عدو . إنما يرهقه ويؤذيه . . وهؤلاء النفر من الجن يحكون ما كان يحدث : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } . . ولعل هذا الرهق هو الضلال والقلق والحيرة التي تنوش قلوب من يركنون إلى عدوهم ، ولا يعتصمون بالله منه ويستعيذون كما هم مأمورون منذ أبيهم آدم وما كان بينه وبين إبليس من العداء القديم
والقلب البشري حين يلجأ إلى غير الله ، طمعاً في نفع ، أو دفعاً لضر ، لا يناله إلا القلق والحيرة ، وقلة الاستقرار والطمأنينة . . وهذا هو الرهق في أسوأ صورة . . الرهق الذي لا يشعر معه القلب بأمن ولا راحة
إن كل شيء سوى الله وكل أحد ، متقلب غير ثابت ، ذاهب غير دائم ، فإذا تعلق به قلب بقي يتأرجح ويتقلب ويتوقع ويتوجس؛ وعاد يغير اتجاهه كلما ذهب هذا الذي عقد به رجاءه . والله وحده هو الباقي الذي لا يزول . الحي الذي لا يموت . الدائم الذي لا يتغير . فمن اتجه إليه اتجه إلى المستقر الثابت الذي لا يزول ولا يحول :
{ وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً } . .
يتحدثون إلى قومهم ، عن أولئك الرجال من الإنس الذين كانوا يعوذون برجال من الجن ، يقولون : إنهم كانوا يظنون كما أنكم تظنون أن الله لن يبعث رسولا . ولكن ها هو ذا قد بعث رسولاً ، بهذا القرآن الذي يهدي إلى الرشد . . أو أنهم ظنوا أنه لن يكون هناك بعث ولا حساب كما ظننتم فلم يعملوا للآخرة شيئاً ، وكذبوا ما وعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم من أمرها ، لأنهم كانوا لا يعتقدون من قبل فيها .
وكلا الظنين لا ينطبق على الحقيقة ، وفيه جهل وقلة إدراك لحكمة الله في خلق البشر . فقد خلقهم باستعداد مزدوج للخير والشر والهدى والضلال ( كما نعرف من هذه السورة أن للجن هذه الطبيعة المزدوجة كذلك إلا من تمحض منهم للشر كإبليس ، وطرد من رحمة الله بمعصيته الفاجرة ، وانتهى إلى الشر الخالص بلا ازدواج ) ومن ثم اقتضت رحمة الله أن يعين أولئك البشر بالرسل ، يستجيشون في نفوسهم عنصر الخير ، ويستنقذون ما في فطرتهم من استعداد للهدى . فلا مجال للاعتقاد بأنه لن يبعث إليهم أحداً .
هذا إذا كان المعنى هو بعث الرسل .

فأما بعث الآخرة فهو ضرورة كذلك لهذه النشأة التي لا تستكمل حسابها في الحياة الدنيا ، لحكمة أرادها الله ، وتتعلق بتنسيق للوجود يعلمه ولا نعلمه؛ فجعل البعث في الآخرة لتستوفي الخلائق حسابها ، وتنتهي إلى ما تؤهلها له سيرتها الأولى في الحياة الدنيا . فلا مجال للظن بأنه لن يبعث أحداً من الناس . فهذا الظن مخالف للاعتقاد في حكمة الله وكماله . سبحانه وتعالى . .
وهؤلاء النفر من الجن يصححون لقومهم ظنهم ، والقرآن في حكايته عنهم يصحح للمشركين أوهامهم .
ويمضي الجن في حكاية ما لقوه وما عرفوه من شأن هذه الرسالة في جنبات الكون ، وفي أرجاء الوجود ، وفي أحوال السماء والأرض ، لينفضوا أيديهم من كل محاولة لا تتفق مع إرادة الله بهذه الرسالة ، ومن كل ادعاء بمعرفة الغيب ، ومن كل قدرة على شيء من هذا الأمر :
{ وأنا لمسنا السمآء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً . وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً . وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً؟ } . .
وهذه الوقائع التي حكاها القرآن عن الجن من قولهم ، توحي بأنهم قبل هذه الرسالة الأخيرة ربما في الفترة بينها وبين الرسالة التي قبلها وهي رسالة عيسى عليه السلام كانوا يحاولون الاتصال بالملأ الأعلى ، واستراق شيء مما يدور فيه ، بين الملائكة ، عن شؤون الخلائق في الأرض ، مما يكلفون قضاءه تنفيذاً لمشيئة الله وقدره . ثم يوحون بما التقطوه لأوليائهم من الكهان والعرافين ، ليقوم هؤلاء بفتنة الناس وفق خطة إبليس على أيدي هؤلاء الكهان والعرافين الذين يستغلون القليل من الحق فيمزجونه بالكثير من الباطل ، ويروجونه بين جماهير الناس في الفترة بين الرسالتين ، وخلو الأرض من رسول . . أما كيفية هذا وصورته فلم يقل لنا عنها شيئاً ، ولا ضرورة لتقصيها . إنما هي جملة هذه الحقيقة وفحواها .
وهذا النفر من الجن يقول : إن استراق السمع لم يعد ممكناً ، وإنهم حين حاولوه الآن وهو ما يعبرون عنه بلمس السماء وجدوا الطريق إليه محروساً بحرس شديد ، يرجمهم بالشهب ، فتنقض عليهم وتقتل من توجه إليه منهم . ويعلنون أنهم لا يدرون شيئاً عن الغيب المقدر للبشر : { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً } . . فهذا الغيب موكول لعلم الله لا يعلمه سواه . فأما نحن فلا نعلم ماذا قدر الله لعباده في الأرض : قدر أن ينزل بهم الشر . فهم متروكون للضلال ، أم قدر لهم الرشد وهو الهداية وقد جعلوها مقابلة للشر . فهي الخير ، وعاقبتها هي الخير .
وإذا كان المصدر الذي يزعم الكهان أنهم يستقون منه معلوماتهم عن الغيب ، يقرر أنه هو لا يدري عن ذلك شيئاً ، فقد انقطع كل قول ، وبطل كل زعم ، وانتهى أمر الكهانة والعرافة .

وتمحض الغيب لله ، لا يجترئ أحد على القول بمعرفته ، ولا على التنبؤ به . وأعلن القرآن تحرير العقل البشري من كل وهم وكل زعم من هذا القبيل وأعلن رشد البشرية منذ ذلك اليوم وتحررها من الخرافات والأساطير
أما أين يقف ذلك الحرس؟ ومن هو؟ وكيف يرجم الشياطين بالشهب؟ فهذا كله مما لم يقل لنا عنه القرآن ولا الأثر شيئاً ، وليس لنا مصدر سواهما نستقي منه عن هذا الغيب شيئاً؛ ولو علم الله أن في تفصيله خيراً لنا لفعل . وإذ لم يفعل فمحاولتنا نحن في هذا الاتجاه عبث؛ لا يضيف إلى حياتنا ولا إلى معرفتنا المثمرة شيئاً
ولا مجال كذلك للاعتراض أو الجدل حول الشهب ، وأنها تسير وفق نظام كوني ، قبل البعثة وبعدها ووفق ناموس يحاول علماء الفلك تفسيره ، بنظريات تخطئ وتصيب . وحتى على فرض صحة هذه النظريات فإن هذا لا يدخل في موضوعنا ، ولا يمنع أن ترجم الشياطين بهذه الشهب عند انطلاقها . وأن تنطلق هذه الشهب رجوماً وغير رجوم وفق مشيئة الله الذي يجري عليها القانون
فأما الذين يرون في هذا كله مجرد تمثيل وتصوير لحفظ الله للذكر من الالتباس بأي باطل؛ وأنه لا يجوز أن يؤخذ على ظاهره . . فسبب هذا عندهم أنهم يجيئون إلى القرآن بتصورات مقررة سابقة في أذهانهم ، أخذوها من مصادر أخرى غير القرآن . ثم يحاولون أن يفسروا القرآن وفق تلك التصورات السابقة المقررة في أذهانهم من قبل . . ومن ثم يرون الملائكة تمثيلاً لقوة الخير والطاعة . والشياطين تمثيلاً لقوة الشر والمعصية . والرجوم تمثيلاً للحفظ والصيانة . . . الخ لأن في مقرراتهم السابقة قبل أن يواجهوا القرآن أن هذه المسميات : الملائكة والشياطين أو الجن ، لا يمكن أن يكون لها وجود مجسم على هذا النحو ، وأن تكون لها هذه التحركات الحسية ، والتأثيرات الواقعية
من أين جاءوا بهذا؟ من أين جاءوا بهذه المقررات التي يحاكمون إليها نصوص القرآن والحديث؟
إن الطريق الأمثل في فهم القرآن وتفسيره ، وفي التصور الإسلامي وتكوينه . . أن ينفض الإنسان من ذهنه كل تصور سابق ، وأن يواجه القرآن بغير مقررات تصورية أو عقلية أو شعورية سابقة ، وأن يبني مقرراته كلها حسما يصور القرآن والحديث حقائق هذا الوجود . ومن ثم لا يحاكم القرآن والحديث لغير القرآن ، ولا ينفي شيئاً يثبته القرآن ولا يؤوله ولا يثبت شيئاً ينفيه القرآن أو يبطله . وما عدا المثبت والمنفي في القرآن ، فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله وتجربته . .
نقول هذا بطبيعة الحال للمؤمنين بالقرآن . . وهم مع ذلك يؤولون نصوصه هذه لتوائم مقررات سابقة في عقولهم ، وتصورات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الوجود . .
فأما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن ، ويعتسفون نفي هذه التصورات لمجرد أن العلم لم يصل إلى شيء منها ، فهم مضحكون حقاً فالعلم لا يعلم أسرار الموجودات الظاهرة بين يديه ، والتي يستخدمها في تجاربه .

وهذا لا ينفي وجودها طبعاً فضلاً على أن العلماء الحقيقيين أخذت كثرة منهم تؤمن بالمجهول على طريق المتدينين ، أو على الأقل لا ينكرون ما لا يعلمون لأنهم بالتجربة وجدوا أنفسهم عن طريقة العلم ذاته أمام مجاهيل فيما بين أيديهم مما كانوا يحسبون أنهم فرغوا من الإحاطة بعلمه فتواضعوا تواضعاً علمياً نبيلاً ليست عليه سمة الادعاء ، ولا طابع التطاول على المجهول ، كما يتطاول مدعو العلم ومدعو التفكير العلمي ، ممن ينكرون حقائق الديانات ، وحقائق المجهول
إن الكون من حولنا حافل بالأسرار ، عامر بالأرواح ، حاشد بالقوى . وهذه السورة من القرآن كغيرها تمنحنا جوانب من الحقائق في هذا الوجود ، تعين على بناء تصور حقيقي صحيح للوجود وما فيه من قوى وأرواح وحيوات تعج من حولنا ، وتتفاعل مع حياتنا وذواتنا . وهذا التصور هو الذي يميز المسلم ويقف به وسطاً بين الوهم والخرافة ، وبين الادعاء والتطاول . ومصدره هو القرآن والسنة . وإليهما يحاكم المسلم كل تصور آخر وكل قول وكل تفسير . .
وإن هنالك مجالاً للعقل البشري معيناً في ارتياد آفاق المجهول : والإسلام يدفعه إلى هذا دفعاً . . ولكن وراء هذا المجال المعين ما لا قدرة لهذا العقل على ارتياده ، لأنه لا حاجة به إلى ارتياده . وما لا حاجة له به في خلافة الأرض فلا مجال له إليه ، ولا حكمة في إعانته عليه . لأنه ليس من شأنه ، ولا داخلاً في حدود اختصاصه . والقدر الضروري له منه ليعلم مركزه في الكون بالقياس إلى ما حوله ومن حوله ، قد تكفل الله سبحانه ببيانه له ، لأنه أكبر من طاقته . وبالقدر الذي يدخل في طاقته . ومنه هذا الغيب الخاص بالملائكة والشياطين والروح والمنشأ والمصير . .
فأما الذين اهتدوا بهدى الله ، فقد وقفوا في هذه الأمور عند القدر الذي كشفه الله لهم في كتبه وعلى لسان رسله . وأفادوا منه الشعور بعظمة الخالق ، وحكمته في الخلق ، والشعور بموقف الإنسان في الأرض من هذه العوالم والأرواح . وشغلوا طاقاتهم العقلية في الكشف والعلم المهيأ للعقل في حدود هذه الأرض وما حولها من أجرام بالقدر الممكن لهم . واستغلوا ما علموه في العمل والإنتاج وعمران هذه الأرض والقيام بالخلافة فيها ، على هدى من الله ، متجهين إليه ، مرتفعين إلى حيث يدعوهم للارتفاع .
وأما الذين لم يهتدوا بهدى الله فانقسموا فرقتين كبيرتين :
فرقة ظلت تجاهد بعقولها المحدودة لإدراك غير المحدود من ذاته تعالى ، والمعرفة الحقيقية المغيبة عن غير طريق الكتب المنزلة . وكان منهم فلاسفة حاولوا تفسير هذا الوجود وارتباطاته ، فظلوا يتعثرون كالأطفال الذين يصعدون جبلاً شاهقاً لا غاية لقمته ، أو يحاولون حل لغز الوجود وهم لم يتقنوا بعد أبجدية الهجاء وكانت لهم تصورات مضحكة وهم كبار فلاسفة مضحكة حقاً حين يقرنها الإنسان إلى التصور الواضح المستقيم الجميل الذي ينشئه القرآن .

