كتاب : في ظلال القرآن
المؤلف : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي

.
وعدم خوفهم من الآخرة هو الذي ينأى بهم عن التذكرة ، وينفرهم من الدعوة هذه النفرة . ولو استشعرت قلوبهم حقيقة الآخرة لكان لهم شأن غير هذا الشأن المريب
ثم يردعهم مرة أخرى ، وهو يلقي إليهم بالكلمة الأخيرة ، ويدعهم لما يختارون لأنفسهم من طريق ومصير :
{ كلا إنه تذكرة . فمن شاء ذكره } . .
إنه ، هذا القرآن الذي يعرضون عن سماعه ، وينفرون كالحمر ، وهم يضمرون في أنفسهم الحسد لمحمد ، والاستهتار بالآخرة . . إنه تذكرة تنبه وتذكر . فمن شاء فليذكر . ومن لم يشأ فهو وشأنه ، وهو ومصيره ، وهو وما يختار من جنة وكرامة ، أو من سقر ومهانة . .
وبعد أن يثبت مشيئتهم في اختيار الطريق يعقب بطلاقة المشيئة الإلهية ، وعودة الأمور إليها في النهاية . وهي الحقيقة التي يحرص القرآن على تقريرها في كل مناسبة لتصحيح التصور الإيماني من ناحية طلاقة المشيئة الإلهية وشمولها الكامل الأخير ، وراء جميع الأحداث والأمور :
{ وما يذكرون إلا أن يشاء الله ، هو أهل التقوى وأهل المغفرة } . .
فكل ما يقع في هذا الوجود ، مشدود إلى المشيئة الكبرى ، يمضي في اتجاهها وفي داخل مجالها . فلا يقع أن يشاء أحد من خلقه ما يتعارض مع مشيئته ، ومشيئته تسيطر على أقدار الوجود كله ، وهي التي أنشأته وأنشأت نواميسه وسننه ، فهو يمضي بكل ما فيه وكل من فيه في إطار من تلك المشيئة المطلقة من كل إطار ومن كل حد ومن كل قيد .
والذكر توفيق من الله ييسره لمن يعلم من حقيقة نفسه أنه يستحق التوفيق . والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء . فإذا علم من العبد صدق النية وجهه إلى الطاعات .
والعبد لا يعرف ماذا يشاء الله به . فهذا من الغيب المحجوب عنه . ولكنه يعرف ماذا يريد الله منه ، فهذا مما بينه له . فإذا صدقت نيته في النهوض بما كلف أعانه الله ووجهه وفق مشيئته الطليقة .
والذي يريد القرآن أن يطبعه في حس المسلم هو طلاقة هذه المشيئة ، وإحاطتها بكل مشيئة ، حتى يكون التوجه إليها من العبد خالصاً ، والاستسلام لها ممحضاً . . فهذه هي حقيقة الإسلام القلبية التي لا يستقر في قلب بدونها . وإذا استقرت فيه كيفته تكييفياً خاصاً من داخله ، وأنشأت فيه تصوراً خاصاً يحتكم إليه في كل أحداث الحياة . . وهذا هو المقصود ابتداء من تقرير طلاقة المشيئة الإلهية وشمولها عقب الحديث عن كل وعد بجنة أو نار ، وبهدى أو ضلال .
فأما أخذ هذا الإطلاق ، والانحراف به إلى جدل حول الجبر والاختيار ، فهو اقتطاع لجانب من تصور كلي وحقيقة مطلقة ، والتحيز بها في درب ضيق مغلق لا ينتهي إلى قول مريح . لأنها لم تجئ في السياق القرآني لمثل هذا التحيز في الدرب الضيق المغلق
{ وما يذكرون إلا أن يشاء الله } . . فهم لا يصادمون بمشيئتهم مشيئة الله ، ولا يتحركون في اتجاه ، إلا بإرادة من الله ، تقدرهم على الحركة والاتجاه .
والله { هو أهل التقوى } . . يستحقها من عباده . فهم مطالبون بها . .
{ وأهل المغفرة } . . يتفضل بها على عباده وفق مشيئته .
والتقوى تستأهل المغفرة ، والله سبحانه أهل لهما جميعاً .
بهذه التسبيحة الخاشعة تختم السورة ، وفي النفس منها تطلع إلى وجه الله الكريم ، أن يشاء بالتوفيق إلى الذكر ، والتوجيه إلى التقوى ، والتفضيل بالمغفرة .
{ هو أهل التقوى وأهل المغفرة } . .

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)

هذه السورة الصغيرة تحشد على القلب البشري من الحقائق والمؤثرات والصور والمشاهد ، والإيقاعات واللمسات ، ما لا قبل له بمواجهته ولا التفلت منه . . تحشدها بقوة ، في أسلوب خاص ، يجعل لها طابعاً قرآنياً مميزاً ، سواء في أسلوب الأداء التعبيري ، أو أسلوب الأداء الموسيقي ، حيث يجتمع هذا وذاك على إيقاع تأثير شعوري قوي ، تصعب مواجهته ويصعب التفلت منه أيضاً
إنها تبدأ في الآيتين الأوليين منها بإيقاع عن القيامة ، وإيقاع عن النفس : { لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة } . . ثم يستطرد الحديث فيها متعلقاً بالنفس ومتعلقاً بالقيامة ، من المطلع إلى الختام ، تزاوج بين النفس وبين القيامة حتى تنتهي . وكأن هذا المطلع إشارة إلى موضوع السورة . أو كأنه اللازمة الإيقاعية التي ترتد إليها كل إيقاعات السورة ، بطريقة دقيقة جميلة . .
من تلك الحقائق الكبيرة التي تحشدها هذه السورة في مواجهة القلب البشري ، وتضرب بها عليه حصاراً لا مهرب منه . . حقيقة الموت القاسية الرهيبة التي تواجه كل حي ، فلا يملك لها رداً ، ولا يملك لها أحد ممن حوله دفعاً . وهي تتكرر في كل لحظة ، ويواجهها الكبار والصغار ، والأغنياء والفقراء ، والأقوياء والضعاف ، ويقف الجميع منها موقفاً واحداً . . لا حيلة . ولا وسيلة . ولا قوة . ولا شفاعة . ولا دفع . ولا تأجيل . . مما يوحي بأنها قادمة من جهة عليا لا يملك البشر معها شيئاً . ولا مفر من الاستسلام لها ، والاستسلام لإرادة تلك الجهة العليا . . وهذا هو الإيقاع الذي تمس به السورة القلوب وهي تقول : { كلا إذا بلغت التراقي ، وقيل : من راق؟ وظن أنه الفراق . والتفَّت الساق بالساق . . إلى ربك يومئذ المساق } . .
ومن تلك الحقائق الكبيرة التي تعرضها السورة ، حقيقة النشأة الأولى ، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى ، وعلى أن هناك تدبيراً في خلق هذا الإنسان وتقديراً . . وهي حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها وتتابعها في صنعة مبدعة ، لا يقدر عليها إلا الله ، ولا يدعها أحد ممن يكذبون بالآخرة ويتمارون فيها . فهي قاطعة في أن هناك إلهاً واحداً يدبر هذا الأمر ويقدره؛ كما أنها بينة لا ترد على يسر النشأة الآخرة ، وإيحاء قوي بضرورة النشأة الآخرة ، تمشياً مع التقدير والتدبير الذي لا يترك هذا الإنسان سدى ، ولا يدع حياته وعمله بلا وزن ولا حساب . . وهذا هو الإيقاع الذي تمس السورة به القلوب وهي تقول في أولها : { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه؟ } ثم تقول في آخرها : { أيحسب الإنسان أن يترك سدى؟ ألم يك نطفة من مني يمنى؟ ثم كان علقة فخلق فسوى؟ فجعل منه الزوجين : الذكر والأنثى؟ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ } . .
ومن المشاهد المؤثرة التي تحشدها السورة ، وتواجه بها القلب البشري مواجهة قوية .

. مشهد يوم القيامة وما يجري فيه من انقلابات كونية ، ومن اضطرابات نفسية ، ومن حيرة في مواجهة الأحداث الغالبة حيث يتجلى الهول في صميم الكون ، وفي أغوار النفس وهي تروغ من هنا ومن هناك كالفأر في المصيدة وذلك رداً على تساؤل الإنسان عن يوم القيامة في شك واستبعاد ليومها المغيب ، واستهانة بها ولجاج في الفجور . فيجيء الرد في إيقاعات سريعة ، ومشاهد سريعة ، وومضات سريعة : { بل يريد الإنسان ليفجر أمامه . يسأل : أيان يوم القيامة . فإذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر ، يقول الإنسان يومئذ : أين المفر؟ كلا لا وزر ، إلى ربك يومئذ المستقر ، ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر . بل الإنسان على نفسه بصيره ، ولو ألقى معاذيره } . .
ومن هذه المشاهد مشهد المؤمنين المطمئنين إلى ربهم ، المتطلعين إلى وجهه الكريم في ذلك الهول . ومشهد الآخرين المقطوعين الصلة بالله ، وبالرجاء فيه ، المتوقعين عاقبة ما أسلفوا من كفر ومعصية وتكذيب . وهو مشهد يعرض في قوة وحيوية كأنه حاضر لحظة قراءة القرآن . وهو يعرض رداً على حب الناس للعاجلة ، وإهمالهم للآخرة . وفي الآخرة يكون هذا الذي يكون : { كلا بل تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة . وجوه يؤمئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة . ووجوه يومئذ باسرة ، تظن أن يفعل بها فاقرة } . .
وفي ثنايا السورة وحقائقها تلك ومشاهدها تعترض أربع آيات تحتوي توجيهاً خاصاً للرسول صلى الله عليه وسلم وتعليماً له في شأن تلقي هذا القرآن . ويبدو أن هذا التعليم جاء بمناسبة حاضرة في السورة ذاتها . إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف أن ينسى شيئاً مما يوحى إليه ، فكان حرصه على التحرز من النسيان يدفعه إلى استذكار الوحي فقرة فقرة في أثناء تلقيه؛ وتحريك لسانه به ليستوثق من حفظه . فجاءه هذا التعليم : { لا تحرك به لسانك لتعجل به ، إن علينا جمعه وقرآنه ، فإذا قرأناه ، فاتبع قرآنه ، ثم إن علينا بيانه } . . جاءه هذا التعليم ليطمئنه إلى أن أمر هذا الوحي ، وحفظ هذا القرآن ، وجمعه ، وبيان مقاصده . . كل أولئك موكول إلى صاحبه . ودوره هو ، هو التلقي والبلاغ . فليطمئن بالاً ، وليتلق الوحي كاملاً ، فيجده في صدره منقوشاً ثابتاً . . وهكذا كان . . فأما هذا التعليم فقد ثبت في موضعه حيث نزل . . أليس من قول الله؟ وقول الله ثابت في أي غرض كان؟ ولأي أمر أراد؟ وهذه كلمة من كلماته تثبت في صلب الكتاب شأنها شأن بقية الكتاب . . ودلالة إثبات هذه الآيات في موضعها هذا من السورة دلالة عميقة موحية على حقيقة لطيفة في شأن كل كلمات الله في أي اتجاه . . وفي شأن هذا القرآن وتضمنه لكل كلمات الله التي أوحى بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُخرم منها حرف ، ولم تند منها عبارة .

فهو الحق والصدق والتحرج والوقار
وهكذا يشعر القلب وهو يواجه هذه السورة أنه محاصر لا يهرب . مأخوذ بعمله لا يفلت . لا ملجأ له من الله ولا عاصم . مقدرة نشأته وخطواته بعلم الله وتدبيره ، في النشأة الأولى وفي النشأة الآخرة سواء ، بينما هو يلهو ويلعب ويغتر ويتبطر : { فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى . ثم ذهب إلى أهله يتمطى } . .
وفي مواجهة تلك الحشود من الحقائق والمؤثرات واللمسات والإيحاءات يسمع التهديد الملفوف : { أولى لك فأولى . ثم أولى لك فأولى } فيكون له وقعة ومعناه
وهكذا تعالج السورة عناد هذا القلب وإعراضه وإصراره ولهوه . وتشعره بالجد الصارم الحازم في هذا الشأن ، شأن القيامة ، وشأن النفس ، وشأن الحياة المقدرة بحساب دقيق . ثم شأن هذا القرآن الذي لا يخرم منه حرف ، لأنه من كلام العظيم الجليل ، الذي تتجاوب جنبات الوجود بكلماته ، وتثبت في سجل الكون الثابت ، وفي صلب هذا الكتاب الكريم .
وقد عرضنا نحن لحقائق السورة ومشاهدها فرادى لمجرد البيان . وهي في نسق السورة شيء آخر . إذ أن تتابعها في السياق ، والمزاوجة بينها هنا وهناك ، ولمسة القلب بجانب من الحقيقة مرة ، ثم العودة إليه بالجانب الآخر بعد فترة . . كل ذلك من خصائص الأسلوب القرآني في مخاطبة القلب البشري؛ مما لا يبلغ إليه أسلوب آخر ، ولا طريقة أخرى . .
فلنأخذ في مواجهة السورة كما هي في سياقها القرآني الخاص :
{ لا أقسم بيوم القيامة ، ولا أقسم بالنفس اللوامة ، أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه؟ بلى قادرين على أن نسوي بنانه ، بل يريد الإنسان ليفجر أمامه ، يسأل : أيان يوم القيامة؟ فإذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر . . يقول الإنسان يومئذ : أين المفر؟ كلا لا وزر . إلى ربك يومئذ المستقر ، ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ، بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره } . .
هذا التلويح بالقسم مع العدول عنه أوقع في الحس من القسم المباشر؛ وهذا الوقع هو المقصود من العبارة ، وهو يتم أحسن تمام بهذا الأسلوب الخاص ، الذي يتكرر في مواضع مختلفة من القرآن . . ثم تبرز من ورائه حقيقة القيامة وحقيقة النفس اللوامة .
وحقيقة القيامة سيرد عنها الكثير في مواضعه في السورة . فأما النفس اللوامة ففي التفسيرات المأثورة أقوال متنوعة عنها . . فعن الحسن البصري : إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قدماً ما يعاتب نفسه . . وعن الحسن : ليس أحد من أهل السماوات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة . . وعن عكرمة : تلوم على الخير والشر : لو فعلت كذا وكذا كذلك عن سعيد بن جبير . . وعن ابن عباس : هي النفس اللؤوم . وعنه أيضاً : اللوامة المذمومة . وعن مجاهد : تندم على ما فات وتلوم عليه . . وعن قتادة : الفاجرة .

. وقال جرير : وكل هذه الأقوال متقاربة المعنى ، والأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر ، وتندم على ما فات .
ونحن نختار في معنى { النفس اللوامة } قول الحسن البصري : « إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجرة يمضي قدماً ما يعاتب نفسه » . .
فهذه النفس اللوامة المتيقظة التقية الخائفة المتوجسة التي تحاسب نفسها ، وتتلفت حولها ، وتتبين حقيقة هواها ، وتحذر خداع ذاتها هي النفس الكريمة على الله ، حتى ليذكرها مع القيامة . ثم هي الصورة المقابلة للنفس الفاجرة . نفس الإنسان الذي يريد أن يفجر ويمضي قدماً في الفجور ، والذي يكذب ويتولى ويذهب إلى أهله يتمطى دون حساب لنفسه ودون تلوم ولا تحرج ولا مبالاة
{ لا أقسم بيوم القيامة ، ولا أقسم بالنفس اللوامة } . . على وقوع هذه القيامة ، ولكنه لما عدل عن القسم ، عدل عن ذكر المقسم به ، وجاء به في صورة أخرى كأنها ابتداء لحديث بعد التنبيه إليه بهذا المطلع الموقظ :
{ أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه؟ بلى قادرين على أن نسوي بنانه } . .
وقد كانت المشكلة الشعورية عند المشركين هي صعوبة تصورهم لجمع العظام البالية ، الذاهبة في التراب ، المتفرقة في الثرى ، لإعادة بعث الإنسان حياً ولعلها لا تزال كذلك في بعض النفوس إلى يومنا هذا والقرآن يرد على هذا الحسبان بعدم جمع العظام مؤكداً وقوعه : { بلى قادرين على أن نسوي بنانه } . . والبنان أطراف الأصابع؛ والنص يؤكد عملية جمع العظام ، بما هو أرقى من مجرد جمعها ، وهو تسوية البنان ، وتركيبه في موضعه كما كان وهي كناية عن إعادة التكوين الإنساني بأدق ما فيه ، وإكماله بحيث لا تضيع منه بنان ، ولا تختل عن مكانها ، بل تسوى تسوية ، لا ينقص معها عضو ولا شكل هذا العضو ، مهما صغر ودق
ويكتفي هنا بهذا التقرير المؤكد ، وسيجيء في نهاية السورة دليل آخر من واقع النشأة الأولى . إنما يخلص هنا إلى الكشف عن العلة النفسية في هذا الحسبان ، وتوقع عدم جمع العظام . . إن هذا الإنسان يريد أن يفجر ، ويمضي قدماً في الفجور ، ولا يريد أن يصده شيء عن فجوره ، ولا أن يكون هناك حساب عليه وعقاب . ومن ثم فهو يستبعد وقوع البعث ، ويستبعد مجيء يوم القيامة :
{ بل يريد الإنسان ليفجر أمامه . يسأل أيان يوم القيامة؟ } . .
والسؤال بأيان هذا اللفظ المديد الجرس يوحي باستبعاده لهذا اليوم . . وذلك تمشياً مع رغبته في أن يفجر ويمضي في فجوره ، لا يصده شبح البعث وشبح الآخرة . . والآخرة لجام للنفس الراغبة في الشر ، ومصد للقلب المحب للفجور . فهو يحاول إزالة هذا المصد ، وإزاحة هذا اللجام ، لينطلق في الشر والفجور بلا حساب ليوم الحساب .
ومن ثم كان الجواب على التهكم بيوم القيامة واستبعاد موعدها ، سريعاً خاطفاً حاسماً ، ليس فيه تريث ولا إبطاء حتى في إيقاع النظم ، وجرس الألفاظ .

وكان مشهداً من مشاهد القيامة تشترك فيه الحواس والمشاعر الإنسانية ، والمشاهد الكونية :
{ فإذا برق البصر . وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر . يقول الإنسان يومئذ أين المفر؟ } .
فالبصر يخطف ويتقلب سريعاً سريعاً تقلب البرق وخطفه . والقمر يخسف ويطمس نوره . والشمس تقترن بالقمر بعد افتراق . ويختل نظامهما الفلكي المعهود ، حيث ينفرط ذلك النظام الكوني الدقيق . . وفي وسط هذا الذعر والانقلاب ، يتساءل الإنسان المرعوب : { أين المفر؟ } ويبدو في سؤاله الارتياع والفزع ، وكأنما ينظر في كل اتجاه ، فإذا هو مسدود دونه ، مأخوذ عليه
ولا ملجأ ولا وقاية ، ولا مفر من قهر الله وأخذه ، والرجعة إليه ، والمستقر عنده؛ ولا مستقر غيره :
{ كلا لا وزر . إلى ربك يومئذ المستقر } . .
وما كان يرغب فيه الإنسان من المضي في الفجور بلا حساب ولا جزاء ، لن يكون يومئذ ، بل سيكون كل ما كسبه محسوباً ، وسيذكر به إن كان نسيه ، ويؤخذ به بعد أن يذكره ويراه حاضراً :
{ ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } . .
بما قدمه من عمل قبل وفاته ، وبما أخره وراءه من آثار هذا العمل خيراً كان أم شراً . فمن الأعمال ما يخلف وراءه آثاراً تضاف لصاحبها في ختام الحساب
ومهما اعتذر الإنسان بشتى المعاذير عما وقع منه ، فلن يقبل منها عذر ، لأن نفسه موكولة إليه ، وهو موكل بها ، وعليه أن يهديها إلى الخير ويقودها . فإذا انتهى بها إلى الشر فهو مكلف بها وحجة عليها :
{ بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره } . .
ومما يلاحظ أن كل شيء سريع قصير : الفقر . والفواصل . والإيقاع الموسيقي . والمشاهد الخاطفة . وكذلك عملية الحساب : { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } هكذا في سرعة وإجمال . . ذلك أنه رد على استطالة الأمد والاستخفاف بيوم الحساب
ثم تجيء الآيات الأربع الخاصة بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن الوحي وتلقي هذا القرآن :
{ لا تحرك به لسانك لتعجل به . إن علينا جمعه وقرآنه . فإذا قرأناه فاتبع قرآنه . ثم إن علينا بيانه } . .
وبالإضافة إلى ما قلناه في مقدمة السورة عن هذه الآيات ، فإن الإيحاء الذي تتركه في النفس هو تكفل الله المطلق بشأن هذا القرآن : وحياً وحفظاً وجمعاً وبياناً؛ وإسناده إليه سبحانه وتعالى بكليته . ليس للرسول صلى الله عليه وسلم - من أمره إلا حمله وتبليغه . ثم لهفة الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة حرصه على استيعاب ما يوحى إليه؛ وأخذه مأخذ الجد الخالص ، وخشيته أن ينسى منه عبارة أو كلمة ، مما كان يدعوه إلى متابعة جبريل عليه السلام في التلاوة آية آية وكلمة كلمة يستوثق منها أن شيئاً لم يفته ، ويثبت من حفظه له فيما بعد
وتسجيل هذا الحادث في القرآن المتلو له قيمته في تعميق هذه الإيحاءات التي ذكرناها هنا وفي مقدمة السورة بهذا الخصوص .

ثم يمضي سياق السورة في عرض مشاهد القيامة وما يكون فيها من شأن النفس اللوامة ، فيذكرهم بحقيقة نفوسهم وما يعتلج فيها من حب للدنيا وانشغال ، ومن إهمال للآخرة وقلة احتفال؛ ويواجههم بموقفهم في الآخرة بعد هذا وما ينتهي إليه حالهم فيها . ويعرض لهم هذا الموقف في مشهد حي قوي الإيحاء عميق الإيقاع :
{ كلا . بل تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة . وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة؛ ووجوه يومئذ باسرة ، تظن أن يفعل بها فاقرة } . .
وأول ما يلحظ من ناحية التناسق في السياق هو تسمية الدنيا بالعاجلة في هذا الموضع . ففضلا عن إيحاء اللفظ بقصر هذه الحياة وسرعة انقضائها وهو الإيحاء المقصود فإن هناك تناسقاً بين ظل اللفظ وظل الموقف السابق المعترض في السياق ، وقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { لا تحرك به لسانك لتعجل به } . . فهذا التحريك وهذه العجلة هي أحد ظلال السمة البشرية في الحياة الدنيا . . وهو تناسق في الحس لطيف دقيق يلحظه التعبير القرآني في الطريق
ثم نخلص إلى الموقف الذي يرسمه هذا النص القرآني الفريد :
{ وجوه يؤمئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة } . .
إن هذا النص ليشير إشارة سريعة إلى حالة تعجز الكلمات عن تصويرها؛ كما يعجز الإدراك عن تصورها بكل حقيقتها . ذلك حين يعد الموعودين السعداء بحالة من السعادة لاتشبهها حالة . حتى لتتضاءل إلى جوارها الجنة بكل ما فيها من ألوان النعيم
هذه الوجوه الناضرة . . نضرها أنها إلى ربها ناظرة . .
إلى ربها . . ؟ فأي مستوى من الرفعة هذا؟ أي مستوى من السعادة؟
إن روح الإنسان لتستمتع أحياناً بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون أو النفس ، تراها في الليلة القمراء . أو الليل الساجي . أو الفجر الوليد . أو الظل المديد . أو البحر العباب . أو الصحراء المنسابة . أو الروض البهيج . أو الطلعة البهية . أو القلب النبيل . أو الإيمان الواثق . أو الصبر الجميل . . إلى آخر مطالع الجمال في هذا الوجود . . فتغمرها النشوة ، وتفيض بالسعادة ، وترف بأجنحة من نور في عوالم مجنحة طليقة . وتتوارى عنها أشواك الحياة ، وما فيها من ألم وقبح ، وثقلة طين وعرامة لحم ودم ، وصراع شهوات وأهواء . .
فكيف؟ كيف بها وهي تنظر لا إلى جمال صنع الله ولكن إلى جمال ذات الله؟
ألا إنه مقام يحتاج أولاً إلى مد من الله . ويحتاج ثانياً إلى تثبيت من الله . ليملك الإنسان نفسه ، فيثبت ، ويستمتع بالسعادة ، التي لا يحيط بها وصف ، ولا يتصور حقيقتها إدراك
{ وجوه يومئذ ناضرة . . إلى ربها ناظرة } . .
ومالها لا تتنضر وهي إلى جمال ربها تنظر؟
إن الإنسان لينظر إلى شيء من صنع الله في الأرض .

من طلعة بهية ، أو زهرة ندية ، أو جناح رفاف ، أو روح نبيل ، أو فعل جميل . فإذا السعادة تفيض من قلبه على ملامحه ، فيبدو فيها الوضاءة والنضارة . فكيف بها حين تنظر إلى جمال الكمال . مطلقاً من كل ما في الوجود من شواغل عن السعادة بالجمال؟ فما تبلغ الكينونة الإنسانية ذلك المقام ، إلا وقد خلصت من كل شائبة تصدها عن بلوغ ذلك المرتقى الذي يعز على الخيال كل شائبة لا فيما حولها فقط ، ولكن فيها هي ذاتها من دواعي النقص والحاجة إلى شيء ما سوى النظر إلى الله . .
فأما كيف تنظر؟ بأي جارحة تنظر؟ وبأي وسيلة تنظر؟ . . فذلك حديث لا يخطر على قلب يمسه طائف من الفرح الذي يطلقه النص القرآني ، في القلب المؤمن ، والسعادة التي يفيضها على الروح ، والتشوف والتطلع والانطلاق
فما بال أناس يحرمون أرواحهم أن تعانق هذا النور الفائض بالفرح والسعادة؟ ويشغلونها بالجدل حول مطلق ، لا تدركه العقول المقيدة بمألوفات العقل ومقرراته؟
إن ارتقاء الكينونة الإنسانية وانطلاقها من قيود هذه الكينونة الأرضية المحدودة ، هو فقط محط الرجاء في التقائها بالحقيقة الطليقة يومذاك . وقبل هذا الانطلاق سيعز عليها أن تتصور مجرد تصور كيف يكون ذلك اللقاء .
وإذن فقد كان جدلاً ضائعاً ذلك الجدل الطويل المديد الذي شغل به المعتزلة أنفسهم ومعارضيهم من أهل السنة والمتكلمين حول حقيقة النظر والرؤية في مثل ذلك المقام .
لقد كانوا يقيسون بمقاييس الأرض؛ ويتحدثون عن الإنسان المثقل بمقررات العقل في الأرض؛ ويتصورون الأمر بالمدارك المحدودة المجال .
إن مدلول الكلمات ذاته مقيد بما تدركه عقولنا وتصوراتنا المحدودة . فإذا انطلقت وتحررت من هذه التصورات فقد تتغير طبيعة الكلمات . فالكلمات ليست سوى رموز يختلف ما ترمز إليه بحسب التصورات الكامنة في مدارك الإنسان . فإذا تغيرت طاقته تغير معها رصيده من التصورات ، وتغيرت معها طبيعة مدلول الكلمات . ونحن نتعامل في هذه الأرض بتلك الرموز على قدر حالنا فما لنا نخوض في أمر لا يثبت لنا منه حتى مدلول الكلمات؟
فلنتطلع إلى فيض السعادة الغامر الهادئ ، وفيض الفرح المقدس الطهور ، الذي ينطلق من مجرد تصورنا لحقيقة الموقف على قدر ما نملك . ولنشغل أرواحنا بالتطلع إلى هذا الفيض؛ فهذا التطلع ذاته نعمة . لا تفوقها إلا نعمة النظر إلى وجهه الكريم . .
{ ووجوه يومئذ باسرة ، تظن أن يفعل بها فاقرة } .
وهي الوجوه الكالحة المتقبضة التعيسة ، المحجوبة عن النظر والتطلع ، بخطاياها وارتكاسها وكثافتها وانطماسها . وهي التي يشغلها ويحزنها ويخلع عليها البسر والكلوحة توقعها أن تحل بها الكارثة القاصمة للظهر ، المحطمة للفقار . . الفاقرة . وهي من التوقع والتوجس في كرب وكلوحة وتقبض وتنغيص . .
فهذه هي الآخرة التي يذرونها ويهملونها؛ ويتجهون إلى العاجلة يحبونها ويحفلونها . ووراءهم هذا اليوم الذي تختلف فيه المصائر والوجوه ، هذا الاختلاف الشاسع البعيد من وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة إلى وجوه يومئذ باسرة ، تظن أن يفعل بها فاقرة
وإذا كانت مشاهد القيامة .

. إذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر ، وقال الإنسان يومئذ أين المفر . ولا مفر . وإذا اختلفت المصائر والوجوه ، ذلك الاختلاف الشاسع البعيد ، فكانت وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة . .
إذا كانت تلك المشاهد تستمد قوتها وإيقاعها في النفس ، من قوة الحقيقة الكامنة فيها ، وقوة الأداء القرآني الذي يشخصها ويحييها ، فإن السورة بعد عرض تلك المشاهد تقرب وتقرب حتى تلمس حس المخاطبين بمشهد آخر حاضر واقع مكرور ، لا تمر لحظة حتى يواجههم في هذه الأرض بقوته ووضوحه ووزنه الثقيل
إنه مشهد الموت . الموت الذي ينتهي إليه كل حي ، والذي لا يدفعه عن نفسه ولا عن غيره حي . الموت الذي يفرق الأحبة ، ويمضي في طريقه لا يتوقف ، ولا يتلفت ، ولا يستجيب لصرخة ملهوف ، ولا لحسرة مفارق ، ولا لرغبة راغب ولا لخوف خائف الموت الذي يصرع الجبابرة بنفس السهولة التي يصرع بها الأقزام ، ويقهر بها المتسلطين كما يقهر المستضعفين سواء الموت الذي لا حيلة للبشر فيه وهم مع هذا لا يتدبرون القوة القاهرة التي تجريه :
{ كلا إذا بلغت التراقي ، وقيل : من راقٍ؟ وظن أنه الفراق ، والتفت الساق بالساق . إلى ربك يومئذ المساق } . .
إنه مشهد الاحتضار ، يواجههم به النص القرآني كأنه حاضر ، وكأنه يخرج من ثنايا الألفاظ ويتحرك كما تخرج ملامح الصورة من خلال لمسات الريشة
{ كلا إذا بلغت التراقي } . . وحين تبلغ الروح التراقي يكون النزع الأخير ، وتكون السكرات المذهلة ، ويكون الكرب الذي تزوغ منه الأبصار . . ويتلفت الحاضرون حول المحتضر يتلمسون حيلة أو وسيلة لاستنقاذ الروح المكروب : { وقيل : من راقٍ؟ } لعل رُقية تفيد . . وتلوَّى المكروب من السكرات والنزع . . { والتفت الساق بالساق } . . وبطلت كل حيلة ، وعجزت كل وسيلة ، وتبين الطريق الواحد الذي يساق إليه كل حي في نهاية المطاف : { إلى ربك يومئذ المساق } . .
إن المشهد ليكاد يتحرك وينطق . وكل آية ترسم حركة . وكل فقرة تخرج لمحة . وحالة الاحتضار ترتسم ويرتسم معها الجزع والحيرة واللهفة ومواجهة الحقيقة القاسية المريرة ، التي لا دافع لها ولا راد . . ثم تظهر النهاية التي لا مفر منها . . { إلى ربك يومئذ المساق } . .
ويسدل الستار على المشهد الفاجع ، وفي العين منه صورة ، وفي الحس منه أثر ، وعلى الجو كله وجوم صامت مرهوب .
وفي مواجهة المشهد المكروب الملهوف الجاد الواقع يعرض مشهد اللاهين المكذبين ، الذين لا يستعدون بعمل ولا طاعة ، بل يقدمون المعصية والتولي ، في عبث ولهو ، وفي اختيال بالمعصية والتولي :
{ فلا صدق ولا صلى ، ولكن كذب وتولى ، ثم ذهب إلى أهله يتمطى } . .
وقد ورد أن هذه الآيات تعني شخصاً معيناً بالذات ، قيل هو أبو جهل « عمرو بن هشام » .

. وكان يجيء أحياناً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن . ثم يذهب عنه ، فلا يؤمن ولا يطيع ، ولا يتأدب ولا يخشى؛ ويؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول ، ويصد عن سبيل الله . . ثم يذهب مختالاً بما يفعل ، فخوراً بما ارتكب من الشر ، كأنما فعل شيئاً يذكر . .
والتعبير القرآني يتهكم به ، ويسخر منه ، ويثير السخرية كذلك ، وهو يصور حركة اختياله بأنه { يتمطى } يمط في ظهره ويتعاجب تعاجباً ثقيلاً كريهاً
وكم من أبي جهل في تاريخ الدعوة إلى الله ، يسمع ويعرض ، ويتفنن في الصد عن سبيل الله ، والأذى للدعاة ، ويمكر مكر السيئ ، ويتولى وهو فخور بما أوقع من الشر والسوء ، وبما أفسد في الأرض ، وبما صد عن سبيل الله ، وبما مكر لدينه وعقيدته وكاد
والقرآن يواجه هذه الخيلاء الشريرة بالتهديد والوعيد :
{ أولى لك فأولى . ثم أولى لك فأولى } . .
وهو تعبير اصطلاحي يتضمن التهديد والوعيد ، وقد أمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم بخناق أبي جهل مرة ، وهزه ، وهو يقول له : { أولى لك فأولى . ثم أولى لك فأولى } . . فقال عدو الله : أتوعدني يا محمد؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئاً . وإني لأعز من مشى بين جبليها فاخذه الله يوم بدر بيد المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم وبرب محمد القوي القهار المتكبر . ومن قبله قال فرعون لقومه : { ما علمت لكم من إله غيري } وقال : { أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ } ثم أخذه الله كذلك .
وكم من أبي جهل في تاريخ الدعوات يعتز بعشيرته وبقوته وبسلطانه؛ ويحسبها شيئاً ، وينسى الله وأخذه . حتى يأخذه أهون من بعوضة ، وأحقر من ذبابة . . إنما هو الأجل الموعود لا يستقدم لحظة ولا يستأخر .
وفي النهاية يمس القلوب بحقيقة أخرى واقعية في حياتهم ، لها دلالتها على تدبير الله وتقديره لحياة الإنسان . ولها دلالتها كذلك على النشأة الآخرة التي ينكرونها أشد الإنكار . ولا مفر من مواجهتها ، ولا حيلة في دفع دلالتها :
{ أيحسب الإنسان أن يترك سدى؟ ألم يك نطفة من مني يمنى؟ ثم كان علقة فخلق فسوى؟ فجعل منه الزوجين : الذكر والأنثى؟ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ } . .
وهذا المقطع الأخير العميق الإيقاع ، يشتمل على لفتات عميقة إلى حقائق كبيرة . ما كان المخاطبون بهذا القرآن يخطرونها على بالهم في ذلك الزمان . وأولى هذه اللفتات تلك اللفتة إلى التقدير والتدبير في حياة الإنسان :
{ أيحسب الإنسان أن يترك سدى } . .
فلقد كانت الحياة في نظر القوم حركة لا علة لها ولا هدف ولا غاية . . أرحام تدفع وقبور تبلع . . وبين هاتين لهو ولعب ، وزينة وتفاخر ، ومتاع قريب من متاع الحيوان .

. فأما أن يكون هناك ناموس ، وراءه هدف ، ووراء الهدف حكمة؛ وأن يكون قدوم الإنسان إلى هذه الحياة وفق قدر يجري إلى غاية مقدرة ، وأن ينتهي إلى حساب وجزاء ، وأن تكون رحلته على هذه الأرض ابتلاء ينتهي إلى الحساب والجزاء . . أما هذا التصور الدقيق المتناسق ، والشعور بما وراءه من ألوهية قادرة مدبرة حكيمة ، تفعل كل شيء بقدر ، وتنهي كل شيء إلى نهاية . . أما هذا فكان أبعد شيء عن تصور الناس ومداركهم ، في ذلك الزمان .
والذي يميز الإنسان عن الحيوان ، هو شعوره باتصال الزمان والأحداث والغايات . وبوجود الهدف والغاية من وجوده الإنساني ، ومن الوجود كله من حوله . وارتقاؤه في سلم الإنسانية يتبع نمو شعوره هذا وسعته ، ودقة تصوره لوجود الناموس ، وارتباط الأحداث والأشياء بهذا الناموس . فلا يعيش عمره لحظة لحظة ، ولا حادثة حادثة ، بل يرتبط في تصوره الزمان والمكان والماضي والحاضر والمستقبل . ثم يرتبط هذا كله بالوجود الكبير ونواميسه . ثم يرتبط هذا كله بإرادة عليا خالقة مدبرة لا تخلق الناس عبثاً ولا تتركهم سدى .
وهذا هو التصور الكبير الذي نقل القرآن الناس إليه منذ ذلك العهد البعيد ، نقلة هائلة بالقياس إلى التصورات السائدة إذ ذاك وما تزال هائلة بالقياس إلى سائر التصورات الكونية التي عرفتها الفلسفة قديماً وحديثاً .
وهذه اللمسة : { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } . . هي إحدى لمسات القرآن التوجيهية للقلب البشري ، كي يتلفت ويستحضر الروابط والصلات ، والأهداف والغايات ، والعلل والأسباب ، التي تربط وجوده بالوجود كله ، وبالإرادة المدبرة للوجود كله .
وفي غير تعقيد ولا غموض يأتي بالدلائل الواقعة البسيطة التي تشهد بأن الإنسان لن يترك سدى . . إنها دلائل نشأته الأولى :
{ ألم يك نطفة من مني يمنى؟ ثم كان علقة فخلق فسوى؟ فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى؟ } .
فما هذا الإنسان؟ مما خلق؟ وكيف كان؟ وكيف صار؟ وكيف قطع رحلته الكبيرة حتى جاء إلى هذا الكوكب؟
ألم يك نطفة صغيرة من الماء ، من مني يمنى ويراق؟ ألم تتحول هذا النطفة من خلية واحدة صغيرة إلى علقة ذات وضع خاص في الرحم ، تعلق بجدرانه لتعيش وتستمد الغذاء؟ فمن ذا الذي ألهمها هذه الحركة؟ ومن ذا الذي أودعها هذه القدرة؟ ومن ذا الذي وجهها هذا الاتجاه؟
ثم من ذا الذي خلقها بعد ذلك جنيناً معتدلاً منسق الأعضاء؟ مؤلفاً جسمه من ملايين الملايين من الخلايا الحية ، وهو في الأصل خلية واحدة مع بويضة؟ والرحلة المديدة التي قطعها من الخلية الواحدة إلى الجنين السوي وهي أطول بمراحل من رحلته من مولده إلى مماته والتغيرات التي تحدث في كيانه في الرحلة الجنينية أكثر وأوسع مدى من كل ما يصادفه من الأحداث في رحلته من مولده إلى مماته فمن ذا الذي قاد هذه الرحلة المديدة ، وهو خليقة صغيرة ضعيفة ، لا عقل لها ولا مدارك ولا تجارب؟
ثم في النهاية .

من ذا الذي جعل من الخلية الواحدة . . الذكر والأنثى؟ . . أي إرادة كانت لهذه الخلية في أن تكون ذكراً؟ وأي إرادة لتلك في أن تكون أنثى؟ أم من ذا الذي يزعم أنه تدخل فقاد خطواتهما في ظلمات الرحم إلى هذا الاختيار؟
إنه لا مفر من الإحساس باليد اللطيفة المدبرة التي قادت النطفة المراقة في طريقها الطويل ، حتى انتهت بها إلى ذلك المصير . . { فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } . .
وأمام هذه الحقيقة التي تفرض نفسها فرضاً على الحس البشري ، يجيء الإيقاع الشامل لجملة من الحقائق التي تعالجها السورة :
{ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ } . .
بلى سبحانه فإنه لقادر على أن يحيي الموتى
بلى سبحانه فإنه لقادر على النشأة الأخرى
بلى سبحانه وما يملك الإنسان إلا أن يخشع أمام هذه الحقيقة التي تفرض نفسها فرضاً .
وهكذا تنتهي السورة بهذا الإيقاع الحاسم الجازم ، القوي العميق ، الذي يملأ الحس ويفيض ، بحقيقة الوجود الإنساني وما وراءها من تدبير وتقدير . .

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)

في بعض الروايات أن هذه السورة مدنية ، ولكنها مكية؛ ومكيتها ظاهرة جداً ، في موضوعها وفي سياقها ، وفي سماتها كلها . لهذا رجحنا الروايات الأخرى القائلة بمكيتها . بل نحن نلمح من سياقها أنها من بواكير ما نزل من القرآن المكي . . تشي بهذا صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة ، وصور العذاب الغليظ ، كما يشي به توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصبر لحكم ربه ، وعدم إطاعة آثم منهم أو كفور؛ مما كان يتنزل عند اشتداد الأذى على الدعوة وأصحابها في مكة ، مع إمهال المشركين وتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على الحق الذي نزل عليه ، وعدم الميل إلى ما يدهنون به . . كما جاء في سورة القلم ، وفي سورة المزمل ، وفي سورة المدثر ، مما هو قريب من التوجيه في هذه السورة . . واحتمال أن هذه السورة مدنية في نظرنا هو احتمال ضعيف جداً ، يمكن عدم اعتباره
والسورة في مجموعها هتاف رخي ندي إلى الطاعة ، والالتجاء إلى الله ، وابتغاء رضاه ، وتذكر نعمته ، والإحساس بفضله ، واتقاء عذابه ، واليقظة لابتلائه ، وإدراك حكمته في الخلق والإنعام والابتلاء والإملاء . .
وهي تبدأ بلمسة رفيقة للقلب البشري : أين كان قبل أن يكون؟ من الذي أوجده؟ ومن الذي جعله شيئاً مذكوراً في هذا الوجود؟ بعد أن لم يكن له ذكر ولا وجود : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً؟ } . .
تتلوها لمسة أخرى عن حقيقة أصله ونشأته ، وحكمة الله في خلقه ، وتزويده بطاقاته ومداركه : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً } . .
ولمسة ثالثة عن هدايته إلى الطريق ، وعونه على الهدى ، وتركه بعد ذلك لمصيره الذي يختاره : { إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا } . .
وبعد هذه اللمسات الثلاث الموحية ، وما تثيره في القلب من تفكير عميق ، ونظرة إلى الوراء . ثم نظرة إلى الأمام ، ثم التحرج والتدبر عند اختيار الطريق . . بعد هذه اللمسات الثلاث تأخذ السورة في الهتاف للإنسان وهو على مفرق الطريق لتحذيره من طريق النار . . وترغيبه في طريق الجنة ، بكل صور الترغيب ، وبكل هواتف الراحة والمتاع والنعيم والتكريم : { إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيرا . إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا . عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا } . .
وقبل أن تمضي في عرض صور المتاع ترسم سمات هؤلاء الأبرار في عبارات كلها انعطاف ورقة وجمال وخشوع يناسب ذلك النعيم الهانئ الرغيد : { يوفون بالنذر ، ويخافون يوماً كان شره مستطيراً ، ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا . إنا نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا . إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا } .

