كتاب : في ظلال القرآن
المؤلف : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي

حلفوا على ذلك فلما نزلت { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } قالوا : كيف نصنع بأيماننا « فنزلت هذه الآية » .
وقد تضمن الحكم أن الله - سبحانه - لا يؤاخذ المسلمين بأيمان اللغو ، التي ينطق بها اللسان دون أن يعقد لها القلب بالنية والقصد مع الحض على عدم ابتذال الأيمان بالإكثار من اللغو بها إذ أنه ينبغي أن تكون لليمين بالله حرمتها ووقارها ، فلا تنطق هكذا لغواً . .
فأما اليمين المعقودة ، التي وراءها قصد ونية ، فإن الحنث بها يقتضي كفارة تبينها هذه الآية :
{ فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } .
وطعام المساكين العشرة من « أوسط » الطعام الذي يقوم به الحالف لأهله . . و « أوسط » تحتمل أن تكون من « أحسن » أو من « متوسط » فكلاهما من معاني اللفظ . وإن كان الجمع بينهما لا يخرج عن القصد لأن « المتوسط » هو « الأحسن » فالوسط هو الأحسن في ميزان الإسلام . . أو « كسوتهم » الأقرب أن تكون كذلك من « أوسط » الكسوة . . أو « تحرير رقبة » لا ينص هنا على أنها مؤمنة . . ومن ثم يرد بشأنها خلاف فقهي ليس هذا مكانه . . { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } . . وهي الكفارة التي يعاد إليها في اليمين المعقودة عند عدم استطاعة الكفارات الأخرى . . وكون هذه الأيام الثلاثة متتابعة أو غير متتابعة فيه كذلك خلاف فقهي بسبب عدم النص هنا على تتابعها . والخلافات الفقهية في هذه الفرعيات ليست من منهجنا في هذه الظلال . فمن أرادها فليطلبها في مواضعها في كتب الفقه . إذ أنها كلها تتفق على الأصل الذي يعنينا وهو أن الكفارة رد لاعتبار العقد المنقوض ، وحفظ للأيمان من الاستهانة بها؛ وهي « عقود » وقد أمر الله - سبحانه - بالوفاء بالعقود . فإذا عقد الإنسان يمينه وكان هناك ما هو أبّر فعل الأبر وكفر عن اليمين . وإذا عقدها على غير ما هو من حقه كالتحريم والتحليل ، نقضها وعليه التكفير .
ونعود بعد ذلك إلى الموضوع الأصيل الذي نزلت الآيات بسببه . . فأما من ناحية « خصوص السبب » فإن الله يبين أن ما أحله الله فهو الطيب ، وما حرمه فهو الخبيث . وأن ليس للإنسان أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله له . من وجهين : الوجه الأول أن التحريم والتحليل من خصائص الله الرازق بما يجري فيه التحليل والتحريم من الرزق ، وإلا فهو الاعتداء الذي لا يحبه الله ، ولايستقيم معه إيمان . . والوجه الثاني أن الله يحل الطيبات ، فلا يحرم أحد على نفسه تلك الطيبات ، التي بها صلاحه وصلاح الحياة؛ فإن بصره بنفسه وبالحياة لن يبلغ بصر الحكيم الخبير الذي أحل هذه الطيبات .

ولو كان الله يعلم فيها شراً أو أذى لوقاه عباده . ولو كان يعلم في الحرمان منها خيراً ما جعلها حلالاً . . ولقد جاء هذا الدين ليحقق الخير والصلاح ، والتوازن المطلق ، والتناسق الكامل ، بين طاقات الحياة البشرية جميعاً ، فهو لا يغفل حاجة من حاجات الفطرة البشرية؛ ولا يكبت كذلك طاقة بناءة من طاقات الإنسان ، تعمل عملاً سوياً ، ولا تخرج عن الجادة . ومن ثم حارب الرهبانية ، لأنها كبت للفطرة ، وتعطيل للطاقة وتعويق عن إنماء الحياة التي أراد الله لها النماء ، كما نهى عن تحريم الطيبات كلها لأنها من عوامل بناء الحياة ونموها وتجددها . . لقد خلق الله هذه الحياة لتنمو وتتجدد ، وترتقي عن طريق النمو والتجدد المحكومين بمنهج الله . والرهبانية وتحريم الطيبات الأخرى تصطدم مع منهج الله للحياة . لأنها تقف بها عند نقطة معينة بحجة التسامي والارتفاع . والتسامي والارتفاع داخلان في منهج الله للحياة ، وفق المنهج الميسر المطابق للفطرة كما يعلمها الله .
وخصوص السبب - بعد هذا - لا يقيد عموم النص . وهذا العموم يتعلق بقضية الألوهية والتشريع - كما أسلفنا - وهي قضية لا تقتصر على الحلال والحرام في المآكل والمشارب والمناكح . إنما هو أمر حق التشريع لأي شأن من شئون الحياة . .
ونحن نكرر هذا المعنى ونؤكده؛ لأن طول عزلة الإسلام عن أن يحكم الحياة - كما هو شأنه وحقيقته - قد جعل معاني العبارة تتقلص ظلالها عن مدى الحقيقة التي تعنيها في القرآن الكريم وفي هذا الدين . ولقد جعلت كلمة « الحلال » وكلمة « الحرام » يتقلص ظلهما في حس الناس ، حتى عاد لا يتجاوز ذبيحة تذبح ، أو طعاماً يؤكل ، أو شراباً يشرب ، أو لباساً يلبس ، أو نكاحاً يعقد . . فهذه هي الشئون التي عاد الناس يستفتون فيها الإسلام ليروا : حلال هي أم حرام فأما الأمور العامة والشئون الكبيرة فهم يستفتون في شأنها النظريات والدساتير والقوانين التي استبدلت بشريعة الله فالنظام الاجتماعي بجملته ، والنظام السياسي بجملته ، والنظام الدولي بجملته؛ وكافة اختصاصات الله في الأرض وفي حياة الناس ، لم تعد مما يستفتى فيه الإسلام
والإسلام منهج للحياة كلها . من اتبعه كله فهو مؤمن وفي دين الله . ومن اتبع غيره ولو في حكم واحد فقد رفض الإيمان واعتدى على ألوهية الله ، وخرج من دين الله . مهما أعلن أنه يحترم العقيدة وأنه مسلم . فاتباعه شريعة غير شريعة الله ، يكذب زعمه ويدمغه بالخروج من دين الله .
وهذه هي القضية الكلية التي تعنيها هذه النصوص القرآنية ، وتجعلها قضية الإيمان بالله ، أو الاعتداء على الله . . وهذا هو مدى النصوص القرآنية . وهو المدى اللائق بجدية هذا الدين وجدية هذا القرآن ، وجدية معنى الألوهية ومعنى الإيمان .

.
وفي سياق قضية التشريع بالتحريم والتحليل ، وفي خط التربية للأمة المسلمة في المدينة ، وتخليصها من جو الجاهلية ورواسبها وتقاليدها الشخصية والاجتماعية ، يجيء النص القاطع الأخير في تحريم الخمر والميسر مقرونين إلى تحريم الأنصاب والأزلام . أي إلى الشرك بالله .
{ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون؟ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين . ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، والله يحب المحسنين } . .
لقد كانت الخمر والميسر والأنصاب والأزلام من معالم الحياة الجاهلية ، ومن التقاليد المتغلغلة في المجتمع الجاهلي . وكانت كلها حزمة واحدة ذات ارتباط عميق في مزاولتها ، وفي كونها من سمات ذلك المجتمع وتقاليده . . فلقد كانوا يشربون الخمر في إسراف ، ويجعلونها من المفاخر التي يتسابقون في مجالسها ويتكاثرون؛ ويديرون عليها فخرهم في الشعر ومدحهم كذلك وكان يصاحب مجالس الشراب نحر الذبائح واتخاذ الشواء منها للشاربين وللسقاة ولأحلاس هذه المجالس ومن يلوذون بها ويلتفون حولها وكانت هذه الذبائح تنحر على الأنصاب وهي أصنام لهم كانوا يذبحون عليها ذبائحهم وينضحونها بدمها ( كما كانت تذبح عليها الذبائح التي تقدم للآلهة أي لكهنتها ) . . وفي ذبائح مجالس الخمر وغيرها من المناسبات الاجتماعية التي تشبهها كان يجري الميسر عن طريق الأزلام . وهي قداح كانوا يستقسمون بها الذبيحة ، فيأخذ كل منهم نصيبه منها بحسب قدحه . فالذي قدحه ( المعلى ) يأخذ النصيب الأوفر ، وهكذا حتى يكون من لا نصيب لقدحه . وقد يكون هو صاحب الذبيحة فيخسرها كلها
وهكذا يبدو تشابك العادات والتقاليد الاجتماعية؛ ويبدو جريانها كذلك وفق حال الجاهلية وتصوراتها الاعتقادية .
ولم يبدأ المنهج الإسلامي في معالجة هذه التقاليد في أول الأمر ، لأنها إنما تقوم على جذور اعتقادية فاسدة؛ فعلاجها من فوق السطح قبل علاج جذورها الغائرة جهد ضائع . حاشا للمنهج الرباني أن يفعله إنما بدأ الإسلام من عقدة النفس البشرية الأولى . عقدة العقيدة . بدأ باجتثاث التصور الجاهلي الاعتقادي جملة من جذوره؛ وإقامة التصور الإسلامي الصحيح . إقامته من أعماق القاعدة المرتكزة إلى الفطرة . . بيّن للناس فساد تصوراتهم عن الألوهية وهداهم إلى الإله الحق . وحين عرفوا إلهم الحق بدأت نفوسهم تستمع إلى ما يحبه منهم هذا الإله الحق وما يكرهه . وما كانوا قبل ذلك ليسمعوا أو يطيعوا أمراً ولا نهياً؛ وما كانوا ليقلعوا عن مألوفاتهم الجاهلية مهما تكرر لهم النهي وبذلت لهم النصيحة . . إن عقدة الفطرة البشرية هي عقدة العقيدة؛ وما لم تنعقد هذه العقدة أولاً فلن يثبت فيها شيء من خلق أو تهذيب أو إصلاح اجتماعي .

. إن مفتاح الفطرة البشرية ها هنا . وما لم تفتح بمفتاحها فستظل سراديبها مغلقة ودروبها ملتوية ، وكما كشف منها زقاق انبهمت أزقة؛ وكلما ضاء منها جانب أظلمت جوانب ، وكلما حلت منها عقدة تعقدت عقد ، وكلما فتح منها درب سدت دروب ومسالك . . إلى ما لا نهاية . .
لذلك لم يبدأ المنهج الإسلامي في علاج رذائل الجاهلية وانحرافاتها ، من هذه الرذائل والانحرافات . . إنما بدأ من العقيدة . . بدأ من شهادة أن لاإله إلا الله . . وطالت فترة إنشاء لا إله إلا الله هذه في الزمن حتى بلغت نحو ثلاثة عشر عاماً ، لم يكن فيها غاية إلا هذه الغاية تعريف الناس بإلههم الحق وتعبيدهم له وتطويعهم لسلطانه . . حتى إذا خلصت نفوسهم لله؛ وأصبحوا لا يجدون لأنفسهم خيرة إلا ما يختاره الله . . عندئذ بدأت التكاليف - بما فيها الشعائر التعبدية - وعندئذ بدأت عملية تنقية رواسب الجاهلية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والأخلاقية والسلوكية . . بدأت في الوقت الذي يأمر الله فيطيع العباد بلا جدال . لأنهم لا يعلمون لهم خيرة فيما يأمر الله به أو ينهى عنه أياً كان
أو بتعبير آخر : لقد بدأت الأوامر والنواهي بعد « الإسلام » . . بعد الاستسلام . . بعد أن لم يعد للمسلم في نفسه شيء . . بعد أن لم يعد يفكر في أن يكون له إلى جانب أمر الله رأي أو اختيار . . أو كما يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه : « ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين » تحت عنوان : « انحلت العقدة الكبرى » :
« . . انحلت العقدة الكبرى . . عقدة الشرك والكفر . . فانحلت العقد كلها؛ وجاهدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جهاده الأول ، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهي؛ وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى ، فكان النصر حليفه في كل معركة . وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة ، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى؛ ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى؛ ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى . حدثوا الرسول عما اختانوا أنفسهم؛ وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد . . نزل تحريم الخمر والكؤوس المتدفقة على راحاتهم؛ فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة والأكباد المتقدة؛ وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة » .
ومع هذا فلم يكن تحريم الخمر وما يتصل بها من الميسر أمراً مفاجئاً . . فلقد سبقت هذا التحريم القاطع مراحل وخطوات في علاج هذه التقاليد الاجتماعية المتغلغلة ، المتلبسة بعادات النفوس ومألوفاتها ، والمتلبسة كذلك ببعض الجوانب الاقتصادية وملابساتها .
لقد كانت هذه هي المرحلة الثالثة أو الرابعة في علاج مشكلة الخمر في المنهج الإسلامي :
كانت المرحلة الأولى مرحلة إطلاق سهم في الاتجاه حين قال الله سبحانه في سورة النحل المكية :

{ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً . . . } فكانت أول ما يطرق حس المسلم من وضع السكر ( وهو المخمر ) في مقابل الرزق الحسن . . فكأنما هو شيء والرزق الحسن شيء آخر .
ثم كانت الثانية بتحريك الوجدان الديني عن طريق المنطق التشريعي في نفوس المسلمين حين نزلت التي في سورة البقرة : { يسألونك عن الخمر والميسر . قل : فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، وإثمهما أكبر من نفعهما } وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى ما دام الإثم أكبر من النفع . إذ أنه قلما يخلو شيء من نفع؛ ولكن حله أو حرمته إنما ترتكز على غلبة الضر أو النفع .
ثم كانت الثالثة بكسر عادة الشراب ، وإيقاع التنافر بينها وبين فريضة الصلاة حين نزلت التي في النساء : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } والصلاة في خمسة أوقات معظمها متقارب؛ ولا يكفي ما بينها للسكر ثم الإفاقة . وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشراب - وخاصة عادة الصبوح في الصباح والغبوق بعد العصر أو المغرب كما كانت عادة الجاهليين - وفيه كسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي . وفيه - وهو أمر له وزنه في نفس المسلم - ذلك التناقض بين الوفاء بفريضة الصلاة في مواعيدها والوفاء بعادة الشراب في مواعيدها
ثم كانت هذة الرابعة الحاسمة والأخيرة ، وقد تهيأت النفوس لها تهيؤاً كاملاً فلم يكن إلا النهي حتى تتبعه الطاعة الفورية والإذعان :
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاء . فنزلت التي في البقرة : { يسألونك عن الخمر والميسر ، قل : فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، وإثمهما أكبر من نفعهما } فدعي عمر - رضي الله عنه - فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء . فنزلت التي في النساء : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . . } الآية . . فدعي عمر - رضي الله عنه - فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء . فنزلت التي في المائدة : { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر؛ ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون؟ } فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : « انتهينا . انتهينا » . . ( أخرجه أصحاب السنن ) .
ولما نزلت آيات التحريم هذه ، في سنة ثلاث بعد وقعة أحد ، لم يحتج الأمر إلى أكثر من مناد في نوادي المدينة : « ألا أيها القوم . إن الخمر قد حرمت » . . فمن كان في يده كأس حطمها ومن كان في فمه جرعة مجها ، وشقت زقاق الخمر وكسرت قنانيه . . وانتهى الأمر كأن لم يكن سكر ولا خمر
والآن ننظر في صياغة النص القرآني؛ والمنهج الذي يتجلى فيه منهج التربية والتوجيه :
{ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون .

إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون؟ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } .
إنه يبدأ بالنداء المألوف في هذا القطاع :
{ يا أيها الذين آمنوا } . .
لاستجاشة قلوب المؤمنين من جهة؛ ولتذكيرهم بمقتضى هذا الإيمان من الالتزام والطاعة من جهة أخرى . . يلي هذا النداء الموحي تقرير حاسم على سبيل القصر والحصر :
{ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان } . .
فهي دنسة لا ينطبق عليها وصف « الطيبات » التي أحلها الله . وهي من عمل الشيطان . والشيطان عدو الإنسان القديم؛ ويكفي أن يعلم المؤمن أن شيئاً ما من عمل الشيطان لينفر منه حسه ، وتشمئز منه نفسه ، ويجفل منه كيانه ، ويبعد عنه من خوف ويتقيه
وفي هذه اللحظة يصدر النهي مصحوباً كذلك بالإطماع في الفلاح - وهي لمسة أخرى من لمسات الإيحاء النفسي العميق :
{ فاجتنبوه لعلكم تفلحون } . .
ثم يستمر السياق في كشف خطة الشيطان من وراء هذا الرجس :
{ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة . . . } . .
بهذا ينكشف لضمير المسلم هدف الشيطان ، وغاية كيده ، وثمرة رجسه . . إنها إيقاع العداوة والبغضاء في الصف المسلم - في الخمر والميسر - كما أنها هي صد { الذين آمنوا } عن ذكر الله وعن الصلاة . . ويالها إذن من مكيدة
وهذه الأهداف التي يريدها الشيطان أمور واقعة يستطيع المسلمون أن يروها في عالم الواقع بعد تصديقها من خلال القول الإلهي الصادق بذاته . فما يحتاج الإنسان إلى طول بحث حتى يرى أن الشيطان يوقع العداوة والبغضاء - في الخمر والميسر - بين الناس . فالخمر بما تفقد من الوعي وبما تثير من عرامة اللحم والدم ، وبما تهيج من نزوات ودفعات . والميسر الذي يصحابها وتصاحبه بما يتركه في النفوس من خسارات وأحقاد؛ إذا المقمور لابد أن يحقد على قامره الذي يستولي على ماله أمام عينيه ، ويذهب به غانماً وصاحبه مقمور مقهور . . إن من طبيعة هذه الأمور أن تثير العداوة والبغضاء ، مهما جمعت بين القرناء في مجالات من العربدة والانطلاق اللذين يخيل للنظرة السطحية أنهما أنس وسعادة
وأما الصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، فلا يحتاجان إلى نظر . . فالخمر تنسي ، والميسر يلهي ، وغيبوبة الميسر لا تقل عن غيبوبة الخمر عند المقامرين؛ وعالم المقامر كعالم السكير لا يتعدى الموائد والأقداح والقداح
وهكذا عندما تبلغ هذه الإشارة إلى هدف الشيطان من هذا الرجس غايتها من إيقاظ قلوب { الذين آمنوا } وتحفزها ، يجيء السؤال الذي لا جواب له عندئذ إلا جواب عمر رضي الله عنه وهو يسمع :
{ فهل انتم منتهون } ؟
فيجيب لتوه : « انتهينا .