مضحكة بعثراتها . ومضحكة بمفارقاتها . ومضحكة بتخلخلها . ومضحكة بقزامتها بالقياس إلى عظمة الوجود الذي يفسرونه بها . . لا أستثني من هذا فلاسفة الإغريق الكبار ، ولا فلاسفة المسلمين الذين قلدوهم في منهج التفكير . ولا فلاسفة العصر الحديث وذلك حين يقاس تصورهم إلى التصور الإسلامي للوجود .
فهذه فرقة . فأما الفرقة الأخرى ، فقد يئست من جدوى هذا الاتجاه في المعرفة . فعدلت عنه إلى حصر نفسها وجهدها في العلم التجريبي والتطبيقي . ضاربة صفحاً عن المجهول ، الذي ليس إليه من سبيل . وغير مهتدية فيه بهدى الله . لأنها لا تستطيع أن تدرك الله وهذه الفرقة كانت في أوج غلوائها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر . ولكنها أخذت منذ مطلع هذا القرن تفيق من الغرور العلمي الجامح ، على هروب المادة من بين أيديها وتحولها إلى إشعاع « مجهول الكنه » ويكاد يكون مجهول القانون
وبقي الإسلام ثابتاً على صخرة اليقين . يمنح البشر من المجهول القدر الذي لهم فيه خير . ويوفر طاقتهم العقلية للعمل في خلافة الأرض . ويهيئ لعقولهم المجال الذي تعمل فيه في أمن . ويهديهم للتي هي أقوم في المجهول وغير المجهول
بعد ذلك أخذ الجن يصفون حالهم وموقفهم من هدى الله؛ بما نفهم منه أن لهم طبيعة مزدوجة كطبيعة الإنسان في الاستعداد للهدى والضلال . ويحدثنا هذا النفر عن عقيدتهم في ربهم وقد آمنوا به . وعن ظنهم بعاقبة من يهتدي ومن يضل :
{ وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك ، كنا طرآئق قدداً . وأنا ظننآ أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هرباً . وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به ، فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً . وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون : فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً . وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً } . .
وهذا التقرير من الجن بأن منهم صالحين وغير صالحين ، مسلمين وقاسطين ، يفيد ازدواج طبيعة الجن ، واستعدادهم للخير والشر كالإنسان إلا من تمحض للشر منهم وهو إبليس وقبيله وهو تقرير ذو أهمية بالغة في تصحيح تصورنا العام عن هذا الخلق . فأغلبنا حتى الدارسين الفاقهين على اعتقاد أن الجن يمثلون الشر ، وقد خلصت طبيعتهم له . وأن الإنسان وحده بين الخلائق هو ذو الطبيعة المزدوجة . وهذا ناشئ من مقررات سابقة في تصوراتنا عن حقائق هذا الوجود كما أسلفنا . وقد آن أن نراجعها على مقررات القرآن الصحيحة
وهذا النفر من الجن يقول : { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك } . . ويصف حالهم بصفة عامة : { كنا طرائق قدداً } .

. أي لكل منا طريقته المنفصلة المقدودة المنقطعة عن طريقة الفريق الآخر .
ثم بين النفر معتقدهم الخاص بعد إيمانهم :
{ وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ، ولن نعجزه هرباً } . .
فهم يعرفون قدرة الله عليهم في الأرض ، ويعرفون عجزهم عن الهرب من سلطانه سبحانه والإفلات من قبضته ، والفكاك من قدره . فلا هم يعجزون الله وهم في الأرض ، ولا هم يعجزونه بالهرب منها . وهو ضعف العبد أمام الرب ، وضعف المخلوق أمام الخالق . والشعور بسلطان الله القاهر الغالب .
وهؤلاء الجن هم الذين يعوذ بهم رجال من الإنس وهم الذين يستعين بهم الإنس في الحوائج وهم الذين جعل المشركون بين الله سبحانه وبينهم نسباً وهؤلاء هم يعترفون بعجزهم وقدرة الله . وضعفهم وقوة الله ، وانكسارهم وقهر الله ، فيصححون ، لا لقومهم فحسب بل للمشركين كذلك ، حقيقة القوة الواحدة الغالبة على هذا الكون ومن فيه .
ثم يصفون حالهم عندما سمعوا الهدى ، وقد قرروه من قبل ، ولكنهم يكررونه هنا بمناسبة الحديث عن فرقهم وطوائفهم تجاه الإيمان :
{ وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به } . .
كما ينبغي لكل من يسمع الهدى . وهم سمعوا القرآن . ولكنهم يسمونه هدى كما هي حقيقته ونتيجته . ثم يقررون ثقتهم في ربهم ، وهي ثقة المؤمن في مولاه :
{ فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً } . .
وهي ثقة المطمئن إلى عدل الله ، وإلى قدرته ، ثم إلى طبيعة الإيمان وحقيقته . . فالله سبحانه عادل . ولن يبخس المؤمن حقه ، ولن يرهقه بما فوق طاقته . والله سبحانه قادر . فسيحمي عبده المؤمن من البخس وهو نقص الاستحقاق إطلاقاً ، ومن الرهق وهو الجهد والمشقة فوق الطاقة . ومن ذا الذي يملك أن يبخس المؤمن أو يرهقه وهو في حماية الله ورعايته؟ ولقد يقع للمؤمن حرمان من بعض أعراض هذه الحياة الدنيا؛ ولكن هذا ليس هو البخس ، فالعوض عما يحرمه منها يمنع عنه البخس . وقد يصيبه الأذى من قوى الأرض؛ لكن هذا ليس هو الرهق ، لأن ربه يدركه بطاقة تحتمل الألم وتفيد منه وتكبر به وصلته بربه تهوّن عليه المشقة فتمحضها لخيره في الدنيا والآخرة .
المؤمن إذن في أمان نفسي من البخس ومن الرهق : { فلا يخاف بخساً ولا رهقاً } . . وهذا الأمان يولد الطمأنينة والراحة طوال فترة العافية ، فلا يعيش في قلق وتوجس . حتى إذا كانت الضراء لم يهلع ولم يجزع ، ولم تغلق على نفسه المنافذ . . إنما يعد الضراء ابتلاء من ربه يصبر له فيؤجر . ويرجو فرج الله منها فيؤجر . وهو في الحالين لم يخف بخساً ولا رهقاً . ولم يكابد بخساً ولا رهقاً .
وصدق النفر المؤمن من الجن في تصوير هذه الحقيقة المنيرة .
ثم يقررون تصورهم لحقيقة الهدى والضلال ، والجزاء على الهدى والضلال :
{ وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون .

فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً . وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً } . .
والقاسطون : الجائرون المجانبون للعدل والصلاح . وقد جعلهم هذا النفر من الجن فريقاً يقابل المسلمين . وفي هذا إيماءة لطيفة بليغة المدلول . فالمسلم عادل مصلح ، يقابله القاسط : الجائر المفسد :
{ فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً } . . والتعبير بلفظ { تحروا } يوحي بأن الاهتداء إلى الإسلام معناه الدقة في طلب الرشد والاهتداء ضد الغي والضلال معناه تحري الصواب واختياره عن معرفة وقصد بعد تبين ووضوح . وليس هو خبط عشواء ولا انسياقاً بغير إدراك . ومعناه أنهم وصلوا فعلاً إلى الصواب حين اختاروا الإسلام . . وهو معنى دقيق وجميل . .
{ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً } أي تقرر أمرهم وانتهى إلى أن يكونوا حطباً لجهنم ، تتلظى بهم وتزداد اشتعالاً ، كما تتلظى النار بالحطب . .
ودل هذا على أن الجن يعذبون بالنار . ومفهومه أنهم كذلك ينعمون بالجنة . . هكذا يوحي النص القرآني . وهو الذي نستمد منه تصورنا . فليس لقائل بعد هذا أن يقول شيئاً يستند فيه إلى تصور غير قرآني ، عن طبيعة الجن وطبيعة النار أو طبيعة الجنة . . فسيكون ما قاله حقاً بلا جدال
وما ينطبق على الجن مما بينوه لقومهم ، ينطبق على الإنس وقد قاله لهم الوحي بلسان نبيهم . .
وإلى هنا كان الوحي يحكي قول الجن بألفاظهم المباشرة عن أنفسهم؛ ثم عدل عن هذا النسق إلى تلخيص مقالة لهم عن فعل الله مع الذين يستقيمون على الطريقة إليه ، وذكرها بفحواها لا بألفاظها :
{ وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم مآء غدقاً لنفتنهم فيه ، ومن يُعرِض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعداً } . .
يقول الله سبحانه إنه كان من مقالة الجن عنا : ما فحواه أن الناس لو استقاموا على الطريقة ، أو أن القاسطين لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم نحن ماء موفوراً نغدقه عليهم ، فيفيض عليهم بالرزق والرخاء . . { لنفتنهم فيه } ونبتليهم أيشكرون أم يكفرون .
وهذا العدول عن حكاية قول الجن إلى ذكر فحوى قولهم في هذه النقطة ، يزيد مدلولها توكيداً بنسبة الإخبار فيها والوعد إلى الله سبحانه . ومثل هذه اللفتات كثير في الأسلوب القرآني ، لإحياء المعاني وتقويتها وزيادة الانتباه إليها .
وهذه اللفتة تحتوي جملة حقائق ، تدخل في تكوين عقيدة المؤمن ، وتصوره عن جريان الأمور وارتباطاتها .
والحقيقة الأولى : هي الارتباط بين استقامة الأمم والجماعات على الطريقة الواحدة الواصلة إلى الله ، وبين إغداق الرخاء وأسبابه؛ وأول أسبابه توافر الماء واغدوداقه . وما تزال الحياة تجري على خطوات الماء في كل بقعة . وما يزال الرخاء يتبع هذه الخطوات المباركة حتى هذا العصر الذي انتشرت فيه الصناعة ، ولم تعد الزراعة هي المصدر الوحيد للرزق والرخاء . ولكن الماء هو الماء في أهميته العمرانية . .
وهذا الارتباط بين الاستقامة على الطريقة وبين الرخاء والتمكين في الأرض حقيقة قائمة .

وقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف ، حتى استقاموا على الطريقة ، ففتحت لهم الأرض التي يغدودق فيها الماء ، وتتدفق فيها الأرزاق . ثم حادوا عن الطريقة فاستلبت منهم خيراتهم استلاباً . وما يزالون في نكد وشظف ، حتى يفيئوا إلى الطريقة ، فيتحقق فيهم وعد الله .
وإذا كانت هناك أمم لا تستقيم على طريقة الله ، ثم تنال الوفر والغنى ، فإنها تعذب بآفات أخرى في إنسانيتها أو أمنها أو قيمة الإنسان وكرامته فيها ، تسلب عن ذلك الغنى والوفر معنى الرخاء . وتحيل الحياة فيها لعنة مشؤومة على إنسانية الإنسان وخلقه وكرامته وأمنه وطمأنينته ( كما سبق بيانه في سورة نوح ) . .
والحقيقة الثانية التي تنبثق من نص هذه الآية : هي أن الرخاء ابتلاء من الله للعباد وفتنة . ونبلوكم بالشر والخير فتنة . والصبر على الرخاء والقيام بواجب الشكر عليه والإحسان فيه أشق وأنذر من الصبر على الشدة على عكس ما يلوح للنظرة العجلى . . فكثيرون هم الذين يصبرون على الشدة ويتماسكون لها ، بحكم ما تثيره في النفس من تجمع ويقظة ومقاومة؛ ومن ذكر لله والتجاء إليه واستعانة به ، حين تسقط الأسناد في الشدة فلا يبقى إلا ستره . فأما الرخاء فينسي ويلهي ، ويرخي الأعضاء وينيم عناصر المقاومة في النفس ، ويهيئ الفرصة للغرور بالنعمة والاستنامة للشيطان
إن الابتلاء بالنعمة في حاجة ملحة إلى يقظة دائمة تعصم من الفتنة . . نعمة المال والرزق كثيراً ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر ، مع السرف أو مع البخل ، وكلاهما آفة للنفس والحياة . . ونعمة القوة كثيراً ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر مع الطغيان والجور ، والتطاول بالقوة على الحق وعلى الناس ، والتهجم على حرمات الله . . ونعمة الجمال كثيراً ما تقود إلى فتنة الخيلاء والتيه وتتردى في مدارك الإثم والغواية . . ونعمة الذكاء كثيراً ما تقود إلى فتنة الغرور والاستخفاف بالآخرين وبالقيم والموازين . . وما تكاد تخلو نعمة من الفتنة إلا من ذكر الله فعصمه الله . .
والحقيقة الثالثة أن الإعراض عن ذكر الله ، الذي قد تنتهي إليه فتنة الابتلاء بالرخاء ، مؤد إلى عذاب الله . والنص يذكر صفة للعذاب { يسلكه عذاباً صعداً } . . توحي بالمشقة مذ كان الذي يصعد في المرتفع يجد مشقة في التصعيد كلما تصعد . وقد درج القرآن على الرمز للمشقة بالتصعيد . فجاء في موضع : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السمآء } وجاء في موضع : { سأرهقه صعوداً } وهي حقيقة مادية معروفة . والتقابل واضح بين الفتنة بالرخاء وبين العذاب الشاق عند الجزاء
والآية الثالثة في السياق يجوز أن تكون حكاية لقول الجن ، ويجوز أن تكون من كلام الله ابتداء :
{ وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً } .

.
وهي في الحالتين توحي بأن السجود أو مواضع السجود وهي المساجد لا تكون إلا لله ، فهناك يكون التوحيد الخالص ، ويتوارى كل ظل لكل أحد ، ولكل قيمة ، ولكل اعتبار . وينفرد الجو ويتمحض للعبودية الخالصة لله . ودعاء غير الله قد يكون بعبادة غيره؛ وقد يكون بالالتجاء إلى سواه؛ وقد يكون باستحضار القلب لأحد غير الله .
فإن كانت الآية من مقومات الجن فهي توكيد لما سبق من قولهم : { ولن نشرك بربنا أحداً } في موضع خاص ، وهو موضع العبادة والسجود . والسجود . وإن كانت من قول الله ابتداء ، فهي توجيه بمناسبة مقالة الجن وتوحيدهم لربهم ، يجيء في موضعه على طريقة القرآن :
وكذلك الآية التالية :
{ وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً } . .
أي متجمعين متكتلين عليه ، حين قام يصلي ويدعو ربه . والصلاة معناها في الأصل الدعاء .
فإذا كانت من مقولات الجن ، فهي حكاية منهم عن مشركي العرب ، الذين كانوا يتجمعون فئات حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي أو وهو يتلو القرآن كما قال في « سورة المعارج » : { فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين؟ } يتسمعون في دهش ولا يستجيبون . أو وهم يتجمعون لإيقاع الأذى به ، ثم يعصمه الله منهم كما وقع ذلك مراراً . . ويكون قول الجن هذا لقومهم للتعجيب من أمر هؤلاء المشركين
وإذا كانت من إخبار الله ابتداء ، فقد تكون حكاية عن حال هذا النفر من الجن ، حين سمعوا القرآن . . العجب . . فأخذوا ودهشوا ، وتكأكأوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم لصق بعض ، كما تكون لبدة الصوف المنسوق شعرها ، بعضه لصق بعض . . ولعل هذا هو الأقرب لمدلول الآية لاتساقه مع العجب والدهشة والارتياع والوهلة البادية في مقالة الجن كلها والله أعلم . .
وعندما تنتهي حكاية مقالة الجن عن هذا القرآن ، وعن هذا الأمر ، الذي فاجأ نفوسهم ، وهز مشاعرهم وأطلعهم على انشغال السماء والأرض والملائكة والكواكب بهذا الأمر؛ وعلى ما أحدثه من آثار في نسق الكون كله؛ وعلى الجد الذي يتضمنه ، والنواميس التي تصاحبه .
عندما ينتهي هذا كله يتوجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في إيقاعات جادة صارمة حاسمة ، بالتبليغ ، والتجرد من هذا الأمر كله بعد التبليغ ، والتجرد كذلك من كل دعوى في الغيب أو في حظوظ الناس ومقادرهم . . وذلك كله في جو عليه مسحة من الحزن والشجى تناسب ما فيه من جد ومن صرامة :
{ قل : إنمآ أدعو ربي ولا أشرك به أحداً . قل : إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً . قل : إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً . إلا بلاغاً من الله ورسالاته . ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيهآ أبداً .

حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً ، . قل : إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمداً . عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً . إلا من ارتضى من رسول . فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً . ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً } . .
قل يا محمد للناس : { إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحداً } . . وهذا الإعلان يجيء بعد إعلان الجن لقومهم : { ولن نشرك بربنا أحداً } . . فيكون له طعمه وله إيقاعه . فهي كلمة الإنس والحق ، يتعارفان عليها : فمن شذ عنها كالمشركين فهو يشذ عن العالمين .
قل : { إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً } . . يؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتجرد ، ويؤمر أن ينفض يديه من كل ادعاء لشيء هو من خصائص الله الواحد الذي يعبده ولا يشرك به أحداً . فهو وحده الذي يملك الضر ويملك الخير . ويجعل مقابل الضر الرشد ، وهو الهداية ، كما جاء التعبير في مقالة الجن من قبل : { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً } . . فيتطابق القولان في اتجاههما وفي ألفاظهما تقريباً ، وهو تطابق مقصود في القصة والتعقيب عليها ، كما يكثر هذا في الأسلوب القرآني . .
وبهذا وذلك يتجرد الجن وهو موضع الشبهة في المقدرة على النفع والضر ويتجرد النبي صلى الله عليه وسلم وتتفرد الذات الإلهية بهذا الأمر . ويستقيم التصور الإيماني على هذا التجرد الكامل الصريح الواضح .
{ قل : إني لن يجيرني من الله أحداً ولن أجد من دونه ملتحداً . إلا بلاغاً من الله ورسالاته . . . } . .
وهذه هي القولة الرهيبة ، التي تملأ القلب بجدية هذا الأمر . . أمر الرسالة والدعوة . . والرسول صلى الله عليه وسلم يؤمر بإعلان هذه الحقيقة الكبيرة . . إني لن يجيرني من الله أحد ، ولن أجد من دونه ملجأ أو حماية ، إلا أن أبلغ هذا الأمر ، وأؤدي هذه الأمانة ، فهذا هو الملجأ الوحيد ، وهذه هي الإجارة المأمونة . إن الأمر ليس أمري ، وليس لي فيه شيء إلا التبليغ ، ولا مفر لي من هذا التبليغ . فأنا مطلوب به من الله ولن يجيرني منه أحد ، ولن أجد من دونه ملجأ يعصمني ، إلا أن أبلغ وأؤدي
يا للرهبة ويا للروعة ويا للجد
إنها ليست تطوعاً يتقدم به صاحب الدعوة . إنما هو التكليف . التكليف الصارم الجازم ، الذي لا مفر من أدائه . فالله من ورائه
وإنها ليست اللذة الذاتية في حمل الهدى والخير للناس . إنما هو الأمر العلوي الذي لا يمكن التلفت عنه ولا التردد فيه وهكذا يتبين أمر الدعوة ويتحدد . . إنها تكليف وواجب . وراءه الهول ، ووراءه الجد ، ووراءه الكبير المتعال
{ ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً .

حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً } .
فهو التهديد الظاهر والملفوف لمن يبلغه هذا الأمر ثم يعصي . بعد التلويح بالجد الصارم في التكليف بذلك البلاغ .
وإذا كان المشركون يركنون إلى قوة وإلى عدد ، ويقيسون قوتهم إلى قوة محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين القلائل معه ، فسيعلمون حين يرون ما يوعدون إما في الدنيا وإما في الآخرة { من أضعف ناصراً وأقل عدداً } . . وأي الفريقين هو الضعيف المخذول القليل الهزيل
ونعود إلى مقالة الجن فنجدهم يقولون : { وأنا ظننآ أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هرباً } فنجد التعقيب على القصة يتناسق معها . ونجد القصة تمهد للتعقيب فيجيء في أوانه وموعده المطلوب
ثم يؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتجرد وينفض يديه من أمر الغيب أيضاً :
{ قل : إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمداً } . . .
إن الدعوة ليست من أمره ، وليس له فيها شيء ، إلا أن يبلغها قياماً بالتكليف ، والتجاء بنفسه إلى منطقة الأمان الذي لا يبلغه إلا أن يبلغ ويؤدي . وإن ما يوعدونه على العصيان والتكذيب هو كذلك من أمر الله ، وليس له فيه يد ، ولا يعلم له موعداً . فما يدري أقريب هو أم بعيد يجعل له الله أمداً ممتداً . سوء عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة . فكله غيب في علم الله؛ وليس للنبي من أمره شيء ، ولا حتى علم موعده متى يكون والله سبحانه هو المختص بالغيب دون العالمين :
{ عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً } . .
ويقف النبي صلى الله عليه وسلم متجرداً من كل صفة إلا صفة العبودية . فهو عبد الله . وهذا وصفه في أعلى درجاته ومقاماته . . ويتجرد التصور الإسلامي من كل شبهة ومن كل غبش . والنبي صلى الله عليه وسلم يؤمر أن يبلغ فيبلغ : { قل : إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمداً ، عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً } . .
هناك فقط استثناء واحد . . وهو ما يأذن به الله من الغيب ، فيطلع عليه رسله ، في حدود ما يعاونهم على تبليغ دعوته إلى الناس . فما كان ما يوحي به إليهم إلا غيباً من غيبه ، يكشفه لهم في حينه ويكشفه لهم بقدر ، ويرعاهم وهم يبلغونه ، ويراقبهم كذلك . . ويؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلن هذا في صورة جادة رهيبة :
{ إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، وأحاط بما لديهم ، وأحصى كل شيء عدداً } . .
فالرسل الذين يرتضيهم الله لتبليغ دعوته ، يطلعهم على جانب من غيبه ، هو هذا الوحي : موضوعه ، وطريقته ، والملائكة الذين يحملونه ، ومصدره ، وحفظه في اللوح المحفوظ .

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

يروى في سبب نزول هذه السورة أن قريشاً اجتمعت في دار الندوة تدبر كيدها للنبي صلى الله عليه وسلم وللدعوة التي جاءهم بها . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتم له؛ والتف بثيابه وتزمل ونام مهموماً . فجاءه جبريل عليه السلام بشطر هذه السورة الأول { يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً . . الخ } وتأخر شطر السورة الثاني من قوله تعالى : { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل . . } إلى آخر السورة . تأخر عاماً كاملاً . حين قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة من الذين معه ، حتى ورمت أقدامهم ، فنزل التخفيف في الشطر الثاني بعد اثني عشر شهراً .
وتروى رواية أخرى تتكرر بالنسبة لسورة المدثر كذلك كما سيجيء في عرض سورة المدثر إن شاء الله .
وخلاصتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحنث في غار حراء قبل البعثة بثلاث سنوات أي يتطهر ويتعبد وكان تحنثه عليه الصلاة والسلام شهراً من كل سنة هو شهر رمضان يذهب فيه إلى غار حراء على مبعدة نحو ميلين من مكة ، ومعه أهله قريباً منه . فيقيم فيه هذا الشهر ، يطعم من جاءه من المساكين ، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون ، وفيما وراءها من قدرة مبدعة . . وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة ، وتصوراتها الواهية ، ولكن ليس بين يديه طريق واضح ، ولا منهج محدد ، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه .
وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفاً من تدبير الله له ليعده لما ينتظره من الأمر العظيم . ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه ، ويخلص من زحمة الحياة وشواغلها الصغيرة؛ ويفرغ لموحيات الكون ، ودلائل الإبداع؛ وتسبح روحه مع روح الوجود؛ وتتعانق مع هذا الجمال وهذا الكمال؛ وتتعامل مع الحقيقة الكبرى وتمرن على التعامل معها في إدراك وفهم .
ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى . . لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت ، وانقطاع عن شواغل الأرض ، وضجة الحياة ، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة .
لا بد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة . فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له ، فلا تحاول تغييره . أما الانخلاع منه فترة ، والانعزال عنه ، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير ، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر ، ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس ، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع
وهكذا دبر الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى ، وتغيير وجه الأرض ، وتعديل خط التاريخ .

. دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات . ينطلق في هذه العزلة شهراً من الزمان ، مع روح الوجود الطليقة ، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون ، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله .
فلما أن أذن ، وشاء سبحانه أن يفيض من رحمته هذا الفيض على أهل الأرض ، جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء . . وكان ما قصه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره معه فيما رواه ابن إسحق عن وهب بن كيسان ، عن عبيد ، قال :
« فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : أقرأ . قال : قلت : ما أقرأ ( وفي الروايات : ما أنا بقارئ ) قال : فغتني به ( أي ضغطني ) حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال : اقرأ . قلت : ما أقرأ . قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال : اقرأ . قلت : ما أقرأ : قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال : اقرأ . قال : قلت : ماذا أقرأ؟ قال : ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي . فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذى علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم } . . قال : فقرأتها . ثم انتهى فانصرف عني . وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتاباً . قال : فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل . قال : فرفعت رأسي إلى السماء أنظر . فإذا جبريل في صورة رجل ، صاف قدميه في أفق السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل . قال : فوقفت أنظر إليه . فما أتقدم وما أتأخر . وجعلت أحول وجهي عنه في آفاق السماء . قال : فلا أنظر في ناحية إلا رأيته كذلك . فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، فبلغوا أعلى مكة ، ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك . ثم انصرف عني وانصرفت راجعاً إلى أهلي ، حتى أتيت خديجة ، فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها ( أي ملتصقاً بها مائلاً إليها ) فقالت : يا أبا القاسم أين كنت؟ فوالله لقد بعثت في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إليّ . ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت : » أبشر يا بن عم واثبت . فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة «
ثم فتر الوحي مدة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كان بالجبل مرة أخرى فنظر فإذا جبريل ، فأدركته منه رجفة ، حتى جثى وهوى إلى الأرض ، وانطلق إلى أهله يرجف ، يقول :

« زملوني . دثروني » ففعلوا . وظل يرتجف مما به من الروع . وإذا جبريل يناديه : { يا أيها المزمل } . . ( وقيل : يا أيها المدثر ) والله أعلم أيتهما كانت .
وسواء صحت الرواية الأولى عن سبب نزول شطر السورة . أو صحت هذه الرواية الثانية عن سبب نزول مطلعها ، فقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه لم يعد هناك نوم وأن هنالك تكليفاً ثقيلاً ، وجهاداً طويلاً ، وأنه الصحو والكد والجهد منذ ذلك النداء الذي يلاحقه ولا يدعه ينام
وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم { قم } . . فقام . وظل قائماً بعدها أكثر من عشرين عاماً لم يسترح . ولم يسكن . ولم يعش لنفسه ولا لأهله . قام وظل قائماً على دعوة الله . يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به . عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض . عبء البشرية كلها ، وعبء العقيدة كلها ، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى .
حمل عبء الكفاح والجهاد في ميدان الضمير البشري الغارق في أوهام الجاهلية وتصوراتها ، المثقل بأثقال الأرض وجواذبها ، المكبل بأوهاق الشهوات وأغلالها . . حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركام الجاهلية والحياة الأرضية بدأ معركة أخرى في ميدان آخر . . بل معارك متلاحقة . . مع أعداء دعوة الله المتألبين عليها وعلى المؤمنين بها ، الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها ، قبل أن تنمو وتمد جذورها في التربة وفروعها في الفضاء ، وتظلل مساحات أخرى . . ولم يكد يفرغ من معارك الجزيرة العربية حتى كانت الروم تعدّ لهذه الأمة الجديدة وتتهيأ للبطش بها على تخومها الشمالية .
وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولى معركة الضمير قد انتهت . فهي معركة خالدة ، الشيطان صاحبها؛ وهو لا يني لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق الضمير الإنساني . . ومحمد صلى الله عليه وسلم قائم على دعوة الله هناك . وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة . في شظف من العيش والدنيا مقبلة عليه . وفي جهد وكد والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمن والراحة . وفي نصب دائم لا ينقطع . . وفي صبر جميل على هذا كله . وفي قيام الليل . وفي عبادة لربه ، وترتيل لقرآنه وتبتل إليه ، كما أمره أن يفعل وهو يناديه : { يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا . إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا . إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا . إن لك في النهار سبحاً طويلا . واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا .

واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا } .
وهكذا قام محمد صلى الله عليه وسلم وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاماً . لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد . منذ أن سمع النداء العلوي الجليل وتلقى منه التكليف الرهيب . . جزاه الله عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء . .
وشطر السورة الأول يمضي على إيقاع موسيقي واحد . ويكاد يكون على روي واحد . هو اللام المطلقة الممدودة . وهو إيقاع رخي وقور جليل؛ يتمشى مع جلال التكليف ، وجدية الأمر ، ومع الأهوال المتتابعة التي يعرضها السياق . . هول القول الثقيل الذي أسلفنا ، وهول التهديد المروّع : { وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً ، إن لدينآ أنكالاً وجحيماً ، وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً } . . وهول الموقف الذي يتجلى في مشاهد الكون وفي أغوار النفوس : { يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلاً } . . { فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً ، السمآء منفطر به ، كان وعده مفعولاً } .
فأما الآية الآخيرة الطويلة التي تمثل شطر السورة الثاني؛ فقد نزلت بعد عام من قيام الليل حتى ورمت أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم وطائفة من الذين معه . والله يعدّه ويعدّهم بهذا القيام لما يعدّهم له فنزل التخفيف ، ومعه التطمين بأنه اختيار الله لهم وفق علمه وحكمته بأعبائهم وتكاليفهم التي قدرها في علمه عليهم . . أما هذه الآية فذات نسق خاص . فهي طويلة وموسيقاها متموجة عريضة ، وفيها هدوء واستقرار ، وقافية تناسب هذا الاستقرار : وهي الميم وقبلها مد الياء : { غفور رحيم } .
والسورة بشطريها تعرض صفحة من تاريخ هذه الدعوة . تبدأ بالنداء العلوي الكريم بالتكليف العظيم . وتصور الإعداد له والتهيئة بقيام الليل ، والصلاة ، وترتيل القرآن ، والذكر الخاشع المتبتل . والاتكال على الله وحده ، والصبر على الأذى ، والهجر الجميل للمكذبين ، والتخلية بينهم وبين الجبار القهار صاحب الدعوة وصاحب المعركة . .
وتنتهي بلمسة الرفق والرحمة والتخفيف والتيسير . والتوجيه للطاعات والقربات ، والتلويح برحمة الله ومغفرته : { إن الله غفور رحيم } . .
وهي تمثل بشطريها صفحة من صفحات ذلك الجهد الكريم النبيل الذي بذله ذلك الرهط المختار من البشرية البشرية الضالة ، ليردها إلى ربها ، ويصبر على أذاها ، ويجاهد في ضمائرها؛ وهو متجرد من كل ما في الحياة من عرض يغري ، ولذاذة تُلهي ، وراحة ينعم بها الخليون . ونوم يلتذه الفارغون
والآن نستعرض السورة في نصها القرآني الجميل .
{ يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلاً . نصفه أو انقص منه قليلاً ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً . إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً . إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً . إن لك في النهار سبحاً طويلاً ، واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً . رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً } . .
{ يا أيها المزمل . قم .

. } . . إنها دعوة السماء ، وصوت الكبير المتعال . . قم . . قم للأمر العظيم الذي ينتظرك ، والعبء الثقيل المهيأ لك . قم للجهد والنصب والكد والتعب . قم فقد مضى وقت النوم والراحة . . قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد . .
وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه صلى الله عليه وسلم من دفء الفراش ، في البيت الهادئ والحضن الدافئ . لتدفع به في الخضم ، بين الزعازع والأنواء ، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء .
إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً ، ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً . فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير . . فماله والنوم؟ وماله والراحة؟ وماله والفراش الدافئ ، والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح؟ ولقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الأمر وقدّره ، فقال لخديجة رضي الله عنها وهي تدعوه أن يطمئن وينام : « مضى عهد النوم يا خديجة » أجل مضى عهد النوم وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق
{ يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلاً . نصفه أو انقص منه قليلاً . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً } . .
إنه الإعداء للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة . . قيام الليل . أكثره أكثر من نصف الليل ودون ثلثيه . وأقله ثلث الليل . . قيامه للصلاة وترتيل القرآن . وهو مد الصوت به وتجويده . بلا تغن ولا تطر ولا تخلع في التنغيم .
وقد صح عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل أنه لم يتجاوز إحدى عشرة ركعة . ولكنه كان يقضي في هذه الركعات ثلثي الليل إلا قليلاً ، يرتل فيه القرآن ترتيلاً .
« روى الإمام أحمد في مسنده قال : حدثنا يحيى بن سعيد هو ابن أبي عروبة عن قتادة ، عن زرارة ابن أوفى ، عن سعيد بن هشام . . أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال : ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال : ائت عائشة فسلها ، ثم ارجع إلي فأخبرني بردها عليك . . ثم يقول سعيد بن هشام : قلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : ألست تقرأ القرآن؟ قلت : بلى . قالت : فإن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن . فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : ألست تقرأ هذه السورة : { يا أيها المزمل } ؟ قلت : بلى . قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم . وأمسك الله ختامها في السماء اثني عشر شهراً .

ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعاً من بعد فريضة . . فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم - قالت : كنا نعد له سواكه وطهوره ، فيبعثه الله كما شاء أن يبعثه من الليل ، فيتسوّك ثم يتوضأ ، ثم يصلي ثمان ركعات لا يجلس فيهن ، إلا عند الثامنة ، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو ، ثم ينهض وما يسلم ، ثم يقوم ليصلي التاسعة ، ثم يقعد فيذكر الله وحده ، ثم يدعوه ، ثم يسلم تسليماً يسمعنا . ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني ، فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ اللحم أوتر بسبع ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، فتلك تسع يا بني . وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها . وكان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلى من نهار اثنتي عشرة ركعة . ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة حتى أصبح ، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان . . «
وكان هذا الإعداد للقول الثقيل الذي سينزله الله عليه . .
{ إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } . .
هو هذا القرآن وما وراءه من التكليف . . والقرآن في مبناه ليس ثقيلاً فهو ميسر للذكر . ولكنه ثقيل في ميزان الحق ، ثقيل في أثره في القلب : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله } فأنزله الله على قلب أثبت من الجبل يتلقاه . .
وإن تلقي هذا الفيض من النور والمعرفة واستيعابه ، لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل .
وإن التعامل مع الحقائق الكونية الكبرى المجردة ، لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل .
وإن الاتصال بالملأ الأعلى وبروح الوجود وأرواح الخلائق الحية والجامدة على النحو الذي تهيأ لرسول الله صلى الله عليه وسلم لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل .
وإن الاستقامة على هذا الأمر بلا تردد ولا ارتياب ، ولا تلفت هنا أو هناك وراء الهواتف والجواذب والمعوقات ، لثقيل ، يحتاج إلى استعداد طويل .
وإن قيام الليل والناس نيام ، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها؛ والاتصال بالله ، وتلقي فيضه ونوره ، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه ، وترتيل القرآن والكون ساكن ، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة؛ واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته وفي الليل الساجي . . إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل ، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل وينير القلب في الطريق الشاق الطويل ، ويعصمه من وسوسة الشيطان ، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير .

{ إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً } . .
{ ناشئة الليل } هي ما ينشأ منه بعد العشاء؛ والآية تقول : { إن ناشئة الليل هي أشد وطأ } : أي أجهد للبدن ، { وأقوم قيلاً } : أي أثبت في الخير ( كما قال مجاهد ) فإن مغالبة هتاف النوم وجاذبية الفراش ، بعد كد نهار ، أشد وطأ وأجهد للبدن؛ ولكنها إعلان لسيطرة الروح ، واستجابة لدعوة الله ، وإيثار للأنس به ، ومن ثم فإنها أقوم قيلاً ، لأن للذكر فيها حلاوته ، وللصلاة فيها خشوعها ، وللمناجاة فيها شفافيتها . وإنها لتسكب في القلب أنساً وراحة وشفافية ونوراً ، قد لا يجدها في صلاة النهار وذكره . . والله الذي خلق هذا القلب يعلم مداخله وأوتاره ، ويعلم ما يتسرب إليه وما يوقع عليه ، وأي الأوقات يكون فيها أكثر تفتحاً واستعداداً وتهيؤاً ، وأي الأسباب أعلق به وأشد تأثيراً فيه .
والله سبحانه وهو يعد عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ليتلقى القول الثقيل ، وينهض بالعبء الجسيم ، اختار له قيام الليل ، لأن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً . ولأن له في النهار مشاغله ونشاطه الذي يستغرق كثيراً من الطاقة والالتفات :
{ إن لك في النهار سبحاً طويلاً } . .
فلينقض النهار في هذا السبح والنشاط ، وليخلص لربه في الليل ، يقوم له بالصلاة والذكر :
{ واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً } . .
وذكر اسم الله ، ليس هو مجرد ترديد هذا الإسم الكريم باللسان ، على عدة المسبحة المئوية أو الألفية إنما هو ذكر القلب الحاضر مع اللسان الذاكر؛ أو هو الصلاة ذاتها وقراءة القرآن فيها . والتبتل هو الانقطاع الكلي عما عدا الله ، والاتجاه الكلي إليه بالعبادة والذكر ، والخلوص من كل شاغل ومن كل خاطر ، والحضور مع الله بكامل الحس والمشاعر .
ولما ذكر التبتل وهو الانقطاع عما عدا الله ، ذكر بعده ما يفيد أنه ليس هناك إلا الله ، يتجه إليه من يريد الانجا .
{ رب المشرق والمغرب ، لا إله إلا هو ، فاتخذوه وكيلاً } . .
فهو رب كل متجه . . رب المشرق والغرب . . وهو الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو . فالانقطاع إليه هو الانقطاع للحقيقة الوحيدة في هذا الوجود؛ والتوكل عليه هو التوكل على القوة الوحيدة في هذا الوجود . والاتكال على الله وحده هو الثمرة المباشرة للاعتقاد بوحدانيته ، وهيمنته على المشرق والمغرب ، أي على الكون كله . . والرسول الذي ينادى : قم . . لينهض بعبئه الثقيل ، في حاجة ابتداء للتبتل لله والاعتماد عليه دون سواه . فمن هنا يستمد القوة والزاد للعبء الثقيل في الطريق الطويل
ثم وجه الله الرسول إلى الصبر الجميل على ما يلقاه من قومه من الاتهام والإعراض والصد والتعطيل . وأن يخلي بينه وبين المكذبين ويمهلهم قليلاً .

فإن لدى الله لهم عذاباً وتنكيلاً :
{ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا . وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا . إن لدينآ أنكالاً وجحيما . وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليما . يوم ترجف الأرض والجبال ، وكانت الجبال كثيباً مهيلا . . إنآ أرسلنآ إليكم رسولاً شاهداً عليكم كمآ أرسلنآ إلى فرعون رسولا ، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلا . فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً ، السمآء منفطر به كان وعده مفعولا } . .
وإذا صحت الرواية الأولى عن نزول مطلع هذه السورة في بدء البعثة ، فإن هذا الشوط الثاني منها يكون قد نزل متأخراً بعد الجهر بالدعوة ، وظهور المكذبين والمتطاولين ، وشدتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين . فأما إذا صحت الرواية الثانية فإن شطر السورة الأول كله يكون قد نزل بمناسبة ما نال النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين وصدهم عن الدعوة .
وعلى أية حال فإننا نجد التوجيه إلى الصبر ، بعد التوجيه إلى القيام والذكر ، وهما كثيراً ما يقترنان في صدد تزويد القلب بزاد هذه الدعوة في طريقها الشاق الطويل ، سواء طريقها في مسارب الضمير أو طريقها في جهاد المناوئين ، وكلاهما شاق عسير . . نجد التوجيه إلى الصبر . { واصبر على ما يقولون } . . مما يغيظ ويحنق ، { واهجرهم هجراً جميلاً } . . لا عتاب معه ولا غضب ، ولا هُجر فيه ولا مشادة . وكانت هذه هي خطة الدعوة في مكة وبخاصة في أوائلها . . كانت مجرد خطاب للقلوب والضمائر ، ومجرد بلاغ هادئ ومجرد بيان منير .
والهجر الجميل مع التطاول والتكذيب ، يحتاج إلى الصبر بعد الذكر . والصبر هو الوصية من الله لكل رسول من رسله ، مرة ومرة ومرة؛ ولعباده المؤمنين برسله . وما يمكن أن يقوم على هذه الدعوة أحد إلا والصبر زاده وعتاده ، والصبر جنته وسلاحه ، والصبر ملجؤه وملاذه . فهي جهاد . . جهاد مع النفس وشهواتها وانحرافاتها وضعفها وشرودها وعجلتها وقنوطها . . وجهاد مع أعداء الدعوة ووسائلهم وتدبيرهم وكيدهم وأذاهم . ومع النفوس عامة وهي تتفصى من تكاليف هذه الدعوة ، وتتفلت ، وتتخفى في أزياء كثيرة وهي تخالف عنها ولا تستقيم عليها . والداعية لا زاد له إلا الصبر أمام هذا كله ، والذكر وهو قرين الصبر في كل موضع تقريباً
اصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً . . وخل بيني وبين المكذبين ، فأنا بهم كفيل : { وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً } . . كلمة يقولها الجبار القهار القوي المتين . . { وذرني والمكذبين } . . والمكذبون بشر من البشر ، والذي يتهددهم هو الذي أنشأهم ابتداء وخلق هذا الكون العريض { بكن } ولا تزيد
ذرني والمكذبين . . فهي دعوتي . وما عليك إلا البلاغ . ودعهم يكذبون واهجرهم هجراً جميلاً . وسأتولى أنا حربهم ، فاسترح أنت من التفكير في شأن المكذبين
إنها القاصمة المزلزلة المذهلة حين يخلو الجبار ، إلى هذه الخلائق الهينة المضعوفة .