.
ثم تعرض جزاء هؤلاء القائمين بالعزائم والتكاليف ، الخائفين من اليوم العبوس القمطرير ، الخيرين المطعمين على حاجتهم إلى الطعام ، يبتغون وجه الله وحده ، لا يريدون شكوراً من أحد ، إنما يتقون اليوم العبوس القمطرير
تعرض جزاء هؤلاء الخائفين الوجلين المطعمين المؤثرين . فإذا هو الأمن والرخاء والنعيم اللين الرغيد : { فوقاهم الله شر ذلك اليوم ، ولقاهم نضرة وسرورا ، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا . متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا . ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا . ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا ، قواريرا من فضة قدروها تقديرا . ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلا ، عيناً فيها تسمى سلسبيلا . ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً . وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيرا . عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق ، وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهورا . إن هذا كان لكم جزآء وكان سعيكم مشكورا } .
فإذا انتهى معرض النعيم اللين الرغيد المطمئن الهانئ الودود ، اتجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتثبيته على الدعوة في وجه الإعراض والكفر والتكذيب وتوجيهه إلى الصبر وانتظار حكم الله في الأمر؛ والاتصال بربه والاستمداد منه كلما طال الطريق : { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا . فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفورا . واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلا } . .
ثم تذكيرهم باليوم الثقيل الذي لا يحسبون حسابه؛ والذي يخافه الأبرار ويتقونه ، والتلويح لهم بهوان أمرهم على الله ، الذي خلقهم ومنحهم ما هم فيه من القوة ، وهو قادر على الذهاب بهم ، والإتيان بقوم آخرين؛ لولا تفضله عليهم بالبقاء ، لتمضي مشيئة الابتلاء . ويلوح لهم في الختام بعاقبة هذا الابتلاء : { إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون ورآءهم يوماً ثقيلا . نحن خلقناهم وشددنآ أسرهم وإذا شئنا بدلنآ أمثالهم تبديلا . إن هذه تذكرة فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا . وما تشآءون إلا أن يشآء الله ، إن الله كان عليماً حكيما . يدخل من يشآء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليما } . .
تبدأ السورة بالتذكير بنشأة الإنسان وتقدير الله في هذه النشأة ، على أساس الابتلاء ، وتختم ببيان عاقبة الابتلاء ، كما اقتضت المشيئة منذ الابتداء . فتوحي بذلك البدء وهذا الختام بما وراء الحياة كلها من تدبير وتقدير ، لا ينبغي معه أن يمضي الإنسان في استهتاره . غير واع ولا مدرك ، وهو مخلوق ليبتلى ، وموهوب نعمة الإدراك لينجح في الابتلاء .
وبين المطلع والختام ترد أطول صورة قرآنية لمشاهد النعيم . أو من أطولها إذا اعتبرنا ما جاء في سورة الواقعة من صور النعيم ، وهو نعيم حسي في جملته ، ومعه القبول والتكريم ، وهو بتفصيله هذا وحسيته يوحي بمكيته ، حيث كان القوم قريبي عهد بالجاهلية ، شديدي التعلق بمتاع الحواس ، يبهرهم هذا اللون ويعجبهم ، ويثير تطلعهم ورغبتهم .

وما يزال هذا اللون من المتاع يثير تطلع صنوف من الناس ، ويصلح جزاء لهم يرضي أعمق رغباتهم . والله أعلم بخلقه ما يصلح لهم وما يصلح قلوبهم ، وما يليق بهم كذلك وفق تكوينهم وشعورهم . وهناك ما هو أعلى منه وأرق كالذي جاء في سورة القيامة : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } والله أعلم بما يصلح للعباد في كل حال .
{ هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً؟ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً . إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً } . .
هذا الاستفهام في مطلع السورة إنما هو للتقرير؛ ولكن وروده في هذه الصيغة كأنما ليسأل الإنسان نفسه : ألا يعرف أنه أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً؟ ثم ألا يتدبر هذه الحقيقة ويتملاها؟ ثم ألا يفعل تدبرها في نفسه شيئاً من الشعور باليد التي دفعته إلى مسرح الحياة ، وسلطت عليه النور ، وجعلته شيئاً مذكوراً بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً؟
إنها إيحاءات كثيرة تنبض من وراء صيغة الاستفهام في هذا المقام . وهي إيحاءات رفيقة وعميقة تثير في النفس تأملات شتى :
واحدة منها تتجه بالنفس إلى ما قبل خلق الإنسان ووجوده ابتداء . يعيش فيها مع هذا الكون وقد خلا من الإنسان . . كيف تراه كان؟ . . والإنسان مخلوق مغرور في نفسه وفي قيمته ، حتى لينسى أن هذا الكون كان وعاش قبل أن يوجد هو بأدهار وأزمان طوال . ولعل الكون لم يكن يتوقع خلق شيء يسمى « الإنسان » . . حتى انبثق هذا الخلق من إرادة الله فكان
وواحدة منها تتجه إلى اللحظة التي انبثق فيها هذا الوجود الإنساني . وتضرب في تصورات شتى لهذه اللحظة التي لم يكن يعلمها إلا الله؛ والتي أضافت إلى الكون هذه الخليقة الجديدة ، المقدر أمرها في حساب الله قبل أن تكون المحسوب دورها في خط هذا الكون الطويل
وواحدة منها تتجه إلى تأمل يد القدرة وهي تدفع بهذا الكائن الجديد على مسرح الوجود؛ وتعده لدوره ، وتعدّ له دوره ، وتربط خيوط حياته بمحور الوجود كله؛ وتهيئ له الظروف التي تجعل بقاءه وأداء دوره ممكناً وميسوراً؛ وتتابعه بعد ذلك في كل خطوة ، ومعها الخيط الذي تشده به إليها مع سائر خيوط هذا الكون الكبير
وإيحاءات كثيرة وتأملات شتى ، يطلقها هذا النص في الضمير . . ينتهي منها القلب إلى الشعور بالقصد والغاية والتقدير ، في المنشأ وفي الرحلة وفي المصير .
فأما امتداد هذا الإنسان بعد ذلك وبقاؤه فكانت له قصة أخرى :
{ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً } . .
والأمشاج : الأخلاط . وربما كانت هذه إشارة إلى تكون النطفة من خلية الذكر وبويضة الأنثى بعد التلقيح .

وربما كانت هذه الأخلاط تعني الوراثات الكامنة في النطفة ، والتي يمثلها ما يسمونه علمياً « الجينات » وهي وحدات الوراثة الحاملة للصفات المميزة لجنس الإنسان أولاً ولصفات الجنين العائلية أخيراً . وإليها يعزى سير النطفة الإنسانية في رحلتها لتكوين جنين إنسان ، لا جنين أي حيوان آخر . كما تعزى إليها وراثة الصفات الخاصة في الأسرة . . ولعلها هي هذه الأمشاج المختلطة من وراثات شتى . .
خلقته يد القدرة هكذا من نطفة أمشاج ، لا عبثاً ولا جزافاً ولا تسلية ، ولكنه خلق ليبتلى ويمتحن ويختبر . والله سبحانه يعلم ما هو؟ وما اختباره؟ وما ثمرة اختباره؟ ولكن المراد أن يظهر ذلك على مسرح الوجود ، وأن تترتب عليه آثاره المقدرة في كيان الوجود ، وأن تتبعه آثاره المقدرة . ويجزى وفق ما يظهر من نتائج ابتلائه .
ومن ثم جعله سميعاً بصيراً . أي زوده بوسائل الإدراك ، ليستطيع التلقي والاستجابة . وليدرك الأشياء والقيم ويحكم عليها ويختار . ويجتاز الابتلاء وفق ما يختار . .
وإذن فإن إرادة الله في امتداد هذا الجنس وتكرر أفراده بالوسيلة التي قدرها ، وهي خلقته من نطفة أمشاج . . كانت وراءها حكمة . وكان وراءها قصد . ولم تكن فلتة . . كان وراءها ابتلاء هذا الكائن واختباره . ومن ثم وهب الاستعداد للتلقي والاستجابة ، والمعرفة والاختبار . . وكان كل شيء في خلقه وتزويده بالمدارك وابتلائه في الحياة . . بمقدار
ثم زوده إلى جانب المعرفة ، بالقدرة على اختيار الطريق ، وبين له الطريق الواصل . ثم تركه ليختاره ، أو ليضل ويشرد فيما وراءه من طرق لا تؤدي إلى الله :
{ إنا هديناه السبيل : إما شاكراً وإما كفوراً } . .
وعبر عن الهدى بالشكر . لأن الشكر أقرب خاطر يرد على قلب المهتدي ، بعد إذ يعلم أنه لم يكن شيئاً مذكوراً ، فأراد ربه له أن يكون شيئاً مذكوراً . ووهب له السمع والبصر . وزوده بالقدرة على المعرفة . ثم هداه السبيل . وتركه يختار . . الشكر هو الخاطر الأول الذي يرد على القلب المؤمن في هذه المناسبة . فإذا لم يشكر فهو الكفور . . بهذه الصيغة الموغلة في الدلالة على الكفران .
ويشعر الإنسان بجدية الأمر ودقته بعد هذه اللمسات الثلاث . ويدرك أنه مخلوق لغاية . وأنه مشدود إلى محور . وأنه مزود بالمعرفة فمحاسب عليها . وأنه هنا ليبتلى ويجتاز الابتلاء . فهو في فترة امتحان يقضيها على الأرض ، لا في فترة لعب ولهو وإهمال ويخرج من هذه الآيات الثلاث القصار بذلك الرصيد من التأملات الرفيقة العميقة ، كما يخرج منها مثقل الظهر بالتبعة والجد والوقار في تصور هذه الحياة ، وفي الشعور بما وراءها من نتائج الابتلاء وتغير هذه الآيات الثلاث القصار من نظرته إلى غاية وجوده ، ومن شعوره بحقيقة وجوده ، ومن أخذه للحياة وقيمها بوجه عام .
ومن ثم يأخذ في عرض ما ينتظر الإنسان بعد الابتلاء ، واختياره طريق الشكر أو طريق الكفران .
فأما ما ينتظر الكافرين ، فيجمله إجمالاً ، لأن ظل السورة هو ظل الرخاء الظاهر في الصورة والإيقاع .

وظل الهتاف المغري بالنعيم المريح . فأما العذاب فيشير إليه في إجمال :
{ إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيراً } . .
سلاسل للأقدام ، وأغلالاً للأيدي ، وناراً تتسعر يلقى فيها بالمسلسلين المغلولين
ثم يسارع السياق إلى رخاء النعيم :
{ إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً . عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً } . .
وهذه العبارة تفيد أن شراب الأبرار في الجنة ممزوج بالكافور ، يشربونه في كأس تغترف من عين تفجر لهم تفجيراً ، في كثرة ووفرة . . وقد كان العرب يمزجون كؤوس الخمر بالكافور حيناً وبالزنجبيل حيناً زيادة في التلذذ بها ، فها هم أولاء يعلمون أن في الجنة شراباً طهوراً ممزوجاً بالكافور ، على وفر وسعة . فأما مستوى هذا الشراب فمفهوم أنه أحلى من شراب الدنيا ، وأن لذة الشعور به تتضاعف وترقى ، ونحن لا نملك في هذه الأرض أن نحدد مستوى ولا نوعاً للذة المتاع هناك . فهي أوصاف للتقريب . يعلم الله أن الناس لا يملكون سواها لتصور هذا الغيب المحجوب .
والتعبير يسميهم في الآية الأولى { الأبرار } ويسميهم في الآية الثانية { عباد الله } . . إيناساً وتكريماً وإعلاناً للفضل تارة ، وللقرب من الله تارة ، في معرض النعيم والتكريم .
ثم يعرف بهؤلاء الأبرار عباد الله الذين قسم لهم هذا المتاع :
{ يوفون بالنذر ، ويخافون يوماً كان شره مستطيراً ، ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزآءً ولا شكوراً . إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً } . .
وهي صورة وضيئة شفافة لقلوب مخلصة جادة عازمة على الوفاء لله بتكاليف العقيدة ، مع رحمة ندية بعباده الضعاف ، وإيثار على النفس ، وتحرج وخشية لله ، ورغبة في رضاه ، وإشفاق من عذابه تبعثه التقوى والجد في تصور الواجب الثقيل .
{ يوفون بالنذر } فيفعلون ما اعتزموا من الطاعات ، وما التزموا من الواجبات . فهم يأخذون الأمر جداً خالصاً لا يحاولون التفلت من تبعاته ، ولا التفصي من أعبائه ، ولا التخلي عنه بعد اعتزامه . وهذا معنى أنهم يوفون بالنذر . فهو أعم من المعنى العرفي المتبادر من كلمة { النذر } .
{ ويخافون يوماً كان شره مستطيراً } . . فهم يدركون صفة هذا اليوم ، الذي يتفشى شره ويصيب الكثيرين من المقصرين والمسيئين . فيخافون أن ينالهم شيء من شره . وهذه سمة الأتقياء ، الشاعرين بثقل الواجب وضخامة التكاليف ، الخائفين من التقصير والقصور ، مهما قدموا من القرَب والطاعات .
{ ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً } . .
وهي تصور شعور البر والعطف والخير ممثلاً في إطعام الطعام ، مع حبه بسبب الحاجة إليه . فمثل هذه القلوب لا يقال عنها : إنها تحب الطعام الذي تطعمه للضعاف المحاويج على اختلاف أنواعهم . إلا أن تكون في حاجة هي إلى هذا الطعام ، ولكنها تؤثر به المحاويج .

وهذه اللفتة تشي بقسوة البيئة في مكة بين المشركين؛ وأنها كانت لا تفضي بشيء للمحاويج الضعاف؛ وإن كانت تبذل في مجالات المفاخرة الشيء الكثير . فأما الأبرار عباد الله فكانوا واحة ظليلة في هذه الهاجرة الشحيحة . وكانوا يطعمون الطعام بأريحية نفس ، ورحمة قلب ، وخلوص نية . واتجاه إلى الله بالعمل ، يحكيه السياق من حالهم ، ومن منطوق قلوبهم .
{ إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزآء ولا شكوراً . إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً } . .
فهي الرحمة الفائضة من القلوب الرقيقة الرفيقة ، تتجه إلى الله تطلب رضاه . ولا تبتغي بها جزاء من الخلق ولا شكراً ، ولا تقصد بها استعلاء على المحتاجين ولا خيلاء . كما تتقي بها يوماً عبوساً شديد العبوس ، تتوقعه وتخشاه ، وتتقيه بهذا الوقاء . وقد دلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وهو يقول : « اتق النار ولو بشق تمرة » .
وقد كان إطعام الطعام هكذا مباشرة هو وسيلة التعبير عن هذه العاطفة النبيلة الكريمة ، ووسيلة الإشباع لحاجات المحاويج . ولكن صور الإحسان ووسائله قد تتغير بحسب البيئات والظروف ، فلا تظل في هذه الصورة البدائية المباشرة . إلا أن الذي يجب الاحتفاظ به هو حساسية القلوب ، وحيوية العاطفة ، والرغبة في الخير ابتغاء وجه الله ، والتجرد عن البواعث الأرضية من جزاء أو شكر أو نفع من منافع الحياة
ولقد تنظم الضرائب ، وتفرض التكاليف ، وتخصص للضمان الاجتماعي ، ولإسعاف المحاويج ، ولكن هذا إنما يفي بشطر واحد من مزايا الاتجاه الإسلامي الذي ترمز إليه تلك الآيات ، والذي توخاه بفريضة الزكاة . . هذا الشطر هو كفاية حاجة المحتاجين . . هذا شطر . . والشطر الآخر هو تهذيب أرواح الباذلين ، ورفعها إلى ذلك المستوى الكريم . وهو شطر لا يجوز إغفاله ولا التهوين من شأنه فضلاً على أن تنقلب المعايير فيوصم ويقبح ويشوه ، ويقال : إنه إذلال للآخذين وإفساد للواهبين .
إن الإسلام عقيدة قلوب ، ومنهج تربية لهذه القلوب . والعاطفة الكريمة تهذب صاحبها وتنفع من يوجهها إليه من إخوانه . فتفي بشطري التربية التي يقصد إليها هذا الدين .
ومن ثم كان ذلك التصوير الكريم لذلك الشعور الكريم .
{ فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً } . .
يعجل السياق بذكر وقايتهم من شر ذلك اليوم الذي كانوا يخافونه ، ليطمئنهم في الدنيا وهم يتلقون هذا القرآن ويصدقونه ويذكر أنهم تلقوا من الله نضرة وسروراً ، لا يوماً عبوساً قمطريراً . جزاءً وفاقاً على خشيتهم وخوفهم ، وعلى نداوة قلوبهم ونضرة مشاعرهم .
ثم يمضي بعد ذلك في وصف مناعم الجنة التي وجدوها :
{ وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً } . . جنة يسكنونها وحريراً يلبسونه .
{ متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً } . . فهم في جلسة مريحة مطمئنة والجو حولهم رخاء ناعم دافئ في غير حر ، نديّ في غير برد . فلا شمس تلهب النسائم ، ولا زمهرير وهو البرد القارس ولنا أن نقول : إنه عالم آخر ليست فيه شمسنا هذه ولا شموس أخرى من نظائرها .

. وكفى
{ ودانية عليهم ظلالها . وذللت قطوفها تذليلاً } . . وإذا دنت الظلال ودنت القطوف فهي الراحة والاسترواح على أمتع ما يمتد إليه الخيال
فهذه هي الهيئة العامة لهذه الجنة التي جزى الله بها عباده الأبرار الذين رسم لهم تلك الصورة المرهفة اللطيفة الوضيئة في الدنيا . . ثم تأتي تفصيلات المناعم والخدمات . .
{ ويطاف عليهم بآنية من فضة ، وأكواب كانت قواريرا ، قواريرا من فضة قدروها تقديراً . ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً . عيناً فيها تسمى سلسبيلاً } . .
فهم في متاعهم . متكئين على الأرائك بين الظلال الوارفة والقطوف الدانية والجو الرائق . . يطاف عليهم بأشربة في آنية من فضة ، وفي أكواب من فضة كذلك ، ولكنها شفة كالقوارير ، مما لا تعهده الأرض في آنية الفضة ، وهي بأحجام مقدرة تقديراً يحقق المتاع والجمال . ثم هي تمزج بالزنجبيل كما مزجت مرة بالكافور . وهي كذلك تملأ من عين جارية تسمى سلسبيلاً ، لشدة عذوبتها واستساغتها لدى الشاربين
وزيادة في المتاع فإن الذين يطوفون بهذه الأواني والأكواب بالشراب هم غلمان صباح الوجوه ، لا يفعل فيهم الزمن ، ولا تدركهم السن؛ فهم مخلدون في سن الصباحة والصبا والوضاءة . وهم هنا وهناك كاللؤلؤ المنثور :
{ ويطوف عليهم ولدان مخلدون ، إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً } . .
ثم يجمل السياق خطوط المنظر ، ويلقي عليه نظرة كاملة تلخص وقعه في القلب والنظر :
{ وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً } . .
نعيماً وملكاً كبيراً . هو الذي يعيش فيه الأبرار المقربون عباد الله هؤلاء ، على وجه الإجمال والعموم ثم يخصص مظهراً من مظاهر النعيم والملك الكبير؛ كأنه تعليل لهذا الوصف وتفسير :
{ عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق ، وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } . .
والسندس الحرير الرقيق ، والإستبرق الحرير السميك المبطن . . وهم في هذه الزينة وهذا المتاع ، يتلقونه كله من { ربهم } فهو عطاء كريم من معط كريم . . وهذه تضاف إلى قيمة ذلك النعيم
ثم يتلقون عليه الود والتكريم :
{ إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكوراً } . .
يتلقون هذا النطق من الملأ الأعلى . وهو يعدل هذه المناعم كلها ، ويمنحها قيمة أخرى فوق قيمتها . .
وهكذا ينتهي ذلك العرض المفصل والهتاف الموحي للقلوب ، الهتاف إلى ذلك النعيم الطيب والفرار من السلاسل والأغلال والسعير . . وهما طريقان . طريق مؤد إلى الجنة هذه وطريق مؤد إلى السعير
وبعد انتهاء هذا الهتاف إلى الجنة ونعيمها الهنيء الرغيد ، يعالج حالة المشركين المصرين على العناد والتكذيب ، الذين لا يدركون حقيقة الدعوة ، فيساومون عليها الرسول صلى الله عليه وسلم لعله يكف عنها ، أو عما يؤذيهم منها . وبين المساومة للنبي صلى الله عليه وسلم وفتنة المؤمنين به وإيذائهم ، والصد عن سبيل الله ، والإعراض عن الخير والجنة والنعيم .

. بين هذا كله يجيء المقطع الأخير في السورة يعالج هذا الموقف بطريقة القرآن الكريم :
{ إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً . فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً . واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً . ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً } . .
وفي هذه الآيات الأربع تكمن حقيقة كبيرة من حقائق الدعوة الإيمانية . حقيقة ينبغي أن يعيش فيها الدعاة إلى الله طويلاً ، وأن يتعمقوها تعمقاً كاملاً ، وأن ينظروا بتدبر في مدلولاتها الواقعية والنفسية والإيمانية الكبيرة .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواجه المشركين بالدعوة إلى الله وحده . وهو لم يكن يواجه في نفوسهم مجرد عقيدة . ولو كان الأمر كذلك لكان أيسر كثيراً . فإن عقيدة الشرك المهلهلة التي كانوا عليها لم تكن من القوة والثبات بحيث يصمدون بها هكذا لعقيدة الإسلام القوية الواضحة البسيطة . إنما كانت الملابسات التي تحيط بالعقيدة وبالموقف هي التي تقود إلى تلك المعارضة العنيدة ، التي شهدت بها الروايات التاريخية ، وحكاها القرآن في مواضع منه شتى . . كانت المكانة الاجتماعية ، والاعتزاز بالقيم السائدة في البيئة ، وما يتلبس بها كذلك من مصالح مادية . . هي العنصر الأول الذي يقود إلى التشبث بالعقيدة الواهية الظاهرة البطلان ، في وجه العقيدة القوية الظاهرة الاستقامة . . ثم كانت صور الحياة الجاهلية ومتاعها ولذائذها وشهواتها إلى جانب ذلك تزيد المقاومة والعناد والتأبي على العقيدة الجديدة ، وما فيها من اتجاهات أخلاقية وقيم رفيعة ، لا تسمح بانطلاق الغرائز والشهوات؛ ولا بالحياة العابثة الماجنة المطلقة من كوابح الأخلاق .
وهذه الأسباب سواء ما يتعلق منها بالمكانة والقيم الاجتماعية والسلطان والمال والمصالح ، وما يتعلق منها بالإلف والعادة وصور الحياة التقليدية ، وما يتعلق منها بالانطلاق من القيم والقيود الأخلاقية كانت قائمة في وجه الدعوة الأولى ، وهي هي قائمة في وجه الدعوة في كل أرض وفي كل جيل . وهي تمثل العناصر الثابتة في معركة العقيدة ، التي تجعلها معركة عنيدة لا تنتهي من قريب؛ وتجعل مشاقها وتكاليفها والثبات عليها من أعسر التكاليف .
ومن ثم ينبغي للدعاة إلى دين الله في أي أرض وفي أي زمان أن يعيشوا طويلاً في الحقيقة الكبيرة الكامنة في تلك الآيات ، وملابسات نزولها على الرسول صلى الله عليه وسلم فهي ملابسات معركة واحدة يخوضها كل صاحب دعوة إلى الله ، في أي أرض وفي أي زمان
لقد تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم التكليف من ربه لينذر ، وقيل له : { يا أيها المدثر . قم فأنذر } فلما أن نهض بالتكليف واجهته تلك العوامل والأسباب التي تصد القوم عن الدعوة الجديدة ، وتثير في نفوسهم التشبث بما هم عليه على شعورهم بوهنه وهلهلته وتقودهم إلى العناد الشديد ، ثم إلى الدفاع العنيد عن معتقداتهم وأوضاعهم ومكانتهم ومصالحهم .

ومألوف حياتهم ، ولذائذهم وشهواتهم . . إلى آخر ما تهدده الدعوة الجديدة أشد التهديد .
وأخذ هذا الدفاع العنيد صوراً شتى ، في أولها إيذاء القلة المؤمنة التي استجابت للدعوة الجديدة ، ومحاولة فتنتها عن عقيدتها بالتعذيب والتهديد . ثم تشويه هذه العقيدة وإثارة الغبار حولها وحول نبيها صلى الله عليه وسلم بشتى التهم والأساليب . كي لا ينضم إليها مؤمنون جدد . فمنع الناس عن الانضمام إلى راية العقيدة قد يكون أيسر من فتنة الذين عرفوا حقيقتها وذاقوها
وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم طرقاً شتى من الإغراء إلى جانب التهديد والإيذاء ليلتقي بهم في منتصف الطريق؛ ويكف عن الحملة الساحقة على معتقداتهم وأوضاعهم وتقاليدهم؛ ويصالحهم ويصالحونه على شيء يرتضيه ويرتضونه كما تعود الناس أن يلتقوا في منتصف الطريق عند الاختلاف على المصالح والمغانم وشؤون هذه الأرض المعهودة .
وهذه الوسائل ذاتها أو ما يشبهها هي التي يواجهها صاحب الدعوة إلى الله في كل أرض وفي كل جيل
والنبي صلى الله عليه وسلم ولو أنه رسول ، حفظه الله من الفتنة ، وعصمه من الناس . . إلا أنه بشر يواجه الواقع الثقيل في قلة من المؤمنين وضعف . والله يعلم منه هذا ، فلا يدعه وحده ، ولا يدعه لمواجهة الواقع الثقيل بلا عون ومدد وتوجيه إلى معالم الطريق .
وهذه الآيات تتضمن حقيقة هذا العون والمدد والتوجيه :
{ إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً } .
وهي اللفتة الأولى إلى مصدر التكليف بهذه الدعوة ، وينبوع حقيقتها . . إنها من الله . هو مصدرها الوحيد . وهو الذي نزل بها القرآن . فليس لها مصدر آخر ، ولا يمكن أن تختلط حقيقتها بشيء آخر لا يفيض من هذا الينبوع . وكل ما عدا هذا المصدر لا يُتلقى عنه ، ولا يُستمد منه ، ولا يُستعار لهذه العقيدة منه شيء ، ولا يخلط بها منه شيء . . ثم إن الله الذي نزل هذا القرآن وكلف بهذه الدعوة لن يتركها . ولن يترك الداعي إليها ، وهو كلفه ، وهو نزّل القرآن عليه .
ولكن الباطل يتبجح ، والشر ينتفش ، والأذى يصيب المؤمنين ، والفتنة ترصد لهم؛ والصد عن سبيل الله يملكه أعداء الدعوة ويقومون به ويصرون عليه ، فوق إصرارهم على عقيدتهم وأوضاعهم وتقاليدهم وفسادهم وشرهم الذي يلجون فيه ثم هم يعرضون المصالحة ، وقسمة البلد بلدين ، والالتقاء في منتصف الطريق . . وهو عرض يصعب رده ورفضه في مثل تلك الظروف العصبية
هنا تجيء اللفتة الثانية :
{ فاصبر لحكم ربك ، ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } . .
إن الأمور مرهونه بقدر الله . وهو يمهل الباطل ، ويملي للشر ، ويطيل أمد المحنة على المؤمنين والابتلاء والتمحيص . . كل أولئك لحكمة يعلمها ، يجري بها قدره ، وينفذ بها حكمه . . { فاصبر لحكم ربك } .

. حتى يجيء موعده المرسوم . . اصبر على الأذى والفتنة . واصبر على الباطل يغلب ، والشر يتنفج . ثم اصبر أكثر على ما أوتيته من الحق الذي نزل به القرآن عليك . اصبر ولا تستمع لما يعرضونه من المصالحة والالتقاء في منتصف الطريق على حساب العقيدة : { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } . . فهم لا يدعونك إلى طاعة ولا إلى بر ولا إلى خير . فهم آثمون كفار . يدعونك إلى شيء من الإثم والكفر إذن حين يدعونك إلى الالتقاء بهم في منتصف الطريق وحين يعرضون عليك ما يظنونه يرضيك ويغريك وقد كانوا يدعونه باسم شهوة السلطان ، وباسم شهوة المال ، وباسم شهوة الجسد . فيعرضون عليه مناصب الرياسة فيهم والثراء ، حتى يكون أغنى من أغناهم ، كما يعرضون عليه الحسان الفاتنات ، حيث كان عتبة بن ربيعة يقول له : « ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ابنتي ، فإني من أجمل قريش بنات » . . كل الشهوات التي يعرضها أصحاب الباطل لشراء الدعاة في كل أرض وفي كل جيل
{ فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } . . فإنه لا لقاء بينك وبينهم؛ ولا يمكن أن تقام قنطرة للعبور عليها فوق الهوة الواسعة التي تفصل منهجك عن منهجهم ، وتصورك للوجود كله عن تصورهم ، وحقك عن باطلهم ، وإيمانك عن كفرهم ، ونورك عن ظلماتهم ، ومعرفتك بالحق عن جاهليتهم
اصبر ولو طال الأمد ، واشتدت الفتنة وقوي الإغراء ، وامتد الطريق . .
ولكن الصبر شاق ، ولا بد من الزاد والمدد المعين :
{ واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً ، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً } .
هذا هو الزاد . اذكر ربك في الصباح والمساء ، واسجد له بالليل وسبحه طويلاً . . إنه الاتصال بالمصدر الذي نزّل عليك القرآن ، وكلفك الدعوة ، هو ينبوع القوة ومصدر الزاد والمدد . . والاتصال به ذكرا وعبادة ودعاءً وتسبيحاً . . ليلاً طويلاً . . فالطريق طويل ، والعبء ثقيل . ولا بد من الزاد الكثير والمدد الكبير . وهو هناك حيث يلتقي العبد بربه في خلوة وفي نجاء ، وفي تطلع وفي أنس ، تفيض منه الراحة على التعب والضنى ، وتفيض منه القوة على الضعف والقلة . وحيث تنفض الروح عنها صغائر المشاعر والشواغل ، وترى عظمة التكليف ، وضخامة الأمانة . فتستصغر ما لاقت وما تلاقي من أشواك الطريق
إن الله رحيم ، كلف عبده الدعوة ، ونزل عليه القرآن ، وعرف متاعب العبء ، وأشواك الطريق . فلم يدع نبيه صلى الله عليه وسلم بلا عون أو مدد . وهذا هو المدد الذي يعلم سبحانه أنه هو الزاد الحقيقي الصالح لهذه الرحلة المضنية في ذلك الطريق الشائك . . وهو هو زاد أصحاب الدعوة إلى الله في كل أرض وفي كل جيل . فهي دعوة واحدة . ملابساتها واحدة . وموقف الباطل منها واحد ، وأسباب هذا الموقف واحدة . ووسائل الباطل هي ذاتها وسائله . فلتكن وسائل الحق هي الوسائل التي علم الله أنها وسائل هذا الطريق .

والحقيقة التي ينبغي أن يعيش فيها أصحاب الدعوة إلى الله هي هذه الحقيقة التي لقنها الله لصاحب الدعوة الأولى صلى الله عليه وسلم هي أن التكليف بهذه الدعوة تنزل من عند الله . فهو صاحبها . وأن الحق الذي تنزلت به لا يمكن مزجه بالباطل الذي يدعو إليه الآثمون الكفار . فلا سبيل إلى التعاون بين حقها وباطلهم ، أو الالتقاء في منتصف الطريق بين القائم على الحق والقائمين على الباطل . فهما نهجان مختلفان ، وطريقان لا يلتقيان . فأما حين يغلب الباطل بقوته وجمعه على قلة المؤمنين وضعفهم ، لحكمة يراها الله . . فالصبر حتى يأتي الله بحكمه . والاستمداد من الله والاستعانة بالدعاء والتسبيح ليلاً طويلاً هي الزاد المضمون لهذا الطريق . .
. . إنها حقيقة كبيرة لا بد أن يدركها ويعيش فيها رواد هذا الطريق . .
ثم يمضي السياق في توكيد الافتراق بين منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهج الجاهلية . بما يقرره من غفلتهم عن رؤية الخير لأنفسهم ، ومن تفاهة اهتماماتهم ، وصغر تصوراتهم . . يقول :
{ إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً } . .
إن هؤلاء ، القريبي المطامح والاهتمامات ، الصغار المطالب والتصورات . . هؤلاء الصغار الزهيدين الذين يستغرقون في العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً . ثقيلاً بتبعاته . ثقيلاً بنتائجه . ثقيلاً بوزنه في ميزان الحقيقة . . إن هؤلاء لا يطاعون في شيء ولا يتبعون في طريق؛ ولا يلتقون مع المؤمنين في هدف ولا غاية ، ولا يؤبه لما هم فيه من هذه العاجلة ، من ثراء وسلطان ومتاع ، فإنما هي العاجلة ، وإنما هو المتاع القليل ، وإنما هم الصغار الزهيدون
ثم توحي الآية بغفلتهم عن رؤية الخير لأنفسهم . فهم يختارون العاجلة ، ويذرون اليوم الثقيل الذي ينتظرهم هناك بالسلاسل والأغلال والسعير ، بعد الحساب العسير
فهذه الآية استطراد في تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه ، في مواجهة هؤلاء الذين أوتوا من هذه العاجلة ما يحبون . إلى جانب أنها تهديد ملفوف لأصحاب العاجلة باليوم الثقيل .
يتلو ذلك التهوين من أمرهم عند الله الذي أعطاهم ما هم فيه من قوة وبأس ، وهو قادر على الذهاب بهم وتبديل غيرهم منهم . ولكنه يتركهم لحكمة يجري بها قدره القديم :
{ نحن خلقناهم وشددنا أسرهم ، وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً } . .
وهذه اللفتة تذكر هؤلاء الذين يعتزون بقوتهم ، بمصدر هذه القوة ، بل مصدر وجودهم ابتداء . ثم تطمئن الذين آمنوا وهم في حالة الضعف والقلة إلى أن واهب القوة هو الذي ينتسبون إليه وينهضون بدعوته . كما تقرر في نفوسهم حقيقة قدر الله وما وراءه من حكمة مقصودة ، هي التي تجري وفقها الأحداث حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين .
{ وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً } . . فهم لا يعجزون الله بقوتهم ، وهو خلقهم وأعطاهم إياها .

وهو قادر على أن يخلق أمثالهم في مكانهم . . فإذا أمهلهم ولم يبدل أمثالهم فهو فضله ومنته وهو قضاؤه وحكمته . .
ومن هنا تكون الآية استطراداً في تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه؛ وتقريراً لحقيقة موقفهم وموقف الآخرين . . كما أنها لمسة لقلوب هؤلاء المستغرقين في العاجلة ، المغترين بقوة أسرهم ، ليذكروا نعمة الله ، التي يتبطرون بها فلا يشكرونها؛ وليشعروا بالابتلاء الكامن وراء هذه النعمة . وهو الابتلاء الذي قرره لهم في مطلع السورة .
ثم يوقظهم إلى الفرصة المتاحة لهم ، والقرآن يعرض عليهم ، وهذه السورة منه تذكرهم :
{ إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً } . .
ويعقب على هذه اللفتة بإطلاق المشيئة ، ورد كل شيء إليها ، ليكون الاتجاه الأخير إليها ، والاستسلام الأخير لحكمها؛ وليبرأ الإنسان من قوته إلى قوتها ، ومن حوله إلى حولها . . وهو الإسلام في صميمه وحقيقته :
{ وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً } . .
ذلك كي تعلم قلوب البشر أن الله هو الفاعل المختار ، المتصرف القهار ، فتتعلم كيف تتجه إليه وتستسلم لقدره . . وهذا هو مجال هذه الحقيقة الذي تجري فيه في مثل هذه النصوص . مع تقرير ما شاءه الله لهم من منحهم القدرة على إدراك الحق والباطل ، والاتجاه إلى هذا أو ذاك وفق مشيئة الله ، العليم بحقيقة القلوب ، وما أعان به العباد من هبة الإدراك والمعرفة ، وبيان الطريق ، وإرسال الرسل ، وتنزيل القرآن . . إلا أن هذا كله ينتهي إلى قدر الله ، الذي يلجأ إليه الملتجئ ، فيوفقه إلى الذكر والطاعة ، فإذا لم يعرف في قلبه حقيقة القدرة المسيطرة ، ولم يلجأ إليها لتعينه وتيسره ، فلا هدى ولا ذكر ، ولا توفيق إلى خير . .
ومن ثم فهو :
{ يدخل من يشاء في رحمته ، والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً } . .
فهي المشيئة المطلقة تتصرف بما تريد . ومن إرادتها أن يدخل في رحمته من يشاء ، ممن يلتجئون إليه ، يطلبون عونه على الطاعة ، وتوفيقه إلى الهدى . . { والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً } . وقد أملى لهم وأمهلهم لينتهوا إلى هذا العذاب الأليم
وهذا الختام يلتئم مع المطلع ، ويصور نهاية الابتلاء ، الذي خلق الله له الإنسان من نطفة أمشاج ، ووهبه السمع والأبصار ، وهداه السبيل إما إلى جنة وإما إلى نار . .

وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)

هذه السورة حادة الملامح ، عنيفة المشاهد ، شديدة الإيقاع ، كأنها سياط لاذعة من نار . وهي تقف القلب وقفة المحاكمة الرهيبة ، حيث يواجه بسيل من الاستفهامات والاستنكارات والتهديدات ، تنفذ إليه كالسهام المسنونة
وتعرض السورة من مشاهد الدنيا والآخرة ، وحقائق الكون والنفس ، ومناظر الهول والعذاب ما تعرض . وعقب كل معرض ومشهد تلفح القلب المذنب لفحة كأنها من نار : { ويل يومئذ للمكذبين }
ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة . وهو لازمة الإيقاع فيها . وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادة ، ومشاهدها العنيفة ، وإيقاعها الشديد .
وهذه اللازمة تذكرنا باللازمة المكررة في سورة « الرحمن » عقب عرض كل نعمة من نعم الله على العباد : { فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ } كما تذكرنا باللازمة المكررة في سورة « القمر » عقب كل حلقة من حلقات العذاب : { فكيف كان عذابي ونذر؟ } وتكرارها هنا على هذا النحو يعطي السورة سمة خاصة ، وطعماً مميزاً . . حاداً . .
وتتوالى مقاطع السورة وفواصلها قصيرة سريعة عنيفة ، متعددة القوافي . كل مقطع بقافية . ويعود السياق أحياناً إلى بعض القوافي مرة بعد مرة . ويتلقى الحس هذه المقاطع والفواصل والقوافي بلذعها الخاص ، وعنفها الخاص . واحدة إثر واحدة . وما يكاد يفيق من إيقاع حتى يعاجله إيقاع آخر ، بنفس العنف وبنفس الشدة .
ومنذ بداية السورة والجو عاصف ثائر بمشهد الرياح أو الملائكة : { والمرسلات عرفاً . فالعاصفات عصفاً . والناشرات نشراً فالفارقات فرقاً . فالملقيات ذكراً ، عذراً أو نذراً } . . وهو افتتاح يلتئم مع جو السورة وظلها تمام الالتئام .
وللقرآن في هذا الباب طريقة خاصة في اختيار إطار للمشاهد في بعض السور من لون هذه المشاهد وقوتها . . وهذا نموذج منها ، كما اختار إطاراً من الضحى والليل إذا سجى لمشاهد الرعاية والحنان والإيواء في « سورة الضحى » وإطاراً من العاديات الضابحة الصاخبة المثيرة للغبار لمشاهد بعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور في سورة « والعاديات » . . وغيرها كثير .
وكل مقطع من مقاطع السورة العشرة بعد هذا المطلع ، يمثل جولة أو رحلة في عالم ، تتحول السورة معه إلى مساحات عريضة من التأملات والمشاعر والخواطر والتأثرات والاستجابات . . أعرض بكثير جداً من مساحة العبارات والكلمات ، وكأنما هذه سهام تشير إلى عوالم شتى
والجولة الأولى تقع في مشاهد يوم الفصل . وهي تصور الانقلابات الكونية الهائلة في السماء والأرض ، وهي الموعد الذي تنتهي إليه الرسل بحسابها مع البشر : { فإذا النجوم طمست . وإذا السمآء فرجت . وإذا الجبال نسفت . وإذا الرسل أقّتت . لأي يوم أجلت؟ ليوم الفصل . ومآ أدراك ما يوم الفصل؟ ويل يومئذ للمكذبين } .
والجولة الثانية مع مصارع الغابرين ، وما تشير إليه من سنن الله في المكذبين : { ألم نهلك الأولين؟ ثم نتبعهم الآخرين؟ كذلك نفعل بالمجرمين . ويل يومئذ للمكذبين } .

.
والجولة الثالثة مع النشأة الأولى وما توحي به من تقدير وتدبير : { ألم نخلقكم من مآء مهين؟ فجعلناه في قرار مكين؟ إلى قدر معلوم؟ فقدرنا فنعم القادرون . ويل يومئذ للمكذبين } . .
والجولة الرابعة في الأرض التي تضم أبناءها إليها أحياء وأمواتاً ، وقد جهزت لهم بالاستقرار والماء المحيي : { ألم نجعل الأرض كفاتاً؟ أحيآء وأمواتاً ، وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم مآء فراتاً؟ ويل يومئذ للمكذبين } . .
والجولة الخامسة مع المكذبين وما يلقونه يوم الفصل من عذاب وتأنيب : { انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون . انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب . إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر . ويل يومئذ للمكذبين } . .
والجولة السادسة والسابعة استطراد مع موقف المكذبين ، ومزيد من التأنيب والترذيل : { هذا يوم لا ينطقون ، ولا يؤذن لهم فيعتذرون . ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين . فإن كان لكم كيد فكيدون . ويل يومئذ للمكذبين } . .
والجولة الثامنة مع المتقين ، وما أعد لهم من نعيم : { إن المتقين في ظلال وعيون ، وفواكه مما يشتهون . كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون . إنا كذلك نجزي المحسنين . ويل يومئذ للمكذبين } . .
والجولة التاسعة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التأنيب : { كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون . ويل يومئذ للمكذبين } . .
والجولة العاشرة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التكذيب : { وإذا قيل لهم : اركعوا لا يركعون . ويل يومئذ للمكذبين } . .
والخاتمة بعد هذه الجولات والاستعراضات والوخزات والإيقاعات : { فبأي حديث بعده يؤمنون؟ } . .
وهكذا يمضي القلب مع سياق السورة السريع ، وكأنه يلهث مع إيقاعها وصورها ومشاهدها . فأما الحقائق الموضوعية في السورة فقد تكرر ورودها في سور القرآن والمكية منها بوجه خاص ولكن الحقائق القرآنية تعرض من جوانب متعددة ، وفي أضواء متعددة ، وبطعوم ومذاقات متعددة ، وفق الحالات النفسية التي تواجهها ، ووفق مداخل القلوب وأحوال النفوس التي يعلمها منزل هذا القرآن على رسوله ، فتبدو في كل حالة جديدة ، لأنها تستجيش في النفس استجابات جديدة .
وفي هذه السورة جدة في مشاهد جهنم . وجدة في مواجهة المكذبين بهذه المشاهد . كما أن هناك جدة في أسلوب العرض والخطاب كله . ومن ثم تبرز شخصية خاصة للسورة . حادة الملامح . لاذعة المذاق . لاهثة الإيقاع
والآن نستعرض السورة في سياقها القرآني بالتفصيل :
{ والمرسلات عرفاً . فالعاصفات عصفاً . والناشرات نشراً . فالفارقات فرقاً . فالملقيات ذكراً : عذرا أو نذراً . . إنما توعدون لواقع } . .
القضية قضية القيامة التي كان يعسر على المشركين تصور وقوعها؛ والتي أكدها لهم القرآن الكريم بشتى المؤكدات في مواضع منه شتى . وكانت عنايته بتقرير هذه القضية في عقولهم ، وإقرار حقيقتها في قلوبهم مسألة ضرورة لا بد منها لبناء العقيدة في نفوسهم على أصولها ، ثم لتصحيح موازين القيم في حياتهم جميعاً . فالاعتقاد باليوم الآخر هو حجر الأساس في العقيدة السماوية ، كما أنه حجر الأساس في تصور الحياة الإنسانية .

