كتاب : في ظلال القرآن
المؤلف : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي

. وهي بتصورها الاعتقادي ، وبنظامها الاجتماعي أهل له . فيبقى عليها أن تكون بتقدمها العلمي ، وبعمارتها للأرض - قياماً بحق الخلافة - أهلاً له كذلك . . ومن هذا يتبين أن المنهج الذي تقوم عليه هذه الأمة يطالبها بالشيء الكثير؛ ويدفعها إلى السبق في كل مجال . . لو أنها تتبعه وتلتزم به ، وتدرك مقتضياته وتكاليفه .
وفي أول مقتضيات هذا المكان . أن تقوم على صيانة الحياة من الشر والفساد . . وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فهي خير أمة أخرجت للناس . لا عن مجاملة أو محاباة ، ولا عن مصادفة أو جزاف - تعالى الله عن ذلك كله علواً كبيراً - وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون : « نحن أبناء الله وأحباؤه » . . كلا إنما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر ، وإقامتها على المعروف ، مع الإيمان الذي يحدد المعروف والمنكر :
{ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } . .
فهو النهوض بتكاليف الأمة الخيرة ، بكل ما وراء هذه التكاليف من متاعب ، وبكل ما في طريقها من أشواك . . إنه التعرض للشر والتحريض على الخير وصيانة المجتمع من عوامل الفساد . . وكل هذا متعب شاق ، ولكنه كذلك ضروري لإقامة المجتمع الصالح وصيانته؛ ولتحقيق الصورة التي يحب الله أن تكون عليها الحياة . .
ولا بد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم ، والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر . فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكفي . فقد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل . ولا بد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير وللشر ، وللفضيلة والرذيلة ، وللمعروف والمنكر . يستند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال .
وهذا ما يحققه الإيمان ، بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه . وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون . . ومن هذا التصور العام تنبثق القواعد الأخلاقية . ومن الباعث على إرضاء الله وتوقي غضبه يندفع الناس لتحقيق هذه القواعد . ومن سلطان الله في الضمائر ، وسلطان شريعته في المجتمع تقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك .
ثم لا بد من الإيمان أيضا ليملك الدعاة إلى الخير ، الآمرون بالمعروف ، الناهون عن المنكر ، أن يمضوا في هذا الطريق الشاق ، ويحتملوا تكاليفه . وهم يواجهون طاغوت الشر في عنفوانه وجبروته ، ويواجهون طاغوت الشهوة في عرامتها وشدتها ، ويواجهون هبوط الأرواح ، وكلل العزائم ، وثقلة المطامع . . وزادهم هو الإيمان ، وعدتهم هي الإيمان . وسندهم هو الله . . وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد . وكل عدة سوى عدة الإيمان تُفلّ ، وكل سند غير سند الله ينهار
وقد سبق في السياق الأمر التكليفي للجماعة المسلمة أن ينتدب من بينها من يقومون بالدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أما هنا فقد وصفها الله سبحانه بأن هذه صفتها .

ليدلها على أنها لا توجد وجوداً حقيقياً إلا أن تتوافر فيها هذه السمة الأساسية ، التي تعرف بها في المجتمع الإنساني . فإما أن تقوم بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - مع الإيمان بالله - فهي موجودة وهي مسلمة . وإما أن لا تقوم بشيء من هذا فهي غير موجودة . وغير متحققة فيها صفة الإسلام .
وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة تقرر هذه الحقيقة . ندعها لمواضعها . وفي السنة كذلك طائفة صالحة من أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوجيهاته نقتطف بعضها :
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان »
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم ، فلم ينتهوا ، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وسليمان وعيسى بن مريم . . ثم جلس - وكان متكئاً - فقال : لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً » أي تعطفوهم وتردوهم .
وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً ، منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم » .
وعن عرس ابن عميرة الكندي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها » .
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر » .
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « سيد الشهداء حمزة . ورجل قام إلى سلطان جائر ، فأمره ونهاه ، فقتله » .
وغيرها كثير . . وكلها تقرر أصالة هذه السمة في المجتمع المسلم ، وضروراتها لهذا المجتمع أيضاً . وهي تحتوي مادة توجيه وتربية منهجية ضخمة . وهي إلى جانب النصوص القرآنية زاد نحن غافلون عن قيمته وعن حقيقته .
ثم نعود إلى الشطر الآخر من الآية الأولى في هذه المجموعة . .
{ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم . منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } . .
وهو ترغيب لأهل الكتاب في الإيمان .

فهو خير لهم . خير لهم في هذه الدنيا ، يستعصمون به من الفرقة والهلهلة التي كانوا عليها في تصوراتهم الاعتقادية ، والتي ما تزال تحرمهم تجمع الشخصية . إذ تعجز هذه التصورات عن أن تكون قاعدة للنظام الاجتماعي لحياتهم ، فتقوم أنظمتهم الاجتماعية - من ثم - على غير أساس ، عرجاء أو معلقة في الهواء ككل نظام اجتماعي لا يقوم على أساس اعتقادي شامل ، وعلى تفسير كامل للوجود ، ولغاية الوجود الإنساني ، ومقام الإنسان في هذا الكون . . وخير لهم في الآخرة يقيهم ما ينتظر غير المؤمنين من مصير .
ثم هو بيان كذلك لحالهم ، لا يبخس الصالحين منهم حقهم :
{ منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } . .
وقد آمن من أهل الكتاب جماعة وحسن إسلامهم . منهم عبد الله بن سلام ، وأسد بن عبيد ، وثعلبة بن شعبة ، وكعب بن مالك . . وإلى هؤلاء تشير الآية هنا بالإجمال - وفي آية تالية بالتفصيل - أما الأكثرون فقد فسقوا عن دين الله ، حين لم يفوا بميثاق الله مع النبيين : أن يؤمن كل منهم بأخيه الذي يجيء بعده ، وأن ينصره . وفسقوا عن دين الله وهم يأبون الاستسلام لإرادته في إرسال آخر الرسل من غير بني إسرائيل ، واتباع هذا الرسول وطاعته ولاحتكام إلى آخر شريعة من عند الله ، أرادها للناس أجمعين .
ولما كان بعض المسلمين ما يزالون على صلات منوعة باليهود في المدينة ، ولما كانت لليهود حتى ذلك الحين قوة ظاهرة : عسكرية واقتصادية يحسب حسابها بعض المسلمين ، فقد تكفل القرآن بتهوين شأن هؤلاء الفاسقين في نفوس المسلمين ، وإبراز حقيقتهم الضعيفة بسبب كفرهم وجرائمهم وعصيانهم ، وتفرقهم شيعاً وفرقاً ، وما كتب الله عليهم من الذلة والمسكنة .
{ لن يضروكم إلا أذى . وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار . ثم لا ينصرون ، ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا - إلا بحبل من الله وحبل من الناس - وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } .
بهذا يضمن الله للمؤمنين النصر وسلامة العاقبة ، ضمانة صريحة حيثما التقوا بأعدائهم هؤلاء ، وهم معتصمون بدينهم وربهم في يقين :
{ لن يضروكم إلا أذى . وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون } . .
فلن يكون ضرراً عميقاً ولا أصيلاً يتناول أصل الدعوة ، ولن يؤثر في كينونة الجماعة المسلمة ، ولن يجليها من الأرض . . إنما هو الأذى العارض في الصدام ، والألم الذاهب مع الأيام . . فأما حين يشتبكون مع المسلمين في قتال ، فالهزيمة مكتوبة عليهم - في النهاية - والنصر ليس لهم على المؤمنين ، ولا ناصر لهم كذلك ولا عاصم من المؤمنين . . ذلك أنه قد { ضربت عليهم الذلة } وكتبت لهم مصيراً . فهم في كل أرض يذلون ، لا تعصمهم إلا ذمة الله وذمة المسلمين - حين يدخلون في ذمتهم فتعصم دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وتنيلهم الأمن والطمأنينة - ولم تعرف يهود منذ ذلك الحين الأمن إلا في ذمة المسلمين .

ولكن يهود لم تعاد أحداً في الأرض عداءها للمسلمين . . { وباءوا بغضب من الله } . . كأنما رجعوا من رحلتهم يحملون هذا الغضب . { وضربت عليهم المسكنة } تعيش في ضمائرهم وتكمن في مشاعرهم . .
ولقد وقع ذلك كله بعد نزول هذه الآية . فما كانت معركة بين المسلمين وأهل الكتاب إلا كتب الله فيها للمسلمين النصر - ما حافظوا على دينهم واستمسكوا بعقيدتهم ، وأقاموا منهج الله في حياتهم - وكتب لأعدائهم المذلة والهوان إلا أن يعتصموا بذمة المسلمين أو أن يتخلى المسلمون عن دينهم .
ويكشف القرآن عن سبب هذا القدر المكتوب على يهود . فإذا هو سبب عام يمكن أن تنطبق آثاره على كل قوم ، مهما تكن دعواهم في الدين : إنه المعصية والاعتداء :
{ ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } .
فالكفر بآيات الله - سواء بإنكارها أصلاً ، أو عدم الاحتكام إليها وتنفيذها في واقع الحياة - وقتل الأنبياء بغير حق . وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس كما جاء في آية أخرى في السورة - والعصيان والاعتداء . . هذه هي المؤهلات لغضب الله ، وللهزيمة والذلة والمسكنة . . وهذه هي المؤهلات التي تتوافر اليوم في البقايا الشاردة في الأرض من ذراري المسلمين . الذين يسمون أنفسهم - بغير حق - مسلمين هذه هي المؤهلات التي يتقدمون بها إلى ربهم اليوم ، فينالون عليها كل ما كتبه الله على اليهود من الهزيمة والذلة والمسكنة . فإذا قال أحد منهم : لماذا نغلب في الأرض ونحن مسلمون؟ فلينظر قبل أن يقولها : ما هو الإسلام ، ومن هم المسلمون؟ ثم يقول
وإنصافاً للقلة الخيرة من أهل الكتاب ، يعود السياق عليهم بالاستثناء ، فيقرر أن أهل الكتاب ليسوا كلهم سواء . فهناك المؤمنون . يصور حالهم مع ربهم ، فإذا هي حال المؤمنين الصادقين . ويقرر جزاءهم عنده فإذا هو جزاء الصالحين .
{ ليسوا سواء . من أهل الكتاب أمة قائمة ، يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون . يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ويسارعون في الخيرات . وأولئك من الصالحين . وما يفعلوا من خير فلن يكفروه ، والله عليم بالمتقين } . .
وهي صورة وضيئة للمؤمنين من أهل الكتاب . فقد آمنوا إيماناً صادقاً عميقاً ، وكاملاً شاملاً ، وانضموا للصف المسلم ، وقاموا على حراسة هذا الدين . . آمنوا بالله واليوم الآخر . . وقد نهضوا بتكاليف الإيمان ، وحققوا سمة الأمة المسلمة التي انضموا إليها - خير أمة أخرجت للناس - فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر . . وقد رغبت نفوسهم في الخير جملة ، فجعلوه الهدف الذي يسابقون فيه ، فسارعوا في الخيرات ، ومن ثم هذه الشهادة العلوية لهم أنهم من الصالحين . وهذا الوعد الصادق لهم أنهم لن يُبخسوا حقاً ، ولن يُكفروا أجراً .

مع الإشارة إلى أن الله - سبحانه - علم أنهم من المتقين . .
وهي صورة تُرفع أمام الراغبين في هذه الشهادة ، وفي هذا الوعد ، ليحققها في ذات نفسه كل من يشتاق إلى نورها الوضيء في أفقها المنير .
هذا في جانب . . وفي الجانب الآخر ، الكافرون . الكافرون الذين لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم؛ ولن تنفعهم نفقة ينفقونها في الدنيا ولن ينالهم شيء منها في الآخرة لأنها لم تتصل بخط الخير الثابت المستقيم . الخير المنبثق من الإيمان بالله ، على تصور واضح ، وهدف ثابت ، وطريق موصول . وإلا فالخير نزوة عارضة لا ثبات لها ، وجنوح يصرفه الهوى ، ولا يرجع إلى أصل واضح مدرك مفهوم ، ولا إلى منهج كامل شامل مستقيم . .
{ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً . وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر ، أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته . وما ظلمهم الله ، ولكن أنفسهم يظلمون } . .
وهكذا ترتسم هذه الحقيقة في مشهد ينبض بالحركة ويفيض بالحياة على طريقة التعبير القرآني الجميل . .
إن أموالهم وأولادهم ليست بمانعتهم من الله ، ولا تصلح فدية لهم من العذاب ، ولا تنجيهم من النار . . وهم أصحاب النار وكل ما ينفقونه من أموالهم فهو ذاهب هالك ، حتى ولو أنفقوه فيما يظنونه خيراً . فلا خير إلا أن يكون موصولاً بالإيمان ، ونابعاً من الإيمان . ولكن القرآن لا يعبر هكذا كما نعبر . إنما يرسم مشهداً حياً نابضاً بالحياة . . .
إننا ننظر فإذا نحن أمام حقل قد تهيأ للإخصاب . فهو حرث . ثم إذا العاصفة تهب . إنها عاصفة باردة ثلجية محرقة تحرق هذا الحرث بما فيها من صِرّ . واللفظة ذاتها كأنها مقذوف يلقى بعنف ، فيصور معناه بجرسه النفاذ . وإذا الحرث كله مدمر خراب
إنها لحظة يتم فيها كل شيء . يتم فيها الدمار والهلاك . وإذا الحرث كله يباب ذلك مثل ما ينفق الذين كفروا في هذه الدنيا - ولو كان ينفق فيما ظاهره الخير والبر - ومثل ما بأيديهم من نعم الأولاد والأموال . . كلها إلى هلاك وفناء . . دون ما متاع حقيقي ودون ما جزاء . .
{ وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون } .
فهم الذين تنكبوا المنهج الذي يجمع مفردات الخير والبر ، فيجعلها خطاً مستقيماً ثابتاً وأصلاً . له هدف مرسوم ، وله دافع مفهوم ، وله طريق معلوم . . فلا يترك للنزوة العارضة ، والرغبة الغامضة ، والفلتة التي لا ترجع إلى منهج ثابت مستقيم . .
هم الذين اختاروا لأنفسهم الشرود والضلال والانفلات من عصمة الحبل الممدود . فإذا ذهب عملهم كله هباء - حتى ما ينفقونه فيما ظاهره الخير - وإذا أصاب حرثهم كله الدمار ، فلم يغن عنهم مال ولا ولد . . فما في هذا ظلم من الله - تعالى - لهم .

إنما هو ظلمهم لأنفسهم بما اختاروه لأنفسهم من تنكب وشرود .
وهكذا يتقرر أن لا جزاء على بذل وأن لا قيمة لعمل إلا أن يرتبط بمنهج الإيمان وإلا أن يكون باعثه الإيمان . . يقول الله هذا ويقرره فلا تبقى بعده كلمة لإنسان؛ ولا يجادل في هذا القرار إلا الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . .
وفي نهاية الدرس الذي ابتدأ بياناً لما في سلوك أهل الكتاب من انحراف ، وكشفاً لما في جدالهم من مغالطة ، وفضحاً لما يريدونه بالمسلمين من سوء ، وتوجيها للجماعة المسلمة لتنهض بتكاليفها ، دون أن تلقي بالاً إلى المجادلين المنحرفين الفاسقين . . في نهاية هذا الدرس ، ونهاية هذا المقطع الطويل من السورة كلها يجيء التحذير للجماعة المسلمة من أن تتخذ من أعدائها الطبيعيين بطانة ، وأن تجعل منهم أمناء على أسرارها ومصالحها ، وهم للذين آمنوا عدو . . يجيء هذا التحذير في صورة شاملة خالدة ، ما نزال نرى مصداقها في كل وقت ، وفي كل أرض . صورة رسمها هذا القرآن الحي ، فغفل عنها أهل هذا القرآن . فأصابهم من غفلتهم وما يزال يصيبهم الشر والأذى والمهانة :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا . ودوا ما عنتم . قد بدت البغضاء من أفواههم ، وما تخفي صدورهم أكبر . قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون . ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ، وتؤمنون بالكتاب كله ، وإذا لقوكم قالوا : آمنا ، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ . قل : موتوا بغيظكم ، إن الله عليم بذات الصدور . إن تمسسكم حسنة تسؤهم ، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها . وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً . إن الله بما يعملون محيط } . .
إنها صورة كاملة السمات ، ناطقة بدخائل النفوس ، وشواهد الملامح ، تسجل المشاعر الباطنة ، والانفعالات الظاهرة ، والحركة الذاهبة الآيبة . وتسجل بذلك كله نموذجاً بشرياً مكروراً في كل زمان وفي كل مكان . ونستعرضها اليوم وغدا فيمن حول الجماعة المسلمة من أعداء . يتظاهرون للمسلمين - في ساعة قوة المسلمين وغلبتهم - بالمودة . فتكذبهم كل خالجة وكل جارحة . وينخدع المسلمون بهم فيمنحونهم الود والثقة وهم لا يريدون للمسلمين إلا الاضطراب والخبال ، ولا يقصرون في إعنات المسلمين ونثر الشوك في طريقهم ، والكيد لهم والدس ، ما واتتهم الفرصة في ليل أو نهار .
وما من شك أن هذه الصورة التي رسمها القرآن الكريم هذا الرسم العجيب ، كانت تنطبق ابتداء على أهل الكتاب المجاورين للمسلمين في المدينة؛ وترسم صورة قوية للغيظ الكظيم الذي كانوا يضمرونه للإسلام والمسلمين ، وللشر المبيت ، وللنوايا السيئة التي تجيش في صدورهم؛ في الوقت الذي كان بعض المسلمين ما يزال مخدوعاً في أعداء الله هؤلاء ، وما يزال يفضي إليهم بالمودة ، وما يزال يأمنهم على أسرار الجماعة المسلمة؛ ويتخذ منهم بطانة وأصحاباً وأصدقاء ، لا يخشى مغبة الإفضاء إليهم بدخائل الأسرار .

. فجاء هذا التنوير ، وهذا التحذير ، يبصر الجماعة المسلمة بحقيقة الأمر ، ويوعيها لكيد أعدائها الطبيعيين ، الذين لا يخلصون لها أبداً ، ولا تغسل أحقادهم مودة من المسلمين وصحبة . ولم يجيء هذا التنوير وهذا التحذير ليكون مقصوراً على فترة تاريخية معينة ، فهو حقيقة دائمة ، تواجه واقعاً دائماً . . كما نرى مصداق هذا فيما بين أيدينا من حاضر مكشوف مشهود . .
والمسلمون في غفلة عن أمر ربهم : ألا يتخذوا بطانة من دونهم . بطانة من ناس هم دونهم في الحقيقة والمنهج والوسيلة . وألا يجعلوهم موضع الثقة والسر والاستشارة . . المسلمون في غفلة عن أمر ربهم هذا يتخذون من أمثال هؤلاء مرجعاً في كل أمر ، وكل شأن ، وكل وضع ، وكل نظام ، وكل تصور ، وكل منهج ، وكل طريق
والمسلمون في غفلة من تحذير الله لهم ، يوادون من حاد الله ورسوله؛ ويفتحون لهم صدورهم وقلوبهم . والله سبحانه يقول للجماعة المسلمة الأولى كما يقول للجماعة المسلمة في أي جيل :
{ ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر } . .
والله سبحانه يقول :
{ ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ، وتؤمنون بالكتاب كله ، وإذا لقوكم قالوا : آمنا ، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } . .
والله سبحانه يقول :
{ أن تمسسكم حسنة تسؤهم ، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } . .
ومرة بعد مرة تصفعنا التجارب المرة ، ولكننا لا نفيق . . ومرة بعد مرة نكشف عن المكيدة والمؤامرة تلبس أزياء مختلفة ولكننا لا نعتبر . ومرة بعد مرة تنفلت ألسنتهم فتنم عن أحقادهم التي لا يذهب بها ود يبذله المسلمون ، ولا تغلسها سماحة يعلمها لهم الدين . . ومع ذلك نعود ، فنفتح لهم قلوبنا ونتخذ منهم رفقاء في الحياة والطريق . . وتبلغ بنا المجاملة ، أو تبلغ بنا الهزيمة الروحية أن نجاملهم في عقيدتنا فنتحاشى ذكرها ، وفي منهج حياتنا فلا نقيمه على أساس الإسلام ، وفي تزوير تاريخنا وطمس معالمه كي نتقي فيه ذكر أي صدام كان بين أسلافنا وهؤلاء الأعداء المتربصين ومن ثم يحل علينا جزاء المخالفين عن أمر الله . ومن هنا نذل ونضعف ونستخذي . ومن هنا نلقى العنت الذي يوده أعداؤنا لنا ، ونلقى الخبال الذي يدسونه في صفوفنا . .
وها هو ذا كتاب الله يعلمنا - كما علم الجماعة المسلمة الأولى - كيف نتقي كيدهم ، وندفع أذاهم ، وننجو من الشر الذي تكنه صدورهم ، ويفلت على السنتهم منه شواظ :
{ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً . إن الله بما يعملون محيط } . .
فهو الصبر والعزم والصمود أمام قوتهم إن كانوا أقوياء؛ وأمام مكرهم وكيدهم إن سلكوا طريق الوقيعة والخداع . الصبر والتماسك لا الانهيار والتخاذل؛ ولا التنازل عن العقيدة كلها أو بعضها اتقاء لشرهم المتوقع أو كسبا لودهم المدخول . . ثم هو التقوى : الخوف من الله وحده . ومراقبته وحده .

. هو تقوى الله التي تربط القلوب بالله ، فلا تلتقي مع أحد إلا في منهجه ، ولا تعتصم بحبل إلا حبله . . وحين يتصل القلب بالله فإنه سيحقر كل قوة غير قوته؛ وستشد هذه الرابطة من عزيمته ، فلا يستسلم من قريب ، ولا يواد من حاد الله ورسوله ، طلباً للنجاة أو كسباً للعزة
هذا هو الطريق : الصبر والتقوى . . التماسك والاعتصام بحبل الله . وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة الله وحدها ، وحققوا منهج الله في حياتهم كلها . . إلا عزوا وانتصروا ، ووقاهم الله كيد أعدائهم ، وكانت كلمتهم هي العليا . وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة أعدائهم الطبيعيين ، الذين يحاربون عقيدتهم ومنهجهم سراً وجهراً ، واستمعوا إلى مشورتهم ، واتخذوا منهم بطانة وأصدقاء وأعواناً وخبراء ومستشارين . . إلا كتب الله عليهم الهزيمة ، ومكن لأعدائهم فيهم ، وأذل رقابهم ، وأذاقهم وبال أمرهم . . والتاريخ كله شاهد على أن كلمة الله خالدة؛ وأن سنة الله نافذة . فمن عمي عن سنة الله المشهودة في الأرض ، فلن ترى عيناه إلا آيات الذلة والإنكسار والهوان . .
بهذا ينتهي هذا الدرس ، وينتهي كذلك المقطع الأول في السورة . وقد وصل السياق إلى ذروة المعركة؛ وقمة المفاصلة الكاملة الشاملة .
ويحسن قبل أن ننهي هذا الدرس أن نقرر حقيقة أخرى ، عن سماحة الإسلام في وجه كل هذا العداء . فهو يأمر المسلمين ألا يتخذوا بطانة من هؤلاء . ولكنه لا يحرضهم على مقابلة الغل والحقد والكراهية والدس والمكر بمثلها . إنما هي مجرد الوقاية للجماعة المسلمة وللصف المسلم ، وللكينونة المسلمة . . مجرد الوقاية ومجرد التنبيه إلى الخطر الذي يحيطها به الآخرون . . أما المسلم فبسماحة الإسلام يتعامل مع الناس جميعا؛ وبنظافة الإسلام يعامل الناس جميعاً؛ وبمحبة الخير الشامل يلقى الناس جميعاً؛ يتقي الكيد ولكنه لا يكيد ، ويحذر الحقد ولكنه لا يحقد . إلا أن يحارب في دينه ، وأن يفتن في عقيدته ، وأن يصد عن سبيل الله ومنهجه . فحينئذ هو مطالب أن يحارب ، وأن يمنع الفتنة ، وأن يزيل العقبات التي تصد الناس عن سبيل الله ، وعن تحقيق منهجه في الحياة . يحارب جهاداً في سبيل الله لا انتقاماً لذاته . وحباً لخير البشر لا حقداً على الذين آذوه . وتحطيماً للحواجز الحائلة دون إيصال هذا الخير للناس . لا حباً للغلب والاستعلاء والاستغلال . . وإقامة للنظام القويم الذي يستمتع الجميع في ظله بالعدل والسلام . لا لتركيز راية قومية ولا لبناء امبراطورية
هذه حقيقة تقررها النصوص الكثيرة من القرآن والسنة؛ ويترجمها تاريخ الجماعة المسلمة الأولى ، وهي تعمل في الأرض وفق هذه النصوص .
إن هذا المنهج خير . وما يصد البشرية عنه إلا أعدى أعداء البشرية . الذين ينبغي لها أن تطاردهم ، حتى تقصيهم عن قيادتها . . وهذا هو الواجب الذي انتدبت له الجماعة المسلمة ، فأدته مرة خير ما يكون الأداء . وهي مدعوة دائماً إلى أدائه ، والجهاد ماض إلى يوم القيامة . . تحت هذا اللواء . .

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)

من معركة الجدل والمناظرة ، والبيان والتنوير ، والتوجيه والتحذير - فيما سبق من السورة - ينتقل السياق إلى المعركة في الميدان . . معركة أحد . .
وغزوة أحد لم تكن معركة في الميدان وحده؛ إنما كانت معركة كذلك في الضمير . . كانت معركة ميدانها أوسع الميادين . لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانباً واحداً من ميدانها الهائل الذي دارت فيه . . ميدان النفس البشرية ، وتصوراتها ومشاعرها ، وأطماعها وشهواتها ، ودوافعها وكوابحها ، على العموم . . وكان القرآن هناك . يعالج هذه النفس بألطف وأعمق ، وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال
وكان النصر أولاً ، وكانت الهزيمة ثانياً وكان الانتصار الكبير فيها بعد النصر والهزيمة . . انتصار المعرفة الواضحة والرؤية المستنيرة للحقائق التي جلاها القرآن؛ واستقرار المشاعر على هذه الحقائق استقرار اليقين . وتمحيص النفوس ، وتمييز الصفوف ، وانطلاق الجماعة المسلمة - بعد ذلك - متحررة من كثير من غبش التصور ، وتميع القيم ، وتأرجح المشاعر ، في الصف المسلم . وذلك بتميز المنافقين في الصف إلى حد كبير ، ووضوح سمات النفاق وسمات الصدق ، في القول والفعل ، وفي الشعور والسلوك . ووضوح تكاليف الإيمان ، وتكاليف الدعوة إليه والحركة به ، ومقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالمعرفة ، والاستعداد بالتجرد ، والاستعداد بالتنظيم ، والتزام الطاعة والاتباع بعد هذا كله ، والتوكل على الله وحده ، في كل خطوة من خطوات الطريق ، ورد الأمر إلى الله وحده في النصر والهزيمة ، وفي الموت والحياة ، وفي كل أمر وفي كل اتجاه .
وكانت هذه الحصيلة الضخمة التي استقرت في الجماعة المسلمة من وراء الأحداث ، ومن وراء التوجيهات القرآنية بعد الأحداث ، أكبر وأخطر - بما لا يقاس - من حصيلة النصر والغنيمة . . لو عاد المسلمون من الغزوة بالنصر والغنيمة . . وقد كانت الجماعة المسلمة إذ ذاك أحوج ما تكون لهذه الحصيلة الضخمة . . كانت أحوج إليها ألف مرة من حصيلة النصر والغنيمة . وكان الرصيد الباقي منها للأمة المسلمة في كل جيل أهم وأبقى كذلك من حصيلة النصر والغنيمة . وكان تدبير الله العلوي من وراء ما بدا في الموقعة من ظواهر النقص والضعف والتميع والغبش في الصف المسلم ، ومن وراء الهزيمة التي نشأت عن هذه الظواهر . . كان تدبير الله العلوي من وراء هذا الذي وقع وفق سنة الله الجارية ، حسب أسبابه الطبيعية الظاهرة ، تدبيراً كله الخير للجماعة المسلمة في ذلك الحين ، لتنال هذه الحصيلة الضخمة من العبرة والتربية ، والوعي والنضج ، والتمحيص والتميز ، والتنسيق والتنظيم . وليبقى للأمة المسلمة في أجيالها المتعاقبة هذا الرصيد من التجارب والحقائق والتوجيهات التي لا تقدر بثمن . ولو كان هذا الثمن هو النصر والغنيمة
لقد انتهت المعركة في ميدان الأرض ، ليبدأها القرآن في ميدانها الأكبر : ميدان النفس ، وميدان الحياة الشاملة للجماعة المسلمة .

وصنع بهذه الجماعة ما تصنعه يد الله ، عن علم وعن حكمة ، وعن خبرة ، وعن بصيرة . وكان ما شاءه الله وما دبره . وكان فيه الخير العظيم ، من وراء الضر والأذى والابتلاء الشاق المرير .
ولعل مما يلفت النظر في التعقيب القرآني على أحداث المعركة هو ذلك الازدواج العجيب بين استعراض مشاهدها ووقائعها ، والتوجيهات المباشرة على هذه المشاهد والوقائع . . وبين التوجيهات الأخرى المتعلقة بتصفية النفوس ، وتخليصها من غبش التصور ، وتحريرها من ربقة الشهوات ، وثقلة المطامع ، وظلام الأحقاد ، وظلمة الخطيئة ، وضعف الحرص والشح . والرغبات الدفينة .
ولعل مما يلفت النظر أكثر ، الكلام - في صدد التعقيب على معركة حربية - عن الربا والنهي عنه ، وعن الشورى والأخذ بها ، على الرغم مما كان للشورى من معقبات ظاهرية في النتائح السيئة للمعركة
ثم . . سعة المساحة التي يعمل فيها المنهج القرآني في النفس البشرية ، وفي الحياة الإنسانية ، وتعدد نقط الحركة فيها ، وتداخلها ، وتكاملها العجيب . .
ولكن الذين يدركون طبيعة هذا المنهج الرباني لا يعجبون لشيء من ذلك الازدواج وهذه السعة ، وهذا التداخل ، وهذا التكامل . فالمعركة الحربية في الحركة الإسلامية ليست معركة أسلحة وخيل ورجال وعدة وعتاد ، وتدبير حربي فحسب . . فهذه المعركة الجزئية ليست منعزلة عن المعركة الكبرى في عالم الضمير ، وعالم التنظيم الاجتماعي للجماعة المسلمة . . إنها ذات ارتباط وثيق بصفاء ذلك الضمير ، وخلوصه ، وتجرده ، وتحرره من الأوهاق والقيود التي تطمس على شفافيته ، وتقعد به دون الفرار إلى الله وكذلك هي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع التنظيمية التي تقوم عليها حياة الجماعة المسلمة ، وفق منهج الله القويم . المنهج الذي يقوم على الشورى في الحياة كلها - لا في نظام الحكم وحده - وعلى النظام التعاوني لا النظام الربوي . والتعاون والربا لا يجتمعان في نظام
والقرآن كان يعالج الجماعة المسلمة ، على إثر معركة لم تكن - كما قلنا - معركة في ميدان القتال وحده . إنما كانت معركة في الميدان الأكبر . ميدان النفس البشرية ، وميدان الحياة الواقعية . . ومن ثم عرج على الربا فنهى عنه؛ وعرج على الإنفاق في السراء والضراء فحض عليه؛ وعرج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة؛ وعرج على كظم الغيظ والعفو عن الناس ، وعلى الإحسان والتطهر من الخطيئة بالاستغفار ، والتوبة وعدم الإصرار؛ فجعلها كلها مناط الرضوان . كما عرج على رحمة الله المتمثلة في رحمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولين قلبه للناس . وعلى مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات . وعلى الأمانة التي تمنع الغلول . وعلى البذل والتحذير من البخل في نهاية ما نزل في التعقيب على الغزوة من آيات . .
عرج على هذا كله . لأنه مادة إعداد الجماعة المسلمة للمعركة في نطاقها الواسع؛ الذي يتضمن المعركة الحربية في إطاره ولا يقتصر عليها . معركة التعبئة الكاملة للانتصار الكبير .

الانتصار على النفس والشهوات والمطامع والأحقاد ، والانتصار في تقرير القيم والأوضاع السليمة لحياة الجماعة الشاملة .
وعرج على هذا كله ليشير إلى وحدة هذه العقيدة في مواجهة الكينونة البشرية ونشاطها كله . ورده كله إلى محور واحد : محور العبادة لله ، والعبودية له ، والتوجه إليه في حساسية وتقوى . وإلى وحدة منهج الله في الهيمنة على الكينونة البشرية كلها ، في كل حال من أحوالها . وإلى الترابط بين جميع هذه الأحوال في ظل هذا المنهج . وإلى وحدة النتائج النهائية للنشاط الإنساني كله ، وتأثير كل حركة من حركات النفس ، وكل جزئية من جزئيات التنظيم في هذه النتائج النهائية .
وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة . فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية ، والذين تولوا يوم التقى الجمعان في « أحد » إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب . والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب ، والالتجاء إلى الله ، والالتصاق بركنه الركين . والتطهر من الذنوب إذن والالتصاق بالله ، والرجوع إلى كنفه من عدة النصر ، وليست بمعزل عن الميدان واطراح النظام الربوي . إلى النظام التعاوني من عدة النصر؛ والمجتمع التعاوني أقرب إلى النصر من المجتمع الربوي . وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر ، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة ، والتضامن والتواد في المجتمع المتسامح قوة ذات فاعلية كذلك .
كذلك كان من الحقائق التي اتكأ عليها السياق من بدئه إلى نهايته . . حقيقة قدر الله . ورد الأمر إليه جملة . وتصحيح التصور في هذه النقطة تصحيحاً حاسماً جازماً وفي الوقت ذاته تقرير سنة الله في ترتيب العواقب التي تحل بالبشر على ما يصدر من سعيهم ونشاطهم ، وخطئهم وإصابتهم ، وطاعتهم ومعصيتهم ، وتمسكهم بالمنهج وتفريطهم فيه . واعتبارهم بعد هذا كله ستاراً للقدرة ، وأداة للمشيئة ، وقدراً من قدر الله يحقق به ما يشاء سبحانه .
ثم . . في النهاية . . إشعار الجماعة المسلمة أن ليس لها من أمر النصر شيء . إنما هو تدبير الله لتنفيذ قدره ، من خلال جهادها . وأجرها هي على الله . وليس لها من ثمار النصر شيء من أشياء هذه الأرض . ولا لحسابها الخاص يؤتيها الله النصر إذ يشاء . إنما لحساب الأهداف العليا التي يشاؤها الله . وكذلك الهزيمة . فإنها حين تقع بناء على جريان سنة الله ، وفق ما يقع من الجماعة المسلمة من تقصير وتفريط ، إنما تقع لتحقيق غايات يقدرها الله بحكمته وعلمه؛ لتمحيص النفوس وتمييز الصفوف ، وتجلية الحقائق ، وإقرار القيم ، وإقامة الموازين ، وجلاء السنن للمستبصرين . .
ولا قيمة ولا وزن في نظر الإسلام للانتصار العسكري أو السياسي أو الاقتصادي؛ ما لمم يقم هذا كله على أساس المنهج الرباني ، في الانتصار على النفس ، والغلبة على الهوى ، والفوز على الشهوة .