. { أولي النعمة } مهما يكن من جبروتهم في الأرض على أمثالهم من المخاليق
{ ومهلهم قليلاً } ولو مهلهم الحياة الدنيا كلها ما كانت إلا قليلاً . وإن هي إلا يوم أو بعض يوم في حساب الله . وفي حسابهم هم أنفسهم حين تطوى ، بل إنهم ليحسونها في يوم القيامة ساعة من نهار فهي قليل أياً كان الأمد ، ولو مضوا من هذه الحياة ناجين من أخذ الجبار المنتقم الذي يمهل قليلاً ويأخذ تنكيلاً :
{ إن لدينا أنكالاً وجحيماً وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً } . .
والأنكال هي القيود والجحيم والطعام ذو الغصة الذي يمزق الحلوق والعذاب الأليم . . كلها جزاء مناسب { لأولي النعمة } الذين لم يرعوا النعمة ، ولم يشكروا المنعم ، فاصبر يا محمد عليهم صبراً جميلاً وخل بيني وبينهم . ودعهم فإن عندنا قيوداً تنكل بهم وتؤذيهم ، وجحيماً تجحمهم وتصليهم ، وطعاماً تلازمه الغصة في الحلق ، وعذاباً أليماً في يوم مخيف . .
ثم يرسم مشهد هذا اليوم المخيف :
{ يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلاً } . .
فها هي ذي صورة للهول تتجاوز الناس إلى الأرض في أكبر مجاليها . فترجف وتخاف وتتفتت وتنهار . فكيف بالناس المهازيل الضعاف
ويلتفت السياق أمام مشهد الهول المفزع ، إلى المكذبين أولي النعمة ، يذكرهم فرعون الجبار ، وكيف أخذه الله أخذ عزيز قهار :
إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً ، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلاً } .
هكذا في اختصار يهز قلوبهم ويخلعها خلعاً ، بعد مشهد الأرض والجبال وهي ترجف وتنهار .
فذلك أخذ الآخرة وهذا أخذ الدنيا؛ فكيف تنجون بأنفسكم وتقوها هذا الهول الرعيب؟
{ فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً السماء منفطر به؟ } . .
وإن صورة الهول هنا لتنشق لها السماء ، ومن قبل رجفت لها الأرض والجبال . وإنها لتشيب الولدان . وإنه لهول ترتسم صوره في الطبيعة الصامتة ، وفي الإنسانية الحية . . في مشاهد ينقلها السياق القرآني إلى حس المخاطبين كأنها واقعة . . ثم يؤكدها تأكيداً . { كان وعده مفعولاً } . . واقعاً لا خلف فيه . وهو ما شاء فعل وما أراد كان
وأمام هذا الهول الذي يتمثل في الكون كما يتمثل في النفس يلمس قلوبهم لتتذكر وتختار طريق السلامة . . طريق الله . .
{ إن هذه تذكرة ، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً } . .
وإن السبيل إلى الله لآمن وأيسر ، من السبيل المريب ، إلى هذا الهول العصيب
وبينما تزلزل هذه الآيات قوائم المكذبين ، تنزل على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة المستضعفة إذ ذاك بالروح والثقة واليقين . إذ يحسون أن ربهم معهم ، يقتل أعداءهم وينكل بهم . وإن هي إلا مهلة قصيرة ، إلى أجل معلوم . ثم يقضى الأمر ، حينما يجيء الأجل ويأخذ الله أعداءه وأعداءهم بالنكال والجحيم والعذاب الأليم .
إن الله لا يدع أولياءه لأعدائه ، ولو أمهل أعداءه إلى حين .

. .
والآن يجيء شطر السورة الثاني في آية واحدة طويلة ، نزلت بعد مطلع السورة بعام على أرجح الأقوال :
{ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه ، وطآئفة من الذين معك . والله يقدر الليل والنهار . علم أن لن تحصوه فتاب عليكم ، فاقرءوا ما تيسر من القرآن . علم أن سيكون منكم مرضى . وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله . فاقرءوا ما تيسر منه ، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وأقرضوا الله قرضاً حسناً ، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً ، واستغفروا الله ، إن الله غفور رحيم } . .
إنها لمسة التخفيف الندية ، تمسح على التعب والنصب والمشقة . ودعوة التيسير الإلهي على النبي والمؤمنين . وقد علم الله منه ومنهم خلوصهم له . وقد انتفخت أقدامهم من القيام الطويل للصلاة بقدر من القرآن كبير . وما كان الله يريد لنبيه أن يشقى بهذا القرآن وبالقيام . إنما كان يريد أن يعده للأمر العظيم الذي سيواجهه طوال ما بقي له من الحياة . هو والمجموعة القليلة من المؤمنين الذين قاموا معه .
وفي الحديث مودة وتطمين : { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك } . . إنه رآك إن قيامك وصلاتك أنت وطائفة من الذين معك قبلت في ميزان الله . . إن ربك يعلم أنك وهم تجافت جنوبكم عن المضاجع؛ وتركت دفء الفراش في الليلة القارسة ، ولم تسمع نداء المضاجع المغري وسمعت نداء الله . . إن ربك يعطف عليك ويريد أن يخفف عنك وعن أصحابك . . { والله يقدر الليل والنهار } . . فيطيل من هذا ويقصر من ذاك . فيطول الليل ويقصر . وأنت ومن معك ماضون تقومون أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه . وهو يعلم ضعفكم عن الموالاة . وهو لا يريد أن يعنتكم ولا أن يشق عليكم . إنما يريد لكم الزاد وقد تزودتم فخففوا على أنفسكم ، وخذوا الأمر هيناً : { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } . . في قيام الليل بلا مشقة ولا عنت . . وهناك في علم الله أمور تنتظركم تستنفد الجهد والطاقة ، ويشق معها القيام الطويل : { علم أن سيكون منكم مرضى } يصعب عليهم هذا القيام { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } . . في طلب الرزق والكد فيه ، وهو ضرورة من ضرورات الحياة . والله لا يريد أن تدعوا أمور حياتكم وتنقطعوا لعبادة الشعائر انقطاع الرهبان { وآخرون يقاتلون في سبيل الله } . . فقد علم الله أن سيأذن لكم في الانتصار من ظلمكم بالقتال ، ولإقامة راية للإسلام في الأرض يخشاها البغاة فخففوا إذن على أنفسكم { فاقرءوا ما تيسر منه } بلا عسر ولا مشقة ولا إجهاد . . واستقيموا على فرائض الدين : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } . . وتصدقوا بعد ذلك قرضاً لله يبقى لكم خيره .

. { وأقرضوا الله قرضاً حسناً ، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً } . . واتجهوا إلى الله مستغفرين عن تقصيركم . فالإنسان يقصر ويخطئ مهما جد وتحرى الصواب : { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } . .
إنها لمسة الرحمة والود والتيسير والطمأنينة تجيء بعد عام من الدعوة إلى القيام ولقد خفف الله عن المسلمين ، فجعل قيام الليل لهم تطوعاً لا فريضة . أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد مضى على نهجه مع ربه ، لا يقل قيامه عن ثلث الليل ، يناجي ربه ، في خلوة من الليل وهدأة ، ويستمد من هذه الحضرة زاد الحياة وزاد الجهاد . على أن قلبه ما كان ينام وإن نامت عيناه ، فقد كان قلبه صلى الله عليه وسلم دائماً مشغولاً بذكر الله ، متبتلاً لمولاه . وقد فرغ قلبه من كل شيء إلا من ربه . على ثقل ما يحمل على عاتقه ، وعلى مشقة ما يعاني من الأعباء الثقال . .

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

ينطبق على هذه السورة من ناحية سبب نزولها ، ووقت نزولها ما سبق ذكره عن سورة « المزمل » . فهناك روايات بأنها هي أول ما نزل بعد سورة العلق ، ورواية أخرى بأنها نزلت بعد الجهر بالدعوة وإيذاء المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم .
قال البخاري ، حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع ، عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ قال : { يا أيها المدثر } . . قلت : يقولون { اقرأ باسم ربك الذي خلق } فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، وقلت له مثل ما قلت لي ، فقال جابر : لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : « جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً ، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً ، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً ، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً . فأتيت خديجة فقلت : » دثروني وصبوا عليّ ماء بارداً « قال : فدثروني وصبوا عليّ ماء بارداً . قال : فنزلت : { يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر » .
وقد رواه مسلم من طريق عقيل ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة . قال : أخبرني جابر بن عبد الله ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي ، فقال في حديثه : « فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء ، فرفعت بصري قبل السماء ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء ، قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فجثيت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي فقلت : زملوني ، فدثروني ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها المدثر . قم فأنذر . . إلى والرجز فاهجر } » قال أبو سلمة : والرجز الأوثان . ثم حمي الوحي وتتابع « . . ورواه البخاري من هذا الوجه أيضاً . . وهذا لفظ البخاري .
وعلق ابن كثير في التفسير على هذا الحديث بقوله : » وهذا السياق هو المحفوظ ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله : « فإذا الملك الذي جاءني بحراء » وهو جبريل ، حين أتاه بقوله . . { اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم } ثم إنه حصل بعد هذا الفترة ، ثم نزل الملك بعد هذا . ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة « . .
فهذه رواية . وهناك رواية أخرى . . قال الطبراني . حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار ، حدثنا الحسن بن بشر البجلي ، حدثنا المعافى بن عمران ، عن إبراهيم بن يزيد ، سمعت ابن أبي مليكة يقول : سمعت ابن عباس يقول : إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاماً ، فلما أكلوا منه قال : ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم : ساحر .

وقال بعضهم : ليس بساحر . وقال بعضهم : كاهن . وقال بعضهم : ليس بكاهن . وقال بعضهم : شاعر . وقال بعضهم : ليس بشاعر . وقال بعضهم : بل سحر يؤثر . فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزن ، وقنع رأسه ، وتدثر . فأنزل الله تعالى : { يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر . وثيابك فطهر . والرجز فاهجر ، ولا تمنن تستكثر . ولربك فاصبر } . .
وتكاد تكون هذه الرواية هي ذاتها التي رويت عن سورة « المزمل » . . مما يجعلنا لا نستطيع الجزم بشيء عن أيتهما هي التي نزلت أولاً . والتي نزلت بهذه المناسبة أو تلك .
غير أن النظر في النص القرآني ذاته يوحي بأن مطلع هذه السورة إلى قوله تعالى : { ولربك فاصبر } ربما يكون قد نزل مبكراً في أوائل أيام الدعوة . شأنه شان مطلع سورة المزمل إلى قوله تعالى : { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً ، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً } وهذا وذلك لإعداد نفس الرسول صلى الله عليه وسلم للنهوض بالتبعة الكبرى ، ومواجهة قريش بعد ذلك بالدعوة جهاراً وكافة ، مما سيترتب عليه مشاق كثيرة متنوعة ، تحتاج مواجهتها إلى إعداد نفسي سابق . . ويكون ما تلا ذلك في سورة المدثر ، وما تلا هذا في سورة المزمل ، قد نزلا بعد فترة بمناسبة تكذيب القوم وعنادهم ، وإيذائهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالاتهام الكاذب والكيد اللئيم .
إلا أن هذا الاحتمال لا ينفي الاحتمال الآخر ، وهو أن يكون كل من المطلعين قد نزل متصلاً بما تلاه في هذه السورة وفي تلك ، بمناسبة واحدة ، وهي التكذيب ، واغتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم للكيد الذي كادته قريش ودبرته . . ويكون الشأن في السورتين هو الشأن في سورة القلم على النحو الذي بيناه هناك .
وأياً ما كان السبب والمناسبة فقد تضمنت هذه السورة في مطلعها ذلك النداء العلوي بانتداب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الجلل؛ وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة : { يا أيها المدثر . قم فأنذر } . . مع توجيهه صلى الله عليه وسلم إلى التهيؤ لهذا الأمر العظيم ، والاستعانة عليه بهذا الذي وجهه الله إليه : { وربك فكبر . وثيابك فطهر . والرجز فاهجر . ولا تمنن تستكثر . ولربك فاصبر } . . وكان ختام التوجيه هنا بالصبر كما كان هناك في سورة المزمل
وتضمنت السورة بعد هذا تهديداً ووعيداً للمكذبين بالآخرة ، وبحرب الله المباشرة ، كما تضمنت سورة المزمل سواء : { فإذا نقر في الناقور ، فذلك يومئذ يوم عسير ، على الكافرين غير يسير .