وإليه مرد كل شيء في هذه الحياة ، وتصحيح الموازين والقيم في كل شأن من شؤونها جميعاً . . ومن ثم اقتضت هذا الجهد الطويل الثابت لتقريرها في القلوب والعقول .
والله سبحانه يقسم في مطلع هذه السورة على أن هذا الوعد بالآخرة واقع . وصيغة القسم توحي ابتداء بأن ما يقسم الله به هو من مجاهيل الغيب ، وقواه المكنونة ، المؤثرة في هذا الكون وفي حياة البشر . وقد اختلف السلف في حقيقة مدلولها . فقال بعضهم : هي الرياح إطلاقاً . وقال بعضهم هي الملائكة إطلاقاً . وقال بعضهم : إن بعضها يعني الرياح وبعضها يعني الملائكة . . مما يدل على غموض هذه الألفاظ ومدلولاتها . وهذا الغموض هو أنسب شيء للقسم بها على الأمر الغيبي المكنون في علم الله . وأنه واقع كما أن هذه المدلولات المغيبة واقعة ومؤثرة في حياة البشر .
{ والمرسلات عرفاً } . . عن أبي هريرة أنها الملائكة . وروي مثل هذا عن مسروق وأبي الضحى ومجاهد في إحدى الروايات ، والسدي والربيع بن أنس ، وأبي صالح في رواية ( والمعنى حينئذ هو القسم بالملائكة المرسلة أَرسالاً متوالية ، كأنها عرف الفرس في إرسالها وتتابعها ) .
وهكذا قال أبو صالح في العاصفات والناشرات والفارقات والملقيات . . إنها الملائكة .
وروي عن ابن مسعود . . المرسلات عرفاً . قال : الريح . ( والمعنى على هذا أنها المرسلة متوالية كعرف الفرس في امتدادها وتتابعها ) وكذا قال في العاصفات عصفاً والناشرات نشراً . وكذلك قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح في رواية .
وتوقف ابن جرير في المرسلات عرفاً هل هي الملائكة أو الرياح . وقطع بأن العاصفات هي الرياح . وكذلك الناشرات التي تنشر السحاب في آفاق السماء .
وعن ابن مسعود : { فالفارقات فرقاً فالملقيات ذكراً ، عذراً أو نذراً } يعني الملائكة . وكذا قال : ابن عباس ومسروق ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس والسدي والثوري بلا خلاف . فإنها تنزل بأمر الله على الرسل ، تفرق بين الحق والباطل . وتلقي إلى الرسل وحياً فيه إعذار إلى الخلق وإنذار .
ونحن نلمح أن التهويل بالتجهيل ملحوظ في هذه الأمور المقسم بها كالشأن في الذاريات ذرواً . وفي النازعات غرقاً . . وأن هذا الخلاف في شأنها دليل على إبهامها . وأن هذا الإبهام عنصر أصيل فيها في موضعها هذا . وأن الإيحاء المجمل في التلويح بها هو أظهر شيء في هذا المقام . وأنها هي بذاتها تحدث هزة شعورية بإيحاء جرسها وتتابع إيقاعها ، والظلال المباشرة التي تلقيها . وهذه الانتفاضة والهزة اللتان تحدثهما في النفس هما أليق شيء بموضوع السورة واتجاهها . . وكل مقطع من مقاطع السورة بعد ذلك هو هزة ، كالذي يمسك بخناق أحد فيهزه هزاً ، وهو يستجوبه عن ذنب ، أو عن آية ظاهرة ينكرها ، ثم يطلقه على الوعيد والتهديد : { ويل يومئذ للمكذبين } . .
بعد ذلك تجيء الهزة العنيفة بمشاهد الكون المتقلبة في يوم الفصل الذي هو الموعد المضروب للرسل لعرض حصيلة الرسالة في البشرية جميعاً :
{ فإذا النجوم طمست ، وإذا السمآء فرجت ، وإذا الجبال نسفت ، وإذا الرسل أقّتت .

لأي يوم أجلت؟ ليوم الفصل . ومآ أدراك ما يوم الفصل؟ ويل يومئذ للمكذبين } . .
يوم تطمس النجوم فيذهب نورها ، وتفرج السماء أي تشق ، وتنسف الجبال فهي هباء . . وقد وردت مشاهد هذا الانقلاب الكوني في سور شتى من القرآن . وكلها توحي بانفراط عقد هذا الكون المنظور ، انفراطاً مصحوباً بقرقعة ودوي وانفجارات هائلة ، لا عهد للناس بها فيما يرونه من الأحداث الصغيرة التي يستهولونها ويروعون بها من أمثال الزلازل والبراكين والصواعق . . وما إليها . . فهذه أشبه شيء حين تقاس بأهوال يوم الفصل بلعب الأطفال التي يفرقعونها في الأعياد ، حين تقاس إلى القنابل الذرية والهيدروجينية وليس هذا سوى مثل للتقريب . وإلا فالهول الذي ينشأ من تفجر هذا الكون وتناثره على هذا النحو أكبر من التصور البشري على الإطلاق
وإلى جانب هذا الهول في مشاهد الكون ، تعرض السورة أمراً عظيماً آخر مؤجلاً إلى هذا اليوم . . فهو موعد الرسل لعرض حصيلة الدعوة . دعوة الله في الأرض طوال الأجيال . . فالرسل قد أقتت لهذا اليوم وضرب لها الموعد هناك ، لتقديم الحساب الختامي عن ذلك الأمر العظيم الذي يرجح السماوات والأرض والجبال . للفصل في جميع القضايا المعلقة في الحياة الأرضية ، والقضاء بحكم الله فيها ، وإعلان الكلمة الأخيرة التي تنتهي إليها الأجيال والقرون . .
وفي التعبير تهويل لهذا الأمر العظيم ، يوحي بضخامة حقيقته حتى لتتجاوز مدى الإدراك :
{ وإذا الرسل أقّتت . لأي يوم أجلت؟ ليوم الفصل . وما أدراك ما يوم الفصل؟ } . .
وظاهر من أسلوب التعبير أنه يتحدث عن أمر هائل جليل . فإذا وصل هذا الإيقاع إلى الحس بروعته وهوله ، الذي يرجح هول النجوم المطموسة والسماء المشقوقة والجبال المنسوفة . ألقى بالإيقاع الرعيب ، والإنذار المخيف :
{ ويل يومئذ للمكذبين } . .
وهذا الإنذار من العزيز الجبار ، في مواجهة الهول السائد في الكون ، والجلال الماثل في مجلس الفصل بمحضر الرسل . وهم يقدمون الحساب الأخير في الموعد المضروب لهم . . هذا الإنذار في هذا الأوان له طعمه وله وزنه وله وقعه المزلزل الرهيب . .
ويعود بهم من هذه الجولة في أهوال يوم الفصل ، إلى جولة في مصارع الغابرين : الأولين والآخرين . .
{ ألم نهلك الأولين؟ ثم نتبعهم الآخرين؟ كذلك نفعل بالمجرمين . ويل يومئذ للمكذبين } .
هكذا في ضربة واحدة تتكشف مصارع الأولين وهم حشود . وفي ضربة واحدة تتكشف مصارع الآخرين وهم حشود . وعلى مد البصر تتبدى المصارع والأشلاء . وأمامها ينطلق الوعيد ناطقاً بسنة الله في الوجود : { كذلك نفعل بالمجرمين } فهي السنة الماضية التي لا تحيد . . وبينما المجرمون يتوقعون مصرعاً كمصارع الأولين والآخرين ، يجيء الدعاء بالهلاك ، ويجيء الوعيد بالثبور : { ويل يومئذ للمكذبين } . .
ومن الجولة في المصارع والأشلاء ، إلى جولة في الإنشاء والإحياء ، مع التقدير والتدبير ، للصغير وللكبير :
{ ألم نخلقكم من مآء مهين؟ فجعلناه في قرار مكين؟ إلى قدر معلوم؟ فقدرنا فنعم القادرون .

ويل يومئذ للمكذبين } . .
وهي رحلة مع النشأة الجنينية طويلة عجيبة ، يجملها هنا في لمسات معدودة . ماء مهين . يودع في قرار الرحم المكين . إلى قدر معلوم وأجل مرسوم . وأمام التقدير الواضح في تلك النشأة ومراحلها الدقيقة يجيء التعقيب الموحي بالحكمة العليا التي تتولى كل شيء بقدره في إحكام مبارك جميل : { فقدرنا فنعم القادرون } وأمام التقدير الذي لا يفلت منه شيء يجيء الوعيد المعهود : { ويل يومئذ للمكذبين } . .
ثم جولة في هذه الأرض ، وتقدير الله فيها لحياة البشر ، وإيداعها الخصائص الميسرة لهذه الحياة :
{ ألم نجعل الأرض كفاتاً؟ أحيآء وأمواتاً؟ وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم مآء فراتاً؟ ويل يومئذ للمكذبين } . .
ألم نجعل الأرض كفاتا تحتضن بنيها أحياء وأمواتاً . { وجعلنا فيها رواسي شامخات } ثابتات سامقات ، تتجمع على قممها السحب ، وتنحدر عنها مساقط الماء العذب . أفيكون هذا إلا عن قدرة وتقدير ، وحكمة وتدبير؟ أفبعد هذا يكذب المكذبون؟ : { ويل يومئذ للمكذبين } . .
وعندئذ بعد عرض تلك المشاهد ، وامتلاء الحس بالتأثرات التي تسكبها في المشاعر ينتقل السياق فجأة إلى موقف الحساب والجزاء . فنسمع الأمر الرهيب للمجرمين المكذبين ، ليأخذوا طريقهم إلى العذاب الذي كانوا به يكذبون ، في تأنيب مرير وإيلام عسير :
{ انطقلوا إلى ما كنتم به تكذبون . انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب . لا ظليل ولا يغني من اللهب . إنها ترمي بشرر كالقصر . كأنه جمالة صفر . ويل يومئذ للمكذبين } . .
اذهبوا طلقاء بعد الارتهان والاحتباس في يوم الفصل الطويل . ولكن إلى أين؟ إنه انطلاق خير منه الارتهان . . { انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون } . . فها هو ذا أمامكم حاضر مشهود . { انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب } . . إنه ظل لدخان جهنم تمتد ألسنته في ثلاث شعب . ولكنه ظل خير منه الوهج : { لا ظليل ولا يغني من اللهب } . . إنه ظل خانق حار لافح . وتسميته بالظل ليست إلا امتداداً للتهكم ، وتمنية بالظل تتكشف عن حر جهنم
انطلقوا . وإنكم لتعرفون إلى أين وتعرفونها هذه التي تنطلقون إليها . فلا حاجة إلى ذكر اسمها . . { إنها ترمي بشرر كالقصر . كأنه جماله صفر } . . فالشرر يتتابع في حجم البيت من الحجر . ( وقد كان العرب يطلقون كلمة القصر على كل بيت من حجر وليس من الضروري أن يكون في ضخامة ما نعهد الآن من قصور ) فإذا تتابع بدا كأنه جمال صفر ترتع هنا وهناك هذا هو الشرر فكيف بالنار التي ينطلق منها الشرر؟
وفي اللحظة التي يستغرق فيها الحس بهذا الهول ، يجيء التعقيب المعهود : { ويل يومئذ للمكذبين } .
ثم يأخذ في استكمال المشهد بعد عرض الهول المادي في صورة جهنم ، بعرض الهول النفسي الذي يفرض الصمت والكظم . .
{ هذا يوم لا ينطقون .

ولا يؤذن لهم فيعتذرون } . .
فالهول هنا يكمن في الصمت الرهيب ، والكبت الرعيب ، والخشوع المهيب ، الذي لا يتخلله كلام ولا اعتذار . فقد انقضى وقت الجدل ومضى وقت الاعتذار : { ويل يومئذ للمكذبين } . . وفي مشاهد أخرى يذكر حسرتهم وندامتهم وحلفهم ومعاذيرهم . . واليوم طويل يكون فيه هذا ويكون فيه ذاك على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما ولكنه هنا يثبت هذه اللقطة الصامته الرهيبة ، لمناسبة في الموقف وظل في السياق .
{ هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين . فإن كان لكم كيد فكيدون . ويل يومئذ للمكذبين } . .
هذا يوم الفصل لا يوم الاعتذار . وقد جمعناكم والأولين أجمعين . فإن كان لكم تدبير فدبروه ، وإن كان لكم قدرة على شيء فافعلوه ولا تدبير ولا قدرة . إنما هو الصمت الكظيم ، على التأنيب الأليم . . { ويل يومئذ للمكذبين } . .
فإذا انتهى مشهد التأنيب للمجرمين ، اتجه الخطاب بالتكريم للمتقين :
{ إن المتقين في ظلال وعيون ، وفواكه مما يشتهون . كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون . إنا كذلك نجزي المحسنين . ويل يومئذ للمكذبين } . .
إن المتقين في ظلال . . ظلال حقيقية في هذه المرة لا ظل ذي ثلاث لا ظليل ولا يغني من اللهب وفي عيون من ماء لا في دخان خانق يبعث الظمأ الحرور : { وفواكه مما يشتهون } . . وهم يتلقون فوق هذا النعيم الحسي التكريم العلوي على مرأى ومسمع من الجموع : { كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون . إنا كذلك نجزي المحسنين } ويا لطف هذا التكريم من العلي العظيم { ويل يومئذ للمكذبين } . . يقابل هذا النعيم والتكريم
وهنا تعرض في خطفة سريعة رقعة الحياة الدنيا التي طويت في السياق . فإذا نحن في الأرض مرة أخرى . وإذا التبكيت والترذيل يوجهان للمجرمين
{ كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون . ويل يومئذ للمكذبين } . .
وهكذا تختلط الدنيا بالآخرة في فقرتين متواليتين ، وفي مشهدين معروضين كأنهما حاضران في أوان ، وإن كانت تفرق بينهما أزمان وأزمان . فبينما كان الخطاب موجهاً للمتقين في الآخرة ، إذا هو موجه للمجرمين في الدنيا . وكأنما ليقال لهم : اشهدوا الفارق بين الموقفين . . وكلوا وتمتعوا قليلاً في هذه الدار ، لتحرموا وتعذبوا طويلاً في تلك الدار . . { ويل يومئذ للمكذبين } .
ثم يتحدث معجباً من أمر القوم وهم يدعون إلى الهدى فلا يستجيبون :
{ وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون . ويل يومئذ للمكذبين } . .
مع أنهم يبصرون هذا التبصير ، وينذرون هذا النذير . .
{ فبأي حديث بعده يؤمنون؟ } . .
والذي لا يؤمن بهذا الحديث الذي يهز الرواسي ، وبهذه الهزات التي تزلزل الجبال ، لا يؤمن بحديث بعده أبداً . إنما هو الشقاء والتعاسة والمصير البائس ، والويل المدخر لهذا الشقي المتعوس
إن السورة بذاتها ، ببنائها التعبيري ، وإيقاعها الموسيقي ، ومشاهدها العنيفة ، ولذعها الحاد . . إنها بذاتها حملة لا يثبت لها قلب ، ولا يتماسك لها كيان .
فسبحان الذي نزل القرآن ، وأودعه هذا السلطان

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)

هذا الجزء كله ومنه هذه السورة ذو طابع غالب . . سورة مكية فيما عدا سورتي « البينة » و « النصر » وكلها من قصار السور على تفاوت في القصر . والأهم من هذا هو طابعها الخاص الذي يجعلها وحده على وجه التقريب في موضعها واتجاهها ، وإيقاعها ، وصورها وظلالها ، وأسلوبها العام .
إنها طرقات متوالية على الحس . طرقات عنيفة قوية عالية . وصيحات . صيحات بِنوّم غارقين في النوم نومهم ثقيل أو بسكارى مخمورين ثقل حسهم الخُمار أو بلاهين في سامر راقصين في ضجة وتصدية ومكاء تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات المنبثقة من سور هذا الجزء كله بإيقاع واحد ونذير واحد : اصحوا . استيقظوا . انظروا . تلفتوا . تفكروا . تدبروا . . إن هنالك إلهاً . وإن هنالك تدبيراً . وإن هنالك تقديراً . وإن هنالك ابتلاء . وإن هنالك تبعة . وإن هنالك حساباً . وإن هنالك جزاء . وإن هنالك عذاباً شديداً . ونعيماً كبيراً . . اصحوا . استيقظوا . انظروا . تلفتوا . تفكروا . تدبروا . . وهكذا مرة أخرى . وثالثة ورابعة . وخامسة . . وعاشرة . . ومع الطرقات والصيحات يد قوية تهز النائمين المخمورين السادرين هزاً عنيفاً . . وهم كأنما يفتحون أعينهم وينظرون في خمار مرة ، ثم يعودون لما كانوا فيه فتعود اليد القوية تهزهم هزاً عنيفاً؛ ويعود الصوت العالي يصيح بهم من جديد؛ وتعود الطرقات العنيفة على الأسماع والقلوب . . وأحياناً يتيقظ النوام ليقولوا : في إصرار وعناد : لا . . ثم يحصبون الصائح المنذر المنبه بالأحجار والبذاء . . ثم يعودون لما كانوا فيه . فيعود إلى هزهم من جديد .
هكذا خيل إلي وأنا أقرأ هذا الجزء . وأحس تركيزه على حقائق معينة قليلة العدد ، عظيمة القدر ، ثقيلة الوزن . وعلى إيقاعات معينة يلمس بها أوتار القلوب . وعلى مشاهد معينة في الكون والنفس . وعلى أحداث معينة في يوم الفصل . وأرى تكرارها مع تنوعها . هذا التكرار الموحي بأمر وقصد
وهكذا يحس القارئ وهو يقرأ : { فلينظر الإنسان إلى طعامه . . . } { فلينظر الإنسان مم خلق؟ . . . } { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟ وإلى السمآء كيف رفعت؟ وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت؟ } وهو يقرأ : { أأنتم أشد خلقاً أم السمآء بناها؟ رفع سمكها فسواها . وأغطش ليلها وأخرج ضحاها . والأرض بعد ذلك دحاها . أخرج منها مآءها ومرعاها . والجبال أرساها . متاعاً لكم ولأنعامكم } { ألم نجعل الأرض مهاداً؟ والجبال أوتاداً؟ وخلقناكم أزواجاً؟ وجعلنا نومكم سباتاً؟ وجعلنا الليل لباساً؟ وجعلنا النهار معاشا؟ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً؟ وجعلنا سراجاً وهاجاً؟ وأنزلنا من المعصرات مآءً ثجاجاً؟ لنخرج به حباً ونباتا وجنات ألفافاً؟ } . . . { فلينظر الإنسان إلى طعامه . أنا صببنا المآء صباً . ثم شققنا الأرض شقاً . فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً ، وحدآئق غلبا ، وفاكهة وأبَّا . متاعاً لكم ولأنعامكم } وهو يقرأ { يا أيها الإنسان . ما غرك بربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شآء ركبك؟ }

وهو يقرأ : { إذا الشمس كورت ، وإذا النجوم انكدرت ، وإذا الجبال سيرت ، وإذا العشار عطلت ، وإذا الوحوش حشرت ، وإذا البحار سجرت ، وإذا النفوس زوجت ، وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت؟ وإذا الصحف نشرت ، وإذا السمآء كشطت ، وإذا الجحيم سعرت ، وإذا الجنة أزلفت . علمت نفس مآ أحضرت } { إذا السمآء انفطرت ، وإذا الكواكب انتثرت ، وإذا البحار فجرت ، وإذا القبور بعثرت . علمت نفس ما قدمت وأخرت } { إذا السمآء انشقت . وأذنت لربها وحقت . وإذا الأرض مدت ، وألقت ما فيها وتخلت ، وأذنت لربها وحقت . . . } { إذا زلزلت الأرض زلزالها ، وأخرجت الأرض أثقالها ، وقال الإنسان ما لها . . يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها } هو يقرأ اللمحات والسبحات الكونية في مفاتح عدد من السور وفي ثناياها : { فلا أقسم بالخنس . الجوار الكنس . والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنفس } { فلا أقسم بالشفق ، والليل وما وسق . والقمر إذا اتسق } { والفجر . وليال عشر . والشفع والوتر . والليل إذا يسر } { والشمس وضحاها . والقمر إذا تلاها . والنهار إذا جلاها . والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها . والأرض وما طحاها . ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها } { والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى . وما خلق الذكر والأنثى } { والضحى . والليل إذا سجى } الخ . . الخ . .
وفي الجزء كله تركيز على النشأة الأولى للإنسان والأحياء الأخرى في هذه الأرض من نبات وحيوان . وعلى مشاهد هذا الكون وآياته في كتابه المفتوح . وعلى مشاهد القيامة العنيفة الطامة الصاخة القارعة الغاشية . ومشاهد الحساب والجزاء من نعيم وعذاب في صور تقرع وتذهل وتزلزل كمشاهد القيامة الكونية في ضخامتها وهولها . . واتخاذها جميعاً دلائل على الخلق والتدبير والنشأة الأخرى وموازينها الحاسمة . مع التقريع بها والتخويف والتحذير . . وأحياناً تصاحبها صور من مصارع الغابرين من المكذبين . والأمثلة على هذا هي الجزء كله . ولكنا نشير إلى بعض النماذج في هذا التقديم :
هذه السورة سورة النبأ كلها نموذج كامل لهذا التركيز على هذه الحقائق والمشاهد . ومثلها سورة « النازعات » وسورة « عبس » تحتوي مقدمتها إشارة إلى حادث معين من حوادث الدعوة . . وبقيتها كلها حديث عن نشأة الحياة الإنسانية والحياة النباتية ثم عن الصاخة : { يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه ، وأبيه ، وصاحبته وبنيه ، لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه . وجوه يومئذ مسفرة . ضاحكة مستبشرة ، ووجوه يومئذ عليها غبرة ، ترهقها قترة } وسورة « التكوير » وهي تصور مشاهد الانقلاب الكوني الهائلة في ذلك اليوم ، مع عرض مشاهد كونية موحية في صدد القسم على حقيقة الوحي وصدق الرسول .

وسورة « الانفطار » كذلك في عرض مشاهد الانقلاب مع مشاهد النعيم والعذاب ، وهز الضمير البشري أمام هذه وتلك : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم . . . الخ } وسورة « الانشقاق » وهي تعرض مشاهد الانقلاب الكوني ومشاهد النعيم والعذاب . . وسورة « البروج » وهي تلقي إيقاعات سريعة حول مشاهد الكون ومشاهد اليوم بصدد إشارة إلى تعذيب الكفار لجماعة من المؤمنين في الدنيا بالنار . وعذاب الله لأولئك الكفار في الآخرة بالنار . وهو أشد وأنكى . .
وسورة « الطارق » . . وهي تعرض مشاهد كونية مع نشأة الإنسان ونشأة النبات للقسم بالجميع : { إنه لقول فصل ، وما هو بالهزل } وسورة « الأعلى » وتتحدث عن الخلق والتسوية والتقدير والهداية ، وإخراج المرعى وأطواره تمهيداً للحديث عن الذكر والآخرة والحساب والجزاء . . وسورة « الغاشية » . . وهي تصوير لمشاهد النعيم والعذاب . ثم توجيه إلى خلق الإبل والسماء والأرض والجبال . . وهكذا . . وهكذا . . إلى نهاية الجزء باستثناء سور قليلة تتحدث عن حقائق العقيدة ومنهج الإيمان . كسورة الإخلاص . وسورة الكافرون . وسورة الماعون . وسورة العصر . وسورة القدر . وسورة النصر . أو تسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواسيه وتوجهه إلى الاستعاذة بربه من كل شر ، كسور الضحى . والانشراح . والكوثر . والفلق . والناس . . وهي سور قليلة على كل حال . .
وهناك ظاهرة أخرى في الأداء التعبيري لهذا الجزء . هناك أناقة واضحة في التعبير ، مع اللمسات المقصودة لمواطن الجمال في الوجود والنفوس ، وافتنان مبدع في الصور والظلال والإيقاع الموسيقي والقوافي والفواصل ، تتناسق كلها مع طبيعته في خطاب الغافلين النائمين السادرين ، لإيقاظهم واجتذاب حسهم وحواسهم بشتى الألوان وشتى الإيقاعات وشتى المؤثرات . . يتجلى هذا كله بصورة واضحة في مثل تعبيره اللطيف عن النجوم التي تخنس وتتوارى كالظباء في كناسها وتبرز ، وعن الليل وكأنه حي يعس في الظلال ، والصبح وكأنه حي يتنفس بالنور : { فلا أقسم بالخنس . الجوار الكنس؛ والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنفس } وفي عرضه لمشاهد الغروب والليل والقمر : { فلا أقسم بالشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق } أو لمشاهد الفجر والليل وهو يتمشى ويسري : { والفجر . وليال عشر . والشفع والوتر . والليل إذا يسر } { والضحى . والليل إذا سجى } وفي خطابه الموحي للقلب البشري : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم؟ الذي خلقك فسواك فعدلك . . } وفي وصف الجنة : { وجوه يومئذ ناعمة ، لسعيها راضية ، في جنة عالية ، لا تسمع فيها لاغية . . } ووصف النار : { وأما من خفت موازينه فأمه هاوية . وما أدراك ماهيه؟ نار حامية } والأناقة في التعبير واضحة وضوح القصد في اللمسات الجمالية لمشاهد الكون وخوالج النفس .
والعدول أحياناً عن اللفظ المباشر إلى الكناية ، وعن اللفظ القريب إلى الاشتقاق البعيد ، لتحقيق التنغيم المقصود ، مما يؤكد هذه اللفتة خلال الجزء كله على وجه التقريب . .
وهذه السورة نموذج لاتجاه هذا الجزء بموضوعاته وحقائقه وإيقاعاته ومشاهده وصوره وظلاله وموسيقاه ولمساته في الكون والنفس ، والدنيا والآخرة؛ واختيار الألفاظ والعبارات لتوقع أشد إيقاعاتها أثراً في الحس والضمير .

وهي تفتتح بسؤال موح مثير للاستهوال والاستعظام وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها ، وهي أمر عظيم لا خفاء فيه ، ولا شبهة؛ ويعقب على هذا بتهديدهم يوم يعلمون حقيقته : { عم يتساءلون؟ عن النبأ العظيم ، الذي هم فيه مختلفون . كلا سيعلمون . ثم كلا سيعلمون } ومن ثم يعدل السياق عن المعنى في الحديث عن هذا النبأ ويدعه لحينه ، ويلفتهم إلى ما هو واقع بين أيديهم وحولهم ، في ذوات أنفسهم وفي الكون حولهم من أمر عظيم ، يدل على ما وراءه ويوحي بما سيتلوه : { ألم نجعل الأرض مهاداً ، والجبال أوتاداً؟ وخلقناكم أزواجاً؟ وجعلنا نومكم سباتاً؟ وجعلنا الليل لباساً ، وجعلنا النهار معاشاً؟ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً؟ وجعلنا سراجاً وهاجاً؟ وأنزلنا من المعصرات مآء ثجاجاً؟ لنخرج به حباً ونباتاً وجنات ألفافاً؟ } .
ومن هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والصور والإيقاعات يعود بهم إلى ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ، والذي هددهم به يوم يعلمون ليقول لهم ما هو؟ وكيف يكون : { إن يوم الفصل كان ميقاتاً . يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً . وفتحت السمآء فكانت أبواباً . وسيرت الجبال فكانت سراباً } . .
ثم مشهد العذاب بكل قوته وعنفه : { إن جهنم كانت مرصاداً ، للطاغين مآباً ، لابثين فيهآ أحقاباً ، لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً . إلا حميماً وغساقاً . جزآء وفاقاً . إنهم كانوا لا يرجون حساباً ، وكذبوا بآياتنا كذاباً ، وكل شيء أحصيناه كتاباً . فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً } . .
ومشهد النعيم كذلك وهو يتدفق تدفقاً : { إن للمتقين مفازاً : حدائق وأعناباً ، وكواعب أتراباً . وكأساً دهاقاً ، لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً . جزاء من ربك عطاء حساباً } .
وتختم السورة بإيقاع جليل في حقيقته وفي المشهد الذي يعرض فيه . وبإنذار وتذكير قبل أن يجيء اليوم الذي يكون فيه هذا المشهد الجليل : { رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً . يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً . ذلك اليوم الحق . فمن شآء اتخذ إلى ربه مآباً . إنآ أنذرناكم عذابا قريباً . يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ، ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً } . .
ذلك هو النبأ العظيم . الذي يتساءلون عنه . وذلك ما سيكون يوم يعلمون ذلك النبأ العظيم
{ عم يتساءلون؟ عن النبأ العظيم . الذي هم فيه مختلفون . كلا سيعلمون . ثم كلا سيعلمون } . . مطلع فيه استنكار لتساؤل المتسائلين ، وفيه عجب أن يكون هذا الأمر موضع تساؤل . وقد كانوا يتساءلون عن يوم البعث ونبأ القيامة . وكان هو الأمر الذي يجادلون فيه أشد الجدل ، ولا يكادون يتصورون وقوعه ، وهو أولى شيء بأن يكون
{ عم يتساءلون؟ } . . وعن أي شيء يتحدثون؟ ثم يجيب .

فلم يكن السؤال بقصد معرفة الجواب منهم . إنما كان للتعجيب من حالهم وتوجيه النظر إلى غرابة تساؤلهم ، بكشف الأمر الذي يتساءلون عنه وبيان حقيقته وطبيعته :
{ عن النبأ العظيم ، الذي هم فيه مختلفون } . . ولم يحدد ما يتساءلون عنه بلفظه ، إنما ذكره بوصفه . . النبأ العظيم . . استطراداً في أسلوب التعجيب والتضخيم . . وكان الخلاف على اليوم بين الذين آمنوا به والذين كفروا بوقوعه . أما التساؤل فكان من هؤلاء وحدهم .
ثم لا يجيب عن التساؤل ، ولا يدلي بحقيقة النبأ المسؤول عنه . فيتركه بوصفه . . العظيم . . وينتقل إلى التلويح بالتهديد الملفوف ، وهو أوقع من الجواب المباشر ، وأعمق في التخويف :
{ كلا سيعلمون . ثم كلا سيعلمون } . . ولفظ كلا ، يقال في الردع والزجر فهو أنسب هنا للظل الذي يراد إلقاؤه . وتكراره وتكرار الجملة كلها فيه من التهديد ما فيه .
ثم يبعد في ظاهر الأمر عن موضوع ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون . ليلتقي به بعد قليل . يبعد في جولة قريبة في هذا الكون المنظور مع حشد من الكائنات والظواهر والحقائق والمشاهد ، تهز الكيان حين يتدبرها الجنان :
{ ألم نجعل الأرض مهاداً؟ والجبال أوتاداً؟ وخلقناكم أزواجاً؟ وجعلنا نومكم سباتاً؟ وجعلنا الليل لباساً؟ وجعلنا النهار معاشاً؟ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً؟ وجعلنا سراجاً وهاجاً؟ وأنزلنا من المعصرات مآء ثجاجاً؟ لنخرج به حباً ونباتاً ، وجنات ألفافاً؟ } . .
وهذه الجولة التي تتنقل في أرجاء هذا الكون الواسع العريض ، مع هذا الحشد الهائل من الصور والمشاهد ، تذكر في حيز ضيق مكتنز من الألفاظ والعبارات ، مما يجعل إيقاعها في الحس حاداً ثقيلاً نفاذاً ، كأنه المطارق المتوالية ، بلا فتور ولا انقطاع وصيغة الاستفهام الموجهة إلى المخاطبين وهي في اللغة تفيد التقرير صيغة مقصودة هنا ، وكأنما هي يد قوية تهز الغافلين ، وهي توجه أنظارهم وقلوبهم إلى هذا الحشد من الخلائق والظواهر التي تشي بما وراءها من التدبير والتقدير ، والقدرة على الإنشاء والإعادة ، والحكمة التي لا تدع أمر الخلائق سدى بلا حساب ولا جزاء . . ومن هنا تلتقي بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون
واللمسة الأولى في هذه الجولة عن الأرض والجبال :
{ ألم نجعل الأرض مهاداً ، والجبال أوتاداً؟ } . .
والمهاد : الممهد للسير . . والمهاد اللين كالمهد . . وكلاهما متقارب . وهي حقيقة محسوسة للإنسان في أي طور من أطوار حضارته ومعرفته . فلا تحتاج إلى علم غزير لإدراكها في صورتها الواقعية . وكون الجبال أوتاداً ظاهرة تراها العين كذلك حتى من الإنسان البدائي؛ وهذه وتلك ذات وقع في الحس حين توجه إليها النفس .
غير أن هذه الحقيقة أكبر وأوسع مدى مما يحسها الإنسان البدائي لأول وهلة بالحس المجرد . وكلما ارتقت معارف الإنسان وازدادت معرفته بطبيعة هذا الكون وأطواره ، كبرت هذه الحقيقة في نفسه؛ وأدرك من ورائها التقدير الإلهي العظيم والتدبير الدقيق الحكيم ، والتنسيق بين أفراد هذا الوجود وحاجاتهم؛ وإعداد هذه الأرض لتلقي الحياة الإنسانية وحضانتها؛ وإعداد هذا الإنسان للملاءمة مع البيئة والتفاهم معها .

وجعل الأرض مهاداً للحياة وللحياة الإنسانية بوجه خاص شاهد لا يمارى في شهادته بوجود العقل المدبر من وراء هذا الوجود الظاهر . فاختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الأرض هكذا بجميع ظروفها . أو اختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الحياة لتعيش في الأرض . . الاختلال هنا أو هناك لا يجعل الأرض مهاداً؛ ولا يبقي هذه الحقيقة التي يشير إليها القرآن هذه الإشارة المجملة ، ليدركها كل إنسان وفق درجة معرفته ومداركه . .
وجعل الجبال أوتاداً . . يدركه الإنسان من الناحية الشكلية بنظره المجرد ، فهي أشبه شيء بأوتاد الخيمة التي تشد إليها . أما حقيقتها فنتلقاها من القرآن ، وندرك منه أنها تثبت الأرض وتحفظ توازنها . . وقد يكون هذا لأنها تعادل بين نسب الأغوار في البحار ونسب المرتفعات في الجبال . . وقد يكون لأنها تعادل بين التقلصات الجوفية للأرض والتقلصات السطحية ، وقد يكون لأنها تثقل الأرض في نقط معينة فلا تميد بفعل الزلازل والبراكين والاهتزازات الجوفية . . وقد يكون لسبب آخر لم يكشف عنه بعد . . وكم من قوانين وحقائق مجهولة أشار إليها القرآن الكريم . ثم عرف البشر طرفاً منها مئات السنين :
واللمسة الثانية في ذوات النفوس ، في نواحي وحقائق شتى :
{ وخلقناكم أزواجاً } . .
وهي ظاهرة كذلك ملحوظة يدركها كل إنسان بيسر وبساطة . . فقد خلق الله الإنسان ذكراً وأنثى ، وجعل حياة هذا الجنس وامتداده قائمة على اختلاف الزوجين والتقائهما . وكل إنسان يدرك هذه الظاهرة ، ويحس ما وراءها من راحة ولذة ومتاع وتجدد بدون حاجة إلى علم غزير . ومن ثم يخاطب بها القرآن الإنسان في أية بيئة فيدركها ويتأثر بها حين يتوجه تأمله إليها ، ويحس ما فيها من قصد ومن تنسيق وتدبير .
ووراء هذا الشعور المبهم بقيمة هذه الحقيقة وعمقها ، تأملات أخرى حين يرتقي الإنسان في المعرفة وفي الشعور أيضاً . . هنالك التأمل في القدرة المدبرة التي تجعل من نطفة ذكراً ، وتجعل من نطفة أنثى ، بدون مميز ظاهر في هذه النطفة أو تلك ، يجعل هذه تسلك طريقها لتكون ذكراً ، وهذه تسلك طريقها لتكون أنثى . . اللهم إلا إرادة القدرة الخالقة وتدبيرها الخفي ، وتوجيهها اللطيف ، وإيداعها الخصائص التي تريدها هي لهذه النطفة وتلك ، لتخلق منهما زوجين تنمو بهما الحياة وترقى
{ وجعلنا نومكم سباتاً . وجعلنا الليل لباساً . وجعلنا النهار معاشاً } . .
وكان من تدبير الله للبشر أن جعل النوم سباتاً يدركهم فيقطعهم عن الإدراك والنشاط؛ ويجعلهم في حالة لا هي موت ولا هي حياة ، تتكفل بإراحة أجسادهم وأعصابهم وتعويضها عن الجهد الذي بذلته في حالة الصحو والإجهاد والانشغال بأمور الحياة . . وكل هذا يتم بطريقة عجيبة لا يدرك الإنسان كنهها ، ولا نصيب لإرادته فيها؛ ولا يمكن أن يعرف كيف تتم في كيانه .

فهو في حالة الصحو لا يعرف كيف يكون وهو في حالة النوم . وهو في حالة النوم لا يدرك هذه الحالة ولا يقدر على ملاحظتها وهي سر من أسرار تكوين الحي لا يعلمه إلا من خلق هذا الوحي وأودعه ذلك السر؛ وجعل حياته متوقفة عليه . فما من حي يطيق أن يظل من غير نوم إلا فترة محدودة . فإذا أجبر إجباراً بوسائل خارجة عن ذاته كي يظل مستيقظاً فإنه يهلك قطعاً .
وفي النوم أسرار غير تلبية حاجة الجسد والأعصاب . . إنه هدنة الروح من صراع الحياة العنيف ، هدنة تلم بالفرد فيلقي سلاحه وجنته طائعاً أو غير طائع ويستسلم لفترة من السلام الآمن ، السلام الذي يحتاجه الفرد حاجته إلى الطعام والشراب . ويقع ما يشبه المعجزات في بعض الحالات حيث يلم النعاس بالأجفان ، والروح مثقل ، والأعصاب مكدودة ، والنفس منزعجة ، والقلب مروع . وكأنما هذا النعاس أحياناً لا يزيد على لحظات انقلاب تام في كيان هذا الفرد . وتجديد كامل لا لقواه بل له هو ذاته ، وكأنما هو كائن حين يصحو جديد . . ولقد وقعت هذه المعجزة بشكل واضح للمسلمين المجهودين في غزوة بدر وفي غزوة أحد ، وامتن الله عليهم بها . وهو يقول : { إذ يغشِّيكم النعاس أمنة منه } { ثم أنز ل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طآئفة منكم } كما وقعت للكثير في حالات مشابهة
فهذا السبات : أي الانقطاع عن الإدراك والنشاط بالنوم ضرورة من ضرورات تكوين الحي؛ وسر من أسرار القدرة الخالقة؛ ونعمة من نعم الله لا يملك إعطاءها إلا إياه . وتوجيه النظر إليها على هذا النحو القرآني ينبه القلب إلى خصائص ذاته ، وإلى اليد التي أودعتها كيانه ، ويلمسه لمسة تثير التأمل والتدبر والتأثر .
وكان من تدبير الله كذلك أن جعل حركة الكون موافقة لحركة الأحياء . وكما أودع الإنسان سر النوم والسبات ، بعد العمل والنشاط ، فكذلك أودع الكون ظاهرة الليل ليكون لباساً ساتراً يتم فيه السبات والانزواء . وظاهرة النهار ليكون معاشاً تتم فيه الحركة والنشاط . . بهذا تَوافقَ خلق الله وتناسق . وكان هذا العالم بيئة مناسبة للأحياء . تلبي ما ركب فيهم من خصائص . وكان الأحياء مزودين بالتركيب المتفق في حركته وحاجاته مع ما هو مودع في الكون من خصائص وموافقات . وخرج هذا وهذا من يد القدرة المبدعة المدبرة متسقاً أدق اتساق
واللمسة الثالثة في خلق السماء متناسقة مع الأرض والأحياء :
{ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً . وجعلنا سراجاً وهاجاً . وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً . لنخرج به حباً ونباتاً ، وجنات ألفافاً } . .
والسبع الشداد التي بناها الله فوق أهل الأرض هي السماوات السبع ، وهي الطرائق السبع في موضع آخر . . والمقصود بها على وجه التحديد يعلمه الله . . فقد تكون سبع مجموعات من المجرات وهي مجموعات من النجوم قد تبلغ الواحدة منها مائة مليون نجم وتكون السبع المجرات هذه هي التي لها علاقة بأرضنا أو بمجموعتنا الشمسية .

. وقد تكون غير هذه وتلك مما يعلمه الله من تركيب هذا الكون ، الذي لا يعلم الإنسان عنه إلا القليل .
إنما تشير هذه الآية إلى أن هذه السبع الشداد متينة التكوين ، قوية البناء ، مشدودة بقوة تمنعها من التفكك والانثناء . وهو ما نراه ونعلمه من طبيعة الأفلاك والأجرام فيما نطلق عليه لفظ السماء فيدركه كل إنسان . . كما تشير إلى أن بناء هذه السبع الشداد متناسق مع عالم الأرض والإنسان . ومن ثم يذكر في معرض تدبير الله وتقديره لحياة الأرض والإنسان . يدل على هذا ما بعده : { وجعلنا سراجاً وهاجاً } . . وهو الشمس المضيئة الباعثة للحرارة التي تعيش عليها الأرض وما فيها من الأحياء . والتي تؤثر كذلك في تكوين السحائب بتبخير المياه من المحيط الواسع في الأرض ورفعها إلى طبقات الجو العليا وهي المعصرات : { وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً } . . حين تعصر فتخر ويتساقط ما فيها من الماء . ومن يعصرها؟ قد تكون هي الرياح . وقد يكون هو التفريغ الكهربائي في طبقات الجو . ومن وراء هذه وتلك يد القدرة التي تودع الكون هذه المؤثرات وفي السراج توقد وحرارة وضوء . . وهو ما يتوافر في الشمس . فاختيار كلمة « سراج » دقيق كل الدقة ومختار . .
ومن السراج الوهاج وما يسكبه من أشعة فيها ضوء وحرارة ، ومن المعصرات وما يعتصر منها من ماء ثجاج ، ينصب دفعة بعد دفعة كلما وقع التفريغ الكهربائي مرة بعد مرة ، وهو الثجاج ، من هذا الماء مع هذا الإشعاع يخرج الحب والنبات الذي يؤكل هو ذاته ، والجنات الألفاف الكثيفة الكثيرة الأشجار الملتفة الأغصان .
وهذا التناسق في تصميم الكون ، لا يكون إلا ووراءه يد تنسقه ، وحكمة تقدره ، وإرادة تدبره . يدرك هذا بقلبه وحسه كل إنسان حين توجه مشاعره هذا التوجيه ، فإذا ارتقى في العلم والمعرفة تكشفت له من هذا التناسق آفاق ودرجات تذهل العقول وتحير الألباب . وتجعل القول بأن هذا كله مجرد مصادفة قولاً تافهاً لا يستحق المناقشة . كما تجعل التهرب من مواجهة حقيقة القصد والتدبير في هذا الكون ، مجرد تعنت لا يستحق الاحترام
إن لهذا الكون خالقاً ، وإن وراء هذا الكون تدبيراً وتقديراً وتنسيقاً . وتوالي هذه الحقائق والمشاهد في هذا النص القرآني على هذا النحو : من جعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً . وخلق الناس أزواجاً . وجعل نومهم سباتاً ( بعد الحركة والوعي والنشاط ) مع جعل الليل لباساً للستر والانزواء ، وجعل النهار معاشاً للوعي والنشاط . ثم بناء السبع الشداد . وجعل السراج الوهاج . وإنزال الماء الثجاج من المعصرات . لإنبات الحب والنبات والجنات . . توالي هذه الحقائق والمشاهد على هذا النحو يوحي بالتناسق الدقيق ، ويشي بالتدبير والتقدير ، ويشعر بالخالق الحكيم القدير .