وتقرير الحق الذي أراده الله في حياة الناس . ليكون كل نصر نصراً لله ولمنهج الله . وليكون كل جهد في سبيل الله ومنهج الله . وإلا فهي جاهلية تنتصر على جاهلية . ولا خير فيها للحياة ولا للبشرية . إنما الخير أن ترتفع راية الحق لذات الحق . والحق واحد لا يتعدد . إنه منهج الله وحده . ولا حق في هذا الكون غيره . وانتصاره لا يتم حتى يتم أولاً في ميدان النفس البشرية . وفي نظام الحياة الواقعية . وحين تخلص النفس من حظ ذاتها في ذاتها ، ومن مطامعها وشهواتها ، ومن أدرانها وأحقادها ، ومن قيودها وأصفادها . وحين تفر إلى الله متحررة من هذه الأثقال والأوهاق . وحين تنسلخ من قوتها ومن وسائلها ومن أسبابها ، لتكل الأمر كله إلى الله ، بعد الوفاء بواجبها من الجهد والحركة . وحين تحكم منهج الله في الأمر كله ، وتعد هذا التحكيم هو غاية جهادها وانتصارها . حين يتم هذا كله يحتسب الانتصار في المعركة الحربية أو السياسية أو الاقتصادية انتصاراً في ميزان الله . وإلا فهو انتصار الجاهلية على الجاهلية ، الذي لا وزن له عند الله ولا قيمة
ومن ثم كان ذلك الازدواج ، وكان ذلك الشمول ، في التعقيب على المعركة التي دارت يوم أحد ، في ذلك الميدان الفسيح ، الذي يعد ميدان القتال جانباً واحداً من جوانبه الكثيرة .
وقبل أن نأخذ في استعراض ذلك التعقيب القرآني على أحداث المعركة يحسن أن نلخص وقائعها كما وردت في روايات السيرة؛ لندرك مواضع التعقيب والتوجيه حق الإدراك ، ولنراقب طريقة التربية الإلهية بالقرآن الكريم ، في تناول الوقائع والأحداث :
كان المسلمون قد انتصروا في بدر ، ذلك الانتصار الكامل ، الذي تبدو فيه - في ظل الظروف التي وقع فيها - رائحة المعجزة . وقد قتل الله بأيديهم أئمة الكفر ورءوسه من قريش . فرأس في قريش أبو سفيان بن حرب - بعد ذهاب أشرافهم في بدر - فأخذ يؤلب على المسلمين لأخذ الثأر . وكانت القافلة التي تحمل متاجر قريش قد نجت فلم تقع في أيدي المسلمين؛ فتآمر المشركون على رصد ما فيها من أموال لحرب المسلمين .
وقد جمع أبو سفيان قريبا من ثلاثة آلاف من قريش وأحلافهم والأحابيش وخرج بهم في شوال من السنة الثالثة للهجرة؛ وجاءوا معهم بنسائهم ليحاموا عنهن ولا يفروا . ثم أقبل بهم نحو المدينة ، فنزل قريباً من جبل أحد .
« واستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه : أيخرج إليهم ، أم يمكث في المدينة؟ وكان رأيه ألاَّ يخرجوا من المدينة ، وأن يتحصنوا بها؛ فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة ، والنساء من فوق البيوت . ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي ( رأس المنافقين ) فبادرت جماعة كبيرة من الصحابة - ومعظمهم من الشبان ممن فاتهم يوم بدر - فأشاروا عليه بالخروج وألحوا عليه في ذلك . حتى بدا أن هذا هو الرأي السائد في الجماعة . فنهض - صلى الله عليه وسلم - ودخل بيته - بيت عائشة - رضي الله عنها - ولبس لأمته ، وخرج عليهم ، وقد انثنى عزم أولئك . وقالوا : أكرهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخروج فقالوا : يا رسول الله ، إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه »

. وألقى عليهم بذلك درساً نبوياً عاليا؛ فللشورى وقتها حتى إذا انتهت جاء وقت العزم والمضي والتوكل على الله . ولم يعد هناك مجال للتردد ، وإعادة الشورى والتأرجح بين الآراء . . إنما تمضي الأمور لغاياتها ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء . .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رأى في منامه : أن في سيفه ثلمة ، ورأى أن بقراً تذبح ، وأنه أدخل يده في درع حصينة . . فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته . وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون . وتأول الدرع بالمدينة . . وكان إذن يرى عاقبة المعركة . ولكنه في الوقت ذاته كان يمضي نظام الشورى ، ونظام الحركة بعد الشورى . . لقد كان يربي أمة . والأمم تربى بالأحداث ، وبرصيد التجارب الذي تتمخض عنه الأحداث . . ثم لقد كان يُمضي قدر الله ، الذي تستقر عليه مشاعره ، ويستقر عليه قلبه ، فيمضي وفق مواقع هذا القدر ، كما يحسها في قلبه الموصول . .
وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ألف من أصحابه ، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة ، فلما صار بين المدينة وأحد ، انعزل رأس النفاق : عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر . وقال : يخالفني ويسمع للفتية فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام - والد جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - يوبخهم ويحضهم على الرجوع . ويقول : تعالوا قاتلوا في سبيل الله ، أو ادفعوا . قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع فرجع عنهم وسبهم .
وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود . . فأبى - صلى الله عليه وسلم - فالمعركة هي معركة الإيمان والكفر فما ليهود بها؟ والنصر من عند الله - حين يصح التوكل عليه وتتجرد القلوب له - وقال : « من رجل يخرج بنا على القوم من كثب؟ » فخرج به بعض الأنصار حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي ، وجعل ظهره إلى أحد ، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم .
فلما أصبح تعبأ للقتال في سبعمائة ، فيهم خمسون فارساً ، واستعمل على الرماة - وكانوا خمسين - عبد الله ابن جبير ، وأمره وأصحابه أن يلزموا مركزهم ، وألا يفارقوه ولو رأوا الطير تتخطف العسكر .

وكانوا خلف الجيش . وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم .
وظاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين درعين . وأعطى اللواء مصعب بن عمير . وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام ، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو . واستعرض الشبان يومئذ ، فرد من استصغره عن القتال . وكان منهم عبد الله بن عمرو ، وأسامة بن زيد ، وأسيد بن ظهير ، والبراء بن عازب ، وزيد ابن أرقم ، وزيد بن ثابت ، وعرابة بن أوس ، وعمرو بن حزام . وأجاز من رآه مطيقاً . وكان منهم سمرة بن جندب ، ورافع بن خديج ، ولهما خمس عشرة سنة
وتعبأت قريش للقتال وهم في ثلاثة آلاف . وفيهم مائتا فارس . فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل .
ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيفه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة . وكان شجاعاً بطلاً يختال عند الحرب .
وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق . وكان يسمى « الراهب » فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « الفاسق » . وكان رأس الأوس في الجاهلية . فلما جاء الإسلام شرق به ، وجاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعداوة ، فخرج من المدينة ، وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحضهم على قتاله . ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه . فكان أول من لقي المسلمين . فنادى قومه ، وتعرف إليهم . فقالوا له : لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق فقال : لقد أصاب قومي بعدي شر ثم قاتل المسلمين قتالاً شديداً .
ولما نشب القتال أبلى أبو دجانة الأنصاري بلاء حسناً . هو وطلحة بن عبيد الله ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، والنضر بن أنس ، وسعد بن الربيع . .
وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار؛ حيث قتل من هؤلاء سبعون من صناديدهم . وانهزم أعداء الله وولوا مدبرين . حتى انتهوا إلى نسائهم . وحتى شمرت النساء ثيابهن عن أرجلهن هاربات
فلم رأى الرماة هزيمة المشركين وانكشافهم ، تركوا مراكزهم التي أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا يبرحوها وقالوا : يا قوم ، الغنيمة الغنيمة فذكرهم أميرهم عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يسمعوا ، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة فذهبوا في طلب الغنيمة ، وأخلوا الثغر في أحد
عندئذ أدركها خالد ، فكّر في خيل المشركين ، فوجدوا الثغر خالياً فاحتلوه من خلف ظهور المسلمين . وأقبل المنهزمون من المشركين حين رأوا خالداً والفرسان قد علوا المسلمين ، فأحاطوا بهم
وانقلبت المعركة ، فدارت الدائرة على المسلمين ، ووقع الهرج والمرج في الصف ، واستولى الاضطراب والذعر ، لهول المفاجأة التي لم يتوقعها أحد .

وكثر القتل واستشهد من المسلمين من كتب الله له الشهادة . وخلص المشركون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أفرد إلا من نفر يعدون على الأصابع قاتلوا عنه حتى قتلوا . وقد جرح وجهه - صلى الله عليه وسلم - وكسرت سنه الرباعية اليمنى في الفك الأسفل . وهشمت البيضة على رأسه . ورماه المشركون بالحجارة حتى وقع لجنبه ، وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق قد حفرها وغطاها يكيد بها المسلمين . وغاصت حلقتان من حلق المغفر في وجنته .
وفي وسط هذا الهول المحيط بالمسلمين صاح صائح : أن محمداً قتل . . فكانت الطامة التي هدت ما بقي من قواهم ، فانقلبوا على أعقابهم مهزومين هزيمة منكرة لا يحاولون قتالاً ، مما أصابهم من اليأس والكلال
ولما انهزم الناس لم ينهزم أنس بن النضر - رضي الله عنه - وقد انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم فقال : ما يجلسكم؟ فقالوا : قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : فما تصنعون بالحياة بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم استقبل المشركين ولقي سعد بن معاذ فقال : يا سعد واها لريح الجنة إني أجدها من دون أحد فقاتل حتى قتل . . ووجد به بضع وسبعون ضربة . ولم تعرفه إلا أخته . عرفته ببنانه . .
وأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو المسلمين . وكان أول من عرفه تحت المغفر ، كعب بن مالك . فصاح بأعلى صوته : يا معشر المسلمين . أبشروا . هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « فأشار بيده : أن اسكت » واجتمع إليه المسلمون . ونهضوا معه إلى الشعب . وفيهم أبو بكر وعمر والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم . . فلما امتدوا صعوداً في الجبل أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بن خلف على جواد له اسمه العود . كان يطعمه في مكة ويقول : أقتل عليه محمداً . فلما سمع بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « بل أنا أقتله إن شاء الله . . فلما أدركه تناول - صلى الله عليه وسلم - الحربة من الحارث وطعن بها عدو الله في ترقوته » فذهب يخور كالثور . وقد أيقن أنه مقتول . كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل ومات بالفعل في طريق عودته
وأشرف أبو سفيان على الجبل فنادى : أفيكم محمد؟ « فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تجيبوه » فقال : أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه . فقال : أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه . ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة .

فقال : مخاطباً قومه : أما هؤلاء فقد كفيتموهم . فلم يملك عمر - رضي الله عنه - نفسه أن قال : يا عدو الله . إن الذين ذكرتهم أحياء . وقد أبقى الله لك ما يسوؤك فقال : قد كان في القوم مثلة ، لم آمر بها ولم تسؤني ( يشير بذلك إلى ما صنعته زوجه هند بجثمان حمزة - رضي الله عنه - بعد أن قتله وحشي . حين بقرت بطنه ، واستخرجت كبده . فلاكتها ثمّ لفظتها )
ثم قال : اعلُ هُبل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « ألا تجيبونه؟ قالوا : بماذا نجيبه؟ قال : قولوا : الله أعلى وأجل . قال : لنا العزى ولا عزى لكم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا تجيبونه؟ قالوا : بماذا نجيبه؟ قال : قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم » . قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر والحرب سجال . فقال عمر - رضي الله عنه - : لا سواء . قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار .
ولما انقضت المعركة انصرف المشركون ، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لسبي الذراري وإحراز الأموال . فشق ذلك عليهم . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - « أخرج في آثار القوم ، فانظر ماذا يصنعون ، وماذا يريدون . فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة . وإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة . فوالذي نفسي بيده لو أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأناجزهم فيها » .
قال علي : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون . فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ، ووجهوا مكة .
فلما كانوا في بعض الطريق تلاوموا فيما بينهم ، وقال بعضهم : لم تصنعوا شيئاً ، أصبتم شوكتهم وحدهم ، ثم تركتموهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم . فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم . . فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنادى في الناس ، وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم وقال : « لا يخرج معنا إلا من شهد القتال . » فقال له عبد الله بن أبي : أركب معك . قال : « لا » فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف؛ وقالوا : سمعاً وطاعة . وأستأذنه جابر بن عبد الله . وقال : يا رسول الله إني أحب ألا تشهد مشهداً إلا كنت معك ، وإنما خلفني أبي على بناته يوم أحد ، فأذن لي أسير معك ، فأذن له ، فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد؛ وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذّله ، فلحقه بالروحاء ، ولم يعلم بإسلامه ، فقال : وما وراءك يا معبد؟ فقال : محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم ، وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله ، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم .

فقال : ما تقول؟ فقال : ما أرى أن ترتحل حتى يطلع الجيش وراء هذه الأكمة فقال أبو سفيان : والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم . قال : فلا تفعل فإني لك ناصح فرجعوا على أعقابهم إلى مكة .
ولقي أبو سفيان بعض المشركين يريدون المدينة؛ فقال : هل لك أن تبلغ محمداً رسالة ، وأوقر لك راحلتك زبيباً إذا أتيت إلى مكة؟ قال : نعم . قال : أبلغ محمداً أنا قد جمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه . فلما بلغهم قوله قالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل . ولم يفت ذلك في عضدهم . وأقاموا ثلاثة أيام ينتظرون . ثم عرفوا أن المشركين أبعدوا في طريقهم إلى مكة منصرفين فعادوا إلى المدينة . .
وبعد فإن هذا الملخص لأحداث الغزوة لا يصور كل جوانبها ، ولا يسجل كل ما وقع فيها ، مما هو موضع المثل والعبرة . . ومن ثم نذكر بعض الوقائع الموحية ، تكملة لرسم الجو واستحيائه :
كان عمرو ابن قميئة من المشركين الذين خلصوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أفرد في فترة اضطراب المعركة ، عقب تخلي الرماة عن أماكنهم ، وإحاطة الكفار بالمسلمين ، والصيحة بأن محمداً قتل ، وما صنعته في صفوف المسلمين وعزائمهم .
وفي هذه الغمرة التي يطيش فيها الحليم كانت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية تقاتل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتالاً شديداً . وقد ضربت عمر بن قميئة بسيفها ضربات عدة ، ولكن وقته درعان كانتا عليه . وضربها هو بالسيف فجرحها جرحاً شديداً على عاتقها . .
وكان أبو دجانة يترّس بظهره على النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبل يقع فيه ، وهو لا يتحرك ، ولا يكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان طلحة بن عبيد الله يثوب سريعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقف دونه وحده ، حتى يصرع . . في صحيح ابن حبان عن عائشة قالت : « قال أبو بكر الصديق : لما كان يوم أحد ، انصرف الناس كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فكنت أول من فاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه . قلت : كن طلحة فداك أبي وأمي كن طلحة فداك أبي وأمي فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح . وإذا هو يشتد كأنه طير ، حتى لحقني ، فدفعنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا طلحة بين يديه صريعاً . فقال صلى الله عليه وسلم : » دونكم أخاكم فقد أوجب « وقد رُمي النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجنته ، حتى غابت حلقة من حلق المغفر في وجنته . فذهبت لأنزعها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو عبيدة : نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني قال : فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه ، فجعل ينضنضه كراهة أن يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم استل السهم بفيه ، فندرت ثنية أبي عبيدة . قال أبو بكر : ثم ذهبت لآخذ الآخر ، فقال أبو عبيدة : نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني قال : فأخذه ، فجعل ينضنضه حتى استله ، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى . . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » دونكم أخاكم فقد أوجب « قال : فأقبلنا على طلحة نعالجه . وقد أصابته بضع عشرة ضربة .
وجاء علي - كرم الله وجهه - بالماء لغسل جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يصب الماء على الجرح ، وفاطمة - رضي الله عنها - تغسله . فلما رأت أن الدم لا يكف ، أخذت قطعة من حصير ، فأحرقتها ، فألصقتها بالجرح فاستمسك الدم .
وقد مصّ مالك والد أبي سعيد الخدري جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أنقاه . فقال له : » مجه « فقال : والله لا أمجه أبداً ثم ذهب ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا » .

وفي صحيح مسلم « أنه - صلى الله عليه وسلم - أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش . فلما رهقوه قال : من يردهم عني وله الجنة؟فتقدم رجل من الأنصار ، فقاتل حتى قتل . ثم رهقوه فقال : من يردهم ني فله الجنة وهو رفيقي في الجنة . . فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما انصفنا أصحابنا . . ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه » وترس عليه أبو دجانة بظهره كما أسلفنا ، حتى انجلت الكربة . . وقد بلغ الإعياء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه وهو يصعد الجبل والمشركون يتبعونه أراد أن يعلو صخرة فلم يستطع لما به ، فجلس طلحة تحته حتى صعدها . وحانت الصلاة . فصلى بهم جالساً .
ومن أحداث هذا اليوم كذلك :
إن حنظلة الأنصاري ( الملقب بحنظلة الغسيل ) شد على أبي سفيان ، فلما تمكن منه حمل على حنظلة شداد ابن الأسود فقتله . وكان جنباً . فإنه لما سمع صيحة الحرب وهو مع امرأته ، قام من فوره إلى الجهاد . فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن الملائكة تغسله . ثم قال : سلوا أهله ما شأنه؟ فسألوا امرأته ، فأخبرتهم الخبر
وقال زيد بن ثابت : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد أطلب سعد بن الربيع . قال : فجعلت أطوف بين القتلى ، فأتيته وهو بآخر رمق ، وبه سبعون ضربة ، ما بين طعنة برمح ، وضربة بسيف ، ورمية بسهم .

فقلت : « يا سعد . إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ عليك السلام ، ويقول لك : أخبرني كيف تجدك؟ فقال : وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلام . قل له : يا رسول الله أجد ريح الجنة . وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم عند الله إن خُلص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيكم عين تطرف » . وفاضت نفسه من وقته .
ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار ، وهو يتشحط في دمه ، فقال : يا فلان . أشعرت أن محمداً قد قتل؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم .
« وقال عبد الله بن عمرو بن حرام : رأيت في النوم ، قبل أُحد ، مبشر بن عبد المنذر يقول لي : أنت قادم علينا في أيام . فقلت . وأين أنت؟ فقال : في الجنة ، نسرح فيها حيث نشاء . قلت له ألم تقتل يوم بدر؟ فقال : بلى . ثم أحييت . فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هذه الشهادة يا أبا جابر » .
وقال خيثمة - وكان ابنه قد استشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر : لقد أخطأتني وقعة بدر ، وكنت والله عليها حريصاً ، حتى ساهمت إبني في الخروج ، فخرج سهمه ، فرزق الشهادة . وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة ، يسرح في ثمار الجنة وأنهارها يقول : الحق بنا ترافقنا في الجنة ، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً . وقد - والله يا رسول الله - أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة . وقد كبرت سني ، ورق عظمي ، وأحببت لقاء ربي . فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ، ومرافقة سعد في الجنة . فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك . فقتل بأحد شهيداً .
وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم : اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غداً فيقتلوني ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني . ثم تسألني فيم ذلك؟ فأقول : فيك
وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا . فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه فقال له بنوه : إن الله قد جعل لك رخصة ، فلو قعدت ونحن نكفيك وقد وضع الله عنك الجهاد . فأتى عمرو بن الجموح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله . إن بنيّ هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك . والله إني لأرجو أن استشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد » .

وقال لبنيه : « وما عليكم أن تدعوه؟ لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة؟ » . فخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتل يوم أحد شهيداً .
وفي مضطرب المعركة نظر حذيفة بن اليمان إلى أبيه والمسلمون يريدون قتله لا يعرفونه وهم يظنونه من المشركين . فقال حذيفة : أي عباد الله أبي . فلم يفهموا قوله حتى قتلوه . فقال : يغفر الله لكم . فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤدي ديته . فقال حذيفة : قد تصدقت بديته على المسلمين . فزاد ذلك حذيفة خيراً عند رسول الله .
وقال وحشي غلام جبير بن مطعم يصف مصرع حمزة سيد الشهداء في هذه الغزوة : قال لي جبير : إن قتلت حمزة عم محمد فأنت عتيق . قال : فخرجت مع الناس . وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطئ بها شيئاً . فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره حتى رأيته كأنه الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هدا ما يقوم له شيء . فوالله إني لأتهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني . إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى فلما رآه حمزة ضربه ضربة كأنما اختطف رأسه فهززت حربتي حتى إذا رضيت عنها دفعتها عليه فوقعت في ثنته ( أحشائه ) حتى خرجت من بين رجليه . وذهب لينوء نحوي فغلب . وتركته وإياها حتى مات . ثم أتيته فأخذت حربتي ورجعت إلى المعسكر فقعدت فيه . إذ لم تكن لي بغيره حاجة . إنما قتلت لأعتق . .
وقد جاءت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان ، فبقرت بطن حمزة ، وأخرجت كبده ، ولاكتها فلم تقدر عليها . فألقتها . .
ولما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد المعركة على جثمان حمزة - رضي الله عنه - تأثر تأثراً شديداً . وقال - صلى الله عليه وسلم - : « لن أصاب بمثلك أبداً . وما وقفت قط موقفاً أغيظ إلي من هذا » . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أكلت شيئاً؟ » قالوا : لا . قال : « ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة في النار » .
وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدفن شهداء أحد في مصارعهم ولا ينقلوا إلى مقابر المدينة . وكان بعض الصحابة قد نقلوا قتلاهم . فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برد القتلى إلى مصارعهم فردوا . ووقف - صلوات الله وسلامه عليه - يدفن الرجلين والثلاثة في اللحد الواحد . وكان يسأل : أيهم أكثر أخذاً في القرآن؟ فإذا أشاروا إلى رجلَ قدمه في اللحد . ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة .

فقال : « ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد » .
هذه بعض اللقطات من المعركة التي تجاور فيها النصر والهزيمة لا تفرق بينهما إلا لحظة من الزمان وإلا مخالفة عن الأمر وإلا حركة من الهوى وإلا لفتة من الشهوة والتي تجاورت فيها القيم العالية والسفوح الهابطة والنماذج الفريدة في تاريخ الإيمان والبطولة وفي تاريخ النفاق والهزيمة
وهي مجموعة تكشف عن حالة من عدم التناسق في الصف حينذاك كما تكشف عن حالة من الغبش في تصورات بعض المسلمين . . وهذه وتلك أنشأت - وفق سنة الله وقدره - هذه النتائج التي ذاقها المسلمون ; وهذه التضحيات الجسام التي تتراءى على قمتها تلك التي أصابت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي لا شك أن الصحابة حين ذاك كانوا يحسونها بعمق وعنف ويرونها أشد ما نالهم من الآلام . وقد دفعوا الثمن غالياً ليتلقوا الدرس عالياً وليمحص الله القلوب ويميز الصفوف وليعد الجماعة المسلمة للمهمة العظمى التي ناطها بها : مهمة القيادة الراشدة للبشرية وإقرار منهج الله في الأرض في صورته المثالية الواقعية . .
فلننظر إذن كيف عالج القرآن الكريم الموقف بطريقة القرآن .
إن النص القرآني لا يتتبع أحداث المعركة للرواية والعرض ; ولكنه يتتبع دخائل النفوس وخوالج القلوب ; ويتخذ من الأحداث مادة تنبيه وتنوير وتوجيه . .
وهو لا يعرض الحوادث عرضاً تاريخياً مسلسلاً بقصد التسجيل ; إنما هو يعرضها للعبرة والتربية واستخلاص القيم الكامنة وراء الحوادث ; ورسم سمات النفوس وخلجات القلوب وتصوير الجو الذي صاحبها ; والسنن الكونية التي تحكمها ; والمبادىء الباقية التي تقررها . وبذلك تستحيل الحادثة محوراً أو نقطة ارتكاز لثروة ضخمة من المشاعر والسمات والنتائج والاستدلالات . يبدأ السياق منها ; ثم يستطرد حولها ; ثم يعود إليها ; ثم يجول في أعماق الضمائر وفي أغوار الحياة ; ويكرر هذا مرة بعد مرة حتى ينتهي برواية الحادث إلى نهايتها وقد ضم جناحيه على حفل من المعاني والدلائل والقيم والمبادىء لم تكن رواية الحادث إلا وسيلة إليها ونقطة ارتكاز تتجمع حواليها . وحتى يكون قد تناول ملابسات الحادث وعقابيله في الضمائر فجلاها . ونقاها وأراحها في مواضعها فلا تجد النفس منها حيرة ولا قلقاً ولا تحس فيها لبساً ولا دخلاً . .
وينظر الإنسان في رقعة المعركة وما وقع فيها - على سعته وتنوعه - ثم ينظر إلى رقعه التعقيب القرآني وما تناوله من جوانب ; فإذا هذه الرقعة أوسع من تلك وأبقى على الزمن وألصق بالقلوب وأعمق في النفوس وأقدر على تلبية حاجات النفس البشرية وحاجات الجماعة الإسلامية في كل موقف تتعرض له في هذا المجال على تتابع الأجيال . فهي تتضمن الحقائق الباقية من وراء الأحداث الزائلة والمبادئ المطلقة من وراء الحوادث المفردة والقيم الأصيلة من وراء الظواهر العارضة والرصيد الصالح للتزود بغض النظر عن اعتبارات الزمان والمكان .

.
وهذه الحصيلة الباقية تدخرها النصوص القرآنية لكل قلب يتفتح بالإيمان في أي زمان وفي أي مكان . . وسنعرض لها متجمعة - إن شاء الله - بعد استعراضها متفرقة في النصوص . .
{ وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ، والله سميع عليم . إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . .
هكذا يبدأ باستعادة المشهد الأول للمعركة واستحضاره - وقد كان قريباً من نفوس المخاطبين الأولين بهذا القرآن ومن ذاكرتهم . ولكن ابتداء الحديث على هذا النحو واستحضار المشهد الأول بهذا النص من شأنه أن يعيد المشهد بكل حرارته وبكل حيويته ; وأن يضيف إليه ما وراء المشهد المنظور - الذي يعرفونه - من حقائق أخرى لا يتضمنها المشهد المنظور . وأولها حقيقة حضور الله - سبحانه - معهم وسمعه وعلمه بكل ما كان وما دار بينهم . وهي الحقيقة التي تحرص التربية القرآنية على استحضارها وتقريرها وتوكيدها وتعميقها في التصور الإسلامي . وهي هي الحقيقة الأساسية الكبيرة التي أقام عليها الإسلام منهجه التربوي . والتي لا يستقيم ضمير على المنهج الإسلامي بكل تكاليفه إلا أن تستقر فيه هذه الحقيقة بكل قوتها وبكل حيويتها كذلك :
{ وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال . . والله سميع عليم . . } . .
والإشارة هنا إلى غدو النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيت عائشة - رضي الله عنها وقد لبس لأمته ودرعه ; بعد التشاور في الأمر وما انتهى إليه من عزم على الخروج من المدينة للقاء المشركين خارجها . . وما أعقب هذا من تنظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - للصفوف ومن أمر للرماة باتخاذ موقفهم على الجبل . . وهو مشهد يعرفونه وموقف يتذكرونه . . ولكن الحقيقة الجديدة فيه هي هذه :
{ والله سميع عليم } . .
ويا له من مشهد الله حاضره ويا له من موقف الله شاهده ويا لها من رهبة إذن ومن روعة تحف به وتخالط كل ما دار فيه من تشاور . والسرائر مكشوفة فيه لله . وهو يسمع ما تقوله الألسنة ويعلم ما تهمس به الضمائر .
واللمسة الثانية في هذا المشهد الأول هي حركة الضعف والفشل التي راودت قلوب طائفتين من المسلمين ; بعد تلك الحركة الخائنة التي قام بها رأس النفاق « عبد الله بن أبي بن سلول » حين انفصل بثلث الجيش مغضباً أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ برأيه واستمع إلى شباب أهل المدينة وقال : { لو نعلم قتالاً لاتبعناكم } فدل بهذا على أن قلبه لم يخلص للعقيدة ; وأن شخصه ما يزال يملأ قلبه ويطغى في ذلك القلب على العقيدة . . العقيدة التي لا تحتمل شركة في قلب صاحبها ولا تطيق لها فيه شريكاً فإما أن يخلص لها وحدها وإما أن تجانبه هي وتجتويه
{ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون } .

.
وهاتان الطائفتان - كما ورد في الصحيح - من حديث سفيان بن عيينة - هما بنو حارثة وبنو سلمة . أثرت فيهما حركة عبد الله بن أبيّ ، وما أحدثته من رجة في الصف المسلم من أول خطوة في المعركة . فكادتا تفشلان وتضعفان . لولا أن أدركتهما ولاية الله وتثبيته كما أخبر هذا النص القرآني :
{ والله وليهما } . .
قال عمر - رضي الله عنه - سمعت جابر بن عبد الله يقول : فينا نزلت : { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } . . قال : نحن الطائفتان . . بنو حارثة وبنو سلمة . . وما نحب ( أو وما يسرني ) أنها لم تنزل ، لقوله تعالى : { والله وليهما } . . ( رواه البخاري ومسلم ) . .
وهكذا يكشف الله المخبوء في مكنونات الضمائر ; والذي لم يعلمه إلا أهله ، حين حاك في صدورهم لحظة ; ثم وقاهم الله إياه وصرفه عنهم وأيدهم بولايته فمضوا في الصف . . يكشفه لاستعادة أحداث المعركة واستحياء وقائعها ومشاهدها . ثم . . لتصوير خلجات النفوس وإشعار أهلها حضور الله معهم وعلمه بمكنونات ضمائرهم - كما قال لهم : { والله سميع عليم } - لتوكيد هذه الحقيقة وتعميقها في حسهم . ثم لتعريفهم كيف كانت النجاة ; وإشعارهم عون الله وولايته ورعايته حين يدركهم الضعف ويدب فيهم الفشل ليعرفوا أين يتوجهون حين يستشعرون شيئاً من هذا وأين يلتجئون . ومن ثم يوجههم هذا الوجه الذي لا وجه غيره للمؤمنين :
{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . .
على وجه القصر والحصر . . على الله وحده فليتوكل المؤمنون . فليس لهم - إن كانوا مؤمنين - إلا هذا السند المتين .
وهكذا نجد في الآيتين الأوليين ، اللتين يستحضر بهما القرآن مشهد المعركة وجوها هذين التوجيهين الكبيرين الأساسيين في التصور الإسلامي وفي التربية الإسلامية :
{ والله سميع عليم } . .
{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . .
نجدهما في أوانهما المناسب وفي جوهما المناسب ; حيث يلقيان كل إيقاعاتهما وكل إيحاءاتهما في الموعد المناسب ; وقد تهيأت القلوب للتلقي والاستجابة والانطباع . . ويتبين - من هذين النصين التمهيديين - كيف يتولى القرآن استحياء القلوب وتوجيهها وتربيتها ; بالتعقيب على الأحداث وهي ساخنة ويتبين الفرق بين رواية القرآن للأحداث وتوجيهها وبين سائر المصادر التي قد تروي الأحداث بتفصيل أكثر ; ولكنها لا تستهدف القلب البشري والحياة البشرية بالإحياء والاستجاشة وبالتربية والتوجيه . كما يستهدفها القرآن الكريم بمنهجه القويم .
هكذا يبدأ الحديث عن المعركة التي لم ينتصر فيها المسلمون - وقد كادوا - وهي قد بدأت بتغليب الاعتبارات الشخصية على العقيدة عند المنافق عبد الله بن أبي ; وتابعه في حركته أتباعه الذين غلبوا اعتباره الشخصي على عقيدتهم . وبالضعف الذي كاد يدرك طائفتين صالحتين من المسلمين .

ثم انتهت بالمخالفة عن الخطة العسكرية تحت مطارق الطمع في الغنيمة فلم تغن النماذج العالية التي تجلت في المعركة عن المصير الذي انتهت إليه بسبب ذلك الخلل في الصف وبسبب ذلك الغبش في التصور . .
وقبل أن يمضي في الاستعراض والتعقيب على أحداث المعركة التي انتهت بالهزيمة يذكرهم بالمعركة التي انتهت بالنصر - معركة بدر - لتكون هذه أمام تلك . مجالاً للموازنة وتأمل الأسباب والنتائج ; ومعرفة مواطن الضعف ومواطن القوة وأسباب النصر وأسباب الهزيمة . ثم - بعد ذلك - ليكون اليقين من أن النصر والهزيمة كليهما قدر من أقدار الله ; لحكمة تتحقق من وراء النصر كما تتحقق من وراء الهزيمة سواء . وأن مرد الأمر في النهاية إلى الله على كلا الحالين وفي جميع الأحوال :
{ ولقد نصركم الله ببدر - وأنتم أذلة - فاتقوا الله لعلكم تشكرون . إذ تقول للمؤمنين : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين؟ بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين . وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به . وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم . ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين - ليس لك من الأمر شيء - أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون . ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم } . .
والنصر في بدر كان فيه رائحة المعجزة - كما أسلفنا - فقد تم بغير أداة من الأدوات المادية المألوفة للنصر . لم تكن الكفتان فيها - بين المؤمنين والمشركين - متوازنتين ولا قريبتين من التوازن . كان المشركون حوالي ألف خرجوا نفيراً لاستغاثة أبي سفيان لحماية القافلة التي كانت معه مزودين بالعدة والعتاد والحرص على الأموال والحمية للكرامة . وكان المسلمون حوالي ثلاثمائة لم يخرجوا لقتال هذه الطائفة ذات الشوكة إنما خرجوا لرحلة هينة . لمقابلة القافلة العزلاء وأخذ الطريق عليها ; فلم يكن معهم - على قلة العدد - إلا القليل من العدة - وكان وراءهم في المدينة مشركون لا تزال لهم قوتهم ومنافقون لهم مكانتهم ، ويهود يتربصون بهم . . وكانوا هم بعد ذلك كله قلة مسلمة في وسط خضم من الكفر والشرك في الجزيرة . ولم تكن قد زالت عنهم بعد صفة أنهم مهاجرون مطاردون من مكة وأنصار آووا هؤلاء المهاجرين ولكنهم ما يزالون نبتة غير مستقرة في هذه البيئة
فبهذا كله يذكرهم الله - سبحانه - ويرد ذلك النصر إلى سببه الأول في وسط هذه الظروف :
{ ولقد نصركم الله ببدر . وأنتم أذلة . فاتقوا الله لعلكم تشكرون } . .
إن الله هو الذي نصرهم ; ونصرهم لحكمة نص عليها في مجموعة هذه الآيات .

وهم لا ناصر لهم من أنفسهم ولا من سواهم . فإذا اتقوا وخافوا فليتقوا وليخافوا الله ، الذي يملك النصر والهزيمة ; والذي يملك القوة وحده والسلطان . فلعل التقوى أن تقودهم إلى الشكر ; وأن تجعله شكراً وافياً لائقاً بنعمة الله عليهم على كل حال .
هذه هي اللمسة الأولى في تذكيرهم بالنصر في بدر . . ثم يستحضر مشهدها ويستحيي صورتها في حسهم ، كأنهم اللحظة فيها :
{ إذ تقول للمؤمنين : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين؟ بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } . .
وكانت هذه كلمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر للقلة المسلمة التي خرجت معه ; والتي رأت نفير المشركين وهي خرجت لتلقى طائفة العير الموقرة بالمتاجر لا لتلقى طائفة النفير الموقرة بالسلاح وقد أبلغهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما بلغه يومها ربه لتثبيت قلوبهم وأقدامهم وهم بشر يحتاجون إلى العون في صورة قريبة من مشاعرهم وتصوراتهم ومألوفاتهم . . وأبلغهم كذلك شرط هذا المدد . . إنه الصبر والتقوى ; الصبر على تلقي صدمة الهجوم والتقوى التي تربط القلب بالله في النصر والهزيمة :
{ بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } . .
فالآن يعلمهم الله أن مرد الأمر كله إليه وأن الفاعلية كلها منه - سبحانه - وأن نزول الملائكة ليس إلا بشرى لقلوبهم ; لتأنس بهذا وتستبشر وتطمئن به وتثبت . أما النصر فمنه مباشرة ومتعلق بقدره وإرادته بلا واسطة ولا سبب ولا وسيلة :
{ وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } . .
وهكذا يحرص السياق القرآني على رد الأمر كله إلى الله كي لا يعلق بتصور المسلم ما يشوب هذه القاعدة الأصيلة : قاعدة رد الأمر جملة إلى مشيئة الله الطليقة ، وإرادته الفاعلة وقدره المباشر . وتنحية الأسباب والوسائل عن أن تكون هي الفاعلة . وإنما هي أداة تحركها المشيئة . وتحقق بها ما تريده .
{ وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } . .
وقد حرص القرآن الكريم على تقرير هذه القاعدة في التصور الإسلامي وعلى تنقيتها من كل شائبة وعلى تنحيه الأسباب الظاهرة والوسائل والأدوات عن أن تكون هي الفاعلة . . لتبقى الصلة المباشرة بين العبد والرب . بين قلب المؤمن وقدر الله . بلا حواجز ولا عوائق ولا وسائل ولا وسائط . كما هي في عالم الحقيقة . .
وبمثل هذه التوجيهات المكررة في القرآن المؤكدة بشتى أساليب التوكيد استقرت هذه الحقيقة في أخلاد المسلمين على نحو بديع هادىء عميق مستنير .
عرفوا أن الله هو الفاعل - وحده - وعرفوا كذلك أنهم مأمورون من قبل الله باتخاذ الوسائل والأسباب وبذل الجهد والوفاء بالتكاليف .