انتهينا « . .
ولكن السياق يمضي بعد ذلك يوقع إيقاعه الكبير :
{ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا . فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } . .
إنها القاعدة التي يرجع إليها الأمر كله : طاعة الله وطاعة الرسول . . الإسلام . . الذي لا تبقى معه إلا الطاعة المطلقة لله وللرسول . . والحذر من المخالفة ، والتهديد الملفوف :
{ فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } . .
وقد بلّغ وبيّن ، فتحددت التبعة على المخالفين ، بعد البلاغ المبين . .
إنه التهديد القاصم ، في هذا الأسلوب الملفوف ، الذي ترتعد له فرائص المؤمنين . . إنهم حين يعصون ولا يطيعون لا يضرون أحداً إلا أنفسهم . لقد بلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأدى؛ ولقد نفض يديه من أمرهم إذن فما هو بمسؤول عنهم ، وما هو بدافع عنهم عذاباً - وقد عصوه ولم يطيعوه - ولقد صار أمرهم كله إلى الله سبحانه . وهو القادر على مجازاة العصاة المتولين
إنه المنهج الرباني يطرق القلوب ، فتنفتح له مغاليقها ، وتتكشف له فيها المسالك والدروب . .
ولعله يحسن هنا أن نبين ما هي الخمر التي نزل فيها هذا النهي :
أخرج أبو داود بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : » كل مخمر خمر . وكل مسكر حرام « .
وخطب عمر - رضي الله عنه - على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمحضر جماعة من الصحابة فقال : » يا أيها الناس قد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير . والخمر ما خامر العقل « . . ( ذكره القرطبي في تفسيره ) .
فدل هذا وذلك على أن الخمر تشمل كل مخمر يحدث السكر . . وأنه ليس مقصوراً على نوع بعينه . وأن كل ما أسكر فهو حرام .
إن غيبوبه السكر - بأي مسكر - تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم ليكون موصولاً بالله في كل لحظة ، مراقباً لله في كل خطرة . ثم ليكون بهذه اليقظة عاملاً إيجابياً في نماء الحياة وتجددها ، وفي صيانتها من الضعف والفساد ، وفي حماية نفسه وماله وعرضه ، وحماية أمن الجماعة المسلمة وشريعتها ونظامها من كل اعتداء . والفرد المسلم ليس متروكاً لذاته وللذاته؛ فعليه في كل لحظة تكاليف تستوجب اليقظة الدائمة . تكاليف لربه ، وتكاليف لنفسه ، وتكاليف لأهله ، وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها ، وتكاليف للإنسانية كلها ليدعوها ويهديها . وهو مطالب باليقظة الدائمة لينهض بهذه التكاليف . وحتى حين يستمتع بالطيبات فإن الإسلام يحتم عليه أن يكون يقظاً لهذا المتاع ، فلا يصبح عبداً لشهوة أو لذة . إنما يسيطر دائماً على رغباته فيلبيها تلبية المالك لأمره .

. وغيبوبة السكر لا تتفق في شيء مع هذا الاتجاه .
ثم إن هذه الغيبوبة في حقيقتها إن هي إلا هروب من واقع الحياة في فترة من الفترات؛ وجنوح إلى التصورات التي تثيرها النشوة أو الخمار . والإسلام ينكر على الإنسان هذا الطريق ويريد من الناس أن يروا الحقائق ، وأن يواجهوها ، ويعيشوا فيها ، ويصرفوا حياتهم وفقها ، ولا يقيموا هذه الحياة على تصورات وأوهام . . إن مواجهة الحقائق هي محك العزيمة والإرادة؛ أما الهروب منها إلى تصورات وأوهام فهو طريق التحلل ، ووهن العزيمة ، وتذاوب الإرادة . والإسلام يجعل في حسابه دائماً تربية الإرادة ، وإطلاقها من قيود العادة القاهرة . . الإدمان . . وهذا الاعتبار كاف وحده من وجهة النظر الإسلامية لتحريم الخمر وتحريم سائر المخدرات . . وهي رجس من عمل الشيطان . . مفسد لحياة الإنسان .
وقد اختلف الفقهاء في اعتبار ذات الخمر نجسة كبقية النجاسات الحسية . أو في اعتبار شربها هو المحرم . والأول قول الجمهور والثاني قول ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي وبعض المتأخرين من البغداديين . . وحسبنا هذا القدر في سياق الظلال .
وقد حدث أنه لما نزلت هذه الآيات ، وذكر فيها تحريم الخمر ، ووصفت بأنها رجس من عمل الشيطان أن انطلقت في المجتمع المسلم صيحتان متحدتان في الصيغة ، مختلفتان في الباعث والهدف .
قال بعض المتحرجين من الصحابة : كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر . . أو قالوا : فما بال قوم قتلوا في أحد وهي في بطونهم ( أي قبل تحريمها ) .
وقال بعض المشككين الذين يهدفون إلى البلبلة والحيرة . . هذا القول أو ما يشبهه؛ يريدون أن ينشروا في النفوس قلة الثقة في أسباب التشريع ، أو الشعور بضياع إيمان من ماتوا والخمر لم تحرم؛ وهي رجس من عمل الشيطان ، ماتوا والرجس في بطونهم
عنذئذ نزلت هذه الآية :
{ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات . ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، والله يحب المحسنين } . .
نزلت لتقرر أولاً أن ما لم يحرَّم لا يحرم؛ وأن التحريم يبدأ من النص لا قبله؛ وأنه لا يحرم بأثر رجعي؛ فلا عقوبة إلا بنص؛ سواء في الدنيا أو فى الآخرة؛ لأن النص هو الذي ينشى ء الحكم . . والذين ماتوا والخمر في بطونهم ، وهي لم تحرم بعد ، ليس عليهم جناح؛ فإنهم لم يتناولوا محرماً؛ ولم يرتكبوا معصية . . لقد كانوا يخافون الله ويعملون الصالحات ويراقبون الله ويعلمون أنه مطلع على نواياهم وأعمالهم . . ومن كانت هذه حاله لا يتناول محرماً ولا يرتكب معصية .
ولا نريد أن ندخل بهذه المناسبة في الجدل الذي أثاره المعتزلة حول الحكم بأن الخمر رجس : هل هو ناشئ عن أمر الشارع - سبحانه - بتحريمها ، أم إنه ناشئ عن صفة ملازمة للخمر في ذاتها .

وهل المحرمات محرمات لصفة ملازمة لها ، أم إن هذه الصفة تلزمها من التحريم . . فهو جدل عقيم في نظرنا وغريب على الحس الإسلامي . . والله حين يحرم شيئاً يعلم - سبحانه - لم حرمه . سواء ذكر سبب التحريم أو لم يذكر . وسواء كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم ، أو لعلة تتعلق بمن يتناوله من ناحية ذاته ، أو من ناحية مصلحة الجماعة . . فالله سبحانه هو الذي يعلم الأمر كله؛ والطاعة لأمره واجبة ، والجدل بعد ذلك لا يمثل حاجة واقعية . والواقعية هي طابع هذا المنهج الرباني . . ولا يقولن أحد : إذا كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم فكيف أبيح إذن قبل تحريمه فلا بد أن لله - سبحانه - حكمة في تركه فترة بلا تحريم . ومرد الأمر كله إلى الله . وهذا مقتضى ألوهيته - سبحانه - واستحسان الإنسان أو استقباحه ليس هو الحكم في الأمر؛ وما يراه علة قد لا يكون هو العلة . والأدب مع الله يقتضي تلقي أحكامه بالقبول والتنفيذ ، سواء عرفت حكمتها أو علتها أم ظلت خافية . . والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
إن العمل بشريعة الله يجب أن يقوم ابتداء على العبودية . . على الطاعة لله إظهاراً للعبودية له سبحانه . . فهذا هو الإسلام - بمعنى الاستسلام . . وبعد الطاعة يجوز للعقل البشري أن يتلمس حكمة الله - بقدر ما يستطيع - فيما أمر الله به أو نهى عنه - سواء بين الله حكمته أم لم يبينها ، وسواء أدركها العقل البشري أم لم يدركها - فالحكم في استحسان شريعة الله في أمر من الأمور ليس هو الإنسان إنما الحكم هو الله . فإذا أمر الله أو نهى فقد انتهى الجدل ولزم الأمر أو النهي . . فأما إذا ترك الحكم للعقل البشري فمعنى ذلك أن الناس هم المرجع الأخير في شرع الله . . فأين مكان الألوهية إذن وأين مكان العبودية؟
ونخلص من هذا إلى تركيب الآية ودلالة هذا التركيب :
{ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ، إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات . ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين } . .
ولم أجد في أقوال المفسرين ما تستريح إليه النفس في صياغة العبارة القرآنية على النحو وتكرار التقوى مرة مع الإيمان والعمل الصالح ، ومرة مع الإيمان ، ومرة مع الإحسان . . كذلك لم أجد في تفسيري لهذا التكرار في الطبعة الأولى من هذه الظلال ما تستريح إليه نفسي الأن . . وأحسن ما قرأت - وإن كان لا يبلغ من حسي مبلغ الارتياح - هو ما قاله ابن جرير الطبري : « الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل . والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق والثالث الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل » . .
وكان الذي ذكرته في الطبعة الأولى في هذا الموضع هو : « إنه توكيد عن طريق التفصيل بعد الإجمال .

فقد أجمل التقوى والإيمان والعمل الصالح في الأولى . ثم جعل التقوى مرة مع الإيمان في الثانية ، ومرة مع الإحسان - وهو العمل الصالح - في الثالثة . . ذلك التوكيد مقصود هنا للاتكاء على هذا المعنى . ولإبراز ذلك القانون الثابت في تقدير الأعمال بما يصاحبها من شعور باطني . فالتقوى . . تلك الحساسية المرهفة برقابة الله ، والاتصال به في كل لحظة . والإيمان بالله والتصديق بأوامره ونواهيه ، والعمل الصالح الذي هو الترجمة الظاهرة للعقيدة المستكنة . والترابط بين العقيدة الباطنة والعمل المعبر عنها . . هذه هي مناط الحكم ، لا الظواهر والأشكال . . وهذه القاعدة تحتاج إلى التوكيد والتكرار والبيان « .
وأنا ، اللحظة لا أجد في هذا القول ما يريح أيضاً . . ولكنه لم يفتح عليَّ بشيء آخر . . والله المستعان .
ثم يمضي السياق في مجال التحريم والتحليل ، يتحدث عن الصيد في حالة الإحرام ، وكفارة قتله ، وعن حكمة الله في تحريم البيت والأشهر الحرم والهدي والقلائد ، التي نهى عن المساس بها في مطالع السورة . . ثم يختم هذه الفقرة بوضع ميزان القيم للنفس المسلمة وللمجتمع المسلم . . الميزان الذي يرجح فيه الطيب وإن قل ، على الكثير والخبيث :
{ يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم؛ ليعلم الله من يخافه بالغيب؛ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم . يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم؛ ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم ، يحكم به ذوا عدل منكم؛ هدياً بالغ الكعبة ، أو كفارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياماً ، ليذوق وبال أمره ، عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه؛ والله عزيز ذو انتقام . أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة ، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً ، واتقوا الله الذي إلية تحشرون . جعل الله الكعبة البيت الحرام ، قياماً للناس ، والشهر الحرام والهدي والقلائد . ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، وأن الله بكل شيء عليم . اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم . ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون . قل : لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون } . .
لقد قال تعالى للذين آمنوا في أول هذه السورة :
{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ، غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد . يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً . وإذا حللتم فاصطادوا . . } وكان هذا النهي عن إحلال الصيد وهم حرم؛ وعن إحلال شعائر الله ، أو الشهر الحرام أو الهدي والقلائد ، أو قاصدي البيت الحرام ، لا يرتب عقوبة في الدنيا على المخالف ، إنما يلحقه الإثم .

. فالآن يبين العقوبة وهي الكفارة { ليذوق وبال أمره } ويعلن العفو عما سلف من إحلال هذه المحارم؛ ويهدد بانتقام الله ممن يعود بعد هذا البيان .
وتبدأ هذه الفقرة كما تبدأ كل فقرات هذا القطاع بالنداء المألوف : { يا أيها الذين آمنوا } . . ثم يخبرهم أنهم مقدمون على امتحان من الله وابتلاء؛ في أمر الصيد الذي نهوا عنه وهم محرمون :
{ يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ، ليعلم الله من يخافه بالغيب ، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } . .
إنه صيد سهل ، يسوقه الله إليهم . صيد تناله أيديهم من قريب ، وتناله رماحهم بلا مشقة . ولقد حكي أن الله ساق لهم هذا الصيد حتى لكان يطوف بخيامهم ومنازلهم من قريب . . إنه الإغراء الذي يكون فيه الابتلاء . . إنه ذات الإغراء الذي عجزت بنو إسرائيل من قبل عن الصمود له ، حين ألحوا على نبيهم موسى - عليه السلام - أن يجعل الله لهم يوماً للراحة والصلاة لا يشتغلون فيه بشيء من شئون المعاش . فجعل لهم السبت . ثم ساق إليهم صيد البحر يجيئهم قاصداً الشاطئ متعرضاً لأنظارهم في يوم السبت . فإذا لم يكن السبت اختفى ، شأن السمك في الماء . فلم يطيقوا الوفاء بعهودهم مع الله؛ وراحوا - في جبلة اليهود المعروفة - يحتالون على الله فيحوّطون على السمك يوم السبت ولا يصيدونه؛ حتى إذا كان الصباح التالي عادوا فأمسكوه من التحويطة وذلك الذي وجه الله - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأن يواجههم ويفضحهم به في قوله تعالى : { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ، إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم . كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } هذا الابتلاء بعينه ابتلى به الله الأمة المسلمة ، فنجحت حيث أخفقت يهود . . وكان هذا مصداق قول الله سبحانه في هذه الأمة : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم . منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } ولقد نجحت هذه الأمة في مواطن كثيرة حيث أخفق بنو إسرائيل . ومن ثم نزع الله الخلافة في الأرض من بني إسرائيل وائتمن عليها هذه الأمة . ومكن لها في الأرض ما لم يمكن لأمة قبلها . إذ أن منهج الله لم يتمثل تمثلاً كاملاً في نظام واقعي يحكم الحياة كلها كما تمثل في خلافة الأمة المسلمة . . ذلك يوم أن كانت مسلمة . يوم أن كانت تعلم أن الإسلام هو أن يتمثل دين الله وشريعته في حياة البشر . وتعلم أنها هي المؤتمنة على هذه الأمانة الضخمة؛ وأنها هي الوصية على البشرية لتقيم فيها منهج الله ، وتقوم عليه بأمانة الله .

ولقد كان هذا الاختبار بالصيد السهل في أثناء فترة الإحرام أحد الاختبارات التي اجتازتها هذه الأمة بنجاح . وكانت عناية الله - سبحانه - بتربية هذه الأمة بمثل هذه الاختبارات من مظاهر رعايته واصطفائه .
ولقد كشف الله للذين آمنوا في هذا الحادث عن حكمة الابتلاء :
{ ليعلم الله من يخافه بالغيب } . .
إن مخافة الله بالغيب هي قاعدة هذه العقيدة في ضمير المسلم . القاعدة الصلبة التي يقوم عليها بناء العقيدة ، وبناء السلوك ، وتناط بها أمانة الخلافة في الأرض بمنهج الله القويم . .
إن الناس لا يرون الله؛ ولكنهم يجدونه في نفوسهم حين يؤمنون . . إنه تعالى بالنسبة لهم غيب ، ولكن قلوبهم تعرفه بالغيب وتخافه . إن استقرار هذه الحقيقة الهائلة - حقيقة الإيمان بالله بالغيب ومخافته - والاستغناء عن رؤية الحس والمشاهدة؛ والشعور بهذا الغيب شعوراً يوازي - بل يرجح - الشهادة؛ حتى ليؤدي المؤمن شهادة : بأن لا إله إلا الله . وهو لم ير الله . . إن استقرار هذه الحقيقة على هذا النحو يعبر عن نقلة ضخمة في ارتقاء الكائن البشري ، وانطلاق طاقاته الفطرية ، واستخدام أجهزته المركوزة في تكوينه الفطري على الوجه الأكمل؛ وابتعاده - بمقدار هذا الارتقاء - عن عالم البهيمة التي لا تعرف الغيب - بالمستوى الذي تهيأ له الإنسان - بينما يعبر انغلاق روحه عن رؤية ما وراء الحس ، وانكماش إحساسه في دائرة المحسوس ، عن تعطل أجهزة الالتقاط والاتصال الراقية فيه ، وانتكاسه إلى المستوى الحيواني في الحس « المادي »
ومن ثم يجعلها الله سبحانه حكمة لهذا الابتلاء؛ ويكشف للذين آمنوا عن هذه الحكمة كي تحتشد نفوسهم لتحقيقها . .
والله سبحانه يعلم علماً لَدُنِّياًّ من يخافه بالغيب . ولكنه - سبحانه - لا يحاسب الناس على ما يعلمه عنهم علماً لدنيا . إنما يحاسبهم على ما يقع منهم فيعلمه الله - سبحانه - علم وقوع . .
{ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } . .
فقد أخبر بالابتلاء ، وعرف حكمة تعرضه له ، وحذر من الوقوع فيه؛ وبذلت له كل أسباب النجاح فيه . . فإذا هو اعتدى - بعد ذلك - كان العذاب الأليم جزاء حقاً وعدلاً؛ وقد اختار بنفسه هذا الجزاء واستحقه فعلاً .
بعد هذا يجيء تفصيل كفارة المخالفة مبدوءاً بالنهي مختوماً بالتهديد مرة أخرى :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم . ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة ، أو كفارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياماً ، ليذوق وبال أمره ، عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه ، والله عزيز ذو انتقام } . .
إن النهي ينصب على قتل المحرم للصيد عمداً .

فأما إذا قتله خطأ فلا إثم عليه ولا كفارة . . فإذا كان القتل عمداً فكفارته أن يذبح بهيمة من الأنعام من مستوى الصيد الذي قتله . فالغزالة مثلاً تجزئ فيها نعجة أو عنزة . والأيِّل تجزئ فيه بقرة . والنعامة والزرافة وما إليها تجزئ فيها بدنة . . والأرنب والقط وأمثالهما يجزئ فيه أرنب . وما لا مقابل له من البهيمة يجزئ عنه ما يوازي قيمته . .
ويتولى الحكم في هذه الكفارة اثنان من المسلمين ذوا عدل . فإذا حكما بذبح بهيمة أطلقت هدياً حتى تبلغ الكعبة ، تذبح هناك وتطعم للمساكين . أما إذا لم توجد بهيمة فللحكمين أن يحكما بكفارة طعام مساكين؛ بما يساوي ثمن البهيمة أو ثمن الصيد ( خلاف فقهي ) . فإذا لم يجد صاحب الكفارة صام ما يعادل هذه الكفارة . مقدراً ثمن الصيد أو البهيمة ، ومجزأ على عدد المساكين الذين يطعمهم هذا الثمن؛ وصيام يوم مقابل إطعام كل مسكين . . أما كم يبلغ ثمن إطعام مسكين فهو موضع خلاف فقهي . ولكنه يتبع الأمكنة والأزمنة والأحوال .
وينص السياق القرآني على حكمة هذه الكفارة :
{ ليذوق وبال أمره } . .
ففي الكفارة معنى العقوبة ، لأن الذنب هنا مخل بحرمة يشدد فيها الإسلام تشديداً كبيراً : لذلك يعقب عليها بالعفو عما سلف والتهديد بانتقام الله ممن لا يكف :
{ عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه ، والله عزيز ذو انتقام } .
فإذا اعتز قاتل الصيد بقوته وقدرته على نيل هذا الصيد ، الذي أراد الله له الأمان في مثابة الأمان ، فالله هو العزيز القوي القادر على الانتقام
ذلك شأن صيد البر . فأما صيد البحر فهو حلال في الحل والإحرام :
{ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة } . .
فحيوان البحر حلال صيده وحلال أكله للمحرم ولغير المحرم سواء . . ولما ذكر حل صيد البحر وطعامه ، عاد فذكر حرمة صيد البر للمحرم :
{ وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً } . .
والذي عليه الإجماع هو حرمة صيد البر للمحرم . ولكن هناك خلاف حول تناول المحرم له إذا صاده غير المحرم . كما أن هناك خلافاً حول المعنّى بالصيد . وهل هو خاص بالحيوان الذي يصاد عادة . أم النهي شامل لكل حيوان ، ولو لم يكن مما يصاد ومما لا يطلق عليه لفظ الصيد .
ويختم هذا التحليل وهذا التحريم باستجاشة مشاعر التقوى في الضمير؛ والتذكير بالحشر إلى الله والحساب :
{ واتقوا الله الذي إليه تحشرون } . . وبعد . ففيم هذه الحرمات؟
إنها منطقة الأمان يقيمها الله للبشر في زحمة الصراع . . إنها الكعبة الحرام ، والأشهر الحرام ، تقدم في وسط المعركة المستعرة بين المتخاصمين والمتحاربين والمتصارعين والمتزاحمين على الحياة بين الأحياء من جميع الأنواع والأجناس . . بين الرغائب والمطامع والشهوات والضرورات . . فتحل الطمأنينة محل الخوف ، ويحل السلام محل الخصام ، وترف أجنحة من الحب والإخاء والأمن والسلام . وتدرب النفس البشرية في واقعها العملي - لا في عالم المثل والنظريات - على هذه المشاعر وهذه المعاني؛ فلا تبقى مجرد كلمات مجنحة ورؤى حالمة ، تعز على التحقيق في واقع الحياة :
{ جعل الله الكعبة البيت الحرام ، قياماً للناس ، والشهر الحرام ، والهدي والقلائد .

ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في والأرض وأن الله بكل شيء عليم . اعلموا أن الله شديد العقاب ، وأن الله غفور رحيم ، ما على الرسول إلا البلاغ؛ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } . .
لقد جعل الله هذه الحرمات تشمل الإنسان والطير والحيوان والحشرات بالأمن في البيت الحرام . وفي فترة الإحرام بالنسبة للمحرم حتى وهو لم يبلغ الحرم . كما جعل الأشهر الحرم الأربعة التي لا يجوز فيها القتل ولا القتال وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثم رجب . . ولقد ألقى الله في قلوب العرب - حتى في جاهليتهم - حرمة هذه الأشهر . فكانوا لا يروعون فيها نفساً ، ولا يطلبون فيها دماً ، ولا يتوقعون فيها ثأراً ، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه ، فكانت مجالاً آمناً للسياحة والضرب في الأرض وابتغاء الرزق . . جعلها الله كذلك لأنه أراد للكعبة - بيت الله الحرام - أن تكون مثابة أمن وسلام . تقيم الناس وتقيهم الخوف والفزع . كذلك جعل الأشهر الحرم لتكون منظقة أمن في الزمان كالكعبة منطقة أمن في المكان . ثم مد رواق الأمن خارج منطقة الزمان والمكان ، فجعله حقاً للهدي - وهو النعم - الذي يطلق ليبلغ الكعبة في الحج والعمرة؛ فلا يمسه أحد في الطريق بسوء . كما جعله لمن يتقلد من شجر الحرم ، معلناً احتماءه بالبيت العتيق .
لقد جعل الله هذه الحرمات منذ بناء هذا البيت على أيدي إبراهيم وإسماعيل؛ وجعله مثابة للناس وأمناً ، حتى لقد امتن الله به على المشركين أنفسهم؛ إذ كان بيت الله بينهم مثابة لهم وأمناً ، والناس من حولهم يُتخطفون ، وهم فيه وبه آمنون ، ثم هم - بعد ذلك - لا يشكرون الله؛ ولا يفردونه بالعبادة في بيت التوحيد؛ ويقولون للرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ يدعوهم إلى التوحيد : إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا . فحكى الله قولهم هذا وجبههم بحقيقة الأمن والمخافة : { وقالوا : إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا . أو لم نمكن لهم حرماً آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون } وفي الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : إن هذا البلد حرام ، لا يعضد شجرة ، ولا يُختلى خَلاه ، ولا ينفر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلا لمعرّف » .
ولم يستثن من الأحياء مما يجوز قتله في الحرم وللمحرم إلا الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور لحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين :

« أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل خمس فواسق في الحل والحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور » .
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - زيادة الحية .
كذلك حرمت المدينة لحديث علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « المدينة حرم ما بين عير إلى ثور » . وفي الصحيحين من حديث عباد بن تميم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها ، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة » .
وبعد ، فإنها ليست منطقة الأمان في الزمان والمكان وحدهما . وليس رواق الأمن الذي يشمل الحيوان والإنسان وحدهما . . إنما هي كذلك منطقة الأمان في الضمير البشري . . ذلك المصطرع المترامي الأطراف في أغوار النفس البشرية . . هذا المصطرع الذي يثور ويفور فيطغى بشواظه وبدخانه على المكان والزمان ، وعلى الإنسان والحيوان . . إنها منطقة السلام والسماحة في ذلك المصطرع ، حتى ليتحرج المحرم أن يمد يده إلى الطير والحيوان . وهما - في غير هذه المنطقة - حل للإنسان . ولكنهما هنا في المثابة الآمنة . في الفترة الآمنة . في النفس الآمنة . . إنها منطقة المرانة والتدريب للنفس البشرية لتصفو وترق وترف فتتصل بالملأ الأعلى؛ وتتهيأ للتعامل مع الملأ الأعلى . .
ألا ما أحوج البشرية المفزَّعة الوجلة ، المتطاحنة المتصارعة . . إلى منطقة الأمان ، التي جعلها الله للناس في هذا الدين ، وبينها للناس في هذا القرآن
{ ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، وأن الله بكل شيء عليم } . .
تعقيب عجيب في هذا الموضع؛ ولكنه مفهوم إن الله يشرع هذه الشريعة ، ويقيم هذه المثابة ، ليعلم الناس أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم . . ليعلموا أنه يعلم طبائع البشر وحاجاتهم ومكنونات نفوسهم وهتاف أرواحهم . وأنه يقرر شرائعه لتلبية الطبائع والحاجات ، والاستجابة للأشواق والمكنونات . . فإذا أحست قلوب الناس رحمة الله في شريعته؛ وتذوقت جمال هذا التطابق بينها وبين فطرتهم العميقة علموا أن الله يعلم ما في السماوات والأرض وأن الله بكل شيء عليم .
إن هذا الدين عجيب في توافيه الكامل مع ضرورات الفطرة البشرية وأشواقها جميعاً؛ وفي تلبيته لحاجات الحياة البشرية جميعاً . . إن تصميمه يطابق تصميمها؛ وتكوينه يطابق تكوينها . وحين ينشرح صدر لهذا الدين فإنه يجد فيه من الجمال والتجاوب والأنس والراحة ما لا يعرفه إلا من ذاق
وينتهي الحديث عن الحلال والحرام في الحل والإحرام بالتحذير صراحة من العقاب مع الإطماع في المغفرة والرحمة :
{ اعلموا أن الله شديد العقاب ، وأن الله غفور رحيم } .

.
ومع التحذير إيحاء وإلقاء للتبعة على المخالف الذي لا يثوب :
{ ما على الرسول إلا البلاغ ، والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } . .
ثم تختم الفقرة بميزان يقيمه الله للقيم ، ليزن به المسلم ويحكم . ميزان يرجح فيه الطيب ويشيل الخبيث . كي لا يخدع الخبيث المسلم بكثرته في أي وقت وفي أي حال
{ قل : لا يستوي الخبيث والطيب؛ ولو أعجبك كثرة الخبيث ، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون } . .
إن المناسبة الحاضرة لذكر الخبيث والطيب في هذا السياق ، هي مناسبة تفصيل الحرام والحلال في الصيد والطعام . والحرام خبيث ، والحلال طيب . . ولا يستوي الخبيث والطيب ولو كانت كثرة الخبيث تغر وتعجب . ففي الطيب متاع بلا معقبات من ندم أو تلف ، وبلا عقابيل من ألم أو مرض . . وما في الخبيث من لذة إلا وفي الطيب مثلها على اعتدال وأمن من العاقبة في الدنيا والآخرة . . والعقل حين يتخلص من الهوى بمخالطة التقوى له ورقابة القلب له ، يختار الطيب على الخبيث؛ فينتهي الأمر إلى الفلاح في الدنيا والآخرة : { فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون } . .
هذه هي المناسبة الحاضرة . . ولكن النص - بعد ذلك - أفسح مدى وأبعد أفقاً . وهو يشمل الحياة جمعياً ، ويصدق في مواضع شتى :
لقد كان الله الذي أخرج هذه الأمة ، وجعلها خير أمة أخرجت للناس ، يعدها لأمر عظيم هائل . . كان يعدها لحمل أمانة منهجه في الأرض ، لتستقيم عليه كما لم تستقم أمة قط ، ولتقيمه في حياة الناس كما لم يقم كذلك قط . ولم يكن بد أن تراض هذه الأمة رياضة طويلة . رياضة تخلعها أولاًَ من جاهليتها؛ وترفعها من سفح الجاهلية الهابطة وتمضي بها صعداً في المرتقى الصاعد إلى قمة الإسلام الشامخة ثم تعكف بعد ذلك على تنقية تصوراتها وعاداتها ومشاعرها من رواسب الجاهلية؛ وتربية إرادتها على حمل الحق وتبعاته . ثم تنتهي بها إلى تقييم الحياة جملة وتفصيلاً وفق قيم الإسلام في ميزان الله . . حتى تكون ربانية حقاً . . وحتى ترتفع بشريتها إلى أحسن تقويم . . وعندئذ لا يستوي في ميزانها الخبيث والطيب؛ ولو أعجبها كثرة الخبيث والكثرة تأخذ العين وتهول الحس . ولكن تمييز الخبيث من الطيب ، وارتفاع النفس حتى تزنه بميزان الله ، يجعل كفة الخبيث تشيل مع كثرته ، وكفة الطيب ترجح على قلته . . وعندئذ تصبح هذه الأمة أمينة ومؤتمنة على القوامة . . القوامة على البشرية . . تزن لها بميزان الله؛ وتقدر لها بقدر الله؛ وتختار لها الطيب ، ولا تأخذ عينها ولا نفسها كثرة الخبيث
وموقف آخر ينفع فيه هذا الميزان . . ذلك حين ينتفش الباطل؛ فتراه النفوس رابياً؛ وتؤخذ الأعين بمظهره وكثرته وقوته . . ثم ينظر المؤمن الذي يزن بميزان الله إلى هذا الباطل المنتفش ، فلا تضطرب يده ، ولا يزوغ بصره ، ولا يختل ميزانه؛ ويختار عليه الحق الذي لا رغوة له ولا زبد؛ ولا عدة حوله ولا عدد .

. إنما هو الحق . . الحق المجرد إلا من صفته وذاته؛ وإلا من ثقله في ميزان الله وثباته؛ وإلا من جماله الذاتي وسلطانه
لقد ربى الله هذه الأمة بمنهج القرآن ، وقوامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى علم - سبحانه - أنها وصلت إلى المستوى الذي تؤتمن فيه على دين الله . . لا في نفوسها وضمائرها فحسب ، ولكن في حياتها ومعاشها في هذه الأرض ، بكل ما يضطرب في الحياة من رغبات ومطامع ، وأهواء ومشارب ، وتصادم بين المصالح ، وغلاب بين الأفراد والجماعات . ثم بعد ذلك في قوامتها على البشرية بكل ما لها من تبعات جسام في خضم الحياة العام .
لقد رباها بشتى التوجيهات ، وشتى المؤثرات ، وشتى الابتلاءات ، وشتى التشريعات؛ وجعلها كلها حزمة واحدة تؤدي دوراً في النهاية واحداً ، هو إعداد هذه الأمة بعقيدتها وتصوراتها ، وبمشاعرها واستجاباتها ، وبسلوكها وأخلاقها ، وبشريعتها ونظامها ، لأن تقوم على دين الله في الأرض ، ولأن تتولى القوامة على البشر . . وحقق الله ما يريده بهذه الأمة . . والله غالب على أمره . . وقامت في واقع الحياة الأرضية تلك الصورة الوضيئة من دين الله . . حلماً يتمثل في واقع . . وتملك البشرية أن تترسمه في كل وقت حين تجاهد لبلوغه فيعينها الله . .
بعد ذلك يتجه السياق إلى شيء من تربية الجماعة المسلمة وتوجيهها إلى الأدب الواجب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدم سؤاله عما لم يخبرها به؛ مما لو ظهر لساء السائل وأحرجه أو ترتب عليه تكاليف لا يطيقها ، أو ضيق عليه في أشياء وسع الله فيها ، أو تركها بلا تحديد رحمة بعباده .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم . عفا الله عنها والله غفور حليم . قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } . .
كان بعضهم يكثر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السؤال عن أشياء لم يتنزل فيها أمر أو نهي . أو يلحف في طلب تفصيل أمور أجملها القرآن ، وجعل الله في إجمالها سعة للناس . أو في الاستفسار عن أمور لا ضرورة لكشفها فإن كشفها قد يؤذي السائل عنها أو يؤذي غيره من المسلمين .
وروي أنه لما نزلت آية الحج سأل سائل : أفي كل عام؟ فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا السؤال لأن النص على الحج جاء مجملاً : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } والحج مرة يجزي . فأما السؤال عنه أفي كل عام فهو تفسير له بالصعب الذي لم يفرضه الله .
وفي حديث مرسل رواه الترمذي والدارقطني عن علي رضي الله عنه قال : « لما نزلت هذه الآية : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } قالوا : يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت . فقالوا : أفي كل عام؟ قال : لا . ولو قلت نعم لوجبت »

فأنزل الله :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } . . الخ الآية .
وأخرجه الدارقطني أيضاً عن أبي عياض عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « يا أيها الناس كتب عليكم الحج . فقام رجل فقال : أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه ، ثم عاد فقال : أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال : » ومن القائل؟ « قالوا : فلان . قال : والذي نفسي بيده لو قلت : نعم . لوجبت . ولو وجبت ما أطقتموها . ولو لم تطيقوها لكفرتم » فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } . .
وفي حديث أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « . . . فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي يا رسول الله؟ قال : » النار « فقام عبدالله بن حذافة فقال : » من أبي يا رسول الله؟ فقال : أبوك حذافة « . قال ابن عبد البر : عبدالله بن حذافة أسلم قديماً ، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية ، وشهد بدراً ، وكانت فيه دعابة وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسله إلى كسرى بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولما قال : من أبي يا رسول الله؟ قال » أبوك حذافة « قالت أمه : ما سمعت بابن أعق منك . أأمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس؟ فقال : والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به . .
وفي رواية لابن جرير - بسنده - » عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر . فقام إليه رجل فقال : أين أنا؟ قال : « في النار » فقام آخر فقال : من أبي؟ فقال : « أبوك حذافة » فقام عمر بن الخطاب ، فقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام ديناً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً وبالقرآن إماماً . إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك ، والله أعلمُ من آباؤنا . قال : فسكن غضبه « ونزلت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } . . الآية .
وروى مجاهد عن ابن عباس أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام . وهو قول سعيد بن جبير .

وقال : ألا ترى أن بعده : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } ؟
ومجموعة هذه الروايات وغيرها تعطي صورة عن نوع هذه الأسئلة التي نهى الله الذين آمنوا أن يسألوها . .
لقد جاء هذا القرآن لا ليقرر عقيدة فحسب ، ولا ليشرع شريعة فحسب . ولكن كذلك ليربي أمة ، وينشئ مجتمعاً ، وليكوّن الأفراد وينشئهم على منهج عقلي وخلقي من صنعه . . وهو هنا يعلمهم أدب السؤال ، وحدود البحث ، ومنهج المعرفة . . وما دام الله - سبحانه - هو الذي ينزل هذه الشريعة ، ويخبر بالغيب ، فمن الأدب أن يترك العبيد لحكمته تفصيل تلك الشريعة أو إجمالها؛ وأن يتركوا له كذلك كشف هذا الغيب أو ستره . وأن يقفوا هم في هذه الأمور عند الحدود التي أرادها العليم الخبير . لا ليشددوا على أنفسهم بتنصيص النصوص ، والجري وراء الاحتمالات والفروض ، كذلك لا يجرون وراء الغيب يحاولون الكشف عما لم يكشف الله منه وما هم ببالغيه . والله أعلم بطاقة البشر واحتمالهم ، فهو يشرع لهم في حدود طاقتهم ، ويكشف لهم من الغيب ما تدركه طبيعتهم . وهناك أمور تركها الله مجملة أو مجهلة؛ ولا ضير على الناس في تركها هكذا كما أرادها الله . ولكن السؤال - في عهد النبوة وفترة تنزل القرآن - قد يجعل الإجابة عنها متعينة فتسوء بعضهم ، وتشق عليهم كلهم وعلى من يجيء بعدهم .
لذلك نهى الله الذين آمنوا أن يسألوا عن أشياء يسوؤهم الكشف عنها؛ وأنذرهم بأنهم سيجابون عنها إذا سألوا في فترة الوحي في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وستترتب عليهم تكاليف عفا الله عنها فتركها ولم يفرضها :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم . . عفا الله عنها . . } .
أي لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها وترك فرضها أو تفصيلها ليكون في الإجمال سعة . . كأمره بالحج مثلاً . . أو تركه ذكرها أصلاً . .
ثم ضرب لهم المثل بمن كانوا قبلهم - من أهل الكتاب - ممن كانوا يشددون على أنفسهم بالسؤال عن التكاليف والأحكام . فلما كتبها الله عليهم كفروا بها ولم يؤدوها . ولو سكتوا وأخذوا الأمور باليسر الذي شاءه الله لعبادة ما شدد عليهم ، وما احتملوا تبعة التقصير والكفران .
ولقد رأينا في سورة البقرة كيف أن بني إسرائيل حينما أمرهم الله أن يذبحوا بقرة ، بلا شروط ولا قيود ، كانت تجزيهم فيها بقرة أية بقرة . . أخذوا يسألون عن أوصافها ويدققون في تفصيلات هذه الأوصاف . وفي كل مرة كان يشدد عليهم . ولو تركوا السؤال ليسروا على أنفسهم .
وكذلك كان شأنهم في السبت الذي طلبوه ثم لم يطيقوه . .
ولقد كان هذا شأنهم دائماً حتى حرم الله عليهم أشياء كثيرة تربية لهم وعقوبة
وفي الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :

« ذروني ما تركتكم . فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم » .
وفي الصحيح أيضاً : « إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدوداً فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها . وسكت عن أشياء رحمة بكم - غير نسيان - فلا تسألوا عنها » .
وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً ، من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته » .
ولعل مجموعة هذه الأحاديث - إلى جانب النصوص القرآنية - ترسم منهج الإسلام في المعرفة . .
إن المعرفة في الإسلام إنما تطلب لمواجهة حاجة واقعة وفي حدود هذه الحاجة الواقعة . . فالغيب وما وراءه تصان الطاقة البشرية أن تنفق في استجلائه واستكناهه ، لأن معرفته لا تواجه حاجة واقعية في حياة البشرية . وحسب القلب البشري أن يؤمن بهذا الغيب كما وصفه العليم به . فأما حين يتجاوز الإيمان به إلى البحث عن كنهه؛ فإنه لا يصل إلى شيء أبداً ، لأنه ليس مزوداً بالمقدرة على استكناهه إلا في الحدود التي كشف الله عنها . . فهو جهد ضائع . فوق أنه ضرب في التيه بلا دليل ، يؤدي إلى الضلال البعيد .
وأما الأحكام الشرعية فتطلب ويسأل عنها عند وقوع الأقضية التي تتطلب هذه الأحكام . . وهذا هو منهج الإسلام . .
ففي طوال العهد المكي لم يتنزل حكم شرعي تنفيذي - وإن تنزلت الأوامر والنواهي عن أشياء وأعمال - ولكن الأحكام التنفيذية كالحدود والتعازير الكفارات لم تتنزل إلا بعد قيام الدولة المسلمة التي تتولى تنفيذ هذه الأحكام .
ووعى الصدر الأول هذا المنهج واتجاهه؛ فلم يكونوا يفتون في مسألة إلا إذا كانت قد وقعت بالفعل؛ وفي حدود القضية المعروضة دون تفصيص للنصوص ، ليكون للسؤال والفتوى جديتهما وتمشيهما كذلك مع ذلك المنهج التربوي الرباني :
كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يلعن من سأل عما لم يكن . . ذكره الدارميّ في مسنده . . وذكر عن الزهري قال : بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر : أكان هذا؟ فإن قالوا : نعم قد كان ، حدث فيه بالذي يعلم . وإن قالوا : لم يكن ، قال : فذروه حتى يكون . وأسند عن عمار ابن ياسر - وقد سئل عن مسألة - فقال : هل كان هذا بعد؟ قالوا : لا . قال . دعونا حتى يكون ، فإذا كان تجشمناها لكم .
وقال الدراميّ : حدثنا عبدالله بن محمد بن أبي شيبة ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ، كلهن في القرآن ، منهن :