ويلمس القلب لمسات موقظة موحية بما وراء هذه الحياة من قصد وغاية . . ومن هنا يلتقي السياق بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون
ولقد كان ذلك كله للعمل والمتاع . ووراء هذا كله حساب وجزاء . ويوم الفصل هو الموعد الموقوت للفصل :
{ إن يوم الفصل كان ميقاتاً . يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً . وفتحت السماء فكانت أبواباً . وسيرت الجبال فكانت سراباً } . .
إن الناس لم يخلقوا عبثاً ، ولن يتركوا سدى . والذي قدر حياتهم ذلك التقدير الذي يشي به المقطع الماضي في السياق ، ونسق حياتهم مع الكون الذي يعيشون فيه ذلك التنسيق ، لا يمكن أن يدعهم يعيشون سدى ويموتون هملاً ويصلحون في الأرض أو يفسدون ثم يذهبون في التراب ضياعاً ويهتدون في الحياة أو يضلون ثم يلقون مصيراً واحداً . ويعدلون في الأرض أو يظلمون ثم يذهب العدل والظلم جميعاً
إن هناك يوماً للحكم والفرقان والفصل في كل ما كان . وهو اليوم المرسوم الموعود الموقوت بأجل عند الله معلوم محدود :
{ إن يوم الفصل كان ميقاتاً } . .
وهو يوم ينقلب فيه نظام هذا الكون وينفرط فيه عقد هذا النظام .
{ يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً . وفتحت السماء فكانت أبواباً ، وسيرت الجبال فكانت سراباً } . .
والصور : البوق . ونحن لا ندري عنه إلا اسمه . ولا نعلم إلا أنه سينفخ فيه . وليس لنا أن نشغل أنفسنا بكيفية ذلك . فهي لا تزيدنا إيماناً ولا تأثراً بالحادث . وقد صان الله طاقتنا عن أن تتبدد في البحث وراء هذا الغيب المكنون ، وأعطانا منه القدر الذي ينفعنا فلا نزيد إنما نحن نتصور النفخة الباعثة المجمعة التي يأتي بها الناس أفواجاً . . نتصور هذا المشهد والخلائق التي توارت شخوصها جيلاً بعد جيل ، وأخلت وجه الأرض لمن يأتي بعدها كي لا يضيق بهم وجه الأرض المحدود . . نتصور مشهد هذه الخلائق جميعاً . . أفواجاً . . مبعوثين قائمين آتين من كل فوج إلى حيث يحشرون . ونتصور الأجداث المبعثرة وهذه الخلائق منها قائمة . ونتصور الجموع الحاشدة لا يعرف أولها آخرها ، ونتصور هذا الهول الذي تثيره تلك الحشود التي لم تتجمع قط في وقت واحد وفي ساعة واحدة إلا في هذا اليوم . . أين؟ لا ندري . . ففي هذا الكون الذي نعرفه أحداث وأهوال جسام :
{ وفتحت السماء فكانت أبواباً . وسيرت الجبال فكانت سراباً } . .
السماء المبنية المتينة . . فتحت فكانت أبواباً . . فهي منشقة . منفرجة . كما جاء في مواضع وسور أخرى . على هيئة لا عهد لنا بها . والجبال الرواسي الأوتاد سيرت فكانت سراباً . فهي مدكوكة مبسوسة مثارة في الهواء هباء ، يحركه الهواء كما جاء في مواضع وسور أخرى . ومن ثم فلا وجود لها كالسراب الذي ليس له حقيقة . أو إنها تنعكس إليها الأشعة وهي هباء فتبدو كالسراب
إنه الهول البادي في انقلاب الكون المنظور ، كالهول البادي في الحشر بعد النفخ في الصور .

وهذا هو يوم الفصل المقدر بحكمة وتدبير . .
ثم يمضي السياق خطوة وراء النفخ والحشر ، فيصور مصير الطغاة ومصير التقاة . بادئاً بالأولين المكذبين المتسائلين عن النبأ العظيم :
{ إن جهنم كانت مرصاداً ، للطاغين مآباً ، لابثين فيهآ أحقاباً . لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً ، إلا حميماً وغساقاً . جزآء وفاقاً . إنهم كانوا لا يرجون حساباً ، وكذبوا بآياتنا كذاباً . وكل شيء أحصيناه كتاباً . فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً } . .
إن جهنم خلقت ووجدت وكانت مرصاداً للطاغين تنتظرهم وتترقبهم وينتهون إليها فإذا هي معدة لهم ، مهيأة لاستقبالهم . وكأنما كانوا في رحلة في الأرض ثم آبوا إلى مأواهم الأصيل وهم يردون هذا المآب للإقامة الطويلة المتجددة أحقاباً بعد أحقاب :
{ لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً } . . ثم يستثني . . فإذا الاستثناء أمرّ وأدهى : { إلا حميماً وغساقاً } . . إلا الماء الساخن يشوي الحلوق والبطون . فهذا هو البرد وإلا الغساق الذي يغسق من أجساد المحروقين ويسيل . فهذا هو الشراب
{ جزاء وفاقاً } . . يوافق ما أسلفوا وما قدموا . . { إنهم كانوا لا يرجون حساباً } . . ولا يتوقعون مآباً . . { وكذبوا بآياتنا كذاباً } . . وجرس اللفظ فيه شدة توحي بشدة التكذيب وشدة الإصرار عليه .
بينما كان الله يحصي عليهم كل شيء إحصاء دقيقاً لا يفلت منه حرف : { وكل شيء أحصيناه كتاباً } . .
هنا يجيء التأنيب الميئس من كل رجاء في تغيير أو تخفيف : { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً } . .
ثم يعرض المشهد المقابل : مشهد التقاة في النعيم . بعد مشهد الطغاة في الحميم :
{ إن للمتقين مفازاً . حدآئق وأعناباً . وكواعب أتراباً . وكأساً دهاقاً . لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً . . جزآء من ربك عطآء حساباً } . .
فإذا كانت جهنم هناك مرصداً ومآباً للطاغين ، لا يفلتون منها ولا يتجاوزونها ، فإن المتقين ينتهون إلى مفازة ومنجاة ، تتمثل { حدائق وأعناباً } ويخص الأعناب بالذكر والتعيين لأنها مما يعرفه المخاطبون . . { وكواعب } وهن الفتيات الناهدات اللواتي استدارت ثديهن { أتراباً } متوافيات السن والجمال . { وكأساً دهاقاً } مترعة بالشراب .
وهي مناعم ظاهرها حسي ، لتقريبها للتصور البشري . أما حقيقة مذاقها والمتاع بها فلا يدركها أهل الأرض وهم مقيدون بمدارك الأرض وتصوراتها . . وإلى جوارها حالة يتذوقها الضمير ويدركها الشعور : { لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً } . . فهي حياة مصونة من اللغو ومن التكذيب الذي يصاحبه الجدل؛ فالحقيقة مكشوفة لا مجال فيها لجدل ولا تكذيب؛ كما أنه لا مجال للغو الذي لا خير فيه . . وهي حالة من الرفعة والمتعة تليق بدار الخلود . .
{ جزاء من ربك عطاء حساباً } . . ونلمح هنا ظاهرة الأناقة في التعبير والموسيقى في التقسيم بين { جزاء } و { عطاء } . . كما نلمحها في الإيقاع المشدود في الفواصل كلها على وجه التقريب . . وهي الظاهرة الواضحة في الجزء كله إجمالاً .
وتكملة لمشاهد اليوم الذي يتم فيه ذلك كله ، والذي يتساءل عنه المتسائلون ، ويختلف فيه المختلفون .

يجيء المشهد الختامي في السورة ، حيث يقف جبريل « عليه السلام » والملائكة صفاً بين يدي الرحمن خاشعين . لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن في الموقف المهيب الجليل :
{ رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً ، يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً } . .
ذلك الجزاء الذي فصله في المقطع السابق : جزاء الطغاة وجزاء التقاة . هذا الجزاء { من ربك } . . { رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن } . . فهي المناسبة المهيأة لهذه اللمسة ولهذه الحقيقة الكبيرة . حقيقة الربوبية الواحدة التي تشمل الإنسان . كما تشمل السماوات والأرض ، وتشمل الدنيا والآخرة ، وتجازي على الطغيان والتقوى ، وتنتهي إليها الآخرة والأولى . . ثم هو { الرحمن } . . ومن رحمته ذلك الجزاء لهؤلاء وهؤلاء . حتى عذاب الطغاة ينبثق من رحمة الرحمن . ومن الرحمة أن يجد الشر جزاءه وألا يتساوى مع الخير في مصيره
ومع الرحمة والجلال : { لا يملكون منه خطاباً } . . في ذلك اليوم المهيب الرهيب : يوم يقف جبريل عليه السلام والملائكة الآخرون { صفاً لا يتكلمون } . . إلا بإذن من الرحمن حيث يكون القول صواباً . فما يأذن الرحمن به إلا وقد علم أنه صواب .
وموقف هؤلاء المقربين إلى الله ، الأبرياء من الذنب والمعصية . موقفهم هكذا صامتين لا يتكلمون إلا بإذن وبحساب . . يغمر الجو بالروعة والرهبة والجلال والوقار . وفي ظل هذا المشهد تنطلق صيحة من صيحات الإنذار ، وهزة للنائمين السادرين في الخمار :
{ ذلك اليوم الحق . فمن شآء اتخذ إلى ربه مآباً . إنآ أنذرناكم عذاباً قريباً : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ، ويقول الكافر : يا ليتني كنت تراباً } . .
إنها الهزة العنيفة لأولئك الذين يتساءلون في ارتياب : { ذلك اليوم الحق } . . فلا مجال للتساؤل والاختلاف . . والفرصة ما تزال سانحة { فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً } . . قبل أن تكون جهنم مرصاداً ومآباً
وهو الإنذار الذي يوقظ من الخمار : { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } . . ليس بالبعيد ، فجهنم تنتظركم وتترصد لكم . على النحو الذي رأيتم . والدنيا كلها رحلة قصيرة ، وعمر قريب
وهو عذاب من الهول بحيث يدع الكافر يؤثر العدم على الوجود : { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه . ويقول الكافر : يا ليتني كنت تراباً } . . وما يقولها إلا وهو ضائق مكروب
وهو تعبير يلقي ظلال الرهبة والندم ، حتى ليتمنى الكائن الإنساني أن ينعدم . ويصير إلى عنصر مهمل زهيد . ويرى هذا أهون من مواجهة الموقف الرعيب الشديد . . وهو الموقف الذي يقابل تساؤل المتسائلين وشك المتشككين . في ذلك النبأ العظيم

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)

هذه السورة نموذج من نماذج هذا الجزء لإشعار القلب البشري حقيقة الآخرة ، بهولها وضخامتها ، وجديتها ، وأصالتها في التقدير الإلهي لنشأة هذا العالم الإنساني ، والتدبير العلوي لمراحل هذه النشأة وخطواتها على ظهر الأرض وفي جوفها؛ ثم في الدار الآخرة ، التي تمثل نهاية هذه النشأة وعقباها .
وفي الطريق إلى إشعار القلب البشري حقيقة الآخرة الهائلة الضخمة العظيمة الكبيرة يوقع السياق إيقاعات منوعة على أوتار القلب ، ويلمسه لمسات شتى حول تلك الحقيقة الكبرى . وهي إيقاعات ولمسات تمت إليها بصلة . فتلك الحقيقة تمهد لها في الحس وتهيئه لاستقبالها في يقظة وفي حساسية . .
يمهد لها بمطلع غامض الكنه يثير بغموضه شيئاً من الحدس والرهبة والتوجس . يسوقه في إيقاع موسيقي راجف لاهث ، كأنما تنقطع به الأنفاس من الذعر والارتجاف والمفاجأة والانبهار : { والنازعات غرقاً . والناشطات نشطاً . والسابحات سبحاً . فالسابقات سبقاً . فالمدبرات أمراً } . .
وعقب هذا المطلع الغامض الراجف الواجف يجيء المشهد الأول من مشاهد ذلك اليوم . ظله من ظل ذلك المطلع وطابعه من طابعه؛ كأنما المطلع إطار له وغلاف يدل عليه : { يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة . قلوب يومئذ واجفة . أبصارها خاشعة . يقولون : أإنَّا لمردودون في الحافرة؟ أإذا كنا عظاما نخرة؟ قالوا : تلك إذا كرة خاسرة فإنما هي زجرة واحدة . فإذا هم بالساهرة } . .
ومن هنالك . . من هذا الجو الراجف الواجف المبهور المذعور . . يأخذ في عرض مصرع من مصارع المكذبين العتاة في حلقة من قصة موسى مع فرعون . فيهدأ الإيقاع الموسيقي ويسترخي شيئاً ما ، ليناسب جو الحكاية والعرض : { هل أتاك حديث موسى . إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى : اذهب إلى فرعون إنه طغى . فقل : هل لك إلى أن تزكَّى؟ وأهديك إلى ربك فتخشى؟ فأراه الآية الكبرى ، فكذب وعصى ، ثم أدبر يسعى ، فحشر فنادى ، فقال : أنا ربكم الأعلى . فأخذه الله نكال الآخرة والأولى . إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } . . وبهذا يلتقي ويمهد لتلك الحقيقة الكبرى .
ثم ينتقل من ساحة التاريخ إلى كتاب الكون المفتوح ، ومشاهد الكون الهائلة ، الشاهدة بالقوة والتدبير والتقدير للألوهية المنشئة للكون ، المهيمنة على مصائره ، في الدنيا والآخرة . فيعرضها في تعبيرات قوية الأسر ، قوية الإيقاع ، تتسق مع مطلع السورة وإيقاعها العام : { أأنتم أشد خلقاً أم السمآء؟ بناها ، رفع سمكها فسواها ، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها؛ والأرض بعد ذلك دحاها ، أخرج منها ماءها ومرعاها ، والجبال أرساها ، متاعاً لكم ولأنعامكم } . .
وهنا بعد هذه التمهيدات المقربة وهذه اللمسات الموحية يجيء مشهد الطامة الكبرى ، وما يصاحبها من جزاء على ما كان في الحياة الدنيا . جزاء يتحقق هو الآخر في مشاهد تتناسق صورها وظلالها مع الطامة الكبرى : { فإذا جآءت الطآمة الكبرى ، يوم يتذكر الإنسان ما سعى ، وبُرِّزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا ، فإن الجحيم هي المأوى .

وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } . .
وفي اللحظة التي يغمر الوجدان فيها ذلك الشعور المنبعث من مشاهد الطامة الكبرى ، والجحيم المبرزة لمن يرى ، وعاقبة من طغى وآثر الحياة الدنيا ، ومن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى . . في هذه اللحظة يرتد السياق إلى المكذبين بهذه الساعة ، الذين يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن موعدها . يرتد إليهم بإيقاع يزيد من روعة الساعة وهولها في الحس وضخامتها : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها؟ فيم أنت من ذكراها؟ إلى ربك منتهاهآ . إنمآ أنت منذر من يخشاها . كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } . . والهاء الممدودة ذات الإيقاع الضخم الطويل ، تشارك في تشخيص الضخامة وتجسيم التهويل
{ والنازعات غرقاً . والناشطات نشطاً . والسابحات سبحاً . فالسابقات سبقاً . فالمدبرات أمراً } . قيل في تفسير هذه الكلمات : إنها الملائكة نازعات للأرواح نزعاً شديداً . ناشطات منطلقات في حركاتها . سابحات في العوالم العليا سابقات للإيمان أو للطاعة لأمر ربها مدبرات ما يوكل من الأمور إليها . .
وقيل : إنها النجوم تنزع في مداراتها وتتحرك وتنشط منتقلة من منزل إلى منزل . وتسبح سبحاً في فضاء الله وهي معلقة به . وتسبق سبقاً في جريانها ودورانها . وتدبر من النتائج والظواهر ما وكله الله إليها مما يؤثر في حياة الأرض ومن عليها .
وقيل : النازعات والناشطات والسابحات والسابقات هي النجوم . والمدبرات هي الملائكة .
وقيل : النازعات والناشطات والسابحات هي النجوم . والسابقات والمدبرات هي الملائكة . .
وأياً ما كانت مدلولاتها فنحن نحس من الحياة في الجو القرآني أن إيرادها على هذا النحو ، ينشئ أولاً وقبل كل شيء هزة في الحس ، وتوجساً في الشعور ، وتوفزاً وتوقعاً لشيء يهول ويروع . ومن ثم فهي تشارك في المطلع مشاركة قوية في إعداد الحس لتلقي ما يروع ويهول من أمر الراجفة والرادفة والطامة الكبرى في النهاية
وتمشياً مع هذا الإحساس نؤثر أن ندعها هكذا بدون زيادة في تفصيل مدلولاتها ومناقشتها؛ لنعيش في ظلال القرآن بموحياته وإيحاءاته على طبيعتها . فهزة القلب وإيقاظه هدف في ذاته ، يتحراه الخطاب القرآني بوسائل شتى . . ثم إن لنا في عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسوة . وقد قرأ سورة : { عبس وتولى } حتى جاء إلى قوله تعالى : { وفاكهة وأبَّا } فقال : « فقد عرفنا الفاكهة . فما الأبّ؟ ثم استدرك قائلاً : لعمرك يا بن الخطاب إن هذا لهو التكلف وما عليك ألا تعرف لفظاً في كتاب الله؟ » . . . وفي رواية أنه قال : كل هذا قد عرفنا فما الأبَّ؟ ثم رفض عصا كانت بيده أي كسرها غضباً على نفسه وقال : « هذا لعمر الله التكلف وما عليك يا بن أم عمر أن لا تدري ما الاب » .

ثم قال : « اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب ، وما لا ، فدعوه » . . فهذه كلمات تنبعث عن الأدب أمام كلمات الله العظيمة . أدب العبد أمام كلمات الرب . التي قد يكون بقاؤها مغلفة هدفاً في ذاته ، يؤدي غرضاً بذاته .
هذا المطلع جاء في صيغة القسم ، على أمر تصوره الآيات التالية في السورة :
{ يوم ترجف الراجفة . تتبعها الرادفة . قلوب يومئذ واجفة . أبصارها خاشعة . يقولون : أإنا لمردودون في الحافرة؟ أإذا كنا عظاماً نخرة؟ قالوا : تلك إذا كرة خاسرة . . فإنما هي زجرة واحدة . فإذا هم بالساهرة } . .
والراجفة ورد أنها الأرض استناداً إلى قوله تعالى في سورة أخرى : { يوم ترجف الأرض والجبال } والرادفة : ورد أنها السماء أي أنها تردف الأرض وتتبعها في الانقلاب حيث تنشق وتتناثر كواكبها . .
كذلك ورد أن الراجفة هي الصيحة الأولى ، التي ترجف لها الأرض والجبال والأحياء جميعاً ، ويصعق لها من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله . والرادفة هي النفخة الثانية التي يصحون عليها ويحشرون ( كما جاء في سورة الزمر آية 68 ) . .
وسواء كانت هذه أم تلك . فقد أحس القلب البشري بالزلزلة والرجفة والهول والاضطراب؛ واهتز هزة الخوف والوجل والرعب والارتعاش . وتهيأ لإدراك ما يصيب القلوب يومئذ من الفزع الذي لا ثبات معه ولا قرار . وأدرك وأحس حقيقة قوله :
{ قلوب يومئذ واجفة . أبصارها خاشعة } . .
فهي شديدة الاضطراب ، بادية الذل ، يجتمع عليها الخوف والانكسار ، والرجفة ، والانهيار . وهذا هو الذي يقع يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة؛ وهذا هو الذي يتناوله القسم بالنازعات غرقاً والناشطات نشطاً ، والسابحات سبحاً ، والسابقات سبقاً ، فالمدبرات أمراً . وهو مشهد يتفق في ظله وإيقاعه مع ذلك المطلع .
ثم يمضي السياق يتحدث عن وهلتهم وانبهارهم حين يقومون من قبورهم في ذهول :
{ يقولون : أإنَّا لمردودون في الحافرة؟ أإذا كنا عظاماً نخرة؟ } . .
فهم يتساءلون : أنحن مردودون إلى الحياة عائدون في طريقنا الأولى . . يقال : رجع في حافرته : أي في طريقه التي جاء منها . فهم في وهلتهم وذهولهم يسألون : إن كانوا راجعين في طريقهم إلى حياتهم؟ ويدهشون : كيف يكون هذا بعد إذ كانوا عظاماً نخرة . منخوبة يصوت فيها الهواء؟
ولعلهم يفيقون ، أو يُبصرون ، فيعلمون أنها كرة إلى الحياة ، ولكنها الحياة الأخرى ، فيشعرون بالخسارة والوبال في هذه الرجعة ، فتند منهم تلك الكلمة :
{ قالوا : تلك إذن كرة خاسرة }
كرة لم يحسبوا حسابها ، ولم يقدموا لها زادها ، وليس لهم فيها إلا الخسران الخالص
هنا في مواجهة هذا المشهد يعقب السياق القرآني بحقيقة ما هو كائن :
{ فإنما هي زجرة واحدة . فإذا هم بالساهرة } . .
والزجرة : هي الصيحة . ولكنها تقال هنا بهذا اللفظ العنيف تنسيقاً لجو المشهد مع مشاهد السورة جميعاً . والساهرة هي الأرض البيضاء اللامعة . وهي أرض المحشر ، التي لا ندري نحن أين تكون .

والخبر عنها لا نعرفه إلا من الخبرالصادق نتلقاه ، فلا نزيد عليه شيئاً غير موثوق به ولا مضمون
وهذه الزجرة الواحدة يغلب بالاستناد إلى النصوص الأخرى أنها النفخة الثانية . نفخة البعث والحشر . والتعبير عنها فيه سرعة . وهي ذاتها توحي بالسرعة . وإيقاع السورة كلها فيه هذا اللون من الإسراع والإيجاف . والقلوب الواجفة تأخذ صفتها هذه من سرعة النبض ، فالتناسق ملحوظ في كل حركة وفي كل لمحة ، وفي كل ظل في السياق
ثم يهدأ الإيقاع شيئاً ما ، في الجولة القادمة ، ليناسب جو القصص ، وهو يعرض ما كان بين موسى وفرعون ، وما انتهى إليه هذا الطاغية عندما طغى :
{ هل أتاك حديث موسى . إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى . اذهب إلى فرعون إنه طغى . ؟ فقل : هل لك إلى أن تَزَكَّى؟ وأهديك إلى ربك فتخشى؟ فأراه الآية الكبرى . فكذب وعصى ، ثم أدبر يسعى . فحشر فنادى . فقال : أنا ربكم الأعلى . فأخذه الله نكال الآخرة والأولى . . إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } . .
وقصة موسى هي أكثر القصص وروداً وأكثرها تفصيلاً في القرآن . . وقد وردت من قبل في سور كثيرة . وردت منها حلقات منوعة . ووردت في أساليب شتى . كل منها تناسب سياق السورة التي وردت فيها؛ وتشارك في أداء الغرض البارز في السياق . على طريقة القرآن في إيراد القصص وسرده .
وهنا ترد هذه القصة مختصرة سريعة المشاهد منذ أن نودي موسى بالوادي المقدس ، إلى أخذ فرعون . . أخذه في الدنيا ثم في الآخرة . . فتلتقي بموضوع السورة الأصيل ، وهو حقيقة الآخرة . وهذا المدى الطويل من القصة يرد هنا في آيات معدودات قصار سريعة ، ليناسب طبيعة السورة وإيقاعها .
وتتضمن هذه الآيات القصار السريعة عدة حلقات ومشاهد من القصة . .
وهي تبدأ بتوجيه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم : { هل أتاك حديث موسى؟ } . . وهو استفهام للتمهيد وإعداد النفس والأذن لتلقي القصة وتمليها . .
ثم تأخذ في عرض الحديث كما تسمى القصة . وهو إيحاء بواقعيتها فهي حديث جرى . فتبدأ بمشهد المناداة والمناجاة : { إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى } . . وطوى اسم الوادي على الأرجح . وهو بجانب الطور الأيمن بالنسبة للقادم من مدين في شمال الحجاز .
ولحظة النداء لحظة رهيبة جليلة . وهي لحظة كذلك عجيبة . ونداء الله بذاته سبحانه لعبد من عباده أمر هائل . أهول مما تملك الألفاظ البشرية أن تعبر . وهي سر من أسرار الألوهية العظيمة ، كما هي سر من أسرار التكوين الإنساني التي أودعها الله هذا الكائن ، وهيأه بها لتلقي ذلك النداء . وهذا أقصى ما نملك أن نقوله في هذا المقام ، الذي لا يملك الإدراك البشري أن يحيط منه بشيء؛ فيقف على إطاره ، حتى يكشف الله له عنه فيتذوقه بشعوره .
وفي مواضع أخرى تفصيل للمناجاة بين موسى وربه في هذا الموقف .

فأما هنا فالمجال مجال اختصار وإيقاعات سريعة . ومن ثم يبادر السياق بحكاية أمر التكليف الإلهي لموسى ، عقب ذكر النداء بالوادي المقدس طوى : { اذهب إلى فرعون . إنه طغى . فقل : هل لك إلى أن تزكَّى وأهديك إلى ربك فتخشى؟ } . .
{ اذهب إلى فرعون . إنه طغى } . . والطغيان أمر لا ينبغي أن يكون ولا أن يبقى . إنه أمر كريه ، مفسد للأرض ، مخالف لما يحبه الله ، مؤد إلى ما يكره . . فمن أجل منعه ينتدب الله عبداً من عباده المختارين . ينتدبه بنفسه سبحانه . ليحاول وقف هذا الشر ، ومنع هذا الفساد ، ووقف هذا الطغيان . . إنه أمر كريه شديد الكراهية حتى ليخاطب الله بذاته عبداً من عباده ليذهب إلى الطاغية ، فيحاول رده عما هو فيه ، والإعذار إليه قبل أن يأخذه الله تعالى نكال الآخرة والأولى
{ إذهب إلى فرعون . إنه طغى } . . ثم يعلمه الله كيف يخاطب الطاغية بأحب أسلوب وأشده جاذبية للقلوب ، لعله ينتهي ، ويتقي غضب الله وأخذه : { فقل : هل لك إلى أن تزكى؟ } . . هل لك إلى أن تتطهر من رجس الطغيان ودنس العصيان؟ هل لك إلى طريق الصلاة والبركة؟ { وأهديك إلى ربك فتخشى } . . هل لك أن أعرفك طريق ربك؟ فإذا عرفته وقعت في قلبك خشيته؟ فما يطغى الإنسان ويعصي إلا حين يذهب عن ربه بعيداً ، وإلا حين يضل طريقه إليه فيقسو قلبه ويفسد ، فيكون منه الطغيان والتمرد
كان هذا في مشهد النداء والتكليف . وكان بعده في مشهد المواجهة والتبليغ . والسياق لا يكرره في مشهد التبليغ . اكتفاء بعرضه هناك وذكره . فيطوي ما كان بعد مشهد النداء ، ويختصر عبارة التبليغ في مشهد التبليغ . ويسدل الستار هنا ليرفعه على ختام مشهد المواجهة :
{ فأراه الآية الكبرى . فكذب وعصى } . .
لقد بلغ موسى ما كلف تبليغه . بالأسلوب الذي لقنه ربه وعرفه . ولم يفلح هذا الأسلوب الحبيب في إلانة القلب الطاغي الخاوي من معرفة ربه . فأراه موسى الآية الكبرى . آية العصا واليد البيضاء كما جاء في المواضع الأخرى : { فكذب وعصى } . . وانتهى مشهد اللقاء والتبليغ عند التكذيب والمعصية في اختصار وإجمال
ثم يعرض مشهداً آخر . مشهد فرعون يتولى عن موسى ، ويسعى في جمع السحرة للمباراة بين السحر والحق . حين عز عليه أن يستسلم للحق والهدى :
{ ثم أدبر يسعى . فحشر فنادى . فقال : أنا ربكم الأعلى } . .
ويسارع السياق هنا إلى عرض قولة الطاغية الكافرة ، مجملاً مشاهد سعيه وحشره للسحرة وتفصيلاتها . فقد أدبر يسعى في الكيد والمحاولة ، فحشر السحرة والجماهير؛ ثم انطلقت منه الكلمة الوقحة المتطاولة ، المليئة بالغرور والجهالة : { أنا ربكم الأعلى } . .
قالها الطاغية مخدوعاً بغفلة جماهيره ، وإذعانها وانقيادها . فما يخدع الطغاة شيء ما تخدعهم غفلة الجماهير وذلتها وطاعتها وانقيادها . وما الطاغية إلا فرد لا يملك في الحقيقة قوة ولا سطاناً .

إنما هي الجماهير الغافلة الذلول ، تمطي له ظهرها فيركب وتمد له أعناقها فيجر وتحني له رؤوسها فيستعلي وتتنازل له عن حقها في العزة والكرامة فيطغى
والجماهير تفعل هذا مخدوعة من جهة وخائفة من جهة أخرى . وهذا الخوف لا ينبعث إلا من الوهم . فالطاغية وهو فرد لا يمكن أن يكون أقوى من الألوف والملايين ، لو أنها شعرت بإنسانيتها وكرامتها وعزتها وحريتها . وكل فرد فيها هو كفء للطاغية من ناحية القوة ولكن الطاغية يخدعها فيوهمها أنه يملك لها شيئاً وما يمكن أن يطغى فرد في أمة كريمة أبداً . وما يمكن أن يطغى فرد في أمة رشيدة أبداً . وما يمكن أن يطغى فرد في أمة تعرف ربها وتؤمن به وتأبى أن تتعبد لواحد من خلقه لا يملك لها ضراً ولا رشداً
فأما فرعون فوجد في قومه من الغفلة ومن الذلة ومن خواء القلب من الإيمان ، ما جرؤ به على قول هذه الكلمة الكافرة الفاجرة : { أنا ربكم الأعلى } . . وما كان ليقولها أبدا لو وجد أمة واعية كريمة مؤمنة ، تعرف أنه عبد ضعيف لا يقدر على شيء . وإن يسلبه الذباب شيئاً لا يستنقذ من الذباب شيئاً
وأمام هذا التطاول الوقح ، بعد الطغيان البشع ، تحركت القوة الكبرى :
{ فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } . .
ويقدم هنا نكال الآخرة على نكال الأولى . . لأنه أشد وأبقى . فهو النكال الحقيقي الذي يأخذ الطغاة والعصاة بشدته وبخلوده . . ولأنه الأنسب في هذا السياق الذي يتحدث عن الآخرة ويجعلها موضوعه الرئيسي . . ولأنه يتسق لفظياً مع الإيقاع الموسيقي في القافية بعد اتساقه معنوياً مع الموضوع الرئيسي ، ومع الحقيقة الأصيلة .
ونكال الأولى كان عنيفاً قاسياً . فكيف بنكال الآخرة وهو أشد وأنكى؟ وفرعون كان ذا قوة وسلطان ومجد موروث عريق؛ فكيف بغيره من المكذبين؟ وكيف بهؤلاء الذين يواجهون الدعوة من المشركين؟
{ إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } . .
فالذي يعرف ربه ويخشاه هو الذي يدرك ما في حادث فرعون من العبرة لسواه . أما الذي لا يعرف قلبه التقوى فبينه وبين العبرة حاجز ، وبينه وبين العظة حجاب . حتى يصطدم بالعاقبة اصطداماً . وحتى يأخذه الله نكال الآخرة والأولى . وكل ميسر لنهج ، وكل ميسر لعاقبة . والعبرة لمن يخشى . .
ومن هذه الجولة في مصارع الطغاة المعتدين بقوتهم ، يعود إلى المشركين المعتزين بقوتهم كذلك . فيردهم إلى شيء من مظاهر القوة الكبرى ، في هذا الكون الذي لا تبلغ قوتهم بالقياس إليه شيئاً :
{ أأنتم أشد خلقاً أم السماء؟ بناها . رفع سمكها فسواها . وأغطش ليلها وأخرج ضحاها . والأرض بعد ذلك دحاها . أخرج منها ماءها ومرعاها . والجبال أرساها . متاعاً لكم ولأنعامكم } . .
وهو استفهام لا يحتمل إلا إجابة واحدة بالتسليم الذي لا يقبل الجدل : { أأنتم أشد خلقاً أم السماء؟ } . . السماء بلا جدال ولا كلام فما الذي يغركم من قوتكم والسماء أشد خلقاً منكم ، والذي خلقها أشد منها؟ هذا جانب من إيحاء السؤال .

وهناك جانب آخر . فما الذي تستصعبونه من أمر بعثكم؟ وهو خلق السماء وهي أشد من خلقكم؛ وبعثكم هو إعادة لخلقكم ، والذي بنى السماء وهي أشد ، قادر على إعادتكم وهي أيسر
هذه السماء الأشد خلقاً بلا مراء . . { بناها } . . والبناء يوحي بالقوة والتماسك ، والسماء كذلك . متماسكة . لا تختل ولا تتناثر نجومها وكواكبها . ولا تخرج من أفلاكها ومداراتها ، ولا تتهاوى ولا تنهار . فهي بناء ثابت وطيد متماسك الأجزاء .
{ رفع سمكها فسواها } . . وسمك كل شيء قامته وارتفاعه . والسماء مرفوعه في تناسق وتماسك . وهذه هي التسوية : { فسواها } . . والنظرة المجردة والملاحظة العادية تشهد بهذا التناسق المطلق . والمعرفة بحقيقة القوانين التي تمسك بهذه الخلائق الهائلة وتنسق بين حركاتها وآثارها وتأثراتها ، توسع من معنى هذا التعبير ، وتزيد في مساحة هذه الحقيقة الهائلة ، التي لم يدرك الناس بعلومهم إلا أطرافاً منها ، وقفوا تجاهها مبهورين ، تغمرهم الدهشة ، وتأخذهم الروعة ، ويعجزون عن تعليلها بغير افتراض قوة كبرى مدبرة مقدرة ، ولو لم يكونوا من المؤمنين بدين من الأديان إطلاقاً
{ وأغطش ليلها وأخرج ضحاها } . . وفي التعبير شدة في الجرس والمعنى ، يناسب الحديث عن الشدة والقوة . وأغطش ليلها أي أظلمه . وأخرج ضحاها . أي : أضاءها . ولكن اختيار الألفاظ يتمشى في تناسق مع السياق . . وتوالي حالتي الظلام والضياء ، في الليل والضحى الذي هو أول النهار ، حقيقة يراها كل أحد؛ ويتأثر بها كل قلب . وقد ينساها بطول الألفة والتكرار ، فيعيد القرآن جدتها بتوجيه المشاعر إليها . وهي جديدة أبداً . تتجدد كل يوم ، ويتجدد الشعور بها والانفعال بوقعها . فأما النواميس التي وراءها فهي كذلك من الدقة والعظمة بحيث تروع وتدهش من يعرفها . فتظل هذه الحقيقة تروع القلوب وتدهشها كلما اتسع علمها وكبرت معرفتها
{ والأرض بعد ذلك دحاها . أخرج منها ماءها ومرعاها . والجبال أرساها } . .
ودحو الأرض تمهيدها وبسط قشرتها ، بحيث تصبح صالحة للسير عليها ، وتكوين تربة تصلح للإنبات ، وإرساء الجبال وهو نتيجة لاستقرار سطح الأرض ووصول درجة حرارته إلى هذا الاعتدال الذي يسمح بالحياة . والله أخرج من الأرض ماءها سواء ما يتفجر من الينابيع ، أو ما ينزل من السماء فهو أصلاً من مائها الذي تبخر ثم نزل في صورة مطر . وأخرج من الأرض مرعاها وهو النبات الذي يأكله الناس والأنعام وتعيش عليه الأحياء مباشرة وبالواسطة . .
وكل أولئك قد كان بعد بناء السماء ، وبعد إغطاش الليل وإخراج الضحى . والنظريات الفلكية الحديثة تقرب من مدلول هذا النص القرآني حين تفترض أنه قد مضى على الأرض مئات الملايين من السنين ، وهي تدور دوراتها ويتعاقب الليل والنهار عليها قبل دحوها وقبل قابليتها للزرع . وقبل استقرار قشرتها على ما هي عليه من مرتفعات ومستويات .
والقرآن يعلن أن هذا كله كان : { متاعاً لكم ولأنعامكم } .

. فيذكر الناس بعظيم تدبير الله لهم من ناحية . كما يشير إلى عظمة تقدير الله في ملكه . فإن بناء السماء على هذا النحو ، ودحو الأرض على هذا النحو أيضاً لم يكونا فلتة ولا مصادفة . إنما كان محسوباً فيهما حساب هذا الخلق الذي سيستخلف في الأرض . والذي يقتضي وجوده ونموه ورقيه موافقات كثيرة جداً في تصميم الكون . وفي تصميم المجموعة الشمسية بصفة خاصة . وفي تصميم الأرض بصفة أخص .
والقرآن على طريقته في الإشارة المجملة الموحية المتضمنة لأصل الحقيقة يذكر هنا من هذه الموافقات بناء السماوات ، وإغطاش الليل ، وإخراج الضحى ، ودحو الأرض وإخراج مائها ومرعاها ، وإرساء جبالها . متاعاً للإنسان وأنعامه . وهي إشارة توحي بحقيقة التدبير والتقدير في بعض مظاهرها المكشوفة للجميع ، الصالحة لأن يخاطب بها كل إنسان ، في كل بيئة وفي كل زمان ، فلا تحتاج إلى درجة من العلم والمعرفة ، تزيد على نصيب الإنسان حيث كان . حتى يعم الخطاب بالقرآن لجميع بني الإنسان في جميع أطوار الإنسان ، في جميع الأزمان .
ووراء هذا المستوى آماد وآفاق أخرى من هذه الحقيقة الكبرى . حقيقة التقدير والتدبير في تصميم هذا الكون الكبير . واستبعاد المصادفة والجزاف استبعاداً تنطق به طبيعة هذا الكون ، وطبيعة المصادفة التي يستحيل معها تجمع كل تلك الموافقات العجيبة .
هذه الموافقات التي تبدأ من كون المجموعة الشمسية التي تنتمي إليها أرضنا هي تنظيم نادر بين مئات الملايين من المجموعات النجمية . وأن الأرض نمط فريد غير مكرر بين الكواكب بموقعها هذا في المنظومة الشمسية . الذي يجعلها صالحة للحياة الإنسانية . ولا يعرف البشر حتى اليوم كوكباً آخر تجتمع له هذه الموافقات الضرورية . وهي تعد بالآلاف
« ذلك أن أسباب الحياة تتوافر في الكوكب على حجم ملائم ، وبعد معتدل ، وتركيب تتلاقى فيه عناصر المادة على النسبة التي تنشط فيها حركة الحياة » .
« لا بد من الحجم الملائم ، لأن بقاء الجو الهوائي حول الكوكب يتوقف على ما فيه من قوة الجاذبية . »
« ولا بد من البعد المعتدل لأن الجرم القريب من الشمس حار لا تتماسك فيه الأجسام ، والجرم البعيد من الشمس بارد لا تتخلخل فيه تلك الأجسام » .
« ولا بد من التركيب الذي تتوافق فيه العناصر على النسبة التي تنشط بها حركة الحياة ، لأن هذه النسبة لازمة لنشأة النبات ونشأة الحياة التي تعتمد عليه في تمثيل الغذاء » .
« وموقع الأرض حيث هي أصلح المواقع لتوفير هذه الشروط التي لا غنى عنها للحياة ، في الصورة التي نعرفها ، ولا نعرف لها صورة غيرها حتى الآن » .
وتقرير حقيقة التدبير والتقدير في تصميم هذا الكون الكبير ، وحساب مكان للإنسان فيه ملحوظ في خلقه وتطويره أمر يعد القلب والعقل لتلقي حقيقة الآخرة وما فيها من حساب وجزاء باطمئنان وتسليم .

فما يمكن أن يكون هذا هو واقع النشأة الكونية والنشأة الإنسانية ثم لا تتم تمامها ، ولا تلقى جزاءها . ولا يكون معقولاً أن ينتهي أمرها بنهاية الحياة القصيرة في هذه العاجلة الفانية . وأن يمضي الشر والطغيان والباطل ناجياً بما كان منه في هذه الأرض . وأن يمضي الخير والعدل والحق بما أصابه كذلك في هذه الأرض . . فهذا الفرض مخالف في طبيعته لطبيعة التقدير والتدبير الواضحة في تصميم الكون الكبير . . ومن ثم تلتقي هذه الحقيقة التي لمسها السياق في هذا المقطع بحقيقة الآخرة التي هي الموضوع الرئيسي في السورة . وتصلح تمهيداً لها في القلوب والعقول ، يجيء بعده ذكر الطامة الكبرى في موضعه وفي حينه
{ فإذا جآءت الطآمة الكبرى ، يوم يتذكر الإنسان ما سعى ، وبُرِّزَت الجحيم لمن يرى . فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا ، فإن الجحيم هي المأوى ، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، فإن الجنة هي المأوى } . .
إن الحياة الدنيا متاع . متاع مقدر بدقة وإحكام . وفق تدبير يرتبط بالكون كله ونشأة الحياة والإنسان . ولكنه متاع . متاع ينتهي إلى أجله . . فإذا جاءت الطامة الكبرى غطت على كل شيء ، وطمت على كل شيء . على المتاع الموقوت . وعلى الكون المتين المقدر المنظم . على السماء المبنية والأرض المدحوة والجبال المرساة والأحياء والحياة وعلى كل ما كان من مصارع ومواقع . فهي أكبر من هذا كله ، وهي تطم وتعم على هذا كله
عندئذ يتذكر الإنسان ما سعى . يتذكر سعيه ويستحضره ، إن كانت أحداث الحياة ، وشواغل المتاع أغفلته عنه وأنسته إياه . يتذكره ويستحضره ولكن حيث لا يفيده التذكر والاستحضار إلا الحسرة والأسى وتصور ما وراءه من العذاب والبلوى
{ وبُرِّزَت الجحيم لمن يرى } . . فهي بارزة مكشوفة لكل ذي نظر . ويشدد التعبير في اللفظ { بُرِّزَت } تشديداً للمعنى والجرس ، ودفعاً بالمشهد إلى كل عين
عندئذ تختلف المصائر والعواقب؛ وتتجلى غاية التدبير والتقدير في النشأة الأولى :
{ فأما من طغى ، وآثر الحياة الدنيا ، فإن الجحيم هي المأوى } . .
والطغيان هنا أشمل من معناه القريب . فهو وصف لكل من يتجاوز الحق والهدى . ومداه أوسع من الطغاة ذوي السلطان والجبروت ، حيث يشمل كل متجاوز للهدى ، وكل من آثر الحياة الدنيا ، واختارها على الآخرة . فعمل لها وحدها ، غير حاسب للآخرة حساباً . واعتبار الآخرة هو الذي يقيم الموازين في يد الإنسان وضميره . فإذا أهمل حساب الآخرة أو آثر عليها الدنيا اختلت كل الموازين في يده ، واختلت كل القيم في تقديره ، واختلت كل قواعد الشعور والسلوك في حياته ، وعد طاغياً وباغياً ومتجاوزاً للمدى .
فأما هذا . . { فإن الجحيم هي المأوى } . . الجحيم المكشوفة المبرزة القريبة الحاضرة . يوم الطامة الكبرى
{ وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى .

فإن الجنة هي المأوى } . .
والذي يخاف مقام ربه لا يقدم على معصية ، فإذا أقدم عليها بحكم ضعفه البشري قاده خوف هذا المقام الجليل إلى الندم والاستغفار والتوبة . فظل في دائرة الطاعة .
ونهي النفس عن الهوى هو نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة . فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان ، وكل تجاوز ، وكل معصية . وهو أساس البلوى ، وينبوع الشر ، وقل أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى . فالجهل سهل علاجه . ولكن الهوى بعد العلم هو آفة النفس التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأمد لعلاجها .
والخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة . وقل أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى . ومن ثم يجمع بينهما السياق القرآني في آية واحدة . فالذي يتحدث هنا هو خالق هذه النفس العليم بدائها ، الخبير بدوائها وهو وحده الذي يعلم دروبها ومنحنياتها ، ويعلم أين تكمن أهواؤها وأدواؤها ، وكيف تطارد في مكامنها ومخابئها
ولم يكلف الله الإنسان ألا يشتجر في نفسه الهوى . فهو سبحانه يعلم أن هذا خارج عن طاقته . ولكنه كلفه أن ينهاها ويكبحها ويمسك بزمامها . وأن يستعين في هذا بالخوف . الخوف من مقام ربه الجليل العظيم المهيب . وكتب له بهذا الجهاد الشاق ، الجنة مثابة ومأوى : { فإن الجنة هي المأوى } . . ذلك أن الله يعلم ضخامة هذا الجهاد؛ وقيمته كذلك في تهذيب النفس البشرية وتقويمها ورفعها إلى المقام الأسنى .
إن الإنسان إنسان بهذا النهي ، وبهذا الجهاد ، وبهذا الارتفاع . وليس إنساناً بترك نفسه لهواها ، وإطاعة جواذبه إلى دركها ، بحجة أن هذا مركب في طبيعته . فالذي أودع نفسه الاستعداد لجيشان الهوى ، هو الذي أودعها الاستعداد للإمساك بزمامه ، ونهي النفس عنه ، ورفعها عن جاذبيته؛ وجعل له الجنة جزاء ومأوى حين ينتصر ويرتفع ويرقى .
وهنالك حرية إنسانية تليق بتكريم الله للإنسان . تلك هي حرية الانتصار على هوى النفس والانطلاق من أسر الشهوة ، والتصرف بها في توازن تثبت معه حرية الاختيار والتقدير الإنساني . وهنالك حرية حيوانية ، هي هزيمة الإنسان أمام هواه ، وعبوديته لشهوته ، وانفلات الزمام من إرادته . وهي حرية لا يهتف بها إلا مخلوق مهزوم الإنسانية مستعبد يلبس عبوديته رداء زائفاً من الحرية
إن الأول هو الذي ارتفع وارتقى وتهيأ للحياة الرفيعة الطليقة في جنة المأوى . أما الآخر فهو الذي ارتكس وانتكس وتهيأ للحياة في درك الجحيم حيث تهدر إنسانيته ، ويرتد شيئاً توقد به النار التي وقودها الناس من هذا الصنف والحجارة
وهذه وتلك هي المصير الطبيعي للارتكاس والارتقاء في ميزان هذا الدين الذي يزن حقيقة الأشياء . .
وأخيراً يجيء الإيقاع الأخير في السورة هائلاً عميقاً مديداً :
{ يسألونك عن الساعة : أيان مرساها؟ فيم أنت من ذكراها؟ إلى ربك منتهاهآ . إنمآ أنت منذر من يخشاها . كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } .

.
وكان المتعنتون من المشركين يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم كلما سمعوا وصف أهوال الساعة وأحداثها وما تنتهي إليه من حساب وجزاء . . متى أو أيان موعدها . . أو كما يحكي عنهم هنا : { أيان مرساها؟ } . .
والجواب : { فيم أنت من ذكراها؟ } . . وهو جواب يوحي بعظمتها وضخامتها ، بحيث يبدو هذا السؤال تافهاً باهتاً ، وتطفلاً كذلك وتجاوزاً . . فها هو ذا يقال للرسول العظيم : { فيم أنت من ذكراها؟ } . . إنها لأعظم من أن تَسأل أو تسأل عن موعدها . فأمرها إلى ربك وهي من خاصة شأنه وليست من شأنك :
{ إلى ربك منتهاها } . . فهو الذي ينتهي إليه أمرها ، وهو الذي يعلم موعدها ، وهو الذي يتولى كل شيء فيها .
{ إنما أنت منذر من يخشاها } . . هذه وظيفتك ، وهذه حدودك . . أن تنذر بها من ينفعه الإنذار ، وهو الذي يشعر قلبه بحقيقتها فيخشاها ويعمل لها ، ويتوقعها في موعدها الموكول إلى صاحبها سبحانه وتعالى .
ثم يصور هولها وضخامتها في صنيعها بالمشاعر والتصورات؛ وقياس الحياة الدنيا إليها في إحساس الناس وتقديرهم :
{ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } . .
فهي من ضخامة الوقع في النفس بحيث تتضاءل إلى جوارها الحياة الدنيا ، وأعمارها ، وأحداثها ، ومتاعها ، وأشياؤها ، فتبدو في حس أصحابها كأنها بعض يوم . . عشية أو ضحاها
وتنطوي هذه الحياة الدنيا التي يتقاتل عليها أهلها ويتطاحنون . والتي يؤثرونها ويدعون في سبيلها نصيبهم في الآخرة . والتي يرتكبون من أجلها ما يرتكبون من الجريمة والمعصية والطغيان . والتي يجرفهم الهوى فيعيشون له فيها . . تنطوي هذه الحياة في نفوس أصحابها أنفسهم ، فإذا هي عندهم عشية أو ضحاها .
هذه هي : قصيرة عاجلة ، هزيلة ذاهبة ، زهيدة تافهة . . أفمن أجل عشية أو ضحاها يضحون بالآخرة؟ ومن أجل شهوة زائلة يدعون الجنة مثابة ومأوى
ألا إنها الحماقة الكبرى . الحماقة التي لا يرتكبها إنسان . يسمع ويرى

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

هذه السورة قوية المقاطع ، ضخمة الحقائق ، عميقة اللمسات ، فريدة الصور والظلال والإيحاءات ، موحية الإيقاعات الشعورية والموسيقية على السواء .
يتولى المقطع الأول منها علاج حادث معين من حواث السيرة : كان النبي صلى الله عليه وسلم مشغولاً بأمر جماعة من كبراء قريش يدعوهم إلى الإسلام حينما جاءه ابن أم مكتوم الرجل الأعمى الفقير وهو لا يعلم أنه مشغول بأمر القوم يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا وعبس وجهه وأعرض عنه ، فنزل القرآن بصدر هذه السورة يعاتب الرسول صلى الله عليه وسلم عتاباً شديداً؛ ويقرر حقيقة القيم في حياة الجماعة المسلمة في أسلوب قوي حاسم ، كما يقرر حقيقة هذه الدعوة وطبيعتها : { عبس وتولى أن جآءه الأعمى . وما يدريك لعله يزكى . أو يذكر فتنفعه الذكرى . أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى؟ وأما من جآءك يسعى وهو يخشى ، فأنت عنه تلهى؟ كلا إنها تذكرة ، فمن شآء ذكره ، في صحف مكرمة ، مرفوعة مطهرة ، بأيدي سفرة ، كرام بررة } . .
ويعالج المقطع الثاني جحود الإنسان وكفره الفاحش لربه ، وهو يذكره بمصدر وجوده ، وأصل نشأته ، وتيسير حياته ، وتولي ربه له في موته ونشره؛ ثم تقصيره بعد ذلك في أمره :
{ قتل الإنسان مآ أكفره من أي شيء خلقه؟ من نطفة خلقه فقدره ، ثم السبيل يسره ، ثم أماته فأقبره ، ثم إذا شآء أنشره ، كلا لما يقض مآ أمره } . .
والمقطع الثالث يعالج توجيه القلب البشري إلى أمسّ الأشياء به وهو طعامه وطعام حيوانه . وما وراء ذلك الطعام من تدبير الله وتقديره له ، كتدبيره وتقديره في نشأته :
{ فلينظر الإنسان إلى طعامه ، أنا صببنا الماء صباً . ثم شققنا الأرض شقاً ، فأنبتنا فيها حباً ، وعنباً وقضباً ، وزيتوناً ونخلاً ، وحدائق غلباً ، وفاكهة وأبا ، متاعاً لكم ولأنعامكم } . .
فأما المقطع الأخير فيتولى عرض { الصاخة } يوم تجيء بهولها ، الذي يتجلى في لفظها ، كما تتجلى آثارها في القلب البشري الذي يذهل عما عداها؛ وفي الوجوه التي تحدث عما دهاها :
{ فإذا جآءت الصآخة . يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه ، لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه ، وجوه يومئذ مسفرة ، ضاحكة مستبشرة ، ووجوه يومئذ عليها غبرة ، ترهقها قترة ، أولئك هم الكفرة الفجرة } . .
إن استعراض مقاطع السورة وآياتها على هذا النحو السريع يسكب في الحس إيقاعات شديدة التأثير . فهي من القوة والعمق بحيث تفعل فعلها في القلب بمجرد لمسها له بذاتها .
وسنحاول أن نكشف عن جوانب من الآماد البعيدة التي تشير إليها بعض مقاطعها مما قد لا تدركه النظرة الأولى .
{ عبس وتولى .

أن جآءه الأعمى . وما يدريك لعله يزكى؟ أو يذكر فتنفعه الذكرى؟ أما من استغنى فأنت له تصدى؟ وما عليك ألا يزكى؟ وأما من جآءك يسعى وهو يخشى ، فأنت عنه تلهى؟ كلا إنها تذكرة ، فمن شآء ذكره ، في صحف مكرمة ، مرفوعة مطهرة ، بأيدي سفرة ، كرام بررة } . .
إن هذا التوجيه الذي نزل بشأن هذا الحادث هو أمر عظيم جداً . أعظم بكثير مما يبدو لأول وهلة . إنه معجزة ، هو والحقيقة التي أراد إقرارها في الأرض ، والآثار التي ترتبت على إقرارها بالفعل في حياة البشرية . ولعلها هي معجزة الإسلام الأولى ، ومعجزته الكبرى كذلك . ولكن هذا التوجيه يرد هكذا تعقيباً على حادث فردي على طريقة القرآن الإلهية في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة فرصة لتقرير الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد .
وإلا فإن الحقيقة التي استهدف هذا التوجيه تقريرها هنا والآثار الواقعية التي ترتبت بالفعل على تقريرها في حياة الأمة المسلمة ، هي الإسلام في صميمه . وهي الحقيقة التي أراد الإسلام وكل رسالة سماوية قبله غرسها في الأرض .
هذه الحقيقة ليست هي مجرد : كيف يعامل فرد من الناس؟ أو كيف يعامل صنف من الناس؟ كما هو المعنى القريب للحادث وللتعقيب . إنما هي أبعد من هذا جداً ، وأعظم من هذا جداً . إنها : كيف يزن الناس كل أمور الحياة؟ ومن أين يستمدون القيم التي يزنون بها ويقدرون؟
والحقيقة التي استهدف هذا التوجيه إقرارها هي : أن يستمد الناس في الأرض قيمهم وموازينهم من اعتبارات سماوية إلهية بحتة ، آتية لهم من السماء ، غير مقيدة بملابسات أرضهم ، ولا بموضوعات حياتهم ، ولا نابعة من تصوراتهم المقيدة بهذه المواضعات وتلك الملابسات .
وهو أمر عظيم جداً ، كما أنه أمر عسير جداً . عسير أن يعيش الناس في الأرض بقيم وموازين آتية من السماء . مطلقة من اعتبارات الأرض . متحررة من ضغط هذه الاعتبارات .
ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك ضخامة الواقع البشري ، وثقله على المشاعر ، وضغطه على النفوس ، وصعوبة التخلي عن الملابسات والضغوط الناشئة من الحياة الواقعية للناس ، المنبثقة من أحوال معاشهم ، وارتباطات حياتهم ، وموروثات بيئتهم ، ورواسب تاريخهم ، وسائر الظروف الأخرى التي تشدهم إلى الأرض شداً ، وتزيد من ضغط موازينها وقيمها وتصوراتها على النفوس .
كذلك ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك أن نفس محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قد احتاجت كي تبلغه إلى هذا التوجيه من ربه؛ بل إلى هذا العتاب الشديد ، الذي يبلغ حد التعجيب من تصرفه
وإنه ليكفي لتصوير عظمة أي أمر في هذا الوجود أن يقال فيه : إن نفس محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قد احتاجت كي تبلغه إلى تنبيه وتوجيه
نعم يكفي هذا . فإن عظمة هذه النفس وسموها ورفعتها ، تجعل الأمر الذي يحتاج منها كي تبلغه إلى تنبيه وتوجيه أمراً أكبر من العظمة ، وأرفع من الرفعة وهذه هي حقيقة هذا الأمر ، الذي استهدف التوجيه الإلهي إقراره في الأرض ، بمناسبة هذا الحادث المفرد .

. أن يستمد الناس قيمهم وموازينهم من السماء ، طلقاء من قيم الأرض وموازينها المنبثقة من واقعهم كله . . وهذا هو الأمر العظيم . .
إن الميزان الذي أنزله الله للناس مع الرسل ، ليقوّموا به القيم كلها ، هو { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } هذه هي القيمة الوحيدة التي يرجح بها وزن الناس أو يشيل وهي قيمة سماوية بحتة ، لا علاقة لها بمواضعات الأرض وملابساتها إطلاقاً . .
ولكن الناس يعيشون في الأرض ، ويرتبطون فيما بينهم بارتباطات شتى؛ كلها ذات وزن وذات ثقل وذات جاذبية في حياتهم . وهم يتعاملون بقيم أخرى . . فيها النسب ، وفيها القوة ، وفيها المال ، وفيها ما ينشأ عن توزيع هذه القيم من ارتباطات عملية . . اقتصادية وغير اقتصادية . . تتفاوت فيها أوضاع الناس بعضهم بالنسبة لبعض . فيصبح بعضهم أرجح من بعض في موازين الأرض . .
ثم يجيء الإسلام ليقول : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فيضرب صفحاً عن كل تلك القيم الثقيلة الوزن في حياة الناس ، العنيفة الضغط على مشاعرهم ، الشديدة الجاذبية إلى الأرض . ويبدل من هذا كله تلك القيمة الجديدة المستمدة مباشرة من السماء ، المعترف بها وحدها في ميزان السماء
ثم يجيء هذا الحادث لتقرير هذه القيمة في مناسب واقعية محددة . وليقرر معها المبدأ الأساسي : وهو أن الميزان ميزان السماء ، والقيمة قيمة السماء . وأن على الأمة المسلمة أن تدع كل ما تعارف عليه الناس ، وكل ما ينبثق من علاقات الأرض من قيم وتصورات وموازين واعتبارات ، لتستمد القيم من السماء وحدها وتزنها بميزان السماء وحده
ويجيء الرجل الأعمى الفقير . . ابن أم مكتوم . . إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشغول بأمر النفر من سادة قريش . عتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأبي جهل عمرو بن هشام ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة ، ومعهم العباس بن عبد المطلب . . والرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام؛ ويرجو بإسلامهم خيراً للإسلام في عسرته وشدته التي كان فيها بمكة؛ وهؤلاء النفر يقفون في طريقه بمالهم وجاههم وقوتهم؛ ويصدون الناس عنه ، ويكيدون له كيداً شديداً حتى ليجمدوه في مكة تجميداً ظاهراً . بينما يقف الآخرون خارج مكة ، لا يقبلون على الدعوة التي يقف لها أقرب الناس إلى صاحبها ، وأشدهم عصبية له ، في بيئة جاهلية قبلية ، تجعل لموقف القبيلة كل قيمة وكل اعتبار .
يجيء هذا الرجل الأعمى الفقير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشغول بأمر هؤلاء النفر . لا لنفسه ولا لمصلحته ، ولكن للإسلام ولمصلحة الإسلام . فلو أسلم هؤلاء لانزاحت العقبات العنيفة والأشواك الحادة من طريق الدعوة في مكة؛ ولانساح بعد ذلك الإسلام فيما حولها ، بعد إسلام هؤلاء الصناديد الكبار .

.
يجيء هذا الرجل ، فيقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله . . ويكرر هذا وهو يعلم تشاغل الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو فيه من الأمر . فيكره الرسول قطعه لكلامه واهتمامه . وتظهر الكراهية في وجهه الذي لا يراه الرجل فيعبس ويعرض . يعرض عن الرجل المفرد الفقير الذي يعطله عن الأمر الخطير . الأمر الذي يرجو من ورائه لدعوته ولدينه الشيء الكثير؛ والذي تدفعه إليه رغبته في نصرة دينة ، وإخلاصه لأمر دعوته ، وحبه لمصلحة الإسلام ، وحرصه على انتشاره
وهنا تتدخل السماء . تتدخل لتقول كلمة الفصل في هذا الأمر؛ ولتضع معالم الطريق كله ، ولتقرر الميزان الذي توزن فيه القيم بغض النظر عن جميع الملابسات والاعتبارات . بما في ذلك اعتبار مصلحة الدعوة كما يراها البشر . بل كما يراها سيد البشر صلى الله عليه وسلم .
وهنا يجيء العتاب من الله العلي الأعلى لنبيه الكريم ، صاحب الخلق العظيم ، في أسلوب عنيف شديد . وللمرة الوحيدة في القرآن كله يقال للرسول الحبيب القريب : { كلا } وهي كلمة ردع وزجر في الخطاب ذلك أنه الأمر العظيم الذي يقوم عليه هذا الدين
والأسلوب الذي تولى به القرآن هذا العتاب الإلهي أسلوب فريد ، لا تمكن ترجمته في لغة الكتابة البشرية . فلغة الكتابة لها قيود وأوضاع وتقاليد ، تغض من حرارة هذه الموحيات في صورتها الحية المباشرة . وينفرد الأسلوب القرآني بالقدرة على عرضها في هذه الصورة في لمسات سريعة . وفي عبارات متقطعة . وفي تعبيرات كأنها انفعالات ، ونبرات وسمات ولمحات حية
{ عبس وتولى . أن جاءه الأعمى } . . بصيغة الحكاية عن أحد آخر غائب غير المخاطب وفي هذا الأسلوب إيحاء بأن الأمر موضوع الحديث من الكراهة عند الله بحيث لا يحب سبحانه أن يواجه به نبيه وحبيبه ، عطفاً عليه ، ورحمة به ، وإكراماً له عن المواجهة بهذا الأمر الكريه
ثم يستدير التعبير بعد مواراة الفعل الذي نشأ عنه العتاب يستدير إلى العتاب في صيغة الخطاب . فيبدأ هادئاً شيئاً ما : { وما يدريك لعله يزكى؟ أو يذكر فتنفعه الذكرى؟ } . . ما يدريك أن يتحقق هذا الخير الكبير . أن يتطهر هذا الرجل الأعمى الفقير الذي جاءك راغباً فيما عندك من الخير وأن يتيقظ قلبه فيتذكر فتنفعه الذكرى . ما يدريك أن يشرق هذا القلب بقبس من نور الله ، فيستحيل منارة في الأرض تستقبل نور السماء؟ الأمر الذي يتحقق كلما تفتح قلب للهدى وتمت حقيقة الإيمان فيه . وهو الأمر العظيم الثقيل في ميزان الله . .
ثم تعلو نبرة العتاب وتشتد لهجته؛ وينتقل إلى التعجيب من ذلك الفعل محل العتاب : { أما من استغنى ، فأنت له تصدى؟ وما عليك ألا يزكى؟ وأما من جاءك يسعى وهو يخشى ، فأنت عنه تلهى؟ } .

. أما من أظهر الاستغناء عنك وعن دينك وعما عندك من الهدى والخير والنور والطهارة . . أما هذا فأنت تتصدى له وتحفل أمره ، وتجهد لهدايته ، وتتعرض له وهو عنك معرض { وما عليك ألا يزكى؟ } . . وما يضيرك أن يظل في رجسه ودنسه؟ وأنت لا تسأل عن ذنبه . وأنت لا تُنصر به . وأنت لا تقوم بأمره . . { وأما من جاءك يسعى } طائعاً مختاراً ، { وهو يخشى } ويتوقى { فأنت عنه تلهى } . . ويسمي الانشغال عن الرجل المؤمن الراغب في الخير التقي تلهياً . . وهو وصف شديد . .
ثم ترتفع نبرة العتاب حتى لتبلغ حد الردع والزجر : { كلا } . . لا يكن ذلك أبداً . . وهو خطاب يسترعي النظر في هذا المقام .
ثم يبين حقيقة هذه الدعوة وكرامتها وعظمتها ورفعتها ، واستغناءها عن كل أحد . وعن كل سند . وعنايتها فقط بمن يريدها لذاتها ، كائناً ما كان وضعه ووزنه في موازين الدنيا : { إنها تذكرة . فمن شاء ذكره . في صحف مكرمة . مرفوعه مطهرة . بأيدي سفرة . كرام بررة } . . فهي كريمة في كل اعتبار . كريمة في صحفها ، المرفوعة المطهرة الموكل بها السفراء من الملأ الأعلى ينقلونها إلى المختارين في الأرض ليبلغوها . وهم كذلك كرام بررة . . فهي كريمة طاهرة في كل ما يتعلق بها ، وما يمسها من قريب أو من بعيد . وهي عزيزة لا يُتصدى بها للمعرضين الذين يظهرون الاستغناء عنها؛ فهي فقط لمن يعرف كرامتها ويطلب التطهر بها . .
هذا هو الميزان . ميزان الله . الميزان الذي توزن به القيم والاعتبارات ، ويقدر به الناس والأوضاع . . وهذه هي الكلمة . كلمة الله . الكلمة التي ينتهي إليها كل قول ، وكل حكم ، وكل فصل .
وأين هذا؟ ومتى؟ في مكة ، والدعوة مطاردة ، والمسلمون قلة . والتصدي للكبراء لا ينبعث من مصلحة ذاتية؛ والانشغال عن الأعمى الفقير لا ينبعث من اعتبار شخصي . إنما هي الدعوة أولاً وأخيراً . ولكن الدعوة إنما هي هذا الميزان ، وإنما هي هذه القيم ، وقد جاءت لتقرر هذا الميزان وهذه القيم في حياة البشر . فهي لا تعز ولا تقوى ولا تنصر إلا بإقرار هذا الميزان وهذه القيم . .
ثم إن الأمر كما تقدم أعظم وأشمل من هذا الحادث المفرد ، ومن موضوعه المباشر . إنما هو أن يتلقى الناس الموازين والقيم من السماء لا من الأرض ، ومن الاعتبارات السماوية لا من الاعتبارات الأرضية . . { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } والأكرم عند الله هو الذي يستحق الرعاية والاهتمام والاحتفال ، ولو تجرد من كل المقومات والاعتبارات الأخرى ، التي يتعارف عليها الناس تحت ضغط واقعهم الأرضي ومواضعاتهم الأرضية . النسب والقوة والمال . . وسائر القيم الأخرى ، لا وزن لها حين تتعرى عن الإيمان والتقوى . والحالة الوحيدة التي يصح لها فيها وزن واعتبار هي حالة ما إذا أنففت لحساب الإيمان والتقوى .

هذه هي الحقيقة الكبيرة التي استهدف التوجيه الإلهي إقرارها في هذه المناسبة ، على طريقة القرآن في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة ، وسيلة لإقرار الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد .
ولقد انفعلت نفس الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا التوجيه ، ولذلك العتاب . انفعلت بقوة وحرارة ، واندفعت إلى إقرار هذه الحقيقة في حياته كلها ، وفي حياة الجماعة المسلمة . بوصفها هي حقيقة الإسلام الأولى .
وكانت الحركة الأولى له صلى الله عليه وسلم هي إعلان ما نزل له من التوجيه والعتاب في الحادث . وهذا الإعلان أمر عظيم رائع حقاً . أمر لا يقوى عليه إلا رسول ، من أي جانب نظرنا إليه في حينه .
نعم لا يقوى إلا رسول على أن يعلن للناس أنه عوتب هذا العتاب الشديد ، بهذه الصورة الفريدة في خطأ أتاه وكان يكفي لأي عظيم غير الرسول أن يعرف هذا الخطأ وأن يتلافاه في المستقبل . ولكنها النبوة . أمر آخر . وآفاق أخرى
لا يقوى إلا رسول على أن يقذف بهذا الأمر هكذا في وجوه كبراء قريش في مثل تلك الظروف التي كانت فيها الدعوة ، مع أمثال هؤلاء المستعزين بنسبهم وجاههم ومالهم وقوتهم ، في بيئة لا مكان فيها لغير هذه الاعتبارات ، إلى حد أن يقال فيها عن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } وهذا نسبه فيهم ، لمجرد أنه هو شخصياً لم تكن له رياسة فيهم قبل الرسالة
ثم إنه لا يكون مثل هذا الأمر في مثل هذه البيئة إلا من وحي السماء . فما يمكن أن ينبثق هذا من الأرض . . ومن هذه الأرض بذاتها في ذلك الزمان
وهي قوة السماء التي دفعت مثل هذا الأمر في طريقه؛ فإذا هو ينفذ من خلال نفس النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيئة من حوله؛ فيتقرر فيها بعمق وقوة واندفاع ، يطرد به أزماناً طويلة في حياة الأمة المسلمة .
لقد كان ميلاداً جديداً للبشرية كميلاد الإنسان في طبيعته . وأعظم منه خطراً في قيمته . . أن ينطلق الإنسان حقيقة شعوراً وواقعاً من كل القيم المتعارف عليها في الأرض ، إلى قيم أخرى تتنزل له من السماء منفصلة منعزلة عن كل ما في الأرض من قيم وموازين وتصورات واعتبارات وملابسات عملية ، وارتباطات واقعية ذات ضغط وثقل ، ووشائج متلبسة باللحم والدم والأعصاب والمشاعر . ثم أن تصبح القيم الجديدة مفهومة من الجميع ، مسلماً بها من الجميع . وأن يستحيل الأمر العظيم الذي احتاجت نفس محمد صلى الله عليه وسلم - كي تبلغه إلى التنبيه والتوجيه ، أن يستحيل هذا الأمر العظيم بديهية الضمير المسلم ، وشريعة المجتمع المسلم ، وحقيقة الحياة الأولى في المجتمع الإسلامي لآماد طويلة في حياة المسلمين .

إننا لا نكاد ندرك حقيقة ذلك الميلاد الجديد . لأننا لا نتمثل في ضمائرنا حقيقة هذا الانطلاق من كل ما تنشئه أوضاع الأرض وارتباطاتها من قيم وموازين واعتبارات ساحقة الثقل إلى الحد الذي يخيل لبعض أصحاب المذاهب « التقدمية » أن جانباً واحداً منها هو الأوضاع الاقتصادية هو الذي يقرر مصائر الناس وعقائدهم وفنونهم وآدابهم وقوانينهم وعرفهم وتصورهم للحياة كما يقول أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ في ضيق أفق ، وفي جهالة طاغية بحقائق النفس وحقائق الحياة
إنها المعجزة . معجزة الميلاد الجديد للإنسان على يد الإسلام في ذلك الزمان . .
ومنذ ذلك الميلاد سادت القيم التي صاحبت ذلك الحادث الكوني العظيم . . ولكن المسألة لم تكن هينة ولا يسيرة في البيئة العربية ، ولا في المسلمين أنفسهم . . غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استطاع بإرادة الله ، وبتصرفاته هو وتوجيهاته المنبعثة من حرارة انفعاله بالتوجيه القرآني الثابت أن يزرع هذه الحقيقة في الضمائر وفي الحياة؛ وأن يحرسها ويرعاها ، حتى تتأصل جذورها وتمتد فروعها ، وتظلل حياة الجماعة المسلمة قروناً طويلة . . على الرغم من جميع عوامل الانتكاس الأخرى . .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا الحادث يهش لابن أم مكتوم ويرعاه؛ ويقول له كلما لقيه : « أهلاً بمن عاتبني فيه ربي » وقد استخلفه مرتين بعد الهجرة على المدينة . .
ولكي يحطم موازين البيئة وقيمها المنبثقة من اعتبار الأرض ومواضعاتها ، زوج بنت خالته زينب بنت جحش الأسدية ، لمولاه زيد بن حارثة . ومسألة الزواج والمصاهرة مسألة حساسة شديدة الحساسية . وفي البيئة العربية بصفة خاصة .
وقبل ذلك حينما آخى بين المسلمين في أول الهجرة ، جعل عمه حمزة ومولاه زيداً أخوين . وجعل خالد ابن رويحة الخثعمي وبلال بن رباح أخوين
وبعث زيداً أميراً في غزوة مؤته ، وجعله الأمير الأول ، يليه جعفر بن أبي طالب ، ثم عبد الله بن رواحه الأنصاري ، على ثلاثة آلاف من المهاجرين والأنصار ، فيهم خالد بن الوليد .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يشيعهم . . وهي الغزوة التي استشهد فيها الثلاثة رضي الله عنهم .
وكان آخر عمل من أعماله صلى الله عليه وسلم أن أمَّر أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم ، يضم كثرة من المهاجرين والأنصار ، فيهم أبو بكر وعمر وزيراه ، وصاحباه ، والخليفتان بعده بإجمال المسلمين . وفيهم سعد بن أبي وقاص قريبه - صلى الله عليه وسلم -ومن أسبق قريش إلى الإسلام .
وقد تململ بعض الناس من إمارة أسامة وهو حدث . وفي ذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما- : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعثاً أمر عليهم أسامة بن زيد رضي الله عنهما فطعن بعض الناس في إمارته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم

« إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل . وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة ، وإن كان لمن أحب الناس إليّ . وإن هذا لمن أحب الناس إلي » .
ولما لغطت ألسنة بشأن سلمان الفارسي ، وتحدثوا عن الفارسية والعربية ، بحكم إيحاءات القومية الضيقة ، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربته الحاسمة في هذا الأمر فقال : « سلمان منا أهل البيت » فتجاوز به بقيم السماء وميزانها كل أفاق النسب الذي يستعزون به ، وكل حدود القومية الضيقة التي يتحمسون لها . . وجعلة من أهل البيت رأساً
ولما وقع بين أبي ذر الغفاري وبلال بن رباح رضي الله عنما ما أفلت معه لسان أبي ذر بكلمة « يا بن السوداء » . . غضب لها رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً؛ وألقاها في وجهه أبي ذر عنيفة مخيفة : « يا أبا ذر طفّ الصاع ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل » ففرق في الأمر إلى جذوره البعيدة . . إما إسلام فهي قيم السماء وموازين السماء . وإما جاهلية فهي قيم الأرض وموازين الأرض
ووصلت الكلمة النبوية بحرارتها إلى قلب أبي ذر الحساس؛ فانفعل لها أشد الانفعال ، ووضع جبهته على الأرض يقسم ألا يرفعها حتى يطأها بلال . تكفيراً عن قولته الكبيرة
وكان الميزان الذي ارتفع به بلال هو ميزان السماء . . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام منفعة عندك . فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة » فقال : ما عملت في الإسلام عملاً أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهوراً تاماً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن عمار بن ياسر وقد استأذن عليه : « ائذنوا له مرحباً بالطيب المطيب » . وقال عنه : « ملئ عمار رضي الله عنه إيماناً إلى مشاشه » . وعن حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إني لا أدري ما بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما واهتدوا بهدي عمار . وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه » .
وكان ابن مسعود يحسبه الغريب عن المدينة من أهل بيت رسول الله . . عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قدمت أنا وأخي من اليمن ، فمكثنا حيناً وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزومهم له « .

وجليبيب وهو رجل من الموالي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب له بنفسه ليزوجه امرأة من الأنصار . فلما تأبى أبواها قالت هي : أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه . فرضيا وزوجاها .
وقد افتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقعة التي استشهد فيها بعد فترة قصيرة من زواجه . . عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغزى له ، فأفاء الله عليه . فقال لأصحابه : « هل تفقدون من أحد؟ » قالوا : نعم فلاناً وفلاناً وفلاناً . ثم قال : « هل تفقدون من أحد؟ » قالوا : نعم . فلاناً وفلاناً وفلاناً . ثم قال : « هل تفقدون من أحد؟ » فقالوا : لا . قال : « لكني أفقد جليبيباً » فطلبوه ، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه ، ثم قال : « قتل سبعة ثم قتلوه . هذا مني وأنا منه . هذا مني وأنا منه . ثم وضعه على ساعديه ، ليس له سرير إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم قال : فحفر له ، ووضع في قبره ولم يذكر غسلاً » .
بذلك التوجيه الإلهي وبهذا الهدي النبوي كان الميلاد للبشرية على هذا النحو الفريد . ونشأ المجتمع الرباني الذي يتلقى قيمه وموازينه من السماء ، طليقاً من قيود الأرض ، بينما هو يعيش على الأرض . . وكانت هذه هي المعجزة الكبرى للإسلام . المعجزة التي لا تتحقق إلا بإرادة إله ، وبعمل رسول . والتي تدل بذاتها على أن هذا الدين من عند الله ، وأن الذي جاء به للناس رسول
وكان من تدبير الله لهذا الأمر أن يليه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه الأول أبو بكر ، وصاحبه الثاني عمر . . أقرب اثنين لإدراك طبيعة هذا الأمر ، وأشد اثنين انطباعاً بهدي رسول الله ، وأعمق اثنين حباً لرسول الله ، وحرصاً على تتبع مواضع حبه ومواقع خطاه .
حفظ أبو بكر رضي الله عنه عن صاحبه صلى الله عليه وسلم ما أراده في أمر أسامة . فكان أول عمل له بعد توليه الخلافة هو إنفاذه بعث أسامة ، على رأس الجيش الذي أعده رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار يودعه بنفسه إلى ظاهر المدينة . أسامة راكب وأبو بكر الخليفة راجل .

فيستحي أسامة الفتى الحدث أن يركب والخليفة الشيخ يمشي . فيقول : « يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن » . . فيقسم الخليفة : « والله لا تنزل . ووالله لا أركب . وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة؟ » . .
ثم يرى أبو بكر أنه في حاجة إلى عمر . وقد حمل عبء الخلافة الثقيل . ولكن عمر إنما هو جندي في جيش أسامة . وأسامة هو الأمير . فلا بد من استئذانه فيه . فإذا الخليفة يقول : « إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل » . . يالله إن رأيت أن تعينني فافعل . . إنها آفاق عوال . لا يرقى إليها الناس إلا بإرادة الله ، على يدي رسول من عند الله
ثم تمضي عجلة الزمن فنرى عمر بن الخطاب خليفة يولي عمار بن ياسر على الكوفة .
ويقف بباب عمر سهيل بن عمرو بن الحارث بن هشام ، وأبو سفيان بن حرب ، وجماعة من كبراء قريش من الطلقاء فيأذن قبلهم لصهيب وبلال . لأنهما كانا من السابقين إلى الإسلام ومن أهل بدر . فتورم أنف أبي سفيان ، ويقول بانفعال الجاهلية : « لم أر كاليوم قط . يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه » . . فيقول له صاحبه وقد استقرت في حسه حقيقة الإسلام : « أيها القوم . إني والله أرى الذي في وجوهكم . إن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم . دعي القوم إلى الإسلام ودعيتم . فأسرعوا وأبطأتم . فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم؟ » .
ويفرض عمر لأسامة بن زيد أكبر مما يفرض لعبد الله بن عمر . حتى إذا سأله عبد الله عن سر ذلك قال له : « يا بني . كان زيد رضي الله عنه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك وكان أسامة رضي الله عنه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك فآثرت حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حبي » . . يقولها عمر وهو يعلم أن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان مقوماً بميزان السماء
ويرسل عمر عماراً ليحاسب خالد بن الوليد القائد المظفر صاحب النسب العريق فيلببه بردائه . . ويروى أنه أوثقه بشال عمامته حتى ينتهي من حسابه فتظهر براءته فيفك وثاقه ويعممه بيده . . وخالد لا يرى في هذا كله بأساً . فإنما هو عمار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق إلى الإسلام الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال
وعمر هو الذي يقول عن أبي بكر رضي الله عنهما هو سيدنا وأعتق سيدنا . يعني بلالاً . الذي كان مملوكاً لأمية بن خلف .

وكان يعذبه عذاباً شديداً . حتى اشتراه منه أبو بكر وأعتقه . . وعنه يقول عمر بن الخطاب . . عن بلال . . سيدنا
وعمر هو الذي قال : « ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته » يقول هذا ، وهو لم يستخلف عثمان ولا علياً ، ولا طلحة ولا الزبير . . إنما جعل الشورى في الستة بعده ولم يستخلف أحداً بذاته
وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه يرسل عماراً والحسن بن علي رضي الله عنهما إلى أهل الكوفة يستنفرهم في الأمر الذي كان بينه وبين عائشة رضي الله عنها فيقول : « إني لأعلم أنها زوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو تتبعوها » . . فيسمع له الناس في شأن عائشة أم المؤمنين ، وبنت الصديق أبي بكر رضي الله عنهم جميعاً .
وبلال بن رباح يرجوه أخوه في الإسلام أبو رويحة الخثعمي أن يتوسط له في الزواج من قوم من أهل اليمن . فيقول لهم : « أنا بلال بن رباح ، وهذا أخي أبو رويحة ، وهو امرؤ سوء في الخلق والدين . فإن شئتم أن تزوجوه فزوجوه ، وإن شئتم أن تدعوا فدعوا » . . فلا يدلس عليهم ، ولا يخفى من أمر أخيه شيئاً ، ولا يذكر أنه وسيط وينسى أنه مسؤول أمام الله فيما يقول . . فيطمئن القوم إلى هذا الصدق . . ويزوجون أخاه ، وحسبهم وهو العربي ذو النسب أن يكون بلال المولى الحبشي وسيطه
واستقرت تلك الحقيقة الكبيرة في المجتمع الإسلامي ، وظلت مستقرة بعد ذلك آماداً طويلة على الرغم من عوامل الانتكاس الكثيرة . « وقد كان عبد الله بن عباس يذكر ويذكر معه مولاه عكرمه . وكان عبد الله ابن عمر يذكر ويذكر معه مولاه نافع . وأنس بن مالك ومعه مولاه ابن سيرين . وأبو هريرة ومعه مولاه عبد الرحمن بن هرمز . وفي البصرة كان الحسن البصري . وفي مكة كان مجاهد بن جبر ، وعطاء بن رباح ، وطاووس بن كيسان هم الفقهاء . وفي مصر تولى الفتيا يزيد بن أبي حبيب في أيام عمر بن عبد العزيز وهو مولى أسود من دنقلة » . .
وظل ميزان السماء يرجح بأهل التقوى ولو تجردوا من قيم الأرض كلها . . في اعتبار أنفسهم وفي اعتبار الناس من حولهم . ولم يرفع هذا الميزان من الأرض إلا قريباً جداً بعد أن طغت الجاهلية طغياناً شاملاً في أنحاء الأرض جميعاً . وأصبح الرجل يقوم برصيده من الدولارات في أمريكا زعيمة الدول الغربية . وأصبح الإنسان كله لا يساوي الآلة في المذهب المادي المسيطر في روسيا زعيمة الدول الشرقية . أما أرض المسلمين فقد سادت فيها الجاهلية الأولى ، التي جاء الإسلام ليرفعها من وهدتها؛ وانطلقت فيها نعرات كان الإسلام قد قضى عليها .

وحطمت ذلك الميزان الإلهي وارتدت إلى قيم جاهلية زهيدة لا تمت بصلة إلى الإيمان والتقوى . .
ولم يعد هنالك إلا أمل يناط بالدعوة الإسلامية أن تنقذ البشرية كلها مرة أخرى من الجاهلية؛ وأن يتحقق على يديها ميلاد جديد للإنسان كالميلاد الذي شهدته أول مرة ، والذي جاء ذلك الحادث الذي حكاه مطلع هذه السورة ليعلنه في تلك الآيات القليلة الحاسمة العظيمة . .
وبعد تقرير تلك الحقيقة الكبيرة في ثنايا التعقيب على ذلك الحادث ، في المقطع الأول من السورة ، يعجب السياق في المقطع الثاني من أمر هذا الإنسان ، الذي يعرض عن الهدى ، ويستغني عن الإيمان ، ويستعلي على الدعوة إلى ربه . . يعجب من أمره وكفره ، وهو لا يذكر مصدر وجوده ، وأصل نشأته ، ولا يرى عناية الله به وهيمنته كذلك على كل مرحلة من مراحل نشأته في الأولى والآخرة؛ ولا يؤدي ما عليه لخالقه وكافله ومحاسبه :
{ قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه؟ من نطفة خلقه فقدره . ثم السبيل يسره . ثم أماته فأقبره . ثم إذا شاء أنشره . كلا لما يقض ما أمره } . .
{ قتل الإنسان } . . فإنه ليستحق القتل على عجيب تصرفه . . فهي صيغة تفظيع وتقبيح وتشنيع لأمره . وإفادة أنه يرتكب ما يستوجب القتل لشناعته وبشاعته . .
{ ما أكفره } . . ما أشد كفره وجحوده ونكرانه لمقتضيات نشأته وخلقته . ولو رعى هذه المقتضيات لشكر خالقه ، ولتواضع في دنياه ، ولذكر آخرته . .
وإلا فعلام يتكبر ويستغني ويعرض . ؟ وما هو أصله وما هو مبدؤه؟
{ من أي شيء خلقه؟ } . .
إنه أصل متواضع زهيد ، يستمد كل قيمته من فضل الله ونعمته ، ومن تقديره وتدبيره :
{ من نطفة خلقه فقدره } . .
من هذا الشيء الذي لا قيمة له؛ ومن هذا الأصل الذي لا قوام له . . ولكن خالقه هو الذي قدره . قدره . من تقدير الصنع وإحكامه . وقدره : من منحه قدراً وقيمة فجعله خلقاً سوياً ، وجعله خلقاً كريماً . وارتفع به من ذلك الأصل المتواضع ، إلى المقام الرفيع الذي تسخر له فيه الأرض وما عليها .
{ ثم السبيل يسره } . .
فمهد له سبيل الحياة . أو مهد له سبيل الهداية . ويسره لسلوكه بما أودعه من خصائص واستعدادات . سواء لرحلة الحياة ، أو للاهتداء فيها .
حتى إذا انتهت الرحلة ، صار إلى النهاية التي يصير إليها كل حي . بلا اختيار ولا فرار :
{ ثم أماته فأقبره } . .
فأمره في نهايته كأمره في بدايته ، في يد الذي أخرجه إلى الحياة حين شاء ، وأنهى حياته حين شاء ، وجعل مثواه جوف الأرض ، كرامة له ورعاية ، ولم يجعل السنة أن يترك على ظهرها للجوارح والكواسر . وأودع فطرته الحرص على مواراة ميته وقبره . فكان هذا طرفاً من تدبيره له وتقديره .
حتى إذا حان الموعد الذي اقتضته مشيئته ، أعاده إلى الحياة لما يراد به من الأمر :
{ ثم إذا شاء أنشره } . .
فليس متروكاً سدى؛ ولا ذاهباً بلا حساب ولا جزاء .

. فهل تراه تهيأ لهذا الأمر واستعد؟
{ كلا لما يقض ما أمره } . .
الإنسان عامة ، بأفراده جملة ، وبأجياله كافة . . لما يقض ما أمره . . إلى آخر لحظة في حياته . وهو الإيحاء الذي يلقيه التعبير بلما . كلا إنه لمقصر ، لم يؤد واجبه . لم يذكر أصله ونشأته حق الذكرى . . ولم يشكر خالقه وهاديه وكافله حق الشكر . ولم يقض هذه الرحلة على الأرض في الاستعداد ليوم الحساب والجزاء . . هو هكذا في مجموعه . فوق أن الكثرة تعرض وتتولى ، وتستغني وتتكبر على الهدى
وينتقل السياق إلى لمسة أخرى في مقطع جديد . . فتلك هي نشأة هذا الإنسان . . فهلا نظر إلى طعامه وطعام أنعامه في هذه الرحلة؟ وهي شيء واحد من أشياء يسرها له خالقه؟
{ فلينظر الإنسان إلى طعامه . أنا صببنا المآء صباً . ثم شققنا الأرض شقاً . فأنبتنا فيها حباً ، وعنباً وقضباً . وزيتوناً ونخلاً . وحدآئق غلباً . وفاكهة وأبا . متاعاً لكم ولأنعامكم } . .
هذه هي قصة طعامه . مفصلة مرحلة مرحلة . هذه هي فلينظر إليها؛ فهل له من يد فيها؟ هل له من تدبير لأمرها؟ إن اليد التي أخرجته إلى الحياة وأبدعت قصته ، هي ذاتها اليد التي أخرجت طعامه وأبدعت قصته . .
{ فلينظر الإنسان إلى طعامه } . . ألصق شيء به ، وأقرب شيء إليه ، وألزم شيء له . . لينظر إلى هذا الأمر الميسر الضروري الحاضر المكرر . لينظر إلى قصته العجيبة اليسيرة ، فإن يسرها ينسيه ما فيها من العجب . وهي معجزة كمعجزة خلقه ونشأته . وكل خطوة من خطواتها بيد القدرة التي أبدعته :
{ أنا صببنا الماء صباً } . . وصب الماء في صورة المطر حقيقة يعرفها كل إنسان في كل بيئة ، في أية درجة كان من درجات المعرفة والتجربة . فهي حقيقة يخاطب بها كل إنسان . فأما حين تقدم الإنسان في المعرفة فقد عرف من مدلول هذا النص ما هو أبعد مدى وأقدم عهداً من هذا المطر الذي يتكرر اليوم ويراه كل أحد . وأقرب الفروض الآن لتفسير وجود المحيطات الكبيرة التي يتبخر ماؤها ثم ينزل في صورة مطر ، أقرب الفروض أن هذه المحيطات تكونت أولاً في السماء فوقنا ثم صبت على الأرض صباً
وفي هذا يقول أحد علماء العصر الحاضر : « إذا كان صحيحاً أن درجة حرارة الكرة الأرضية وقت انفصالها عن الشمس كانت حوالي 12 000 درجة . أو كانت تلك درجة حرارة سطح الأرض . فعندئذ كانت كل العناصر حرة . ولذا لم يكن في الإمكان وجود أي تركيب كيميائي ذي شأن . ولما أخذت الكرة الأرضية ، أو الأجزاء المكونة لها في أن تبرد تدريجياً ، حدثت تركيبات ، وتكونت خلية العالم كما نعرفه . وما كان للأكسيجين والهيدروجين أن يتحدا إلا بعد أن هبطت درجة الحرارة إلى 4000 درجة فارنهايت . وعند هذه النقطة اندفعت معاً تلك العناصر ، وكونت الماء الذي نعرفه الآن أنه هواء الكرة الأرضية .