. فاستيقنوا الحقيقة وأطاعوا الأمر في توازن شعوري وحركي عجيب ولكن هذا إنما جاء مع الزمن ومع الأحداث ومع التربية بالأحداث والتربية بالتعقيب على الأحداث . . كهذا التعقيب ونظائره الكثيرة في هذه السورة . .
وفي هذه الآيات يستحضر مشهد بدر والرسول - صلى الله عليه وسلم - يعدهم الملائكة مدداً من عند الله ; إذا هم استمسكوا بالصبر والتقوى والثبات في المعركة - حين يطلع المشركون عليهم من وجههم هذا . . ثم يخبرهم بحقيقة المصدر الفاعل - من وراء نزول الملائكة - وهو الله . الذي تتعلق الأمور كلها بإرادته ويتحقق النصر بفعله وإذنه .
{ الله العزيز الحكيم } . .
فهو { العزيز } القوي ذو السلطان القادر على تحقيق النصر . وهو { الحكيم } الذي يجري قدره وفق حكمته والذي يحقق هذا النصر ليحقق من ورائه حكمة . .
ثم يبين حكمة هذا النصر . . أي نصر . . وغاياته التي ليس لأحد من البشر منها شيء :
{ ليقطع طرفاً من الذين كفروا . أو يكبتهم فينقلبوا خائبين - ليس لك من الأمر شيء - أو يتوب عليهم . أو يعذبهم فإنهم ظالمون } . .
إن النصر من عند الله . لتحقيق قدر الله . وليس للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا للمجاهدين معه في النصر من غاية ذاتية ولا نصيب شخصي . كما أنه ليس له ولا لهم دخل في تحقيقه وإن هم إلا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء فلا هم أسباب هذا النصر وصانعوه ; ولا هم أصحاب هذا النصر ومستغلوه إنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله وبالتأييد من عنده . لتحقيق حكمة الله من ورائه وقصده :
{ ليقطع طرفاً من الذين كفروا } . .
فينقص من عددهم بالقتل أو ينقص من أرضهم بالفتح أو ينقص من سلطانهم بالقهر أو ينقص من أموالهم بالغنيمة أو ينقص من فاعليتهم في الأرض بالهزيمة
{ أو يكبتهم فينقلبوا خائبين } . .
أي يصرفهم مهزومين أذلاء فيعودوا خائبين مقهورين .
{ أو يتوب عليهم } . .
فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة وقد يقودهم إلى الإيمان والتسليم فيتوب الله عليهم من كفرهم ويختم لهم بالإسلام والهداية . .
{ أو يعذبهم فإنهم ظالمون } . .
يعذبهم بنصر المسلمين عليهم . أو بأسرهم . أو بموتهم على الكفر الذي ينتهي بهم إلى العذاب . . جزاء لهم على ظلمهم بالكفر وظلمهم بفتنة المسلمين وظلمهم بالفساد في الأرض وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثله منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه . . إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله .
وعلى أية حال فهي حكمة الله ، وليس لبشر منها شيء . . حتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرجه النص من مجال هذا الأمر ليجرده لله وحده - سبحانه - فهو شأن الألوهية المتفردة بلا شريك .
بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر : من أسبابه ومن نتائجه وبذلك يطامنون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين ومن البطر والعجب والزهو الذي تنتفخ به أرواحهم وأوداجهم وبذلك يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء إنما الأمر كله لله أولاً وأخيراً .

وبذلك يرد أمر الناس - طائعهم وعاصيهم - إلى الله . فهذا الشأن شأن الله وحده - سبحانه . شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها : طائعهم وعاصيهم سواء . . وليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - وليس للمؤمنين معه إلا أن يؤدوا دورهم ثم ينفضوا أيديهم من النتائج وأجرهم من الله على الوفاء وعلى الولاء وعلى الأداء .
وملابسة أخرى في السياق اقتضت هذا التنصيص : { ليس لك من الأمر شيء } فسيرد في السياق قول بعضهم : { هل لنا من الأمر من شيء؟ } . . وقولهم : { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا . } . . ليقول لهم : إن أحداً ليس له من الأمر من شيء . لا في نصر ولا في هزيمة . إنما الطاعة والوفاء والأداء هي المطلوبة من الناس . وأما الأمر بعد ذلك فكله لله . ليس لأحد منه شيء . ولا حتى لرسول الله . . فهي الحقيقة الأصيلة في التصور الإسلامي . وإقرارها في النفوس أكبر من الأشخاص وأكبر من الأحداث وأكبر من شتى الاعتبارات . .
ويختم هذا التذكير ببدر ، وهذا التقرير للحقائق الأصيلة في التصور بالحقيقة الشاملة التي ترجع إليها حقيقة أن أمر النصر والهزيمة مرده إلى حكمة الله وقدره . . يختم هذا التقرير بتقرير أصله الكبير : وهو أن الأمر لله في الكون كله ، ومن ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وفق ما يشاء :
{ ولله ما في السماوات وما في الأرض . يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم } . .
فهي المشيئة المطلقة المستندة إلى الملكية المطلقة وهو التصرف المطلق في شأن العباد بحكم هذه الملكية لما في السماوات وما في الأرض . وليس هنالك ظلم ولا محاباة للعباد في المغفرة أو في العذاب . إنما يقضي الأمر في هذا الشأن بالحكمة والعدل وبالرحمة والمغفرة . فشأنه - سبحانه - الرحمة والمغفرة :
{ والله غفور رحيم } . .
والباب مفتوح أمام العباد لينالوا مغفرته ورحمته بالعودة إليه ورد الأمر كله له وأداء الواجب المفروض وترك ما وراء ذلك لحكمته وقدره ومشيئته المطلقة من وراء الوسائل والأسباب .
وقبل أن يدخل السياق في صميم الاستعراض للمعركة - معركة أحد - والتعقيبات على وقائعها وأحداثها . . تجيء التوجيهات المتعلقة بالمعركة الكبرى ، التي ألمعنا في مقدمة الحديث إليها . المعركة في أعماق النفس وفي محيط الحياة . . يجيء الحديث عن الربا والمعاملات الربوية وعن تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله . وعن الإنفاق في السراء والضراء والنظام التعاوني الكريم المقابل للنظام الربوي الملعون . وعن كظم الغيظ والعفو عن الناس وإشاعة الحسنى في الجماعة . وعن الاستغفار من الذنب والرجوع إلى الله وعدم الإصرار على الخطيئة :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة ، واتقوا الله لعلكم تفلحون .

واتقوا النار التي أعدت للكافرين . وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون . وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين : الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس . والله يحب المحسنين . والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . ونعم أجر العاملين } . .
تجيء هذه التوجيهات كلها قبل الدخول في سياق المعركة الحربية ; لتشير إلى خاصية من خواص هذه العقيدة :
الوحدة والشمول في مواجهة هذه العقيدة للكينونة البشرية ونشاطها كله ; ورده كله إلى محور واحد : محور العبادة لله والعبودية له والتوجه إليه بالأمر كله . والوحدة والشمول في منهج الله وهيمنته على الكينونة البشرية في كل حال من أحوالها وفي كل شأن من شؤونها وفي كل جانب من جوانب نشاطها . ثم تشير تلك التوجيهات بتجمعها هذا إلى الترابط بين كل ألوان النشاط الإنساني ; وتأثير هذا الترابط في النتائج الأخيرة لسعي الإنسان كله كما أسلفنا .
والمنهج الإسلامي يأخذ النفس من أقطارها وينظم حياة الجماعة جملة لا تفاريق . ومن ثم هذا الجمع بين الإعداد والاستعداد للمعركة الحربية ; وبين تطهير النفوس ونظافة القلوب والسيطرة على الأهواء والشهوات وإشاعة الود والسماحة في الجماعة . . فكلها قريب من قريب . . وحين نستعرض بالتفصيل كل سمة من هذه السمات وكل توجيه من هذه التوجيهات يتبين لنا ارتباطها الوثيق بحياة الجماعة المسلمة وبكل مقدراتها في ميدان المعركة وفي سائر ميادين الحياة
{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون . واتقوا النار التي أعدت للكافرين . وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } . .
ولقد سبق الحديث عن الربا والنظام الربوي بالتفصيل في الجزء الثالث من هذه الظلال فلا نكرر الحديث عنه هنا . . ولكن نقف عند الأضعاف المضاعفة . فإن قوماً يريدون في هذا الزمان أن يتواروا خلف هذا النص ويتداروا به ليقولوا : إن المحرم هو الأضعاف المضاعفة . أما الأربعة في المائة والخمسة في المائة والسبعة والتسعة . . فليست أضعافاً مضاعفة . وليست داخلة في نطاق التحريم
ونبدأ فنحسم القول بأن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع ، وليست شرطاً يتعلق به الحكم . والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا - بلا تحديد ولا تقييد : { وذروا ما بقي من الربا } أياً كان
فإذا انتهينا من تقرير المبدأ فرغنا لهذا الوصف لنقول : إنه في الحقيقة ليس وصفاً تاريخياً فقط للعمليات الربوية التي كانت واقعة في الجزيرة والتي قصد إليها النهي هنا بالذات . إنما هو وصف ملازم للنظام الربوي المقيت أياً كان سعر الفائدة .

إن النظام الربوي معناه إقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة . ومعنى هذا أن العمليات الربوية ليست عمليات مفردة ولا بسيطة . فهي عمليات متكررة من ناحية ، ومركبة من ناحية أخرى . فهي تنشئ مع الزمن والتكرار والتركيب أضعافاً مضاعفة بلا جدال .
إن النظام الربوي يحقق بطبيعته دائماً هذا الوصف . فليس هو مقصوراً على العمليات التي كانت متبعة في جزيرة العرب . إنما هو وصف ملازم للنظام في كل زمان .
ومن شأن هذا النظام أن يفسد الحياة النفسية والخلقية - كما فصلنا ذلك في الجزء الثالث - كما أن من شأنه أن يفسد الحياة الاقتصادية والسياسية - كما فصلنا ذلك أيضاً - ومن ثم تتبين علاقته بحياة الأمة كلها وتأثيره في مصائرها جميعاً .
والإسلام - وهو ينشئ الأمة المسلمة - كان يريد لها نظافة الحياة النفسية والخلقية ، كما كان يريد لها سلامة الحياة الاقتصادية والسياسية . وأثر هذا وذاك في نتائج المعارك التي تخوضها الأمة معروف . فالنهي عن أكل الربا في سياق التعقيب على المعركة الحربية أمر يبدو إذن مفهوماً في هذا المنهج الشامل البصير . .
أما التعقيب على هذا النهي بالأمر بتقوى الله رجاء الفلاح ; واتقاء النار التي أعدت للكافرين . . أما التعقيب بهاتين اللمستين فمفهوم كذلك ; وهو أنسب تعقيب :
إنه لا يأكل الربا إنسان يتقي الله ويخاف النار التي أعدت للكافرين . . ولا يأكل الربا إنسان يؤمن بالله ، ويعزل نفسه من صفوف الكافرين . . والإيمان ليس كلمة تقال باللسان ; إنما هو اتباع للمنهج الذي جعله الله ترجمة عملية واقعية لهذا الإيمان . وجعل الإيمان مقدمة لتحقيقه في الحياة الواقعية وتكييف حياة المجتمع وفق مقتضياته .
ومحال أن يجتمع إيمان ونظام ربوي في مكان . وحيثما قام النظام الربوي فهناك الخروج من هذا الدين جملة; وهناك النار التي أعدت للكافرين والمماحكة في هذا الأمر لا تخرج عن كونها مماحكة . . والجمع في هذه الآيات بين النهي عن أكل الربا والدعوة إلى تقوى الله وإلى اتقاء النار التي أعدت للكافرين ليس عبثاً ولا مصادفة . إنما هو لتقرير هذه الحقيقة وتعميقها في تصورات المسلمين .
وكذلك رجاء الفلاح بترك الربا وبتقوى الله . . فالفلاح هو الثمرة الطبيعية للتقوى ولتحقيق منهج الله في حياة الناس . . ولقد سبق الحديث في الجزء الثالث عن فعل الربا بالمجتمعات البشرية وويلاته البشعة في حياة الإنسانية . فلنرجع إلى هذا البيان هناك لندرك معنى الفلاح هنا واقترانه بترك النظام الربوي المقيت
ثم يجيء التوكيد الأخير :
{ وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } . .
وهو أمر عام بالطاعة لله والرسول ، وتعليق الرحمة بهذه الطاعة العامة . ولكن للتعقيب به على النهي عن الربا دلالة خاصة . هي أنه لا طاعة لله وللرسول في مجتمع يقوم على النظام الربوي ; ولا طاعة لله وللرسول في قلب يأكل الربا في صورة من صوره .

. وهكذا يكون ذلك التعقيب توكيداً بعد توكيد . .
وذلك فوق العلاقة الخاصة بين أحداث المعركة التي خولف فيها أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الأمر بالطاعة لله وللرسول ، بوصفها وسيلة الفلاح وموضع الرجاء فيه . .
ثم لقد سبق في سورة البقرة - في الجزء الثالث - أن رأينا السياق هناك يجمع بين الحديث عن الربا والحديث عن الصدقة . بوصفهما الوجهين المتقابلين للعلاقات الاجتماعية في النظام الاقتصادي ; وبوصفهما السمتين البارزتين لنوعين متباينين من النظم : النظام الربوي . والنظام التعاوني . . فهنا كذلك نجد هذا الجمع في الحديث عن الربا والحديث عن الإنفاق في السراء والضراء . .
فبعد النهي عن أكل الربا والتحذير من النار التي أعدت للكافرين ، والدعوة إلى التقوى رجاء الرحمة والفلاح . . بعد هذا يجيء الأمر بالمسارعة إلى المغفرة ; وإلى جنة عرضها السماوات والأرض ( أعدت للمتقين ) . . ثم يكون الوصف الأول للمتقين هو : { الذين ينفقون في السراء والضراء } - فهم الفريق المقابل للذين يأكلون الربا أضعافاً مضاعفة - ثم تجيء بقية الصفات والسمات :
{ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ، وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين : الذين ينفقون في السراء والضراء . والكاظمين الغيظ . والعافين عن الناس . والله يحب المحسنين . والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . . }
والتعبير هنا يصور أداء هذه الطاعات في صورة حسية حركية . . يصوره سباقاً إلى هدف أو جائزة تنال : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } . . { وجنة عرضها السماوات والأرض } . . سارعوا فهي هناك : المغفرة والجنة . . { أعدت للمتقين } . .
ثم يأخذ في بيان صفات المتقين :
{ الذين ينفقون في السراء والضراء } . .
فهم ثابتون على البذل ، ماضون على النهج ، لا تغيرهم السراء ولا تغيرهم الضراء . السراء لا تبطرهم فتلهيهم . والضراء لا تضجرهم فتنسيهم . إنما هو الشعور بالواجب في كل حال ; والتحرر من الشح والحرص; ومراقبة الله وتقواه . . وما يدفع النفس الشحيحة بطبعها المحبة للمال بفطرتها . . ما يدفع النفس إلى الإنفاق في كل حال إلا دافع أقوى من شهوة المال وربقة الحرص وثقلة الشح . . دافع التقوى . ذلك الشعور اللطيف العميق الذي تشف به الروح وتخلص وتنطلق من القيود والأغلال . .
ولعل للتنويه بهذه الصفة مناسبة خاصة كذلك في جو هذه المعركة . فنحن نرى الحديث عن الإنفاق يتكرر فيها كما نرى التنديد بالممتنعين والمانعين للبذل - كما سيأتي في السياق القرآني - مكرراً كذلك . مما يشير إلى ملابسات خاصة في جو الغزوة وموقف بعض الفئات من الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله .
{ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس } . .
كذلك تعمل التقوى في هذا الحقل ، بنفس البواعث ونفس المؤثرات .

فالغيظ انفعال بشري تصاحبه أو تلاحقه فورة في الدم ; فهو إحدى دفعات التكوين البشري وإحدى ضروراته . وما يغلبه الإنسان إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبعثة من إشراق التقوى ; وإلا بتلك القوة الروحية المنبثقة من التطلع إلى أفق أعلى وأوسع من آفاق الذات والضرورات .
وكظم الغيظ هو المرحلة الأولى . وهي وحدها لا تكفي . فقد يكظم الإنسان غيظه ليحقد ويضطغن ; فيتحول الغيظ الفائر إلى إحنة غائرة ; ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين . . وإن الغيظ والغضب لأنظف وأطهر من الحقد والضغن . . لذلك يستمر النص ليقرر النهاية الطليقة لذلك الغيظ الكظيم في نفوس المتقين . . إنها العفو والسماحة والانطلاق . .
إن الغيظ وقر على النفس حين تكظمه ; وشواظ يلفح القلب ; ودخان يغشى الضمير . . فأما حين تصفح النفس ويعفو القلب فهو الانطلاق من ذلك الوقر والرفرفة في آفاق النور والبرد في القلب والسلام في الضمير .
{ والله يحب المحسنين } . .
والذين يجودون بالمال في السراء والضراء محسنون . والذين يجودون بالعفو والسماحة بعد الغيظ والكظم محسنون . . والله { يحب } المحسنين . . والحب هنا هو التعبير الودود الحاني المشرق المنير الذي يتناسق مع ذلك الجو اللطيف الوضيء الكريم . .
ومن حب الله للإحسان وللمحسنين ، ينطلق حب الإحسان في قلوب أحبائه . وتنبثق الرغبة الدافعة في هذه القلوب . . فليس هو مجرد التعبير الموحي ، ولكنها الحقيقة كذلك وراء التعبير
والجماعة التي يحبها الله وتحب الله . . والتي تشيع فيها السماحة واليسر والطلاقة من الإحن والأضغان . . هي جماعة متضامة وجماعة متآخية وجماعة قوية . ومن ثم علاقة هذا التوجيه بالمعركة في الميدان والمعركة في الحياة على السواء في هذا السياق
ثم ننتقل إلى صفة أخرى من صفات المتقين :
{ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } . .
يا لسماحة هذا الدين إن الله - سبحانه - لا يدعو الناس إلى السماحة فيما بينهم حتى يطلعهم على جانب من سماحته - سبحانه وتعالى - معهم . ليتذوقوا ويتعلموا ويقتبسوا :
إن المتقين في أعلى مراتب المؤمنين . . ولكن سماحة هذا الدين ورحمته بالبشر تسلك في عداد المتقين { الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } . . والفاحشة أبشع الذنوب وأكبرها . ولكن سماحة هذا الدين لا تطرد من يهوون إليها من رحمة الله . ولا تجعلهم في ذيل القافلة . . قافلة المؤمنين . . إنما ترتفع بهم إلى أعلى مرتبة . . مرتبة { المتقين } . . على شرط واحد . شرط يكشف عن طبيعة هذا الدين ووجهته . . أن يذكروا الله فيستغفروا لذنوبهم وألا يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أنه الخطيئة وألا يتبجحوا بالمعصية في غير تحرج ولا حياء . . وبعبارة أخرى أن يكونوا في إطار العبودية لله والاستسلام له في النهاية .

فيظلوا في كنف الله وفي محيط عفوه ورحمته وفضله .
إن هذا الدين ليدرك ضعف هذا المخلوق البشري الذي تهبط به ثقلة الجسد أحياناً إلى درك الفاحشة وتهيج به فورة اللحم والدم فينزو نزوة الحيوان في حمى الشهوة وتدفعه نزواته وشهواته وأطماعه ورغباته إلى المخالفة عن أمر الله في حمى الاندفاع . يدرك ضعفه هذا فلا يقسو عليه ولا يبادر إلى طرده من رحمة الله حين يظلم نفسه . حين يرتكب الفاحشة . . المعصية الكبيرة . . وحسبه أن شعلة الإيمان ما تزال في روحه لم تنطفئ وأن نداوة الإيمان ما تزال في قلبه لم تجف وأن صلته بالله ما تزال حية لم تذبل وأنه يعرف أنه عبد يخطئ وأن له رباً يغفر . . وإذن فما يزال هذا المخلوق الضعيف الخاطئ المذنب بخير . . إنه سائر في الدرب لم ينقطع به الطريق ممسك بالعروة لم ينقطع به الحبل فليعثر ما شاء له ضعفه أن يعثر . فهو واصل في النهاية ما دامت الشعلة معه والحبل في يده . ما دام يذكر الله ولا ينساه ويستغفره ويقر بالعبودية له ولا يتبجح بمعصيته .
إنه لا يغلق في وجه هذا المخلوق الضعيف الضال باب التوبة ولا يلقيه منبوذاً حائراً في التيه ولا يدعه مطروداً خائفاً من المآب . . إنه يطمعه في المغفرة ويدله على الطريق ويأخذ بيده المرتعشة ويسند خطوته المتعثرة وينير له الطريق ليفيء إلى الحمى الآمن ويثوب إلى الكنف الأمين .
شيء واحد يتطلبه : ألا يجف قلبه وتظلم روحه فينسى الله . . وما دام يذكر الله . ما دام في روحه ذلك المشعل الهادي . ما دام في ضميره ذلك الهاتف الحادي . ما دام في قلبه ذلك الندى البليل . . فسيطلع النور في روحه من جديد وسيؤوب إلى الحمى الآمن من جديد وستنبت البذرة الهامدة من جديد .
إن طفلك الذي يخطئ ويعرف أن السوط - لا سواه - في الدار . . سيروح آبقاً شارداً لا يثوب إلى الدار أبداً . فأما إذا كان يعلم أن إلى جانب السوط يداً حانية تربت على ضعفه حين يعتذر من الذنب وتقبل عذره حين يستغفر من الخطيئة . . فإنه سيعود
وهكذا يأخذ الإسلام هذا المخلوق البشري الضعيف في لحظات ضعفه . . فإنه يعلم أن فيه بجانب الضعف قوة وبجانب الثقلة رفرفة وبجانب النزوة الحيوانية أشواقاً ربانية . . فهو يعطف عليه في لحظة الضعف ليأخذ بيده إلى مراقي الصعود ويربت عليه في لحظة العثرة ليحلق به إلى الأفق من جديد . ما دام يذكر الله ولا ينساه ولا يصر على الخطيئة وهو يعلم أنها الخطيئة والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول : « ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة »
والإسلام لا يدعو - بهذا - إلى الترخص ولا يمجد العاثر الهابط ولا يهتف له بجمال المستنقع كما تهتف « الواقعية » إنما هو يقيل عثرة الضعف ليستجيش في النفس الإنسانية الرجاء كما يستجيش فيها الحياء فالمغفرة من الله - ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ - تخجل ولا تطمع وتثير الاستغفار ولا تثير الاستهتار .

فأما الذين يستهترون ويصرون فهم هنالك خارج الأسوار موصدة في وجوههم الأسوار
وهكذا يجمع الإسلام بين الهتاف للبشرية إلى الآفاق العلى والرحمة بهذه البشرية التي يعلم طاقتها . ويفتح أمامها باب الرجاء أبداً ويأخذ بيدها إلى أقصى طاقتها .
. . . هؤلاء المتقون ما لهم؟
{ أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . ونعم أجر العاملين } . .
فهم ليسوا سلبيين بالاستغفار من المعصية . كما أنهم ليسوا سلبيين بالإنفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس . . إنما هم عاملون . { ونعم أجر العاملين } . . المغفرة من ربهم ، والجنة تجري من تحتها الأنهار بعد المغفرة وحب الله . . فهنالك عمل في أغوار النفس وهنالك عمل في ظاهر الحياة . وكلاهما عمل وكلاهما حركة وكلاهما نماء .
وهنالك الصلة بين هذه السمات كلها وبين معركة الميدان التي يتعقبها السياق . . وكما أن للنظام الربوي - أو النظام التعاوني - أثره في حياة الجماعة المسلمة وعلاقته بالمعركة في الميدان ، فكذلك لهذه السمات النفسية والجماعية أثرها الذي أشرنا إليه في مطلع الحديث . . فالانتصار على الشح والانتصار على الغيظ والانتصار على الخطيئة والرجعة إلى الله وطلب مغفرته ورضاه . . كلها ضرورية للانتصار على الأعداء في المعركة . وهم إنما كانوا أعداء لأنهم يمثلون الشح والهوى والخطيئة والتبجح وهم إنما كانوا أعداء لأنهم لا يُخضعون ذواتهم وشهواتهم ونظام حياتهم لله ومنهجه وشريعته . ففي هذا تكون العداوة وفي هذا تكون المعركة وفي هذا يكون الجهاد . وليس هنالك أسباب أخرى يعادي فيها المسلم ويعارك ويجاهد . فهو إنما يعادي لله ويعارك لله ويجاهد لله فالصلة وثيقة بين هذه التوجيهات كلها وبين استعراض المعركة في هذا السياق . . كما أن الصلة وثيقة بينها وبين الملابسات الخاصة التي صاحبت هذه المعركة . من مخالفة عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن طمع في الغنيمة نشأت عنه المخالفة . ومن اعتزاز بالذات والهوى نشأ عنه تخلف عبد الله ابن أبيّ ومن معه . ومن ضعف بالذنب نشأ عنه تولي من تولى - كما سيرد في السياق - ومن غبش في التصور نشأ عنه عدم رد الأمور إلى الله ، وسؤال بعضهم : { هل لنا من الأمر من شيء } ؟ وقول بعضهم : { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا } . .
والقرآن يتناول هذه الملابسات كلها ، واحدة واحدة ، فيجلوها ، ويقرر الحقائق فيها ، ويلمس النفوس لمسات موحية تستجيشها وتحييها . . على هذا النحو الفريد الذي نرى نماذج منه في هذا السياق .

بعد ذلك يبدأ السياق في الفقرة الثالثة من الاستعراض فيلمس أحداث المعركة ذاتها ولكنه ما يزال يتوخى تقرير الحقائق الأساسية الأصيلة في التصور الإسلامي ويجعل الأحداث مجرد محور ترتكن إليه هذه الحقائق .
وفي هذه الفقرة يبدأ بالإشارة إلى سنة الله الجارية في المكذبين ليقول للمسلمين إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة ، إنما هو حادث عابر وراءه حكمة خاصة . . ثم يدعوهم إلى الصبر والاستعلاء بالإيمان . فإن يكن أصابتهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها . وإنما هنالك حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها : حكمة تمييز الصفوف ، وتمحيص القلوب واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم ; ووقف المسلمين أمام الموت وجهاً لوجه وقد كانوا يتمنونه ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي ثم في النهاية محق الكافرين بإعداد الجماعة المسلمة ذلك الإعداد المتين . . وإذن فهي الحكمة العليا من وراء الأحداث كلها سواء كانت هي النصر أو هي الهزيمة .
{ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين . . ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون - إن كنتم مؤمنين - أن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين . أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين؟ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } .
لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة وأصابهم القتل والهزيمة . أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير . قتل منهم سبعون صحابياً وكسرت رباعية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشج وجهه وأرهقه المشركون وأثخن أصحابه بالجراح . . وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس ، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم : « أنى هذا؟ » وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون؟
والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض . يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور . فهم ليسوا بدعاً في الحياة ; فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف والأمور لا تمضي جزافاً ، إنما هي تتبع هذه النواميس ، فإذا هم درسوها ، وأدركوا مغازيها ، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث ، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع ، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث ، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام . واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق . ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين ، لينالوا النصر والتمكين ; بدون الأخذ بأسباب النصر ، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول .

والسنن التي يشير إليها السياق هنا ويوجه أبصارهم إليها هي :
عاقبة المكذبين على مدار التاريخ . ومداولة الأيام بين الناس . والابتلاء لتمحيص السرائر ، وامتحان قوة الصبر على الشدائد واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين .
وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال والمواساة في الشدة والتأسية على القرح الذي لم يصبهم وحدهم إنما أصاب أعداءهم كذلك وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفاً وأهدى منهم طريقاً ومنهجاً ، والعاقبة بعد لهم والدائرة على الكافرين .
{ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين } . .
إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها وحاضرها بماضيها فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها . وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم ولم تكن معارفهم ولم تكن تجاربهم - قبل الإسلام - لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة . لولا هذا الإسلام - وكتابه القرآن - الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى وخلق به منهم أمة تقود الدنيا . .
إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة وماجريات حياتهم ; فضلاً على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها فضلاً على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعاً . . وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان إنما حملتها إليهم هذه العقيدة . بل حملتهم إليها وارتقت بهم إلى مستواها في ربع قرن من الزمان . على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ; ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية إلا بعد أجيال وأجيال . . فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية وأنه إلى الله تصير الأمور . . فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله واتسع له تصورها ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان - بعد هذا - إلى مشيئته الطليقة
{ قد خلت من قبلكم سنن } . .
وهي هي التي تحكم الحياة . وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة . فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله - بمشيئة الله - في زمانكم وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم .
{ فسيروا في الأرض } . .
فالأرض كلها وحدة . والأرض كلها مسرح للحياة البشرية . والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر .
{ فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } . .
وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك . . ولقد ذكر القرآن الكريم كثيراً من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة .

بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه . وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل . . وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة : إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغداً . ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة . وكي تحذر الانزلاق مع المكذبين من جهة أخرى . وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير . وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير .
وعلى إثر بيان هذه السنة يتجاوب النداء للعظة والعبرة بهذا البيان :
{ هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين } . .
هذا بيان للناس كافة . فهو نقلة بشرية بعيدة ما كان الناس ببالغيها لولا هذا البيان الهادي . ولكن طائفة خاصة هي التي تجد فيه الهدى ، وتجد فيه الموعظة وتنتفع به وتصل على هداه . . طائفة { المتقين } . .
إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى . والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها . . والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل ، وبالهدى والضلال . . إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل . إنما تنقص الناس الرغبة في الحق ، والقدرة على اختيار طريقه والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه . . لا ينشئهما إلا الإيمان ، ولا يحفظهما إلا التقوى . . ومن ثم تتكرر في القرآن أمثال هذه التقريرات . تنص على أن ما في هذا الكتاب من حق ومن هدى ومن نور ومن موعظة ومن عبرة . . . إنما هي للمؤمنين وللمتقين . فالإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة . وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور والانتفاع بالموعظة والعبرة . . واحتمال مشقات الطريق . . وهذا هو الأمر وهذا هو لب المسألة . . لا مجرد العلم والمعرفة . . فكم ممن يعلمون ويعرفون وهم في حمأة الباطل يتمرغون . إما خضوعاً لشهوة لا يجدي معها العلم والمعرفة وإما خوفاً من أذى ينتظر حملة الحق وأصحاب الدعوة
وبعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوية والتأسية والتثبيت :
{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون . إن كنتم مؤمنين } . .
لا تهنوا - من الوهن والضعف - ولا تحزنوا - لما أصابكم ولما فاتكم - وأنتم الأعلون . . عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه ومنهجكم أعلى . فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله ودوركم أعلى . فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها الهداة لهذه البشرية كلها وهم شاردون عن النهج ضالون عن الطريق . ومكانكم في الأرض أعلى فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها وهم إلى الفناء والنسيان صائرون . . فإن كنتم مؤمنين حقاً فأنتم الأعلون . وإن كنتم مؤمنين حقاً فلا تهنوا ولا تحزنوا . فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص :
{ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله .

وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء . والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } . .
وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله قد يكون إشارة إلى غزوة بدر . وقد مس القرح فيها المشركين وسلم المسلمون . وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد . وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر . حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون وتابعهم المسلمون يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد . حتى رفعته لهم امرأة فلاثوا بها وتجمعوا عليها . . ثم كانت الدولة للمشركين حينما خرج الرماة على أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختلفوا فيما بينهم . فأصاب المسلمين ما أصابهم في نهاية المعركة . جزاء وفاقاً لهذا الاختلاف وذلك الخروج وتحقيقاً لسنة من سنن الله التي لا تتخلف إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة . والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد . وتحقيقاً كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض وهي مداولة الأيام بين الناس - وفقاً لما يبدو من عمل الناس ونيتهم - فتكون لهؤلاء يوماً ولأولئك يوماً . ومن ثم يتبين المؤمنون ويتبين المنافقون . كما تتكشف الأخطاء . وينجلي الغبش .
{ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . . وليعلم الله الذين آمنوا } . .
إن الشدة بعد الرخاء والرخاء بعد الشدة هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس وطبائع القلوب ودرجة الغبش فيها والصفاء ودرجة الهلع فيها والصبر ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح
عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن : مؤمنين ومنافقين ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم . ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده وهم مختلطون مبهمون
والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين . والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور . ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء وتجعله واقعاً في حياة الناس وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر ، وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر ، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء . فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم .
ومداولة الأيام وتعاقب الشدة والرخاء ، محك لا يخطىء وميزان لا يظلم . والرخاء في هذا كالشدة . وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل . والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء وتتجه إلى الله في الحالين وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله .

وقد كان الله يربي هذه الجماعة - وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية - فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب - وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة . لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة . ولتزيد طاعة لله وتوكلاً عليه والتصاقاً بركنه . ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين .
ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس وفيما بعد تمييز الصفوف وعلم الله للمؤمنين :
{ ويتخذ منكم شهداء } . .
وهو تعبير عجيب عن معنى عميق - إن الشهداء لمختارون . يختارهم الله من بين المجاهدين ويتخذهم لنفسه - سبحانه - فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد . إنما هو اختيار وانتقاء وتكريم واختصاص . . إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة ليستخلصهم لنفسه - سبحانه - ويخصهم بقربه .
ثم هم شهداء يتخذهم الله ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس . يستشهدهم فيؤدون الشهادة . يؤدونها أداء لا شبهة فيه ولا مطعن عليه ولا جدال حوله . يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق وتقريره في دنيا الناس . يطلب الله - سبحانه - منهم أداء هذه الشهادة ، على أن ما جاءهم من عنده الحق ; وعلى أنهم آمنوا به وتجردوا له وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه ; وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق ; وعلى أنهم هم استيقنوا هذا فلم يألوا جهداً في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس . . يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون . وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت . وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال
وكل من ينطق بالشهادتين : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . لا يقال له إنه شهد إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها . ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلها . ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا من الله . فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد; وأخص خصائص العبودية التلقي من الله . . ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله . ولا يعتمد مصدراً آخر للتلقي إلا هذا المصدر . .
ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض كما بلغها محمد - صلى الله عليه وسلم - فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس والذي بلغه عنه محمد - صلى الله عليه وسلم - هو المنهج السائد والغالب والمطاع ، وهو النظام الذي يصرّف حياة الناس كلها بلا استثناء .

فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله فهو إذن شهيد . أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها . واتخذه الله شهيداً . . ورزقه هذا المقام .
هذا فقه ذلك التعبير العجيب :
{ ويتخذ منكم شهداء . . } . .
وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ومقتضاه . . لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع
{ والله لا يحب الظالمين } . .
والظلم كثيراً ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك . بوصفه أظلم الظلم وأقبحه . وفي القرآن : { إن الشرك لظلم عظيم } وفي الصحيحين « عن ابن مسعود : أنه قال : قلت : يا رسول الله . أي الذنب أعظم؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك . . . » .
وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين; فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين . فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم الله . والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين . وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد لها مناسبتها الحاضرة . فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه الله ومن يكرهه . وهذا هو مقام الاستشهاد وفي هذا تكون الشهادة; ومن هؤلاء يتخذ الله الشهداء . .
ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث ، في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها وإعدادها لدورها الأعلى ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين وستاراً لقدرته في هلاك المكذبين :
{ وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } . .
والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز . التمحيص عملية تتم في داخل النفس ، وفي مكنون الضمير . . إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية وتسليط الضوء على هذه المكنونات . تمهيداً لإخراج الدخل والدغل والأوشاب وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق بلا غبش ولا ضباب . .
وكثيراً ما يجهل الإنسان نفسه ومخابئها ودروبها ومنحنياتها . وكثيراً ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها وحقيقة ما استكن فيها من رواسب لا تظهر إلا بمثير
وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله - سبحانه - بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء ، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير : محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية .
ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص . . ثم إذا هو يكشف - على ضوء التجربة العملية وفي مواجهة الأحداث الواقعية - إن في نفسه عقابيل لم تمحص . وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه ليعاود المحاولة في سبكها من جديد على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة
والله - سبحانه - كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية وكان يريد بها أمراً في هذه الأرض .

فمحصها هذا التمحيص الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها :
{ ويمحق الكافرين } . .
تحقيقاً لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق ، وخلص من الشوائب بالتمحيص . .
وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات ، وفي النصر والهزيمة وفي العمل والجزاء . ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره وزاده الصبر على مشاق الطريق وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص :
{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين . ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه . فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } . .
إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور : تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان : أسلمت وأنا على استعداد للموت . فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان
إنما هي التجربة الواقعية والامتحان العملي . وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء ثم الصبر على تكاليف الجهاد وعلى معاناة البلاء .
وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى :
{ ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } . . { ويعلم الصابرين } . .
فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون . إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضاً . التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان . فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يُطلب لها الصبر ويختبر بها الإيمان . إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي : معاناة الاستقامة على أفق الإيمان . والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني : في النفس وفي الغير ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية . والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات . والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحداً منها في الطريق المحفوف بالمكاره . طريق الجنة التي لا تنال بالأمانيّ وبكلمات اللسان
{ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه . فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } . .
وهكذا يقفهم السياق وجهاً لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه . ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان ووزن الحقيقة يواجهها في العيان . فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حساباً لكل كلمة تطلقها ألسنتهم ، ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم وبذلك يقدرون قيمة الكلمة وقيمة الأمنية وقيمة الوعد في ضوء الواقع الثقيل ثم يعلمهم أن ليست الكلمات الطائرة والأماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة إنما هو تحقيق الكلمة وتجسيم الأمنية والجهاد الحقيقي والصبر على المعاناة .