ذرني ومن خلقت وحيداً . وجعلت له مالاً ممدوداً ، وبنين شهوداً ، ومهدت له تمهيداً ، ثم يطمع أن أزيد . كلا إنه كان لآياتنا عنيداً . سأرهقه صعوداً } . .
وتعين سورة المدثر أحد المكذبين بصفته ، وترسم مشهداً من مشاهد كيده على نحو ما ورد في سورة القلم ، وربما كان الشخص المعني هنا وهناك واحداً ، قيل : إنه الوليد بن المغيرة ( كما سيأتي تفصيل الروايات عند مواجهة النص ) وتذكر سبب حرب الله سبحانه وتعالى له : { إنه فكَّر وقدَّر . فقتل كيف قدَّر؟ ثم نظر ، ثم عبس وبسر . ثم أدبر واستكبر . فقال : إن هذآ إلا سحر يؤثر . إن هذآ إلا قول البشر } . . ثم تذكر مصيره : { سأصليه سقر . ومآ أدراك ما سقر ، لا تبقي ولا تذر . لواحة للبشر . عليها تسعة عشر } . .
وبمناسبة مشهد سقر . والقائمين عليها التسعة عشر . وما أثاره هذا العدد من بلبلة وفتنة وتساؤل وشك واستهزاء في أوساط المشركين وضعاف الإيمان ، تتحدث السورة عن حكمة الله في ذكر هذا العدد ، ثم تفتح كوة على حقيقة غيب الله ، واختصاصه بهذا الغيب ، وهي كوة تلقي ضوءاً على جانب من التصور الإيماني لحقيقة غيب الله المكنون : { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة . وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيماناً ، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ، وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون : ماذآ أراد الله بهذا مثلاً؟ كذلك يضل الله من يشآء ويهدي من يشآء ، وما يعلم جنود ربك إلا هو ، وما هي إلا ذكرى للبشر } . .
ثم يصل أمر الآخرة وسقر ومن عليها بمشاهد كونية حاضرة ، ليجمع على القلوب إيحاء هذه وتلك في معرض الإيقاظ والتحذير : { كلا والقمر . والليل إذ أدبر . والصبح إذآ أسفر . إنها لإحدى الكبر . نذيراً للبشر . لمن شآء منكم أن يتقدم أو يتأخر } . .
كما يعرض مقام المجرمين ومقام أصحاب اليمين ، حيث يعترف المكذبون اعترافاً طويلاً بأسباب استحقاقهم للارتهان والقيد في يوم الجزاء والحساب ، يعقب عليه بكلمة الفصل في أمرهم الذي لا تنفعهم فيه شفاعة شافع : { كل نفس بما كسبت رهينة . إلا أصحاب اليمين . في جنات يتسآءلون عن المجرمين . ما سلككم في سقر؟ قالوا : لم نك من المصلين . ولم نك نطعم المسكين . وكنا نخوض مع الخآئضين . وكنا نكذب بيوم الدين . حتى أتانا اليقين . فما تنفعهم شفاعة الشافعين } . .
وفي ظل هذا المشهد المخزي ، والاعتراف المهين ، يتساءل مستنكراً موقف المكذبين من الدعوة إلى التذكرة والنجاة من هذا المصير ، ويرسم لهم مشهداً ساخراً يثير الضحك والزراية من نفارهم الحيواني الشموس : { فما لهم عن التذكرة معرضين؟ كأنهم حمر مستنفرة . فرت من قسورة } .
ويكشف عن حقيقة الغرور الذي يساورهم فيمنعهم من الاستجابة لصوت المذكر الناصح . { بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة } .

. فهو الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم والرغبة في أن يؤتى كل منهم الرسالة والسبب الدفين الآخر هو قلة التقوى : { كلا بل لا يخافون الآخرة } . .
وفي الختام يجيء التقرير الجازم الذي لا مجاملة فيه : { كلا إنه تذكرة . فمن شاء ذكره } ورد الأمر كله إلى مشيئة الله وقدره : { وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة } . .
وهكذا تمثل السورة حلقة من حلقات الكفاح النفسي الذي كافحه القرآن للجاهلية وتصوراتها في قلوب قريش؛ كما كافح العناد والكيد والإعراض الناشئ عن العمد والقصد بشتى الأساليب . . والمشابهات كثيرة بين اتجاهات هذه السورة واتجاهات سورة المزمل ، وسورة القلم ، مما يدل على أنها جميعاً نزلت متقاربة ، لمواجهة حالات متشابهة . . وذلك باستثناء الشطر الثاني من سورة المزمل ، وقد نزل لشأن خاص بالرياضة الروحية للرسول صلى الله عليه وسلم وطائفة من الذين معه كما تقدم .
وهذه السورة قصيرة الآيات . سريعة الجريان . منوعة الفواصل والقوافي . يتئد إيقاعها أحياناً ، ويجري لاهثاً أحياناً وبخاصة عند تصوير مشهد هذا المكذب وهو يفكر ويقدر ويعبس ويبسر . . وتصوير مشهد سقر . لا تبقي ولا تذر . لواحة للبشر . . ومشهد فرارهم كأنهم حمر مستنفرة . فرت من قسورة
وهذا التنوع في الإيقاع والقافية بتنوع المشاهد والظلال يجعل للسورة مذاقاً خاصاً؛ ولا سيما عند رد بعض القوافي ورجعها بعد انتهائها كقافية الراء الساكنة : المدثر . أنذر . فكبر . . وعودتها بعد فترة : قدر . بسر . استكبر . سقر . . وكذلك الانتقال من قافية إلى قافية في الفقرة الواحدة مفاجأة ولكن لهدف خاص . عند قوله : { فما لهم عن التذكرة معرضين؟ كأنهم حمر مستنفرة . فرت من قسورة } . . ففي الآية الأولى كان يسأل ويستنكر . وفي الثانية والثالثة كان يصور ويسخر وهكذا . .
والآن نأخذ في الاستعراض التفصيلي للسورة :
{ يا أيها المدّثّر . قم فأنذر . وربك فكبر . وثيابك فطهر . والرجز فاهجر . ولا تمنن تستكثر . ولربك فاصبر } . .
إنه النداء العلوي الجليل ، للأمر العظيم الثقيل . . نذارة هذه البشرية وإيقاظها ، وتخليصها من الشر في الدنيا ، ومن النار في الآخرة؛ وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان . . وهو واجب ثقيل شاق ، حين يناط بفرد من البشر مهما يكن نبياً رسولاً فالبشرية من الضلال والعصيان والتمرد والعتو والعناد والإصرار والالتواء والتفصي من هذا الأمر ، بحيث تجعل من الدعوة أصعب وأثقل ما يكلفه إنسان من المهام في هذا الوجود
{ يا أيها المدثر . قم فأنذر } . . والإنذار هو أظهر ما في الرسالة ، فهو تنبيه للخطر القريب الذي يترصد للغافلين السادرين في الضلال وهم لا يشعرون . وفيه تتجلى رحمة الله بالعباد ، وهم لا ينقصون في ملكه شيئاً حين يضلون ، ولا يزيدون في ملكه شيئاً حين يهتدون . غير أن رحمته اقتضت أن يمنحهم كل هذه العناية ليخلصوا من العذاب الأليم في الآخرة ، ومن الشر الموبق في الدنيا .

وأن يدعوهم رسله ليغفر لهم ويدخلهم جنته من فضله
ثم يوجه الله رسوله في خاصة نفسه بعد إذ كلفه نذارة غيره :
يوجهه إلى تكبير ربه : { وربك فكبر } . . ربك وحده . . فهو وحده الكبير ، الذي يستحق التكبير . وهو توجيه يقرر جانباً من التصور الإيماني لمعنى الألوهية ، ومعنى التوحيد .
إن كل أحد ، وكل شيء ، وكل قيمة ، وكل حقيقة . . صغير . . والله وحده هو الكبير . . وتتوارى الأجرام والأحجام ، والقوى والقيم ، والأحداث والأحوال ، والمعاني والأشكال؛ وتنمحي في ظلال الجلال والكمال ، لله الواحد الكبير المتعال .
وهو توجيه للرسول صلى الله عليه وسلم ليواجه نذارة البشرية ، ومتاعها وأهوالها وأثقالها ، بهذا التصور ، وبهذا الشعور ، فيستصغر كل كيد ، وكل قوة ، وكل عقبة ، وهو يستشعر أن ربه الذي دعاه ليقوم بهذه النذارة ، هو الكبير . . ومشاق الدعوة وأهوالها في حاجة دائمة إلى استحضار هذا التصور وهذا الشعور .
ويوجهه إلى التطهر : { وثيابك فطهر } . . وطهارة الثياب كناية في الاستعمال العربي عن طهارة القلب والخلق والعمل . . طهارة الذات التي تحتويها الثياب ، وكل ما يلم بها أو يمسها . . والطهارة هي الحالة المناسبة للتلقي من الملأ الأعلى . كما أنها ألصق شيء بطبيعة هذه الرسالة . وهي بعد هذا وذلك ضرورية لملابسة الإنذار والتبليغ ، ومزاولة الدعوة في وسط التيارات والأهواء والمداخل والدروب؛ وما يصاحب هذا ويلابسه من أدران ومقاذر وأخلاط وشوائب ، تحتاج من الداعية إلى الطهارة الكاملة كي يملك استنقاذ الملوثين دون أن يتلوث ، وملابسة المدنسين من غير أن يتدنس . . وهي لفتة دقيقة عميقة إلى ملابسات الرسالة والدعوة والقيام على هذا الأمر بين شتى الأوساط ، وشتى البيئات ، وشتى الظروف ، وشتى القلوب
ويوجهه إلى هجران الشرك وموجبات العذاب : { والرجز فاهجر } . . والرسول صلى الله عليه وسلم كان هاجراً للشرك ولموجبات العذاب حتى قبل النبوة . فقد عافت فطرته السليمة ذلك الانحراف ، وهذا الركام من المعتقدات الشائهة ، وذلك الرجس من الأخلاق والعادات ، فلم يعرف عنه أنه شارك في شيء من خوض الجاهلية . ولكن هذا التوجيه يعني المفاصلة وإعلان التميز الذي لا صلح فيه ولا هواده . فهما طريقان مفترقان لا يلتقيان . كما يعني التحرز من دنس هذا الرجز والرجز في الأصل هو العذاب ، ثم أصبح يطلق على موجبات العذاب تحرز التطهر من مس هذا الدنس
ويوجهه إلى إنكار ذاته وعدم المن بما يقدمه من الجهد ، أو استكثاره واستعظامه : { ولا تمنن تستكثر } . . وهو سيقدم الكثير ، وسيبذل الكثير ، وسيلقى الكثير من الجهد والتضحية والعناء . ولكن ربه يريد منه ألا يظل يستعظم ما يقدمه ويستكثره ويمتن به . . وهذه الدعوة لا تستقيم في نفس تحس بما تبذل فيها . فالبذل فيها من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه . بل حين لا تستشعره من الأصل لأنها مستغرقة في الشعور بالله؛ شاعرة بأن كل ما تقدمه هو من فضله ومن عطاياه .

فهو فضل يمنحها إياه ، وعطاء يختارها له ، ويوفقها لنيله . وهو اختيار واصطفاء وتكريم يستحق الشكر لله . لا المن والاستكثار .
ويوجهه أخيراً إلى الصبر . الصبر لربه : { ولربك فاصبر } . . وهي الوصية التي تتكرر عند كل تكليف بهذه الدعوة أو تثبيت . والصبر هو هذا الزاد الأصيل في هذه المعركة الشاقة . معركة الدعوة إلى الله . المعركة المزدوجة مع شهوات النفوس وأهواء القلوب؛ ومع أعداء الدعوة الذين تقودهم شياطين الشهوات وتدفعهم شياطين الأهواء وهي معركة طويلة عنيفة لا زاد لها إلا الصبر الذي يقصد فيه وجه الله ، ويتجه به إليه احتساباً عنده وحده .
فإذا انتهى هذا التوجيه الإلهي للنبي الكريم ، اتجه السياق إلى بيان ما ينذر به الآخرين ، في لمسة توقظ الحس لليوم العسير ، الذي ينذر بمقدمه النذير :
{ فإذا نقر في الناقور . فذلك يومئذ يوم عسير : على الكافرين غير يسير } . .
والنقر في الناقور ، هو ما يعبر عنه في مواضع أخرى بالنفخ في الصور . ولكن التعبير هنا أشد إيحاء بشدة الصوت ورنينه؛ كأنه نقر يصوّت ويدوّي . والصوت الذي ينقر الآذان أشد وقعاً من الصوت الذي تسمعه الآذان . . ومن ثم يصف اليوم بأنه عسير على الكافرين ، ويؤكد هذا العسر بنفي كل ظل لليسر فيه : { على الكافرين غير يسير } . . فهو عسر كله . عسر لا يتخلله يسر . ولا يفصل أمر هذا العسر ، بل يدعه مجملاً مجهلاً يوحي بالاختناق والكرب والضيق . . فما أجدر الكافرين أن يستمعوا للنذير ، قبل أن ينقر في الناقور ، فيواجههم هذا اليوم العسير العسير
وينتقل من هذا التهديد العام إلى مواجهة فرد بذاته من المكذبين؛ يبدو أنه كان له دور رئيسي خاص في التكذيب والتبييت للدعوة؛ فيوجه إليه تهديداً ساحقاً ماحقاً ، ويرسم له صورة منكرة تثير الهزء والسخرية من حاله وملامح وجهه ونفسه التي تبرز من خلال الكلمات كأنها حية شاخصة متحركة الملامح والسمات :
{ ذرني ومن خلقت وحيدا ، وجعلت له مالاً ممدودا ، وبنين شهودا ، ومهدت له تمهيدا؛ ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا . سأرهقه صعودا . إنه فكر وقدر . فقتل كيف قدر؟ ثم قتل كيف قدر؟ ثم نظر ، ثم عبس وبسر ، ثم أدبر واستكبر ، فقال : إن هذآ إلا سحر يؤثر . إن هذآ إلا قول البشر . سأصليه سقر . ومآ أدراك ما سقر؟ لا تبقي ولا تذر ، لواحة للبشر ، عليها تسعة عشر . . . } . .
وقد وردت روايات متعددة بأن المعنيّ هنا هو الوليد بن المغيرة المخزومي . قال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثورة ، عن معمر ، عن عبادة بن منصور ، عن عكرمة ، أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له ، فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام ، فأتاه فقال له : أي عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً : قال : لم؟ قال : يعطونكه ، فإنك أتيت محمداً تتعرض لما قِبله ( يريد بخبث أن يثير كبرياءه من الناحية التي يعرف أن الوليد أشد بها اعتزازاً ) قال : قد علمت قريش أني أكثرها مالاً قال : فقل فيه قولاً يعلم قومك أنك منكر لما قال ، وأنك كاره له قال : فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقوله شيئاً من هذا .

والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة ، وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو وما يعلى . . قال : والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه . . قال : فدعني حتى أفكر فيه . . فلما فكر قال : إن هذا إلا سحر يؤثره عن غيره . فنزلت : { ذرني ومن خلقت وحيداً حتى بلغ عليها تسعة عشر } .
وفي رواية أخرى أن قريشاً قالت : لئن صبأ الوليد ، لتصبون قريش كلها فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه ثم دخل عليه . . وأنه قال بعد التفكير الطويل : إنه سحر يؤثر . أما ترون أنه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه؟
هذه هي الواقعة كما جاءت بها الروايات . فأما القرآن فيسوقها هذه السياقة الحية المثيرة . . يبدأ بذلك التهديد القاصم الرهيب .
{ ذرني ومن خلقت وحيداً } . .
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ومعناه خل بيني وبين هذا الذي خلقته وحيداً مجرداً من كل شيء آخر مما يعتز به من مال كثير ممدود وبنين حاضرين شهود ونعم يتبطر بها ويختال ويطلب المزيد . خل بيني وبينه ولا تشغل بالك بمكره وكيده . فأنا سأتولى حربه . . وهنا يرتعش الحس ارتعاشه الفزع المزلزل؛ وهو يتصور انطلاق القوة التي لا حد لها . . قوة الجبار القهار . . لتسحق هذا المخلوق المضعوف المسكين الهزيل الضئيل وهي الرعشة التي يطلقها النص القرآني في قلب القارئ والسامع الآمنين منها . فما بال الذي تتجه إليه وتواجهه
ويطيل النص في وصف حال هذا المخلوق ، وما آتاه الله من نعمه وآلائه ، قبل أن يذكر إعراضه وعناده . فهو قد خلقه وحيداً مجرداً من كل شيء حتى من ثيابه ثم جعل له مالاً كثيراً ممدوداً . ورزقه بنين من حوله حاضرين شهوداً ، فهو منهم في أنس وعزوة . ومهد له الحياة تمهيداً ويسرها له تيسيراً . . { ثم يطمع أن أزيد } . . فهو لا يقنع بما أوتي ، ولا يشكر ويكتفي . . أم لعله يطمع في أن ينزل عليه الوحي وأن يعطى كتاباً كما سيجيء في آخر السورة : { بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة } . . فقد كان ممن يحسدون الرسول صلى الله عليه وسلم على إعطائه النبوة .
وهنا يردعه ردعاً عنيفاً عن هذا الطمع الذي لم يقدم حسنة ولا طاعة ولا شكراً لله يرجو بسببه المزيد : { كلا } ، وهي كلمة ردع وتبكيت { إنه كان لآياتنا عنيداً } .

. فعاند دلائل الحق وموحيات الإيمان . ووقف في وجه الدعوة ، وحارب رسولها ، وصد عنها نفسه وغيره ، وأطلق حواليها الأضاليل .
ويعقب على الردع بالوعيد الذي يبدل اليسر عسراً ، والتمهيد مشقة
{ سأرهقه صعوداً } . .
وهو تعبير مصور لحركة المشقة . فالتصعيد في الطريق هو أشق السير وأشده إرهاقاً . فإذا كان دفعاً من غير إرادة من المصعد كان أكثر مشقة وأعظم إرهاقاً . وهو في الوقت ذاته تعبير عن حقيقة . فالذي ينحرف عن طريق الإيمان السهل الميسر الودود ، يندبّ في طريق وعر شاق مبتوت؛ ويقطع الحياة في قلق وشدة وكربة وضيق ، كأنما يصعد في السماء ، أو يصعد في وعر صلد لا ريّ فيه ولا زاد ، ولا راحة ولا أمل في نهاية الطريق
ثم يرسم تلك الصورة المبدعة المثيرة للسخرية والرجل يكد ذهنه ويعصر أعصابه ويقبض جبينه وتكلح ملامحه وقسماته . . كل ذلك ليجد عيباً يعيب به هذا القرآن ، وليجد قولاً يقوله فيه :
{ إنه فكر وقدر . فقتل كيف قدر؟ ثم قتل كيف قدر؟ ثم نظر . ثم عبس وبسر . ثم أدبر واستكبر . فقال : إن هذآ إلا سحر يؤثر . إن هذآ إلا قول البشر } . .
لمحة لمحة . وخطرة خطرة . وحركة حركة . يرسمها التعبير ، كما لو كانت ريشة تصور ، لا كلمات تعبر ، بل كما لو كانت فيلماً متحركاً يلتقط المشهد لمحة لمحة
لقطة وهو يفكر ويدبر ومعها دعوة هي قضاء { فقتل } واستنكار كله استهزاء { كيف قدَّر } ثم تكرار الدعوة والاستنكار لزيادة الإيحاء بالتكرار .
ولقطة وهو ينظر هكذا وهكذا في جد مصطنع متكلف يوحي بالسخرية منه والاستهزاء .
ولقطة وهو يقطب حاجبيه عابساً ، ويقبض ملامح وجهه باسراً ، ليستجمع فكره في هيئة مضحكة
وبعد هذا المخاض كله؟ وهذا الحَزق كله؟ لا يفتح عليه بشيء . . إنما يدبر عن النور ويستكبر عن الحق . . فيقول : { إن هذا إلا سحر يؤثر . إن هذا إلا قول البشر }
إنها لمحات حية يثبتها التعبير القرآني في المخيلة أقوى مما تثبتها الريشة في اللوحة؛ وأجمل مما يعرضها الفيلم المتحرك على الأنظار وإنها لتدع صاحبها سخرية الساخرين أبد الدهر ، وتثبت صورته الزرية في صلب الوجود ، تتملاها الأجيال بعد الأجيال
فإذا انتهى عرض هذه اللمحات الحية الشاخصة لهذا المخلوق المضحك ، عقب عليها بالوعيد المفزع :
{ سأصليه سقر } . . وزاد هذا الوعيد تهويلاً بتجهيل سقر : { وما أدراك ما سقر؟ } . . إنها شيء أعظم وأهول من الإدراك ثم عقب على التجهيل بشيء من صفتها أشد هولاً : { لا تبقي ولا تذر } . . فهي تكنس كنساً ، وتبلع بلعاً ، وتمحو محواً ، فلا يقف لها شيء ، ولا يبقى وراءها شيء ، ولا يفضل منها شيء
ثم هي تتعرض للبشر وتلوح : { لواحة للبشر } . . كما قال في سورة المعارج : { تدعو من أدبر وتولى } .

. فهي تدل على نفسها ، وكأنما تقصد إثارة الفزع في النفوس ، بمنظرها المخيف
ويقوم عليها حراس عدتهم : { تسعة عشر } . . لا ندري أهم أفراد من الملائكة الغلاظ الشداد ، أم صفوف أم أنواع من الملائكة وصنوف . إنما هو خبر من الله سندري شأنه فيما يجيء . .
فأما المؤمنون فقد تلقوا كلمات الله بالتسليم اللائق بمن وثق بربه ، وتأدب معه أدب العبد مع الرب فلم يعد يماري في خبره وقوله . وأما المشركون فتلقفوا هذا العدد بقلوب خاوية من الإيمان ، عارية من التوقير لله ، خالية من الجد في تلقي هذا الأمر العظيم . وراحوا يتهكمون عليه ويسخرون منه ، ويتخذونه موضعاً للتندر والمزاح . . قال قائل منهم : أليس يتكفل كل عشرة منكم بواحد من هؤلاء التسعة عشر؟ وقال قائل : لا بل اكفوني أنتم أمر اثنين منهم وعليّ الباقي أنا أكفيكموهم وبمثل هذه الروح المطموسة المغلقة الفاضية تلقوا هذا القول العظيم الكريم .
عندئذ نزلت الآيات التالية تكشف عن حكمة الله في الكشف عن هذا الجانب من الغيب ، وذكر هذا العدد ، وترد علم الغيب إلى الله ، وتقرر ما وراء ذكر سقر وحراسها من غاية ينتهي الموقف إليها :
{ وما جعلنآ أصحاب النار إلا ملائكة . وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيماناً ، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ، وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون : ماذآ أراد الله بهذا مثلاً؟ كذلك يضل الله من يشآء ، ويهدي من يشآء ، وما يعلم جنود ربك إلا هو ، وما هي إلا ذكرى للبشر } . . .
تبدأ الآية بتقرير حقيقة أولئك التسعة عشر الذين تمارى فيهم المشركون :
{ وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } . .
فهم من ذلك الخلق المغيب الذي لا يعلم طبيعته وقوته إلا الله؛ وقد قال لنا عنهم : إنهم { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } فقرر أنهم يطيعون ما يأمرهم به الله ، وأن بهم القدرة على فعل ما يأمرهم . فهم إذن مزودون بالقوة التي يقدرون بها على كل ما يكلفهم الله إياه . فإذا كان قد كلفهم القيام على سقر ، فهم مزودون من قبله سبحانه بالقوة المطلوبة لهذه المهمة ، كما يعلمها الله ، فلا مجال لقهرهم أو مغالبتهم من هؤلاء البشر المضعوفين وما كان قولهم عن مغالبتهم إلا وليد الجهل الغليظ بحقيقة خلق الله وتدبيره للأمور .
{ وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } . .
فهم الذين يثير ذكر العدد في قلوبهم رغبة الجدل؛ ولا يعرفون مواضع التسليم ومواضع الجدل . فهذا الأمر الغيبي كله من شأن الله ، وليس لدى البشر عنه من علم كثير ولا قليل ، فإذا أخبر الله عنه خبراً فهو المصدر الوحيد لهذا الطرف من الحقيقة ، وشأن البشر هو تلقي هذا الخبر بالتسليم ، والاطمئنان إلى أن الخير في ذكر هذا الطرف وحده ، بالقدر الذي ذكره ، وأن لا مجال للجدل فيه ، فالإنسان إنما يجادل فيما لديه عنه علم سابق يناقض الخبر الجديد أو يغايره .

أما لماذا كانوا تسعة عشر ( أياً كان مدلول هذا العدد ) فهو أمر يعلمه الله الذي ينسق الوجود كله ، ويخلق كل شيء بقدر . وهذا العدد كغيره من الأعداد . والذي يبغي الجدل يمكنه أن يجادل وأن يعترض على أي عدد آخر وعلى أي أمر آخر بنفس الاعتراض . . لماذا كانت السماوات سبعاً؟ لماذا كان خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار؟ لماذا كان حمل الجنين تسعة أشهر؟ لماذا تعيش السلاحف آلاف السنين؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ والجواب : لأن صاحب الخلق والأمر يريد ويفعل ما يريد هذا هو فصل الخطاب في مثل هذه الأمور . .
{ ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيماناً ، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون } . . فهؤلاء وهؤلاء سيجدون في عدد حراس سقر ما يدعو بعضهم إلى اليقين ويدعو البعض إلى ازدياد الإيمان . فأما الذين أوتوا الكتاب فلا بد أن لديهم شيئاً عن هذه الحقيقة ، فإذا سمعوها من القرآن استيقنوا أنه مصدق لما بين يديهم عنها . وأما الذين آمنوا فكل قول من ربهم يزيدهم إيماناً . لأن قلوبهم مفتوحة موصولة تتلقى الحقائق تلقياً مباشراً؛ وكل حقيقة ترد إليها من عند الله تزيدها أنساً بالله . . وستشعر قلوبهم بحمكة الله في هذا العدد ، وتقديره الدقيق في الخلق ، فتزيد قلوبهم إيماناً . وتثبت هذه الحقيقة في قلوب هؤلاء وهؤلاء فلا يرتابون بعدها فيما يأتيهم من عند الله .
{ وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون : ماذا أراد الله بهذا مثلاً؟ } . .
وهكذا تترك الحقيقة الواحدة أثرين مختلفين في القلوب المختلفة . . فبينما الذين أوتوا الكتاب يستيقنون ، والذين آمنوا يزيدون إيماناً ، إذا بالذين كفروا وضعاف القلوب المنافقون في حيرة يتساءلون : { ماذا أراد الله بهذا مثلاً؟ } . . فهم لا يدركون حكمة هذا الأمر الغريب . ولا يسلمون بحكمة الله المطلقة في تقدير كل خلق . ولا يطمئنون إلى صدق الخبر والخير الكامن في إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة . .
{ كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } . .
كذلك . بذكر الحقائق وعرض الآيات . فتتلقاها القلوب المختلفة تلقياً مختلفاً . ويهتدي بها فريق وفق مشيئة الله؛ ويضل بها فريق حسب مشيئة الله . فكل أمر مرجعه في النهاية إلى إرادة الله المطلقة التي ينتهي إليها كل شيء . وهؤلاء البشر خرجوا من يد القدرة باستعداد مزدوج ، للهدى والضلال؛ فمن اهتدى ومن ضل كلاهما يتصرف داخل حدود المشيئة التي خلقتهم بهذا الاستعداد المزدوج ، ويسرت لهم التصرف في هذا أو ذاك ، في حدود المشيئة الطليقة ، ووفق حكمة الله المكنونة .
وتصور طلاقة المشيئة وانتهاء كل ما يقع في هذا الوجود إليها تصوراً كاملاً واسع المدلول ، يعفي العقول من الجدل الضيق حول ما يسمونه الجبر والإرادة .