{ يسألونك عن الشهر الحرام } { ويسألونك عن المحيض } وشبهه . . ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم .
وقال مالك : أدركت هذا البلد ( يعني المدينة ) وما عندهم علم غير الكتاب والسنة . فإذا نزلت نازلة ، جمع الأمير لها من حضر من العلماء ، فما اتفقوا عليه أنفذه . وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله - صلى الله عليه وسلم
وقال القرطبي في سياق تفسيره للآية : روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ، ووأد البنات ، ومنعاً وهات . وكره لكم ثلاثاً : قيل وقال؛ وكثرة السؤال ، وإضاعة المال » . قال كثير من العلماء : المراد بقوله : « وكثرة السؤال » : التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعاً ، وتكلفاً فيما لم ينزل ، والأغلوطات ، وتشقيق المولدات . وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف . ويقولون : إذا نزلت النازلة وفق المسؤول لها . .
إنه منهج واقعي جاد . يواجه وقائع الحياة بالأحكام ، المشتقة لها من أصول شريعة الله ، مواجهة عملية واقعية . . مواجهة تقدر المشكلة بحجمها وشكلها وظروفها كاملة وملابساتها ، ثم تقضي فيها بالحكم الذي يقابلها ويغطيها ويشملها وينطبق عليها انطباقاً كاملاً دقيقاً . .
فأما الاستفتاء عن مسائل لم تقع ، فهو استفتاء عن فرض غير محدد . وما دام غير واقع فإن تحديده غير مستطاع . والفتوى عليه حينئذ لا تطابقه لأنه فرض غيرمحدد . والسؤال والجواب عندئذ يحملان معنى الاستهتار بجدية الشريعة؛ كما يحملان مخالفة للمنهج الإسلامي القويم .
ومثله الاستفتاء عن أحكام شريعة الله في أرض لا تقام فيها شريعة الله ، والفتوى على هذا الأساس . . إن شريعة الله لا تستفتى إلا ليطبق حكمها وينفذ . . فإذا كان المستفتي والمفتي كلاهما يعلمان أنهما في أرض لا تقيم شريعة الله؛ ولا تعترف بسلطان الله في الأرض وفي نظام المجتمع وفي حياة الناس . . أي لا تعترف بألوهية الله في هذه الأرض ولا تخضع لحكمه ولا تدين لسلطانه . . فما استفتاء المستفتي؟ وما فتوى المفتي؟ إنهما - كليهما - يرخصان شريعة الله ، ويستهتران بها شاعرين أو غير شاعرين سواء
ومثله تلك الدراسات النظرية المجردة لفقه الفروع وأحكامه في الجوانب غير المطبقة . . إنها دراسة للتلهية لمجرد الإيهام بأن لهذا الفقه مكاناً في هذه الأرض التي تدرسه في معاهدها ولا تطبقه في محاكمها وهو إيهام يبوء بالإثم من يشارك فيه ، ليخدر مشاعر الناس بهذا الإيهام
إن هذا الدين جد . وقد جاء ليحكم الحياة . جاء ليعبد الناسَ لله وحده ، وينتزع من المغتصبين لسلطان الله هذا السلطان ، فيرد الأمر كله إلى شريعة الله ، لا إلى شرع أحد سواه . . وجاءت هذه الشريعة لتحكم الحياة كلها؛ ولتواجه بأحكام الله حاجات الحياة الواقعية وقضاياها ، ولتدلي بحكم الله في الواقعة حين تقع بقدر حجمها وشكلها وملابساتها .

ولم يجىء هذا الدين ليكون مجرد شارة أو شعار . ولا لتكون شريعته موضوع دراسة نظرية لا علاقة لها بواقع الحياة . ولا لتعيش مع الفروض التي لم تقع ، وتضع لهذه الفروض الطائرة أحكاماً فقهية في الهواء
هذا هو جد الإسلام . وهذا هو منهج الإسلام . فمن شاء من « علماء » هذا الدين أن يتبع منهجه بهذا الجد فليطلب تحكيم شريعة الله في واقع الحياة . أو على الأقل فليسكت عن الفتوى والقذف بالأحكام في الهواء
ويبدو - بالاستناد إلى رواية مجاهد عن ابن عباس - رضي الله عنه - ومن قول سعيد بن جبير كذلك في أسباب نزول الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . . . } أن من بين ما كانوا يسألون عنه أشياء كانت في الجاهلية . ولم نقف على معين للسؤال ماذا كان . ولكن مجيء الحديث في السياق عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي بعد آية النهي عن السؤال يوحي بأن هناك اتصالاً ما . . فنكتفي بهذا لنواجه النص القرآني عن هذه العادات الجاهلية :
{ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام . ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ، وأكثرهم لا يعقلون . وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا . أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون؟ } . .
إن القلب البشري إما أن يستقيم على فطرته التي فطره الله عليها؛ فيعرف إلهه الواحد ، ويتخذه رباً ، ويعترف له وحده بالعبودية ويستسلم لشرعه وحده؛ ويرفض ربوبية من عداه فيرفض إذن أن يتلقى شريعة من سواه . . إما أن يستقيم القلب البشري على فطرته هذه فيجد اليسر في الاتصال بربه ، ويجد البساطة في عبادته ، ويجد الوضوح في علاقاته به . . وإما أن يتيه في دروب الجاهلية والوثنية ومنعرجاتها ، تتلقاه في كل درب ظلمة ، ويصادفه في كل ثنية وهم . تطلب إليه طواغيت الجاهلية والوثنية شتى الطقوس لعبادتها ، وشتى التضحيات لإرضائها؛ ثم تتعدد الطقوس في العبادات والتضحيات ، حتى ينسى الوثني أصولها ، ويؤديها وهو لا يعرف حكمتها ، ويعاني من العبودية لشتى الأرباب ما يقضي على كرامة الإنسان التي منحها الله للإنسان .
ولقد جاء الإسلام بالتوحيد ليوحد السلطة التي تدين العباد؛ ثم ليحرر الناس بذلك من العبودية بعضهم لبعض؛ ومن عبوديتهم لشتى الآلهة والأرباب . . وجاء ليحرر الضمير البشري من أوهام الوثنية وأوهاقها؛ وليرد إلى العقل البشري كرامته ويطلقه من ربقة الآلهة وطقوسها . ومن ثم حارب الوثنية في كل صورها وأشكالها؛ وتتبعها في دروبها ومنحنياتها . سواء في أعماق الضمير ، أم في شعائر العبادة ، أم في أوضاع الحياة وشرائع الحكم والنظام .

وهذا منعرج من منعرجات الوثنية في الجاهلية العربية ، يعالجه ليقومه ويسلط عليه النور ليبطل ما حوله من أساطير . ويقرر أصول التفكير والنظر؛ وأصول الشرع والنظام في آن :
{ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام . ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ، وأكثرهم لا يعقلون } . .
هذه الصنوف من الأنعام التي كانوا يطلقونها لآلهتهم بشروط خاصة ، منتزعة من الأوهام المتراكمة في ظلمات العقل والضمير . البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي
هذه الصنوف من الأنعام ما هي؟ ومن الذي شرع لهم هذه الأحكام فيها؟
لقد تشعبت الروايات في تعريفها ، فنعرض نحن طرفاً من هذه التعريفات :
« روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة من الإبل يمنع درها للطواغيب ( أي يحجز لبنها ويخصص للآلهة فلا يطعمها الناس وكهنة الآلهة هم الذين يأخذونه طبعاً ) والسائبة من الإبل كانوا يسيبونها لطواغيتهم . والوصيلة كانت الناقة تبكر بالأنثى ، ثم تثني بالأنثى فيسمونها الوصيلة ، يقولون : وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر ، فكانوا يذبحونها لطواغيتهم . والحامي الفحل من الإبل كان يضرب الضراب المعدود ( أي يقوم بتلقيح عدد من النوق ) فإذا بلغ ذلك يقال : حمي ظهره ، فيترك ، فيسمونه الحامي .
» وقال أهل اللغة : البحيرة الناقة التي تشق أذنها ، يقال : بحرت أذن الناقة أبحرها بحراً ، والناقة مبحورة وبحيرة ، إذا شققتها واسعا . ومنه البحر لسعته . وكان أهل الجاهلية يحرمون البحيرة ، وهي أن تنتج خمسة أبطن يكون آخرها ذكراً ، بحروا أذنها وحرموها وامتنعوا من ركوبها ونحرها ، ولم تطرد عن ماء ، ولم تمنع عن مرعى ، وإذا لقيها المعيي لم يركبها . قالوا : والسائبة المخلاة وهي المسيبة ، وكانوا في الجاهلية إذا نذر الرجل لقدوم من سفر ، أو برء من مرض ، أو ما أشبه ذلك ، قال : ناقتي سائبة ، فكانت كالبحيرة في التحريم والتخلية . . فأما الوصيلة فإن بعض أهل اللغة ذكر أنها الأنثى من الغنم إذا ولدت مع ذكر ، قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوها : وقال بعضهم : كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم ، وإذا ولدت ذكراً ذبحوه لآلهتهم في زعمهم . وإذا ولدت ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوه لآلهتهم . وقالوا : الحامي الفحل من الإبل إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن ، قالوا : حمي ظهره فلا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء ولا مرعى « .
وهناك روايات أخرى عن تعريف هذه الأنواع من الطقوس لا ترتفع على هذا المستوى من التصور ، ولا تزيد الأسباب فيها معقولية على هذه الأسباب . . وهي كما ترى أوهام من ظلام الوثنية المخيم . وحين تكون الأوهام والأهواء هي الحكم ، لا يكون هناك حد ولا فاصل ، ولا ميزان ولا منطق . وسرعان ما تتفرع الطقوس ويضاف إليها وينقص منها بلا ضابط . وهذا هو الذي كان في جاهلية العرب ، والذي يمكن أن يحدث في كل مكان وفي كل زمان ، حين ينحرف الضمير البشري عن التوحيد المطلق ، الذي لا منعرجات فيه ولا ظلام .

وقد تتغير الأشكال الخارجية ولكن لباب الجاهلية يبقى ، وهو التلقي من غير الله في أي شأن من شؤون الحياة
إن الجاهلية ليست فترة من الزمان؛ ولكنها حالة ووضع يتكرر - في ِأشكال شتى - على مدار الزمان . فإما ألوهية واحدة تقابلها عبودية شاملة؛ وتتجمع فيها كل ألوان السلطة ، وتتجه إليها المشاعر والأفكار ، والنوايا والأعمال ، والتنظيمات والأوضاع ، وتتلقى منها القيم والموازين ، والشرائع والقوانين ، والتصورات والتوجيهات . . وإما جاهلية - في صورة من الصور - تتمثل فيها عبودية البشر للبشرأو لغيرهم من خلق الله . . لا ضابط لها ولا حدود . لأن العقل البشري لا يصلح وحده أن يكون ضابطاً موزوناً ما لم ينضبط هو على ميزان العقيدة الصحيحة . فالعقل يتأثر بالهوى كما نشهد في كل حين؛ ويفقد قدرته على المقاومة في وجه الضغوط المختلفة ما لم يقم إلى جانبة ذلك الضابط الموزون .
وإننا لنشهد اليوم - بعد أربعة عشر قرناً من نزول هذا القرآن بهذا البيان - أنه حيثما انفك رباط القلب البشري بالإله الواحد ، تاه في منحنيات ودروب لا عداد لها ، وخضع لربوبيات شتى ، وفقد حريته وكرامته ومقاومته . . ولقد شهدت في هذا الجانب الخرافي وحده في صعيد مصر وريفها عشرات من الأوهام تطلق لها بعض صنوف الحيوان ، للأولياء والقديسين ، في ذات الصورة التي كانت تطلق بها للآلهة في الزمان القديم
على أن المسألة في تلك الطقوس الجاهلية - وفي كل جاهلية - هي القاعدة الكلية . هي نقطة الانطلاق في طريق الإسلام أو في طريق الجاهلية . هي . . لمن الحكم في حياة الناس . . لله وحده كما قرر في شريعته؟ أم لغير الله فيما يقرره البشر لأنفسهم من أحكام وأوضاع وشرائع وطقوس وقيم وموازين؟ أو بتعبير آخر : لمن الألوهية على الناس؟ لله أم لخلق من خلقه؟ أياً كان هذا الخلق الذي يزاول حقوق الألوهية على الناس
ومن ثم يبدأ النص القرآني بتقرير أن الله لم يشرع هذه الطقوس . لم يشرع البحيرة ولا السائبة ولا الوصيلة ولا الحامي . . فمن ذا الذي شرعها إذن لهؤلاء الكفار؟
{ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } . .
والذين يتبعون ما شرعه غير الله هم كفار . كفار يفترون على الله الكذب . مرة يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون : شريعة الله . . ومرة يقولون : إننا نشرع لأنفسنا ولا ندخل شريعة الله في أوضاعنا . . ونحن مع هذا لا نعصي الله . . وكله كذب على الله :
{ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون } . .
ومشركو العرب كانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم الذي جاء به من عند الله . فهم لم يكونوا يجحدون الله البتة .

بل كانوا يعترفون بوجوده وبقدرته وبتصريفه للكون كله . ولكنهم مع ذلك كانوا يشرعون لأنفسهم من عند أنفسهم ثم يزعمون أن هذا شرع الله وهم بهذا كانوا كفاراً . ومثلهم كل أهل جاهلية في أي زمان وفي أي مكان يشرعون لأنفسهم من عند أنفسهم ثم يزعمون - أو لا يزعمون - أن هذا شرع الله
إن شرع الله هو الذي قرره في كتابه ، وهو الذي بينه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو ليس مبهماً ولا غامضاً ولا قابلاً لأن يفتري عليه أحد من عنده ما يفتري ، ويزعم أنه منه ، كما يتصور أهل الجاهلية في أي زمان وفي أي مكان
ولذلك يصم الله الذين ادعوا هذا الادعاء بالكفر . ثم يصمهم كذلك بأنهم لا يعقلون ولو كانوا يعقلون ما افتروا على الله . ولو كانوا يعقلون ما حسبوا أن يمر هذا الافتراء
ثم يزيد هذه المفارقة في قولهم وفعلهم إيضاحاً :
{ وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، قالوا حسبنا : ما وجدنا عليه آباءنا . أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون؟ } . .
إن ما شرعه الله بيّن . وهو محدد فيما أنزل الله ومبين بما سنه رسوله . . وهذا هو المحك . وهذه هي النقطة التي يفترق فيها طريق الجاهلية وطريق الإسلام . طريق الكفر وطريق الإيمان . . فإما أن يدعى الناس إلى ما أنزل الله بنصه وإلى الرسول ببيانه فيلبوا . . فهم إذن مسلمون . وإما أن يدعوا إلى الله والرسول فيأبوا . . فهم إذن كفار . . ولا خيار . .
وهؤلاء كانوا إذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا فاتبعوا ما شرعه العبيد ، وتركوا ما شرعه رب العبيد . ورفضوا نداء التحرر من عبودية العباد للعباد ، واختاروا عبودية العقل والضمير ، للآباء والأجداد .
ثم يعقب السياق القرآني على موقفهم ذاك تعقيب التعجيب والتأنيب :
{ أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون؟ } . .
وليس معنى هذا الاستنكار لاتباعهم لآبائهم ولو كانوا لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون ، أن لو كان يعلمون شيئاً لجاز لهم اتباعهم وترك ما أنزل الله وترك بيان الرسول إنما هذا تقرير لواقعهم وواقع آبائهم من قبلهم . فآباؤهم كذلك كانوا يتبعون ما شرعه لهم آباؤهم أو ما شرعوه هم لأنفسهم . ولا يركن أحد إلى شرع نفسه أو شرع أبيه ، وبين يديه شرع الله وسنة رسوله ، إلا وهو لا يعلم شيئاً ولا يهتدي وليقل عن نفسه أو ليقل عنه غيره ما يشاء : إنه يعلم وإنه يهتدي . فالله - سبحانه - أصدق وواقع الأمر يشهد . . وما يعدل عن شرع الله إلى شرع الناس إلا ضال جهول فوق أنه مفتر كفور
فإذا انتهى من تقرير حال الذين كفروا وقولهم التفت إلى { الذين آمنوا } يقرر لهم انفصالهم وتميزهم؛ ويبين لهم تكاليفهم وواجبهم؛ ويحدد لهم موقفهم ممن سواهم؛ ويكلهم إلى حساب الله وجزائه لا إلى أي مغنم في هذه الأرض أو مأرب .

{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، إلى الله مرجعكم جميعاً ، فينبئكم بما كنتم تعملون } . .
إنه التميز والمفاصلة بينهم وبين من عداهم . ثم إنه التضامن والتواصي فيما بينهم بوصفهم أمة واحدة .
{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } . .
أنتم وحدة منفصلون عمن سواكم ، متضامنون متكافلون فيما بينكم . فعليكم أنفسكم . . عليكم أنفسكم فزكوها وطهروها؛ وعليكم جماعتكم فالتزموها وراعوها؛ ولا عليكم أن يضل غيركم إذا أنتم اهتديتم . فأنتم وحدة منفصلة عمن عداكم؛ وأنتم أمة متضامنة فيما بينها بعضكم أولياء بعض ، ولا ولاء لكم ولا ارتباط بسواكم .
إن هذه الآية الواحدة تقرر مبادىء أساسية في طبيعة الأمة المسلمة ، وفي طبيعة علاقاتها بالأمم الأخرى .
إن الأمة المسلمة هي حزب الله . ومن عداها من الأمم فهم حزب الشيطان . ومن ثم لا يقوم بينها وبين الأمم الأخرى ولاء ولا تضامن ، لأنه لا اشتراك في عقيدة؛ ومن ثم لا اشتراك في هدف أو وسيلة؛ ولا اشتراك في تبعة أو جزاء .
وعلى الأمة المسلمة أن تتضامن فيما بينها؛ وأن تتناصح وتتواصى ، وأن تهتدي بهدي الله الذي جعل منها أمة مستقلة منفصلة عن الأمم غيرها . . ثم لا يضيرها بعد ذلك شيئاً أن يضل الناس حولها ما دامت هي قائمة على الهدى .
ولكن ليس معنى هذا أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى . والهدى هو دينها هي وشريعتها ونظامها . فإذا هي أقامت نظامها في الأرض بقي عليها أن تدعو الناس كافة ، وأن تحاول هدايتهم ، وبقي عليها أن تباشر القوامة على الناس كافة لتقيم العدل بينهم؛ ولتحول بينهم وبين الضلال والجاهلية التي منها أخرجتهم . .
إن كون الأمة المسلمة مسؤولة عن نفسها أمام الله لا يضيرها من ضل إذا اهتدت ، لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولاً ، ثم في الأرض جميعاً ، وأول المعروف الإسلام لله وتحكيم شريعته؛ وأول المنكر الجاهلية والاعتداء على سلطان الله وشريعته . وحكم الجاهلية هو حكم الطاغوت ، والطاغوت هو كل سلطان غير سلطان الله وحكمه . . والأمة المسلمة قوامة على نفسها أولاً؛ وعلى البشرية كلها أخيراً .
وليس الغرض من بيان حدود التبعة في الآية كما فهم بعضهم قديماً - وكما يمكن أن يفهم بعضهم حديثاً - أن المؤمن الفرد غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - إذا اهتدى هو بذاته - ولا أن الأمة المسلمة غير مكلفة إقامة شريعة الله في الأرض - إذا هي اهتدت بذاتها - وضل الناس من حولها .