حتى يعلم الله منهم ذلك كله واقعاً كائناً في دنيا الناس
ولقد كان الله - سبحانه - قادراً على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى وبلا كد من المؤمنين ولا عناء . وكان قادراً أن ينزل الملائكة تقاتل معهم - أو بدونهم - وتدمر على المشركين كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط . .
ولكن المسألة ليست هي النصر . . إنما هي تربية الجماعة المسلمة التي تعد لتتسلم قيادة البشرية . . البشرية بكل ضعفها ونقصها ; وبكل شهواتها ونزواتها ; وبكل جاهليتها وانحرافها . . وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعداداً عالياً من القادة . وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق وثبات على الحق وصبر على المعاناة ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف ووسائل العلاج . . ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة . وصبر على الشدة بعد الرخاء . وطعمها يومئذ لاذع مرير . .
وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق الذي ينوطه بها في هذه الأرض . وقد شاء - سبحانه - أن يجعل هذا الدور من نصيب « الإنسان » الذي استخلفه في هذا الملك العريض
وقدر الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه بشتى الأسباب والوسائل وشتى الملابسات والوقائع . . يمضي أحياناً عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة فتستبشر وترتفع ثقتها بنفسها - في ظل العون الإلهي - وتجرب لذة النصر وتصبر على نشوته وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء وعلى التزام التواضع والشكر لله . . ويمضي أحياناً عن طريق الهزيمة والكرب والشدة . فتلجأ إلى الله . وتعرف حقيقة قوتها الذاتية وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله . وتجرب مرارة الهزيمة; وتستعلي مع ذلك على الباطل بما عندها من الحق المجرد; وتعرف مواضع نقصها وضعفها ومداخل شهواتها ومزالق أقدامها; فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة . . وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد . . ويمضي قدر الله وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد . .
وقد كان هذا كله طرفاً من رصيد معركة أحد; الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسلمة - على نحو ما نرى في هذه الآيات - وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال المسلمين .
ثم يمضي السياق في تقرير حقائق التصور الإسلامي الكبيرة; وفي تربية الجماعة المسلمة بهذه الحقائق; متخذاً من أحداث المعركة محوراً لتقرير تلك الحقائق; ووسيلة لتربية الجماعة المسلمة بها على طريقة المنهج القرآني الفريد :
{ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً; وسيجزي الله الشاكرين .

وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً; ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها; وسنجزي الشاكرين . وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين } . .
إن الآية الأولى في هذه الفقرة تشير إلى واقعة معينة حدثت في غزوة أحد . ذلك حين انكشف ظهر المسلمين بعد أن ترك الرماة أماكنهم من الجبل فركبه المشركون وأوقعوا بالمسلمين وكسرت رباعية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشج وجهه ونزفت جراحه ; وحين اختلطت الأمور وتفرق المسلمون لا يدري أحدهم مكان الآخر . . حينئذ نادى مناد : إن محمداً قد قتل . . وكان لهذه الصيحة وقعها الشديد على المسلمين . فانقلب الكثيرون منهم عائدين إلى المدينة مصعدين في الجبل منهزمين تاركين المعركة يائسين . . لولا أن ثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك القلة من الرجال ; وجعل ينادي المسلمين وهم منقلبون حتى فاءوا إليه وثبت الله قلوبهم وأنزل عليهم النعاس أمنة منه وطمأنينة . . كما سيجيء . .
فهذه الحادثة التي أذهلتهم هذا الذهول . يتخذها القرآن هنا مادة للتوجيه ومناسبة لتقرير حقائق التصور الإسلامي ; ويجعلها محوراً لإشارات موحية في حقيقة الموت وحقيقة الحياة وفي تاريخ الإيمان ومواكب المؤمنين :
{ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً . وسيجزي الله الشاكرين } . .
إن محمداً ليس إلا رسولاً . سبقته الرسل . وقد مات الرسل . ومحمد سيموت كما مات الرسل قبله . . هذه حقيقة أولية بسيطة . فما بالكم غفلتم عنها حينما واجهتكم في المعركة؟
إن محمداً رسول من عند الله جاء ليبلغ كلمة الله . والله باق لا يموت وكلمته باقية لا تموت . . وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل . . وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول . وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة
إن البشر إلى فناء والعقيدة إلى بقاء ، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس من الرسل والدعاة على مدار التاريخ . . والمسلم الذي يحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيراً . الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة .

وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحداً إثر واحد . . وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم وبكل مشاعرهم حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره - صلى الله عليه وسلم - . . هذا المسلم الذي يحب محمداً ذلك الحب مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد - صلى الله عليه وسلم - والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت .
إن الدعوة أقدم من الداعية :
{ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } . .
قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن العميقة في منابت التاريخ المبتدئة مع البشرية تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق .
وهي أكبر من الداعية وأبقى من الداعية . فدعاتها يجيئون ويذهبون وتبقى هي على الأجيال والقرون ويبقى أتباعها موصولين بمصدرها الأول الذي أرسل بها الرسل وهو باق - سبحانه - يتوجه إليه المؤمنون . . وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه ويرتد عن هدى الله . والله حي لا يموت :
ومن ثم هذا الاستنكار وهذا التهديد وهذا البيان المنير :
{ أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً . وسيجزي الله الشاكرين } . .
وفي التعبير تصوير حي للارتداد : { انقلبتم على أعقابكم } . . { ومن ينقلب على عقبيه } . فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة كأنه منظر مشهود . والمقصود أصلاً ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف : إن محمداً قد قتل فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين وانتهى أمر الجهاد للمشركين فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب كارتدادهم في المعركة على الأعقاب وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس - رضي الله عنه - فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم وقالوا له : إن محمداً قد مات : « فما تصنعون بالحياة من بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم » .
{ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً } . .
فإنما هو الخاسر الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق . . وانقلابه لن يضر الله شيئاً . فالله غني عن الناس وعن إيمانهم . ولكنه - رحمة منه بالعباد - شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم ولخيرهم هم . وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله . وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق وتعوج الأمور كلها ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة وتستقيم في ظله النفوس وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها والسلام مع الكون الذي تعيش فيه .

{ وسيجزي الله الشاكرين } . .
الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج فيشكرونها باتباع المنهج ويشكرونها بالثناء على الله ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيباً على شكرهم ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة وهو أكبر وأبقى . .
وكأنما أراد الله - سبحانه - بهذه الحادثة وبهذه الآية أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حي بينهم . وأن يصلهم مباشرة بالنبع . النبع الذي لم يفجره محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكن جاء فقط ليومىء إليه ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق كما أومأ إليه من قبله من الرسل ودعوا القافلة إلى الارتواء منه
وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يأخذ بأيديهم فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى . العروة التي لم يعقدها محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون
وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط . حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو يقتل فهم إنما بايعوا الله . وهم أمام الله مسؤولون
وكأنما كان الله - سبحانه - يعدّ الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى - حين تقع - وهو - سبحانه - يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم . فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب وأن يصلهم به هو وبدعوته الباقية قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول .
ولقد أصيبوا - حين وقعت بالفعل - بالدهش والذهول . حتى لقد وقف عمر - رضي الله عنه - شاهراً سيفه يهدد به من يقول : إن محمداً قد مات
ولم يثبت إلا أبو بكر الموصول القلب بصاحبه وبقدر الله فيه الاتصال المباشر الوثيق . وكانت هذه الآية - حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين - هي النداء الإلهي المسموع فإذا هم يثوبون ويرجعون
ثم يلمس السياق القرآني مكمن الخوف من الموت في النفس البشرية لمسة موحية تطرد ذلك الخوف عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة وما بعد الحياة والموت من حكمة لله وتدبير ومن ابتلاء للعباد وجزاء :
{ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً . ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ; ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها .

وسنجزي الشاكرين } . .
إن لكل نفس كتاباً مؤجلاً إلى أجل مرسوم . ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الأجل المرسوم . فالخوف والهلع والحرص والتخلف لا تطيل أجلاً . والشجاعة والثبات والإقدام والوفاء لا تقصر عمراً . فلا كان الجبن ولا نامت أعين الجبناء . والأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد
بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس ، فتترك الاشتغال به ولا تجعله في الحساب وهي تفكر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانية . وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع . وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته في صبر وطمأنينة وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده .
ثم ينتقل بالنفس خطوة وراء هذه القضية التي حسم فيها القول . . فإنه إذا كان العمر مكتوباً والأجل مرسوماً . . فلتنظر نفس ما قدمت لغد ; ولتنظر نفس ماذا تريد . . أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان وأن تحصر همها كله في هذه الأرض وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها؟ أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى وإلى اهتمامات أرفع وإلى حياة أكبر من هذه الحياة؟ . . مع تساوي هذا الهم وذاك فيما يختص بالعمر والحياة؟
{ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها . ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها } .
وشتان بين حياة وحياة وشتان بين اهتمام واهتمام - مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل - والذي يعيش لهذه الأرض وحدها ويريد ثواب الدنيا وحدها . . إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب . والذي يتطلع إلى الأفق الآخر . . إنما يحيا حياة « الإنسان » الذي كرمه الله واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب . . { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً } . .
{ وسنجزي الشاكرين } . .
الذين يدركون نعمة التكريم الإلهي للإنسان فيرتفعون عن مدارج الحيوان ; ويشكرون الله على تلك النعمة فينهضون بتبعات الإيمان . .
وهكذا يقرر القرآن حقيقة الموت والحياة وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء وفق ما يريدونه لأنفسهم من اهتمام قريب كاهتمام الدود أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان وبذلك ينقل النفس من الإنشغال بالخوف من الموت والجزع من التكاليف - وهي لا تملك شيئاً في شأن الموت والحياة - إلى الإنشغال بما هو أنفع للنفس في الحقل الذي تملكه وتملك فيه الاختيار . فتختار الدنيا أو تختار الآخرة . وتنال من جزاء الله ما تختار
ثم يضرب الله للمسلمين المثل من إخوانهم المؤمنين قبلهم . من موكب الإيمان اللاحب الممتد على طول الطريق ، الضارب في جذور الزمان . . من أولئك الذين صدقوا في إيمانهم ، وقاتلوا مع أنبيائهم ، فلم يجزعوا عند الابتلاء; وتأدبوا - وهم مقدمون على الموت - بالأدب الإيماني في هذا المقام . . مقام الجهاد . . فلم يزيدوا على أن يستغفروا ربهم; وأن يجسموا أخطاءهم فيروها « إسرافاً » في أمرهم .

وأن يطلبوا من ربهم الثبات والنصر على الكفار . . وبذلك نالوا ثواب الدارين جزاء إحسانهم في أدب الدعاء وإحسانهم في موقف الجهاد . وكانوا مثلاً يضربه الله للمسلمين :
{ وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا . والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ; وثبت أقدامنا; وانصرنا على القوم الكافرين . فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة . والله يحب المحسنين } . .
لقد كانت الهزيمة في « أحد » ، هي أول هزيمة تصدم المسلمين ، الذين نصرهم الله ببدر وهم ضعاف قليل; فكأنما وقر في نفوسهم أن النصر في كل موقعة هو السنة الكونية . فلما أن صدمتهم أحد ، فوجئوا بالابتلاء كأنهم لا ينتظرونه
ولعله لهذا طال الحديث حول هذه الواقعة في القرآن الكريم . واستطرد السياق يأخذ المسلمين بالتأسية تارة ، وبالاستنكار تارة وبالتقرير تارة وبالمثل تارة تربية لنفوسهم وتصحيحاً لتصورهم ، وإعداداً لهم . فالطريق أمامهم طويل والتجارب أمامهم شاقة والتكاليف عليهم باهظة والأمر الذي يندبون له عظيم .
والمثل الذي يضربه لهم هنا مثل عام ، لا يحدد فيه نبياً ولا يحدد فيه قوماً . إنما يربطهم بموكب الإيمان; ويعلمهم أدب المؤمنين; ويصور لهم الابتلاء كأنه الأمر المطرد في كل دعوة وفي كل دين; ويربطهم بأسلافهم من اتباع الأنبياء; ليقرر في حسهم قرابة المؤمنين للمؤمنين; ويقر في أخلادهم أن أمر العقيدة كله واحد . وإنهم كتيبة في الجيش الإيماني الكبير :
{ وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير . فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا } . .
. . وكم من نبي قاتلت معه جماعات كثيرة . فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلاء والكرب والشدة والجراح . وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح ، وما استسلموا للجزع ولا للأعداء . . فهذا هو شأن المؤمنين المنافحين عن عقيدة ودين . .
{ والله يحب الصابرين } . .
الذين لا تضعف نفوسهم ولا تتضعضع قواهم ولا تلين عزائمهم ولا يستكينون أو يستسلمون . . والتعبير بالحب من الله للصابرين . له وقعه . وله إيحاؤه . فهو الحب الذي يأسو الجراح ويمسح على القرح ويعوض ويربو عن الضر والقرح والكفاح المرير
وإلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلاء المؤمنين في موقفهم من الشدة والابتلاء . فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم . صورة الأدب في حق الله وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس ويقيدها بالخطر الراهق لا تتعداه . ولكنه لا يذهل نفوس المؤمنين عن التوجه إلى الله . . لا لتطلب النصر أول ما تطلب - وهو ما يتبادر عادة إلى النفوس - ولكن لتطلب العفو والمغفرة ، ولتعترف بالذنب والخطيئة قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء :
{ وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } .

.
إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء . بل لم يطلبوا ثواباً ولا جزاء . . لم يطلبوا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة . لقد كانوا أكثر أدباً مع الله وهم يتوجهون إليه بينما هم يقاتلون في سبيله . فلم يطلبوا منه - سبحانه - إلا غفران الذنوب وتثبيت الأقدام . . والنصر على الكفار . فحتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبونه هزيمة للكفر وعقوبة للكفار . . إنه الأدب اللائق بالمؤمنين في حق الله الكريم .
وهؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئاً أعطاهم الله من عنده كل شيء . أعطاهم من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة . وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه :
{ فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة } . .
وشهد لهم - سبحانه - بالإحسان . فقد أحسنوا الأدب وأحسنوا الجهاد وأعلن حبه لهم وهو أكبر من النعمة وأكبر من الثواب :
{ والله يحب المحسنين } . .
وهكذا تنتهي هذه الفقرة في الاستعراض ; وقد تضمنت تلك الحقائق الكبيرة في التصور الإسلامي . وقد أدت هذا الدور في تربية الجماعة المسلمة . وقد ادخرت هذا الرصيد للأمة المسلمة في كل جيل . .
ثم يمضي السياق خطوة أخرى في استعراض أحداث المعركة ; واتخاذها محوراً للتعقيبات يتوخى بها تصحيح التصور وتربية الضمائر والتحذير من مزالق الطريق والتنبيه إلى ما يحيط بالجماعة المسلمة من الكيد وما يبيته لها أعداؤها المتربصون :
ولقد كانت الهزيمة في أحد مجالاً لدسائس الكفار والمنافقين واليهود في المدينة . وكانت المدنية لم تخلص بعد للإسلام ; بل لا يزال المسلمون فيها نبتة غريبة إلى حد كبير . نبتة غريبة أحاطتها « بدر » بسياج من الرهبة بما كان فيها من النصر الأبلج . فلما كانت الهزيمة في أحد تغير الموقف إلى حد كبير ; وسنحت الفرصة لهؤلاء الأعداء المتربصين أن يظهروا أحقادهم وأن ينفثوا سمومهم ; وأن يجدوا في جو الفجائع التي دخلت كل بيت من بيوت المسلمين - وبخاصة بيوت الشهداء ومن أصابتهم الجراح المثخنة - ما يساعد على ترويج الكيد والدس والبلبلة في الأفكار والصفوف .
وفي هذه الفقرة التالية من الاستعراض القرآني الموجه - وهي تمثل جسم المعركة وأضخم مشاهدها - نسمع الله سبحانه يدعو الذين آمنوا ليحذرهم من طاعة الذين كفروا ; ونسمعه - سبحانه - يعدهم النصر على عدوهم وإلقاء الرعب في قلبه ; ويذكرهم بالنصر الذي حققه لهم في أول المعركة حسب وعده لهم ; والذي إنما أضاعوه هم بضعفهم ونزاعهم وخلافهم عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يستحضر مشهد المعركة بشطريه في صورة فائضة بالحيوية والحركة . ثم ما أعقب الهزيمة والفزع من إنزال الطمأنينة في قلوب المؤمنين منهم ; بينما القلق والحيرة والحسرة تأكل قلوب المنافقين الذين ساء ظنهم بالله سبحانه .

ويكشف لهم كذلك عن جانب من حكمته الخفية وتدبيره اللطيف في سير الأحداث سيرتها تلك مع تقرير حقيقة قدر الله في آجال العباد . ويحذرهم في نهاية هذه الفقرة من ضلال التصورات التي يشيعها الكفار في قضية الموت والاستشهاد . ويردهم إلى حقيقة البعث التي ينتهي إليها الناس . . ماتوا أو قتلوا . . وإلى أنهم مرجوعون إلى الله على كل حال :
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين . . بل الله مولاكم وهو خير الناصرين . سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً; ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين . إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم; فأثابكم غماً بغم لكي لا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون . ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون : هل لنا من الأمر من شيء؟ قل : إن الأمر كله لله . يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك . يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا . قل : لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم; والله عليم بذات الصدور . إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا; ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم . يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم - إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزًّى - : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم . والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير . ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون } . .
وحين ننظر في هذه المجموعة من الآيات نظرة فاحصة نجدها قد ضمت جوانحها على حشد ضخم من المشاهد الفائضة بالحيوية ومن الحقائق الكبيرة الأصيلة في التصور الإسلامي وفي الحياة الإنسانية . وفي السنن الكونية . . نجدها تصور المعركة كلها بلمسات سريعة حية متحركة عميقة فلا تدع منها جانباً إلا سجلته تسجيلاً يستجيش المشاعر والخواطر; وهي بدون شك أشد حيوية وأشد استحضاراً للمعركة بجوها وملابساتها ووقائعها وبكل الخلجات النفسية والحركات الشعورية المصاحبة لها .

. من كل تصوير آخر ورد في روايات السيرة - على طولها وتشعبها - ثم نجدها تضم جوانحها على ذلك الحشد من الحقائق في صورتها الحية الفاعلة في النفوس البانية للتصور الصحيح .
وما من شك أن احتشاد هذه المشاهد كلها وهذه الحقائق كلها في هذا القدر من الألفاظ والعبارات - مع حيويتها وحركتها وإيحائها على هذا النحو - أمر غير معهود في التعبير البشري . يدرك ذلك من يدركون أسرار الأساليب وطاقات الأداء وبخاصة من يعالجون منهم التعبير ويعانون أسرار الأداء
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين . بل الله مولاكم وهو خير الناصرين } . .
لقد انتهز الكفار والمنافقون واليهود في المدينة ما أصاب المسلمين من الهزيمة والقتل والقرح ليثبطوا عزائمهم ويخوفوهم عاقبة السير مع محمد ويصوروا لهم مخاوف القتال وعواقب الاشتباك مع مشركي قريش وحلفائهم . . وجو الهزيمة هو أصلح الأجواء لبلبلة القلوب وخلخلة الصفوف وإشاعة عدم الثقة في القيادة; والتشكيك في جدوى الإصرار على المعركة مع الأقوياء; وتزيين الانسحاب منها ومسالمة المنتصرين فيها مع إثارة المواجع الشخصية والألام الفردية; وتحويلها كلها لهدم كيان الجماعة ثم لهدم كيان العقيدة ثم للاستسلام للأقوياء الغالبين
ومن ثم يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا . فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة وليس فيها ربح ولا منفعة . فيها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر . فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار ويكافح الباطل والمبطلين وإما أن يرتد على عقبيه كافراً - والعياذ بالله - ومحال أن يقف سلبياً بين بين محافظاً على موقفه ومحتفظاً بدينه . . إنه قد يخيل إليه هذا . . يخيل إليه في أعقاب الهزيمة وتحت وطأة الجرح والقرح أنه مستطيع أن ينسحب من المعركة مع الأقوياء الغالبين وأن يسالمهم ويطيعهم وهو مع هذا محتفظ بدينه وعقيدته وإيمانه وكيانه وهو وهم كبير . فالذي لا يتحرك إلى الأمام في هذا المجال لا بد أن يرتد إلى الوراء والذي لا يكافح الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان لا بد أن يتخاذل ويتقهقر ويرتد على عقبيه إلى الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان والذي لا تعصمه عقيدته ولا يعصمه إيمانه من طاعة الكافرين والاستماع إليهم والثقة بهم يتنازل - في الحقيقة - عن عقيدته وإيمانه منذ اللحظة الأولى . . إنها الهزيمة الروحية أن يركن صاحب العقيدة إلى أعداء عقيدته وأن يستمع إلى وسوستهم وأن يطيع توجيهاتهم . . الهزيمة بادىء ذي بدء . فلا عاصم له من الهزيمة في النهاية والارتداد على عقبيه إلى الكفر ولو لم يحس في خطواته الأولى أنه في طريقه إلى هذا المصير البائس . . إن المؤمن يجد في عقيدته وفي قيادته غناء عن مشورة أعداء دينه وأعداء قيادته .

فإذا استمع إلى هؤلاء مرة فقد سار في طريق الارتداد على الأعقاب . . حقيقة فطرية وحقيقة واقعية ينبه الله المؤمنين لها ويحذرهم إياها وهو يناديهم باسم الإيمان :
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين } . .
وأية خسارة بعد خسارة الارتداد على الأعقاب من الإيمان إلى الكفر؟ وأي ربح يتحقق بعد خسارة الإيمان؟
وإذا كان مبعث الميل إلى طاعة الذين كفروا هو رجاء الحماية والنصرة عندهم فهو وهم يضرب السياق صفحا عنه ليذكرهم بحقيقة النصرة والحماية :
{ بل الله مولاكم وهو خير الناصرين } .
فهذه هي الجهة التي يطلب المؤمنون عندها الولاية ويطلبون عندها النصرة . ومن كان الله مولاه فما حاجته بولاية أحد من خلقه؟ ومن كان الله ناصره فما حاجته بنصرة أحد من العبيد؟
ثم يمضي السياق يثبت قلوب المسلمين ويبشرهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم بسبب إشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطاناً ولم يجعل له قوة وقدرة . وذلك فوق عذاب الآخرة المهيأ للظالمين :
{ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً . ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين } . .
والوعد من الله الجليل القادر القاهر بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا كفيل بنهاية المعركة وضمان لهزيمة أعدائه ونصر أوليائه . .
وهو وعد قائم في كل معركة يلتقي فيها الكفر بالإيمان . فما يلقى الذين كفروا الذين آمنوا حتى يخافوهم ويتحرك الرعب الملقى من الله في قلوبهم . ولكن المهم أن توجد حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين . حقيقة الشعور بولاية الله وحده والثقة المطلقة بهذه الولاية والتجرد من كل شائبة من شك في أن جند الله هم الغالبون وأن الله غالب على أمره وأن الذين كفروا غير معجزين في الأرض ولا سابقين لله سبحانه والتعامل مع وعد الله هذا مهما تكن ظواهر الأمور تخالفه فوعد الله أصدق مما تراه عيون البشر وتقدره عقولهم
إنه الرعب لأن قلوبهم خاوية من السند الصحيح . لأنهم لا يستندون إلى قوة ولا إلى ذي قوة . إنهم أشركوا بالله آلهة لا سلطان لها لأن الله لم يمنحها سلطاناً .
والتعبير : { ما لم ينزل به سلطاناً } ذو معنى عميق وهو يصادفنا في القرآن كثيراً . مرة توصف به الآلهة المدعاة ، ومرة توصف به العقائد الزائفة . . وهو يشير إلى حقيقة أساسية عميقة :
إن أية فكرة أو عقيدة أو شخصية أو منظمة . . إنما تحيا وتعمل وتؤثر بمقدار ما تحمل من قوة كامنة وسلطان قاهر . هذه القوة تتوقف على مقدار ما فيها من « الحق » أي بمقدار ما فيها من توافق مع القاعدة التي أقام الله عليها الكون ومع سنن الله التي تعمل في هذا الكون . وعندئذ يمنحها الله القوة والسلطان الحقيقيين الفاعلين المؤثرين في هذا الوجود . وإلا فهي زائفة باطلة ضعيفة واهية مهما بدا فيها من قوة والتماع وانتفاش
والمشركون يشركون مع الله آلهة أخرى - في صور شتى - ويقوم الشرك ابتداء على إعطاء غير الله - سبحانه - شيئاً ما من خصائص الألوهية ومظاهرها وفي مقدمة هذه الخصائص حق التشريع للعباد في شؤون حياتهم كلها; وحق وضع القيم التي يتحاكم إليها العباد في سلوكهم وفي مجتمعاتهم; وحق الاستعلاء على العباد وإلزامهم بالطاعة لتلك التشريعات والاعتبار لهذه القيم .

. ثم تأتي مسألة العبادة الشعائرية ضمن إعطاء هذه الخصائص لغير الله سبحانه وواحدة منها
فماذا تحمل هذه الآلهة من الحق الذي أقام الله عليه الكون؟ إن الله الواحد خلق هذا الكون لينتسب إلى خالقه الواحد; وخلق هذه الخلائق لتقر له بالعبودية وحده بلا شريك; ولتتلقى منه الشريعة والقيم بلا منازع; ولتعبده وحده حق عبادته بلا أنداد . . فكل ما يخرج على قاعدة التوحيد في معناها الشامل فهو زائف باطل مناقض للحق الكامن في بنية الكون . ومن ثم فهو واهٍ هزيل لا يحمل قوة ولا سلطاناً ولا يملك أن يؤثر في مجرى الحياة ; بل لا يملك عناصر الحياة ولا حق الحياة
وما دام أولئك المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطاناً; من الآلهة والعقائد والتصورات فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء وهم أبداً خوارون ضعفاء; وهم أبداً في رعب حيثما التقوا بالمؤمنين المرتكنين إلى الحق ذي السلطان . .
وإننا لنجد مصداق هذا الوعد كلما التقى الحق والباطل . . وكم من مرة وقف الباطل مدججاً بالسلاح أمام الحق الأعزل . ومع ذلك كان الباطل يحتشد احتشاد المرعوب ويرتجف من كل حركة وكل صوت - وهو في حشده المسلح المحشود فأما إذا أقدم الحق وهاجم فهو الذعر والفزع والشتات والاضطراب في صفوف الباطل; ولو كانت له الحشود وكان للحق القلة تصديقاً لوعد الله الصادق :
{ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً } . .
ذلك في الدنيا . فأما في الآخرة . . فهناك المصير المحزن البائس الذي يليق بالظالمين .
{ ومأواهم النار . وبئس مثوى الظالمين } . .
وهنا يردهم السياق إلى مصداق وعد الله هذا في غزوة أحد ذاتها . فقد كان لهم النصر الساحق في أوائلها . ولقد استحر القتل في المشركين حتى ولوا الأدبار وتركوا وراءهم الغنائم وسقط لواؤهم فلم تمتد يد لرفعه حتى رفعته لهم امرأة . . ولم ينقلب النصر هزيمة للمسلمين إلا حين ضعفت نفوس الرماة أمام إغراء الغنائم; وتنازعوا فيما بينهم وخالفوا عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبيهم وقائدهم . . وهنا يردهم السياق إلى صميم المعركة ومشاهدها ومواقفها وأحداثها وملابساتها في حيوية عجيبة :
{ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم - من بعد ما أراكم ما تحبون : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة .

ثم صرفكم عنهم ليبتليكم . ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين . إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غماً بغم لكي لا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم . والله خبير بما تعملون . ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون : هل لنا من الأمر من شيء؟ قل : إن الأمر كله لله . يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك . يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا . قل : لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم . وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور . إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا . ولقد عفا الله عنهم . إن الله غفور حليم } . .
إن التعبير القرآني هنا ليرسم مشهداً كاملاً لمسرح المعركة ولتداول النصر والهزيمة . مشهداً لا يترك حركة في الميدان ولا خاطرة في النفوس ولا سمة في الوجوه ولا خالجة في الضمائر إلا ويثبتها . . وكأن العبارات شريط مصور يمر بالبصر ويحمل في كل حركة صوراً جديدة نابضة . وبخاصة حين يصور حركة الإصعاد في الجبل والهروب في دهش وذعر ودعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - للفارين المرتدين عن المعركة المصعدين للهرب . يصحب ذلك كله حركة النفوس وما يدور فيها من خوالج وخواطر وانفعالات ومطامع . . ومع هذا الحشد من الصور الحية المتحركة النابضة تلك التوجيهات والتقريرات التي يتميز بها أسلوب القرآن ومنهج القرآن التربوي العجيب :
{ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } . .
وكان ذلك في مطالع المعركة حيث بدأ المسلمون يحسون المشركين أي يخمدون حسهم أو يستأصلون شأفتهم . قبل أن يلهيهم الطمع في الغنيمة . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال لهم : « لكم النصر ما صبرتم » فصدقهم الله وعده على لسان نبيه .
{ حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } . .
وهو تقرير لحال الرماة . وقد ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة ; ووقع النزاع بينهم وبين من يرون الطاعة المطلقة لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتهى الأمر إلى العصيان . بعد ما رأوا بأعينهم طلائع النصر الذي يحبونه . فكانوا فريقين : فريقاً يريد غنيمة الدنيا وفريقاً يريد ثواب الآخرة . وتوزعت القلوب فلم يعد الصف وحدة ولم يعد الهدف واحداً . وشابت المطامع جلاء الإخلاص والتجرد الذي لا بد منه في معركة العقيدة . فمعركة العقيدة ليست ككل معركة .

إنها معركة في الميدان ومعركة في الضمير . ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير . إنها معركة لله فلا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم له .
وما داموا يرفعون راية الله وينتسبون إليها فإن الله لا يمنحهم النصر إلا إذا محصهم ومحضهم للراية التي رفعوها ; كي لا يكون هناك غش ولا دخل ولا تمويه بالراية . ولقد يغلب المبطلون الذين يرفعون راية الباطل صريحة في بعض المعارك - لحكمة يعلمها الله - أما الذين يرفعون راية العقيدة ولا يخلصون لها إخلاص التجرد فلا يمنحهم الله النصر أبداً حتى يبتليهم فيتمحصوا ويتمحضوا . . وهذا ما يريد القرآن أن يجلوه للجماعة المسلمة بهذه الإشارة إلى موقفهم في المعركة وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للجماعة المسلمة وهي تتلقى الهزيمة المريرة والقرح الأليم ثمرة لهذا الموقف المضطرب المتأرجح
{ منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } . .
والقرآن يسلط الأضواء على خفايا القلوب التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم . . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد الدنيا ، حتى نزل فينا يوم أحد : { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } . . وبذلك يضع قلوبهم أمامهم مكشوفة بما فيها ; ويعرفهم من أين جاءتهم الهزيمة ليتقوها
وفي الوقت ذاته يكشف لهم عن طرف من حكمة الله وتدبيره ، وراء هذه الآلام التي تعرضوا لها ; ووراء هذه الأحداث التي وقعت بأسبابها الظاهرة :
{ ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } . .
لقد كان هناك قدر الله وراء أفعال البشر . فلما أن ضعفوا وتنازعوا وعصوا صرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين وصرف الرماة عن ثغرة الجبل وصرف المقاتلين عن الميدان فلاذوا بالفرار . . وقع كل هذا مرتباً على ما صدر منهم ; ولكن مدبراً من الله ليبتليهم . . ليبتليهم بالشدة والخوف والهزيمة والقتل والقرح ; وما يتكشف عنه هذا كله من كشف مكنونات القلوب ومن تمحيص النفوس وتمييز الصفوف - كما سيجيء .
وهكذا تقع الأحداث مرتبة على أسبابها وهي في الوقت ذاته مدبرة بحسابها . بلا تعارض بين هذا وذاك . فلكل حادث سبب ووراء كل سبب تدبير . . من اللطيف الخبير . .
{ ولقد عفا عنكم } . .
عفا عما وقع منكم من ضعف ومن نزاع ومن عصيان ; وعفا كذلك عما وقع منكم من فرار وانقلاب وارتداد . . عفا عنكم فضلاً منه ومنة وتجاوزاً عن ضعفكم البشري الذي لم تصاحبه نية سيئة ولا إصرار على الخطيئة . . عفا عنكم لأنكم تخطئون وتضعفون في دائرة الإيمان بالله والاستسلام له وتسليم قيادكم لمشيئته :
{ والله ذو فضل على المؤمنين } . .
ومن فضله عليهم أن يعفو عنهم ما داموا سائرين على منهجه مقرين بعبوديتهم له ; لا يدعون من خصائص الألوهية شيئاً لأنفسهم ولا يتلقون نهجهم ولا شريعتهم ولا قيمهم ولا موازينهم إلا منه .

. فإذا وقعت منهم الخطيئة وقعت عن ضعف وعجز أو عن طيش ودفعة . . فيتلقاهم عفو الله بعد الابتلاء والتمحيص والخلاص . .
ويستحضر صورة الهزيمة حية متحركة :
{ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، والرسول يدعوكم في أخراكم } . .
كي يعمق وقع المشهد في حسهم ; ويثير الخجل والحياء من الفعل ومقدماته التي نشأ عنها من الضعف والتنازع والعصيان . . والعبارة ترسم صورة حركتهم الحسية وحركتهم النفسية في ألفاظ قلائل . . فهم مصعدون في الجبل هرباً في اضطراب ورعب ودهش لا يلتفت أحد منهم إلى أحد ولا يجيب أحد منهم داعي أحد والرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم ، ليطمئنهم على حياته بعد ما صاح صائح : إن محمداً قد قتل فزلزل ذلك قلوبهم وأقدامهم . . إنه مشهد كامل في ألفاظ قلائل . .
وكانت النهاية أن يجزيهم الله على الغم الذي تركوه في نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - بفرارهم غماً يملأ نفوسهم على ما كان منهم ، وعلى تركهم رسولهم الحبيب يصيبه ما أصابه - وهو ثابت دونهم وهم عنه فارون - ذلك كي لا يحفلوا شيئاً فاتهم ولا أذى أصابهم . فهذه التجربة التي مرت بهم وهذا الألم الذي أصاب نبيهم - وهو أشق عليهم من كل ما نزل بهم - وذلك الندم الذي ساور نفوسهم وذلك الغم الذي أصابهم . . كل ذلك سيصغر في نفوسهم كلّ ما يفوتهم من عرض وكل ما يصيبهم من مشقة :
{ فأثابكم غماً بغم لكي لا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } . .
والله المطلع على الخفايا يعلم حقيقة أعمالكم ودوافع حركاتكم :
{ والله خبير بما تعملون } . .
ولقد أعقب هول الهزيمة وذعرها وهرجها ومرجها سكون عجيب . سكون في نفوس المؤمنين الذين ثابوا إلى ربهم وثابوا إلى نبيهم . لقد شملهم نعاس لطيف يستسلمون إليه مطمئنين
والتعبير عن هذه الظاهرة العجيبة يشف ويرق وينعم حتى ليصور بجرسه وظله ذلك الجو المطمئن الوديع :
{ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم } . .
وهي ظاهرة عجيبة تشي برحمة الله التي تحف بعباده المؤمنين ; فالنعاس حين يلم بالمجهدين المرهقين المفزعين ولو لحظة واحدة يفعل في كيانهم فعل السحر ويردهم خلقاً جديداً ويسكب في قلوبهم الطمأنينة كما يسكب في كيانهم الراحة . بطريقة مجهولة الكنه والكيف أقول هذا وقد جربته في لحظة كرب وشدة . فأحسست فيه رحمة الله الندية العميقة بصورة تعجز عن وصفها العبارة البشرية القاصرة
روى الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال : « رفعت رأسي يوم أحد وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت جحفته من النعاس » .

وفي رواية أخرى عن أبي طلحة : « غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه » . .
أما الطائفة الأخرى; فهم ذوو الإيمان المزعزع الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم والذين لم يتخلصوا من تصورات الجاهلية ولم يسلموا أنفسهم كلها لله خالصة ولم يستسلموا بكليتهم لقدره ولم تطمئن قلوبهم إلى أن ما أصابهم إنما هو ابتلاء للتمحيص وليس تخلياً من الله عن أوليائه لأعدائه ولا قضاء منه - سبحانه - للكفر والشر والباطل بالغلبة الأخيرة والنصر الكامل :
{ وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية . يقولون : هل لنا من الأمر من شيء؟ } . .
إن هذه العقيدة تعلم أصحابها - فيما تعلم - أن ليس لهم في أنفسهم شيء فهم كلهم لله ; وأنهم حين يخرجون للجهاد في سبيله يخرجون له ويتحركون له ويقاتلون له بلا هدف آخر لذواتهم في هذا الجهاد وأنهم يسلمون أنفسهم لقدره فيتلقون ما يأتيهم به هذا القدر في رضى وفي تسليم كائناً هذا القدر ما يكون .
فأما الذين تهمهم أنفسهم وتصبح محور تفكيرهم وتقديرهم ومحور اهتمامهم وانشغالهم . . فهؤلاء لم تكتمل في نفوسهم حقيقة الإيمان . ومن هؤلاء كانت تلك الطائفة الأخرى التي يتحدث عنها القرآن في هذا الموضع . طائفة الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم فهم في قلق وفي أرجحة يحسون أنهم مضيعون في أمر غير واضح في تصورهم ويرون أنهم دفعوا إلى المعركة دفعاً ولا إرادة لهم فيها; وهم مع ذلك يتعرضون للبلاء المرير ويؤدون الثمن فادحاً من القتل والقرح والألم . . وهم لا يعرفون الله على حقيقته فهم يظنون بالله غير الحق كما تظن الجاهلية . ومن الظن غير الحق بالله أن يتصوروا أنه - سبحانه - مضيعهم في هذه المعركة التي ليس لهم من أمرها شيء وإنما دفعوا إليها دفعاً ليموتوا ويجرحوا والله لا ينصرهم ولا ينقذهم ; إنما يدعهم فريسة لأعدائهم ويتساءلون :
{ هل لنا من الأمر من شيء؟ } .
وتتضمن قولتهم هذه الاعتراض على خطة القيادة والمعركة . . ولعلهم ممن كان رأيهم عدم الخروج من المدينة ; ممن لم يرجعوا مع عبد الله بن أبي . . ولكن قلوبهم لم تكن قد استقرت واطمأنت . .
وقبل أن يكمل السياق عرض وساوسهم وظنونهم ، يبادر بتصحيح الأمر وتقرير الحقيقة فيما يتساءلون فيه ويرد على قولتهم : { هل لنا من الأمر من شيء؟ } .
{ قل : إن الأمر كله لله } . .
فلا أمر لأحد . لا لهم ولا لغيرهم . ومن قبل قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - { ليس لك من الأمر شيء } . فأمر هذا الدين والجهاد لإقامته وتقرير نظامه في الأرض وهداية القلوب له . . كلها من أمر الله وليس للبشر فيها من شيء إلا أن يؤدوا واجبهم ويفوا ببيعتهم ثم يكون ما يشاؤه الله كيف يكون
ويكشف كذلك خبيئة نفوسهم قبل أن يكمل عرض وساوسهم وظنونهم :
{ يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } .

.
فنفوسهم ملأى بالوساوس والهواجس حافلة بالاعتراضات والاحتجاجات ; وسؤالهم : { هل لنا من الأمر من شيء } . . يخفي وراءه شعورهم بأنهم دفعوا إلى مصير لم يختاروه وأنهم ضحية سوء القيادة وأنهم لو كانوا هم الذين يديرون المعركة ما لاقوا هذا المصير .
{ يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا } . .
وهو الهاجس الذي يجيش في النفوس التي لم تخلص للعقيدة حينما تصطدم في موقعة بالهزيمة وحينما تعاني آلام الهزيمة حين ترى الثمن أفدح مما كانت تظن ; وأن الثمرة أشد مرارة مما كانت تتوقع ; وحين تفتش في ضمائرها فلا ترى الأمر واضحاً ولا مستقراً ; وحين تتخيل أن تصرف القيادة هو الذي القى بها في هذه المهلكة وكانت في نجوة من الأمر لو كان أمرها في يدها وهي لا يمكن - بهذا الغبش في التصور - أن ترى يد الله وراء الأحداث ولا حكمته في الابتلاء . إنما المسألة كلها - في اعتبارها - خسارة في خسارة وضياع في ضياع
هنا يجيئهم التصحيح العميق للأمر كله . لأمر الحياة والموت . ولأمر الحكمة الكامنة وراء الابتلاء :
{ قل : لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور } . .
قل لو كنتم في بيوتكم ; ولم تخرجوا للمعركة تلبية لنداء القيادة وكان أمركم كله لتقديركم . . لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . . إن هنالك أجلاً مكتوباً لا يستقدم ولا يستأخر . وإن هنالك مضجعاً مقسوماً لا بد أن يجيء إليه صاحبه فيضجع فيه فإذا حم الأجل سعى صاحبه بقدميه إليه وجاء إلى مضجعه برجليه لا يسوقه أحد إلى أجله المرسوم ولا يدفعه أحد إلى مضجعه المقسوم
ويا للتعبير العجيب . . { إلى مضاجعهم } . . فهو مضجع إذن ذلك الرمس الذي تستريح فيه الجنوب ، وتسكن فيه الخطى ، وينتهي إليه الضاربون في الأرض . . مضجع يأتون إليه بدافع خفي لا يدركونه ولا يملكونه ، إنما هو يدركهم ويملكهم ; ويتصرف في أمرهم كما يشاء . والاستسلام له أروح للقلب وأهدأ للنفس وأريح للضمير
إنه قدر الله . ووراءه حكمته :
{ وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم } . .
فليس كالمحنة محك يكشف ما في الصدور ويصهر ما في القلوب فينفي عنها الزيف والرياء ويكشفها على حقيقتها بلا طلاء . . فهو الابتلاء والاختبار لما في الصدور ليظهر على حقيقته وهو التطهير والتصفية للقلوب فلا يبقى فيها دخل ولا زيف . وهو التصحيح والتجلية للتصور ; فلا يبقى فيه غبش ولا خلل :
{ والله عليم بذات الصدور } .

وذات الصدور هي الأسرار الخفية الملازمة للصدور المختبئة فيها المصاحبة لها التي لا تبارحها ولا تتكشف في النور والله عليم بذات الصدور هذه . ولكنه - سبحانه - يريد أن يكشفها للناس ويكشفها لأصحابها أنفسهم فقد لا يعلمونها من أنفسهم حتى تنفضها الأحداث وتكشفها لهم
ولقد علم الله دخيلة الذين هزموا وفروا يوم التقى الجمعان في الغزوة . إنهم ضعفوا وتولوا بسبب معصية ارتكبوها; فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ واستزلهم فزلوا وسقطوا :
{ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا . ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم } . .
وقد تكون الإشارة في هذه الآية خاصة بالرماة الذين جال في نفوسهم الطمع في الغنيمة كما جال فيها أن رسول الله سيحرمهم أنصبتهم . فكان هذا هو الذي كسبوه وهو الذي استزلهم الشيطان به . .
ولكنها في عمومها تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئة فتفقد ثقتها في قوتها ويضعف بالله ارتباطها ويختل توازنها وتماسكها وتصبح عرضة للوساوس والهواجس بسبب تخلخل صلتها بالله وثقتها من رضاه وعندئذ يجد الشيطان طريقه إلى هذه النفس فيقودها إلى الزلة بعد الزلة وهي بعيدة عن الحمى الآمن والركن الركين .
ومن هنا كان الاستغفار من الذنب هو أول ما توجه به الرّبيون الذين قاتلوا مع النبيين في مواجهة الأعداء . الاستغفار الذي يردهم إلى الله ويقوي صلتهم به ويعفي قلوبهم من الأرجحة ويطرد عنها الوساوس ويسد الثغرة التي يدخل منها الشيطان ثغرة الانقطاع عن الله والبعد عن حماه . هذه الثغرة التي يدخل منها فيزل أقدامهم مرة ومرة حتى ينقطع بهم في التيه بعيداً بعيداً عن الحمى الذي لا ينالهم فيه
ويحدثهم الله أن رحمته أدركتهم فلم يدع الشيطان ينقطع بهم فعفا عنهم . . ويعرفهم بنفسه - سبحانه - فهو غفور حليم . لا يطرد الخطاة ولا يعجل عليهم; متى علم من نفوسهم التطلع إليه والاتصال به; ولم يعلم منها التمرد والتفلت والإباق
ويتم السياق بيان حقيقة قدر الله في الموت والحياة وزيف تصورات الكفار والمنافقين عن هذا الأمر منادياً الذين آمنوا بالتحذير من أن تكون تصوراتهم كتصورات هؤلاء . ويردهم في النهاية إلى قيم أخرى وإلى اعتبارات ترجح الآلام والتضحيات :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم - إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى - : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا . ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم . والله يحيى ويميت . والله بما تعملون بصير . ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون } . .
وظاهر من مناسبة هذه الآيات في سياق المعركة أن هذه كانت أقوال المنافقين الذين رجعوا قبل المعركة والمشركين من أهل المدينة الذين لم يدخلوا في الإسلام ; ولكن ما تزال بين المسلمين وبينهم علاقات وقرابات .

. وأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أحد مادة لإثارة الحسرة في قلوب أهليهم واستجاشة الأسى على فقدهم في المعركة - نتيجة لخروجهم - ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفتنة والمواجع دامية مما يترك في الصف المسلم الخلخلة والبلبلة . ومن ثم جاء هذا البيان القرآني لتصحيح القيم والتصورات ورد هذا الكيد إلى نحور كائديه .
إن قول الكافرين : { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } . . ليكشف عن الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها للسنن التي تسير عليها الحياة كلها وأحداثها : سراؤها وضراؤها . . إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله متعرف إلى مشيئة الله مطمئن إلى قدر الله . إنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه . ومن ثم لا يتلقى الضراء بالجزع ولا يتلقى السراء بالزهو ولا تطير نفسه لهذه أو لتلك; ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقي كذا أو ليستجلب كذا بعد وقوع الأمر وانتهائه فمجال التقدير والتدبير والرأي والمشورة كله قبل الإقدام والحركة ; فأما إذا تحرك بعد التقدير والتدبير - في حدود علمه وفي حدود أمر الله ونهيه - فكل ما يقع من النتائج فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم; موقناً أنه وقع وفقاً لقدر الله وتدبيره وحكمته; وأنه لم يكن بد أن يقع كما وقع; ولو أنه هو قدم أسبابه بفعله . . توازن بين العمل والتسليم وبين الإيجابية والتوكل يستقيم عليه الخطو ويستريح عليه الضمير . . فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة فهو أبداً مستطار أبداً في قلق أبداً في « لو » و « لولا » و « يا ليت » و « وا أسفاه »
والله - في تربيته للجماعة المسلمة ، وفي ظلال غزوة أحد وما نال المسلمين فيها - يحذرهم أن يكونوا كالذين كفروا . أولئك الذين تصيبهم الحسرات كلما مات لهم قريب وهو يضرب في الأرض ابتغاء الرزق أو قتل في ثنايا المعركة وهو يجاهد :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } . .
يقولونها لفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون ولحقيقة القوة الفاعلة في كل ما يجري . فهم لا يرون إلا الأسباب الظاهرة والملابسات السطحية بسبب انقطاعهم عن الله وعن قدره الجاري في الحياة .
{ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } . .
فإحساسهم بأن خروج إخوانهم ليضربوا في الأرض في طلب الرزق فيموتوا أو ليغزوا ويقاتلوا فيقتلوا .

. إحساسهم بأن هذا الخروج هو علة الموت أو القتل يذهب بأنفسهم حسرات أن لم يمنعوهم من الخروج ولو كانوا يدركون العلة الحقيقية وهي استيفاء الأجل ونداء المضجع وقدر الله وسنته في الموت والحياة ما تحسروا . ولتلقوا الابتلاء صابرين ولفاءوا إلى الله راضين :
{ والله يحيي ويميت } . .
فبيده إعطاء الحياة وبيده استرداد ما أعطى في الموعد المضروب والأجل المرسوم سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم أو في ميادين الكفاح للرزق أو للعقيدة . وعنده الجزاء وعنده العوض عن خبرة وعن علم وعن بصر :
{ والله بما تعملون بصير . . } . .
على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل ; فهذه ليست نهاية المطاف . وعلى أن الحياة في الأرض ليست خير ما يمنحه الله للناس من عطاء . فهناك قيم أخرى واعتبارات أرقى في ميزان الله :
{ ولئن قتلتم - في سبيل الله - أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون } . .
فالموت أو القتل في سبيل الله - بهذا القيد وبهذا الاعتبار - خير من الحياة وخير مما يجمعه الناس في الحياة من أعراضها الصغار : من مال ومن جاه ومن سلطان ومن متاع . خير بما يعقبه من مغفرة الله ورحمته وهي في ميزان الحقيقة خير مما يجمعون . وإلى هذه المغفرة وهذه الرحمة يكل الله المؤمنين . . إنه لا يكلهم - في هذا المقام - إلى أمجاد شخصية ولا إلى اعتبارات بشرية . إنما يكلهم إلى ما عند الله ، ويعلق قلوبهم برحمة الله . وهي خير مما يجمع الناس على الإطلاق . وخير مما تتعلق به القلوب من أعراض . .
وكلهم مرجوعون إلى الله محشورون إليه على كل حال . ماتوا على فراشهم أو ماتوا وهم يضربون في الأرض . أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان . فما لهم مرجع سوى هذا المرجع ; وما لهم مصير سوى هذا المصير . . والتفاوت إذن إنما يكون في العمل والنية وفي الاتجاه والاهتمام . . أما النهاية فواحدة : موت أو قتل في الموعد المحتوم والأجل المقسوم . ورجعة إلى الله وحشر في يوم الجمع والحشر . . ومغفرة من الله ورحمة أو غضب من الله وعذاب . . فأحمق الحمقى من يختار لنفسه المصير البائس . وهو ميت على كل حال
بذلك تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة وحقيقة قدر الله . وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر ; وإلى ما وراء القدر من حكمة وما وراء الابتلاء من جزاء . . وبذلك تنتهي هذه الجولة في صميم أحداث المعركة وفيما صاحبها من ملابسات . .
ثم يمضي السياق القرآني في جولة جديدة . . جولة محورها شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحقيقته النبوية الكريمة ; وقيمة هذه الحقيقة الكبيرة في حياة الأمة المسلمة ; ومدى ما يتجلى فيها من رحمة الله بهذه الأمة .

. وحول هذا المحور خيوط أخرى من المنهج الإسلامي في تنظيم حياة الجماعة المسلمة وأسس هذا التنظيم ; ومن التصور الإسلامي والحقائق التي يقوم عليها ومن قيمة هذا التصور وذلك المنهج في حياة البشرية بصفة عامة :
{ فبما رحمة من الله لنت لهم . ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك . فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر . فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين . إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده؟ وعلى الله فليتوكل المؤمنون . وما كان لنبي أن يغل . ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون . أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير؟ هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون . لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } . .
وننظر في هذه الفقرة وفي الحقائق الكثيرة الأصيلة المشدودة إلى محورها - وهي الحقيقة النبوية الكريمة - فنجد كذلك أصولاً كبيرة تحتويها عبارات قصيرة . . نجد حقيقة الرحمة الإلهية المتمثلة في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وطبيعته الخيرة الرحيمة الهينة اللينة المعدة لأن تتجمع عليها القلوب وتتألف حولها النفوس . . ونجد أصل النظام الذي تقوم عليه الحياة الجماعية الإسلامية - وهو الشورى - يؤمر به في الموضع الذي كان للشورى - في ظاهر الأمر - نتائج مريرة ونجد مع مبدأ الشورى مبدأ الحزم والمضي - بعد الشورى - في مضاء وحسم . ونجد حقيقة التوكل على الله - إلى جانب الشورى والمضاء - حيث تتكامل الأسس التصويرية والحركية والتنظيمية . ونجد حقيقة قدر الله ورد الأمر كله إليه وفاعليته التي لا فاعلية غيرها في تصريف الأحداث والنتائج . ونجد التحذير من الخيانة والغلول والطمع في الغنيمة . ونجد التفرقة الحاسمة بين من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله . تبرز منها حقيقة القيم والاعتبارات والكسب والخسارة . . وتختم الفقرة بالإشادة بالمنة الإلهية الممثلة في رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الأمة المنة التي تتضاءل إلى جانبها الغنائم كما تتضاءل إلى جانبها الآلام سواء
هذا الحشد كله في تلك الآيات القلائل المعدودات
{ فبما رحمة من الله لنت لهم . ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك . فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر . فإذا عزمت فتوكل على الله . إن الله يحب المتوكلين } .
إن السياق يتجه هنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي نفسه شيء من القوم ; تحمسوا للخروج ثم اضطربت صفوفهم فرجع ثلث الجيش قبل المعركة ; وخالفوا - بعد ذلك - عن أمره وضعفوا أمام إغراء الغنيمة ووهنوا أمام إشاعة مقتله وانقلبوا على أعقابهم مهزومين وأفردوه في النفر القليل وتركوه يثخن بالجراح وهو صامد يدعوهم في أخراهم وهم لا يلوون على أحد .

. يتوجه إليه - صلى الله عليه وسلم - يطيب قلبه وإلى المسلمين يشعرهم نعمة الله عليهم به . ويذكره ويذكرهم رحمة الله الممثلة في خلقه الكريم الرحيم الذي تتجمع حوله القلوب . . ذلك ليستجيش كوامن الرحمة في قلبه - صلى الله عليه وسلم - فتغلب على ما آثاره تصرفهم فيه ; وليحسوا هم حقيقة النعمة الإلهية بهذا النبي الرحيم . ثم يدعوه أن يعفو عنهم ويستغفر الله لهم . . وأن يشاورهم في الأمر كما كان يشاورهم ; غير متأثر بنتائج الموقف لإبطال هذا المبدأ الأساسي في الحياة الإسلامية .
{ فبما رحمة من الله لنت لهم ; ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } . .
فهي رحمة الله التي نالته ونالتهم ; فجعلته - صلى الله عليه وسلم - رحيماً بهم ليناً معهم . ولو كان فظاً غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب ولا تجمعت حوله المشاعر . فالناس في حاجة إلى كنف رحيم وإلى رعاية فائقة وإلى بشاشة سمحة وإلى ود يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم . . في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ; ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه ; ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء . . وهكذا كان قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهكذا كانت حياته مع الناس . ما غضب لنفسه قط . ولا ضاق صدره بضعفهم البشري . ولا احتجز لنفسه شيئاً من أعراض هذه الحياة بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية . ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم . وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه ; نتيجة لما أفاض عليه - صلى الله عليه وسلم - من نفسه الكبيرة الرحيبة .
وكان هذا كله رحمة من الله به وبأمته . . يذكرهم بها في هذا الموقف . ليرتب عليها ما يريده - سبحانه - لحياة هذه الأمة من تنظيم :
{ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر } . .
وبهذا النص الجازم : { وشاورهم في الأمر } . . يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم - حتى ومحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يتولاه . وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكاً في أن الشورى مبدأ أساسي لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه . . أما شكل الشورى والوسيلة التي تتحقق بها فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها . وكل شكل وكل وسيلة تتم بها حقيقة الشورى - لا مظهرها - فهي من الإسلام .

لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة فقد كان من جرائها ظاهرياً وقوع خلل في وحدة الصف المسلم اختلفت الآراء . فرأت مجموعة أن يبقى المسلمون في المدينة محتمين بها حتى إذا هاجمهم العدو قاتلوه على أفواه الأزقة . وتحمست مجموعة أخرى فرأت الخروج للقاء المشركين . وكان من جراء هذا الاختلاف ذلك الخلل في وحدة الصف . إذ عاد عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش والعدو على الأبواب - وهو حدث ضخم وخلل مخيف - كذلك بدا أن الخطة التي نفذت لم تكن - في ظاهرها - أسلم الخطط من الناحية العسكرية . إذ أنها كانت مخالفة « للسوابق » في الدفاع عن المدينة - كما قال عبد الله ابن أبي - وقد اتبع المسلمون عكسها في غزوة الأحزاب التالية فبقوا فعلاً في المدينة وأقاموا الخندق ولم يخرجوا للقاء العدو . منتفعين بالدرس الذي تلقوه في أحد
ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجهل النتائج الخطيرة التي تنتظر الصف المسلم من جراء الخروج . فقد كان لديه الإرهاص من رؤياه الصادقة التي رآها والتي يعرف مدى صدقها . وقد تأولها قتيلاً من أهل بيته وقتلى من صحابته وتأول المدينة درعاً حصينة . . وكان من حقه أن يلغي ما استقر عليه الأمر نتيجة للشورى . . ولكنه أمضاها وهو يدرك ما وراءها من الآلام والخسائر والتضحيات . لأن إقرار المبدأ وتعليم الجماعة وتربية الأمة أكبر من الخسائر الوقتية .
ولقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة . أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف; وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة ولكن الإسلام كان ينشىء أمة ويربيها ويعدها لقيادة البشرية . وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة أن تربى بالشورى; وأن تدرب على حمل التبعة وأن تخطىء - مهما يكن الخطأ جسيماً وذا نتائج مريرة - لتعرف كيف تصحح خطأها وكيف تحتمل تبعات رأيها وتصرفها . فهي لا تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ . . والخسائر لا تهم إذا كانت الحصيلة هي إنشاء الأمة المدربة المدركة المقدرة للتبعة . واختصار الأخطاء والعثرات والخسائر في حياة الأمة ليس فيها شيء من الكسب لها إذا كانت نتيجته أن تظل هذه الأمة قاصرة كالطفل تحت الوصاية . إنها في هذه الحالة تتقي خسائر مادية وتحقق مكاسب مادية . ولكنها تخسر نفسها وتخسر وجودها وتخسر تربيتها وتخسر تدريبها على الحياة الواقعية . كالطفل الذي يمنع من مزاولة المشي - مثلاً - لتوفير العثرات والخبطات . أو توفير الحذاء
كان الإسلام ينشىء أمة ويربيها ويعدها للقيادة الراشدة . فلم يكن بد أن يحقق لهذه الأمة رشدها ويرفع عنها الوصاية في حركات حياتها العملية الواقعية كي تدرب عليها في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبإشرافه .

ولو كان وجود القيادة الراشدة يمنع الشورى ويمنع تدريب الأمة عليها تدريباً عملياً واقعياً في أخطر الشؤون - كمعركة أحد التي قد تقرر مصير الأمة المسلمة نهائياً وهي أمة ناشئة تحيط بها العداوات والأخطار من كل جانب - ويحل للقيادة أن تستقل بالأمر وله كل هذه الخطورة - لو كان وجود القيادة الراشدة في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشؤون لكان وجود محمد - صلى الله عليه وسلم - ومعه الوحي من الله سبحانه وتعالى - كافياً لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى - وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ظل الملابسات الخطيرة لنشأة الأمة المسلمة . ولكن وجود محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه الوحي الإلهي ووقوع تلك الأحداث ووجود تلك الملابسات لم يلغ هذا الحق . لأن الله - سبحانه - يعلم أن لا بد من مزاولته في أخطر الشؤون ومهما تكن النتائج ومهما تكن الخسائر ومهما يكن انقسام الصف ومهما تكن التضحيات المريرة ومهما تكن الأخطار المحيطة . . لأن هذه كلها جزئيات لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة المدربة بالفعل على الحياة ; المدركة لتبعات الرأي والعمل الواعية لنتائج الرأي والعمل . . ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي في هذا الوقت بالذات :
{ فاعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر } . .
ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر الأخطار التي صاحبت استعماله ; وليثبت هذا القرار في حياة الأمة المسلمة أياً كانت الأخطار التي تقع في أثناء التطبيق ; وليسقط الحجة الواهية التي تثار لإبطال هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئة ولو كان هو انقسام الصف كما وقع في « أحد » والعدو على الأبواب . . لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ . ووجود الأمة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق
على أن الصورة الحقيقية للنظام الإسلامي لا تكمل حتى نمضي مع بقية الآية ; فنرى أن الشورى لا تنتهي أبداً إلى الأرجحة والتعويق ولا تغني كذلك عن التوكل على الله في نهاية المطاف :
{ فإذا عزمت فتوكل على الله . إن الله يحب المتوكلين } . .
إن مهمة الشورى هي تقليب أوجه الرأي واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد انتهى دور الشورى وجاء دور التنفيذ . . التنفيذ في عزم وحسم وفي توكل على الله يصل الأمر بقدر الله ويدعه لمشيئته تصوغ العواقب كما تشاء .
وكما ألقى النبي - صلى الله عليه وسلم - درسه النبوي الرباني ، وهو يعلم الأمة الشورى ، ويعلمها إبداء الرأي ، واحتمال تبعته بتنفيذه ، في أخطر الشؤون وأكبرها .

. كذلك ألقى عليها درسه الثاني في المضاء بعد الشورى ، وفي التوكل على الله وإسلام النفس لقدره - على علم بمجراه واتجاهه - فأمضى الأمر في الخروج ودخل بيته فلبس درعه ولأمته - وهو يعلم إلى أين هو ماض وما الذي ينتظره وينتظر الصحابة معه من آلام وتضحيات . . وحتى حين أتيحت فرصة أخرى بتردد المتحمسين ، وخوفهم من أن يكونوا استكرهوه - صلى الله عليه وسلم - على ما لا يريد وتركهم الأمر له ليخرج أو يبقى . . حتى حين أتيحت هذه الفرصة لم ينتهزها ليرجع . لأنه أراد أن يعلمهم الدرس كله . درس الشورى . ثم العزم والمضي . مع التوكل على الله والاستسلام لقدره . وأن يعلمهم أن للشورى وقتها ولا مجال بعدها للتردد والتأرجح ومعاودة تقليب الرأي من جديد . فهذا مآلة الشلل والسلبية والتأرجح الذي لا ينتهي . . إنما هو رأي وشورى . وعزم ومضاء . وتوكل على الله ، يحبه الله :
{ إن الله يحب المتوكلين } . .
والخلة التي يحبها الله ويحب أهلها هي الخلة التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمنون . بل هي التي تميز المؤمنين . . والتوكل على الله ورد الأمر إليه في النهاية هو خط التوازن الأخير في التصور الإسلامي وفي الحياة الإسلامية . وهو التعامل مع الحقيقة الكبيرة : حقيقة أن مرد الأمر كله لله وأن الله فعال لما يريد . .
لقد كان هذا درساً من دروس « أحد » الكبار . هو رصيد الأمة المسلمة في أجيالها كلها وليس رصيد جيل بعينه في زمن من الأزمان . .
ولتقرير حقيقة التوكل على الله وإقامتها على أصولها الثابتة يمضي السياق فيقرر أن القوة الفاعلة في النصر والخذلان هي قوة الله فعندها يلتمس النصر ومنها تتقى الهزيمة وإليها يكون التوجه وعليها يكون التوكل بعد اتخاذ العدة ونفض الأيدي من العواقب وتعليقها بقدر الله :
{ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وأن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده؟ وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . .
إن التصور الإسلامي يتسم بالتوازن المطلق بين تقرير الفاعلية المطلقة لقدر الله - سبحانه - وتحقق هذا القدر في الحياة الإنسانية من خلال نشاط الإنسان وفاعليته وعمله . . إن سنة الله تجري بترتيب النتائج على الأسباب . ولكن الأسباب ليست هي التي « تنشىء » النتائج . فالفاعل المؤثر هو الله . والله يرتب النتائج على الأسباب بقدره ومشيئته . . ومن ثم يطلب إلى الإنسان أن يؤدي واجبه وأن يبذل جهده وأن يفي بالتزاماته . وبقدر ما يوفي بذلك كله يرتب الله النتائج ويحققها . . وهكذا تظل النتائج والعواقب متعلقة بمشيئة الله وقدره . هو وحده الذي يأذن لها بالوجود حين يشاء وكيفما يشاء . . وهكذا يتوازن تصور المسلم وعمله . فهو يعمل ويبذل ما في طوقه ; وهو يتعلق في نتيجة عمله وجهده بقدر الله ومشيئته .

ولا حتمية في تصوره بين النتائج والأسباب . فهو لا يحتم أمراً بعينه على الله
وهنا في قضية النصر والخذلان بوصفهما نتيجتين للمعركة - أية معركة - يرد المسلمين إلى قدر الله ومشيئته ; ويعلقهم بإرادة الله وقدرته : إن ينصرهم الله فلا غالب لهم . وأن يخذلهم فلا ناصر لهم من بعده . . وهي الحقيقة الكلية المطلقة في هذا الوجود . حيث لا قوة إلا قوة الله ولا قدرة إلا قدرته ولا مشيئة إلا مشيئته . وعنها تصدر الأشياء والأحداث . . ولكن هذه الحقيقة الكلية المطلقة لا تعفي المسلمين من اتباع المنهج وطاعة التوجيه والنهوض بالتكاليف وبذلك الجهد والتوكل بعد هذا كله على الله :
{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . .
وبذلك يخلص تصور المسلم من التماس شيء من عند غير الله ; ويتصل قلبه مباشرة بالقوة الفاعلة في هذا الوجود ; فينفض يده من كل الأشباح الزائفة والأسباب الباطلة للنصرة والحماية والالتجاء ; ويتوكل على الله وحده في أحداث النتائج وتحقيق المصاير وتدبير الأمر بحكمته وتقبل ما يجيء به قدر الله في اطمئنان أياً كان .
إنه التوازن العجيب الذي لا يعرفه القلب البشري إلا في الإسلام .
ثم يعود إلى الحديث عن النبوة وخصائصها الخلقية ; ليمد من هذا المحور خيوطاً في التوجيه للأمانة والنهي عن الغلول والتذكير بالحساب وتوفية النفوس دون إجحاف :
{ وما كان لنبي أن يغل . ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة . ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } . .
ولقد كان من بين العوامل التي جعلت الرماة يزايلون مكانهم من الجبل خوفهم ألا يقسم لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغنائم كذلك كان بعض المنافقين قد تكلموا بأن بعض غنائم بدر من قبل قد اختفت ; ولم يستحوا أن يهمسوا باسمه - صلى الله عليه وسلم - في هذا المجال .
فهنا يأتي السياق بحكم عام ينفي عن الأنبياء عامة إمكان أن يغلوا . . أي أن يحتجزوا شيئاً من الأموال والغنائم أو يقسموا لبعض الجند دون بعض ، أو يخونوا إجمالاً في شيء :
{ وما كان لنبي أن يغل } . .
ما كان له . فهو ليس من شأنه أصلاً ولا من طبعه ولا من خلقه . فالنفي هنا نفي لإمكان وقوع الفعل . وليس نفياً لحله أو جوازه . فطبيعة النبي الأمينة العادلة العفيفة لا يتأتي أن يقع منها الغلول ابتداء . . وفي قراءة : « يُغلّ » على بناء الفعل لغير الفاعل . أي لا يجوز أن يخان . ولا أن يخفي عنه أتباعه شيئاً . . فيكون نهياً عن خيانة النبي في شيء . وهو يتمشى مع عجز الآية . وهي قراءة الحسن البصري .
ثم يهدد الذين يغلون ويخفون شيئاً من المال العام أو من الغنائم ذلك التهديد المخيف :
{ ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة .

ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } . .
روى الإمام أحمد . حدثنا سفيان عن الزهري سمع عروة يقول : حدثنا أبو حميد الساعدي قال : « استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتيبة . على الصدقة . فجاء فقال : هذا لكم وهذا أهدي إلي . فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فقال : » ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول : هذا لكم وهذا أهدي إلي . أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده . لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته وإن بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر « . . ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه . ثم قال : اللهم هل بلغت؟ » - ثلاثاً- . . ( وأخرجه الشيخان ) وروى الإمام أحمد بإسناده عن أبي هريرة قال : « قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فذكر الغلول ، فعظمه وعظم أمره . ثم قال : لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت . فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك » « . . ( وأخرجه الشيخان من حديث أبي حيان ) . .
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن عدي بن عميرة الكندي . قال : » قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يا أيها الناس . من عمل لنا منكم عملاً فكتمنا منه مخيطا فما فوقه فهو غل يأتي به يوم القيامة » . . قال : فقام رجل من الأنصار أسود - قال مجاهد : هو سعد بن عبادة كأني أنظر إليه - فقال : يا رسول الله ، أقبل مني عملك . قال : « وما ذاك؟ » قال : سمعتك تقول : كذا وكذا . قال : وأنا أقول ذلك الآن . من استعملناه على عمل فليجىء بقليله وكثيره . فما أوتي منه أخذه; وما نهي عنه انتهى « . ( ورواه مسلم وأبو داود من طرق عن إسماعيل بن أبي رافع ) . .
وقد عملت هذه الآية القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة عملها في تربية الجماعة المسلمة; حتى أتت بالعجب العجاب; وحتى أنشأت مجموعة من الناس تتمثل فيهم الأمانة والورع والتحرج من الغلول في أية صورة من صوره كما لم تتمثل قط في مجموعة بشرية .

وقد كان الرجل من أفناء الناس من المسلمين يقع في يده الثمين من الغنيمة لا يراه أحد فيأتي به إلى أميره لا تحدثه نفسه بشيء منه خشية أن ينطبق عليه النص القرآني المرهوب وخشية أن يلقى نبيه على الصورة المفزعة المخجلة التي حذره أن يلقاه عليها يوم القيامة فقد كان المسلم يعيش هذه الحقيقة فعلاً . وكانت الآخرة في حسه واقعاً ، وكان يرى صورته تلك أمام نبيه وأمام ربه ، فيتوقاها ويفزع أن يكون فيها . وكان هذا هو سر تقواه وخشيته وتحرجه . فالآخرة كانت حقيقة يعيشها لا وعداً بعيداً وكان على يقين لا يخالجه الشك من أن كل نفس ستوفى ما كسبت وهم لا يظلمون . .
روى ابن جرير الطبري في تاريخه قال : لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض . فقال والذين معه : ما رأينا مثل هذا قط ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه . فقالوا : هل أخذت منه شيئاً؟ فقال : أما والله لولا الله ما آتيتكم به . فعرفوا أن للرجل شأناً . فقالوا : من أنت؟ فقال : لا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه . فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه فإذا عامر بن عبد قيس . .
وقد حملت الغنائم إلى عمر - رضي الله عنه - بعد القادسية وفيها تاج كسرى وإيوانه لا يقومان بثمن . . فنظر - رضي الله عنه - إلى ما أداه الجند في غبطة وقال : « إن قوماً أدوا هذا لأميرهم لأمناء » . .
وهكذا ربى الإسلام المسلمين تلك التربية العجيبة التي تكاد أخبارها تحسب في الأساطير .
ثم يستطرد السياق - في معرض الحديث عن الغنائم والغلول - يوازن بين القيم . . القيم الحقيقية التي يليق أن يلتفت إليها القلب المؤمن وأن يشغل بها :
{ أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير؟ هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون } . .
إنها النقلة التي تصغر في ظلها الغنائم ويصغر في ظلها التفكير في هذه الأعراض . وهي لمسة من لمسات المنهج القرآني العجيب في تربية القلوب ورفع اهتماماتها وتوسيع آفاقها وشغلها بالسباق الحقيقي في الميدان الأصيل .
{ أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } . .
هذه هي القيم ، وهذا هو مجال الطمع ومجال الاختيار . وهذا هو ميدان الكسب والخسارة . وشتان بين من يتبع رضوان الله فيفوز به ومن يعود وفي وطابه سخط الله يذهب به إلى جهنم . . وبئس المصير هذه درجة وهذه درجة . . وشتان شتان :
{ هم درجات عند الله } . .
وكل ينال درجته باستحقاق فلا ظلم ولا إجحاف ولا محاباة ولا جزاف
{ والله بصير بما يعملون } . .
ثم يختم الفقرة بالرجوع إلى محورها الأصيل : شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورسالته وعظم المنة بها على المؤمنين .

{ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } . .
إن ختام هذه الفقرة بهذه الحقيقة الكبيرة . حقيقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقيمتها الذاتية وعظم المنة الإلهية بها ودورها في إنشاء هذه الأمة وتعليمها وتربيتها وقيادتها ونقلها من الضلال المبين إلى العلم والحكمة والطهارة . . إن هذا الختام يتضمن لمسات قرآنية كثيرة منوعة عميقة :
إنها تجيء ابتداء تعقيباً على الغنائم والطمع فيها والغلول والانشغال بهذا الأمر الصغير الذي كان الإنشغال به هو السبب المباشر الذي قلب الموقف في المعركة وبدل النصر هزيمة وفعل بالمسلمين الأفاعيل . . فالإشارة إلى حقيقة الرسالة الكبيرة والمنة العظيمة المتمثلة فيها لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية الفريدة . تبدو في ظلها غنائم الأرض كلها وأسلاب الأرض كلها وإعراض الأرض كلها شيئاً تافهاً زهيداً لا يذكر ولا يقدر . شيئاً تخجل النفس المؤمنة أن تذكره بل تستحي أن تفكر فيه فضلاً عن أن تشغل به
وهي تجيء في سياق الحديث عن الهزيمة والقرح والألم والخسارة التي أصابت الجماعة المسلمة في المعركة . . فالإشارة إلى تلك الحقيقة الكبيرة وما تمثله من منة عظيمة لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية العجيبة تصغر في ظلها الآلام والخسائر وتصغر إلى جانبها الجراح والتضحيات . على حين تعظم المنة ويتجلى العطاء الذي يرجح كل شيء في حياة الأمة المسلمة على الإطلاق .
ثم . . الإشارة إلى آثار هذه المنة في حياة الأمة المسلمة { يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } . . وهي تشي بالنقلة من حال إلى حال ومن وضع إلى وضع ومن عهد إلى عهد . فتشعر الأمة المسلمة بما وراء هذه النقلة من قدر الله الذي يريد بهذه الأمة أمراً ضخماً في تاريخ الأرض وفي حياة البشر والذي يعدها لهذا الأمر الضخم بإرسال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فما ينبغي لأمة هذا شأنها أن تشغل بالها بالغنائم التي تبدو تافهة زهيدة في ظل هذا الهدف الضخم ولا أن تجزع من التضحيات والآلام التي تبدو هينة يسيرة في ظل هذه الغاية الكبيرة . .
هذه بعض اللمسات المستفادة من ذكر هذه المنة في هذا السياق . نذكرها باختصار وإجمال لنواجه النص القرآني الحافل بالإيحاءات والظلال :
{ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } . .
إنها المنة العظمى أن يبعث الله فيهم رسولاً وأن يكون هذا الرسول { من أنفسهم } . . إن العناية من الله الجليل بإرسال رسول من عنده إلى بعض خلقه هي المنة التي لا تنبثق إلا من فيض الكرم الإلهي .