وهو الجدل الذي لا ينتهي إلى تصور صحيح ، بسبب أنه يتناول المسألة من زاوية ضيقة ، ويضعها في أشكال محددة نابعة من منطق الإنسان وتجاربه وتصوراته المحدودة بينما هو يعالج قضية من قضايا الألوهية غير المحدودة
لقد كشف الله لنا عن طريق الهدى وطريق الضلال . وحدد لنا نهجاً نسلكه فنهتدي ونسعد ونفوز . وبيّن لنا نهوجاً ننحرف إليها فنضل ونشقى ونخسر . ولم يكلفنا أن نعلم وراء ذلك شيئاً ، ولم يهبنا القدرة على علم شيء وراء هذا . وقال لنا : إن إرادتي مطلقة وإن مشيئتي نافذة . . فعلينا أن نعالج بقدر طاقتنا تصور حقيقة الإرادة المطلقة والمشيئة النافذة . وأن نلتزم النهج الهادي ونتجنب النهوج المضللة . ولا ننشغل في جدل عقيم حول ما لم نوهب القدرة على إدراك كنهه من الغيب المكنون . ومن ثم ننظر فنرى كل ما أنفقه المتكلمون في مسألة القدر على النحو الذي تكلموا به جهداً ضائعاً لا طائل وراءه لأنه في غير ميدانه . .
إننا لا نعلم مشيئة الله المغيبة بنا ، ولكننا نعلم ماذا يطلب الله منا لنستحق فضله الذي كتبه على نفسه . وعلينا إذن أن ننفق طاقتنا في أداء ما كلفنا ، وأن ندع له هو غيب مشيئته فينا . والذي سيكون هو مشيئته ، وعندما يكون سنعرف أن هذه مشيئته لا قبل كونه والذي سيكون وراءه حكمة يعرفها العليم بالكل المطلق . . وهو الله وحده . . وهذا هو طريق المؤمن في التصور ومنهجه في التفكر . .
{ وما يعلم جنود ربك إلا هو } . .
فهي غيب . حقيقتها . ووظيفتها . وقدرتها . . وهو يكشف عما يريد الكشف عنه من أمرها ، وقوله هو الفصل في شأنها . وليس لقائل بعده أن يجادل أو يماحك أو يحاول معرفة ما لم يكشف الله عنه ، فليس إلى معرفة هذا من سبيل . .
{ وما هي إلا ذكرى للبشر } . .
{ وهي } إما أن تكون هي جنود ربك ، وإما أن تكون هي سقر ومن عليها . وهي من جنود ربك . وذكرها جاء لينبه ويحذر؛ لا لتكون موضوعاً للجدل والمماحكة والقلوب المؤمنة هي التي تتعظ بالذكرى ، فأما القلوب الضالة فتتخذها مماحكة وجدلاً
ويعقب على هذه الوقفة التقريرية لهذه الحقيقة من حقائق الغيب ، ولمناهج التصور الهادية والمضللة . . يعقب على هذا بربط حقيقة الآخرة ، وحقيقة سقر ، وحقيقة جنود ربك ، بظواهر الوجود المشهودة في هذا العالم ، والتي يمر عليها البشر غافلين ، وهي تشي بتقدير الإرادة الخالقة وتدبيرها ، وتوحي بأن وراء هذا التقدير والتدبير قصداً وغاية ، وحساباً وجزاء :
{ كلا والقمر . والليل إذ أدبر . والصبح إذآ أسفر . إنها لإحدى الكبر . نذيراً للبشر } ومشاهد القمر ، والليل حين يدبر ، والصبح حين يسفر . . مشاهد موحية بذاتها ، تقول للقلب البشري أشياء كثيرة؛ وتهمس في أعماقه بأسرار كثيرة؛ وتستجيش في أغواره مشاعر كثيرة .

والقرآن يلمس بهذه الإشارة السريعة مكامن هذه المشاعر والأسرار في القلوب التي يخاطبها ، على خبرة بمداخلها ودروبها
وقلَّ أن يستيقظ قلب لمشهد القمر حين يطلع يسري وحين يغيب . . ثم لا يعي عن القمر شيئاً يهمس له به من أسرار هذا الوجود وإن وقفة في نور القمر أحياناً لتغسل القلب كما لو كان يستحم بالنور
وقلَّ أن يستيقظ قلب لمشهد الليل عند إدباره ، في تلك الهدأة التي تسبق الشروق ، وعندما يبدأ هذا الوجود كله يفتح عينيه ويفيق . . ثم لا ينطبع فيه أثر من هذا المشهد وتدب في أعماقه خطرات رفافة شفافة .
وقلَّ أن يستيقظ قلب لمشهد الصبح عند إسفاره وظهوره ، ثم لا تنبض فيه نابضة من إشراق وتفتح وانتقال شعوري من حال إلى حال ، يجعله أشد ما يكون صلاحية لاستقبال النور الذي يشرق في الضمائر مع النور الذي يشرق في النواظر .
والله الذي خلق القلب البشري يعلم أن هذه المشاهد بذاتها تصنع فيه الأعاجيب في بعض الأحايين ، وكأنها تخلقه من جديد .
ووراء هذه الانبعاثات والإشراقات والاستقبالات ما في القمر ، وما في الليل ، وما في الصبح من حقيقة عجبية هائلة يوجه القرآن إليها المدارك ، وينبه إليها العقول . ومن دلا لة على القدرة المبدعة والحكمة المدبرة ، والتنسيق الإلهي لهذا الكون ، بتلك الدقة التي يحير تصورها العقول .
ويقسم الله سبحانه بهذه الحقائق الكونية الكبيرة لتنبيه الغافلين لأقدارها العظيمة ، ودلالاتها المثيرة . يقسم على أن { سقر } أو الجنود التي عليها ، أو الآخرة وما فيها ، هي إحدى الأمور الكبيرة العجيبة المنذرة للبشر بما وراءهم من خطر :
{ إنها لإحدى الكبر ، نذيراً للبشر } . .
والقسم ذاته ، ومحتوياته ، والمقسم عليه بهذه الصورة . . كلها مطارق تطرق قلوب البشر بعنف وشدة ، وتتسق مع النقر في الناقور ، وما يتركه من صدى في الشعور . ومع مطلع السورة بالنداء الموقظ : { يا أيها المدثر } والأمر بالنذارة : { قم فأنذر } . . فالجو كله نقر وطرق وخطر
وفي ظل هذه الإيقاعات المثيرة الخطيرة يعلن تبعة كل نفس لذاتها وعلى ذاتها؛ ويدع للنفوس أن تختار طريقها ومصيرها؛ ويعلن لها أنها مأخوذة بما تكسبه باختيارها ، مرهونة بأعمالها وأوزارها :
{ لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر . كل نفس بما كسبت رهينة } . .
فكل فرد يحمل همَّ نفسه وتبعتها ، ويضع نفسه حيث شاء أن يضعها ، يتقدم بها أو يتأخر ، ويكرمها أو يهينها . فهي رهينة بما تكسب ، مقيدة بما تفعل . وقد بين الله للنفوس طريقة لتسلك إليه على بصيرة ، وهو إعلان في مواجهة المشاهد الكونية الموحية ، ومشاهد سقر التي لا تبقي ولا تذر . . له وقعه وله قيمته
وعلى مشهد النفوس الرهينة بما كسبت ، المقيدة بما فعلت ، يعلن إطلاق أصحاب اليمين من العقال ، وإرسالهم من القيد ، وتخويلهم حق سؤال المجرمين عما انتهى بهم إلى هذا المصير :
{ إلا أصحاب اليمين ، في جنات يتسآءلون عن المجرمين : ما سلككم في سقر؟ قالوا : لم نك من المصلين ، ولم نك نطعم المسكين ، وكنا نخوض مع الخآئضين ، وكنا نكذب بيوم الدين ، حتى أتانا اليقين } .

.
وانطلاق أصحاب اليمين وانفلاتهم من الرهن والقيد موكول إلى فضل الله الذي يبارك حسناتهم ويضاعفها . وإعلان ذلك في هذا الموقف وعرضه يلمس القلوب لمسة مؤثرة . يلمس قلوب المجرمين المكذبين ، وهم يرون أنفسهم في هذا الموقف المهين ، الذي يعترفون فيه فيطيلون الاعتراف ، بينما المؤمنون الذين كانوا لا يحفلونهم في الدنيا ، ولا يبالونهم ، في موقف الكرامة والاستعلاء ، يسألونهم سؤال صاحب الشأن المفوض في الموقف : { ما سلككم في سقر؟ } . . ويلمس قلوب المؤمنين الذين كانوا يلاقون من المجرمين ما يلاقون في الأرض ، وهم يجدون أنفسهم اليوم في هذا المقام الكريم وأعداءهم المستكبرين في ذلك المقام المهين . . وقوة المشهد تلقي في نفوس الفريقين أنه قائم اللحظة وأنهم فيه قائمون . . وتطوي صفحة الحياة الدنيا بما فيها كأنه ماض انتهى وولى
والاعتراف الطويل المفصل يتناول الجرائر الكثيرة التي انتهت بالمجرمين إلى سقر ، يعترفون بها هم بألسنتهم في ذلة المستكين أمام المؤمنين :
{ قالوا : لم نك من المصلين } . . وهي كناية عن الإيمان كله ، تشير إلى أهمية الصلاة في كيان هذه العقيدة ، وتجعلها رمز الإيمان ودليله ، يدل إنكارها على الكفر ، ويعزل صاحبها عن صف المؤمنين .
{ ولم نك نطعم المسكين } . . وهذه تلي عدم الإيمان ، بوصفها عبادة الله في خلقه ، بعد عبادته سبحانه في ذاته . ويدل ذكرها بهذه القوة في مواضع شتى على الحالة الاجتماعية التي كان القرآن يواجهها ، وانقطاع الإحسان للفقير في هذه البيئة القاسية ، على الرغم من الفخر بالكرم في مواضع المفاخرة والاختيال ، مع تركه في مواضع الحاجة والعطف الخالص البريء .
{ وكنا نخوض مع الخائضين } . . وهي تصف حالة الاستهتار بأمر العقيدة ، وحقيقة الإيمان ، وأخذها مأخذ الهزل واللعب والخوض بلا مبالاة ولا احتفال . وهي أعظم الجد وأخطر الأمر في حياة الإنسان؛ وهي الشأن الذي ينبغي أن يفصل فيه ضميره وشعوره قبل أن يتناول أي شأن آخر من شؤون هذه الحياة ، فعلى أساسها يقوم تصوره وشعوره وقيمه وموازينه . وعلى ضوئها يمضي في طريق الحياة . فكيف لا يقطع فيها برأي ولا يأخذها مأخذ الجد؟ ويخوض فيها مع الخائضين ، ويلعب فيها مع اللاعبين؟
{ وكنا نكذب بيوم الدين } وهذه أس البلايا . فالذي يكذب بيوم الدين تختل في يده جميع الموازين ، وتضطرب في تقديره جميع القيم ، ويضيق في حسه مجال الحياة ، حين يقتصر على هذا العمر القصير المحدود في هذه الأرض؛ ويقيس عواقب الأمور بما يتم منها في هذا المجال الصغير القصير ، فلا يطمئن إلى هذه العواقب ، ولا يحسب حساب التقدير الأخير الخطير . . ومن ثم تفسد مقاييسه كلها ويفسد في يده كل أمر من أمور هذه الدنيا ، قبل أن يفسد عليه تقديره للآخرة ومصيره فيها .

. وينتهي من ثم إلى شر مصير .
والمجرمون يقولون : إننا ظللنا على هذه الأحوال ، لا نصلي ، ولا نطعم المسكين ، ونخوض مع الخائضين ، ونكذب بيوم الدين . .
{ حتى أتانا اليقين } . . الموت الذي يقطع كل شك وينهي كل ريب ، ويفصل في الأمر بلا مرد . . ولا يترك مجالاً لندم ولا توبة ولا عمل صالح . . بعد اليقين . .
ويعقب السياق على الموقف السيئ المهين ، بقطع كل أمل في تعديل هذا المصير :
{ فما تنفعهم شفاعة الشافعين } . .
فقد قضي الأمر ، وحق القول ، وتقرر المصير ، الذي يليق بالمجرمين المعترفين وليس هنالك من يشفع للمجرمين أصلاً . وحتى على فرض ما لا وجود له فما تنفعهم شفاعة الشافعين
وأمام هذا الموقف المهين الميئوس منه في الآخرة ، يردهم إلى موقف في الفرصة المتاحة لهم في الأرض قبل مواجهة ذلك الموقف؛ وهم يصدون عنها ويعرضون ، بل يفرون من الهدى والخير ووسائل النجاة المعروضة عليهم فيها ، ويرسم لهم صورة مضحكة تثير السخرية والعجب من أمرهم الغريب :
{ فما لهم عن التذكرة معرضين؟ كأنهم حمر مستنفرة ، فرت من قسورة؟ } . .
ومشهد حمر الوحش وهي مستنفرة تفر في كل اتجاه ، حين تسمع زئير الأسد وتخشاه . . مشهد يعرفه العرب . وهو مشهد عنيف الحركة . مضحك أشد الضحك حين يشبه به الآدميون حين يخافون فكيف إذا كانوا إنما ينفرون هذا النفار الذي يتحولون به من آدميين إلى حمر ، لا لأنهم خائفون مهددون بل لأن مذكراً يذكرهم بربهم وبمصيرهم ، ويمهد لهم الفرصة ليتقوا ذلك الموقف الزري المهين ، وذلك المصير العصيب الأليم؟
إنها الريشة المبدعة ترسم هذا المشهد وتسجله في صلب الكون ، تتملاه النفوس ، فتخجل وتستنكف أن تكون فيه ، ويروح النافرون المعرضون أنفسهم يتوارون من الخجل ، ويطامنون من الإعراض والنفار ، مخافة هذا التصوير الحي العنيف
تلك هيئتهم الخارجية . { حمر مستنفرة ، فرت من قسورة } ثم لا يدعهم حتى يرسم نفوسهم من الداخل ، وما يعتلج فيها من المشاعر :
{ بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة } . .
فهو الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يختاره الله ويوحي إليه؛ والرغبة الملحة أن ينال كل منهم هذه المنزلة ، وأن يؤتى صحفاً تنشر على الناس وتعلن . . ولا بد أن الإشارة هنا كانت بصدد الكبراء الذين شق عليهم أن يتخطاهم الوحي إلى محمد بن عبد الله ، فقالوا : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم؟ } . . ولقد علم الله أين يضع رسالته واختار لها ذلك الإنسان الكريم الكبير العظيم . فكان الحنق الذي يغلي في الصدور ، والذي يكشف عنه القرآن ، وهو يعلل ذلك الشماس والنفار
ثم يستمر في رسم صورة النفوس من داخلها ، فيضرب عما ذكره من ذلك الطمع والحسد ، ويذكر سبباً آخر للإعراض والجحود . وهو يردع في نفوسهم ذلك الطمع الذي لا يستند إلى سبب من صلاح ولا من استعداد لتلقي وحي الله وفضله :
{ كلا بل لا يخافون الآخرة } .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36