إن هذه الآية لا تسقط عن الفرد ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر ، ومقاومة الضلال ومحاربة الطغيان - وأطغى الطغيان الاعتداء على ألوهية الله واغتصاب سلطانه وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته ، وهو المنكر الذي لا ينفع الفرد ولا ينفع الأمة أن تهتدي وهذا المنكر قائم .
ولقد روى أصحاب السنن أن أبا بكر - رضي الله عنه - قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا علكيم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } . . وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « إن الناس إذا رأوا المنكر ، ولا يغيرونه ، يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه » .
وهكذا صحح الخليفة الأول - رضوان الله عليه - ما ترامى إلى وهم بعض الناس في زمانه من هذه الآية الكريمة . ونحن اليوم أحوج إلى هذا التصحيح ، لأن القيام بتكاليف التغيير للمنكر قد صارت أشق . فما أيسر ما يلجأ الضعاف إلى تأويل هذه الآية على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاقه ، ويريحهم من عنت الجهاد وبلائه
وكلا والله إن هذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد . ولا يصلح إلا بعمل وكفاح . ولا بد لهذا الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس إليه ، ولإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ولتقرير ألوهية الله في الأرض ، ولرد المغتصبين لسلطان الله عما اغتصبوه من هذا السلطان ، ولإقامة شريعة الله في حياة الناس ، وإقامة الناس عليها . . لا بد من جهد . بالحسنى حين يكون الضالون أفراداً ضالين ، يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة . وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى؛ وتعطل دين الله أن يوجد ، وتعوق شريعة الله أن تقوم .
وبعد ذلك - لا قبله - تسقط التبعة عن الذين آمنوا . وينال الضالون جزاءهم من الله حين يرجع هؤلاء وهؤلاء إليه :
{ إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون } .
والآن يجيء الحكم الأخير من الأحكام الشرعية التي تتضمنها السورة ، في بيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع المسلم ، وهو الخاص بتشريع الإشهاد على الوصية في حالة الضرب في الأرض ، والبعد عن المجتمع . والضمانات التي تقيمها الشريعة ليصل الحق إلى أهله .
{ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت - حين الوصية - اثنان ذوا عدل منكم ، أو آخران من غيركم ، إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ، تحبسونهما من بعد الصلاة ، فيقسمان بالله - إن ارتبتم - لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله ، إنا إذن لمن الآثمين . فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم .

. الأوليان . . فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ، وما اعتدينا ، إنا إذن لمن الظالمين . ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ، أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم؛ واتقوا الله واسمعوا ، والله لا يهدي القوم الفاسقين } . .
وبيان هذا الحكم الذي تضمنته الآيات الثلاث : أن على من يحس بدنو أجله ، ويريد أن يوصي لأهله بما يحضره من المال ، أن يستحضر شاهدين عدلين من المسلمين إن كان في الحضر ، ويسلمهما ما يريد أن يسلمه لأهله غير الحاضرين . فأما إذا كان ضارباً في الأرض ، ولم يجد مسلمين يشهدهما ويسلمهما ما معه ، فيجوز أن يكون الشاهدان من غير المسلمين .
فإن ارتاب المسلمون - أو ارتاب أهل الميت - في صدق ما يبلغه الشاهدان وفي أمانتهما في أداء ما استحفظا عليه ، فإنهم يوقفونهما بعد أدائهما للصلاة - حسب عقيدتهما - ليحلفا بالله ، أنهما لا يتوخيان بالحلف مصلحة لهما ولا لأحد آخر ، ولو كان ذا قربى ، ولا يكتمان شيئاً مما استحفظا عليه . . وإلا كانا من الآثمين . . وبذلك تنفذ شهادتهما .
فإذا ظهر بعد ذلك أنهما ارتكبا إثم الشهادة الكاذبة واليمين الكاذبة والخيانة للأمانة . قام أولى اثنين من أهل الميت بوراثته ، من الذين وقع عليهم هذا الإثم ، بالحلف بالله أن شهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين . وأنهما لم يعتديا بتقريرهما هذه الحقيقة . وبذلك تبطل شهادة الأولين ، وتنفذ الشهادة الثانية .
ثم يقول النص : إن هذه الإجراءات أضمن في أداء الشهادة بالحق؛ أو الخوف من رد أيمان الشاهدين الأولين ، مما يحملهما على تحري الحق .
{ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ، أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } .
وينتهي إلى دعوة الجميع إلى تقوى الله ، ومراقبته وخشيته ، والطاعة لأوامره ، لأن الله لا يهدي من يفسقون عن طريقه ، إلى خير ولا إلى هدى :
{ واتقوا الله واسمعوا . والله لا يهدي القوم الفاسقين } . .
قال القرطبي في تفسيره عن سبب نزول هذه الآيات الثلاث :
« . . . ولا أعلم خلافاً أن هذه الآيات الثلاث نزلت بسبب تميم الداري ، وعدي بن بدّاء روي البخاري والدارقُطني وغيرهما عن ابن عباس قال : » كان تميم الداري وعدي بن بداء ، يختلفان إلى مكة؛ فخرج معهما فتى من بني سهم ، فتوفي بأرض ليس بها مسلم ، فأوصى إليهما ، فدفعا تركته إلى أهله ، وحبسا جاماً من فضة مخوصاً بالذهب . فاستحلفهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما كتمتما ولا اطلعتما » . ثم وجد الجام بمكة . فقالوا : اشتريناه من عدي وتميم . فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي ، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا . قال فأخذ الجام . وفيهم نزلت هذه الآية . . . « ( لفظ الدارقطني ) . »
وواضح أن لطبيعة المجتمع الذي نزلت هذه الأحكام لتنظيمه دخلا في شكل الإجراءات .

وربما في طبيعة هذه الإجراءات . فالإشهاد والائتمان على هذا النحو . ثم الحلف بالله في مجتمع بعد الصلاة . لاستجاشة الوجدان الديني ، والتحرج كذلك من الفضيحة في المجتمع عند ظهور الكذب والخيانة . . كلها تشي بسمات مجتمع خاص . تفي بحاجاته وملابساته هذه الإجراءات .
ولقد تملك المجتمعات اليوم وسائل أخرى للإثبات ، وأشكالاً أخرى من الإجراءات ، كالكتابة والتسجيل والإيداع في المصارف . . وما إليها . .
ولكن . أو فَقدَ هذا النص قدرته على العمل في المجتمعات البشرية؟
إننا كثيراً ما نخدع ببيئة معينة ، فنظن أن بعض التشريعات وبعض الإجراءات قد فقدت فاعليتها ، ولم تعد لها ضرورة ، وأنها من مخلفات مجتمعات مضى زمنها لأن البشرية استجدّت وسائل أخرى
أجل كثيراً ما نخدع فننسى أن هذا الدين جاء للبشرية جميعاً ، في كل أقطارها ، وفي كل أعصارها . وأن كثرة ضخمة من هذه البشرية اليوم ما تزال بدائية أو متدرجة من البداوة . وأنها في حاجة إلى أحكام وإجراءات تواكب حاجاتها في جميع أشكالها وأطوارها ، وأنها تجد في هذا الدين ما يلبي هذه الحاجات في كل حالة . وأنها حين ترتقي من طور إلى طور تجد في هذا الدين كفايتها كذلك بنفس النسبة؛ وتجد في شريعته ما يلبي حاجاتها الحاضرة ، ثم يرتقي بها إلى تلبية حاجاتها المتطورة . . وأن هذه معجزة هذا الدين ومعجزة شريعته؛ وآية أنه من عند الله ، وأنها من اختياره سبحانه .
على أننا نخدع كذلك مرة أخرى حين ننسى الضرورات التي يقع فيها الأفراد من البيئات التي تجاوزت هذه الأطوار؛ والتي يسعفهم فيها يسر هذه الشريعة وشمولها ، ووسائل هذا الدين المعدة للعمل في كل بيئة وفي كل حالة . في البدو والحضر . في الصحراء والغابة . لأنه دين البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها . . وتلك أيضاً إحدى معجزاته الكبرى .
إننا نخدع حين نتصور أننا - نحن البشر - أبصر بالخلق من رب الخلق . . فتردنا الوقائع إلى التواضع وما أولانا أن نتذكر قبل أن تصدمنا الأحداث . وأن نعرف أدب البشر في حق خالق البشر . . أدب العبيد في حق رب العبيد . . لو كنا نتذكر ونعرف ، ونثوب . .

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)

هذا الدرس بطوله بقية في تصحيح العقيدة؛ وتقويم ما دخل عليها عند النصارى من انحرافات أخرجتها عن أصلها السماوي عند قاعدتها الأساسية . إذ أخرجتها من التوحيد المطلق الذي جاء به عيسى - عليه السلام - كما جاء به كل رسول قبله ، إلى ألوان من الشرك ، لا علاقة لها أصلاً بدين الله .
ومن ثم فإن هذا الدرس كذلك يستهدف تقرير حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية - كما هي في التصور الإسلامي - تقرير هذه الحقيقة من خلال هذا المشهد العظيم الذي يعرضه؛ والذي يقرر فيه عيسى - عليه السلام - على ملأ من الرسل ، ومن البشر جميعاً ، أنه لم يقل لقومه شيئا مما زعموه من ألوهيته ومن تأليه أمه؛ وأنه ما كان له أن يقول من هذا الشرك كله شيئاً
والسياق القرآني يعرض هذه الحقيقة في مشهد تصويري من « مشاهد القيامة » التي يعرضها القرآن الكريم عرضاً حياً ناطقاً ، موحياً مؤثراً ، عميق التأثير ، يهتز له الكيان البشري وهو يتلقاه كأنما يشهده اللحظة في الواقع المنظور . الواقع الذي تراه العين ، وتسمعه الأذن . وتتجلى فيه الانفعالات والسمات النابضة بالحياة
فها نحن أولاء أمام المشهد العظيم :
{ يوم يجمع الله الرسل ، فيقول ماذا أجبتم؟ قالوا : لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب } : يوم يجمع الله الرسل الذين فرقهم في الزمان فتتابعوا على مداره؛ وفرقهم في المكان فذهب كل إلى قريته؛ وفرقهم في الأجناس فمضى كل إلى قومه . . يدعون كلهم بدعوة واحدة على اختلاف الزمان والمكان والأقوام؛ حتى جاء خاتمهم - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة الواحدة لكل زمان ومكان وللناس كافة من جميع الأجناس والألوان . .
هؤلاء الرسل إلى شتى الأقوام ، في شتى الأمكنة والأزمان . . ها هو ذا مرسلهم فرادى ، يجمعهم جميعاً؛ ويجمع فيهم شتى الاستجابات ، وشتى الاتجاهات . وها هم أولاء . . نقباء البشرية في حياتها الدنيا؛ ومعهم رسالات الله إلى البشرية في شتى أرجائها ، ووراءهم استجابات البشرية في شتى أعصارها . هؤلاء هم أمام الله . . رب البشرية - سبحانه - في مشهد يوم عظيم .
وها هو ذا المشهد ينبض بالحياة :
{ يوم يجمع الله الرسل . فيقول : ماذا أجبتم؟ } .
{ ماذا أجبتم؟ } . . فاليوم تجمع الحصيلة ، ويضم الشتات ، ويقدم الرسل حساب الرسالات ، وتعلن النتائج على رؤوس الأشهاد .
{ ماذا أجبتم؟ } . . والرسل بشر من البشر؛ لهم علم ما حضر ، وليس لديهم علم ما استتر .
لقد دعوا أقوامهم إلى الهدى؛ فاستجاب منهم من استجاب ، وتولى منهم من تولى . . وما يعلم الرسول حقيقة من استجاب إن كان يعرف حقيقة من تولى . فإنما له ظاهر الأمر وعلم ما بطن لله وحده . . وهم في حضرة الله الذي يعرفونه خير من يعرف؛ والذي يهابونه أشد من يهاب؛ والذي يستحيون أن يدلوا بحضرته بشيء من العلم وهم يعلمون أنه العليم الخبير .

.
إنه الاستجواب المرهوب في يوم الحشر العظيم ، على مشهد من الملأ الأعلى ، وعلى مشهد من الناس أجمعين . الاستجواب الذي يراد به المواجهة . . مواجهة البشرية برسلها؛ ومواجهة المكذبين من هذه البشرية خاصة برسلهم الذين كانوا يكذبونهم . ليعلن في موقف الإعلان ، أن هؤلاء الرسل الكرام إنما جاءوهم من عند الله بدين الله؛ وها هم أولاء مسؤولون بين يديه - سبحانه - عن رسالاتهم وعن أقوامهم الذين كانوا من قبل يكذبون .
أما الرسل فهم يعلنون أن العلم الحق لله وحده؛ وأن ما لديهم من علم لا ينبغي أن يدلوا به في حضرة صاحب العلم ، تأدباً وحياء ، ومعرفة بقدرهم في حضرة الله :
فأما سائر الرسل - غير عيسى عليه السلام - فقد صدق بهم من صدق ، وقد كفر بهم من كفر؛ ولقد انتهى أمرهم بهذا الجواب الكامل الشامل ، الذي يدع العلم كله لله ، ويدع الأمر كله بين يديه . سبحانه . . فما يزيد السياق شيئاً في هذا المشهد عنهم . . إنما يلتفت بالخطاب إلى عيسى بن مريم وحده ، لأن عيسى بن مريم هو الذي فتن قومه فيه ، وهو الذي غام الجو حوله بالشبهات ، وهو الذي خاض ناس في الأوهام والأساطير حول ذاته ، وحول صفاته ، وحول نشأته ومنتهاه .
يلتفت الخطاب إلى عيسى بن مريم - على الملأ ممن ألهوه وعبدوه وصاغوا حوله وحول أمه - مريم - التهاويل . . يلتفت إليه يذكره نعمة الله عليه وعلى والدته؛ ويستعرض المعجزات التي آتاها الله إياه ليصدق الناس برسالته ، فكذبه من كذبه منهم أشد التكذيب وأقبحه؛ وفتن به وبالآيات التي جاءت معه من فتن؛ وألهوه مع الله من أجل هذه الآيات ، وهي كلها من صنع الله الذي خلقه وأرسله وأيده بالمعجزات :
{ إذ قال الله : يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك . إذ أيدتك بروح القدس ، تكلم الناس في المهد وكهلا . وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل . وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني ، فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني ، وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني . وإذ تخرج الموتى بإذني . وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم : إن هذا إلا سحر مبين . وإذا أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ، قالوا : آمنا واشهد بأننا مسلمون } . .
إنها المواجهة بما كان من نعم الله على عيسى بن مريم وأمه . . من تأييده بروح القدس في مهده ، وهو يكلم الناس في غير موعد الكلام؛ يبرئ أمه من الشبهة التي أثارتها ولادته على غير مثال؛ ثم وهو يكلمهم في الكهولة يدعوهم إلى الله . . وروح القدس جبريل - عليه السلام - يؤيده هنا وهناك . . ومن تعليمه الكتاب والحكمة؛ وقد جاء إلى هذه الأرض لا يعلم شيئاً ، فعلمه الكتابة وعلمه كيف يحسن تصريف الأمور ، كما علّمه التوراة التي جاء فوجدها في بني إسرائيل ، والإنجيل الذي آتاه إياه مصدقاً لما بين يديه من التوراة .

ثم من إيتائه خارق المعجزات التي لا يقدر عليها بشر إلا بإذن الله . فإذا هو يصور من الطين كهيئة الطير بإذن الله؛ فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله - لا ندري كيف لأننا لا ندري إلى اليوم كيف خلق الله الحياة ، وكيف يبث الحياة في الأحياء - وإذا هو يبرىء المولود أعمى - بإذن الله - حيث لا يعرف الطب كيف يرد إليه البصر - ولكن الله الذي يهب البصر أصلاً قادر على أن يفتح عينيه للنور - ويبرىء الأبرص بإذن الله ، لا بدواء - والدواء وسيلة لتحقيق إذن الله في الشفاء ، وصاحب الإذن قادر على تغيير الوسيلة ، وعلى تحقيق الغاية بلا وسيلة - وإذا هو يحيي الموتى بإذن الله - وواهب الحياة أول مرة قادر على رجعها حين يشاء - ثم يذكره بنعمة الله عليه في حمايته من بني إسرائيل إذ جاءهم بهذه البينات كلها فكذبوه وزعموا أن معجزاته هذه الخارقة سحر مبين ذلك أنهم لم يستطيعوا إنكار وقوعها - وقد شهدتها الألوف - ولم يريدوا التسليم بدلالتها عناداً وكبراً . . حمايته منهم فلم يقتلوه - كما أرادوا ولم يصلبوه . بل توفاه الله ورفعه إليه . . كذلك يذكره بنعمة الله عليه في إلهام الحواريين أن يؤمنوا بالله وبرسوله؛ فإذا هم ملبون مستسلمون ، يشهدونه على إيمانهم وإسلامهم أنفسهم كاملة لله :
{ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي . قالوا : آمنا واشهد بأننا مسلمون } . .
إنها النعم التي آتاها الله عيسى بن مريم ، لتكون له شهادة وبينة . فإذا كثرة من أتباعه تتخذ منها مادة للزيغ؛ وتصوغ منها وحولها الأضاليل - فها هو ذا عيسى يواجه بها على مشهد من الملأ الأعلى ، ومن الناس جميعاً ، ومنهم قومه الغالون فيه . . ها هو ذا يواجه بها ليسمع قومه ويروا؛ وليكون الخزي أوجع وأفضح على مشهد من العالمين
ويستطرد السياق في معرض النعم على عيسى بن مريم وأمه ، إلى شيء من نعمة الله على قومه ، ومن معجزاته التي أيده الله بها وشهدها بها الحواريون :
{ إذ قال الحواريون : يا عيسى ابن مريم ، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال : اتقوا الله إن كنتم مؤمنين . قالوا : نريد أن نأكل منها ، وتطمئن قلوبنا ، ونعلم أن قد صدقتنا ، ونكون عليها من الشاهدين . قال عيسى ابن مريم : اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا ، وآية منك ، وارزقنا وأنت خير الرازقين . قال الله : إني منزلها عليكم ، فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } .

.
ويكشف لنا هذا الحوار عن طبيعة قوم عيسى . . المستخلصين منهم وهم الحواريون . . فإذا بينهم وبين أصحاب رسولنا - صلى الله عليه وسلم - فرق بعيد . .
إنهم الحواريون الذين ألهمهم الله الإيمان به وبرسوله عيسى . فآمنوا . وأشهدوا عيسى على إسلامهم . . ومع هذا فهم بعدما رأوا من معجزات عيسى ما رأوا ، يطلبون خارقة جديدة . تطمئن بها نفوسهم . ويعلمون منها أنه صدقهم . ويشهدون بها له لمن وراءهم .
فأما أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم يطلبوا منه خارقة واحدة بعد إسلامهم . . لقد آمنت قلوبهم واطمأنت منذ أن خالطتها بشاشة الإيمان . ولقد صدقوا رسولهم فلم يعودوا يطلبون على صدقه بعد ذلك البرهان . ولقد شهدوا له بلا معجزة إلا هذا القرآن . .
هذا هو الفارق الكبير بين حواريي عيسى عليه السلام - وحواريي محمد - صلى الله عليه وسلم - ذلك مستوى ، وهذا مستوى . . وهؤلاء مسلمون وأولئك مسلمون . . وهؤلاء مقبولون عند الله وهؤلاء مقبولون . . ولكن تبقى المستويات متباعدة كما أرادها الله . .
وقصة المائدة - كما أوردها القرآن الكريم - لم ترد في كتب النصارى . ولم تذكر في هذه الأناجيل التي كتبت متأخرة بعد عيسى - عليه السلام - بفترة طويلة ، لا يؤمن معها على الحقيقة التي تنزلت من عند الله . وهذه الأناجيل ليست إلا رواية بعض القديسين عن قصة عيسى - عليه السلام - وليست هي ما أنزله الله عليه وسماه الإنجيل الذي آتاه . .
ولكن ورد في هذه الأناجيل خبر عن المائدة في صورة أخرى : فورد في إنجيل متى في نهاية الإصحاح الخامس عشر : « وأما يسوع فدعا تلاميذه ، وقال : إني أشفق على الجميع ، لأن لهم الآن ثلاثة أيام يمشون معي ، وليس لهم ما يأكلون . ولست أريد أن أصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق . فقال له تلاميذه : من أين لنا في البرية خبز بهذا المقدار حتى يشبع جمعاً هذا عدده؟ فقال لهم يسوع : كم عندكم من الخبز؟ فقالوا : سبعة وقليل من صغار السمك . فأمر الجموع أن يتكئوا على الأرض؛ وأخذ السبع خبزات والسمك ، وشكر وكسر ، وأعطى تلاميذه ، والتلاميذ أعطوا الجمع ، فأكل الجمع وشبعوا ، ثم رفعوا ما فضل من الكسر سبعة سلال مملوءة ، والآكلون كانوا أربعة الآف ، ما عدا النساء والأولاد » . . . وورد مثل هذه الرواية في سائر الأناجيل . .
وبعض التابعين - رضوان الله عليهم - كمجاهد والحسن - يريان أن المائدة لم تنزل . لأن الحواريين حينما سمعوا قول الله سبحانه : { إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } . . خافوا وكفوا عن طلب نزولها :
قال ابن كثير في التفسير : « روى الليث بن أبى سليم عن مجاهد قال : » هو مثل ضربة الله ولم ينزل شيء « ( رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ) .

ثم قال ابن جرير : حدثنا الحارث ، حدثنا القاسم - هو ابن سلام - حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال : مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا ، فأبوا أن تنزل عليهم . . وقال أيضا؛ حدثناً أبو المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن ، أنه قال في المائدة : إنها لم تنزل . . وحدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول : لما قيل لهم : { فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } قالوا : لا حاجة لنا فيها ، فلم تنزل « .
ولكن أكثر آراء السلف على أنها نزلت . لأن الله تعالى قال : { إني منزلها عليكم } . ووعد الله حق . وما أورده القرآن الكريم عن المائدة هو الذي نعتمده في أمرها دون سواه . .
إن الله - سبحانه - يذكر عيسى بن مريم - في مواجهة قومه يوم الحشر وعلى مشهد من العالمين - بفضله عليه : { إذ قال الحواريون : يا عيسى بن مريم ، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ } . .
لقد كان الحواريون - وهم تلاميذ المسيح وأقرب أصحابه إليه وأعرفهم به - يعرفون أنه بشر . . ابن مريم . . وينادونه بما يعرفونه عنه حق المعرفة . وكانوا يعرفون أنه ليس ربا وإنما هو عبد مربوب لله . وأنه ليس ابن الله ، إنما هو ابن مريم ومن عبيدالله؛ وكانوا يعرفون كذلك أن ربه هو الذي يصنع تلك المعجزات الخوارق على يديه ، وليس هو الذي يصنعها من عند نفسه بقدرته الخاصة . . لذلك حين طلبوا إليه ، أن تنزل عليهم مائدة من السماء ، لم يطلبوها منه ، فهم يعرفون أنه بذاته لا يقدر على هذه الخارقة . وإنما سألوه :
{ يا عيسى ابن مريم ، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ } . .
واختلفت التأويلات في قولهم : { هل يستطيع ربك } . . كيف سألوا بهذه الصيغة بعد إيمانهم بالله وإشهاد عيسى - عليه السلام - على إسلامهم له . وقيل إن معنى يستطيع ليس ( يقدر ) ولكن المقصود هو لازم الاستطاعة وهو أن ينزلها عليهم . وقيل : إن معناها : هل يستجيب لك إذا طلبت . وقرئت : { هل تستطيع ربك } . بمعنى هل تملك أنت أن تدعو ربك لينزل علينا مائدة من السماء . .
وعلى أية حال فقد رد عليهم عيسى - عليه السلام - محذراً إياهم من طلب هذه الخارقة . . لأن المؤمنين لا يطلبون الخوارق ، ولا يقترحون على الله .
{ قال : اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } . .
ولكن الحواريين كرروا الطلب ، معلنين عن علته وأسبابه وما يرجون من ورائه :
{ قالوا : نريد أن نأكل منها ، وتطمئن قلوبنا ، ونعلم أن قد صدقتنا ، ونكون عليها من الشاهدين } .

فهم يريدون أن يأكلوا من هذا الطعام الفريد الذي لا نظير له عند أهل الأرض . وتطمئن قلوبهم برؤية هذه الخارقة وهي تتحقق أمام أعينهم؛ ويستيقنوا أن عيسى عليه السلام قد صدقهم ، ثم يكونوا شهوداً لدى بقية قومهم على وقوع هذه المعجزة .
وكلها أسباب كما قلنا تصور مستوى معيناً دون مستوى أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فهؤلاء طراز آخر بالموازنة مع هذا الطراز
عندئذ اتجه عيسى - عليه السلام - إلى ربه يدعوه :
{ قال عيسى ابن مريم : اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا ، وآية منك ، وارزقنا وأنت خير الرازقين } . .
وفي دعاء عيسى - بن مريم - كما يكرر السياق القرآني هذه النسبة - أدب العبد المجتبى مع إلهه ومعرفته بربه . فهو يناديه : يا الله . يا ربنا . إنني أدعوك أن تنزل علينا مائدة من السماء ، تعمنا بالخير والفرحة كالعيد ، فتكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا؛ وأن هذا من رزقك فارزقنا وأنت خير الرازقين . . فهو إذن يعرف أنه عبد؛ وأن الله ربه . وهذا الاعتراف يعرض على مشهد من العالمين ، في مواجهة قومه ، يوم المشهد العظيم
واستجاب الله دعاء عبده الصالح عيسى بن مريم؛ ولكن بالجد اللائق بجلاله سبحانه . . لقد طلبوا خارقة . واستجاب الله . على أن يعذب من يكفر منهم بعد هذه الخارقة عذاباً شديداً بالغاً في شدته لا يعذبه أحداً من العالمين :
{ قال الله : إني منزلها عليكم ، فمن يكفر بعد منكم ، فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } . .
فهذا هو الجد اللائق بجلال الله؛ حتى لا يصبح طلب الخوارق تسلية ولهواً . وحتى لا يمضي الذين يكفرون بعد البرهان المفحم دون جزاء رادع
وقد مضت سنة الله من قبل بهلاك من يكذبون بالرسل بعد المعجزة . . فأما هنا فإن النص يحتمل أن يكون هذا العذاب في الدنيا ، أو أن يكون في الآخرة .
ويسكت السياق بعد وعد الله وتهديده . . ليمضي إلى القضية الأساسية . . قضية الألوهية والربوبية . . وهي القضية الواضحة في الدرس كله . . فلنعد إلى المشهد العظيم فهو ما يزال معروضاً على أنظار العالمين . لنعد إليه فنسمع استجواباً مباشراً في هذه المرة في مسألة الألوهية المدعاة لعيسى بن مريم وأمه . استجواباً يوجه إلى عيسى - عليه السلام - في مواجهة الذين عبدوه . ليسمعوه وهو يتبرأ إلى ربه في دهش وفزع من هذه الكبيرة التي افتروها عليه وهو منها بريء :
{ وإذا قال الله : يا عيسى ابن مريم ، أأنت قلت للناس : اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ قال : سبحانك : ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق . إن كنت قلته فقد علمته ، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ، إنك أنت علام الغيوب . ما قلت لهم إلا ما أمرتني به : أن اعبدوا الله ربي وربكم ، وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ، وأنت على كل شيء شهيد .

إن تعذبهم فإنهم عبادك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } . .
وإن الله - سبحانه - ليعلم ماذا قال عيسى للناس . ولكنه الاستجواب الهائل الرهيب في اليوم العظيم المرهوب : الاستجواب الذي يقصد به إلى غير المسؤول؛ ولكن في صورته هذه وفي الإجابة عليه ما يزيد من بشاعة موقف المؤلهين لهذا العبد الصالح الكريم . .
إنها الكبيرة التي لا يطيق بشر عادي أن يقذف بها . . أن يدعي الألوهية وهو يعلم أنه عبد . . فكيف برسول من أولي العزم؟ كيف بعيسى بن مريم؛ وقد أسلف الله له هذه النعم كلها بعد ما اصطفاه بالرسالة وقبل ما اصطفاه؟ كيف به يواجه استجواباً عن ادعاء الألوهية ، وهو العبد الصالح المستقيم؟
من أجل ذلك كان الجواب الواجف الراجف الخاشع المنيب . . يبدأ بالتسبيح والتنزيه :
{ قال : سبحانك } .
ويسرع إلى التبرؤ المطلق من أن يكون من شأنه هذا القول أصلاً :
{ ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } .
ويستشهد بذات الله سبحانه على براءته؛ مع التصاغر أمام الله وبيان خصائص عبوديته وخصائص ألوهية ربه :
{ إن كنت قلته فقد علمته ، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك . إنك أنت علام الغيوب } . .
وعندئذ فقط ، وبعد هذه التسبيحة الطويلة يجرؤ على الإثبات والتقرير فيما قاله وفيما لم يقله ، فيثبت أنه لم يقل لهم إلا أن يعلن عبوديته وعبوديتهم لله ويدعوهم إلى عبادته :
{ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به : أن اعبدوا الله ربي وربكم } .
ثم يخلي يده منهم بعد وفاته . . وظاهر النصوص القرآنية يفيد أن الله - سبحانه - قد توفى عيسى بن مريم ثم رفعه إليه . وبعض الآثار تفيد أنه حي عند الله . وليس هنالك - فيما أرى - أي تعارض يثير أي استشكال بين أن يكون الله قد توفاه من حياة الأرض ، وأن يكون حياً عنده . فالشهداء كذلك يموتون في الأرض وهم أحياء عند الله . أما صورة حياتهم عنده فنحن لا ندري لها كيفاً . وكذلك صورة حياة عيسى - عليه السلام - وهو هنا يقول لربه : إنني لا أدري ماذا كان منهم بعد وفاتي :
{ وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد } . .
وينتهي إلى التفويض المطلق في أمرهم؛ مع تقرير عبوديتهم لله وحده . وتقرير قوة الله على المغفرة لهم أو عذابهم؛ وحكمته فيما يقسم لهم من جزاء سواء كان هو المغفرة أو العذاب :
{ إن تعذبهم فإنهم عبادك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } . .
فيا لله للعبد الصالح في موقفه الرهيب
وأين أولئك الذين أطلقوا هذه الفرية الكبيرة؛ التي يتبرأ منها العبد الطاهر البريء ذلك التبرؤ الواجف ، ويبتهل من أجلها إلى ربه هذا الابتهال المنيب؟
أين هم في هذا الموقف ، في هذا المشهد؟ .

. إن السياق لا يلقي إليهم التفاته واحدة . فلعلهم يتذاوبون خزياً وندماً . فلندعهم حيث تركهم السياق لنشهد ختام المشهد العجيب :
{ قال الله : هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم . لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، ذلك الفوز العظيم } . .
. . هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم . . إنه التعقيب المناسب على كذب الكاذبين؛ الذين أطلقوا تلك الفرية الضخمة على ذلك النبي الكريم . في أعظم القضايا كافة . . قضية الألوهية والعبودية ، التي يقوم على أساس الحق فيها هذا الوجود كله وما فيه ومن فيه . .
. . هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم . . إنها كلمة رب العالمين ، في ختام الاستجواب الهائل على مشهد من العالمين . . وهي الكلمة الأخيرة في المشهد . وهي الكلمة الحاسمة في القضية . ومعها ذلك الجزاء الذي يليق بالصدق والصادقين :
{ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } . .
{ خالدين فيها أبداً } . .
{ رضي الله عنهم } . .
{ ورضوا عنه } . .
درجات بعد درجات . . الجنات والخلود ورضا الله ورضاهم بما لقوا من ربهم من التكريم :
{ ذلك الفوز العظيم } . .
ولقد شهدنا المشهد - من خلال العرض القرآني له بطريقة القرآن الفريدة - وسمعنا الكلمة الأخيرة . . شهدنا وسمعنا لأن طريقة التصوير القرآنية لم تدعه وعداً يوعد ، ولا مستقبلاً ينتظر؛ ولم تدعه عبارات تسمعها الآذان أو تقرؤها العيون . إنما حركت به المشاعر ، وجسمته واقعاً اللحظة تسمعه الآذان وتراه العيون . .
على أنه إن كان بالقياس إلينا - نحن البشر المحجوبين - مستقبلاً ننتظره يوم الدين ، فهو بالقياس إلى علم الله المطلق ، واقع حاضر . فالزمن وحجابه إنما هما من تصوراتنا نحن البشر الفانين . .
وفي نهاية هذا الدرس؛ وفي مواجهة الفرية الكبرى التي لم يفتر أضخم منها قط أتباع رسول في مواجهة الفرية الكبرى التي أطلقها أتباع المسيح عيسى بن مريم - عليه السلام - فرية ألوهيته؛ الفرية التي تبرأ منها هذا التبرؤ ، وفوض ربه في أمر قومه بشأنها هذا التفويض . .
في مواجهة هذه الفرية ، وفي نهاية الدرس الذي عرض ذلك الاستجواب الرهيب عنها ، في ذلك المشهد العظيم . . يجيء الإيقاع الأخير في السورة؛ يعلن تفرد الله - سبحانه - بملك السماوات والأرض وما فيهن؛ وقدرته - سبحانه - على كل شيء بلا حدود :
{ لله ملك السماوات والارض وما فيهن ، وهو على كل شيء قدير } . .
ختام يتناسق مع تلك القضية الكبرى التي أطلقت حولها تلك الفرية الضخمة ، ومع ذلك المشهد العظيم الذي يتفرد الله فيه بالعلم ، ويتفرد بالألوهية ، ويتفرد بالقدرة ، وينيب إليه الرسل؛ ويفوضون إليه الأمر كله؛ ويفوض فيه عيسى بن مريم أمره وأمر قومه إلى العزيز الحكيم . الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن ، وهو على كل شيء قدير . .
وختام يتناسق مع السورة التي تتحدث عن « الدين » وتعرضه ممثلاً في اتباع شريعة الله وحده ، والتلقي منه وحده ، والحكم بما أنزله دون سواه . . إنه المالك الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن ، والمالك هو الذي يحكم : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } إنها قضية واحدة . . قضية الألوهية . . قضية التوحيد . . وقضية الحكم بما أنزل الله . . لتتوحد الألوهية ، ويتحقق التوحيد . .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)

إنها اللمسات العريضة للحقيقة الكبيرة؛ والإيقاعات المديدة في مطلع السورة . وهي ترسم القاعدة الكلية لموضوع السورة ولحقيقة العقيدة :
{ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } . .
إنها اللمسات الأولى . . تبدأ بالحمد لله . ثناء عليه ، وتسبيحاً له ، واعترافاً بأحقيته للحمد والثناء ، على ألوهيته المتجلية في الخلق والإنشاء . . بذلك تصل بين الألوهية المحمودة وخصيصتها الأولى . . الخلق . . وتبدأ بالخلق في أضخم مجالي الوجود . . السماوات والأرض . . ثم في أضخم الظواهر الناشئة عن خلق السماوات والأرض وفق تدبير مقصود . . الظلمات والنور . . فهي اللمسة العريضة التي تشمل الأجرام الضخمة في الكون المنظور ، والمسافات الهائلة بين تلك الأجرام ، والظواهر الشاملة الناشئة عن دورتها في الأفلاك . . لتعجب من قوم يرون صفحة الوجود الضخمة الهائلة الشاملة تنطق بقدرة الخالق العظيم كما تنطق بتدبيره الحكيم ، وهم بعد ذلك كله لا يؤمنون ولا يوحدون ولا يحمدون؛ بل يجعلون لله شركاء يعدلونهم به ويساوونه :
{ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } . .
فيا للمفارقة الهائلة بين الدلائل الناطقة في الكون ، وآثارها الضائعة في النفس يا للمفارقة التي تعدل الأجرام الضخمة ، والمسافات الشاسعة ، والظواهر الشاملة . . بل تزيد . .
واللمسة الثانية :
{ هو الذي خلقكم من طين ، ثم قضى أجلاً ، وأجل مسمى عنده ، ثم أنتم تمترون } :
إنها لمسة الوجود الإنساني ، التالي في وجوده للوجود الكوني . ولظاهرتي الظلمات والنور . لمسة الحياة الإنسانية في هذا الكون الخامد . لمسة النقلة العجيبة من عتمة الطين المظلم إلى نور الحياة البهيج؛ تتناسق تناسقاً فنياً جميلاً مع { الظلمات والنور } . . وإلى جانبها لمسة أخرى متداخلة : لمسة الأجل الأول المقضى للموت ، والأجل الثاني المسمى للبعث . . لمستان متقابلتان في الهمود والحركة كتقابل الطين الهامد والخلق الحي في النشأة . . وبين كل متقابلين مسافة هائلة في الكنه والزمن . . وكان من شأن هذا كله أن ينقل إلى القلب البشري اليقين بتدبير الله ، واليقين بلقائه . ولكن المخاطبين بالسورة يشكون في هذا ولا يستيقنون :
{ ثم أنتم تمترون } . .
واللمسة الثالثة تضم اللمستين الأوليين في إطار واحد؛ وتقرر ألوهية الله في الكون والحياة الإنسانية سواء :
{ وهو الله في السماوات وفي الأرض ، يعلم سركم وجهركم ، ويعلم ما تكسبون } . .
إن الذي خلق السماوات والأرض هو الله في السماوات وفي الأرض . هو المتفرد بالألوهية فيهما على السواء . وكل مقتضيات الألوهية متحققة عليهما ، من خضوع للناموس الذي سنه الله لهما ، وائتمار بأمره وحده . وكذلك ينبغي أن يكون الشأن في حياة الإنسان . فلقد خلقه الله كما خلق السماوات والأرض؛ وهو في تكوينه الأول من طين هذه الأرض؛ وما رزقه من خصائص جعلت منه إنساناً رزقه إياه الله؛ وهو خاضع من ناحية كيانه الجسمي للناموس الذي سنه الله له - رضي أم كره - يعطى وجوده وخلقه ابتداء بمشيئة الله ، لا بمشيئته هو ولا بمشيئة أبيه وأمه : فهما يلتقيان ولكن لا يملكان أن يعطيا جنيناً وجوده وهو يولد وفق الناموس الذي وضعه الله لمدة الحمل وظروف الولادة وهو يتنفس هذا الهواء الذي أوجده الله بمقاديره هذه؛ ويتنفسه بالقدر وبالكيفية التي أرادها الله له .