المنة الخالصة التي لا يقابلها شيء من جانب البشر . وإلا فمن هم هؤلاء الناس ومن هم هؤلاء الخلق حتى يذكرهم الله هذا الذكر ويعنى بهم هذه العناية؟ ويبلغ من حفاوة الله بهم أن يرسل لهم رسولاً من عنده يحدثهم بآياته - سبحانه - وكلماته لولا أن كرم الله يفيض بلا حساب ويغمر خلائقه بلا سبب منهم ولا مقابل؟
وتتضاعف المنة بأن يكون هذا الرسول { من أنفسهم } . . لم يقل « منهم » فإن للتعبير القرآني { من أنفسهم } ظلالاً عميقة الإيحاء والدلالة . . إن الصلة بين المؤمنين والرسول هي صلة النفس بالنفس لا صلة الفرد بالجنس . فليست المسألة أنه واحد منهم وكفى . إنما هي أعمق من ذلك وأرقى . ثم إنهم بالإيمان يرتفعون إلى هذه الصلة بالرسول ويصلون إلى هذا الأفق من الكرامة على الله . فهو منة على المؤمنين . . فالمنة مضاعفة ممثلة في إرسال الرسول وفي وصل أنفسهم بنفس الرسول ونفس الرسول بأنفسهم على هذا النحو الحبيب .
ثم تتجلى هذه المنة العلوية في آثارها العملية . . في نفوسهم وحياتهم وتاريخهم الإنساني :
{ يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } . .
تتجلى هذه المنة في أكبر مجاليها . في تكريم الله لهم . بإرسال رسول من عنده يخاطبهم بكلام الله الجليل :
{ يتلو عليهم آياته } . .
ولو تأمل الإنسان هذه المنة وحدها لراعته وهزته حتى ما يتمالك أن ينصب قامته أمام الله حتى وهو يقف أمامه للشكر والصلاة
ولو تأمل أن الله الجليل - سبحانه - يتكرم عليه فيخاطبه بكلماته . يخاطبه ليحدثه عن ذاته الجليلة وصفاته; وليعرفه بحقيقة الألوهية وخصائصها . ثم يخاطبه ليحدثه عن شأنه هو - هو الإنسان - هو العبد الصغير الضئيل - وعن حياته وعن خوالجه وعن حركاته وسكناته . يخاطبه ليدعوه إلى ما يحييه وليرشده إلى ما يصلح قلبه وحاله ويهتف به إلى جنة عرضها السماوات والأرض .
فهل هو إلا الكرم الفائض الذي يجري بهذه المنة وهذا التفضل وهذا العطاء؟
إن الله الجليل غني عن العالمين . وإن الإنسان الضئيل لهو الفقير المحووج . . ولكن الجليل هو الذي يحفل هذا الضئيل ويتلمسه بعنايته ويتابعه بدعوته والغني هو الذي يخاطب الفقير ويدعوه ويكرر دعوته
فيا للكرم ويا للمنة ويا للفضل والعطاء الذي لا كفاء له من الشكر والوفاء
{ ويزكيهم } . .
يطهرهم ويرفعهم وينقيهم . يطهر قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم . ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصلاتهم . ويطهر حياتهم ومجتمعهم وأنظمتهم . . يطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية والخرافة والأسطورة وما تبثه في الحياة من مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة مزرية بالإنسان وبمعنى إنسانيته . . ويطهرهم من دنس الحياة الجاهلية وما تلوث به المشاعر والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم .
وقد كان لكل جاهلية من حولهم أرجاسها وكان للعرب جاهليتهم وأرجاسها .
من أرجاسها هذا الذي وصفه جعفر بن أبي طالب وهو يحدث نجاشي الحبشة في مواجهة رسولي قريش إليه وقد جاءا إليه ليسلمهما المهاجرين من المسلمين عنده .

. يقول جعفر :
« أيها الملك . كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف . . فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه . فدعانا إلى الله وحده لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء . ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام . .
ومن أرجاسها ما حكته عائشة - رضي الله عنها - وهي تصور أنواع الاتصال بين الجنسين في الجاهلية كما جاء في صحيح البخاري في هذه الصورة الهابطة الحيوانية المزرية :
» إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء . فنكاح منها نكاح الناس اليوم : يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته فيصدقها ثم ينكحها . . والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب . وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الرجل فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . . ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها . فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت . فهو إبنك يا فلان . تسمي من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها . ولا يستطيع أن يمتنع منه الرجل والنكاح الرابع : يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها - وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً - فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك « . .
ودلالة هذه الصورة على هبوط التصور الإنساني وبهيميته لا تحتاج إلى تعليق . ويكفي تصور الرجل وهو يرسل امرأته إلى » فلان « لتأتي له منه بولد نجيب . تماماً كما يرسل ناقته أو فرسه أو بهيمته إلى الفحل النجيب لتأتي له منه بنتاج جيد
ويكفي تصور الرجال - ما دون العشرة - يدخلون إلى المرأة مجتمعين - » كلهم يصيبها « . . ثم تختار هي أحدهم لتلحق به ولدها
أما البغاء - وهو الصورة الرابعة - فهو البغاء يزيد عليه إلحاق نتاجه برجل من البغاة لا يجد في ذلك معرة ولا يمتنع من ذلك
إنه الوحل .

الذي طهر الإسلام منه العرب . وزكاهم . وكانوا - لولا الإسلام - غارقين إلى الأذقان فيه
ولم يكن هذا الوحل في العلاقات الجنسية إلا طرفاً من النظرة الهابطة إلى المرأة في الجاهلية . يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم : « ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين » :
« وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحيف تؤكل حقوقها وتبتز أموالها وتحرم من إرثها وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجاً ترضاه وتورث كما يورث المتاع أو الدابة . عن ابن عباس قال : » كان الرجل إذا مات أبوه أو حموه فهو أحق بامرأته إن شاء أمسكها أو يحبسها حتى تفتدى بصداقها أو تموت فيذهب بمالها « . . وقال عطاء بن رباح : » إن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل فترك امرأة حبسها أهله على الصبي يكون فيهم « . . وقال السدّي : إن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه فإذا مات وترك امرأته فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه فهو أحق بها أن يَنكحها بمهر صاحبه أو يُنكحها فيأخذ مهرها . وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهي أحق بنفسها » . وكانت المرأة في الجاهلية يطفف معها الكيل فيتمتع الرجل بحقوقه ولا تتمتع هي بحقوقها يؤخذ مما تؤتى من مهر وتمسك ضراراً للاعتداء . وتلاقي من بعلها نشوزاً أو إعراضاً وتترك في بعض الأحيان كالمعلقة . ومن المأكولات ما هو خالص للذكور ومحرم على الإناث . وكان يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من غير تحديد .
« وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد . ذكر الهيثم بن عدي - على ما حكاه عنه الميداني - أن الوأد كان مستعملاً في قبائل العرب قاطبة فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة . فجاء الإسلام وكانت مذاهب العرب مختلفة في وأد الأولاد . فمنهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة ومخافة لحوق العار بهم من أجلهن . ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء . أو شيماء ( سوداء ) أو برشاء ( برصاء ) أو كسحاء ( عرجاء ) تشاؤماً منهم بهذه الصفات . ومنهم كان يقتل أولاده خشية الإنفاق ، وخوف الفقر . .
» وكانوا يقتلون البنات ويئدونهن بقسوة نادرة في بعض الأحيان فقد يتأخر وأد الموءودة لسفر الوالد وشغله فلا يئدها إلا وقد كبرت وصارت تعقل . وقد حكوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات . وقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق « . .
ومن أرجاسها - وأصل هذه الأرجاس جميعاً - الشرك والوثنية الهابطة الساذجة : كما يصورها في إجمال الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه :
» انغمست الأمة في الوثنية وعبادة الأصنام بأبشع أشكالها . فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص بل كان لكل بيت صنم خصوصي .

قال الكلبي : كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضاً « . واستهترت العرب في عبادة الأصنام فمنهم من اتخذ بيتاً ومنهم من اتخذ صنماً; ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجراً أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن ثم طاف به كطوافه بالبيت وسموها الأنصاب . وكان في جوف الكعبة - البيت الذي بني لعبادة الله وحده - وفي فنائها ثلاثمائة وستون صنماً . وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة جنس الحجارة . روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال : كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً هو خيراً منه القيناه وأخذنا الآخر ; فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به . وقال الكلبي : كان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه رباً وجعل ثلاث أثافيّ لقدره وإذا ارتحل تركه .
» وكان للعرب - شأن كل أمة مشركة في كل زمان ومكان - آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب . فكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله فيتخذونهم شفعاء لهم عند الله ويعبدونهم ويتوسلون بهم عند الله . واتخذوا كذلك معه الجن شركاء لله وآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم وعبدوهم . قال الكلبي : كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن . وقال صاعد : كانت حمير تعبد الشمس . وكنانة القمر . وتميم الدبران . ولخم وجذام المشتري . وطي سهيلاً . وقيس الشعري العبور . وأسد عطارداً « .
ويكفي أن يتصفح الإنسان هذه الصورة البدائية الغليظة من الوثنية ، ليعرف أي رجس كانت تنشره في القلوب والتصورات وفي واقع الحياة ويدرك النقلة الضخمة التي نقلها الإسلام للقوم والطهارة التي أسبغها على تصوراتهم وعلى حياتهم سواء . ومن هذه الأرجاس تلك الأدواء الخلقية والاجتماعية التي كانت في الوقت ذاته من مفاخرهم في أشعارهم ومن مفاخراتهم في أسواقهم من الخمر إلى القمار إلى الثارات القبلية الصغيرة التي تشغل اهتماماتهم فلا ترتفع على تلك التصورات المحلية المحدودة :
» هانت عليهم الحرب وإراقة الدماء حتى كانت تثيرها حادثة ليست بذات خطر . فقد وقعت الحرب بين بكر وتغلب ابني وائل ومكثت أربعين سنة أريقت فيها دماء غزيرة وما ذاك إلا أن كليباً رئيس معد رمى ضرع ناقة البسوس بنت منقذ فاختلط دمها بلبنها; وقتل جساس بن مرة كليباً واشتبكت الحرب بين بكر وتغلب وكانت كما قال المهلهل أخو كليب : « قد فني الحياة وثكلت الأمهات ويتم الأولاد . دموع لا ترقأ وأجساد لا تدفن » .
« وكذلك حرب داحس والغبراء .

فما كان سببها إلا أن داحساً فرس قيس بن زهير كان سابقاً في رهان بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر فعارضه أسدي بإيعاز من حذيفة فلطم وجهه وشغله ففاتته الخيل . وتلا ذلك قتل . ثم أخذ بالثأر . ونصر القبائل لأبنائها وأسر ونزح للقبائل وقتل في ذلك ألوف من الناس « .
وكان ذلك علامة فراغ الحياة من الاهتمامات الكبيرة التي تشغلهم عن تفريغ الطاقة في هذه الملابسات الصغيرة . إذ لم تكن لهم رسالة للحياة ولا فكرة للبشرية ولا دور للإنسانية يشغلهم عن هذا السفساف . . ولم تكن هناك عقيدة تطهرهم من هذه الأرجاس الاجتماعية الذميمة . . وماذا يكون الناس من غير عقيدة إلهية؟ ماذا تكون اهتماماتهم؟ وماذا تكون تصوراتهم؟ وماذا تكون أخلاقهم؟
إن الجاهلية هي الجاهلية . ولكل جاهلية أرجاسها وأدناسها . لا يهم موقعها من الزمان والمكان . فحيثما خلت قلوب الناس من عقيدة إلهية تحكم تصوراتهم ومن شريعة - منبثقة من هذه العقيدة - تحكم حياتهم فلن تكون إلا الجاهلية في صورة من صورها الكثيرة . . والجاهلية التي تتمرغ البشرية اليوم في وحلها لا تختلف في طبيعتها عن تلك الجاهلية العربية أو غيرها من الجاهليات التي عاصرتها في أنحاء الأرض حتى أنقذها منها الإسلام وطهرها وزكاها .
إن البشرية اليوم تعيش في ماخور كبير ونظرة إلى صحافتها وأفلامها ومعارض أزيائها . ومسابقات جمالها ومراقصها وحاناتها . وإذاعاتها . ونظرة إلى سعارها المجنون للحم العاري ، والأوضاع المثيرة ، والإيحاءات المريضة ، في الأدب والفن وأجهزة الإعلام كلها . . إلى جانب نظامها الربوي ، وما يكمن وراءه من سعار للمال ووسائل خسيسة لجمعه وتثميره وعمليات نصب واحتيال وابتزاز تلبس ثوب القانون . . وإلى جانب التدهور الخلقي والانحلال الاجتماعي ، الذي أصبح يهدد كل نفس وكل بيت وكل نظام وكل تجمع إنساني . . نظرة إلى هذا كله تكفي للحكم على المصير البائس الذي تدلف إليه البشرية في ظل هذه الجاهلية .
إن البشرية تتآكل إنسانيتها وتتحلل آدميتها وهي تلهث وراء الحيوان ومثيرات الحيوان لتلحق بعالمه الهابط والحيوان أنظف وأشرف وأطهر . لأنه محكوم بفطرة حازمة لا تتميع ، ولا تأسن كما تأسن شهوات الإنسان حين ينفلت من رباط العقيدة ومن نظام العقيدة ويرتد إلى الجاهلية التي أنقذه الله منها والتي يمتن الله على عباده المؤمنين بتطهيرهم منها في تلك الآية الكريمة :
{ ويعلمهم الكتاب والحكمة } . .
وكان المخاطبون بهذه الآية أميين جهالاً . أمية القلم وأمية العقل سواء . وما كان لهم من المعرفة شيء ذو قيمة بالمقاييس العالمية للمعرفة في أي باب من الأبواب . وما كان لهم في حياتهم من هموم كبيرة تنشىء معرفة ذات قيمة عالمية في أي باب من الأبواب . فإذا هذه الرسالة تحيلهم أساتذة الدنيا وحكماء العالم ، وأصحاب المنهج العقيدي والفكري والاجتماعي والتنظيمي الذي ينقذ البشرية كلها من جاهليتها في ذلك الزمان .

والذي يرتقب دوره في الجولة القادمة - بإذن الله - لإنقاذ البشرية مرة أخرى من جاهليتها الحديثة التي تتمثل فيها كل خصائص الجاهلية القديمة; من النواحي الأخلاقية والاجتماعية; وتصور أهداف الحياة الإنسانية وغاياتها كذلك على الرغم من فتوحات العلم المادي والإنتاج الصناعي والرخاء الحضاري
{ وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } .
ضلال في التصور والاعتقاد وضلال في مفهومات الحياة وضلال في الغاية والاتجاه وضلال في العادات والسلوك وضلال في الأنظمة والأوضاع وضلال في المجتمع والأخلاق . .
والعرب الذين كانوا يخاطبون بهذه الآية كانوا يذكرون - ولا شك - ماضي حياتهم وأوضاعهم ، ويعرفون طبيعة النقلة التي نقلهم إليها الإسلام ، وما كانوا ببالغيها بغير الإسلام; وهي نقلة غير معهودة في تاريخ بني الإنسان .
كانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده - هو الذي نقلهم من طور القبيلة واهتمامات القبيلة وثارات القبيلة لا ليكونوا أمة فحسب . ولكن ليكونوا - على حين فجأة ومن غير تمهيد يتدخل فيه الزمن - أمة تقود البشرية وترسم لها مثلها ومناهج حياتها وأنظمتها كذلك في صورة غير معهودة في تاريخ البشرية الطويل .
كانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده - هو الذي منحهم وجودهم القومي ووجودهم السياسي ووجودهم الدولي . . وقبل كل شيء وأهم من كل شيء . . وجودهم الإنساني الذي يرفع إنسانيتهم ويكرّم آدميتهم ويقيم نظام حياتهم كله على أساس هذا التكريم الذي جاءهم هدية ومنة من لدن ربهم الكريم . والذي أفاضوه هم على البشرية كلها بعد ذلك وعلموها كيف تحترم « الإنسان » وتكرمه بتكريم الله . غير مسبوقين في هذا لا في الجزيرة العربية ولا في أي مكان . . وفي اللفتة السابقة إلى « الشورى » طرف من هذا المنهج الإلهي ، الذي كانوا يدركون فيه عظم المنة عليهم من الله .
وكانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده - هو الذي جعل لهم رسالة يقدمونها للعالم ، ونظرية للحياة البشرية ومذهباً مميزاً للحياة الإنسانية . . والأمة لا توجد في الحقل الإنساني الكبير إلا برسالة ونظرية ومذهب تقدمه للبشرية لتدفع بالبشرية إلى الأمام .
وقد كان الإسلام وتصوره للوجود ورأيه في الحياة وشريعته للمجتمع وتنظيمه للحياة البشرية ومنهجه المثالي الواقعي الإيجابي لإقامة نظام يسعد في ظله « الإنسان » . . كان الإسلام بخصائصه هذه هو « بطاقة الشخصية » التي تقدم بها العرب للعالم فعرفهم واحترمهم وسلمهم القيادة .
وهم اليوم وغداً لا يحملون إلا هذه البطاقة . ليست لهم رسالة غيرها يتعرفون بها إلى العالم . وهم إما أن يحملوها فتعرفهم البشرية وتكرمهم; وإما أن ينبذوها فيعودوا هملاً - كما كانوا - لا يعرفهم أحد ولا يعترف بهم أحد
وما الذي يقدمونه للبشرية حين لا يتقدمون إليها بهذه الرسالة؟
يقدمون لها عبقريات في الآداب والفنون والعلوم؟ لقد سبقتهم شعوب الأرض في هذه الحقول .

والبشرية تغص بالعبقريات في هذه الحقول الفرعية للحياة . وليست في حاجة ولا في انتظار إلى عبقريات من هناك في هذه الحقول الفرعية للحياة
يقدمون لها عبقريات في الإنتاج الصناعي المتفوق تنحني له الجباه ويغرقون به أسواقها ويغطون به على ما عندها من إنتاج؟؟ لقد سبقتهم شعوب كثيرة في يدها عجلة القيادة في هذا المضمار
يقدمون لها فلسفة مذهبية اجتماعية ومناهج اقتصادية وتنظيمية من صنع أيديهم ومن وحي أفكارهم البشرية؟ إن الأرض تعج بالفلسفات والمذاهب والمناهج الأرضية . وتشقى بها جميعاً غاية الشقاء
ماذا إذن يقدمون للبشرية لتعرفهم به وتعترف لهم بالسبق والتفوق والامتياز؟
لا شيء إلا هذه الرسالة الكبيرة . لا شيء إلا هذا المنهج الفريد . لا شيء إلا هذه المنة التي اختارهم الله لها وأكرمهم بها . وأنقذ بها البشرية كلها على أيديهم ذات يوم . والبشرية اليوم أحوج ما تكون إليها وهي تتردى في هاوية الشقاء والحيرة والقلق والإفلاس
إنها - وحدها - بطاقة الشخصية التي تقدموا بها قديماً للبشرية فأحنت لها هامتها . والتي يمكن أن يقدموها لها اليوم فيكون فيها الخلاص والإنقاذ .
إن لكل أمة من الأمم الكبيرة رسالة . وأكبر أمة هي التي تحمل أكبر رسالة . وهي التي تقدم أكبر منهج . وهي التي تتفرد في الأرض بأرفع مذهب للحياة .
والعرب يملكون هذه الرسالة - وهم فيها أصلاء وغيرهم من الشعوب هم شركاء - فأي شيطان يا ترى يصرفهم عن هذا الرصيد الضخم؟ أي شيطان؟
لقد كانت المنة الإلهية على هذه الأمة بهذا الرسول وبهذه الرسالة عظيمة عظيمة . وما يمكن أن يصرفها عن هذه المنة إلا شيطان . . وهي مكلفة من ربها بمطاردة الشيطان
ثم يمضي السياق خطوة في استعراض أحداث المعركة والتعقيب عليها; فيعرض دهشتهم لما صارت إليه الأمور واستغرابهم لوقوع ما وقع بهم - وهم المسلمون - مما يشي بسذاجة تصورهم للأمر يومذاك قبل أن تطحنهم التجربة وتصوغهم صياغة واقعية تتعامل مع واقع الأمر وطبيعة السنن وجدية هذا الواقع الذي لا يحابي أحداً لا يأخذ بالسنن ولا يستقيم مع الجد الصارم في طبيعة الكون والحياة والعقيدة ومن ثم يقفهم على الأرض الصلبة المكشوفة; وهو يبين لهم أن ما أصابهم كان بفعلهم وكان الثمرة الطبيعية لتصرفهم . . ولكنه لا يتركهم عند هذه النقطة - التي وإن كانت حقيقة إلا أنها ليست نهاية الحقيقة - بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج; وبمشيئة الله الطليقة من وراء السنن والقوانين; فيكشف لهم عن حكمة ما وقع وعن تدبير الله فيه ليحقق من ورائه الخير لهم وللدعوة التي يجاهدون في سبيلها ; وليعدهم بهذه التجربة لما بعدها وليمحص قلوبهم ويميز صفوفهم من المنافقين الذين كشفتهم الأحداث . فالأمر في النهاية مرجعه إلى قدر الله وتدبيره .

. وبذلك تتكامل الحقيقة في تصورهم ومشاعرهم من وراء هذا البيان القرآني الدقيق العميق :
{ أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم : أنى هذا؟ قل : هو من عند أنفسكم ، إن الله على كل شيء قدير . وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم : تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا : لو نعلم قتالاً لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون . الذين قالوا لإخوانهم - وقعدوا - : لو أطاعونا ما قتلوا . قل : فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } . .
لقد كتب الله على نفسه النصر لأوليائه حملة رايته وأصحاب عقيدته . . ولكنه علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم; وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم وسلوكهم; وباستكمال العدة التي في طاقتهم وببذل الجهد الذي في وسعهم . . فهذه سنة الله . وسنة الله لا تحابي أحداً . . فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير . فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن لهم وإبطال الناموس . فإنما هم مسلمون لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس . .
ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدراً كذلك ولا يضيع هباء . فإن استسلامهم لله وحملهم لرايته وعزمهم على طاعته والتزام منهجه . . من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيراً وبركة في النهاية - بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح - وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروساً وتجارب تزيد في نقاء العقيدة وتمحيص القلوب وتطهير الصفوف; وتؤهل للنصر الموعود; وتنتهي بالخير والبركة . . ولا تطرد المسلمين من كنف الله ورعايته وعنايته . بل تمدهم بزاد الطريق . مهما يمسهم من البرح والألم والضيق في أثناء الطريق .
وبهذا الوضوح والصرامة معاً يأخذ الله الجماعة المسلمة ; وهو يرد على تساؤلها ودهشتها مما وقع; ويكشف عن السبب القريب من أفعالها; كما يكشف عن الحكمة البعيدة من قدره - سبحانه - ويواجه المنافقين بحقيقة الموت التي لا يعصم منها حذر ولا قعود :
{ أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم . إن الله على كل شيء قدير } . .
والمسلمون الذين أصيبوا في أحد بما أصيبوا; والذين فقدوا سبعين من شهدائهم غير الجراح والآلام التي عانوها في هذا اليوم المرير; والذين عز عليهم أن يصيبهم ما أصابهم وهم المسلمون وهم يجاهدون في سبيل الله وأعداؤهم هم المشركون أعداء الله . . المسلمون الذين أصيبوا بهذه المصيبة كان قد سبق لهم أن أصابوا مثليها : أصابوا مثلها يوم بدر فقتلوا سبعين من صناديد قريش . وأصابوا مثلها يوم أحد في مطلع المعركة حينما كانوا مستقيمين على أمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقبل أن يضعفوا أمام إغراء الغنائم .

وقبل أن تهجس في أنفسهم الخواطر التي لا ينبغي أن تهجس في ضمائر المؤمنين
ويذكرهم الله هذا كله وهو يرد على دهشتهم المتسائلة فيرجع ما حدث لهم إلى سببه المباشر القريب :
{ قل : هو من عند أنفسكم } . .
أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر . وأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنفسكم هي التي خالجتها الأطماع والهواجس . وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله وخطته للمعركة . . فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم وتقولون : كيف هذا؟ هو من عند أنفسكم بانطباق سنة الله عليكم حين عرّضتم أنفسكم لها . فالإنسان حين يعرّض نفسه لسنة الله لا بد أن تنطبق عليه مسلماً كان أو مشركاً ولا تنخرق محاباة له فمن كمال إسلامه أن يوافق نفسه على مقتضى سنة الله ابتداء
{ إن الله على كل شيء قدير } . .
ومن مقتضى قدرته أن تنفذ سنته وأن يحكم ناموسه وأن تمضي الأمور وفق حكمه وإرادته وألا تتعطل سننه التي أقام عليها الكون والحياة والأحداث .
ومع هذا فقد كان قدر الله من وراء الأمر كله لحكمة يراها . وقدر الله دائماً من وراء كل أمر يحدث ومن وراء كل حركة وكل نأمة وكل انبثاقة في هذا الكون كله :
{ وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله . . . } . .
لم يقع مصادفة ولا جزافاً ولم يقع عبثاً ولا سدى . فكل حركة محسوب حسابها في تصميم هذا الكون; ومقدر لها علتها ونتائجها; وهي في مجموعها - ومع جريانها وفق السنن والقوانين الثابتة التي لا تنخرق ولا تتعطل ولا تحابي - تحقق الحكمة الكامنة وراءها; وتكمل « التصميم » النهائي للكون في مجموعه
إن التصور الإسلامي يبلغ من الشمول والتوازن في هذه القضية ، ما لا يبلغه أي تصور آخر في تاريخ البشرية . .
هنالك ناموس ثابت وسنن حتمية . . وهناك وراء الناموس الثابت والسنن الحتمية إرادة فاعلة ومشيئة طليقة . وهناك وراء الناموس والسنن والإرادة والمشيئة حكمة مدبرة يجري كل شيء في نطاقها . . والناموس يتحكم والسنن تجري في كل شيء - ومن بينها الإنسان - والإنسان يتعرض لهذه السنن بحركاته الإرادية المختارة وبفعله الذي ينشئه حسب تفكيره وتدبيره فتنطبق عليه وتؤثر فيه . . ولكن هذا كله يقع موافقاً لقدر الله ومشيئته ; ويحقق في الوقت ذاته حكمته وتقديره . . وإرادة الإنسان وتفكيره وحركته وفاعليته هي جزء من سنن الله وناموسه يفعل بها ما يفعل ويحقق بها ما يحقق في نطاق قدره وتدبيره . فليس شيء منها خارجاً على السنن والناموس . ولا مقابلاً لها ومناهضاً لفعلها كما يتصور الذين يضعون إرادة الله وقدره في كفة ويضعون إرادة الإنسان وفاعليته في الكفة المقابلة .

. كلا . ليس الأمر هكذا في التصور الإسلامي . . فالإنسان ليس نداً لله ولا عدواً له كذلك . والله - سبحانه - حين وهب الإنسان كينونته وفكره وإرادته وتقديره وتدبيره وفاعليته في الأرض لم يجعل شيئاً من هذا كله متعارضاً مع سنته - سبحانه - ولا مناهضاً لمشيئته ولا خارجاً كذلك عن الحكمة الأخيرة وراء قدره في هذا الكون الكبير . . ولكن جعل من سنته وقدره أن يقدر الإنسان ويدبر ; وأن يتحرك ويؤثر ; وأن يتعرض لسنة الله فتنطبق عليه ; وأن يلقى جزاء هذا التعرض كاملاً من لذة وألم وراحة وتعب وسعادة وشقاوة . . وأن يتحقق من وراء هذا التعرض ونتيجته قدر الله المحيط بكل شيء في تناسق وتوازن . .
وهذا الذي وقع في غزوة أحد مثل لهذا الذي نقوله عن التصور الإسلامي الشامل الكامل . فقد عرف الله المسلمين سنته وشرطه في النصر والهزيمة . فخالفوا هم عن سنته وشرطه فتعرضوا للألم والقرح الذي تعرضوا له . . ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد ، فقد كان وراء المخالفة والألم تحقيق قدر الله في تمييز المؤمنين من المنافقين في الصف وتمحيص قلوب المؤمنين وتجلية ما فيها من غبش في التصور ومن ضعف أو قصور . .
وهذا بدوره خير ينتهي إليه أمر المسلمين - من وراء الألم والضر - وقد نالوه وفق سنة الله كذلك . فمن سنته أن المسلمين الذين يسلمون بمنهج الله ويستسلمون له في عمومه يعينهم الله ويرعاهم ويجعل من أخطائهم وسيلة لخيرهم النهائي ولو ذاقوا مغبتها من الألم - لأن هذا الألم وسيلة من وسائل التمحيص والتربية والإعداد .
وعلى هذا الموقف الصلب المكشوف تستريح أقدام المسلمين وتطمئن قلوبهم بلا أرجحة ولا قلق ولا حيرة وهم يواجهون قدر الله ويتعاملون مع سنته في الحياة; وهم يحسون أن الله يصنع بهم في أنفسهم وفيمن حولهم ما يريده وأنهم أداة من أدوات القدر يفعل بها الله ما يشاء وأن خطأهم وصوابهم - وكل ما يلقونه من نتائج لخطئهم وصوابهم - متساوق مع قدر الله وحكمته وصائر بهم إلى الخير ما داموا في الطريق :
{ وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله . . وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم : تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا : لو نعلم قتالاً لاتبعناكم . هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان . يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم . والله أعلم بما يكتمون } . .
وهو يشير في هذه الآية إلى موقف عبد الله بن أبي بن سلول و من معه ويسميهم : { الذين نافقوا } . . وقد كشفهم الله في هذه الموقعة وميز الصف الإسلامي منهم . وقرر حقيقة موقفهم يومذاك : { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } . . وهم غير صادقين في احتجاجهم بأنهم يرجعون لأنهم لا يعلمون أن هناك قتالاً سيكون بين المسلمين والمشركين .

فلم يكن هذا هو السبب في حقيقة الأمر وإنما هم : { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } . . فقد كان في قلوبهم النفاق الذي لا يجعلها خالصة للعقيدة وإنما يجعل أشخاصهم واعتباراتها فوق العقيدة واعتباراتها . فالذي كان برأس النفاق - عبد الله بن أبي - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ برأيه يوم أحد . والذي كان به قبل هذا أن قدومه - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بالرسالة الإلهية حرمه ما كانوا يعدونه له من الرياسة فيهم وجعل الرياسة لدين الله ولحامل هذا الدين . . فهذا الذي كان في قلوبهم والذي جعلهم يرجعون يوم أحد والمشركون على أبواب المدينة وجعلهم يرفضون الاستجابة إلى المسلم الصادق عبد الله بن عمرو بن حرام وهو يقول لهم : { تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا } محتجين بأنهم لا يعلمون أن هناك قتالاً وهذا ما فضحهم الله به في هذه الآية :
{ والله أعلم بما يكتمون } . .
ثم مضى يكشف بقية موقفهم في محاولة خلخلة الصفوف والنفوس :
{ الذين قالوا لإخوانهم - وقعدوا - لو أطاعونا ما قتلوا } . .
فهم لم يكتفوا بالتخلف - والمعركة على الأبواب - وما يحدثه هذا التخلف من رجة وزلزلة في الصفوف والنفوس وبخاصة أن عبد الله بن أبي كان ما يزال سيداً في قومه ولم يكشف لهم نفاقه بعد ولم يدمغه الله بهذا الوصف الذي يهز مقامه في نفوس المسلمين منهم . بل راحوا يثيرون الزلزلة والحسرة في قلوب أهل الشهداء وأصحابهم بعد المعركة وهم يقولون :
{ لو أطاعونا ما قتلوا } . .
فيجعلون من تخلفهم حكمة ومصلحة ويجعلون من طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعه مغرماً ومضرة . وأكثر من هذا كله يفسدون التصور الإسلامي الناصع لقدر الله ولحتمية الأجل ولحقيقة الموت والحياة وتعلقهما بقدر الله وحده . . ومن ثم يبادرهم بالرد الحاسم الناصع الذي يرد كيدهم من ناحية ويصحح التصور الإسلامي ويجلو عنه الغبش من ناحية :
{ قل : فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } . .
فالموت يصيب المجاهد والقاعد والشجاع والجبان . ولا يرده حرص ولا حذر . ولا يؤجله جبن ولا قعود . . والواقع هو البرهان الذي لا يقبل المراء . . وهذا الوقاع هو الذي يجبههم به القرآن الكريم فيرد كيدهم اللئيم ويقر الحق في نصابه ويثبت قلوب المسلمين . ويسكب عليها الطمأنينة والراحة واليقين . .
ومما يلفت النظر في الاستعراض القرآني لأحداث المعركة تأخيره ذكر هذا الحادث - حادث نكول عبد الله ابن أبي ومن معه عن المعركة - وقد وقع في أول أحداثها وقبل ابتدائها . . تأخيره إلى هذا الموضع من السياق . .
وهذا التأخير يحمل سمة من سمات منهج التربية القرآنية . . فقد آخره حتى يقرر جملة القواعد الأساسية للتصور الإسلامي التي قررها; وحتى يقر في الأخلاد جملة المشاعر الصحيحة التي أقرها; وحتى يضع تلك الموازين الصادقة للقيم التي وضعها .

. ثم يشير هذه الإشارة إلى { الذين نافقوا } . وفعلتهم وتصرفهم بعدها وقد تهيأت النفوس لإدراك ما في هذه الفعلة وما في هذا التصرف من انحراف عن التصور الصحيح وعن القيم الصحيحة في الميزان الصحيح . . وهكذا ينبغي أن تنشأ التصورات والقيم الإيمانية في النفس المسلمة وأن توضع لها الموازين الصحيحة التي تعود إليها لاختبار التصورات والقيم ووزن الأعمال والأشخاص ثم تعرض عليها الأعمال والأشخاص - بعد ذلك - فتحكم عليها الحكم المستنير الصحيح بذلك الحس الإيماني الصحيح . .
ولعل هنالك لفتة أخرى من لفتات المنهج الفريد . فعبد الله بن أبيّ كان إلى ذلك الحين ما يزال عظيماً في قومه - كما أسلفنا - وقد ورم أنفه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ برأيه - لأن إقرار مبدأ الشورى وإنفاذه اقتضى الأخذ بالرأي الآخر الذي بدا رجحان الاتجاه إليه في الجماعة - وقد أحدث تصرف هذا المنافق الكبير رجة في الصف المسلم وبلبلة في الأفكار كما أحدثت أقاويله بعد ذلك عن القتلى حسرات في القلوب وبلبلة في الخواطر . . فكان من حكمة المنهج إظهار الاستهانة به وبفعلته وبقوله; وعدم تصدير الاستعراض القرآني لأحداث الغزوة بذلك الحادث الذي وقع في أولها; وتأخيره إلى هذا الموضع المتأخر من السياق . مع وصف الفئة التي قامت به بوصفها الصحيح : { الذين نافقوا } والتعجيب من أمرهم في هذه الصيغة المجملة : { ألم تر إلى الذين نافقوا؟ } وعدم إبراز اسم كبيرهم أو شخصه ليبقى نكره في : { الذين نافقوا } كما يستحق من يفعل فعلته وكما تساوي حقيقته في ميزان الإيمان . . ميزان الإيمان الذي أقامه فيما سبق من السياق . .
وبعد أن تستريح القلوب وتستقر الضمائر على حقيقة السنن الجارية في الكون وعلى حقيقة قدر الله في الأمور وعلى حقيقة حكمة الله من وراء التقدير والتدبير . . ثم على حقيقة الأجل المكتوب والموت المقدور الذي لا يؤجله قعود ولا يقدمه خروج ولا يمنعه حرص ولا حذر ولا تدبير . .
بعد ذلك يمضي السياق في بيان حقيقة أخرى . . حقيقة ضخمة في ذاتها وضخمة في آثارها . . حقيقة أن الذين قتلوا في سبيل الله ليسوا أمواتاً بل أحياء . أحياء عند ربهم يرزقون; لم ينقطعوا عن حياة الجماعة المسلمة من بعدهم ولا عن أحداثها فهم متأثرون بها مؤثرون فيها والتأثير والتأثر أهم خصائص الحياة .
ويربط بين حياة الشهداء في معركة أحد وبين الأحداث التي تلت استشهادهم برباط محكم ثم ينتقل إلى تصوير موقف العصبة المؤمنة التي استجابت لله والرسول بعد كل ما أصابها من القرح وخرجت تتعقب قريشاً بعد ذهابها خوفاً من كرة قريش على المدينة ولم تبال تخويف الناس بجموع قريش متوكلة على الله وحده محققة بهذا الموقف معنى الإيمان وحقيقته :
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون .

فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم : ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين . الذين استجابوا لله والرسول . من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيماناً وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ، واتبعوا رضوان الله ، والله ذو فضل عظيم . . إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } . .
لقد شاء الله بعد أن جلا في قلوب المؤمنين حقيقة القدر والأجل وتحدى ما يبثه المنافقون من شكوك وبلبلة وحسرات بقولهم عن القتلى : { لو أطاعونا ما قتلوا } فقال يتحداهم : { قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } . .
شاء الله بعد أن أراح القلوب المؤمنة على صدر هذه الحقيقة الثابتة . . أن يزيد هذه القلوب طمأنينة وراحة . فكشف لها عن مصير الشهداء : الذين قتلوا في سبيل الله - وليس هنالك شهداء إلا الذين يقتلون في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى ، مجردة من كل ملابسة أخرى - فإذا هؤلاء الشهداء أحياء ، لهم كل خصائص الأحياء . فهم { يرزقون } عند ربهم . وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله . وهم يستبشرون بمصائر من وراءهم من المؤمنين . وهم يحفلون الأحداث التي تمر بمن خلفهم من إخوانهم . . فهذه خصائص الأحياء : من متاع واستبشار واهتمام وتأثر وتأثير . فما الحسرة على فراقهم؟ وهم أحياء موصولون بالأحياء وبالأحداث فوق ما نالهم من فضل الله وفوق ما لقوا عنده من الرزق والمكانة؟ وما هذه الفواصل التي يقيمها الناس في تصوراتهم بين الشهيد الحي ومن خلفه من إخوانه؟ والتي يقيمونها بين عالم الحياة وعالم ما بعد الحياة؟ ولا فواصل ولا حواجز بالقياس إلى المؤمنين الذين يتعاملون هنا وهناك مع الله . . ؟
إن جلاء هذه الحقيقة الكبيرة ذو قيمة ضخمة في تصور الأمور . إنها تعدّل - بل تنشىء إنشاء - تصور المسلم للحركة الكونية التي تتنوع معها صور الحياة وأوضاعها وهي موصولة لا تنقطع ; فليس الموت خاتمة المطاف ; بل ليس حاجزاً بين ما قبله وما بعده على الإطلاق
إنها نظرة جديدة لهذا الأمر ذات آثار ضخمة في مشاعر المؤمنين واستقبالهم للحياة والموت وتصورهم لما هنا وما هناك .
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } . .
والآية نص في النهي عن حسبان أن الذين قتلوا في سبيل الله وفارقوا هذه الحياة وبعدوا عن أعين الناس . . أموات .