ولا بد أنه كان هائلاً في ذلك الحين . وجميع المحيطات كانت في السماء . وجميع تلك العناصر التي لم تكن قد اتحدت كانت غازات في الهواء . وبعد أن تكون الماء في الجو الخارجي سقط نحو الأرض . ولكنه لم يستطع الوصول إليها . إذ كانت درجة الحرارة على مقربة من الأرض أعلى مما كانت على مسافة آلاف الأميال . وبالطبع جاء الوقت الذي صار الطوفان يصل فيه إلى الأرض ليطير منها ثانياً في شكل بخار . ولما كانت المحيطات في الهواء فإن الفيضانات التي كانت تحدث مع تقدم التبريد كانت فوق الحسبان . وتمشى الجيشان مع التفتت . . . . الخ؟ « .
وهذا الفرض ولو أننا لا نعلق به النص القرآني يوسع من حدود تصورنا نحن للنص والتاريخ الذي يشير إليه . تاريخ صب الماء صباً . وقد يصح هذا الفرض ، وقد تجدّ فروض أخرى عن أصل الماء في الأرض . ويبقى النص القرآني صالحاً لأن يخاطب به كل الناس في كل بيئة وفي كل جيل .
ذلك كان أول قصة الطعام : { أنا صببنا الماء صباً } . . ولا يزعم أحد أنه أنشأ هذا الماء في أي صورة من صوره ، وفي أي تاريخ لحدوثه؛ ولا أنه صبه على الأرض صباً ، لتسير قصة الطعام في هذا الطريق
{ ثم شققنا الأرض شقاً } . . وهذه هي المرحلة التالية لصب الماء . وهي صالحة لأن يخاطب بها الإنسان البدائي الذي يرى الماء ينصب من السماء بقدرة غير قدرته ، وتدبير غير تدبيره . ثم يراه يشق الأرض ويتخلل تربتها . أو يرى النبت يشق تربة الأرض شقاً بقدرة الخالق وينمو على وجهها ، ويمتد في الهواء فوقها . . وهو نحيل نحيل ، والأرض فوقه ثقيلة ثقيلة . ولكن اليد المدبرة تشق له الأرض شقاً ، وتعينه على النفاذ فيها وهو ناحل لين لطيف . وهي معجزة يراها كل من يتأمل انبثاق النبتة من التربة؛ ويحس من ورائه انطلاق القوة الخفية الكامنة في النبتة الرخية .
فأما حين تتقدم معارف الإنسان فقد يعن له مدى آخر من التصور في هذا النص . وقد يكون شق الأرض لتصبح صالحة للنبات أقدم بكثير مما نتصور . إنه قد يكون ذلك التفتت في صخور القشرة الأرضية بسبب الفيضانات الهائلة التي يشير إليها الفرض العلمي السابق . وبسبب العوامل الجوية الكثيرة التي يفترض علماء اليوم أنها تعاونت لتفتيت الصخور الصلبة التي كانت تكسو وجه الأرض وتكون قشرتها؛ حتى وجدت طبقة الطمي الصالحة للزرع . وكان هذا أثراً من آثار الماء تالياً في تاريخه لصب الماء صباً . مما يتسق أكثر مع هذا التتابع الذي تشير إليه النصوص . .
وسواء كان هذا أم ذاك أم سواهما هو الذي حدث ، وهو الذي تشير إليه الآيتان السابقتان فقد كانت المرحلة الثالثة في القصة هي النبات بكل صنوفه وأنواعه .

التي يذكر منها هنا أقربها للمخاطبين ، وأعمها في طعام الناس والحيوان :
{ فأنبتنا فيها حباً } . . وهو يشمل جميع الحبوب . ما يأكله الناس في أية صورة من صوره ، وما يتغذى به الحيوان في كل حالة من حالاته .
{ وعنباً وقضباً } . . والعنب معروف . والقضب هو كل ما يؤكل رطباً غضاً من الخضر التي تقطع مرة بعد أخرى . .
{ وزيتوناً ونخلاً . وحدائق غلبا . وفاكهة وأبا } . . والزيتون والنخل معروفان لكل عربي ، والحدائق جمع حديقة ، وهي البساتين ذات الأشجار المثمرة المسورة بحوائط تحميها . و { غلبا } جمع غلباء . أي ضخمة عظيمة ملتفة الأشجار . والفاكهة من ثمار الحدائق و { الأب } أغلب الظن أنه الذي ترعاه الأنعام . وهو الذي سأل عنه عمر بن الخطاب ثم راجع نفسه فيه متلوّماً كما سبق في الحديث عن سورة النازعات فلا نزيد نحن شيئاً
هذه هي قصة الطعام . كلها من إبداع اليد التي أبدعت الإنسان . وليس فيها للإنسان يد يدعيها ، في أية مرحلة من مراحلها . . حتى الحبوب والبذور التي قد يلقيها هو في الأرض . . إنه لم يبدعها ، ولم يبتدعها . والمعجزة في إنشائها ابتداء من وراء تصور الإنسان وإدراكه . والتربة واحدة بين يديه ، ولكن البذور والحبوب منوعه ، وكل منها يؤتى أكله في القطع المتجاورات من الأرض . وكلها تسقى بماء واحد ، ولكن اليد المبدعة تنوع النبات وتنوع الثمار؛ وتحفظ في البذرة الصغيرة خصائص أمها التي ولدتها فتنقلها إلى بنتها التي تلدها . . كل أولئك في خفية عن الإنسان لا يعلم سرها ولا يقضي أمرها ، ولا يستشار في شأن من شؤونها . .
هذه هي القصة التي اخرجتها يد القدرة :
{ متاعاً لكم ولأنعامكم } . . إلى حين . ينتهي فيه هذا المتاع؛ الذي قدره الله حين قدر الحياة . ثم يكون بعد ذلك أمر آخر يعقب المتاع . أمر يجدر بالإنسان أن يتدبره قبل أن يجيء :
{ فإذا جآءت الصآخة ، يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه . لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه . . وجوه يومئذ مسفرة ، ضاحكة مستبشرة ، ووجوه يومئذ عليها غبرة ، ترهقها قترة ، أولئك هم الكفرة الفجرة } . .
فهذه هي خاتمة المتاع . وهذه هي التي تتفق مع التقدير الطويل ، والتدبير الشامل ، لكل خطوة وكل مرحلة في نشأة الإنسان . وفي هذا المشهد ختام يتناسق مع المطلع . مع الذي جاء يسعى وهو يخشى . والذي استغنى واعرض عن الهدى . ثم هذان هما في ميزان الله .
« والصاخة لفظ ذو جرس عنيف نافذ ، يكاد يخرق صماخ الأذن ، وهو يشق الهواء شقاً ، حتى يصل إلى الأذن صاخاً ملحاً »
« وهو يمهد بهذا الجرس العنيف للمشهد الذي يليه : مشهد المرء يفر وينسلخ من ألصق الناس به : { يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه } . . أولئك الذين تربطهم به وشائج وروابط لا تنفصم؛ ولكن هذه الصاخة تمزق هذه الروابط تمزيقاً ، وتقطع تلك الوشائج تقطيعاً .

« والهول في هذا المشهد هول نفسي بحت ، يفزع النفس ويفصلها عن محيطها . ويستبد بها استبداداً . فلكل نفسه وشأنه ، ولديه الكفاية من الهم الخاص به ، الذي لا يدع له فضلة من وعي أو جهد : { لكل امرئ منهم يومئذ شان يغنيه } . .
» والظلال الكامنة وراء هذه العبارة وفي طياتها ظلال عميقة سحيقة . فما يوجد أخصر ولا أشمل من هذا التعبير ، لتصوير الهم الذي يشغل الحس والضمير : { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه }
ذلك حال الخلق جميعاً في هول ذلك اليوم . . إذا جاءت الصاخة . . ثم يأخذ في تصوير حال المؤمنين وحال الكافرين ، بعد تقويمهم ووزنهم بميزان الله هناك :
{ وجوه يومئذ مسفرة . ضاحكة مستبشرة } . . فهذه وجوه مستنيرة منيرة متهللة ضاحكة مستبشرة ، راجية في ربها ، مطمئنة بما تستشعره من رضاه عنها . فهي تنجو من هول الصاخة المذهل لتتهلل وتستنير وتضحك وتستبشر . أو هي قد عرفت مصيرها ، وتبين لها مكانها ، فتهللت واستبشرت بعد الهول المذهل . .
{ ووجوه يومئذ عليها غبرة . ترهقها قترة . أولئك هم الكفرة الفجرة } . .
فأما هذه فتعلوها غبرة الحزن والحسرة ، ويغشاها سواد الذل والانقباض . وقد عرفت ما قدمت ، فاستيقنت ما ينتظرها من جزاء . . { أولئك هم الكفرة الفجرة } . . الذين لا يؤمنون بالله وبرسالاته ، والذين خرجوا عن حدوده وانتهكوا حرماته . .
وفي هذا الوجوه وتلك قد ارتسم مصير هؤلاء وهؤلاء . ارتسم ملامح وسمات من خلال الألفاظ والعبارات . وكأنما الوجوه شاخصة ، لقوة التعبير القرآني ودقة لمساته .
بذلك يتناسق المطلع والختام . . المطلع يقرر حقيقة الميزان . والختام يقرر نتيجة الميزان . وتستقل هذه السورة القصيرة بهذا الحشد من الحقائق الضخام ، والمشاهد والمناظر ، والإيقاعات والموحيات . وتفي بها كلها هذا الوفاء الجميل الدقيق . .

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)

هذه السورة ذات مقطعين اثنين تعالج في كل مقطع منهما تقرير حقيقة ضخمة من حقائق العقيدة :
الأولى حقيقة القيامة ، وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل كامل ، يشمل الشمس والنجوم والجبال والبحار ، والأرض والسماء ، والأنعام والوحوش ، كما يشمل بني الإنسان .
والثانية حقيقة الوحي ، وما يتعلق بها من صفة الملك الذي يحمله ، وصفة النبي الذي يتلقاه ، ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي معه ، ومع المشيئة الكبرى التي فطرتهم ونزلت لهم الوحي .
والإيقاع العام للسورة بحركة جائحة . تنطلق من عقالها ، فتقلب كل شيء ، وتنثر كل شيء؛ وتهيج الساكن وتروع الآمن؛ وتذهب بكل مألوف وتبدل كل معهود؛ وتهز النفس البشرية هزاً عنيفاً طويلاً ، يخلعها من كل ما اعتادت أن تسكن إليه ، وتتشبث به ، فإذا هي في عاصفة الهول المدمر الجارف ريشة لا وزن لها ولا قرار . ولا ملاذ لها ولا ملجأ إلا في حمى الواحد القهار ، الذي له وحده البقاء والدوام ، وعنده وحده القرار والاطمئنان . .
ومن ثم فالسورة بإيقاعها العام وحده تخلع النفس من كل ما تطمئن إليه وتركن ، لتلوذ بكنف الله ، وتأوي إلى حماه ، وتطلب عنده الأمن والطمأنينة والقرار . .
وفي السورة مع هذا ثروة ضخمة من المشاهد الرائعة ، سواء في هذا الكون الرائع الذي نراه ، أو في ذلك اليوم الآخر الذي ينقلب فيه الكون بكل ما نعهده فيه من أوضاع . وثروة كذلك من التعبيرات الأنيقة المنتقاة لتلوين المشاهد والإيقاعات . وتلتقي هذه وتلك في حيز السورة الضيق ، فتضغط على الحس وتنفذ إليه في قوة وإيحاء .
ولولا أن في التعبير ألفاظاً وعبارات لم تعد مألوفة ولا واضحة للقارئ في هذا الزمان ، لآثرت ترك السورة تؤدي بإيقاعها وصورها وظلالها وحقائقها ومشاهدها ، ما لا تؤديه أية ترجمة لها في لغة البشر؛ وتصل بذاتها إلى أوتار القلوب فتهزها من الأعماق .
ولكن لا بد مما ليس منه بد . وقد بعدنا في زماننا هذا عن مألوف لغة القرآن
إذا الشمس كورت ، وإذا النجوم انكدرت ، وإذا الجبال سيرت ، وإذا العشار عطلت ، وإذا الوحوش حشرت ، وإذا البحار سجرت ، وإذا النفوس زوجت ، وإذا الموءودة سئلت : بأى ذنب قتلت؟ وإذا الصحف نشرت ، وإذا السمآء كشطت ، وإذا الجحيم سعرت ، وإذا الجنة أزلفت . . علمت نفس مآ أحضرت } . .
هذا هو مشهد الانقلاب التام لكل معهود ، والثورة الشاملة لكل موجود . الانقلاب الذي يشمل الأجرام السماوية والأرضية ، والوحوش النافرة والأنعام الأليفة ، ونفوس البشر ، وأوضاع الأمور . حيث ينكشف كل مستور ، ويعلم كل مجهول؛ وتقف النفس أمام ما أحضرت من الرصيد والزاد في موقف الفصل والحساب . وكل شيء من حولها عاصف؛ وكل شيء من حولها مقلوب
وهذه الأحداث الكونية الضخام تشير بجملتها إلى أن هذا الكون الذي نعهده .

الكون المنسق الجميل ، الموزون الحركة ، المضبوط النسبة ، المتين الصنعة ، المبني بأيد وإحكام . أن هذا الكون سينفرط عقد نظامه ، وتتناثر أجزاؤه ، وتذهب عنه صفاته هذه التي يقوم بها؛ وينتهي إلى أجله المقدر ، حيث تنتهي الخلائق إلى صورة أخرى من الكون ومن الحياة ومن الحقائق غير ما عهدت نهائياً في هذا الكون المعهود .
وهذا ما تستهدف السورة إقراره في المشاعر والقلوب كي تنفصل من هذه المظاهر الزائلة مهما بدت لها ثابتة وتتصل بالحقيقة الباقية . . حقيقة الله الذي لا يحول ولا يزول ، حين يحول كل شيء من الحوادث ويزول . ولكي تنطلق من إسار المعهود المألوف في هذا الكون المشهود . إلى الحقيقة المطلقة التي لا تتقيد بزمان ولا مكان ولا رؤية ولا حس ، ولا مظهر من المظاهر التي تقيدها في ظرف أو إطار محدود
وهذا هو الشعور العام الذي ينسرب إلى النفس وهي تطالع مشاهد هذا الانقلاب المرهوب .
فأما حقيقة ما يجري لكل هذه الكائنات ، فعلمها عند الله؛ وهي حقيقة أكبر من أن ندركها الآن بمشاعرنا وتصوراتنا المقيدة بمألوف حسِّنا وتفكيرنا . . وأكبر ما نعهده من الانقلابات هو أن ترجف بنا الأرض في زلزال مدمر ، أو يتفجر من باطنها بركان جائح ، أو أن ينقض على الأرض شهاب صغير ، أو صاعقة . . وأشد ما عرفته البشرية من طغيان الماء كان هو الطوفان . . كما أن أشد ما رصدته من الأحداث الكونية كان هو انفجارات جزئية في الشمس على بعد مئات الملايين من الأميال . .
وهذه كلها بالقياس إلى ذلك الانقلاب الشامل الهائل في يوم القيامة . . تسليات أطفال
فإذا لم يكن بد أن نعرف شيئاً عن حقيقة ما يجري للكائنات ، فليس أمامنا إلا تقريبها في عبارات مما نألف في هذه الحياة
إن تكوير الشمس قد يعني برودتها . وانطفاء شعلتها ، وانكماش ألسنتها الملتهبة التي تمتد من جوانبها كلها الآن إلى ألوف الأميال حولها في الفضاء . كما يتبدى هذا من المراصد في وقت الكسوف . واستحالتها من الغازية المنطلقة بتأثير الحرارة الشديدة التي تبلغ 12000 درجة ، والتي تحول جميع المواد التي تتكون منها الشمس إلى غازات منطلقة ملتهبة . . استحالتها من هذه الحالة إلى حالة تجمد كقشرة الأرض ، وتكور لا ألسنة له ولا امتداد
قد يكون هذا ، وقد يكون غيره . . أما كيف يقع والعوامل التي تسبب وقوعه فعلم ذلك عند الله .
وانكدار النجوم قد يكون معناه انتثارها من هذا النظام الذي يربطها ، وانطفاء شعلتها وإظلام ضوئها . . والله أعلم ما هي النجوم التي يصيبها هذا الحادث . وهل هي طائفة من النجوم القريبة منا . . مجموعتنا الشمسية مثلاً . أو مجرتنا هذه التي تبلغ مئات الملايين من النجوم . . أم هي النجوم جميعها والتي لا يعلم عددها ومواضعها إلا الله . فوراء ما نرى منها بمراصدنا مجرات وفضاءات لها لا نعرف لها عدداً ولا نهاية .

فهناك نجوم سيصيبها الانكدار كما يقرر هذا الخبر الصادق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله . .
وتسيير الجبال قد يكون معناه نسفها وبسها وتذريتها في الهواء ، كما جاء في سورة أخرى : { ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً } { وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثاً } { وسيرت الجبال فكانت سراباً } فكلها تشير إلى حدث كهذا يصيب الجبال ، فيذهب بثباتها ورسوخها وتماسكها واستقرارها ، وقد يكون مبدأ ذلك الزلزال الذي يصيب الأرض ، والذي يقول عنه القرآن : { إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها . . } وكلها أحداث تقع في ذلك اليوم الطويل . .
أما قوله سبحانه : { وإذا العشار عطلت } . . فالعشار هي النوق الحبالى في شهرها العاشر . وهي أجود وأثمن ما يملكه العربي . وهي في حالتها هذه تكون أغلى ما تكون عنده ، لأنها مرجوة الولد واللبن ، قريبة النفع . ففي هذا اليوم الذي تقع فيه هذه الأهوال تهمل هذه العشار وتعطل فلا تصبح لها قيمة ، ولا يهتم بشأنها أحد . . والعربي المخاطب ابتداء بهذه الآية لا يهمل هذه العشار ولا ينفض يده منها إلا في حالة يراها أشد ما يلم به
{ وإذا الوحوش حشرت } . . فهذه الوحوش النافرة قد هالها الرعب والهول فحشرت وانزوت تتجمع من الهول وهي الشاردة في الشعاب؛ ونسيت مخاوفها بعضها من بعض ، كما نسيت فرائسها ، ومضت هائمة على وجوهها ، لا تأوي إلى جحورها أو بيوتها كما هي عادتها ، ولا تنطلق وراء فرائسها كما هو شأنها . فالهول والرعب لا يدعان لهذه الوحوش بقية من طباعها وخصائصها فكيف بالناس في ذلك الهول العصيب؟
وأما تسجير البحار فقد يكون معناه ملؤها بالمياه . وإما أن تجيئها هذه المياه من فيضانات كالتي يقال إنها صاحبت مولد الأرض وبرودتها ( التي تحدثنا عنها في سورة النازعات ) وإما بالزلازل والبراكين التي تزيل الحواجز بين البحار فيتدفق بعضها في بعض . . وإما أن يكون معناه التهابها وانفجارها كما قال في موضع آخر : { وإذا البحار فجرت } فتفجير عناصرها وانفصال الأيدروجين عن الأكسوجين فيها . أو تفجير ذراتها على نحو ما يقع في تفجير الذرة ، وهو أشد هولاً . أو على نحو آخر . وحين يقع هذا فإن نيراناً هائلة لا يتصور مداها تنطلق من البحار . فإن تفجير قدر محدود من الذرات في القنبلة الذرية أو الأيدروجينية يحدث هذا الهول الذي عرفته الدنيا؛ فإذا انفجرت ذرات البحار على هذا النحو أو نحو آخر ، فإن الإدراك البشري يعجز عن تصور هذا الهول؛ وتصور جهنم الهائلة التي تنطلق من هذه البحار الواسعة
وتزويج النفوس يحتمل أن يكون هو جمع الأرواح بأجسادها بعد إعادة إنشائها . ويحتمل أن يكون ضم كل جماعة من الأرواح المتجانسة في مجموعة ، كما قال في موضع آخر : { وكنتم أزواجاً ثلاثة } أي صنوفاً ثلاثة هم المقربون وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة .

أو في غير ذلك من التشكيلات المتجانسة
{ وإذا الموءودة سئلت : بأي ذنب قتلت؟ } وقد كان من هوان النفس الإنسانية في الجاهلية أن انتشرت عادة وأد البنات خوف العار أو خوف الفقر . وحكى القرآن عن هذه العادة ما يسجل هذه الشناعة على الجاهلية ، التي جاء الإسلام ليرفع العرب من وهدتها ، ويرفع البشرية كلها . فقال في موضع : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم . يتوارى من القوم من سوء ما بشر به . أيمسكه على هون أم يدسه في التراب؟ ألا ساء ما يحكمون } وقال في موضع : { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ( أي البنات ) ظل وجهه مسوداً وهو كظيم . أو من يُنَشّأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين؟ } وقال في موضع ثالث : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم } وكان الوأد يتم في صورة قاسية . إذ كانت البنت تدفن حية وكانوا يفتنون في هذا بشتى الطرق . فمنهم من كان إذا ولدت له بنت تركها حتى تكون في السادسة من عمرها ، ثم يقول لأمها : طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئراً في الصحراء ، فيبلغ بها البئر ، فيقول لها : انظري فيها . ثم يدفعها دفعاً ويهيل التراب عليها وعند بعضهم كانت الوالدة إذا جاءها المخاض جلست فوق حفرة محفورة . فإذا كان المولود بنتاً رمت بها فيها وردمتها . وإن كان ابناً قامت به معها وبعضهم كان إذا نوى ألا يئد الوليدة أمسكها مهينة إلى أن تقدر على الرعي ، فيلبسها جبة من صوف أو شعر ويرسلها في البادية ترعى له إبله
فأما الذين لا يئدون البنات ولا يرسلونهن للرعي ، فكانت لهم وسائل أخرى لإذاقتها الخسف والبخس . . كانت إذا تزوجت ومات زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه . ومعنى هذا أن يمنعها من الناس فلا يتزوجها أحد فإن أعجبته تزوجها ، لا عبرة برغبتها هي ولا إرادتها وإن لم تعجبه حبسها حتى تموت فيرثها . أو أن تفتدي نفسها منه بمال في هذه الحالة أو تلك . . وكان بعضهم يطلق المرأة ويشترط عليها ألا تنكح إلا من أراد . إلا أن تفتدي نفسها منه بما كان أعطاها . . وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا زوجته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها . . وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها ، فيحبسها عن الزواج ، رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها أو يزوجها من ابنه الصغير طمعاً في مالها أو جمالها . .
فهذه كانت نظرة الجاهلية إلى المرأة على كل حال . حتى جاء الإسلام . يشنع بهذه العادات ويقبحها . وينهى عن الوأد ويغلظ فعلته . ويجعلها موضوعاً من موضوعات الحساب يوم القيامة . يذكره في سياق هذا الهول الهائج المائج ، كأنه حدث كوني من هذه الأحداث العظام . ويقول : إن الموءودة ستسأل عن وأدها .

. فكيف بوائدها؟
وما كان يمكن أن تنبت كرامة المرأة من البيئة الجاهلية أبداً؛ لولا أن تتنزل بها شريعة الله ونهجه في كرامة البشرية كلها ، وفي تكريم الإنسان : الذكر والأنثى؛ وفي رفعه إلى المكان اللائق بكائن يحمل نفخة من روح الله العلي الأعلى . فمن هذا المصدر انبثقت كرامة المرأة التي جاء بها الإسلام ، لا من أي عامل من عوامل البيئة .
وحين تحقق ميلاد الإنسان الجديد باستمداد القيم التي يتعامل بها من السماء لا من الأرض ، تحققت للمرأة الكرامة ، فلم يعد لضعفها وتكاليف حياتها المادية على أهلها وزن في تقويمها وتقديرها . لأن هذه ليست من قيم السماء ولا وزن لها في ميزانها . إنما الوزن للروح الإنساني الكريم المتصل بالله . وفي هذا يتساوى الذكر والأنثى .
وحين تعد الدلائل على أن هذا الدين من عند الله ، وأن الذي جاء به رسول أوحي إليه . . تعد هذه النقلة في مكانة المرأة إحدى هذه الدلائل التي لا تخطئ . حيث لم تكن توجد في البيئة أمارة واحدة ينتظر أن تنتهي بالمرأة إلى هذه الكرامة؛ ولا دافع واحد من دوافع البيئة وأحوالها الاقتصادية بصفة خاصة لولا أن نزل النهج الإلهي ليصنع هذا ابتداء بدافع غير دوافع الأرض كلها ، وغير دوافع البيئة الجاهلية بصفة خاصة . فأنشأ وضع المرأة الجديد إنشاء ، يتعلق بقيمة سماوية محضة وبميزان سماوي محض كذلك
{ وإذا الصحف نشرت } صحف الأعمال . ونشرها يفيد كشفها ومعرفتها ، فلا تعود خافية ولا غامضة . وهذه العلنية أشد على النفوس وأنكى . فكم من سوأة مستورة يخجل صاحبها ذاته من ذكراها ، ويرجف ويذوب من كشفها ثم إذا هي جميعها في ذلك اليوم منشورة مشهودة
إن هذا النشر والكشف لون من ألوان الهول في ذلك اليوم؛ كما أنه سمة من سمات الانقلاب حيث يكشف المخبوء ، ويظهر المستور ، ويفتضح المكنون في الصدور .
وهذا التكشف في خفايا الصدور يقابله في الكون مشهد مثله : { وإذا السماء كشطت } . . وأول ما يتبادر إلى الذهن من كلمة السماء هو هذا الغطاء المرفوع فوق الرؤوس . وكشطها إزالتها . . فأما كيف يقع هذا وكيف يكون فلا سبيل إلى الجزم بشيء . ولكنا نتصور أن ينظر الإنسان فلا يرى هذه القبة فوقه نتيجة لأي سبب يغير هذه الأوضاع الكونية ، التي توجد بها هذه الظاهرة . وهذا يكفي . .
ثم تجيء الخطوة الأخيرة في مشاهد ذلك اليوم الهائل المرهوب :
{ وإذا الجحيم سعرت . وإذا الجنة أزلفت } . .
حيث تتوقد الجحيم وتتسعر ، ويزداد لهيبها ووهجها وحرارتها . . أما أين هي؟ وكيف تتسعر وتتوقد؟ وبأي شيء تتوقد؟ فليس لدينا من ذلك إلا قوله تعالى : { وقودها الناس والحجارة } . وذلك بعد إلقاء أهلها فيها . أما قبل ذلك فالله أعلم بها وبوقودها
وحيث تقرب الجنة وتظهر لروادها الموعودين بها ، وتبدو لهم سهولة مدخلها ، ويسر ولوجها . فهي مزلفة مقربة مهيأة .

واللفظ كأنما يزحلقها أو يزحلق الأقدام بيسر إليها
عندما تقع هذه الأحداث الهائلة كلها ، في كيان الكون ، وفي أحوال الأحياء والأشياء . عندئذ لا يبقى لدى النفوس شك في حقيقة ما عملت ، وما تزودت به لهذا اليوم ، وما حملت معها للعرض ، وما أحضرت للحساب :
{ علمت نفس ما أحضرت } . .
كل نفس تعلم ، في هذا اليوم الهائل ما معها وما لها وما عليها . . تعلم وهذا الهول يحيط بها ويغمرها . . تعلم وهي لا تملك أن تغير شيئاً مما أحضرت ، ولا أن تزيد عليه ولا أن تنقص منه . . تعلم وقد انفصلت عن كل ما هو مألوف لها ، معهود في حياتها أو تصورها . وقد انقطعت عن عالمها وانقطع عنها عالمها . وقد تغير كل شيء وتبدل كل شيء ، ولم يبق إلا وجه الله الكريم ، الذي لا يتحول ولا يتبدل . . فما أولى أن تتجه النفوس إلى وجه الله الكريم ، فتجده سبحانه عندما يتحول الكون كله ويتبدل
وبهذا الإيقاع ينتهي المقطع الأول وقد امتلأ الحس وفاض بمشاهد اليوم الذي يتم فيه هذا الانقلاب .
ثم يجيء المقطع الثاني في السورة يبدأ بالتلويح بالقسم بمشاهد كونية جميلة ، تختار لها تعبيرات أنيقة . . القسم على طبيعة الوحي ، وصفة الرسول الذي يحمله ، والرسول الذي يتلقاه ، وموقف الناس حياله وفق مشيئة الله :
{ فلا أقسم بالخنس ، الجوار الكنس ، والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس . إنه لقول رسول كريم ، ذي قوة عند ذي العرش مكين ، مطاع ثم أمين . وما صاحبكم بمجنون . ولقد رآه بالأفق المبين ، وما هو على الغيب بضنين . وما هو بقول شيطان رجيم . فأين تذهبون؟ إن هو إلا ذكر للعالمين . لمن شآء منكم أن يستقيم . وما تشآءون إلا أن يشآء الله رب العالمين } . .
والخنس الجوار الكنس . . هي الكواكب التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية وتجري وتختفي . والتعبير يخلع عليها حياة رشيقة كحياة الظباء . وهي تجري وتختبئ في كناسها وترجع من ناحية أخرى . فهناك حياة تنبض من خلال التعبير الرشيق الأنيق عن هذه الكواكب ، وهناك إيحاء شعوري بالجمال في حركتها . في اختفائها وفي ظهورها . في تواريها وفي سفورها . في جريها وفي عودتها . يقابله إيحاء بالجمال في شكل اللفظ وجرسه .
{ والليل إذا عسعس } . . أي إذا أظلم . ولكن اللفظ فيه تلك الإيحاءات كذلك . فلفظ عسعس مؤلف من مقطعين : عس . عس . وهو يوحي بجرسه بحياة في هذا الليل ، وهو يعس في الظلام بيده أو برجله لا يرى وهو إيحاء عجيب واختيار للتعبير رائع .
ومثله : { والصبح إذا تنفس } . . بل هو أظهر حيوية ، وأشد إيحاء . والصبح حي يتنفس . أنفاسه النور والحياة والحركة التي تدب في كل حي ، وأكاد أجزم أن اللغة العربية بكل مأثوراتها التعبيرية لا تحتوي نظيراً لهذا التعبير عن الصبح . ورؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتح أنه بالفعل يتنفس ثم يجيء هذا التعبير فيصور هذه الحقيقة التي يشعر بها القلب المتفتح .

وكل متذوق لجمال التعبير والتصوير يدرك أن قوله تعالى : { فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ، والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس . . } ثروة شعورية وتعبيرية . فوق ما يشير إليه من حقائق كونية . ثروة جميلة بديعة رشيقة؛ تضاف إلى رصيد البشرية من المشاعر ، وهي تستقبل هذه الظواهر الكونية بالحس الشاعر .
يلوح بهذه المشاهد الكونية التي يخلع عليها الحياة؛ ويصل روح الإنسان بأرواحها من خلال التعبير الحي الجميل عنها؛ لتسكب في روح الإنسان أسرارها ، وتشي له بالقدرة التي وراءها ، وتحدثها بصدق الحقيقة الإيمانية التي تدعى إليها . . ثم يذكر هذه الحقيقة في أنسب الحالات لذكرها واستقبالها :
{ إنه لقول رسول كريم . ذي قوة عند ذي العرش مكين . مطاع ثم أمين } . .
إن هذا القرآن ، وهذا الوصف لليوم الآخر . . لقول رسول كريم . . وهو جبريل الذي حمل هذا القول وأبلغه . . فصار قوله باعتبار تبليغه .
ويذكر صفة هذا الرسول ، الذي اختير لحمل هذا القول وإبلاغه . . { كريم } عند ربه . فربه هو الذي يقول . . { ذي قوة } . . مما يوحي بأن هذا القول يحتاج في حمله إلى قوة . { عند ذي العرش مكين } . . في مقامه ومكانته . . وعند من؟ عند ذي العرش العلي الأعلى . { مطاع ثم } هناك في الملأ الأعلى . { أمين } . . على ما يحمل وما يبلغ . .
وهذه الصفات في مجموعها توحي بكرامة هذا القول وضخامته وسموه كذلك وارتفاعه . كما توحي بعناية الله سبحانه بالإنسان ، حتى ليختار هذا الرسول صاحب هذه الصفة ليحمل الرسالة إليه ، ويبلغ الوحي إلى النبي المختار منه . . وهي عناية تخجل هذا الكائن ، الذي لا يساوي في ملك الله شيئاً ، لولا أن الله سبحانه يتفضل عليه فيكرمه هذه الكرامة
فهذه صفة الرسول الذي حمل القول وأداه ، فأما الرسول الذي حمله إليكم فهو { صاحبكم } . . عرفتموه حق المعرفة عمراً طويلاً . فما لكم حين جاءكم بالحق تقولون فيه ما تقولون . وتذهبون في أمره المذاهب ، وهو { صاحبكم } الذي لا تجهلون . وهو الأمين على الغيب الذي يحدثكم عنه عن يقين :
{ وما صاحبكم بمجنون . ولقد رآه بالأفق المبين . وما هو على الغيب بضنين . وما هو بقول شيطان رجيم . فأين تذهبون؟ إن هو إلا ذكر للعالمين } . .
ولقد قالوا عن النبي الكريم الذي يعرفونه حق المعرفة ، ويعرفون رجاحة عقله ، وصدقه وأمانته وتثبته ، قالوا عنه : إنه مجنون . وإن شيطاناً يتنزل عليه بما يقول . قال بعضهم هذا كيدا له ولدعوته كما وردت بذلك الأخبار . وقاله بعضهم عجباً ودهشة من هذا القول الذي لا يقوله البشر فيما يألفون ويعهدون . وتمشياً مع ظنهم أن لكل شاعر شيطاناً يأتيه بالقول الفريد . وأن لكل كاهن شيطاناً يأتيه بالغيب البعيد . وأن الشيطان يمس بعض الناس فينطق على لسانهم بالقول الغريب وتركوا التعليل الوحيد الصادق ، وهو أنه وحي وتنزيل من رب العالمين .

فجاء القرآن يحدثهم في هذا المقطع من السورة عن جمال الكون البديع ، وحيوية مشاهده الجميلة . ليوحي إلى قلوبهم بأن القرآن صادر عن تلك القدرة المبدعة ، التي أنشأت ذلك الجمال . على غير مثال . وليحدثهم بصفة الرسول الذي حمله ، والرسول الذي بلغه . وهو صاحبهم الذي عرفوه . غير مجنون . والذي رأى الرسول الكريم جبريل حق الرؤية ، بالأفق المبين الواضح الذي تتم فيه الرؤية عن يقين . وأنه صلى الله عليه وسلم لمؤتمن على الغيب ، لا تظن به الظنون في خبره الذي يرويه عنه ، فما عرفوا عنه إلا الصدق واليقين . { وما هو بقول شيطان رجيم } فالشياطين لا توحي بهذا النهج القويم . ويسألهم مستنكراً : { فأين تذهبون؟ } . . أين تذهبون في حكمكم وقولكم؟ أو أين تذهبون منصرفين عن الحق وهو يواجهكم أينما ذهبتم
{ إن هو إلا ذكر للعالمين } ذكر يذكرهم بحقيقة وجودهم ، وحقيقة نشأتهم ، وحقيقة الكون من حولهم . . { للعالمين } . . فهو دعوة عالمية من أول مرحلة . والدعوة في مكة محاصرة مطاردة . كما تشهد مثل هذه النصوص المكية . .
وأمام هذا البيان الموحي الدقيق يذكرهم أن طريق الهداية ميسر لمن يريد . وأنهم إذن مسؤولون عن أنفسهم ، وقد منحهم الله هذا التيسير :
{ لمن شاء منكم أن يستقيم } . .
أن يستقيم على هدى الله ، في الطريق إليه ، بعد هذا البيان ، الذي يكشف كل شبهة ، وينفي كل ريبة ، ويسقط كل عذر . ويوحي إلى القلب السليم بالطريق المستقيم . فمن لم يستقم فهو مسؤول عن انحرافه . فقد كان أمامه أن يستقيم .
والواقع أن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق من القوة والعمق والثقل بحيث يصعب على القلب التفلت من ضغطها إلا بجهد متعمد . وبخاصة حين يسمع التوجيه إليها بأسلوب القرآن الموحي الموقظ . وما ينحرف عن طريق الله بعد ذلك إلا من يريد أن ينحرف . في غير عذر ولا مبرر
فإذا سجل عليهم إمكان الهدى ، ويسر الاستقامة ، عاد لتقرير الحقيقة الكبرى وراء مشيئتهم . حقيقة أن المشيئة الفاعلة من وراء كل شيء هي مشيئة الله سبحانه . .
{ وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين } . .
وذلك كي لا يفهموا أن مشيئتهم منفصلة عن المشيئة الكبرى ، التي يرجع إليها كل أمر . فإعطاؤهم حرية الاختيار ، ويسر الاهتداء ، إنما يرجع إلى تلك المشيئة . المحيطة بكل شيء كان أو يكون
وهذه النصوص التي يعقب بها القرآن الكريم عند ذكر مشيئة الخلائق ، يراد بها تصحيح التصور الإيماني وشموله للحقيقة الكبيرة : حقيقة أن كل شيء في هذا الوجود مرده إلى مشيئة الله . وأن ما يأذن به للناس من قدرة على الاختيار هو طرف من مشيئته ككل تقدير آخر وتدبير . شأنه شأن ما يأذن به للملائكة من الطاعة المطلقة لما يؤمرون ، والقدرة الكاملة على أداء ما يؤمرون . فهو طرف من مشيئته كإعطاء الناس القدرة على اختيار أحد الطريقين بعد التعليم والبيان .
ولا بد من إقرار هذه الحقيقة في تصور المؤمنين ، ليدركوا ما هو الحق لذاته . وليلتجئوا إلى المشيئة الكبرى يطلبون عندها العون والتوفيق ، ويرتبطون بها في كل ما يأخذون وما يدعون في الطريق

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

تتحدث هذه السورة القصيرة عن الانقلاب الكوني الذي تتحدث عنه سورة التكوير . ولكنها تتخذ لها شخصية أخرى ، وسمتا خاصاً بها ، وتتجه إلى مجالات خاصة بها تطوّف بالقلب البشري فيها؛ وإلى لمسات وإيقاعات من لون جديد . هادئ عميق . لمسات كأنها عتاب . وإن كان في طياته وعيد
ومن ثم فإنها تختصر في مشاهد الانقلاب ، فلا تكون هي طابع السورة الغالب كما هو الشأن في سورة التكوير لأن جو العتاب أهدأ ، وإيقاع العتاب أبطأ . . وكذلك إيقاع السورة الموسيقي . فهو يحمل هذا الطابع . فيتم التناسق في شخصية السورة والتوافق
إنها تتحدث في المقطع الأول عن انفطار السماء وانتثار الكواكب ، وتفجير البحار وبعثرة القبور كحالات مصاحبة لعلم كل نفس بما قدمت وأخرت ، في ذلك اليوم الخطير . .
وفي المقطع الثاني تبدأ لمسة العتاب المبطنة بالوعيد ، لهذا الإنسان الذي يتلقى من ربه فيوض النعمة في ذاته وخلقته ، ولكنه لا يعرف للنعمة حقها ، ولا يعرف لربه قدره ، ولا يشكر على الفضل والنعمة والكرامة : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك؟ في أي صورة ما شاء ركبك } . .
وفي المقطع الثالث يقرر علة هذا الجحود والإنكار . فهي التكذيب بالدين أي بالحساب وعن هذا التكذيب ينشأ كل سوء وكل جحود . ومن ثم يؤكد هذا الحساب توكيداً ، ويؤكد عاقبته وجزاءه المحتوم : { كلا . بل تكذبون بالدين . وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين . يعلمون ما تفعلون . إن الأبرار لفي نعيم . وإن الفجار لفي جحيم . يصلونها يوم الدين . وما هم عنها بغائبين } . .
فأما المقطع الأخير فيصور ضخامة يوم الحساب وهوله ، وتجرد النفوس من كل حول فيه ، وتفرد الله سبحانه بأمره الجليل : { وما أدراك ما يوم الدين؟ ثم ما أدراك ما يوم الدين؟ يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً ، والأمر يومئذ لله } . .
فالسورة في مجموعها حلقة في سلسلة الإيقاعات والطرقات التي يتولاها هذا الجزء كله بشتى الطرق والأساليب .
{ إذا السمآء انفطرت ، وإذا الكواكب انتثرت ، وإذا البحار فجرت ، وإذا القبور بعثرت . علمت نفس ما قدمت وأخرت } . .
وقد تحدثنا في السورة الماضية عن الإيحاء الذي يتسرب في الحس من رؤية هذا الكون تتناوله يد القدرة بالتغيير ، وتهزه هزة الانقلاب المثير ، فلا يبقى شيء على حاله في هذا الكون الكبير . وقلنا : إن هذا الإيحاء يتجه إلى خلع النفس من كل ما تركن إليه في هذا الوجود ، إلا الله سبحانه خالق هذا الوجود ، الباقي بعد أن يفنى كل موجود . والاتجاه بالقلب إلى الحقيقة الوحيدة الثابتة الدائمة التي لا تحول ولا تزول ، ليجد عندها الأمان والاستقرار ، في مواجهة الانقلاب والاضطراب والزلزلة والانهيار ، في كل ما كان يعهده ثابتاً مستقراً منتظماً انتظاماً يوحي بالخلود ولا خلود إلا للخالق المعبود
ويذكر هنا من مظاهر الانقلاب انفطار السماء .