. ونص كذلك في إثبات أنهم { أحياء } . . { عند ربهم } . ثم يلي هذا النهي وهذا الإثبات وصف ما لهم من خصائص الحياة . فهم { يرزقون } . .
ومع أننا نحن - في هذه الفانية - لا نعرف نوع الحياة التي يحياها الشهداء إلا ما يبلغنا من وصفها في الأحاديث الصحاح . . إلا أن هذا النص الصادق من العليم الخبير كفيل وحده بأن يغير مفاهيمنا للموت والحياة وما بينهما من انفصال والتئام . وكفيل وحده بأن يعلمنا أن الأمور في حقيقتها ليست كما هي في ظواهرها التي ندركها; وأننا حين ننشىء مفاهيمنا للحقائق المطلقة بالاستناد إلى الظواهر التي ندركها . لا ننتهي إلى إدراك حقيقي لها; وأنه أولى لنا أن ننتظر البيان في شأنها ممن يملك البيان سبحانه وتعالى .
فهؤلاء ناس منا يقتلون وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها . ولكن لأنهم : { قتلوا في سبيل الله } ; وتجردوا له من كل الأعراض والأغراض الجزئية الصغيرة; واتصلت أرواحهم بالله فجادوا بأرواحهم في سبيله . . لأنهم قتلوا كذلك فإن الله - سبحانه - يخبرنا في الخبر الصادق أنهم ليسوا أمواتاً . وينهانا أن نحسبهم كذلك ويؤكد لنا أنهم أحياء عنده وأنهم يرزقون . فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء . . ويخبرنا كذلك بما لهم من خصائص الحياة الأخرى :
{ فرحين بما آتاهم الله من فضله } . .
فهم يستقبلون رزق الله بالفرح; لأنهم يدركون أنه { من فضله } عليهم . فهو دليل رضاه وهم قد قتلوا في سبيل الله . فأي شيء يفرحهم إذن أكثر من رزقه الذي يتمثل فيه رضاه؟
ثم هم مشغولون بمن وراءهم من إخوانهم; وهم مستبشرون لهم; لما علموه من رضى الله عن المؤمنين المجاهدين :
{ ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } .
إنهم لم ينفصلوا من إخوانهم { الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } ولم تنقطع بهم صلاتهم . إنهم { أحياء } كذلك معهم مستبشرون بما لهم في الدنيا والآخرة . موضع استبشارهم لهم : { أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } . . وقد عرفوا هذا واستيقنوه من حياتهم { عند ربهم } ومن تلقيهم لما يفيضه عليهم من نعمة وفضل ومن يقينهم بأن هذا شأن الله مع المؤمنين الصادقين . وأنه لا يضيع أجر المؤمنين . .
فما الذي يبقى من خصائص الحياة غير متحقق للشهداء - الذين قتلوا في سبيل الله؟ - وما الذي يفصلهم عن إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم؟ وما الذي يجعل هذه النقلة موضع حسرة وفقدان ووحشة في نفس الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم; وهي أولى أن تكون موضع غبطة ورضى وأنس عن هذه الرحلة إلى جوار الله مع هذا الاتصال بالأحياء والحياة
إنها تعديل كامل لمفهوم الموت - متى كان في سبيل الله - وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم .

وإفساح لمجال الحياة ومشاعرها وصورها بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة كما تتجاوز مظاهر الحياة الزائلة . وحيث تستقر في مجال فسيح عريض ، لا تعترضه الحواجز التي تقوم في أذهاننا وتصوراتنا عن هذه النقلة من صورة إلى صورة ومن حياة إلى حياة
ووفقاً لهذا المفهوم الجديد الذي أقامته هذه الآية ونظائرها من القرآن الكريم في قلوب المسلمين سارت خطى المجاهدين الكرام في طلب الشهادة في - سبيل الله - وكانت منها تلك النماذج التي ذكرنا بعضها في مقدمات الحديث عن هذه الغزوة . فيرجع إليها هناك .
وبعد تقرير هذه الحقيقة الكبيرة يتحدث عن { المؤمنين } الذين يستبشر الشهداء في الموقعة بما هو مدخر لهم عند ربهم فيعين من هم; ويحدد خصائصهم وصفاتهم وقصتهم مع ربهم :
{ الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيماناً وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل . فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم } . .
إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة . وهم مثخنون بالجراح . وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة . وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة ومرارة الهزيمة وشدة الكرب . وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا فقل عددهم فوق ما هم مثخنون بالجراح
ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاهم . ودعاهم وحدهم . ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم - ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال - فاستجابوا . . استجابوا لدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي دعوة الله - كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك - فاستجابوا بهذا لله والرسول { من بعد ما أصابهم القرح } ونزل بهم الضر وأثخنتهم الجراح .
لقد دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاهم وحدهم . وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى وتومىء إلى حقائق كبرى نشير إلى شيء منها :
فلعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم هو شعور الهزيمة وآلام البرح والقرح ; فاستنهضهم لمتابعة قريش وتعقبها كي يقر في أخلادهم أنها تجربة وابتلاء وليست نهاية المطاف . وأنهم بعد ذلك أقوياء وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء إنما هي واحدة وتمضي ولهم الكرة عليهم متى نفضوا عنهم الضعف والفشل واستجابوا لدعوة الله والرسول .
ولعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته .

فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس ; يشعر قريشاً أنها لم تنل من المسلمين منالاً . وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها . .
وقد تحققت هذه وتلك كما ذكرت روايات السيرة .
ولعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاء أن يشعر المسلمين وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض . . حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها . ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها وليس لهم من غاية في حياتهم سواها . عقيدة يعيشون لها وحدها فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها ولا يقدمونها فداها . .
لقد كان هذا أمراً جديداً في هذه الأرض في ذلك الحين . ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها - بعد أن يشعر المؤمنون - بقيام هذا الأمر الجديد وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة .
ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة : صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم - كما أبلغهم رسل أبي سفيان - وكما هوّل المنافقون في أمر قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا - :
{ الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل } . .
هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت إعلاناً قوياً عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة . وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة . .
وتحدثنا بعض روايات السيرة عن صورة من ذلك القرح ومن تلك الاستجابة :
قال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحداً قال : شهدنا أحداً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وأخي ، فرجعنا جريحين . فلما أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخروج في طلب العدو ، قلت لأخي - أو قال لي - أتفوتنا غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ - والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل . فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت أيسر جراحاً منه فكان إذا غلب حملته عقبة . . حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون .
وقال محمد بن إسحاق : كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس بطلب العدو وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس .

فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام . فقال : يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع . وقال يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن . ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفسي . فتخلف على أخوتك . فتخلفت عليهن . . فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج معه . .
وهكذا تتضافر مثل هذه الصور الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة في تلك النفوس الكبيرة . النفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلاً وترضى به وحده وتكتفي وتزداد إيماناً به في ساعة الشدة وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم بالناس :
{ حسبنا الله ونعم الوكيل } . .
ثم تكون العاقبة كما هو المنتظر من وعد الله للمتوكلين عليه المكتفين به المتجردين له :
{ فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله } .
فأصابوا النجاة - لم يمسسهم سوء - ونالوا رضوان الله . وعادوا بالنجاة والرضى .
{ بنعمة من الله وفضل } . .
فهنا يردهم إلى السبب الأول في العطاء : نعمة الله وفضله على من يشاء . ومع التنويه بموقفهم الرائع فإنه يرد الأمر إلى نعمة الله وفضله لأن هذا هو الأصل الكبير الذي يرجع إليه كل فضل وما موقفهم ذاك إلا طرف من هذا الفضل الجزيل
{ والله ذو فضل عظيم } . .
بهذا يسجل الله لهم في كتابه الخالد وفي كلامه الذي تتجاوب به جوانب الكون كله صورتهم هذه وموقفهم هذا وهي صورة رفيعة ، وهو موقف كريم .
وينظر الإنسان في هذه الصورة وفي هذا الموقف فيحس كأن كيان الجماعة كله قد تبدل ما بين يوم وليلة . نضجت . وتناسقت . واطمأنت إلى الأرض التي تقف عليها . وانجلى الغبش عن تصورها . وأخذت الأمر جداً كله . وخلصت من تلك الأرجحة والقلقلة التي حدثت بالأمس فقط في التصورات والصفوف . فما كانت سوى ليلة واحدة هي التي تفرق بين موقف الجماعة اليوم وموقفها بالأمس . . والفارق هائل والمسافة بعيدة . . لقد فعلت التجربة المريرة فعلها في النفوس ; وقد هزتها الحادثة هزاً عنيفاً . أطار الغبش وأيقظ القلوب وثبت الأقدام وملأ النفوس بالعزم والتصميم . .
نعم . وكان فضل الله عظيماً في الابتلاء المرير . .
وأخيراً يختم هذه الفقرة بالكشف عن علة الخوف والفزع والجزع . . إنه الشيطان يحاول أن يجعل أولياءه مصدر خوف ورعب وأن يخلع عليهم سمة القوة والهيبة . . ومن ثم ينبغي أن يفطن المؤمنون إلى مكر الشيطان وأن يبطلوا محاولته .

فلا يخافوا أولياءه هؤلاء ولا يخشوهم بل يخافوا الله وحده . فهو وحده القوي القاهر القادر الذي ينبغي أن يخاف :
{ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه . فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } .
إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه ويلبسهم لباس القوة والقدرة ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول وأنهم يملكون النفع والضر . . ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ; ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم ودفعهم عن الشر والفساد .
والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل وأن يتضخم الشر وأن يتبدى قوياً قادراً قاهراً بطاشاً جباراً لا تقف في وجهه معارضة ولا يصمد له مدافع ولا يغلبه من المعارضين غالب . . الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا . فتحت ستار الخوف والرهبة وفي ظل الإرهاب والبطش يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه يقلبون المعروف منكراً والمنكر معروفاً وينشرون الفساد والباطل والضلال ويخفتون صوت الحق والرشد والعدل ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر وتقتل الخير . . دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم ومطاردتهم وطردهم من مقام القيادة . بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذي يروجون له وجلاء الحق الذي يطمسونه . .
والشيطان ماكر خادع غادر يختفي وراء أوليائه وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته . . ومن هنا يكشفه الله ويوقفه عارياً لا يستره ثوب من كيده ومكره . ويعرف المؤمنين الحقيقة : حقيقة مكره ووسوسته ليكونوا منها على حذر . فلا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم . فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه ويستند إلى قوته . . إن القوة الوحيدة التي تخشى وتخاف هي القوة التي تملك النفع والضر . هي قوة الله . وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله وهم حين يخشونها وحدها أقوى الأقوياء . فلا تقف لهم قوة في الأرض . . لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان :
{ فلا تخافوهم . وخافون إن كنتم مؤمنين } . .
وأخيراً يتجه السياق في ختام الاستعراض والتعقيب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسليه ويؤسيه عما يقع في قلبه الكريم من الأسى والحزن من مسارعة الكفار إلى الكفر ونشاطهم فيه كأنهم في سباق إلى هدف فإن هذا لن يضر الله شيئاً . وإنما هي فتنة الله لهم وقدر الله بهم فقد علم الله من أمرهم وكفرهم ما يؤهلهم للحرمان في الآخرة ; فتركهم يسارعون في الكفر إلى نهايته وقد كان الهدى مبذولاً لهم فآثروا عليه الكفر ; فتركوا يسارعون في الكفر . وأملي لهم ليزدادوا إثماً مع الإملاء في الزمن والإملاء في الرخاء . فهذا الإمهال والإملاء إنما هو وبال عليهم وبلاء .

. ويختم الاستعراض بكشف حكمة الله وتدبيره من وراء الأحداث كلها : من وراء ابتلاء المؤمنين وإمهال الكافرين . إنها تمييز الخبيث من الطيب بالاختبار والابتلاء فقد كان أمر القلوب غيباً مما يستأثر الله به ولا يطلع الناس عليه فشاء سبحانه أن يكشف هذا الغيب بالصورة المناسبة للبشر وبالوسيلة التي يدركها البشر . . فكان الابتلاء للمؤمنين والإمهال للكافرين ليتكشف المخبوء في القلوب ويتميز الخبيث من الطيب ; ويتبين المؤمنون بالله ورسله على وجه القطع واليقين :
{ ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم . إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئاً ولهم عذاب أليم . ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين . ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وأن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم } . .
إن هذا الختام هو أنسب ختام لاستعراض الغزوة التي أصيب فيها المسلمون هذه الإصابة ; والتي رجع منها المشركون بالنصر والغلبة . . فهناك دائماً تلك الشبهة الكاذبة التي تحيك في بعض الصدور ; أو الأمنية العاتبة التي تهمس في بعض القلوب أمام المعارك التي تنشب بين الحق والباطل . ثم يعود فيها الحق بمثل هذه الإصابة ويعود منها الباطل ذا صولة وجولة
هناك دائماً الشبهة الكاذبة أو الأمنية العاتبة : لماذا يا رب؟ لماذا يصاب الحق وينجو الباطل؟ لماذا يبتلى أهل الحق وينجو أهل الباطل؟ ولماذا لا ينتصر الحق كلما التقى مع الباطل ويعود بالغلبة والغنيمة؟ أليس هو الحق الذي ينبغي أن ينتصر؟ وفيم تكون للباطل هذه الصولة؟ وفيم يعود الباطل من صدامه مع الحق بهذه النتيجة وفيها فتنة للقلوب وهزة؟
ولقد وقع بالفعل أن قال المسلمون يوم أحد في دهشة واستغراب : « أنى هذا؟ » . .
ففي هذا المقطع الختامي يجيء الجواب الأخير والبيان الأخير . ويريح الله القلوب المتعبة ويجلو كل خاطرة تتدسس إلى القلوب من هذه الناحية ويبين سنته وقدره وتدبيره في الأمر كله : أمس واليوم وغداً . وحيثما التقى الحق والباطل في معركة فانتهت بمثل هذه النهاية :
إن ذهاب الباطل ناجياً في معركة من المعارك . وبقاءه منتفشاً فترة من الزمان ليس معناه أن الله تاركه أو أنه من القوة بحيث لا يغلب أو بحيث يضر الحق ضرراً باقياً قاضياً . .
وإن ذهاب الحق مبتلى في معركة من المعارك وبقاءه ضعيف الحول فترة من الزمان ليس معناه إن الله مجافيه أو ناسيه أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه . .
كلا .

إنما هي حكمة وتدبير . . هنا وهناك . . يملي للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق ; وليرتكب أبشع الآثام وليحمل أثقل الأوزار ولينال أشد العذاب باستحقاق . . ويبتلى الحق ليميز الخبيث من الطيب ويعظم الأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت . . فهو الكسب للحق والخسار للباطل مضاعفاً هذا وذاك هنا وهناك
{ ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم } . .
إنه يواسي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدفع عنه الحزن الذي يساور خاطره; وهو يرى المغالين في الكفر يسارعون فيه ويمضون بعنف واندفاع وسرعة كأنما هنالك هدف منصوب لهم يسارعون إلى بلوغه
وهو تعبير مصور لحالة نفسية واقعية . فبعض الناس يرى مشتداً في طريق الكفر والباطل والشر والمعصية; كأنه يجهد لنيل السبق فيه فهو يمضي في عنف واندفاع وحماسة كأن هناك من يطارده من الخلف أو من يهتف له من الإمام إلى جائزة تُنال
وكان الحزن يساور قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسرة على هؤلاء العباد ; الذين يراهم مشمرين ساعين إلى النار وهو لا يملك لهم رداً وهم لا يسمعون له نذارة وكان الحزن يساور قلبه كذلك لما يثيره هؤلاء المشمرون إلى النار المسارعون في الكفر من الشر والأذى يصيب المسلمين ويصيب دعوة الله وسيرها بين الجماهير التي كانت تنتظر نتائج المعركة مع قريش لتختار الصف الذي تنحاز إليه في النهاية . . فلما أسلمت قريش واستسلمت دخل الناس في دين الله أفواجا . . ومما لا شك فيه أنه كان لهذه الاعتبارات وقعها في قلب الرسول الكريم . فيطمئن الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويواسي قلبه ويمسح عنه الحزن الذي يساوره .
{ ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر . إنهم لن يضروا الله شيئاً } . .
وهؤلاء العباد المهازيل لا يبلغون أن يضروا الله شيئاً . والأمر في هذا لا يحتاج إلى بيان . إنما يريد الله سبحانه أن يجعل قضية العقيدة قضيته هو; وأن يجعل المعركة مع المشركين معركته هو . ويريد أن يرفع عبء هذه العقيدة وعبء هذه المعركة عن عاتق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعاتق المسلمين جملة . . فالذين يسارعون في الكفر يحاربون الله وهم أضعف من أن يضروا الله شيئاً . . وهم إذن لن يضروا دعوته . ولن يضروا حملة هذه الدعوة . مهما سارعوا في الكفر ومهما أصابوا أولياء الله بالأذى .
إذن لماذا يتركهم الله يذهبون ناجين وينتفشون غالبين وهم أعداؤه المباشرون؟
لأنه يدبر لهم ما هو أنكى وأخزى
{ يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة } . .
يريد لهم أن يستنفدوا رصيدهم كله; وأن يحملوا وزرهم كله وأن يستحقوا عذابهم كله وأن يمضوا مسارعين في الكفر إلى نهاية الطريق
{ ولهم عذاب عظيم } .

.
ولماذا يريد الله بهم هذه النهاية الفظيعة؟ لأنهم استحقوها بشرائهم الكفر بالإيمان .
{ إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئاً ولهم عذاب أليم } . .
ولقد كان الإيمان في متناول أيديهم . دلائله مبثوثة في صفحات الكون وفي أعماق الفطرة . وأماراته قائمة في « تصميم » هذا الوجود العجيب وفي تناسقه وتكامله الغريب ، وقائمة كذلك في « تصميم » الفطرة المباشرة ، وتجاوبها مع هذا الوجود ، وشعورها باليد الصانعة ، وبطابع الصنعة البارعة . . ثم إن الدعوة إلى الإيمان - بعد هذا كله - قائمة على لسان الرسل ، وقائمة في طبيعة الدعوة وما فيها من تلبية الفطرة ومن جمال التناسق ومن صلاحية للحياة والناس . .
أجل كان الإيمان مبذولاً لهم فباعوه واشتروا به الكفر على علم وعن بينة ومن هنا استحقوا أن يتركهم الله يسارعون في الكفر ليستنفدوا رصيدهم كله ولا يستبقوا لهم حظاً من ثواب الآخرة . ومن هنا كذلك كانوا أضعف من أن يضروا الله شيئاً . فهم في ضلالة كاملة ليس معهم من الحق شيء . ولم ينزل الله بالضلالة سلطاناً ; ولم يجعل في الباطل قوة . فهم أضعف من أن يضروا أولياء الله ودعوته بهذه القوة الضئيلة الهزيلة مهما انتفشت ومهما أوقعت بالمؤمنين من أذى وقتي إلى حين
{ ولهم عذاب أليم } . .
أشد إيلاماً - بما لا يقاس - مما يملكون إيقاعه بالمؤمنين من آلام
{ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم . إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً . ولهم عذاب مهين } . .
وفي هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور والشبهة التي تجول في بعض القلوب والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح ، وهي ترى أعداء الله وأعداء الحق متروكين لا يأخذهم العذاب ممتعين في ظاهر الأمر بالقوة والسلطة والمال والجاه مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم ; ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ; يحسبون أن الله - حاشاه - يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان فيملي له ويرخي له العنان أو يحسبون أن الله - سبحانه - لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل فيدع للباطل أن يحطم الحق ولا يتدخل لنصرته أو يحسبون أن هذا الباطل حق وإلا فلم تركه الله ينمو ويكبر ويغلب؟ أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر ثم . . يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين يلجون في عتوهم ويسارعون في كفرهم ويلجون في طغيانهم ويظنون أن الأمر قد استقام لهم وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم
وهذا كله وهم باطل وظن بالله غير الحق والأمر ليس كذلك . وها هو ذا الله سبحانه وتعالى يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن .

. إنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه وإذا كان يعطيهم حظاً في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه . . إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء فإنما هي الفتنة ; وإنما هو الكيد المتين وإنما هو الاستدراج البعيد :
{ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم . . إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً }
ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة بالابتلاء الموقظ لابتلاهم . . ولكنه لا يريد بهم خيراً وقد اشتروا الكفر بالإيمان وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من هذه الغمرة - غمرة النعمة والسلطان - بالابتلاء
{ ولهم عذاب مهين } . .
والإهانة هي المقابل لما هم فيه من مقام ومكانة ونعماء .
وهكذا يتكشف أن الابتلاء من الله نعمة لا تصيب إلا من يريد له الله به الخير . فإذا أصابت أولياءه فإنما تصيبهم لخير يريده الله لهم - ولو وقع الابتلاء مترتباً على تصرفات هؤلاء الأولياء - فهناك الحكمة المغيبة والتدبير اللطيف ، وفضل الله على أوليائه المؤمنين .
وهكذا تستقر القلوب وتطمئن النفوس وتستقر الحقائق الأصيلة البسيطة في التصور الإسلامي الواضح المستقيم .
ولقد شاءت حكمة الله وبره بالمؤمنين أن يميزهم من المنافقين الذين اندسوا في الصفوف تحت تأثير ملابسات شتى ليست من حب الإسلام في شيء . فابتلاهم الله هذا الابتلاء - في أحد بسبب من تصرفاتهم وتصوراتهم ليميز الخبيث من الطيب عن هذا الطريق :
{ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب . وما كان الله ليطلعكم على الغيب . ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء . فآمنوا بالله ورسله . وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم } . .
ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله - سبحانه - وليس من مقتضى ألوهيته وليس من فعل سنته أن يدع الصف المسلم مختلطاً غير مميز ; يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان ومظهر الإسلام بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان ومن روح الإسلام . فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دوراً كونياً كبيراً ولتحمل منهجاً إلهياً عظيماً ولتنشىء في الأرض واقعاً فريداً ونظاماً جديداً . . وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك ويقتضي ألا يكون في الصف خلل ولا في بنائه دخل . . وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض ; وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة . .
وكل هذا يقتضي أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث . وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة . وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر . . ومن ثم كان شأن الله - سبحانه - أن يميز الخبيث من الطيب ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة
كذلك ما كان من شأن الله - سبحانه - أن يطلع البشر على الغيب الذي استأثر به فهم ليسوا مهيئين بطبيعتهم التي فطرهم عليها للاطلاع على الغيب وجهازهم البشري الذي أعطاه الله لهم ليس مصمماً على أساس استقبال هذا الغيب إلا بمقدار .

وهو مصمم هكذا بحكمة . مصمم لأداء وظيفة الخلافة في الأرض . وهي لا تحتاج للاطلاع على الغيب . ولو فتح الجهاز الإنساني على الغيب لتحطم . لأنه ليس معداً لاستقباله إلا بالمقدار الذي يصل روحه بخالقه ويصل كيانه بكيان هذا الكون . وأبسط ما يقع له حين يعلم مصائره كلها ألا يحرك يداً ولا رجلاً في عمارة الأرض أو أن يظل قلقاً مشغولاً بهذه المصائر بحيث لا تبقى فيه بقية لعمارة الأرض
من أجل ذلك لم يكن من شأن الله سبحانه ولا من مقتضى حكمته ولا من مجرى سنته أن يطلع الناس على الغيب .
إذن كيف يميز الله الخبيث من الطيب؟ وكيف يحقق شأنه وسنته في تطهير الصف المسلم وتجريده من الغبش وتمحيصه من النفاق وإعداده للدور الكوني العظيم الذي أخرج الأمة المسلمة لتنهض به؟
{ ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء } . .
وعن طريق الرسالة وعن طريق الإيمان بها أو الكفر وعن طريق جهاد الرسل في تحقيق مقتضى الرسالة وعن طريق الابتلاء لأصحابهم في طريق الجهاد . . عن طريق هذا كله يتم شأن الله وتتحقق سنته ويميز الله الخبيث من الطيب ويمحص القلوب ويطهر النفوس . . ويكون من قدر الله ما يكون . .
وهكذا يرفع الستار عن جانب من حكمة الله وهي تتحقق في الحياة ; وهكذا تستقر هذه الحقيقة على أرض صلبة مكشوفة منيرة . .
وأمام مشهد الحقيقة متجلية بسيطة مريحة يتجه إلى الذين آمنوا ليحققوا في ذواتهم مدلول الإيمان ومقتضاه ويلوح لهم بفضل الله العظيم الذي ينتظر المؤمنين .
{ فآمنوا بالله ورسله . وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم } . .
فيكون هذا التوجيه وهذا الترغيب بعد ذلك البيان وذلك الاطمئنان خير خاتمة لاستعراض الأحداث في « أحد » والتعقيب على هذه الأحداث . .
وبعد . . فقد تمخضت المعركة والتعقيب القرآني عليها عن حقائق ضخمة منوعة يصعب إحصاؤها ثم إيفاؤها حقها من البسط والعرض في هذا السياق من الظلال . فنكتفي بالإشارة إلى أشملها وأبرزها ليقاس عليه سائر ما في الغزوة كما عرضها القرآن الكريم من مواضع للعبرة والاستدلال :
1- لقد تمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة في طبيعة هذا الدين الذي هو المنهج الإلهي للحياة البشرية وفي طريقته في العمل في حياة البشر . وهي حقيقة أولية بسيطة ولكنها كثيراً ما تنسى أو لا تدرك ابتداء فينشأ عن نسيانها أو عدم إدراكها خطأ جسيم في النظر إلى هذا الدين : في حقيقته وفي واقعه التاريخي في حياة الإنسانية وفي دوره أمس واليوم وغداً .

.
إن بعضنا ينتظر من هذا الدين - ما دام هو المنهج الإلهي للحياة البشرية - أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة دون اعتبار لطبيعة البشر ولطاقتهم الفطرية ولواقعهم المادي في أية مرحلة من مراحل نموهم وفي أية بيئة من بيئاتهم
وحين يرون أنه لا يعمل بهذه الطريقة وإنما هو يعمل في حدود الطاقة البشرية وحدود الواقع المادي للبشر . وأن هذه الطاقة وهذا الواقع يتفاعلان معه فيتأثران به في فترات تأثراً واضحاً أو يؤثران في مدى استجابة الناس له وقد يكون تأثيرهما مضاداً في فترات أخرى فتقعد بالناس ثقلة الطين وجاذبية المطامع والشهوات دون تلبية هتاف الدين أو الاتجاه معه في طريقه اتجاهاً كاملاً . . حين يرون هذه الظواهر فإنهم يصابون بخيبة أمل لم يكونوا يتوقعونها - ما دام هذا الدين من عند الله - أو يصابون بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني للحياة وواقعيته أو يصابون بالشك في الدين إطلاقاً
وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد هو عدم إدراك طبيعة هذا الدين وطريقته أو نسيان هذه الحقيقة الأولية البسيطة .
إن هذا الدين منهج للحياة البشرية يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد بشري في حدود الطاقة البشرية ويبدأ في العمل من النقطة التي يكون البشر عندها بالفعل من واقعهم المادي ويسير بهم إلى نهاية الطريق في حدود جهدهم البشري وطاقتهم البشرية ويبلغ بهم أقصى ما تمكنهم طاقتهم وجهدهم من بلوغه .
وميزته الأساسية أنه لا يغفل لحظة في أية خطة وفي أية خطوة عن طبيعة فطرة الإنسان وحدود طاقته وواقعه المادي أيضاً . وأنه في الوقت ذاته يبلغ به - كما تحقق ذلك فعلاً في بعض الفترات وكما يمكن أن يتحقق دائماً كلما بذلت محاولة جادة - ما لم يبلغه وما لا يبلغه أي منهج آخر من صنع البشر على الإطلاق .
ولكن الخطأ كله - كما تقدم - ينشأ من عدم الإدراك لطبيعة هذا الدين أو نسيانها; ومن انتظار الخوارق التي لا ترتكن على الواقع البشري; والتي تبذل فطرة الإنسان وتنشئه نشأة أخرى لا علاقة لها بفطرته وميوله واستعداده وطاقاته وواقعه المادي كله
أليس هو من عند الله؟ أليس ديناً من عند القوة القادرة التي لا يعجزها شيء؟ فلماذا إذن يعمل فقط في حدود الطاقة البشرية؟ ولماذا يحتاج إلى الجهد البشري ليعمل؟ ثم لماذا لا ينتصر دائماً؟ ولا ينتصر أصحابه دائماً؟ لماذا تغلب عليه ثقلة الطبع والشهوات والواقع المادي أحياناً؟ ولماذا يغلب أهل الباطل على أصحابه وهم أهل الحق أحياناً؟
وكلها - كما نرى - أسئلة وشبهات تنبع من عدم إدراك الحقيقة الأولية البسيطة لطبيعة هذا الدين وطريقته أو نسيانها
إن الله قادر - طبعاً - على تبديل فطرة الإنسان - عن طريق هذا الدين أو من غير طريقه - وكان قادراً على أن يخلقه منذ البدء بفطرة أخرى .

. ولكنه شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة . وشاء أن يجعل لهذا الإنسان إرادة واستجابة . وشاء أن يجعل الهدى ثمرة للجهد والتلقي والاستجابة . وشاء أن تعمل فطرة الإنسان دائماً ولا تمحى ولا تبدل ولا تعطل . وشاء أن يتم تحقيق منهجه للحياة في حياة البشر عن طريق الجهد البشري وفي حدود الطاقة البشرية . وشاء أن يبلغ « الإنسان » من هذا كله بقدر ما يبذل من الجهد في حدود ملابسات حياته الواقعة .
وليس لأحد من خلقه أن يسأله : لماذا شاء هذا؟ ما دام أن أحداً من خلقه ليس إلهاً وليس لديه العلم ولا إمكان العلم بالنظام الكلي للكون وبمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود وبالحكمة المغيبة وراء خلق كل كائن بهذا « التصميم » الخاص
و « لماذا؟ » - في هذا المقام - سؤال لا يسأله مؤمن جاد ولا يسأله كذلك ملحد جاد . . المؤمن لا يسأله لأنه أكثر أدباً مع الله - الذي يعرفه قلبه بحقيقته وصفاته - وأكثر معرفة بأن الإدراك البشري لم يهيأ للعمل في هذا المجال . . والكافر لا يسأله لأنه لا يعترف بالله ابتداء . فإن اعترف بألوهيته عرف معها أن هذا شأنه - سبحانه - ومقتضى ألوهيته
ولكنه سؤال قد يسأله هازل مائع . لا هو مؤمن جاد ولا هو ملحد جاد . . ومن ثم لا ينبغي الاحتفال به ولا الجد في أخذه
وقد يسأله جاهل بحقيقة الألوهية . . فالسبيل لإجابة هذا الجاهل ليس هو الجواب المباشر . إنما هو تعريفه بحقيقة الألوهية - حتى يعرفها فهو مؤمن أو ينكرها فهو ملحد . . وبهذا ينتهي الجدل إلا أن يكون مراء
ليس لأحد من خلق الله إذن أن يسأله - سبحانه - لماذا شاء أن يخلق الكائن الإنساني بهذه الفطرة؟ ولماذا شاء أن تبقى فطرته هذه عاملة لا تمحى ولا تعدل ولا تعطل ولماذا شاء أن يجعل المنهج الإلهي يتحقق في حياته عن طريق الجهد البشري وفي حدود الطاقة البشرية؟
ولكن لكل أحد من خلقه أن يدرك هذه الحقيقة; ويراها وهي تعمل في واقع البشرية ويفسر التاريخ البشري على ضوئها; فيفقه خط سير التاريخ من ناحية ويعرف كيف يوجه هذا الخط من ناحية أخرى .
هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام - كما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يتحقق في الأرض في دنيا الناس بمجرد تنزله من عند الله . ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه . ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يُمضي الله ناموسه في دورة الفلك وسير الكواكب وترتب النتائج على أسبابها الطبيعية .

. إنما يتحقق بأن تحمله مجموعة من البشر تؤمن به إيماناً كاملاً وتستقيم عليه - بقدر طاقتها - وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها ; وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك; وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهداً ولا طاقة . . تجاهد الضعف البشري والهوى البشري والجهل البشري في أنفسها وأنفس الآخرين . وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى والجهل للوقوف في وجه هذا المنهج . . وتبلغ - بعد ذلك كله - من تحقيق هذا المنهج الإلهي إلى الحد والمستوى الذي تطيقه فطرة البشر . على أن تبدأ بالبشر من النقطة التي هم فيها فعلاً; ولا تغفل واقعهم ومقتضيات هذا الواقع في سير مراحل هذا المنهج وتتابعها . . ثم تنتصر هذه المجموعة على نفسها وعلى نفوس الناس معها تارة; وتنهزم في المعركة مع نفسها أو مع نفوس الناس تارة . بقدر ما تبذل من الجهد; وبقدر ما تتخذ من الأساليب العملية; وبقدر ما توفق في اختيار هذه الأساليب . . وقبل كل شيء وقبل كل جهد وقبل كل وسيلة . . هنالك عنصر آخر : هو مدى تجرد هذه المجموعة لهذا الغرض . ومدى تمثيلها لحقيقة هذا المنهج في ذات نفسها; ومدى ارتباطها بالله صاحب هذا المنهج وثقتها به وتوكلها عليه .
هذه هي حقيقة هذا الدين وطريقته وهذه هي خطته الحركية ووسيلته . .
وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة وهو يربيها بأحداث معركة أحد; وبالتعقيب على هذه الأحداث . .
حينما قصرت في تمثيل حقيقة هذا الدين في ذات نفسها في بعض مواقف المعركة . وحينما قصرت في اتخاذ الوسائل العملية في بعض مواقفها . وحينما غفلت عن تلك الحقيقة الأولية أو نسيتها; وفهمت أنه من مقتضى كونها مسلمة أن تنتصر حتماً بغض النظر عن تصورها وتصرفها - حينئذ تركها الله تلاقي الهزيمة; وتعاني آلامها المريرة . ثم جاء التعقيب القرآني يردها إلى تلك الحقيقة : { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم : أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم . إن الله على كل شيء قدير } . .
ولكنه - كما قلنا في سياق الاستعراض للنصوص - لا يترك المسلمين عند هذه النقطة بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج; ويكشف لهم عن إرادة الخير بهم من وراء الابتلاء الذي وقع بأسبابه الظاهرة من تصرفاتهم الواقعة . .
إن ترك المنهج الإلهي يعمل ويتحقق عن طريق الجهد البشري ويتأثر بتصرف البشر إزاءه . . هو خير في عمومه فهو يصلح الحياة البشرية ولا يفسدها أو يعطلها; ويصلح الفطرة البشرية ويوقظها ويردها إلى سوائها . . ذلك أن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان . مجاهدتهم باللسان بالتبليغ والبيان; ومجاهدتهم باليد لدفعهم من طريق الهدى حين يعترضونه بالقوة الباغية .