. أي انشقاقها . وقد ذكر انشقاق السماء في مواضع أخرى : قال في سورة الرحمن : { فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان } وقال في سورة الحاقة : { وانشقت السماء . فهي يومئذ واهية } وقال في سورة الانشقاق : { إذا السماء انشقت . . . } فانشقاق السماء حقيقة من حقائق ذلك اليوم العصيب . أما المقصود بانشقاق السماء على وجه التحديد فيصعب القول به ، كما يصعب القول عن هيئة الانشقاق التي تكون . . وكل ما يستقر في الحس هو مشهد التغير العنيف في هيئة الكون المنظور ، وانتهاء نظامه هذا المعهود ، وانفراط عقده ، الذي يمسك به في هذا النظام الدقيق . .
ويشارك في تكوين هذا المشهد ما يذكر عن انتثار الكواكب . بعد تماسكها هذا الذي تجري معه في أفلاكها بسرعات هائلة مرعبة ، وهي ممسكة في داخل مداراتها لا تتعداها ، ولا تهيم على وجهها في هذا الفضاء الذي لا يعلم أحد له نهاية . ولو انتثرت كما سيقع لها يوم ينتهي أجلها وأفلتت من ذلك الرباط الوثيق غير المنظور الذي يشدها ويحفظها ، لذهبت في الفضاء بدداً ، كما تذهب الذرة التي تنفلت من عقالها
وتفجير البحار يحتمل أن يكون هو امتلاؤها وغمرها لليابسة وطغيانها على الأنهار . كما يحتمل أن يكون هو تفجير مائها إلى عنصريه : الأكسوجين والهيدروجين؛ فتتحول مياهها إلى هذين الغازين كما كانت قبل أن يأذن الله بتجمعهما وتكوين البحار منهما . كذلك يحتمل أن يكون هو تفجير ذرات هذين الغازين كما يقع في تفجير القنابل الذرية والهيدروجينية اليوم . . فيكون هذا التفجير من الضخامة والهول بحيث تعتبر هذه القنابل الحاضرة المروعة لعب أطفال ساذجة . . أو أن يكون بهيئة أخرى غير ما يعرف البشر على كل حال . . إنما هو الهول الذي لم تعهده أعصاب البشر في حال من الأحوال
وبعثرة القبور . . إما أن تكون بسبب من هذه الأحداث السابقة . وإما أن تكون حادثاً بذاته يقع في ذلك اليوم الطويل ، الكثير المشاهد والأحداث . فتخرج منها الأجساد التي أعاد الله إنشاءها - كما أنشأها أول مرة - لتتلقى حسابها وجزاءها . .
يؤيد هذا ويتناسق معه قوله بعد عرض هذه المشاهد والأحداث : { علمت نفس ما قدمت وأخرت } . . أي ما فعلته أولاً وما فعلته أخيراً . أو ما فعلته في الدنيا ، وما تركته وراءها من آثار فعلها . أو ما استمتعت به في الدنيا وحدها ، وما ادخرته للآخرة بعدها .
على أية حال سيكون علم كل نفس بهذا مصاحباً لتلك الأهوال العظام . وواحداً منها مروّعاً لها كترويع هذه المشاهد والأحداث كلها
والتعبير القرآني الفريد يقول : { علمت نفس } . . وهو يفيد من جهة المعنى : كل نفس . ولكنه أرشق وأوقع . . كما أن الأمر لا يقف عند حدود علمها بما قدمت وأخرت .

فلهذا العلم وقعه العنيف الذي يشبه عنف تلك المشاهد الكونية المتقلبة . والتعبير يلقي هذا الظل دون أن يذكره نصاً . فإذا هو أرشق كذلك وأوقع
وبعد هذا المطلع الموقظ المنبه للحواس والمشاعر والعقول والضمائر ، يلتفت إلى واقع الإنسان الحاضر ، فإذا هو غافل لاه سادر . . هنا يلمس قلبه لمسة فيها عتاب رضيّ ، وفيها وعيد خفي ، وفيها تذكير بنعمة الله الأولى عليه : نعمة خلقه في هذه الصورة السوية على حين يملك ربه أن يركبه في أي صورة تتجه إليها مشيئته . ولكنه اختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة . . وهو لا يشكر ولا يقدر :
{ يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركبك } . .
إن هذا الخطاب : { يا أيها الإنسان } ينادي في الإنسان أكرم ما في كيانه ، وهو « إنسانيته » التي بها تميز عن سائر الأحياء؛ وارتفع إلى أكرم مكان؛ وتجلى فيها إكرام الله له ، وكرمه الفائض عليه .
ثم يعقبه ذلك العتاب الجميل الجليل : { ما غرك بربك الكريم؟ } يا أيها الإنسان الذي تكرم عليك ربك ، راعيك ومربيك ، بإنسانيتك الكريمة الواعية الرفيعة . . يا أيها الإنسان ما الذي غرك بربك ، فجعلك تقصر في حقه ، وتتهاون في أمره ، ويسوء أدبك في جانبه؟ وهو ربك الكريم ، الذي أغدق عليك من كرمه وفضله وبره؛ ومن هذا الإغداق إنسانيتك التي تميزك عن سائر خلقه ، والتي تميز بها وتعقل وتدرك ما ينبغي وما لا ينبغي في جانبه؟
ثم يفصل شيئاً من هذا الكرم الإلهي ، الذي أجمله في النداء الموحي العميق الدلالة . المشتمل على الكثير من الإشارات المضمرة في التعبير . يفصل شيئاً من هذا الكرم الإلهي المغدق على الإنسان المتمثل في إنسانيته التي ناداه بها في صدر الآية . فيشير في هذا التفصيل إلى خلقه وتسويته وتعديله؛ وهو القادر على أن يركبه في أي صورة وفق مشيئته . فاختياره هذه الصورة له منبثق من كرمه ومن فضله وحده ، ومن فيضه المغدق على هذا الإنسان الذي لا يشكر ولا يقدر . بل يغتر ويسدر
{ يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك؟ } . .
إنه خطاب يهز كل ذرة في كيان الإنسان حين تستيقظ إنسانيته ، ويبلغ من القلب شغافه وأعماقه ، وربه الكريم يعاتبه هذا العتاب الجليل ، ويذكره هذا الجميل ، بينما هو سادر في التقصير ، سيئ الأدب في حق مولاه الذي خلقه فسواه فعدله . .
إن خلق الإنسان على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة ، الكاملة الشكل والوظيفة ، أمر يستحق التدبر الطويل ، والشكر العميق ، والأدب الجم ، والحب لربه الكريم ، الذي أكرمه بهذه الخلقة ، تفضلاً منه ورعاية ومنة . فقد كان قادراً أن يركبه في أية صورة أخرى يشاؤها . فاختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة .
وإن الإنسان لمخلوق جميل التكوين ، سوي الخلقة ، معتدل التصميم ، وإن عجائب الإبداع في خلقه لأضخم من إدراكه هو ، وأعجب من كل ما يراه حوله .

وإن الجمال والسواء والاعتدال لتبدو في تكوينه الجسدي ، وفي تكوينه العقلي ، وفي تكوينه الروحي سواء ، وهي تتناسق في كيانه في جمال واستواء
وهناك مؤلفات كاملة في وصف كمال التكوين الإنساني العضوي ودقته وإحكامه وليس هنا مجال التوسع الكامل في عرض عجائب هذا التكوين . ولكنا نكتفي بالإشارة إلى بعضها . .
هذه الأجهزة العامة لتكوين الإنسان الجسدي . . الجهاز العظمي . والجهاز العضلي . والجهاز الجلدي . والجهاز الهضمي . والجهاز الدموي . والجهاز التنفسي . والجهاز التناسلي . والجهاز اللمفاوي . والجهاز العصبي . والجهاز البولي . وأجهزة الذوق والشم والسمع والبصر . . كل منها عجيبة لا تقاس إليها كل العجائب الصناعية التي يقف الإنسان مدهوشاً أمامها . وينسى عجائب ذاته وهي أضخم وأعمق وأدق بما لا يقاس
« تقول مجلة العلوم الإنجليزية : إن يد الإنسان في مقدمة العجائب الطبيعية الفذة؛ وإنه من الصعب جداً بل من المستحيل أن تبتكر آلة تضارع اليد البشرية من حيث البساطة والقدرة وسرعة التكيف ، فحينما تريد قراءة كتاب تتناوله بيدك ، ثم تثبته في الوضع الملائم للقراءة . وهذه اليد هي التي تصحح وضعه تلقائياً . وحينما تقلب إحدى صفحاته تضع أصابعك تحت الورقة . وتضغط عليها بالدرجة التي تقلبها بها ، ثم يزول الضغط بقلب الورقة . واليد تمسك القلم وتكتب به . وتستعمل كافة الآلات التي تلزم الإنسان من ملعقة ، إلى سكين ، إلى آلة الكتابة . وتفتح النوافذ وتغلقها ، وتحمل كل ما يريده الإنسان . . واليدان تشتملان على سبع وعشرين عظمة وتسع عشرة مجموعة من العضلات لكل منهما » .
و « إن جزءاً من أذن الإنسان ( الأذن الوسطى ) هو سلسلة من نحو آلاف حنية ( قوس ) دقيقة معقدة ، متدرجة بنظام بالغ ، في الحجم والشكل ، ويمكن القول بأن هذه الحنيات تشبه آلة موسيقية . ويبدو أنها معدة بحيث تلتقط وتنقل إلى المخ ، بشكل ما ، كل وقع صوت أو ضجة ، من قصف الرعد إلى حفيف الشجر . فضلاً عن المزيج الرائع من أنغام كل أداة موسيقية في الأركسترا ووحدتها المنسجمة » . .
« ومركز حاسة الإبصار في العين التي تحتوي على مائة وثلاثين مليوناً من مستقبلات الضوء وهي أطراف الأعصاب ، ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلاً ونهاراً ، والذي تعتبر حركته لا إرادية ، الذي يمنع عنها الأتربة والذرات والأجسام الغريبة ، كما يكسر من حدة الشمس بما تلقي الأهداب على العين من ظلال . وحركة الجفن علاوة على هذه الوقاية تمنع جفاف العين ، أما السائل المحيط بالعين والذي يعرف باسم الدموع ، فهو أقوى مطهر . . . » .
« وجهاز الذوق في الإنسان هو اللسان ، ويرجع عمله إلى مجموعات من الخلايا الذوقية القائمة في حلمات غشائه المخاطي . ولتلك الحلمات أشكال مختلفة ، فمنها الخيطية والفطرية والعدسية ويغذي الحلمات فروع من العصب اللساني البلعومي ، والعصب الذوقي .

وتتأثر عند الأكل الأعصاب الذوقية ، فينتقل الأثر إلى المخ . وهذا الجهاز موجود في أول الفم ، حتى يمكن للإنسان أن يلفظ ما يحس أنه ضار به ، وبه يحس المرء المرارة والحلاوة ، والبرودة والسخونة ، والحامض والملح ، واللاذع ونحوه . ويحتوي اللسان على تسعة آلاف من نتوءات الذوق الدقيقة ، يتصل كل نتوء منها بالمخ بأكثر من عصب . فكم عدد الأعصاب؟ وما حجمها؟ وكيف تعمل منفردة ، وتتجمع بالإحساس عند المخ «؟ .
» ويتكون الجهاز العصبي الذي يسيطر على الجسم سيطرة تامة من شعيرات دقيقة تمر في كافة أنحاء الجسم . وتتصل بغيرها أكبر منها . وهذه بالجهاز المركزي العصبي . فإذا ما تأثر جزء من أجزاء الجسم ، ولو كان ذلك لتغير بسيط في درجة الحرارة بالجو المحيط ، نقلت الشعيرات العصبية هذا الإحساس إلى المراكز المنتشرة في الجسم . وهذه توصل الإحساس إلى المخ حيث يمكنه أن يتصرف . وتبلغ سرعة سريان الإشارات والتنبيهات في الأعصاب مائة متر في الثانية « .
» ونحن إذا نظرنا إلى الهضم على أنه عملية في معمل كيماوي ، وإلى الطعام الذي نأكله على أنه مواد غفل ، فإننا ندرك تواً أنه عملية عجيبة . إذ تهضم تقريباً كل شيء يؤكل ما عدا المعدة نفسها «
» فأولاً نضع في هذا المعمل أنواعاً من الطعام كمادة غفل دون أي مراعاة للمعمل نفسه ، أو تفكير في كيفية معالجة كيمياء الهضم له فنحن نأكل شرائح اللحم والكرنب والحنطة والسمك المقلي ، وندفعها بأي قدر من الماء « . .
» ومن بين هذا الخليط تختار المعدة تلك الأشياء التي هي ذات فائدة . وذلك بتحطيم كل صنف من الطعام إلى أجزائه الكيماوية دون مراعاة للفضلات ، وتعيد تكوين الباقي إلى بروتينات جديدة ، تصبح غذاء لمختلف الخلايا . وتختار أداة الهضم الجير والكبريت واليود والحديد وكل المواد الأخرى الضرورية ، وتعنى بعدم ضياع الأجزاء الجوهرية ، وبإمكان إنتاج الهرمونات ، وبأن تكون جميع الحاجات الحيوية للحياة حاضرة في مقادير منتظمة ، ومستعدة لمواجهة كل ضرورة . وهي تخزن الدهن والمواد الاحتياطية الأخرى ، للقاء كل حالة طارئة ، مثل الجوع ، وتفعل ذلك كله بالرغم من تفكير الإنسان أو تعليله . إننا نصب هذه الأنواع التي لا تحصى من المواد في هذا المعمل الكيماوي . وبصرف النظر كلية تقريباً عما نتناوله ، معتمدين على ما نحسبه عملية ذاتية ( أوتوماتيكية ) لإبقائنا على الحياة . وحين تتحلل هذه الأطعمة وتجهز من جديد ، تقدم باستمرار إلى كل خلية من بلايين الخلايا ، التي تبلغ من العدد أكثر من عدد الجنس البشري كله على وجه الأرض . ويجب أن يكون التوريد إلى كل خلية فردية مستمراً ، وألا يورد سوى تلك المواد التي تحتاج إليها تلك الخلية المعينة لتحويلها إلى عظام وأظافر ولحم وشعر وعينين وأسنان ، كما تتلقاها الخلية المختصة «
» فها هنا إذن معمل كيماوي ينتج من المواد أكثر مما ينتجه أي معمل ابتكره ذكاء الإنسان وها هنا نظام للتوريد أعظم من أي نظام للنقل أو التوزيع عرفه العالم ويتم كل شيء فيه بمنتهى النظام « .

وكل جهاز من أجهزة الإنسان الأخرى يقال فيه الشيء الكثير . ولكن هذه الأجهزة على إعجازها الواضح قد يشارك فيها الحيوان في صورة من الصور . إنما تبقى له هو خصائصه العقلية والروحية الفريدة التي هي موضع الامتنان في هذه السورة . بصفة خاصة : { الذي خلقك فسواك فعدلك } . بعد ندائه : { يا أيها الإنسان } . .
هذا الإدراك العقلي الخاص ، الذي لا ندري كنهه . إذ إن العقل هو أداتنا لإدراك ما ندرك . والعقل لا يدرك ذاته ولا يدرك كيف يدرك
هذه المدركات . . نفرض أنها كلها تصل إلى المخ عن طريق الجهاز العصبي الدقيق . ولكن أين يختزنها إنه لو كان هذا المخ شريطاً مسجلاً لاحتاج الإنسان في خلال الستين عاماً التي هي متوسط عمره إلى آلاف الملايين من الأمتار ليسجل عليها هذا الحشد من الصور والكلمات والمعاني والمشاعر والتأثرات ، لكي يذكرها بعد ذلك ، كما يذكرها فعلاً بعد عشرات السنين
ثم كيف يؤلف بين الكلمات المفردة والمعاني المفردة ، والحوادث المفردة ، والصور المفردة ، ليجعل منها ثقافة مجمعة . ثم ليرتقي من المعلومات إلى العلم؟ ومن المدركات إلى الإدراك؟ ومن التجارب إلى المعرفة؟
هذه هي إحدى خصائص الإنسان المميزة . . وهي مع هذا ليست أكبر خصائصه ، وليست أعلى مميزاته . فهنالك ذلك القبس العجيب من روح الله . . هنالك الروح الإنساني الخاص ، الذي يصل هذا الكائن بجمال الوجود ، وجمال خالق الوجود؛ ويمنحه تلك اللحظات المجنحة الوضيئة من الاتصال بالمطلق الذي ليس له حدود . بعد الاتصال بومضات الجمال في هذا الوجود .
هذا الروح الذي لا يعرف الإنسان كنهه وهل هو يعلم ما هو أدنى وهو إدراكه للمدركات الحسية؟ والذي يمتعه بومضات من الفرح والسعادة العلوية حتى وهو على هذه الأرض . ويصله بالملأ الأعلى ، ويهيئه للحياة المرسومة بحياة الجنان والخلود . وللنظر إلى الجمال الإلهي في ذلك العالم السعيد
هذا الروح هو هبة الله الكبرى لهذا الإنسان . وهو الذي به صار إنساناً . وهو الذي يخاطبه باسمه : { يا أيها الإنسان } . . ويعاتبه ذلك العتاب المخجل { ما غرك بربك الكريم؟ } هذا العتاب المباشر من الله للإنسان . حيث يناديه سبحانه فيقف أمامه مقصراً مذنباً مغتراً غير مقدر لجلال الله ، ولا متأدب في جنابه . . ثم يواجهه بالتذكير بالنعمة الكبرى . ثم بالتقصير وسوء الأدب والغرور
إنه عتاب مذيب . . حين يتصور « الإنسان » حقيقة مصدره ، وحقيقة مخبره ، وحقيقة الموقف الذي يقفه بين يدي ربه ، وهو يناديه النداء ، ثم يعاتبه هذا العتاب :
{ يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم .

الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركبك } . .
ثم يكشف عن علة الغرور والتقصير وهي التكذيب بيوم الحساب ويقرر حقيقة الحساب ، واختلاف الجزاء ، في توكيد وتشديد :
{ كلا بل تكذبون بالدين . وإن عليكم لحافظين ، كراماً كاتبين ، يعلمون ما تفعلون . إن الأبرار لفي نعيم . وإن الفجار لفي جحيم ، يصلونها يوم الدين ، وما هم عنها بغائبين } . .
وكلا كلمة ردع وزجر عما هم فيه . وبل كلمة إضراب عما مضى من الحديث . ودخول في لون من القول جديد . لون البيان والتقرير والتوكيد . وهو غير العتاب والتذكير والتصوير . .
{ كلا . بل تكذبون بالدين } . . تكذبون بالحساب والمؤاخذة والجزاء . وهذه هي علة الغرور ، وعلة التقصير . فما يكذب القلب بالحساب والجزاء ثم يستقيم على هدى ولا خير ولا طاعة . وقد ترتفع القلوب وتشف ، فتطيع ربها وتعبده حباً فيه ، لا خوفاً من عقابه ، ولا طمعاً في ثوابه . ولكنها تؤمن بيوم الدين وتخشاه ، وتتطلع إليه ، لتلقى ربها الذي تحبه وتشتاق لقاءه وتتطلع إليه . فأما حين يكذب الإنسان تكذيباً بهذا اليوم ، فلن يشتمل على أدب ولا طاعة ولا نور . ولن يحيا فيه قلب ، ولن يستيقظ فيه ضمير .
تكذبون بيوم الدين . . وأنتم صائرون إليه ، وكل ما عملتم محسوب عليكم فيه . لا يضيع منه شيء ، ولا ينسى منه شيء : { وإن عليكم لحافظين ، كراماً كاتبين ، يعلمون ما تفعلون } . .
وهؤلاء الحافظون هم الأرواح الموكلة بالإنسان من الملائكة التي ترافقه ، وتراقبه ، وتحصي عليه كل ما يصدر عنه . . ونحن لا ندري كيف يقع هذا كله ، ولسنا بمكلفين أن نعرف كيفيته . فالله يعلم أننا لم نوهب الاستعداد لإدراكها . وأنه لا خير لنا في إدراكها . لأنها غير داخلة في وظيفتنا وفي غاية وجودنا . فلا ضرورة للخوض فيما وراء المدى الذي كشفه الله لنا من هذا الغيب . ويكفي أن يشعر القلب البشري أنه غير متروك سدى . وأن عليه حفظة كراماً كاتبين يعلمون ما يفعله ، ليرتعش ويستيقظ ، ويتأدب وهذا هو المقصود
ولما كان جو السورة جو كرم وكرامة ، فإنه يذكر من صفة الحافظين كونهم . . { كراماً } . . ليستجيش في القلوب إحساس الخجل والتجمل بحضرة هؤلاء الكرام . فإن الإنسان ليحتشم ويستحيي وهو بمحضر الكرام من الناس أن يسف أو يتبذل في لفظ أو حركة أو تصرف . . فكيف به حين يشعر ويتصور أنه في كل لحظاته وفي كل حالاته في حضرة حفظة من الملائكة { كرام } لا يليق أن يطلعوا منه إلا على كل كريم من الخصال والفعال؟
إن القرآن ليستجيش في القلب أرفع المشاعر بإقرار هذه الحقيقة فيه بهذا التصور الواقعي الحي القريب إلى الإدراك المألوف . .
ثم يقرر مصير الأبرار ومصير الفجار بعد الحساب ، القائم على ما يكتبه الكرام الكاتبون :
{ إن الأبرار لفي نعيم .

وإن الفجار لفي جحيم . يصلونها يوم الدين . وما هم عنها بغائبين } . .
فهو مصير مؤكد ، وعاقبة مقررة . أن ينتهي الأبرار إلى النعيم . وأن ينتهي الفجار إلى الجحيم . والبرّ هو الذي يأتي أعمال البّر حتى تصبح له عادة وصفة ملازمة . وأعمال البر هي كل خير على الإطلاق . والصفة تتناسق في ظلها مع الكرم والإنسانية . كما أن الصفة التي تقابلها : { الفجار } فيها سوء الأدب والتوقح في مقارفة الإثم والمعصية . والجحيم هي كفء للفجور ثم يزيد حالهم فيها ظهوراً . . { يصلونها يوم الدين } . . ويزيدها توكيداً وتقريراً : { وما هم عنها بغائبين } لا فراراً ابتداء . ولا خلاصاً بعد الوقوع فيها ولو إلى حين فيتم التقابل بين الأبرار والفجار . وبين النعيم والجحيم . مع زيادة الإيضاح والتقرير لحالة رواد الجحيم
ولما كان يوم الدين هو موضع التكذيب ، فإنه يعود إليه بعد تقرير ما يقع فيه . يعود إليه ليقرر حقيقته الذاتية في تضخيم وتهويل بالتجهيل وبما يصيب النفوس فيه من عجز كامل وتجرد من كل شبهة في عون أو تعاون . وليقرر تفرد الله بالأمر في ذلك اليوم العصيب :
{ وما أدراك ما يوم الدين؟ ثم ما أدراك ما يوم الدين؟ يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً ، والأمر يومئذ لله } . .
والسؤال للتجهيل مألوف في التعبير القرآني . وهو يوقع في الحس أن الأمر أعظم جداً وأهول جداً من أن يحيط به إدراك البشر المحدود . فهو فوق كل تصور وفوق كل توقع وفوق كل مألوف .
وتكرار السؤال يزيد في الاستهوال . .
ثم يجيء البيان بما يتناسق مع هذا التصوير : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً } . . فهو العجز الشامل . وهو الشلل الكامل . وهو الانحسار والانكماش والانفصال بين النفوس المشغولة بهمها وحملها عن كل من تعرف من النفوس { والأمر يومئذ لله } . . يتفرد به سبحانه . وهو المتفرد بالأمر في الدنيا والآخرة . ولكن في هذا اليوم يوم الدين تتجلى هذه الحقيقة التي قد يغفل عنها في الدنيا الغافلون المغرورون . فلا يعود بها خفاء ، ولا تغيب عن مخدوع ولا مفتون
ويتلاقى هذا الهول الصامت الواجم الجليل في نهاية السورة ، مع ذلك الهول المتحرك الهائج المائج في مطلعها . وينحصر الحس بين الهولين . . وكلاهما مذهل مهيب رعيب وبينهما ذلك العتاب الجليل المخجل المذيب

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

هذه السورة تصور قطاعاً من الواقع العملي الذي كانت الدعوة تواجهه في مكة إلى جانب ما كانت تستهدفه من إيقاظ القلوب ، وهز المشاعر ، وتوجيهها إلى هذا الحدث في حياة العرب وفي حياة الإنسانية ، وهو الرسالة السماوية للأرض ، وما تتضمنه من تصور جديد شامل محيط .
هذا القطاع من الواقع العملي تصوره السورة في أولها ، وهي تتهدد المطففين بالويل في اليوم العظيم ، { يوم يقوم الناس لرب العالمين } . . كما تصوره في ختامها وهي تصف سوء أدب الذين أجرموا مع الذين آمنوا ، وتغامزهم عليهم ، وضحكهم منهم ، وقولهم عنهم : { إن هؤلاء لضالون } .
وهذا إلى جانب ما تعرضه من حال الفجار وحال الأبرار؛ ومصير هؤلاء وهؤلاء في ذلك اليوم العظيم .
وهي تتألف من أربعة مقاطع . . يبدأ المقطع الأول منها بإعلان الحرب على المطففين : { ويل للمطففين . الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون؛ وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم؟ يوم يقوم الناس لرب العالمين؟ } . .
ويتحدث المقطع الثاني في شدة وردع وزجر ، وتهديد بالويل والهلاك ، ودمغ بالإثم والاعتداء ، وبيان لسبب هذا العمى وعلة هذا الانطماس ، وتصوير لجزائهم يوم القيامة ، وعذابهم بالحجاب عن ربهم ، كما حجبت الآثام في الأرض قلوبهم ، ثم بالجحيم مع الترذيل والتأنيب : { كلا . إن كتاب الفجار لفي سجين . ومآ أدراك ما سجين؟ كتاب مرقوم . ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين . وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ، إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين . كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون . كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالوا الجحيم . ثم يقال : هذا الذي كنتم به تكذبون } . .
والمقطع الثالث يعرض الصفحة المقابلة . صفحة الأبرار . ورفعة مقامهم . والنعيم المقرر لهم . ونضرته التي تفيض على وجوههم . والرحيق الذي يشربون وهم على الأرائك ينظرون . . وهي صفحة ناعمة وضيئة :
{ كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين . ومآ أدراك ما عليون؟ كتاب مرقوم ، يشهده المقربون . إن الأبرار لفي نعيم ، على الأرآئك ينظرون ، تعرف في وجوههم نضرة النعيم ، يسقون من رحيق مختوم ، ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم . عيناً يشرب بها المقربون } . .
والمقطع الأخير يصف ما كان الأبرار يلاقونه في عالم الغرور الباطل من الفجار من إيذاء وسخرية وسوء أدب . ليضع في مقابله ما آل إليه أمر الأبرار وأمر الفجار في عالم الحقيقة الدائم الطويل :
{ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ، وإذا مروا بهم يتغامزون ، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين . وإذا رأوهم قالوا : إن هؤلاء لضالون . ومآ أرسلوا عليهم حافظين . فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرآئك ينظرون .

هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون؟ } . .
والسورة في عمومها تمثل جانباً من بيئة الدعوة ، كما تمثل جانباً من أسلوب الدعوة في مواجهة واقع البيئة ، وواقع النفس البشرية . . وهذا ما سنحاول الكشف عنه في عرضنا للسورة بالتفصيل . .
{ ويل للمطففين : الذين اكتالوا على الناس يستوفون ، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم : يوم يقوم الناس لرب العالمين؟ } . .
تبدأ السورة بالحرب يعلنها الله على المطففين : { ويل للمطففين } . . والويل : الهلاك . وسواء كان المراد هو تقرير أن هذا أمر مقضي ، أو أن هذا دعاء . فهو في الحالين واحد فالدعاء من الله قرار . .
وتفسر الآيتان التاليتان معنى المطففين . فهم : { الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون . وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } . . فهم الذين يتقاضون بضاعتهم وافية إذا كانوا شراة . ويعطونها للناس ناقصة إذا كانوا بائعين . .
ثم تعجب الآيات الثلاثة التالية من أمر المطففين ، الذين يتصرفون كأنه ليس هناك حساب على ما يكسبون في الحياة الدنيا؛ وكأن ليس هناك موقف جامع بين يدي الله في يوم عظيم يتم فيه الحساب والجزاء أمام العالمين : { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم؟ يوم يقوم الناس لرب العالمين؟ } . .
والتصدي لشأن المطففين بهذا الأسلوب في سورة مكية أمر يلفت النظر . فالسورة المكية عادة توجه اهتمامها إلى أصول العقيدة الكلية : كتقرير وحدانية الله ، وانطلاق مشيئته ، وهيمنته على الكون والناس . . وكحقيقة الوحي والنبوة . . وكحقيقة الآخرة والحساب والجزاء . مع العناية بتكوين الحاسة الأخلاقية في عمومها ، وربطها بأصول العقيدة . أما التصدي لمسألة بذاتها من مسائل الأخلاق كمسألة التطفيف في الكيل والميزان والمعاملات بصفة عامة ، فأمر جاء متأخراً في السورة المدنية عند التصدي لتنظيم حياة المجتمع في ظل الدولة الإسلامية ، وفق المنهج الإسلامي ، الشامل للحياة . .
ومن ثم فإن التصدي لهذا الأمر بذاته في هذه السورة المكية أمر يستحق الانتباه . وهو يشي بعدة دلالات متنوعة ، تكمن وراء هذه الآيات القصار . .
إنه يدل أولاً على أن الإسلام كان يواجه في البيئة المكية حالة صارخة من هذا التطفيف يزاولها الكبراء ، الذي كانوا في الوقت ذاته هم أصحاب التجارات الواسعة ، التي تكاد تكون احتكاراً . فقد كانت هنالك أموال ضخمة في أيدي هؤلاء الكبراء يتجرون بها عن طريق القوافل في رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام . كما افتتحوا أسواقاً موسمية كسوق عكاظ في موسم الحج ، يقومون فيها بالصفقات ويتناشدون فيها الأشعار
والنصوص القرآنية هنا تشي بأن المطففين الذين يتهددهم الله بالويل ، ويعلن عليهم هذه الحرب ، كانوا طبقة الكبراء ذوي النفوذ ، الذي يملكون إكراه الناس على ما يريدون . فهم يكتالون { على الناس } . . لا من الناس . . فكأن لهم سلطاناً على الناس بسبب من الأسباب ، يجعلهم يستوفون المكيال والميزان منهم استيفاء وقسراً . وليس المقصود هو أنهم يستوفون حقاً .

وإلا فليس في هذا ما يستحق إعلان الحرب عليهم . إنما المفهوم أنهم يحصلون بالقسر على أكثر من حقهم ، ويستوفون ما يريدون إجباراً . فإذا كالوا للناس أو وزنوا كان لهم من السلطان ما يجعلهم ينقصون حق الناس ، دون أن يستطيع هؤلاء منهم نصفة ولا استيفاء حق . . ويستوي أن يكون هذا بسلطان الرياسة والجاه القبلي . أو بسلطان المال وحاجة الناس لما في أيديهم منه؛ واحتكارهم للتجارة حتى يضطر الناس إلى قبول هذا الجور منهم؛ كما يقع حتى الآن في الأسواق . . فقد كانت هناك حالة من التطفيف صارخة استحقت هذه اللفتة المبكرة .
كما أن هذه اللفتة المبكرة في البيئة المكية تشي بطبيعة هذا الدين؛ وشمول منهجه للحياة الواقعية وشؤونها العملية؛ وإقامتها على الأساس الأخلاقي العميق الأصيل في طبيعة هذا المنهج الإلهي القويم . فقد كره هذه الحالة الصارخة من الظلم والانحراف الأخلاقي في التعامل . وهو لم يتسلم بعد زمام الحياة الاجتماعية ، لينظمها وفق شريعته بقوة القانون وسلطان الدولة . وأرسل هذه الصيحة المدوية بالحرب والويل على المطففين . وهم يومئذ سادة مكة ، أصحاب السلطان المهيمن لا على أرواح الناس ومشاعرهم عن طريق العقيدة الوثنية فحسب ، بل كذلك على اقتصادياتهم وشؤون معاشهم . ورفع صوته عالياً في وجه الغبن والبخس الواقع على الناس وهم جمهرة الشعب المستغلين لكبرائه المتجرين بأرزاقه ، المرابين المحتكرين ، المسيطرين في الوقت ذاته على الجماهير بأوهام الدين فكان الإسلام بهذه الصيحة المنبعثة من ذاته ومن منهجه السماوي موقظاً للجماهير المستغلة . ولم يكن قط مخدراً لها حتى وهو محاصر في مكة ، بسطوة المتجبرين ، المسيطرين على المجتمع بالمال والجاه والدين
ومن ثم ندرك طرفاً من الأسباب الحقيقية التي جعلت كبراء قريش يقفون في وجه الدعوة الإسلامية هذه الوقفة العنيدة . فهم كانوا يدركون ولا ريب أن هذا الأمر الجديد الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم ليس مجرد عقيدة تكمن في الضمير ، ولا تتطلب منهم إلا شهادة منطوقة ، بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وصلاة يقيمونها لله بلا أصنام ولا أوثان . . كلا . لقد كانوا يدركون أن هذه العقيدة تعني منهجاً يحطم كل أساس الجاهلية التي تقوم عليها أوضاعهم ومصالحهم ومراكزهم . وأن طبيعة هذا المنهج لا تقبل مثنوية ولا تلتئم مع عنصر أرضي غير منبثق من عنصرها السماوي؛ وأنها تهدد كل المقومات الأرضية الهابطة التي تقوم عليها الجاهلية . . ومن ثم شنوا عليها تلك الحرب التي لم تضع أوزارها لا قبل الهجرة ولا بعدها . الحرب التي تمثل الدفاع عن أوضاعهم كلها في وجه الأوضاع الإسلامية . لا مجرد الاعتقاد والتصور المجردين . .
والذين يحاربون سيطرة المنهج الإسلامي على حياة البشر في كل جيل وفي كل أرض يدركون هذه الحقيقة . يدركونها جيداً . ويعلمون أن أوضاعهم الباطلة ، ومصالحهم المغتصبة ، وكيانهم الزائف .

. . وسلوكهم المنحرف . . هذه كلها هي التي يهددها المنهج الإسلامي القويم الكريم
والطغاة البغاة الظلمة المطففون في أية صورة من صور التطفيف في المال أو في سائر الحقوق والواجبات هم الذين يشفقون أكثر من غيرهم من سيطرة ذلك المنهج العادل النظيف الذي لا يقبل المساومة ، ولا المداهنة ، ولا أنصاف الحلول؟
ولقد أدرك ذلك الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من نقباء الأوس والخزرج بيعة العقبة الثانية قبل الهجرة : قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف : يا معشر الخزرج . هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا : نعم . قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس . فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتل أسلمتموه فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة . وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة ، قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف . فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال : « الجنة » . قالوا : ابسط يدك . فبسط يده فبايعوه .
فقد أدرك هؤلاء كما أدرك كبراء قريش من قبل طبيعة هذا الدين . وأنه قائم كحد السيف للعدل والنصفة وإقامة حياة الناس على ذلك ، لا يقبل من طاغية طغياناً ، ولا من باغ بغياً ، ولا من متكبر كبراً . ولا يقبل للناس الغبن والخسف والاستغلال . ومن ثم يحاربه كل طاغ باغ متكبر مستغل؛ ويقف لدعوته ولدعاته بالمرصاد .
{ ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم؟ يوم يقوم الناس لرب العالمين؟ } . .
وإن أمرهم لعجيب . فإن مجرد الظن بالبعث لذلك اليوم العظيم . يوم يقوم الناس متجردين لرب العالمين ، ليس لهم مولى يومئذ سواه ، وليس بهم إلا التطلع لما يجريه عليهم من قضاء ، وقد علموا أن ليس لهم من دونه ولي ولا نصير . . إن مجرد الظن بأنهم مبعوثون لذلك اليوم كان يكفي ليصدهم عن التطفيف ، وأكل أموال الناس بالباطل ، واستخدام السلطان في ظلم الناس وبخسهم حقهم في التعامل . . ولكنهم ماضون في التطفيف كأنهم لا يظنون أنهم مبعوثون وهو أمر عجيب ، وشأن غريب
وقد سماهم المطففين في المقطع الأول . فأما في المقطع الثاني فيسميهم الفجار . إذ يدخلهم في زمرة الفجار ، ويتحدث عن هؤلاء . يتحدث عن اعتبارهم عند الله ، وعن حالهم في الحياة . وعما ينتظرهم يوم يبعثون ليوم عظيم .
{ كلا إن كتاب الفجار لفي سجين . وما أدراك ما سجين؟ كتاب مرقوم . ويل يومئذ للمكذبين : الذين يكذبون بيوم الدين؛ وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ، إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين .

كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون . كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالوا الجحيم . ثم يقال : هذا الذي كنتم به تكذبون } . .
إنهم لا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم . . فالقرآن يردعهم عن هذا ويزجرهم ، ويؤكد أن لهم كتاباً تحصى فيه أعمالهم . . ويحدد موضعه زيادة في التوكيد . ويوعدهم بالويل في ذلك اليوم الذي يعرض فيه كتابهم المرقوم :
{ كلا . إن كتاب الفجار لفي سجين . وما أدراك ما سجين؟ كتاب مرقوم . ويل يومئذ للمكذبين } .
والفجار هم المتجاوزون للحد في المعصية والإثم . واللفظ يوحي بذاته بهذا المعنى . وكتابهم هو سجل أعمالهم . ولا ندري نحن ماهيته ولم نكلف هذا . وهو غيب لا نعرف عنه إلا بمقدار ما يخبرنا عنه صاحبه ولا زيادة فهناك سجل لأعمال الفجار يقول القرآن : إنه في سجين . ثم يسأل سؤال الاستهوال المعهود في التعبير القرآني : { وما أدراك ما سجين؟ } فيلقي ظلال التفخيم ويشعر المخاطب أن الأمر أكبر من إدراكه ، وأضخم من أن يحيط به علمه . ولكنه بقوله : { إن كتاب الفجار لفي سجين } يكون قد حدد له موضعاً معيناً ، وإن يكن مجهولاً للإنسان . وهذا التحديد يزيد من يقين المخاطب عن طريق الإيحاء بوجود هذا الكتاب . وهذا هو الإيحاء المقصود من وراء ذكر هذه الحقيقة بهذا القدر ، دون زيادة .
ثم يعود إلى وصف كتاب الفجار ذاك فيقول : إنه { كتاب مرقوم } . . أي مفروغ منه ، لا يزاد فيه ولا ينقص منه ، حتى يعرض في ذلك اليوم العظيم .
فإذا كان ذلك : كان { ويل يومئذ للمكذبين }
ويحدد موضوع التكذيب ، وحقيقة المكذبين :
{ الذين يكذبون بيوم الدين . وما يكذب به إلا كل معتد أثيم . إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين } . .
فالاعتداء والإثم يقودان صاحبهما إلى التكذيب بذلك اليوم؛ وإلى سوء الأدب مع هذا القرآن فيقول عن آياته حين تتلى عليه : { أساطير الأولين } . . لما يحويه من قصص الأولين المسوقة فيه للعبرة والعظة ، وبيان سنة الله التي لا تتخلف ، والتي تأخذ الناس في ناموس مطرد لا يحيد .
ويعقب على هذا التطاول والتكذيب بالزجر والردع : { كلا } ليس كما يقولون . .
ثم يكشف عن علة هذا التطاول وهذا التكذيب؛ وهذه الغفلة عن الحق الواضح وهذا الانطماس في قلوب المكذبين :
{ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } . .
أي غطى على قلوبهم ما كانوا يكسبونه من الإثم والمعصية . والقلب الذي يمرد على المعصية ينطمس ويظلم؛ ويرين عليه غطاء كثيف يحجب النور عنه ويحجبه عن النور ، ويفقده الحساسية شيئاً فشيئاً حتى يتلبد ويموت . .
روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق ، عن محمد بن عجلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

« إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه . فإن تاب منها صقل قلبه وإن زاد زادت » . وقال الترمذي حسن صحيح . ولفظ النسائي : « إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء . فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه ، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه ، فهو الران الذي قال الله تعالى : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } » .
وقال الحسن البصري : هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت . .
ذلك حال الفجار المكذبين . وهذه هي علة الفجور والتكذيب . . ثم يذكر شيئاً عن مصيرهم في ذلك اليوم العظيم . يناسب علة الفجور والتكذيب :
{ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالوا الجحيم . ثم يقال : هذا الذي كنتم به تكذبون } . .
لقد حجبت قلوبهم المعاصي والآثام ، حجبتها عن الإحساس بربها في الدنيا . وطمستها حتى أظلمت وعميت في الحياة . . فالنهاية الطبيعية والجزاء الوفاق في الآخرة أن يحرموا النظر إلى وجه الله الكريم ، وأن يحال بينهم وبين هذه السعادة الكبرى ، التي لا تتاح إلا لمن شفت روحه ورقت وصفت واستحقت أن تكشف الحجب بينها وبين ربها . ممن قال فيهم في سورة القيامة :
{ وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة } وهذا الحجاب عن ربهم ، عذاب فوق كل عذاب ، وحرمان فوق كل حرمان . ونهاية بائسة لإنسان يستمد إنسانيته من مصدر واحد هو اتصاله بروح ربه الكريم . فإذا حجب عن هذا المصدر فقد خصائصه كإنسان كريم؛ وارتكس إلى درجة يستحق معها الجحيم : { ثم إنهم لصالوا الجحيم } . . ومع الجحيم التأنيب وهو أمرّ من الجحيم : { ثم يقال : هذا الذي كنتم به تكذبون }
ثم يعرض الصفحة الأخرى . صفحة الأبرار . على العهد بطريقة القرآن في عرض الصفحتين متقابلتين في الغالب ، لتتم المقابلة بين حقيقتين وحالين ونهايتين :
{ كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين . وما أدراك ما عليون؟ كتاب مرقوم ، يشهده المقربون . إن الأبرار لفي نعيم ، على الأرآئك ينظرون ، تعرف في وجوههم نضرة النعيم ، يسقون من رحيق مختوم ، ختامه مسك . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون . ومزاجه من تسنيم . عيناً يشرب بها المقربون } . .
وكلمة { كلا } تجيء في صدر هذا المقطع زجراً عما ذكر قبله من التكذيب في قوله : { ثم يقال : هذا الذي كنتم به تكذبون } . . ويعقب عليه بقوله : { كلا } ثم يبدأ الحديث عن الأبرار في حزم وفي توكيد .
فإذا كان كتاب الفجار في { سجين } فإن كتاب الأبرار في { عليين } . . . والأبرار هم الطائعون الفاعلون كل خير . وهم يقابلون الفجار العصاة المتجاوزين لكل حد . .
ولفظ { عليين } يوحي بالعلو والارتفاع مما قد يؤخذ منه أن { سجين } يفيد الانحطاط والسفول . ثم يعقب عليه بسؤال التجهيل والتهويل المعهود : { وما أدراك ما عليون؟ } . . فهو أمر فوق العلم والإدراك
ويعود من هذا الظل الموحي إلى تقرير حقيقة كتاب الأبرار .

. فهو { كتاب مرقوم يشهده المقربون } وقد سبق ذكر معنى مرقوم . ويضاف إليه هنا أن الملائكة المقربين يشهدون هذا الكتاب ويرونه . وتقرير هذه الحقيقة هنا يلقي ظلاً كريماً طاهراً رفيعاً على كتاب الأبرار . فهو موضع مشاهدة المقربين من الملائكة ، ومتعتهم بما فيه من كرائم الأفعال والصفات . وهذا ظل كريم شفيف ، يذكر بقصد التكريم .
ثم يذكر حال الأبرار أنفسهم ، أصحاب هذا الكتاب الكريم . ويصف ما هم فيه من نعيم في ذلك اليوم العظيم :
{ إن الأبرار لفي نعيم } . . يقابل الجحيم الذي ينتهي إليه الفجار . . { على الأرائك ينظرون } أي إنهم في موضع التكريم ، ينظرون حيث يشاءون ، لا يغضون من مهانة ، ولا يشغلون عن النظر من مشقة . . وهم على الأرائك وهي الأسرة في الحجال . وأقرب ما يمثلها عندنا ما نسمية « الناموسية » أو الكلة وصورتها الدنيوية كانت أرقى وأرق مظاهر النعيم عند العربي ذي العيشة الخشنة أما صورتها الأخروية فعلمها عند الله . وهي على أية حال أعلى من كل ما يعهده الإنسان مما يستمده من تجاربه في الأرض وتصوراته
وهم في هذا النعيم ناعمو النفوس والأجسام ، تفيض النضرة على وجوههم وملامحهم حتى ليراها كل راء : { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } . .
{ يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك } . .
والرحيق الشراب الخالص المصفى ، الذي لا غش فيه ولا كدرة . ووصفه بأنه مختوم ختامه مسك ، قد يفيد أنه معد في أوانيه ، وأن هذه الأواني مقفلة مختومة ، تفض عند الشراب ، وهذا يلقي ظل الصيانة والعناية . كما أن جعل الختم من المسك فيه أناقة ورفاهية وهذه الصورة لا يدركها البشر إلا في حدود ما يعهدون في الأرض . فإذا كانوا هنالك كانت لهم أذواق ومفاهيم تناسب تصورهم الطليق من جو الأرض المحدود
وقبل أن يتم وصف الشراب الذي يجيء في الآيتين التاليتين : { ومزاجه من تسنيم عيناً يشرب بها المقربون } . . أي أن هذا الرحيق المختوم يفض ختامه ثم يمزج بشيء من هذه العين المسماة : { تسنيم } التي { يشرب بها المقربون } . . قبل أن يتم الوصف يلقي بهذا الإيقاع ، وبهذا التوجه : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } . . وهو إيقاع عميق يدل على كثير . .
إن أولئك المطففين ، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، ولا يحسبون حساب اليوم الآخر . ويكذبون بيوم الحساب والجزاء . ويرين على قلوبهم الإثم والمعصية . . إن هؤلاء إنما يتنافسون من مال أو متاع من متاع الأرض الزهيد . يريد كل منهم أن يسبق إليه ، وأن يحصل على أكبر نصيب منه . ومن ثم يظلم ويفجر ويأثم ويرتكب ما يرتكب في سبيل متاع من متاع الأرض زائل . .
وما في هذا العرض القريب الزهيد ينبغي التنافس . إنما يكون التنافس في ذلك النعيم وفي ذلك التكريم : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } . . فهو مطلب يستحق المنافسة ، وهو أفق يستحق السباق ، وهو غاية تستحق الغلاب .

والذين يتنافسون على شيء من أشياء الأرض مهما كبر وجل وارتفع وعظم ، إنما يتنافسون في حقير قليل فانٍ قريب . والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة . ولكن الآخرة ثقيلة في ميزانه . فهي إذن حقيقة تستحق المنافسة فيها والمسابقة . .
ومن عجب أن التنافس في أمر الآخرة يرتفع بأرواح المتنافسين جميعاً . بينما التنافس في أمر الدنيا ينحط بها جميعاً . والسعي لنعيم الآخرة يصلح الأرض ويعمرها ويطهرها للجميع . والسعي لعرض الدنيا يدع الأرض مستنقعاً وبيئاً تأكل فيه الديدان بعضها البعض . أو تنهش فيه الهوام والحشرات جلود الأبرار الطيبين
والتنافس في نعيم الآخرة لا يدع الأرض خراباً بلقعاً كما قد يتصور بعض المنحرفين . إنما يجعل الإسلام الدنيا مزرعة الآخرة ، ويجعل القيام بخلافة الأرض بالعمار مع الصلاح والتقوى وظيفة المؤمن الحق . على أن يتوجه بهذه الخلافة إلى الله ، ويجعل منها عبادة له تحقق غاية وجوده كما قررها الله سبحانه وهو يقول : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وإن قوله { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } . . لهو توجيه يمد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة الزهيدة ، بينما هم يعمرون الأرض ويقومون بالخلافة فيها . ويرفعها إلى آفاق أرفع وأطهر من المستنقع الآسن بينما هم يطهرون المستنقع وينظفونه
إن عمر المرء في هذه العاجلة محدود ، وعمره في الآجلة لا يعلم نهايته إلا الله . وإن متاع هذه الأرض في ذاته محدود . ومتاع الجنة لا تحده تصورات البشر . وإن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف ومستوى النعيم هناك يليق بالخلود فأين مجال من مجال؟وأين غاية من غاية؟ حتى بحساب الربح والخسارة فيما يعهد البشر من الحساب؟
ألا إن السياق إلى هناك . . { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } . .
وكأنما أطال السياق في عرض صور النعيم الذي ينتظر الأبرار ، تمهيداً للحديث عما كانوا يلقون في الأرض من الفجار . من أذى واستهزاء وتطاول وادعاء . . وقد أطال في عرضه كذلك . ليختمه بالسخرية من الكفار ، وهم يشهدون نعيم الأبرار :
{ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون . وإذا مروا بهم يتغامزون . وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين . وإذا رأوهم قالوا : إن هؤلاء لضالون . . وما أرسلوا عليهم حافظين } . .
{ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ، على الأرائك ينظرون } . .
{ هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون؟ } . .
والمشاهد التي يرسمها القرآن لسخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا ، سوء أدبهم معهم ، وتطاولهم عليهم ، ووصفهم بأنهم ضالون . . مشاهد منتزعة من واقع البيئة في مكة . ولكنها متكررة في أجيال وفي مواطن شتى . وكثير من المعاصرين شهدوها كأنما هذه الآيات قد نزلت في وصفها وتصويرها . مما يدل على أن طبيعة الفجار المجرمين واحدة متشابهة في موقفها من الأبرار في جميع البيئات والعصور
{ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون } .

. كانوا . . فقد طوى السياق الدنيا العاجلة الزائلة . فإذا المخاطبون به في الآخرة . يرون نعيم الأبرار الذين آمنوا . وهو يذكر لهم ما كان من أمر الدنيا
إنهم كانوا يضحكون من الذين آمنوا استهزاء بهم ، وسخرية منهم . إما لفقرهم ورثاثة حالهم . وإما لضعفهم عن رد الأذى . وإما لترفعهم عن سفاهة السفهاء . . فكل هذا مما يثير ضحك الذين أجرموا . وهم يتخذون المؤمنين مادة لسخريتهم أو فكاهتهم المرذولة . وهم يسلطون عليهم الأذى ، ثم يضحكون الضحك اللئيم الوضيع ، مما يصيب الذين آمنوا ، وهم صابرون مترفعون متجملون بأدب المؤمنين
{ وإذا مروا بهم يتغامزون } . . يغمز بعضهم لبعض بعينه . أو يشير بيده ، أو يأتي بحركة متعارفة بينهم للسخرية من المؤمنين . وهي حركة ضعيفة واطية تكشف عن سوء الأدب ، والتجرد من التهذيب . بقصد إيقاع الانكسار في قلوب المؤمنين ، وإصابتهم بالخجل والربكة ، وهؤلاء الأوغاد يتغامزون عليهم ساخرين
{ وإذا انقلبوا إلى أهلهم } بعدما أشبعوا نفوسهم الصغيرة الرديئة من السخرية بالمؤمنين وإيذائهم . . { انقلبوا فكهين } . . راضين عن أنفسهم ، مبتهجين بما فعلوا ، مستمتعين بهذا الشر الصغير الحقير . فلم يتلوموا ولم يندموا ، ولم يشعروا بحقارة ما صنعوا وقذارة ما فعلوا . وهذا منتهى ما تصل إليه النفس من إسفاف وموت للضمير
{ وإذا رأوهم قالوا : إن هؤلاء لضالون }
وهذه أعجب . . فليس أعجب من أن يتحدث هؤلاء الفجار المجرمون عن الهدى والضلال . وأن يزعموا حين يرون المؤمنين ، أن المؤمنين ضالون . ويشيروا إليهم مؤكدين لهذا الوصف في تشهير وتحقير : { إن هؤلاء لضالون } . .
والفجور لا يقف عند حد ، ولا يستحيي من قول ، ولا يتلوم من فعل . واتهام المؤمنين بأنهم ضالون حين يوجهه الفجار المجرمون ، إنما يمثل الفجور في طبيعته التي هي تجاوز لجميع الحدود
والقرآن لا يقف ليجادل عن الذين آمنوا ، ولا ليناقش طبيعة الفرية . فهي كلمة فاجرة لا تستحق المناقشة . ولكنه يسخر سخرية عالية من القوم الذين يدسون أنوفهم فيما ليس من شأنهم ، ويتطفلون بلا دعوة من أحد في هذا الأمر : { وما أرسلوا عليهم حافظين } . . وما وكلوا بشأن هؤلاء المؤمنين ، وما أقيموا عليهم رقباء ، ولا كلفوا وزنهم وتقدير حالهم فما لهم هم وهذا الوصف وهذا التقرير
وينهي بهذه السخرية العالية حكاية ما كان من الذين أجرموا في الدنيا . . ما كان . . ويطوي هذا المشهد الذي انتهى . ليعرض المشهد الحاضر والذين آمنوا في ذلك النعيم :
{ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . على الأرائك ينظرون } . .
اليوم والكفار محجوبون عن ربهم ، يقاسون ألم هذا الحجاب الذي تهدر معه إنسانيتهم ، فيصلون الجحيم ، مع الترذيل والتأنيب حيث يقال : { هذا الذي كنتم به تكذبون } . .
اليوم والذين آمنوا على الأرائك ينظرون . في ذلك النعيم المقيم ، وهم يتناولون الرحيق المختوم بالمسك الممزوج بالتسنيم . .
فاليوم . . الذين آمنوا من الكفار يضحكون . .
والقرآن يتوجه بالسخرية العالية مرة أخرى وهو يسأل :
{ هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون؟ } .

أجل هل ثوبوا؟ هل وجدوا ثواب ما فعلوا؟ وهم لم يجدوا « الثواب » المعروف من الكلمة . فنحن نشهدهم اللحظة في الجحيم ولكنهم من غير شك لاقوا جزاء ما فعلوا . فهو ثوابهم إذن . وياللسخرية الكامنة في كلمة الثواب في هذا المقام
ونقف لحظة أمام هذا المشهد الذي يطيل القرآن عرض مناظره وحركاته مشهد سخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا في الدنيا كما أطال من قبل في عرض مشهد نعيم الأبرار وعرض مناظره ومناعمه . فنجد أن هذا الإطالة من الناحية التأثيرية فن عال في الأداء التعبيري ، كما أنه فن عال في العلاج الشعوري . فقد كانت القلة المسلمة في مكة تلاقي من عنت المشركين وأذاهم ما يفعل في النفس البشرية بعنف وعمق . وكان ربهم لا يتركهم بلا عون ، من تثبيته وتسريته وتأسيته .
وهذا التصوير المفصل لمواجعهم من أذى المشركين ، فيه بلسم لقلوبهم . فربهم هو الذي يصف هذه المواجع . فهو يراها ، وهو لا يهملها وإن أمهل الكافرين حيناً وهذا وحده يكفي قلب المؤمن ويمسح على آلامه وجراحه . إن الله يرى كيف يسخر منهم الساخرون . وكيف يؤذيهم المجرمون . وكيف يتفكه بالآمهم ومواجعهم المتفكهون . وكيف لا يتلوم هؤلاء السفلة ولا يندمون إن ربهم يرى هذا كله . ويصفه في تنزيله . فهو إذن شيء في ميزانه . . وهذا يكفي نعم هذا يكفي حين تستشعره القلوب المؤمنة مهما كانت مجروحة موجوعة .
ثم إن ربهم يسخر من المجرمين سخرية رفيعة عالية فيها تلميح موجع . قد لا تحسه قلوب المجرمين المطموسة المغطاة بالرين المطبق عليها من الذبوب . ولكن قلوب المؤمنين الحساسة المرهفة ، تحسه وتقدره ، وتستريح إليه وتستنيم
ثم إن هذه القلوب المؤمنة تشهد حالها عند ربها ، ونعيمها في جناته ، وكرامتها في الملأ الأعلى . على حين تشهد حال أعدائها ومهانتهم في الملأ الأعلى وعذابهم في الجحيم ، مع الإهانة والترذيل . . تشهد هذا وذلك في تفصيل وفي تطويل . وهي تستشعر حالها وتتذوقه تذوق الواقع اليقين . وما من شك أن هذا التذوق يمسح على مرارة ما هي فيه من أذى وسخرية وقلة وضعف . وقد يبلغ في بعض القلوب أن تتبدل هذه المرارة فيها بالفعل حلاوة ، وهي تشهد هذه المشاهد في ذلك القول الكريم .
ومما يلاحظ أن هذا كان هو وحده التسلية الإلهية للمؤمنين المعذبين المألومين من وسائل المجرمين الخسيسة ، وأذاهم البالغ ، وسخريتهم اللئيمة . . الجنة للمؤمنين ، والجحيم للكافرين ، وتبديل الحالين بين الدنيا والآخرة تمام التبديل . . وهذا كان وحده الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم المبايعين له . وهم يبذلون الأموال والنفوس
فأما النصر في الدنيا ، والغلب في الأرض ، فلم يكن أبداً في مكة يذكر في القرآن المكي في معرض التسرية والتثبيت .

.
لقد كان القرآن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة . وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء إلى شيء في هذه الأرض . ولا تنتظر إلا الآخرة . ولا ترجو إلا رضوان الله . قلوباً مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال ، بلا جزاء في هذه الأرض قريب . ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين
حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل . وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للجزاء . وموعداً كذلك للفصل بين الحق والباطل . . حتى إذا وجدت هذه القلوب ، وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت ، وآتاها النصر في الأرض ، وائتمنها عليه . لا لنفسها . ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة ، مذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه؛ ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه . وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه
وكل الآيات التي ورد فيها ذكر للنصر في الدنيا جاءت في المدينة . بعد ذلك . وبعد أن أصبح هذا الأمر خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه ، وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية تقرره في صورة عملية محددة ، تراها الأجيال . فلم يكن جزاء على التعب والنصب والتضحية والآلام . إنما كان قدراً من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن

إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

تبدأ السورة ببعض مشاهد الانقلاب الكونية التي عرضت بتوسع في سورة التكوير ، ثم عرضت بتوسع في سورة التكوير ، ثم في سورة الانفطار . ومن قبل في سورة النبأ . ولكنها هنا ذات طابع خاص . طابع الاستسلام لله . استسلام السماء واستسلام الأرض ، في طواعية وخشوع ويسر : { إذا السماء انشقت ، وأذنت لربها وحقت . وإذا الأرض مدت ، وألقت ما فيها وتخلت ، وأذنت لربها وحقت } . .
ذلك المطلع الخاشع الجليل تمهيد لخطاب « الإنسان » ، وإلقاء الخشوع في قلبه لربه . وتذكيره بأمره؛ وبمصيره الذي هو صائر إليه عنده . حين ينطبع في حسه ظل الطاعة والخشوع والاستسلام الذي تلقيه في حسه السماء والأرض في المشهد الهائل الجليل : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه ، فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً ، وينقلب إلى أهله مسروراً ، وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبوراً ، ويصلى سعيراً . إنه كان في أهله مسروراً . إنه ظن أن لن يحور . بلى إن ربه كان به بصيراً } . .
والمقطع الثالث عرض لمشاهد كونية حاضرة ، مما يقع تحت حس « الإنسان » لها إيحاؤها ولها دلالتها على التدبير والتقدير ، مع التلويح بالقسم بها على أن الناس متقلبون في أحوال مقدرة مدبرة ، لا مفر لهم من ركوبهم ومعاناتها : { فلا أقسم بالشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق؛ لتركبن طبقاً عن طبق } . .
ثم يجيء المقطع الأخير في السورة تعجيباً من حال الناس الذين لا يؤمنون؛ وهذه هي حقيقة أمرهم ، كما عرضت في المقطعين السابقين . وتلك هي نهايتهم ونهاية عالمهم كما جاء في مطلع السورة : { فما لهم لا يؤمنون؟ وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون؟ } . . ثم بيان لعلم الله بما يضمون عليه جوانحهم وتهديد لهم بمصيرهم المحتوم : { بل الذين كفروا يكذبون . والله أعلم بما يوعون . فبشرهم بعذاب أليم . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات . لهم أجر غير ممنون } . .
إنها سورة هادئة الإيقاع ، جليلة الإيحاء ، يغلب عليها هذا الطابع حتى في مشاهد الانقلاب الكونية التي عرضتها سورة التكوير في جو عاصف . سورة فيها لهجة التبصير المشفق الرحيم ، خطوة خطوة . في راحة ويسر ، وفي إيحاء هادئ عميق . والخطاب فيها : { يا أيها الإنسان } فيه تذكير واستجاشة للضمير .
وهي بترتيب مقاطعها على هذا النحو تطوف بالقلب البشري في مجالات كونية وإنسانية شتى ، متعاقبة تعاقباً مقصوداً . . فمن مشهد الاستسلام الكوني . إلى لمسة لقلب « الإنسان » . إلى مشهد الحساب والجزاء . إلى مشهد الكون الحاضر وظواهره الموحية . إلى لمسة للقلب البشري أخرى . إلى التعجيب من حال الذين لا يؤمنون بعد ذلك كله . إلى التهديد بالعذاب الأليم واستثناء المؤمنين بأجر غير ممنون . .
كل هذه الجولات والمشاهد والإيحاءات واللمسات في سورة قصيرة لا تتجاوز عدة أسطر .

. وهو ما لا يعهد إلا في هذا الكتاب العجيب فإن هذه الأغراض يتعذر الوفاء بها في الحيز الكبير ولا تؤدى بهذه القوة وبهذا التأثير . . ولكنه القرآن ميسر للذكر؛ يخاطب القلوب مباشرة من منافذها القريبة . صبغة العليم الخبير
{ إذا السماء انشقت ، وأذنت لربها وحقت . وإذا الأرض مدت ، وألقت ما فيها وتخلت ، وأذنت لربها وحقت } . .
وانشقاق السماء سبق الحديث عنه في سور سابقة . أما الجديد هنا فهو استسلام السماء لربها؛ ووقوع الحق عليها ، وخضوعها لوقع هذا الحق وطاعتها :
{ وأذنت لربها وحقت } . .
فإذن السماء لربها : استسلامها وطاعتها لأمره في الانشقاق ، { وحقت } . . أي وقع عليها الحق . واعترفت بأنها محقوقة لربها . وهو مظهر من مظاهر الخضوع ، لأن هذا حق عليها مسلم به منها .
والجديد هنا كذلك هو مد الأرض : { وإذا الأرض مدت } . . وقد يعني هذا مط رقعتها وشكلها ، مما ينشأ عن انقلاب النواميس التي كانت تحكمها ، وتحفظها في هذا الشكل الذي انتهت إليه والمقول إنه كري أو بيضاوي والتعبير يجعل وقوع هذا الأمر لها آتياً من فعل خارج عنها ، مما يفيده بناء الفعل للمجهول : { مدت } .
{ وألقت ما فيها وتخلت } . . وهو تعبير يصور الأرض كائنة حية تلقي ما فيها وتتخلى عنه . وما فيها كثير . منه تلك الخلائق التي لا تحصى ، والتي طوتها الأرض في أجيالها التي لا يعلم إلا الله مداها . ومنه سائر ما يختبئ في جوف الأرض من معادن ومياه وأسرار لا يعلمها إلا بارئها . وقد حملت هذا أجيالاً بعد أجيال ، وقروناً بعد قرون . حتى إذا كان ذلك اليوم : ألقت ما فيها وتخلت . .
{ وأذنت لربها وحقت } . . هي الأخرى كما أذنت السماء لربها وحقت . واستجابت لأمره مستسلمة مذعنة ، معترفة أن هذا حق عليها ، وأنها طائعة لربها بحقه هذا عليها . .
وتبدو السماء والأرض بهذه الآيات المصورة ذواتي روح . وخليقتين من الأحياء . تستمعان للأمر ، وتلبيان للفور ، وتطيعان طاعة المعترف بالحق ، المستسلم لمقتضاه ، استسلاماً لا التواء فيه ولا إكراه .
ومع أن المشهد من مشاهد الانقلاب الكوني في ذلك اليوم . فإن صورته هنا يظللها الخشوع والجلال والوقار والهدوء العميق الظلال . والذي يتبقى في الحس منه هو ظل الاستسلام الطائع الخاشع في غير ما جلبة ولا معارضة ولا كلام
وفي هذا الجو الخاشع الطائع يجيء النداء العلوي للإنسان ، وأمامه الكون بسمائه وأرضه مستسلماً لربه هذا الاستسلام :
{ يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } . .
{ يا أيها الإنسان } . . الذي خلقه ربه بإحسان؛ والذي ميزه بهذه « الإنسانية » التي تفرده في هذا الكون بخصائص كان من شأنها أن يكون أعرف بربه ، وأطوع لأمره من الأرض والسماء . وقد نفخ فيه من روحه ، وأودعه القدرة على الاتصال به ، وتلقي قبس من نوره ، والفرح باستقبال فيوضاته ، والتطهر بها أو الارتفاع إلى غير حد ، حتى يبلغ الكمال المقدر لجنسه ، وآفاق هذا الكمال عالية بعيدة
{ يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } .

. يا أيها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحاً ، تحمل عبئك ، وتجهد جهدك ، وتشق طريقك . . لتصل في النهاية إلى ربك . فإليه المرجع وإليه المآب . بعد الكد والكدح والجهاد . .
يا أيها الإنسان . . إنك كادح حتى في متاعك . . فأنت لا تبلغه في هذه الأرض إلا بجهد وكد . إن لم يكن جهد بدن وكد عمل ، فهو جهد تفكير وكد مشاعر . الواجد والمحروم سواء . إنما يختلف نوع الكدح ولون العناء ، وحقيقة الكدح هي المستقرة في حياة الإنسان . . ثم النهاية في آخر المطاف إلى الله سواء .
يا أيها الإنسان . . إنك لا تجد الراحة في الأرض أبداً . إنما الراحة هناك . لمن يقدم لها بالطاعة والاستسلام . . التعب واحد في الأرض والكدح واحد وإن اختلف لونه وطعمه أما العاقبة فمختلفة عندما تصل إلى ربك . . فواحد إلى عناء دونه عناء الأرض . وواحد إلى نعيم يمسح على آلام الأرض كأنه لم يكن كدح ولا كد . .
يا أيها الإنسان . . الذي امتاز بخصائص « الإنسان » . . ألا فاختر لنفسك ما يليق بهذا الامتياز الذي خصك به الله ، اختر لنفسك الراحة من الكدح عندما تلقاه .
ولأن هذه اللمسة الكامنة في هذا النداء ، فإنه يصل بها مصائر الكادحين عندما يصلون إلى نهاية الطريق ، ويلقون ربهم بعد الكدح والعناء :
{ وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبوراً ، ويصلى سعيراً . إنه كان في أهله مسروراً . إنه ظن أن لن يحور . بلى إن ربه كان به بصيراً } . .
والذي يؤتى كتابه بيمينه هو المرضي السعيد ، الذي آمن وأحسن ، فرضي الله عنه وكتب له النجاة . وهو يحاسب حساباً يسيراً . فلا يناقش ولا يدقق معه في الحساب . والذي يصور ذلك هو الآثار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وفيها غناء . .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من نوقش الحساب عذب » قالت : قلت : أفليس قال الله تعالى : { فسوف يحاسب حساباً يسيراً } . قال : « ليس ذلك بالحساب ، ولكن ذلك العرض . من نوقش الحساب يوم القيامة عذب » .
وعنها كذلك قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته : « اللهم حاسبني حساباً يسيراً » . فلما انصرف قلت : يا رسول الله ، ما الحساب اليسير؟ قال : « أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه . من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك » .
فهذا هو الحساب اليسير الذي يلقاه من يؤتى كتابه بيمينه . . ثم ينجو { وينقلب إلى أهله مسروراً } .

. من الناجين الذين سبقوه إلى الجنة . . وهو تعبير يفيد تجمع المتوافقين على الإيمان والصلاح من أهل الجنة . كل من أحب من أهله وصحبه . ويصور رجعة الناجي من الحساب إلى مجموعته المتآلفة بعد الموقف العصيب . رجعته متهللاً فرحاً مسروراً بالنجاة واللقاء في الجنان
وهو وضع يقابل وضع المعذب الهالك المأخوذ بعمله السيئ ، الذي يؤتى كتابه وهو كاره :
{ وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبوراً . ويصلي سعيراً } . .
والذي ألفناه في تعبيرات القرآن من قبل هو كتاب اليمين وكتاب الشمال . فهذه صورة جديدة : صورة إعطاء الكتاب من وراء الظهر . وليس يمتنع أن يكون الذي يعطى كتابه بشماله يعطاه كذلك من وراء ظهره . فهي هيئة الكاره المكره الخزيان من المواجهة
ونحن لا ندري حقيقة الكتاب ولا كيفية إيتائه باليمين أو بالشمال أو من وراء الظهر . إنما تخلص لنا حقيقة النجاة من وراء التعبير الأول؛ وحقيقة الهلاك من وراء التعبير الثاني . وهما الحقيقتان المقصود أن نستيقنهما . وما وراء ذلك من الأشكال إنما يحيي المشهد ويعمق أثره في الحس ، والله أعلم بحقيقة ما يكون كيف تكون
فهذا التعيس الذي قضى حياته في الأرض كدحاً ، وقطع طريقه إلى ربه كدحاً ولكن في المعصية والإثم والضلال يعرف نهايته ، ويواجه مصيره ، ويدرك أنه العناء الطويل بلا توقف في هذه المرة ولا انتهاء . فيدعو ثبوراً ، وينادي الهلاك لينقذه مما هو مقدم عليه من الشقاء . وحين يدعو الإنسان بالهلاك لينجو به ، يكون في الموقف الذي ليس بعده ما يتقيه . حتى ليصبح الهلاك أقصى أمانيه . وهذا هو المعنى الذي أراده المتنبي وهو يقول :
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
فإنما هي التعاسة التي ليس بعدها تعاسة . والشقاء الذي ليس بعده شقاء . . { ويصلى سعيراً } . . وهذا هو الذي يدعو الهلاك لينقذه منه . . وهيهات هيهات
وأمام هذا المشهد التعيس يكر السياق راجعاً إلى ماضي هذا الشقي الذي انتهى به إلى هذا الشقاء . .
{ إنه كان في أهله مسروراً . إنه ظن أن لن يحور } . .
وذلك كان في الدنيا . . نعم كان . . فنحن الآن مع هذا القرآن في يوم الحساب والجزاء وقد خلفنا الأرض وراءنا بعيداً في الزمان والمكان
{ إنه كان في أهله مسروراً } . . غافلاً عما وراء اللحظة الحاضرة؛ لاهياً عما ينتظره في الدار الآخرة ، لا يحسب لها حساباً ولا يقدم لها زاداً . . { إنه ظن أن لن يحور } إلى ربه ، ولن يرجع إلى بارئه ، ولو ظن الرجعة في نهاية المطاف لاحتقب بعض الزاد ولادخر شيئاً للحساب
{ بلى إن ربه كان به بصيراً } . .
إنه ظن أن لن يحور . ولكن الحقيقة أن ربه كان مطلعاً على أمره ، محيطاً بحقيقته ، عالماً بحركاته وخطواته ، عارفاً أنه صائر إليه ، وأنه مجازيه بما كان منه .

. وكذلك كان ، حين انتهى به المطاف إلى هذا المقدور في علم الله . والذي لم يكن بد أن يكون
وصورة هذا التعيس وهو مسرور بين أهله في حياة الأرض القصيرة المشوبة بالكدح في صورة من صور الكدح تقابلها صورة ذلك السعيد ، وهو ينقلب إلى أهله مسروراً في حياة الآخرة المديدة ، الطليقة ، الجميلة ، السعيدة ، الهنيئة ، الخالية من كل شائبة من كدح أو عناء . .
ومن هذه الجولة الكبيرة العميقة الأثر بمشاهدها ولمساتها الكثيرة ، يعود السياق بهم إلى لمحات من هذا الكون الذي يعيشون فيه حياتهم ، وهم غافلون عما تشي به هذه اللمحات من التدبير والتقدير ، الذي يشملهم كذلك ، ويقدّر بإحكام ما يتوارد عليهم من أحوال :
{ فلا أقسم بالشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق . . لتركبن طبقاً عن طبق } . .
وهذه اللمحات الكونية التي يلوح بالقسم بها ، لتوجيه القلب البشري إليها ، وتلقي إيحاءاتها وإيقاعاتها . . لمحات ذات طابع خاص . طابع يجمع بين الخشوع الساكن ، والجلال المرهوب . وهي تتفق في ظلالها مع ظلال مطلع السورة ومشاهدها بصفة عامة .
فالشفق هو الوقت الخاشع المرهوب بعد الغروب . . وبعد الغروب تأخذ النفس روعة ساكنة عميقة . ويحس القلب بمعنى الوداع وما فيه من أسى صامت وشجى عميق . كما يحس برهبة الليل القادم ، ووحشة الظلام الزاحف . ويلفه في النهاية خشوع وخوف خفي وسكون
{ والليل وما وسق } . . هو الليل وما جمع وما حمل . . بهذا التعميم ، وبهذا التجهيل ، وبهذا التهويل . والليل يجمع ويضم ويحمل الكثير . . ويذهب التأمل بعيداً ، وهو يتقصى ما يجمعه الليل ويضمه ويحمله من أشياء وأحياء وأحداث ومشاعر ، وعوالم خافية ومضمرة ، ساربة في الأرض وغائرة في الضمير . . ثم يؤوب من هذه الرحلة المديدة ، ولم يبلغ من الصور ما يحتويه النص القرآني القصير : { والليل وما وسق } . . إنما يغمره من النص العميق العجيب ، رهبة ووجل ، وخشوع وسكون تتسق مع الشفق وما يضفيه من خشوع وخوف وسكون
{ والقمر إذا اتسق } . . مشهد كذلك هادئ رائع ساحر . . وهو القمر في ليالي اكتماله . . وهو يفيض على الأرض بنوره الحالم الخاشع الموحي بالصمت الجليل ، والسياحة المديدة ، في العوالم الظاهرة والمكنونة في الشعور . . وهو جو له خفية بجو الشفق ، والليل وما وسق . يلتقي معهما في الجلال والخشوع والسكون . .
هذه اللمحات الكونية الجميلة الجليلة الرائعة المرهوبة الموحية يلتقطها القرآن لقطات سريعة ، ويخاطب بها القلب البشري ، الذي يغفل عن خطابها الكوني . ويلوح بالقسم بها ليبرزها للمشاعر والضمائر ، في حيويتها ، وجمالها وإيحائها وإيقاعها ، ودلالتها على اليد التي تمسك بأقدار هذا الكون ، وترسم خطواته ، وتبدل أحواله . . وأحوال الناس أيضاً وهم غافلون :
{ لتركبن طبقاً عن طبق } . . أي لتعانون حالاً بعد حال ، وفق ما هو مرسوم لكم من تقديرات وأحوال . ويعبر عن معاناة الأحوال المتعاقبة بركوبها . والتعبير بركوب الأمور والأخطار والأهوال والأحوال مألوف في التعبير العربي ، كقولهم : « إن المضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه » .

. وكأن هذه الأحوال مطايا يركبها الناس واحدة بعد واحدة . وكل منها تمضي بهم وفق مشيئة القدر الذي يقودها ويقودهم في الطريق ، فتنتهي بهم عند غاية تؤدي إلى رأس مرحلة جديدة ، مقدرة كذلك مرسومة ، كتقدير هذه الأحوال المتعاقبة على الكون من الشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق . حتى تنتهي بهم إلى لقاء ربهم ، الذي تحدثت عنه الفقرة السالفة . . وهذا التتابع المتناسق في فقرات السورة ، والانتقال اللطيف من معنى إلى معنى ، ومن جولة إلى جولة ، هو سمة من سمات هذا القرآن البديع . .
وفي ظل هذه اللمحات الأخيرة ، والمشاهد والجولات السابقة لها في السورة ، يجيء التعجيب من أمر الذين لا يؤمنون . وأمامهم هذا الحشد من موحيات الإيمان ودلائله في أنفسهم وفي الوجود :
{ فما لهم لا يؤمنون؟ وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون؟ } . .
أجل فما لهم لا يؤمنون؟
إن موحيات الإيمان في لمحات الوجود ، وفي أحوال النفوس ، تواجه القلب البشري حيثما توجه؛ وتتكاثر عليه أينما كان . وهي من الكثرة والعمق والقوة والثقل في ميزان الحقيقة بحيث تحاصر هذا القلب لو أراد التفلت منها . بينما هي تناجيه وتناغيه وتناديه حيثما ألقى بسمعه وقلبه إليها
{ فما لهم لا يؤمنون؟ وإذا قرئ عليم القرآن لا يسجدون؟ } وهو يخاطبهم بلغة الفطرة ، ويفتح قلوبهم على موحيات الإيمان ودلائلة في الأنفس والآفاق . ويستجيش في هذه القلوب مشاعر التقوى والخشوع والطاعة والخضوع لبارئ الوجود . . وهو « السجود » . .
إن هذا الكون جميل . وموح . وفيه من اللمحات والومضات واللحظات والسبحات ما يستجيش في القلب البشري أسمى مشاعر الاستجابة والخشوع .
وإن هذا القرآن جميل . موح . وفيه من اللمسات والموحيات ما يصل القلب البشري بالوجود الجميل ، وببارئ الوجود الجليل . ويسكب فيه حقيقة الكون الكبيرة الموحية بحقيقة خالقه العظيم . . { فما لهم لا يؤمنون؟ وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون؟ } . .
إنه لأمر عجيب حقاً . يضرب عنه السياق ليأخذ في بيان حقيقة حال الكفار ، وما ينتظرهم من مآل :
{ بل الذين كفروا يكذبون . والله أعلم بما يوعون . فبشرهم بعذاب أليم } . .
بل الذين كفروا يكذبون . يكذبون إطلاقاً . فالتكذيب طابعهم وميسمهم وطبعهم الأصيل . والله أعلم بما يكنون في صدورهم ، ويضمون عليه جوانحهم ، من شر وسوء ودوافع لهذا التكذيب . .
ويترك الحديث عنهم ، ويتجه بالخطاب إلى الرسول الكريم : { فبشرهم بعذاب أليم } . . ويا لها من بشرى لا تسر ولا يودها متطلع إلى بشرى من بشير
وفي الوقت ذاته يعرض ما ينتظر المؤمنين الذين لا يكذبون ، فيستعدون بالعمل الصالح لما يستقبلون . ويجيء هذا العرض في السياق كأنه استثناء من مصير الكفار المكذبين :
{ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات . لهم أجر غير ممنون } . .
وهو الذي يقال عنه في اللغة إنه استثناء منقطع . فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لم يكونوا داخلين ابتداء في تلك البشارة السوداء ثم استنثوا منها ولكن التعبير على هذا النحو أشد إثارة للانتباه إلى الأمر المستثنى
والأجر غير الممنون . . هو الأجر الدائم غير المقطوع . . في دار البقاء والخلود . .
وبهذا الإيقاع الحاسم القصير ، تنتهي السورة القصيرة العبارة ، البعيدة الآماد في مجالات الكون والضمير .

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

هذه السورة القصيرة تعرض ، حقائق العقيدة ، وقواعد التصور الإيماني . . أموراً عظيمة وتشع حولها أضواء قوية بعيدة المدى ، وراء المعاني والحقائق المباشرة التي تعبر عنها نصوصها حتى لتكاد كل آية وأحياناً كل كلمة في الآية أن تفتح كوة على عالم مترامي الأطراف من الحقيقة . .
والموضوع المباشر الذي تتحدث عنه السورة هو حادث أصحاب الأخدود . . والموضوع هو أن فئة من المؤمنين السابقين على الإسلام قيل إنهم من النصارى الموحدين ابتلوا بأعداء لهم طغاة قساة شريرين ، أرادوهم على ترك عقيدتهم والارتداد عن دينهم ، فأبوا وتمنعوا بعقيدتهم . فشق الطغاة لهم شقاً في الأرض ، وأوقدوا فيه النار ، وكبوا فيه جماعة المؤمنين فماتوا حرقاً ، على مرأى من الجموع التي حشدها المتسلطون لتشهد مصرع الفئة المؤمنة بهذه الطريقة البشعة ، ولكي يتلهى الطغاة بمشهد الحريق . حريق الآدميين المؤمنين : { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } . .
تبدأ السورة بقسم : { والسماء ذات البروج ، واليوم الموعود ، وشاهد ومشهود ، قتل أصحاب الأخدود . . } فتربط بين السماء وما فيها من بروج هائلة ، واليوم الموعود وأحداثه الضخام ، والحشود التي تشهده والأحداث المشهودة فيه . . تربط بين هذا كله وبين الحادث ونقمة السماء على أصحابه البغاة .
ثم تعرض المشهد المفجع في لمحات خاطفة ، تودع المشاعر بشاعة الحادث بدون تفصيل ولا تطويل . . مع التلميح إلى عظمة العقيدة التي تعالت على فتنة الناس مع شدتها ، وانتصرت على النار وعلى الحياة ذاتها ، وارتفعت إلى الأوج الذي يشرف الإنسان في أجياله جميعاً . والتلميح إلى بشاعة الفعلة ، وما يكمن فيها من بغي وشر وتسفل ، إلى جانب ذلك الارتفاع والبراءة والتطهر من جانب المؤمنين : { النار ذات الوقود . إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود } . .
بعد ذلك تجيء التعقيبات المتوالية القصيرة متضمنة تلك الأمور العظيمة في شأن الدعوة والعقيدة والتصور الإيماني الأصيل :
إشارة إلى ملك الله في السماوات والأرض وشهادته وحضوره تعالى لكل ما يقع في السماوات والأرض : الله { الذي له ملك السماوات والأرض . والله على كل شيء شهيد } . .
وإشارة إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق الذي ينتظر الطغاة الفجرة السفلة؛ وإلى نعيم الجنة . . ذلك الفوز الكبير . . الذي ينتظر المؤمنين الذين اختاروا عقيدتهم على الحياة ، وارتفعوا على فتنة النار والحريق : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ذلك الفوز الكبير } . .
وتلويح ببطش الله الشديد ، الذي يبدئ ويعيد : { إن بطش ربك لشديد . إنه هو يبدئ ويعيد } . . وهي حقيقة تتصل اتصالاً مباشراً بالحياة التي أزهقت في الحادث ، وتلقي وراء الحادث إشعاعات بعيدة .

.
وبعد ذلك بعض صفات الله تعالى . وكل صفة منها تعني أمراً . .
{ وهو الغفور الودود } الغفور للتائبين من الإثم مهما عظم وبشع . الودود لعباده الذين يختارونه على كل شيء . والود هنا هو البلسم المريح لمثل تلك القروح
{ ذو العرش المجيد . فعال لما يريد } . . وهي صفات تصور الهيمنة المطلقة ، والقدرة المطلقة . والإرادة المطلقة . . وكلها ذات اتصال بالحادث . . كما أنها تطلق وراءه إشعاعات بعيدة الآماد .
ثم إشارة سريعة إلى سوابق من أخذه للطغاة ، وهم مدججون بالسلاح . . { هل أتاك حديث الجنود . فرعون وثمود؟ } وهما مصرعان متنوعان في طبيعتهما وآثارهما . وورءاهما مع حادث الأخدود إشعاعات كثيرة .
وفي الختام يقرر شأن الذين كفروا وإحاطة الله بهم وهم لا يشعرون : { بل الذين كفروا في تكذيب . والله من ورائهم محيط } . .
ويقرر حقيقة القرآن ، وثبات أصله وحياطته : { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } . . مما يوحي بأن ما يقرره هو القول الفصل والمرجع الأخير ، في كل الأمور .
هذه لمحات مجملة عن إشعاعات السورة ومجالها الواسع البعيد . تمهد لاستعراض هذه الإشعاعات بالتفصيل :
{ والسماء ذات البروج ، واليوم الموعود ، وشاهد ومشهود } . .
تبدأ السورة قبل الإشارة إلى حادث الأخدود بهذا القسم : بالسماء ذات البروج ، وهي إما أن تكون أجرام النجوم الهائلة وكأنها بروج السماء الضخمة أي قصورها المبنية ، كما قال : { والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون } وكما قال : { أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها } وإما أن تكون هي المنازل التي تنتقل فيها تلك الأجرام في أثناء دورانها ، وهي مجالاتها التي لا تتعداها في جريانها في السماء . والإشارة إليها يوحي بالضخامة . وهو الظل المراد إلقاؤه في هذا الجو .
{ واليوم الموعود } . . وهو يوم الفصل في أحداث الدنيا ، وتصفية حساب الأرض وما كان فيها . وهو الموعود الذي وعد الله بمجيئه ، ووعد بالحساب والجزاء فيه؛ وأمهل المتخاصمين والمتقاضين إليه . وهو اليوم العظيم الذي تتطلع إليه الخلائق ، وتترقبه لترى كيف تصير الأمور .
{ وشاهد ومشهود } . . في ذلك اليوم الذي تعرض فيه الأعمال ، وتعرض فيه الخلائق ، فتصبح كلها مشهودة ، ويصبح الجميع شاهدين . . ويعلم كل شيء . ويظهر مكشوفاً لا يستره ساتر عن القلوب والعيون . .
وتلتقي السماء ذات البروج ، واليوم الموعود ، وشاهد ومشهود . . تلتقي جميعاً في إلقاء ظلال الاهتمام والاحتفال والاحتشاد والضخامة على الجو الذي يعرض فيه بعد ذلك حادث الأخدود . . كما توحي بالمجال الواسع الشامل الذي يوضع فيه هذا الحادث . وتوزن فيه حقيقته ويصفى فيه حسابه . . وهو أكبر من مجال الأرض ، وأبعد من مدى الحياة الدنيا وأجلها المحدود . .
وبعد رسم هذا الجو ، وفتح هذا المجال ، تجيء الإشارة إلى الحادث في لمسات قلائل :
{ قتل أصحاب الأخدود . النار ذات الوقود . إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود . وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد . الذي له ملك السماوات والأرض ، والله على كل شيء شهيد } .

.
وتبدأ الإشارة إلى الحادث بإعلان النقمة على أصحاب الأخدود : { قتل أصحاب الأخدود } . . وهي كلمة تدل على الغضب . غضب الله على الفعلة وفاعليها . كما تدل على شناعة الذنب الذي يثير غضب الحليم ، ونقمته ، ووعيده بالقتل لفاعليه .
ثم يجيء تفسير الأخدود : { النار ذات الوقود } والأخدود : الشق في الأرض . وكان أصحابه قد شقوه وأوقدوا فيه النار حتى ملأوه ناراً ، فصارت النار بدلاً في التعبير من الأخدود للإيحاء بتلهب النار فيه كله وتوقدها .
قتل أصحاب الأخدود ، واستحقوا هذه النقمة وهذا الغضب ، في الحالة التي كانوا عليها وهم يرتكبون ذلك الإثم ، ويزاولون تلك الجريمة : { إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود } . . وهو تعبير يصور موقفهم ومشهدهم ، وهم يوقدون النار ، ويلقون بالمؤمنين والمؤمنات فيها وهم قعود على النار ، قريبون من عملية التعذيب البشعة ، يشاهدون أطوار التعذيب ، وفعل النار في الأجسام في لذة وسعار ، كأنما يثبتون في حسهم هذا المشهد البشع الشنيع
وما كان للمؤمنين من ذنب عندهم ولا ثأر : { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد . الذي له ملك السماوات والأرض . والله على كل شيء شهيد } . . فهذه جريمتهم أنهم آمنوا بالله ، العزيز : القادر على ما يريد ، الحميد : المستحق للحمد في كل حال ، والمحمود بذاته ولو لم يحمده الجهال وهو الحقيق بالإيمان وبالعبودية له . وهو وحده الذي له ملك السماوات والأرض وهو يشهد كل شيء وتتعلق به إرادته تعلق الحضور .
ثم هو الشهيد على ما كان من أمر المؤمنين وأصحاب الأخدود . . وهذه لمسة تطمئن قلوب المؤمنين ، وتهدد العتاة المتجبرين . فالله كان شهيداً . وكفى بالله شهيداً .
وتنتهي رواية الحادث في هذه الآيات القصار ، التي تملأ القلب بشحنة من الكراهية لبشاعة الفعلة وفاعليها ، كما تستجيش فيه التأمل فيما وراء الحادث ووزنه عند الله وما استحقه من نقمته وغضبه . فهو أمر لم ينته بعد عند هذا الحد ، ووراءه في حساب الله ما وراءه .
كذلك تنتهي رواية الحادث وقد ملأت القلب بالروعة . روعة الإيمان المستعلي على الفتنة ، والعقيدة المنتصرة على الحياة ، والانطلاق المتجرد من أوهاق الجسم وجاذبية الأرض . فقد كان مكنة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم . ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير : معنى زهادة الحياة بلا عقيدة ، وبشاعتها بلا حرية ، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد إنه معنى كريم جداً ومعنى كبير جداً هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض . ربحوه وهم يجدون مس النار فتحترق أجسادهم ، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار؟ وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب ، ولأعدائهم الطاغين حساب . . يعقب به السياق .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36