. وحتى يتعرض في هذه المجاهدة للابتلاء والصبر على الجهد والصبر على الأذى والصبر على الهزيمة والصبر على النصر أيضاً - فالصبر على النصر أشق من الصبر على الهزيمة - وحتى يتمحص القلب ويتميز الصف وتستقيم الجماعة على الطريق وتمضي فيه راشدة صاعدة متوكلة على الله .
حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان . لأنه يجاهد نفسه أولاً في أثناء مجاهدته للناس; وتتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتفتح له أبداً وهو قاعد آمن سالم; وتتبين له حقائق في الناس وفي الحياة لم تكن لتتبين له أبداً بغير هذه الوسيلة; ويبلغ هو بنفسه وبمشاعره وتصوراته وبعاداته وطباعه وبانفعالاته واستجاباته ما لم يكن ليبلغه أبداً بدون هذه التجربة الشاقة المريرة .
وحقيقة الإيمان لا يتم تمامها في جماعة حتى تتعرض للتجربة والامتحان والابتلاء وحتى يتعرف كل فرد فيها على حقيقة طاقته وعلى حقيقة غايته; ثم تتعرف هي على حقيقة اللبنات التي تتألف منها مدى احتمال كل لبنة ثم مدى تماسك هذه اللبنات في ساعة الصدام .
وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للجماعة المسلمة وهو يربيها بالأحداث في « أحد » وبالتعقيب على هذه الأحداث في هذه السورة . وهو يقول لها ، بعد بيان السبب الظاهر في ما أصابها : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله ، وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا } . . وهو يقول : { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } . ثم . . وهو يردهم إلى قدر الله وحكمته من وراء الأسباب والوقائع جميعاً ; فيردهم إلى حقيقة الإيمان الكبرى التي لا يتم إلا باستقرارها في النفس المؤمنة : { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء . والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } . .
وإذن فهو - في النهاية - قدر الله وتدبيره وحكمته من وراء الأسباب والأحداث والأشخاص والحركات . . وهو التصور الإسلامي الشامل الكامل يستقر في النفس من وراء الأحداث والتعقيب المنير على هذه الأحداث .
2- وتمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة عن طبيعة النفس البشرية وطبيعة الفطرة الإنسانية وطبيعة الجهد البشري ومدى ما يمكن أن يبلغه في تحقيق المنهج الإلهي :
إن النفس البشرية ليست كاملة - في واقعها - ولكنها في الوقت ذاته قابلة للنمو والارتقاء حتى تبلغ أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض .
وها نحن أولاء نرى قطاعاً من قطاعات البشرية - كما هو وعلى الطبيعة - ممثلاً في الجماعة التي تمثل قمة الأمة التي يقول الله عنها : { كنتم خير أمة أخرجت للناس }

وهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - المثل الكامل للنفس البشرية على الإطلاق . . فماذا نرى؟ نرى مجموعة من البشر فيهم الضعف وفيهم النقص ، وفيهم من يبلغ أن يقول الله عنهم : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم } . ومن يبلغ أن يقول الله عنهم : { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم } . . وفيهم من يقول الله عنهم : { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . . وفيهم من ينهزم وينكشف وتبلغ منهم الهزيمة ما وصفه الله سبحانه بقوله : { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم . فأثابكم غماً بغم لكي لا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } . .
وكل هؤلاء مؤمنون مسلمون; ولكنهم كانوا في أوائل الطريق . كانوا في دور التربية والتكوين . ولكنهم كانوا جادين في أخذ هذا الأمر مسلمين أمرهم لله مرتضين قيادته ومستسلمين لمنهجه . ومن ثم لم يطردهم الله من كنفه بل رحمهم وعفا عنهم; وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يعفو عنهم ويستغفر لهم وأمره أن يشاورهم في الأمر بعد كل ما وقع منهم وبعد كل ما وقع من جراء المشورة نعم إنه - سبحانه - تركهم يذوقون عاقبة تصرفاتهم تلك وابتلاهم ذلك الابتلاء الشاق المرير . . ولكنه لم يطردهم خارج الصف ولم يقل لهم : إنكم لا تصلحون لشيء من هذا الأمر بعد ما بدا منكم في التجربة من النقص والضعف . . لقد قبل ضعفهم هذا ونقصهم ورباهم بالابتلاء ثم رباهم بالتعقيب على الابتلاء والتوجيه إلى ما فيه من عبر وعظات . في رحمة وفي عفو وفي سماحة; كما يربت الكبير على الصغار; وهم يكتوون بالنار ليعرفوا ويدركوا وينضجوا . وكشف لهم ضعفهم ومخبآت نفوسهم لا ليفضحهم بها ويرذلهم ويحقرهم ولا ليرهقهم ويحملهم ما لا يطيقون له حملاً . ولكن ليأخذ بأيديهم ويوحي إليهم أن يثقوا بأنفسهم ولا يحتقروها ولا ييأسوا من الوصول ما داموا موصولين بحبل الله المتين .
ثم وصلوا . . وصلوا في النهاية وغلبت فيهم النماذج التي كانت في أول المعركة معدودة . وإذا هم في اليوم التالي للهزيمة والقرح يخرجون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير هيَّابين ولا مترددين ولا وجلين من تخويف الناس لهم حتى استحقوا تنويه الله بهم : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } . .
ولما كبروا بعد ذلك شيئاً فشيئاً . . تغيرت معاملتهم وحوسبوا كما يحاسب الرجال الكبار . بعد ما كانوا يربتون هنا كما يربت الأطفال والذي يراجع غزوة تبوك في سورة براءة; ومؤاخذة الله ورسوله للنفر القلائل المتخلفين تلك المؤاخذة العسيرة يجد الفرق واضحاً في المعاملة; ويجد الفرق واضحاً في مراحل التربية الإلهية العجيبة .

كما يجد الفارق بين القوم يوم أحد والقوم يوم تبوك . . وهم هم . . ولكن بلغت بهم التربية الإلهية هذا المستوى السامق . . ولكنهم مع هذا ظلوا بشراً . وظل فيهم الضعف والنقص والخطأ . ولكن ظل فيهم كذلك الاستغفار والتوبة والرجوع إلى الله .
إنها الطبيعة البشرية التي يحافظ عليها هذا المنهج; ولا يبدلها أو يعطلها ولا يحملها ما لا تطيق . وإن بلغ بها أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض .
وهذه الحقيقة ذات قيمة كبيرة في إعطاء الأمل الدائم للبشرية ، لتحاول وتبلغ ، في ظل هذا المنهج الفريد . فهذه القمة السامقة التي بلغتها تلك الجماعة إنما بدأت تنهد إليها من السفح الذي التقطها منه . وهذه الخطى المتعثرة في الطريق الشاق زاولتها جماعة بشرية متخلفة في الجاهلية . متخلفة في كل شيء . على النحو الذي عرضنا نماذج منه في سياق هذا الدرس . . وكل ذلك يعطي البشرية أملاً كبيراً في إمكان الوصول إلى ذلك المرتقى السامي مهما تكن قابعة في السفح . ولا يعزل هذه الجماعة الصاعدة فيجعلها وليدة معجزة خارقة لا تتكرر . فهي ليست وليدة خارقة عابرة . إنما هي وليدة المنهج الإلهي الذي يتحقق بالجهد البشري في حدود الطاقة البشرية - والطاقة البشرية كما نرى قابلة للكثير
هذا المنهج يبدأ بكل جماعة من النقطة التي هي فيها ومن الواقع المادي الذي هي فيه . ثم يمضي بها صعداً كما بدأ بتلك الجماعة من الجاهلية العربية الساذجة . . من السفح . . ثم انتهى بها في فترة وجيزة لم تبلغ ربع قرن من الزمان إلى ذلك الأوج السامق . .
شرط واحد لا بد أن يتحقق . . أن تسلم الجماعات البشرية قيادها لهذا المنهج . أن تؤمن به . وأن تستسلم له . وأن تتخذه قاعدة حياتها وشعار حركتها وحادي خطاها في الطريق الشاق الطويل . .
3- وحقيقة ثالثة تمخضت عنها المعركة والتعقيب عليها . . حقيقة الارتباط الوثيق في منهج الله بين واقع النفس المسلمة والجماعة المسلمة وبين كل معركة تخوضها مع أعدائها في أي ميدان . الارتباط بين العقيدة والتصور والخلق والسلوك والتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي . . وبين النصر أو الهزيمة في كل معركة . . فكل هذه عوام أساسية فيما يصيبها من نصر أو هزيمة .
والمنهج الإلهي - من ثم - يعمل في مساحة هائلة في النفس الإنسانية وفي الحياة البشرية . مساحة متداخلة الساحات والنقط والخطوط والخيوط متكاملة في الوقت ذاته وشاملة . والخطة يصيبها الخلل والفشل حين يختل الترابط والتناسق بين هذه الساحات كلها والنقط والخطوط والخيوط . . وهذه ميزة ذلك المنهج الكلي الشامل الذي يأخذ الحياة جملة ولا يأخذها مزقاً وتفاريق . والذي يتناول النفس والحياة من أقطارها جميعاً ويلم خيوطها المتشابكة المتباعدة في قبضته فيحركها كلها حركة واحدة متناسقة لا تصيب النفس بالفصام ولا تصيب الحياة بالتمزق والانقسام .

ومن نماذج هذا التجميع وهذه الارتباطات المتداخلة الكثيرة حديثه - في التعقيب القرآني - عن الخطيئة وأثرها في النصر والهزيمة . فهو يقرر أن الهزيمة كانت موصولة بالشيطان الذي استغل ضعف الذين تولوا بسبب مما كسبوا : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } . . كما يقرر أن الذين قاتلوا مع الأنبياء ووفوا - وهم النموذج الذي يطلب إلى المؤمنين الاقتداء به - بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب :
{ وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا - والله يحب الصابرين - وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنونبا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة . والله يحب المحسنين } . . وفي توجيهاته للجماعة المسلمة يسبق نهيه لها عن الوهن والحزن في المعركة توجيهها للتطهر والاستغفار : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } . . ومن قبل يذكر عن سبب ذلة أهل الكتاب وانكسارهم : الاعتداء والمعصية : { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا - إلا بحبل من الله وحبل من الناس - وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } . .
وكذلك نجد الحديث عن الخطيئة والتوبة يتخلل التعقيب على أحداث الغزوة كما نجد الكلام عن « التقوى » وتصوير حالات المتقين يتخلل سياق السورة كلها بوفرة ملحوظة . ويربط بين جو السورة كلها - على اختلاف موضوعاتها - وجو المعركة . كما نجد الدعوة إلى ترك الربا وإلى طاعة الله والرسول وإلى العفو عن الناس وكظم الغيظ والإحسان . . وكلها تطهير للنفس وللحياة وللأوضاع الاجتماعية . . والسورة كلها وحدة متماسكة في التوجيه إلى هذا الهدف الأساسي الهام .
4- وحقيقة رابعة . . عن طبيعة منهج التربية الإسلامي . . فهو يأخذ الجماعة المسلمة بالأحداث وما تنشئه في النفوس من مشاعر وانفعالات واستجابات ثم يأخذهم بالتعقيب على الأحداث . . على النحو الذي يمثله التعقيب القرآني على غزوة أحد . . وهو في التعقيب يتلمس كل جانب من جوانب النفس البشرية تأثر بالحادثة ليصحح تأثره ويرسب فيه الحقيقة التي يريد لها أن تستقر وتستريح وهو لا يدع جانباً من الجوانب ولا خاطرة من الخواطر ولا تصوراً من التصورات ولا استجابة من الاستجابات حتى يوجه إليها الأنظار ويسلط عليها الأنوار ويكشف عن المخبوء منها في دروب النفس البشرية ومنحنياتها الكثيرة ويقف النفس تجاهها مكشوفة عارية; وبذلك يمحص الدخائل وينظفها ويطهرها في وضح النور; ويصحح المشاعر والتصورات والقيم; ويقر المبادىء التي يريد أن يقوم عليها التصور الإسلامي المتين وأن تقوم عليها الحياة الإسلامية المستقرة .

. مما يلهم وجود اتخاذ الأحداث التي تقع للجماعة المسلمة في كل مكان وسيلة للتنوير والتربية على أوسع نطاق . .
وننظر في التعقيب على غزوة أحد فنجد الدقة والعمق والشمول . . الدقة في تناول كل موقف وكل حركة وكل خالجة; والعمق في التدسس إلى أغوار النفس ومشاعرها الدفينة; والشمول لجوانب النفس وجوانب الحادث . ونجد التحليل الدقيق العميق الشامل للأسباب والنتائج . والعوامل المتعددة الفاعلة في الموقف المسيرة للحادث كما نجد الحيوية في التصوير والإيقاع والإيحاء; بحيث تتماوج المشاعر مع التعبير والتصوير تماوجاً عميقاً عنيفاً ولا تملك أن تقف جامدة أمام الوصف ، والتعقيب . فهو وصف حي يستحضر المشاهد - كما لو كانت تتحرك - ويشيع حولها النشاط المؤثر والإشعاع النافذ والإيحاء المثير .
5- وحقيقة خامسة كذلك . . عن واقعية المنهج الإلهي . . فمن وسائل هذا المنهج لإنشاء آثاره في عالم الواقع مزاولته بالفعل فهو لا يقدم مبادىء نظرية ولا توجيهات مجردة . . ولكنه يطبق ويزاول نظرياته وتوجيهاته . وأظهر مثل على واقعية المنهج في هذه الغزوة هو موقفه إزاء مبدأ الشورى . .
لقد كان في استطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التي تعرضت لها - وهي بعد ناشئة ومحاطة بالأعداء من كل جانب والعدو رابض في داخل أسوارها ذاتها - نقول كان في استطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التي تعرضت لها لو أنه قضى برأيه في خطة المعركة مستنداً إلى رؤياه الصادقة; وفيها ما يشير إلى أن المدينة درع حصينة; ولم يستشر أصحابه أو لم يأخذ بالرأي الذي انجلت المشورة عن رجحانه في تقدير الجماعة أو لو أنه رجع عن الرأي عندما سنحت له فرصة الرجوع وقد خرج من بيته فرأى أصحاب هذا الرأي نادمين أن يكونوا قد استكرهوه على غير ما يريد
ولكنه - وهو يقدر النتائج كلها - أنفذ الشورى . وانفذ ما استقرت عليه ذلك كي تجابه الجماعة المسلمة نتائج التبعة الجماعية وتتعلم كيف تحتمل تبعة الرأي وتبعة العمل . لأن هذا في تقديره - صلى الله عليه وسلم - وفي تقدير المنهج الإسلامي الذي ينفذه أهم من اتقاء الخسائر الجسيمة ومن تجنيب الجماعة تلك التجربة المريرة . فتجنيب الجماعة التجربة معناه حرمانها الخبرة وحرمانها المعرفة وحرمانها التربية
ثم يجيء الأمر الإلهي له بالشورى - بعد المعركة كذلك - تثبيتاً للمبدأ في مواجهة نتائجه المريرة .

فيكون هذا أقوى وأعمق في إقراره من ناحية وفي إيضاح قواعد المنهج من ناحية . .
إن الإسلام لا يؤجل مزاولة المبدأ حتى تستعد الأمة لمزاولته فهو يعلم أنها لن تستعد أبداً لمزاولته إلا إذا زاولته فعلاً وإن حرمانها من مزاولة مبادىء حياتها الأساسية - كمبدأ الشورى - شر من النتائج المريرة التي تتعرض لها في بدء استعماله وأن الأخطاء في مزاولته - مهما بلغت من الجسامة - لا تبرر إلغاءه بل لا تبرر وقفة فترة من الوقت لإنه إلغاء أو وقف لنموها الذاتي ونمو خبرتها بالحياة والتكاليف . بل هو إلغاء لوجودها كأمة إطلاقاً
وهذا هو الإيحاء المستفاد من قوله تعالى - بعد كل ما كان من نتائج الشورى في المعركة : { فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر } .
كما أن المزاولة العملية للمبادىء النظرية تتجلى في تصرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما رفض أن يعود إلى الشورى بعد العزم على الرأي المعين واعتباره هذا تردداً وأرجحة . وذلك لصيانة مبدأ الشورى ذاته من أن يصبح وسيلة للتأرجح الدائم والشلل الحركي . فقال قولته التربوية المأثورة : « ما كان لنبي أن يضع لأمته حتى يحكم الله له » . ثم جاء التوجيه الإلهي الأخير : { فإذا عزمت فتوكل على الله } . . فتطابق في - المنهج - التوجيه والتنفيذ . .
6- وهناك حقيقة أخيرة نتعلمها من التعقيب القرآني على مواقف الجماعة المسلمة التي صاحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي تمثل أكرم رجال هذه الأمة على الله . . وهي حقيقة نافعة لنا في طريقنا إلى استئناف حياة إسلامية بعون الله . .
إن منهج الله ثابت وقيمه وموازينه ثابتة والبشر يبعدون أو يقربون من هذا المنهج ويخطئون ويصيبون في قواعد التصور وقواعد السلوك . ولكن ليس شيء من أخطائهم محسوباً على المنهج ولا مغيراً لقيمه وموازينه الثابتة .
وحين يخطىء البشر في التصور أو السلوك فإنه يصفهم بالخطأ . وحين ينحرفون عنه فإنه يصفهم بالانحراف . ولا يتغاضى عن خطئهم وانحرافهم - مهما تكن منازلهم وأقدارهم - ولا ينحرف هو ليجاري انحرافهم
ونتعلم نحن من هذا أن تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج وأنه من الخير للأمة المسلمة أن تبقى مبادىء منهجها سليمة ناصعة قاطعة وأن يوصف المخطئون والمنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه - أياً كانوا - وألا تبرر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبداً بتحريف المنهج وتبديل قيمه وموازينه . فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ أو الانحراف . . فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص . والواقع التاريخي للإسلام ليس هو كل فعل وكل وضع صنعه المسلمون في تاريخهم . وإنما هو كل فعل وكل وضع صنعوه موافقاً تمام الموافقة للمنهج ومبادئه وقيمه الثابتة .

. وإلا فهو خطأ أو انحراف لا يحسب على الإسلام وعلى تاريخ الإسلام; إنما يحسب على أصحابه وحدهم ويوصف أصحابه بالوصف الذي يستحقونه : من خطأ أو انحراف أو خروج على الإسلام . . إن تاريخ « الإسلام » ليس هو تاريخ « المسلمين » ولو كانوا مسلمين بالاسم أو باللسان إن تاريخ « الإسلام » هو تاريخ التطبيق الحقيقي للإسلام في تصورات الناس وسلوكهم وفي أوضاع حياتهم ونظام مجتمعاتهم . . فالإسلام محور ثابت تدور حوله حياة الناس في إطار ثابت . فإذا هم خرجوا عن هذا الإطار أو إذا هم تركوا ذلك المحور بتاتاً فما للإسلام وما لهم يومئذ؟ وما لتصرفاتهم وأعمالهم هذه تحسب على الإسلام أو يفسر بها الإسلام؟ بل ما لهم هم يوصفون بأنهم مسلمون إذا خرجوا على منهج الإسلام وأبوا تطبيقه في حياتهم وهم إنما كانوا مسلمين لأنهم يطبقون هذا المنهج في حياتهم لا لأن أسماءهم أسماء مسلمين ولا لأنهم يقولون بأفواههم : إنهم مسلمون؟
وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للأمة المسلمة وهو يكشف أخطاء الجماعة المسلمة ويسجل عليها النقص والضعف ثم يرحمها بعد ذلك ويعفو عنها ويعفيها من جرائر النقص والضعف في حسابه . وإن يكن أذاقها جرائر هذا النقص والضعف في ساحة الابتلاء

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)

انتهى الاستعراض القرآني للمعركة - معركة أحد - ولكن المعركة الدائبة بين الجماعة المسلمة وأعدائها المحيطين بها في المدينة - وبخاصة اليهود - لم تكن قد انتهت بعد . معركة الجدل والمراء ، والتشكيك والبلبلة ، والكيد والدس ، والتربص والتدبير . . هذه المعركة التي استغرقت الشطر الأكبر من هذه السورة .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أجلى بني قينقاع عن جواره في المدينة ، بعد ما كان منهم - عقب غزوة بدر- من غيظ وكيد ، وتحرش بالمسلمين ، ونقض للمواثيق التي عقدها معهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مقدمه إلى المدينة ، وقيام الدولة المسلمة برياسته مرتكنة إلى المسلمين من الأوس والخزرج . . ولكن كان بقي من حوله : بنو النضير ، وبنو قريظة ، وغيرهم من يهود خيبر وسواهم في الجزيرة . . وكلهم يتراسلون ويتجمعون ، ويتصلون بالمنافقين في المدينة ، وبالمشركين في مكة وفيما حول المدينة ، ويكيدون للمسلمين كيداً لا ينقطع ولا يكف .
وقد ورد في أوائل سورة آل عمران تحذير لليهود أن يصيبهم على أيدي المسلمين ما أصاب المشركين : { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا . فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين ، والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } فلما أبلغهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا التحذير- الذي جاء رداً على أفاعيلهم وما بدا منهم من الغيظ والدس والكيد عقب بدر- أساءوا أدبهم في استقباله؛ وقالوا : يا محمد . لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال . إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وإنك لم تلق مثلنا . ثم مضوا في دسهم وكيدهم ، الذي روت هذه السورة منه الواناً شتى ، حتى انتهى أمرهم بنقض ما بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - من العهد . فحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلوا على حكمه ، فأجلاهم عن المدينة إلى أذرعات . . وبقيت الطائفتان الأخريان : بنو قريظة وبنو النضير بالمدينة على عهدهما - في الظاهر- مع الكيد والدس والتلبيس والتضليل والبلبلة والفتنة . . وسائر ما برعت فيه يهود في تاريخها كله ، وسجله عليها السجل الصادق - كتاب الله - وتعارفه أهل الأرض كلهم ، عن ذلك الجنس الملعون
وفي هذا الدرس استعراض لبعض أفاعيل يهود وأقاويلها . يبدو فيه سوء الأدب مع الله - سبحانه - بعد سوء الفعل مع المسلمين . وهم يبخلون بالوفاء بتعهداتهم المالية للرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم يزيدون فيقولون : { إن الله فقير ونحن أغنياء }
ويبدو فيه التعلل الواهي ، الذي يدفعون به دعوة الإسلام الموجهة إليهم؛ وكذب هذا التعلل ، ومخالفته لواقعهم التاريخي المعروف .

هذا الواقع الذي ينضح بمخالفتهم لعهد الله معهم ، وبكتمانهم لما أمرهم الله ببيانه من الحق ، ونبذه وراء ظهورهم وشرائهم به ثمناً قليلاً . وبقتلهم أنبياءهم بغير حق ، وقد جاءوهم بالخوارق التي طلبوها ، وجاءوهم بالبينات فرفضوها .
وهذا الكشف المخجل لأفاعيل اليهود مع أنبيائهم ، وأقاويلهم على ربهم ، كان هو الأمر الذي يقتضيه سوء موقفهم من الجماعة المسلمة ، وتأثير كيدهم ودسهم وإيذائهم - هم والمشركون - للمسلمين . كما كانت تقتضيه تربية الله للجماعة المسلمة تربية واعية؛ تبصرهم بما حولهم ، وبمن حولهم; وتعرفهم طبيعة الأرض التي يعملون فيها ، وطبيعة العقبات والفخاخ المنصوبة لهم ، وطبيعة الآلام والتضحيات المرصودة لهم في الطريق . . وقد كان الكيد اليهودي للجماعة المسلمة في المدينة أقسى وأخطر من عداوة المشركين لهم في مكة . ولعله ما يزال أخطر ما يرصد للجماعات المسلمة في كل مكان ، على مدار التاريخ . .
ومن ثم نجد التوجيهات الربانية تتوالى على المسلمين في ثنايا الاستعراض المثير . . نجد توجيههم إلى حقيقة القيم الباقية والقيم الزائلة . فالحياة في هذه الأرض محدودة بأجل . وكل نفس ذائقة الموت على كل حال . إنما الجزاء هناك ، والكسب والخسارة هناك . { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز . وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } . . وهم مبتلون في أموالهم وأنفسهم ، والأذى سينالهم من أعدائهم المشركين وأهل الكتاب . فلا عاصم لهم إلا الصبر والتقوى ، والمضي مع المنهج ، الذي يزحزحهم عن النار
وهذا التوجيه الإلهي للجماعة المسلمة في المدينة ما يزال هو هو ، قائماً اليوم وغداً ، يبصر كل جماعة مسلمة تعتزم سلوك الطريق ، لإعادة نشأة الإسلام ولاستئناف حياة إسلامية في ظل الله . . يبصرها بطبيعة أعدائها - وهم هم مشركين وملحدين وأهل كتاب - الصهيونية العالمية والصليبية العالمية والشيوعية - ويبصرها بطبيعة العقبات والفخاخ المرصودة في طريقها ، وبطبيعة الآلام والتضحيات والأذى والابتلاء . ويعلق قلوبها وأبصارها بما هنالك . بما عند الله . ويهوّن عليها الأذى والموت والفتنة في النفس والمال . ويناديها - كما نادى الجماعة المسلمة الأولى - : { كل نفس ذائقة الموت ، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة . فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز . وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور . لتبلون في أموالكم وأنفسكم؛ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً . وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } . .
والقرآن هو القرآن . كتاب هذه الأمة الخالد . ودستورها الشامل . وحاديها الهادي . وقائدها الأمين . وأعداؤها هم أعداؤها . . والطريق هو الطريق . .
{ ولا يحسبن الذي يبخلون بما أتاهم الله من فضله هو خيراً لهم ، بل هو شر لهم ، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . ولله ميراث السماوات والأرض ، والله بما تعملون خبير .

لقد سمع الله قول الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء . سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم ، وأن الله ليس بظلام للعبيد . الذين قالوا : إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار . قل : قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم ، فلم قتلتموهم ، إن كنتم صادقين؟ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير } . .
لم ترد في الآية الأولى من هذه المجموعة رواية مؤكدة ، عمن تعنيهم ، ومن تحذرهم البخل ، وعاقبة يوم القيامة . . ولكن ورودها في هذا السياق يرجح أنها متصلة بما بعدها من الآيات ، في شأن اليهود . فهم - قبحهم الله - الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء . وهم الذين قالوا : إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار .
والظاهر أن الآيات في عمومها نزلت بمناسبة دعوة اليهود إلى الوفاء بالتزاماتهم المالية الناشئة عن معاهدتهم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعوتهم كذلك إلى الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والإنفاق في سبيل الله .
وقد نزل هذا التحذير التهديدي ، مع فضح تعلات اليهود في عدم الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - رداً على ما بدا من سوء أدبهم مع ربهم ، ومن كذب تعلاتهم؛ ونزلت معه المواساة للرسول - صلى الله عليه وسلم - عن تكذيبهم ، بما وقع للرسل قبله مع أقوامهم . ومنهم أنبياء بني إسرائيل ، الذي قتلوهم بعد ما جاءوهم بالبينات والخوارق كما هو معروف في تاريخ بني إسرائيل :
{ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم ، بل هو شر لهم ، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . ولله ميراث السماوات والأرض . والله بما تعملون خبير } . .
إن مدلول الآية عام . فهو يشمل اليهود الذين بخلوا بالوفاء بتعهداتهم ، كما يشمل غيرهم ممن يبخلون بما آتاهم الله من فضله؛ ويحسبون أن هذا البخل خير لهم ، يحفظ لهم أموالهم ، فلا تذهب بالإنفاق .
والنص القرآني ينهاهم عن هذا الحسبان الكاذب؛ ويقرر أن ما كنزوه سيطوقونه يوم القيامة ناراً . . وهو تهديد مفزع . . والتعبير يزيد هذا البخل شناعة حين يذكر أنهم { يبخلون بما آتاهم الله من فضله } . . فهم لا يبخلون بمال أصيل لهم . فقد جاءوا إلى هذه الحياة لا يملكون شيئاً . . ولا جلودهم . . فآتاهم الله من فضله فأغناهم . حتى إذا طلب إليهم أن ينفقوا { من فضله } شيئاً لم يذكروا فضل الله عليهم . وبخلوا بالقليل ، وحسبوا أن في كنزه خيراً لهم . وهو شر فظيع . وهم - بعد هذا كله - ذاهبون وتاركوه وراءهم . فالله هو الوارث : { ولله ميراث السماوات والأرض } . . فهذا الكنز إلى أمد قصير . ثم يعود كله إلى الله .

ولا يبقى لهم منه إلا القدر الذي أنفقوه ابتغاء مرضاته . فيبقى مدخراً لهم عنده ، بدلاً من أن يطوقهم إياه يوم القيامة
ثم يندد باليهود الذين وجدوا في أيديهم المال - الذي آتاهم الله من فضله - فحسبوا أنفسهم أغنياء عن الله ، لا حاجة بهم إلى جزائه ، ولا إلى الأضعاف المضاعفة التي يعدها لمن يبذل في سبيله - وهو ما يسميه تفضلاً منه ومنة إقراضاً له سبحانه - وقالوا في وقاحة : ما بال الله يطلب الينا أن نقرضه من مالنا . ويعطينا عليه الأضعاف المضاعفة ، وهو ينهى عن الربا والأضعاف المضاعفة؟ وهو تلاعب بالألفاظ ينم عن القحة وسوء الأدب في حق الله :
{ لقد سمع الله قول الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء . سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ، ونقول ذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم ، وأن الله ليس بظلام للعبيد } .
وسوء تصور اليهود للحقيقة الإلهية شائع في كتبهم المحرفة . ولكن هذه تبلغ مبلغاً عظيماً من سوء التصور ومن سوء الأدب معاً . . ومن ثم يستحقون هذا التهديد المتلاحق :
{ سنكتب ما قالوا } . .
لنحاسبهم عليه ، فما هو بمتروك ولا منسي ولا مهمل . . وإلى جانبه تسجيل آثامهم السابقة - وهي آثام جنسهم وأجيالهم متضامنة فيه - فكلهم جبلة واحدة في المعصية والإثم :
{ وقتلهم الأنبياء بغير حق } . .
وقد حفظ تاريخ بني إسرائيل سلسلة أثيمة في قتل الأنبياء ، آخرها محاولتهم قتل المسيح عليه السلام . . وهم يزعمون أنهم قتلوه ، متباهين بهذا الجرم العظيم . .
{ ونقول ذوقوا عذاب الحريق } . .
والنص على { الحريق } هنا مقصود لتبشيع ذلك العذاب وتفظيعه . ولتجسيم مشهد العذاب بهوله وتأججه وضرامه . . جزاء على الفعلة الشنيعة : قتل الأنبياء بغير حق . وجزاء على القولة الشنيعة : إن الله فقير ونحن أغنياء .
{ ذلك بما قدمت أيديكم } . .
جزاء وفاقاً ، لا ظلم فيه ، ولا قسوة :
{ وأن الله ليس بظلام للعبيد } . .
والتعبير بالعبيد هنا ، إبراز لحقيقة وضعهم - وهم عبيد من العبيد - بالقياس إلى الله تعالى . وهو يزيد في شناعة الجرم . وفظاعة سوء الأدب . الذي يتجلى في قول العبيد : { إن الله فقير ونحن أغنياء } والذي يتجلى كذلك في قتل الأنبياء . .
هؤلاء الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء ، والذين قتلوا الأنبياء . . هم الذين يزعمون أنهم لا يؤمنون بمحمد - محمد صلى الله عليه وسلم - لأن الله عهد إليهم - بزعمهم - ألا يؤمنوا لرسول ، حتى يأتيهم بقربان يقدمونه ، فتقع المعجزة ، وتبهط نار تأكله ، على نحو ما كانت معجزة بعض أنبياء بني إسرائيل . وما دام محمد لم يقدم لهم هذه المعجزة فهم على عهد مع الله
هنا يجبههم القرآن بواقعهم التاريخي . . لقد قتلوا هؤلاء الأنبياء الذين جاءوهم بالخوارق التي طلبوها وجاءوهم بآيات الله بينات :
{ الذين قالوا : إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول ، حتى يأتينا بقربان تأكله النار .

قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم ، فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين؟ } .
وهي مجابهة قوية ، تكشف عن كذبهم والتوائهم وإصرارهم على الكفر ، وتبجحهم بعد ذلك وافترائهم على الله
وهنا يلتفت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسلياً مواسياً ، مهوناً عليه ما يلقاه منهم ، وهو ما لقيه إخوانه الكرام من الرسل على توالي العصور :
{ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك ، جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير } .
فما هو أول رسول يتلقى بالتكذيب . والأجيال المتعاقبة - وبخاصة من بني إسرائيل - تلقوا بالتكذيب رسلاً جاءوهم بالبينات والخوارق ، وجاءوهم بالصحائف المتضمنة للتوجيهات الإلهية - وهي الزبر - وجاءوهم بالكتاب المنير كالتوراة والإنجيل . . فهذا هو طريق الرسل والرسالات . . وما فيه من عناء ومشقة . وهو وحده الطريق .
بعد ذلك يتجه السياق إلى الجماعة المسلمة؛ يحدثها عن القيم التي ينبغي لها أن تحرص عليها ، وتضحي من أجلها؛ ويحدثها عن أشواك الطريق ومتاعبها وآلامها ، ويهيب بها إلى الصبر والتقوى والعزم والاحتمال :
{ كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور . لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } . .
إنه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس : حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة ، محدودة بأجل؛ ثم تأتي نهايتها حتماً . . يموت الصالحون يموت الطالحون . يموت المجاهدون ويموت القاعدون . يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد . يموت الشجعان الذين يأبون الضيم ، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن . . يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية ، ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص .
الكل يموت . . { كل نفس ذائقة الموت } . . كل نفس تذوق هذه الجرعة ، وتفارق هذه الحياة . . لا فارق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع . إنما الفارق في شيء آخر .
الفارق في قيمة أخرى . الفارق في المصير الأخير :
{ وإنما توفون أجوركم يوم القيامة . فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } . .
هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق . وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان . القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد . والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب :
{ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } . .
ولفظ { زحزح } بذاته يصور معناه بجرسه ، ويرسم هيئته ، ويلقي ظله وكأنما للنار جاذبية تشد إليها من يقترب منها ، ويدخل في مجالها فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلاً قليلاً ليخلصه من جاذبيتها المنهومة فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها ، ويستنقذ من جاذبيتها ، ويدخل الجنة .

. فقد فاز . .
صورة قوية . بل مشهد حي . فيه حركة وشد وجذب وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته . فللنار جاذبية أليست للمعصية جاذبية؟ أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة عن جاذبية المعصية؟ بلى وهذه هي زحزحتها عن النار أليس الإنسان - حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة - يظل أبداً مقصراً في العمل . . إلا أن يدركه فضل الله؟ بلى وهذه هي الزحزحة عن النار؛ حين يدرك الإنسان فضل الله ، فيزحزحه عن النار
{ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } . .
إنها متاع . ولكنه ليس متاع الحقيقة ، ولا متاع الصحو واليقظة . . إنها متاع الغرور . المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعاً . أو المتاع الذي ينشىء الغرور والخداع فأما المتاع الحق . المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله . . فهو ذاك . . هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة عن النار .
وعندما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس . عندما تكون النفس قد أخرجت من حسابها حكاية الحرص على الحياة - إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال - وأخرجت من حسابها حكاية متاع الغرور الزائل . . عندئذ يحدث الله المؤمنين عما ينتظرهم من بلاء في الأموال والأنفس . وقد استعدت نفوسهم للبلاء :
{ لتبلون في أموالكم وأنفسكم ، ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً . وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } . .
إنها سنة العقائد والدعوات . لا بد من بلاء ، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس ، ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام .
إنه الطريق إلى الجنة . وقد حفت الجنة بالمكاره . بينما حفت النار بالشهوات .
ثم إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره ، لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة ، وتنهض بتكاليفها . طريق التربية لهذه الجماعة؛ وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال . وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف؛ والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة .
ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عوداً . فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها . . فهم عليها مؤتمنون .
وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال . فلا يفرطوا فيها بعد ذلك ، مهما تكن الأحوال .
وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة . فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة ، وتنميها وتجمعها وتوجهها . والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى ، لتتأصل جذورها وتتعمق؛ وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة . .
وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم؛ وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية . ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها . وحقيقة الجماعات والمجتمعات . وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم ، مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس . ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس ، ومزالق الطريق ، ومسارب الضلال
ثم .

. لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لا بد فيها من خير ، ولا بد فيها من سر ، يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون . . فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها . . أفواجاً . . في نهاية المطاف
إنها سنة الدعوات . وما يصبر على ما فيها من مشقة؛ ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى الله ، فلا يشط فيعتدي وهو يرد الاعتداء؛ ولا ييأس من رحمة الله ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد . . ما يصبر على ذلك كله إلا أولو العزم الأقوياء :
{ وأن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } . .
وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلام . وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال . من أهل الكتاب من حولها . ومن المشركين أعدائها . . ولكنها سارت في الطريق . لم تتخاذل ، ولم تتراجع ولم تنكص على أعقابها . . لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت . وأن توفية الأجور يوم القيامة . وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز . وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور . . على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف؛ وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو . . والأرض الصلبة المكشوفة باقية لأصحاب هذه الدعوة في كل زمان . والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان . وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها تتوالى القرون والأجيال؛ وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال . . والقرآن هو القرآن . .
وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان؛ وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة ، ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوّماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها . . ولكن القاعدة واحدة : { لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً }
ولقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين؛ وصور من دعايتهم للبلبلة والتشكيك . أحياناً في أصول الدعوة وحقيقتها ، وأحياناً في أصحابها وقيادتها . وهذه الصور تتجدد مع الزمان . وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة ، وتوجه كلها إلى الإسلام في أصوله الاعتقادية ، وإلى الجماعة المسلمة والقيادة الإسلامية . فلا تخرج على هذه القاعدة التي كشف الله عنها للجماعة المسلمة الأولى ، وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق ، وطبيعة الأعداء الراصدين لها في الطريق . .
ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيداً للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة ، وأن تحاول تحقيق منهج الله في الأرض؛ فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة ، ووسائل الدعاية الحديثة ، لتشويه أهدافها ، وتمزيق أوصالها . . يبقى هذا التوجيه القرآني حاضراً يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة ، وطبيعة طريقها . وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق . ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد الله ذاك؛ فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى ، وحين تعوي حولها بالدعاية ، وحين يصيبها الابتلاء والفتنة . . أنها سائرة في الطريق ، وأنها ترى معالم الطريق
ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36