وهو يحس ويتألم ، ويجوع ويعطش ، ويأكل ويشرب . . وبالجملة يعيش . . وفق ناموس الله ، على غير إرادة منه ولا اختيار . . شأنه في هذا شأن السماوات والأرض سواء .
والله - سبحانه - يعلم سره وجهره . ويعلم ما يكسب في حياته في سره وجهره .
والأليق به أن يتبع - إذن - ناموس الله في حياته الاختيارية - فيما يتخذه من تصورات اعتقادية ، وقيم اعتبارية ، وأوضاع حيوية - لتستقيم حياته الفطرية المحكومة بناموس الله؛ مع حياته الكسبية حين تحكمها شريعة الله . ولكي لا يناقض بعضه بعضاً ، ولا يصادم بعضه بعضاً؛ ولا يتمزق مزقاً بين ناموسين وشرعين : أحدهما إلهي والأخر بشري وما هما بسواء . .
إن هذه الموجة العريضة الشاملة في مطلع السورة ، إنما تخاطب القلب البشري والعقل البشري بدليل « الخلق » ودليل « الحياة » ممثلين في الآفاق وفي الأنفس . . ولكنها لا تخاطب بهما الإدراك البشري خطاباً جدلياً لاهوتياً أو فلسفياً ولكن خطاباً موحياً موقظاً للفطرة ، حيث يواجهها بحركة الخلق والإحياء؛ وحركة التدبير والهيمنة؛ في صورة التقرير لا في صورة الجدل؛ وبسلطان اليقين المستمد من تقرير الله؛ ومن شهادة الفطرة الداخلية بصدق هذا التقرير فيما تراه .
ووجود السماوات والأرض ، وتدبيرهما وفق هذا النظام الواضح؛ ونشأة الحياة - وحياة الإنسان في قمتها - وسيرها في هذا الخط الذي سارت فيه . . كلاهما يواجه الفطرة البشرية بالحق ، ويوقع فيها اليقين بوحدانية الله . . والوحدانية هي القضية التي تستهدف السورة كلها - بل القرآن كله - تقريرها . وليست هي قضية « وجود » الله . فلقد كانت المشكلة دائماً في تاريخ البشرية هي مشكلة عدم معرفة الإله الحق ، بصفاته الحقة؛ ولم تكن هي مشكلة عدم الإيمان بوجود إله
ومشركو العرب الذين كانت هذه السورة تواجههم ما كانوا يجحدون الله البتة؛ بل كانوا يقرون بوجوده سبحانه ، وبأنه الخالق الرازق ، المالك ، المحيي المميت . . إلى كثير من الصفات - كما يقرر القرآن ذلك في مواجهتهم ، وفي حكاية أقوالهم - ولكن انحرافهم الذي وصمهم بالشرك هو أنهم ما كانوا يعترفون بمقتضى اعترافهم ذاك : من تحكيم الله - سبحانه - في أمرهم كله؛ ونفي الشركاء له في تدبير شؤون حياتهم؛ واتخاذ شريعته وحدها قانوناً ، ورفض مبدأ تحكيم غير الله في أي شأن من شؤون الحياة .
هذا هو الذي وصمهم بالشرك وبالكفر؛ مع إقرارهم بوجود الله سبحانه ، ووصفه بتلك الصفات ، التي من مقتضاها أن يتفرد سبحانه بالحكم في شأنهم كله ، بما أنه الخالق الرازق المالك ، كما كانوا يعترفون .

. ومواجهتهم في مطلع هذه السورة بصفات الله هذه من الخلق للكون وللإنسان ، ومن تدبيره لأمر الكون وأمر الإنسان؛ ومن علمه وإحاطته بسرهم وجهرهم وعملهم وكسبهم . . إنما هو المقدمة التي يرتب عليها ضرورة إفراده سبحانه بالحاكمية والتشريع ، كما أوضحنا في التعريف المجمل بخط السورة ومنهجها .
ودليل الخلق ودليل الحياة كما أنهما صالحان لمواجهة المشركين لتقرير الوحدانية ، ولتقرير الحاكمية ، هما كذلك صالحان لمواجهة اللوثات الجاهلية الحديثة التافهة في إنكار الله . .
والحقيقة أن هناك شكاً كثيراً فيما إذا كان هؤلاء الملحدون يصدقون أنفسهم فأغلب الظن أنها بدأت مناورة في وجه الكنيسة؛ ثم استغلها اليهود لرغبتهم في تدمير قاعدة الحياة البشرية الأساسية ، كي لا يبقى على وجه الأرض من يقوم على هذه القاعدة غيرهم - كما يقولون في بروتوكولات حكماء صهيون - ومن ثم تنهار البشرية وتقع تحت سيطرتهم ، بما أنهم هم وحدهم الذين سيحافظون على مصدر القوة الحقيقية الذي توفره العقيدة
واليهود - مهما بلغ من كيدهم ومكرهم - لا يملكون أن يغلبوا الفطرة البشرية ، التي تجد في قرارتها الإيمان بوجود إله - وإن كانت تضل فقط في معرفة الإله الحق بصفاته الحقة؛ كما أنها تنحرف بعدم توحيد سلطانه في حياتها ، فتوصم بالشرك والكفر على هذا الأساس - ولكن بعض النفوس تفسد فطرتها ، وتتعطل فيها أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية . وهذه النفوس وحدها هي التي يمكن أن يفلح معها كيد اليهود الذي يستهدف نفي وجود الله فيها . ولكن هذه النفوس المعطلة الفطرة ستظل قليلة وشاذة في مجموع البشر في كل زمان . . والملحدون الحقيقيون على ظهر الأرض اليوم لا يتجاوزون بضعة ملايين في روسيا والصين من بين مئات الملايين الذين يحكمهم الملحدون بالحديد والنار؛ على الرغم من الجهد الناصب خلال أربعين عاماً في نزع الإيمان بكل وسائل التعليم والإعلام
إنما يفلح اليهود في حقل آخر . وهو تحويل الدين إلى مجرد مشاعر وشعائر . وطرده من واقع الحياة . وإيهام المعتقدين به أنهم يمكن أن يظلوا مؤمنين بالله؛ مع أن هناك أرباباً أخرى هي التي تشرع لحياتهم من دون الله ويصلون بذلك إلى تدمير البشرية فعلاً ، حتى مع وهمها أنها لا تزال تؤمن بالله .
وهم يستهدفون الإسلام - قبل كل دين آخر - لأنهم يعرفون من تاريخهم كله ، أنهم لم يغلبهم إلا هذا الدين يوم كان يحكم الحياة . وأنهم غالبو أهله طالما أهله لا يحكمونه في حياتهم؛ مع توهمهم أنهم ما يزالون مسلمين مؤمنين بالله فهذا التخدير بوجود الدين - وهو غير موجود في حياة الناس - ضروري لتنجح المؤامرة . . أو يأذن الله فيصحو الناس
وأحسب - والله أعلم - أن اليهود الصهيونيين ، والنصارى الصليبيين ، كليهما ، قد يئسوا من هذا الدين في هذه المنطقة الإسلامية الواسعة في إفريقية وآسيا وأوربا كذلك .

. يئسوا من أن يحولوا الناس فيها إلى الإلحاد - عن طريق المذاهب المادية - كما يئسوا كذلك من تحويلهم إلى ديانات أخرى عن طريق التبشير أو الاستعمار . . ذلك أن الفطرة البشرية بذاتها تنفر من الإلحاد وترفضه حتى بين الوثنيين - فضلاً على المسلمين - وأن الديانات الأخرى لا تجرؤ على اقتحام قلب عرف الإسلام ، أو حتى ورث الإسلام
وأحسب - والله أعلم - أنه كان من ثمرة اليأس من هذا الدين أن عدل اليهود والصهيونيون والنصارى الصليبيون عن مواجهة الإسلام جهرة عن طريق الشيوعية أو عن طريق التبشير؛ فعدلوا إلى طرائق أخبث ، وإلى حبائل أمكر . . لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع في المنطقة كلها تتزيا بزي الإسلام؛ وتتمسح في العقيدة؛ ولا تنكر الدين جملة . . ثم هي تحت هذا الستار الخادع ، تنفذ جميع المشروعات التي أشارت بها مؤتمرات التبشير وبروتوكولات صهيون ، ثم عجزت عن تنفيذها كلها في المدى الطويل
إن هذه الأنظمة والأوضاع ترفع راية الإسلام - أو على الأقل تعلن احترامها للدين - بينما هي تحكم بغير ما أنزل الله؛ وتقصي شريعة الله عن الحياة؛ وتحل ما حرم الله؛ وتنشر تصورات وقيماً مادية عن الحياة والأخلاق تدمر التصورات والقيم الإسلامية؛ وتسلط جميع أجهزة التوجيه والإعلام لتدمير القيم الأخلاقية الإسلامية ، وسحق التصورات والاتجاهات الدينية؛ وتنفذ ما نصت عليه مؤتمرات المبشرين وبروتوكولات الصهيونيين ، من ضرورة إخراج المرأة المسلمة إلى الشارع ، وجعلها فتنة للمجتمع ، باسم التطور والتحضر ومصلحة العمل والإنتاج؛ بينما ملايين الأيدي العاملة في هذه البلاد متعطلة لا تجد الكفاف وتيسر وسائل الانحلال وتدفع الجنسين إليها دفعاً بالعمل والتوجيه . . كل ذلك وهي تزعم أنها مسلمة وأنها تحترم العقيدة والناس يتوهمون أنهم يعيشون في مجتمع مسلم ، وأنهم هم كذلك مسلمون أليس الطيبون منهم يصلون ويصومون؟ أما أن تكون الحاكمية لله وحده أو تكون للأرباب المتفرقة ، فهذا ما قد خدعتهم عنه الصليبية والصهيونية والتبشير والاستعمار والاستشراق وأجهزة الإعلام الموجهة؛ وأفهمتهم أنه لا علاقة له بالدين . وأن المسلمين يمكن أن يكونوا مسلمين؛ وفي دين الله؛ بينما حياتهم كلها تقوم على تصورات وقيم وشرائع وقوانين ليست من هذا الدين
وإمعاناً في الخداع والتضليل؛ وإمعاناً من الصهيونية العالمية والصليبية العالمية في التخفي ، فإنها تثير حروباً مصطنعة - باردة أو ساخنة - وعداوات مصطنعة في شتى الصور ، بينها وبين هذه الأنظمة والأوضاع التي أقامتها والتي تكفلها بالمساعدات المادية والأدبية ، وتحرسها بالقوى الظاهرة والخفية ، وتجعل أقلام مخابراتها في خدمتها وحراستها المباشرة
تثير هذه الحروب المصطنعة والعداوات المصطنعة ، لتزيد من عمق الخدعة؛ ولتبعد الشبهة عن العملاء ، الذين يقومون لها بما عجزت هي عن إتمامه في خلال ثلاثة قرون أو تزيد؛ من تدمير القيم والأخلاق؛ وسحق العقائد والتصورات؛ وتجريد المسلمين في هذه الرقعة العريضة من مصدر قوتهم الأول .

. وهو قيام حياتهم على أساس دينهم وشريعتهم . . وتنفيذ المخططات الرهيبة التي تضمنتها بروتوكولات الصهيونيين ومؤتمرات المبشرين؛ في غفلة من الرقباء والعيون
فإذا بقيت بقية في هذه الرقعة لم تجز عليها الخدعة؛ ولم تستسلم للتخدير باسم الدين المزيف؛ وباسم الأجهزة الدينية المسخرة لتحريف الكلم عن مواضعه؛ ولوصف الكفر بأنه الإسلام؛ والفسق والفجور والانحلال ، بأنه تطور وتقدم وتجدد . . إذا بقيت بقية كهذه سلطت عليها الحرب الساحقة الماحقة؛ وصبت عليها التهم الكاذبة الفاجرة وسحقت سحقاً ، بينما وكالات الأنباء العالمية وأجهزة الإعلام العالمية خرساء صماء عمياء
ذلك بينما الطيبون السذج من المسلمين يحسبون أنها معركة شخصية ، أو طائفية ، لا علاقة لها بالمعركة المشبوبة مع هذا الدين؛ ويروحون يشتغلون في سذاجة بلهاء - من تأخذه الحمية للدين منهم وللأخلاق - بالتنبيه إلى مخالفات صغيرة ، وإلى منكرات صغيرة ، ويحسبون أنهم أدوا واجبهم كاملاً بهذه الصيحات الخافتة . . بينما الدين كله يسحق سحقاً ، ويدمر من أساسه؛ وبينما سلطان الله يغتصبه المغتصبون ، وبينما الطاغوت - الذي أمروا أن يكفروا به - هو الذي يحكم حياة الناس جملة وتفصيلاً
إن اليهود الصهيونيين والنصارى الصليبيين يفركون أيديهم فرحاً بنجاح الخطة وجواز الخدعة؛ بعدما يئسوا من هذا الدين أن يقضوا عليه مواجهة باسم الإلحاد ، أو يحولوا الناس عنه باسم التبشير ، فترة طويلة من الزمان . .
إلا أن الأمل في الله أكبر؛ والثقة في هذا الدين أعمق ، وهم يمكرون والله خير الماكرين . وهو الذي يقول : { وقد مكروا مكرهم ، وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال . فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ، إن الله عزيز ذو انتقام } أما مواجهة دليل الخلق ودليل الحياة للوثة الإلحاد ، فهي مواجهة قوية ، لا يجد الملحدون إزاءها إلاّ المماحلة والمغالطة والالتواء :
إن وجود هذا الكون ابتداء ، بهذا النظام الخاص ، يستلزم - بمنطق الفطرة البديهي وبمنطق العقل الواعي على السواء - أن يكون وراءه خالق مدبر . .
فالمسافة بين الوجود والعدم مسافة لا يملك الإدراك البشري أن يعبرها ، إلا بتصور إله ينشئ ويخلق ويوجد هذا الوجود .
والذين يلحدون يعمدون إلى هذه الفجوة فيريدون ملأها بالمكابرة . ويقولون : إنه لا داعي لأن نفترض أنه كان هناك عدم قبل الوجود . . ومن هؤلاء فيلسوف عرف بأنه فيلسوف « الروحية » المدافع عنها في وجه « المادية » . وعلى هذا الأساس ربما أشاد به بعض المخدوعين من « المسلمين » واستأنسوا بأقواله لدينهم كأنما ليؤازروا دين الله بقول عبد من العبيد . . هذا الفيلسوف هو « برجسون » . . اليهودي
إنه يقول : إن هذا الوجود الكوني لم يسبقه عدم وإن فرض الوجود بعدم العدم ناشئ من طبيعة العقل البشري الذي لا يستطيع أن يتصور إلا على هذا النحو .

.
فإلى أي منطق يا ترى يستند برجسون إذن في إثبات أن الوجود الكوني لم يسبقه عدم؟
إلى العقل؟ لا . فإن العقل - كما يقرر - لا يمكن أن يتصور إلا وجوداً بعد عدم إلى وحي من الله؟ إنه لا يدعي هذا . وإن كان يقول : إن حدس المتصوفة كان دائماً يجد إلهاً ولا بد أن نصدق هذا الحدس المطرد ( الإله الذي يتحدث عنه برجسون ليس هو الله إنما هو الحياة ) . . فأين المصدر الثالث الذي يعتمد عليه ( برجسون ) إذن في إثبات أن الوجود الكوني غير مسبوق بعدم؟ لا ندري
إنه لا بد من الالتجاء إلى تصور خالق خلق هذا الكون . . لا بد من الالتجاء إلى هذا التصور لتعليل مجرد وجود الكون . . فكيف إذا كان الحال أنه لم يوجد مجرد وجود . ولكنه وجد محكوماً بنواميس لا تتخلف ، محسوباً فيها كل شيء بمقاييس ، قصارى العقول البشرية أن تدرك أطرافاً منها ، بعد التدبر الطويل؟
كذلك نشأة هذه الحياة . والمسافة بينها وبين المادة - أياً كان مدلول المادة ولو كان هو الإشعاع - لا يمكن تعليلها إلا بتصور وجود إله خالق مدبر . يخلق الكون بحالة تسمح بنشأة الحياة فيه؛ وتسمح بكفالة الحياة أيضاً بعد وجودها . والحياة الإنسانية بخصائصها الباهرة درجة فوق مجرد الحياة . . وأصله من طين . . أي من مادة هذه الأرض وجنسها؛ ولا بد من إرادة مدبرة تمنحه الحياة ، وتمنحه خصائص الإنسان عن قصد واختيار .
وكل المحاولات التي بذلها الملحدون لتعليل نشأة الحياة باءت بالفشل - عند العقل البشري ذاته - وآخر ما قرأته في هذا الباب محاولة ( ديورانت ) المتفلسف الأمريكي للتقريب بين نوع الحركة الذي في الذرة - وهو يسميه درجة من الحياة - ونوع الحياة المعروف في الأحياء . وذلك في جهد مستميت لملء الفجوة بين المادة الهامدة والحياة النابضة . بقصد الاستغناء عن الإله الذي ينشئ الحياة في الموات
ولكن هذه المحاولة المستميتة لا تنفعه ولا تنفع الماديين في شيء . . ذلك أنه إن كانت الحياة صفة كامنة في المادة ، ولم يكن وراء هذه المادة قوة أخرى ذات إرادة ، فما الذي يجعل الحياة التي في المادة الكونية تتبدى في درجات بعضها أرقى وأعقد من بعض؟ فتتبدى في الذرة مجرد حركة آلية غير واعية . ثم تتبدى في النبات في صورة عضوية . ثم تتبدى في الأحياء المعروفة في صورة عضوية أكثر تركيباً وتعقيداً . .
ما الذي جعل المادة - المتضمنة للحياة كما يقال - يأخذ بعضها من عنصر الحياة أكثر مما يأخذ البعض الأخر ، بلا إرادة مدبرة؟ ما الذي جعل الحياة الكامنة في المادة ، تختلف في مدارجها المترقية؟
إننا نفهم هذا التفاوت يوم نقدر أن هناك إرادة مدبرة هي التي تصنع ذلك مختارة مريدة .

فأما حين تكون المادة ( الحية ولنفرض ذلك ) هي وحدها ، فإنه يستحيل على العقل البشري ذاته أن يفهم هذا التفاوت أو يعلله
إن التعليل الإسلامي لانبثاق الحياة في درجاتها المتفاوتة هو الحل الوحيد لهذه الظاهرة التي لا تعللها المحاولات المادية البائسة
وإذ كنا - في هذه الظلال - لا نخرج عن المنهج القرآني؛ فإننا لا نمضي أكثر من هذا في مواجهة لوثة الإلحاد ببراهين الخلق والتدبير والحياة . . فالقرآن الكريم لم يجعل قضية وجود الله قضيته . لعلم الله أن الفطرة ترفض هذه اللوثه . إنما القضية هي قضية توحيد الله؛ وتقرير سلطانه في حياة العبد؛ وهي القضية التي تتوخاها السورة في هذه الموجة التي استعرضناها .

وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)

هذه هي الموجة التالية في افتتاح السورة؛ بعد الموجة الأولى ذات اللمسات العريضة . . الموجة التي غمرت الكون كله بحقيقة الوجود الإلهي متجلية في خلق السماوات والأرض ، منشئة للظلمات والنور؛ ثم في خلق الإنسان من مادة هذه الأرض؛ وتقدير أجله الذي ينتهي بالموت؛ والاحتفاظ بسر الأجل الآخر المضروب للبعث؛ والإحاطة بسر الناس وجهرهم ، وما يكسبون في السر والجهر . .
هذا الوجود الإلهي الذي يتجلى في الآفاق والأنفس ، هو وجود متفرد متوحد؛ ليس مثله وجود؛ لأنه ما من خالق غير الله؛ كما أنه وجود غامر باهر قاهر يبدو التكذيب في ظله والإعراض عن هذه الآيات الهائلة ، منكراً قبيحاً ، لا سند له ، ولا عذر لصاحبه . .
ومن ثم يعرض السياق موقف المشركين الذين يعارضون الدعوة الإسلامية في ظل هذا الوجود الغامر الباهر القاهر؛ فيبدو هذا الموقف منكراً قبيحاً ، حتى في حس أصحابه الذين يواجههم هذا القرآن بهذه الحقيقة ويكسب القرآن المعركة في الجولة الأولى . يكسبها في أعماق فطرة الناس ، على الرغم من مكابرتهم ومن عنادهم الظاهرين
وهو يعرض في هذه الموجة صورة العناد والمكابرة؛ ويواجهها بالتهديد مرة؛ وبتوجيه القلوب إلى مصارع المكذبين من قبل مرة؛ ويحشد فيها عدة مؤثرات وموحيات . بعد الهزة الأولى التي مضت بها تلك الموجة العريضة :
{ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين . فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون . ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ، وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين } . .
إنهم يتخذون موقف الإعراض عناداً واصراراً . فليس الذي ينقصهم هو الآيات الداعية إلى الإيمان ، ولا العلامات الدالة على صدق الدعوة والداعية ، ولا البراهين الناطقة بما وراء الدعوة والداعية من ألوهية حقة ، هي التي يدعون إلى الإيمان بها والاستسلام لها . . ليس هذا هو الذي ينقصهم ، إنما تنقصهم الرغبة في الاستجابة ، ويمسك بهم العناد والإصرار ، ويقعد بهم الإعراض عن النظر والتدبر :
{ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين } . .
وحين يكون الأمر كذلك . حين يكون الإعراض متعمدا ومقصوداً - مع توافر الأدلة ، وتواتر الآيات ووضوح الحقائق - فإن التهديد بالبطش قد يحدث الهزة التي تفتح نوافذ الفطرة حين تسقط عنها حاجز الكبر والعناد :
{ فقد كذبوا بالحق لما جاءهم . فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } . .
إنه الحق هذا الذي جاءهم من لدن خالق السماوات والأرض ، وجاعل الظلمات والنور ، وخالق الإنسان من طين ، والإله في السماوات وفي الأرض الذي يعلم سرهم وجهرهم ويعلم ما يكسبون .

. إنه الحق وقد كذبوا به ، مصرين على التكذيب ، معرضين عن الآيات ، مستهزئين بالدعوة إلى الإيمان . . فليرتقبوا إذن أن يأتيهم الخبر اليقين عما كانوا به يستهزئون
ويتركهم أمام هذا التهديد المجمل ، الذي لا يعرفون نوعه ولا موعده . . يتركهم يتوقعون في كل لحظة أن تأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون حيث يتكشف لهم الحق أمام العذاب المرتقب المجهول
وفي موقف التهديد يلفت أعناقهم وأنظارهم وقلوبهم وأعصابهم إلى مصارع المكذبين من قبلهم - وقد كانوا يعرفون بعضها في دور عاد بالأحقاف وثمود بالحجر ، وكانت أطلالهم باقية يمر عليها العرب في رحلة الشتاء للجنوب وفي رحلة الصيف للشمال ، كما كانوا يمرون بقرى لوط المخسوفة ويعرفون ما يتناقله المحيطون بها من أحاديث - فالسياق يلفتهم إلى هذه المصارع وبعضها منهم قريب .
{ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ، وأرسلنا السماء عليهم مدراراً ، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم . فأهلكناهم بذنوبهم ، وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين } . .
ألم يروا إلى مصارع الأجيال الغابرة . وقد مكنهم الله في الأرض ، وأعطاهم من أسباب القوة والسلطان ما لم يعط مثله للمخاطبين من قريش في الجزيرة؛ وأرسل المطر عليهم متتابعاً ينشئ في حياتهم الخصب والنماء ويفيض عليهم من الأرزاق . . ثم ماذا؟ ثم عصوا ربهم ، فأخذهم الله بذنوبهم ، وأنشأ من بعدهم جيلاً آخر ، ورث الأرض من بعدهم؛ ومضوا هم لا تحفل بهم الأرض فقد ورثها قوم آخرون فما أهون المكذبين المعرضين أصحاب القوة والتمكين من البشر ما أهونهم على الله؛ وما أهونهم على هذه الأرض أيضاً لقد أهلكوا وغبروا فما أحست هذه الأرض بالخلاء والخواء؛ إنما عمرها جيل آخر؛ ومضت الأرض في دورتها كأن لم يكن هنا سكان؛ ومضت الحياة في حركتها كأن لم يكن هنا أحياء
وهي حقيقة ينساها البشر حين يمكن الله لهم في الأرض . ينسون أن هذا التمكين إنما تم بمشيئة الله ، ليبلوهم فيه : أيقومون عليه بعهد الله وشرطه ، من العبودية له وحده ، والتلقي منه وحده - بما أنه هو صاحب الملك وهم مستخلفون فيه - أم يجعلون من أنفسهم طواغيت ، تدعي حقوق الألوهية وخصائصها؛ ويتصرفون فيما استخلفوا فيه تصرف المالك لا المستخلف .
إنها حقيقة ينساها البشر - إلا من عصم الله - وعندئذ ينحرفون عن عهد الله وعن شرط الاستخلاف؛ ويمضون على غير سنة الله؛ ولا يتبين لهم في أول الطريق عواقب هذا الانحراف ، ويقع الفساد رويداً رويداً وهم ينزلقون ولا يشعرون . . حتى يستوفي الكتاب أجله؛ ويحق وعد الله . . ثم تختلف أشكال النهاية : مرة يأخذهم الله بعذاب الاستئصال - بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم كما وقع لكثير من الأقوام - ومرة يأخذهم بالسنين ونقص الأنفس والثمرات كما حدث كذلك لأقوام - ومرة يأخذهم بأن يذيق بعضهم بأس بعض؛ فيعذب بعضهم بعضاً ، ويدمر بعضهم بعضاً ، ويؤذي بعضهم بعضاً ، ولا يعود بعضهم يأمن بعضاً؛ فتضعف شوكتهم في النهاية؛ ويسلط الله عليهم عباداً له - طائعين أو عصاة - يخضدون شوكتهم ، ويقتلعونهم مما مكنوا فيه؛ ثم يستخلف الله العباد الجدد ليبتليهم بما مكنهم .

. وهكذا تمضي دورة السنة . . السعيد من وعى أنها السنة ، ومن وعى أنه الابتلاء؛ فعمل بعهد الله فيما استخلف فيه . والشقي من غفل عن هذه الحقيقة ، وظن أنه أوتيها بعلمه ، أو أوتيها بحيلته ، أو أوتيها جزافاً بلا تدبير
وإنه لما يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي ، أو المستهتر الفاسد ، أو الملحد الكافر ، ممكناً له في الأرض ، غير مأخوذ من الله . . ولكن الناس إنما يستعجلون . . إنهم يرون أول الطريق أو وسطه؛ ولا يرون نهاية الطريق . . ونهاية الطريق لا ترى إلا بعد أن تجيء لا ترى إلا في مصارع الغابرين بعد أن يصبحوا أحاديث . . والقرآن الكريم يوجه إلى هذه المصارع ليتنبه المخدوعون الذين لا يرون - في حياتهم الفردية القصيرة - نهاية الطريق؛ فيخدعهم ما يرون في حياتهم القصيرة ويحسبونه نهاية الطريق
إن هذا النص في القرآن : { فأهلكناهم بذنوبهم } . . وما يماثله ، وهو يتكرر كثيراً في القرآن الكريم . . إنما يقرر حقيقة ، ويقرر سنة ، ويقرر طرفاً من التفسير الإسلامي لأحداث التاريخ . .
إنه يقرر حقيقة أن الذنوب تهلك أصحابها ، وأن الله هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم؛ وأن هذه سنة ماضية - ولو لم يرها فرد في عمره القصير ، أو جيل في أجله المحدود - ولكنها سنة تصير إليها الأمم حين تفشو فيها الذنوب؛ وحين تقوم حياتها على الذنوب . . كذلك هي جانب من التفسير الإسلامي للتاريخ : فإن هلاك الأجيال واستخلاف الأجيال؛ من عوامله ، فعل الذنوب في جسم الأمم؛ وتأثيرها في إنشاء حالة تنتهي إلى الدمار؛ إما بقارعة من الله عاجلة - كما كان يحدث في التاريخ القديم - وإما بالانحلال البطيء الفطري الطبيعي ، الذي يسري في كيان الأمم - مع الزمن - وهي توغل في متاهة الذنوب
وأمامنا في التاريخ القريب - نسبياً - الشواهد الكافية على فعل الانحلال الأخلاقي ، والدعارة الفاشية ، واتخاذ المرأة فتنة وزينة ، والترف والرخاوة ، والتلهي بالنعيم . . أمامنا الشواهد الكافية من فعل هذا كله في انهيار الإغريق والرومان - وقد أصبحوا أحاديث - وفي الانهيار الذي تتجلى أوائله ، وتلوح نهايته في الأفق في أمم معاصرة ، كفرنسا وانجلترا كذلك - على الرغم من القوة الظاهرة والثراء العريض .
إن التفسير المادي للتاريخ يحذف هذا الجانب حذفاً باتاً من تفسيره لأطوار الأمم وأحداث التاريخ ، ذلك أن وجهته ابتداء هي استبعاد العنصر الأخلاقي من الحياة ، واستبعاد القاعدة الاعتقادية التي يقوم عليها . . ولكن هذا التفسير يضطر إلى مماحكات مضحكة في تفسير أحداث وأطوار في حياة البشرية لا سبيل إلى تفسيرها إلاّ على أساس القاعدة الاعتقادية .

والتفسير الإسلامي - بشموله وجديته وصدقه وواقعيته - لا يغفل أثر العناصر المادية - التي يجعلها التفسير المادي هي كل شيء - ولكنه يعطيها مكانها الذي تستحقه في رقعة الحياة العريضة؛ ويبرز العناصر الفعالة الأخرى التي لا ينكرها إلاّ أصحاب العناد الصفيق لواقعيات الوجود . . يبرز قدر الله من وراء كل شيء؛ ويبرز التغير الداخلي في الضمائر والمشاعر والعقائد والتصورات؛ ويبرز السلوك الواقعي والعنصر الأخلاقي . . ولا يغفل عاملاً واحداً من العوامل التي تجري بها سنة الله في الحياة . .
ثم يمضي السياق يصور طبيعة العناد ، التي ينبعث منها ذلك الإعراض؛ فيرسم نموذجاً عجيباً من النفوس البشرية . . ولكنه نموذج مع ذلك مكرور ، يجده الإنسان في كل عصر وفي كل بيئة وفي كل جيل . . نموذج النفس المكابرة ، التي يخرق الحق عينها ولا تراه والتي تنكر ما لا يُنكر لأنه من الوضوح بحيث يخجل المخالف أن ينكره على الأقل من باب الحياء . . والقرآن يرسم هذا النموذج شاخصاً في كلمات قلائل على طريقة التعبير القرآني المبدعة المعجزة في التعبير والتصوير :
{ ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم ، لقال الذين كفروا : إن هذا إلا سحر مبين } . .
إنه ليس الذي يجعلهم يعرضون عن أيات الله ، أن البرهان على صدقها ضعيف ، أو غامض ، أو تختلف فيه العقول . إنما الذي يجعلهم يقفون هذا الموقف هو المكابرة الغليظة والعناد الصفيق وهو الإصرار مبدئياً على الرفض والإنكار وعدم اعتبار البرهان أو النظر إليه أصلاً ولو أن الله - سبحانه - نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا القرآن ، لا عن طريق الوحي الذي لا يرونه؛ ولكن في ورقة منظورة ملموسة محسوسة؛ ثم لمسوا هم هذه الورقة بأيديهم - لا سماعاً عن غيرهم ، ولا مجرد رؤية بعيونهم - ما سلموا بهذا الذي يرونه ويلمسونه ، ولقالوا جازمين مؤكدين :
{ إن هذا الا سحر مبين } .
وهي صورة صفيقة ، منكرة ، تثير الاشمئزاز ، وتستعدي من يراها عليها صورة تثير النفس لتتقدم فتصفعها حيث لا مجال مع هذه الجبلات لحجة أو جدل أو دليل
وتصويرها على هذا النحو - وهي صورة تمثل حقيقة لنماذج مكرورة - يؤدي غرضين أو عدة أغراض : إنه يجسم للمعارضين أنفسهم حقيقة موقفهم الشائن الكريه البغيض؛ كالذي يرفع المرآة لصاحب الوجه الشائه والسحنة المنكرة ، ليرى نفسه في هذه المرآة ، ويخجل منها
وهو في الوقت ذاته يستجيش ضمائر المؤمنين تجاه إعراض المشركين وإنكار المنكرين؛ ويثبت قلوبهم على الحق ، فلا تتأثر بالجو المحيط من التكذيب والإنكار والفتنة والإيذاء .
كذلك هو يوحي بحلم الله الذي لا يعجل على هؤلاء المعارضين المكذبين ، وهم في مثل هذا العناد المنكر الصفيق .

وكلها أسلحة وحركة في المعركة التي كانت تخوضها الجماعة المسلمة بهذا القرآن في مواجهة المشركين .
بعد ذلك يحكي نموذجاً من اقتراحات المشركين ، التي يمليها التمحل والعناد ، كما يمليها الجهل وسوء التصور . . ذلك إذ يقترحون أن ينزل الله - سبحانه - على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ملكاً يصاحبه في تبليغ الدعوة؛ ويصدقه في أنه مرسل من عند الله . . ثم يبين لهم ما في هذا الاقتراح من جهل بطبيعة الملائكة ، وبسنة الله في إرسالهم ، كما يبين لهم رحمة الله بهم في أن لا يستجيب لهم فيما يقترحون :
{ وقالوا : لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون . ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً ، وللبسنا عليهم ما يلبسون } . .
وهذا الاقتراح الذي كان المشركون يقترحونه؛ والذي اقترحه من قبلهم أقوام كثيرون على رسلهم - كما يحكي القرآن الكريم في قصصهم - والرد القرآني عليه في هذا الموضع . . هذا وذاك يثيران جملة حقائق نلم بها هنا بقدر الإمكان :
الحقيقة الأولى : أن أولئك المشركين من العرب لم يكونوا يجحدون الله؛ ولكنهم كانوا يريدون برهاناً على ان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مرسل من عنده؛ وأن هذا الكتاب الذي يتلوه عليهم منزل من عند الله حقاً . ويقترحون برهاناً معيناً : هو أن ينزل الله عليه ملكاً يصاحبه في الدعوة ويصدق دعواه . . ولم يكن هذا إلا اقتراحاً من اقتراحات كثيرة من مثله ، ورد ذكرها في القرآن في مواضع منه شتى . وذلك كالذي ورد في سورة الإسراء ، وهو يتضمن هذا الاقتراح ، واقتراحات من نوعه تدل كلها على التعنت الذي وصفته الآية السابقة ، كما تدل على الجهل بكثير من الحقائق الكونية وكثير من القيم الحقيقية : { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً . وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً . أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً ، أو يكون لك بيت من زخرف ، أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه . قل : سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً؟ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا : أبعث الله بشراً رسولاً؟ قل : لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } ( الإسراء : 89 -95 ) .
ومن مثل هذه الاقتراحات يتبين التعنت كما تتبين الجهالة . . وإلا فقد كان لهم من خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يعرفونه جيداً بالخبرة الطويلة؛ ما يدلهم على صدقة وأمانته وهم كانوا يلقبونه الأمين ، ويودعون لديه أماناتهم حتى وهم معه على أشد الخلاف؛ وقد هاجر - صلى الله عليه وسلم - وترك ابن عمه علياً - رضي الله عنه - يرد إلى قريش ودائعهم التي كانت ما تزال عنده؛ وهم معه على الخلاف الذي يدبرون معه قتله وكذلك كان صدقه عندهم مستيقناً كأمانته؛ فإنه لما دعاهم أول مرة دعوة جماعية جهرية على الصفا - حين أمره ربه بذلك - وسألهم : إن كانوا يصدقونه لو أنبأهم بنبأ ، أجابوه كلهم بأنه عندهم مصدق .

. فلو كانوا يريدون أن يعلموا صدقه لقد كان لهم في ماضيه برهان ، ولقد كانوا يعلمون : إنه لصادق . . وسيأتي في سياق السورة خبر الله الصادق لنبيه : أنهم لا يكذبونه { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون . فإنهم لا يكذبونك . ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } فهي الرغبة في الإنكار والإعراض؛ وهو العناد والاستكبار عن الحق . وليس أنهم يشكون في صدقه صلى الله عليه وسلم
ثم لقد كان لهم في القرآن ذاته برهان أصدق من هذه البراهين المادية التي يطلبون . فإن هذا القرآن شاهد بذاته ، بتعبيره ثم بمحتوى هذا التعبير ، على أنه من عند الله . . وهم لم يكونوا يجحدون الله . . وهم - على وجه التأكيد - كانوا يحسون ذلك ويعرفونه . . كانوا يعرفون بحسهم اللغوي الأدبي الفني مدى الطاقة البشرية؛ ويعرفون أن هذا القرآن فوق هذا المدى - وهذا الإحساس يعرفه من يمارس فن القول ويتذوقه أكثر مما يعرفه من ليست له هذه الممارسة . وكل من مارس فن القول يدرك إدراكاً واضحاً أن هذا القرآن فوق ما يملك البشر أن يبلغوا؛ لا ينكر هذا إلا معاند يجد الحق في نفسه ثم يخفيه كما أن المحتوى القرآني من التصور الاعتقادي والمنهج الذي يتخذه لتقرير هذا الاعتقاد في الإدراك البشري ، ونوع المؤثرات واللمسات الموحية . . كلها غير معهود في طبيعة التصورات البشرية والمناهج البشرية ، والطرائق البشرية في الأداء النفسي والتعبيري أيضاً . . والعرب لم يكن يخفى عليهم الشعور بهذا في قرارة نفوسهم . وأقوالهم ذاتها وأحوالهم تقرر أنهم ما كانوا يشكون في أن هذا القرآن من عند الله . .
وهكذا يبدو أن هذه الاقتراحات لم تكن طلبا للبرهان؛ إنما كانت وسيلة من وسائل الإعنات؛ وأسلوباً من أساليب التعنت؛ وخطة للمماحكة والمعاندة؛ وأنهم كانوا كما قال الله سبحانه عنهم في الآية السابقة : { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم ، لقال الذين كفروا : إن هذا إلا سحر مبين }
والحقيقة الثانية : أن العرب كانوا يعرفون الملائكة؛ وكانوا يطلبون أن ينزل الله على رسوله ملكاً يدعو معه ويصدقه . . ولكنهم لم يكونوا يعرفون طبيعة هذا الخلق التي لا يعلمها إلا الله؛ وكانوا يخبطون في التيه بلا دليل في تصور هذا الخلق؛ وفي نوع علاقته بربه؛ ونوع علاقته بالأرض وأهلها . . وقد حكى القرآن الكريم كثيراً من ضلالات العرب وأساطير الوثنية حول الملائكة؛ وصححها كلها لهم ليستقيم تصور من يهتدي بهذا الدين منهم؛ وتصح معرفتهم لهذا الكون وما يعمره من خلائق .

وكان الإسلام - من هذا الجانب - منهجاً لتقويم العقل والشعور ، كما كان منهجاً لتقويم القلب والضمير ، ومنهجاً لتقويم الأوضاع والأحوال سواء . .
وحكى القرآن الكريم من أضاليل العرب ومن جهالاتهم في جاهليتهم ، أنهم كانوا يظنون أن الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يصفون وأنهم - من ثم - لهم شفاعة عند الله لا ترد والراجح أن بعض كبار الأصنام كانت رموزاً للملائكة كما حكى قولهم هذا في طلبهم أن ينزل الله على رسوله ملكاً ليصدقه في دعواه . .
وقد صحح لهم القرآن ضلالتهم الأولى في مواضع منه شتى . كالذي جاء في سورة النجم :
{ أفرأيتم اللات والعزى؟ ومناة الثالثة الأخرى؟ ألكم الذكر وله الأنثى؟ تلك إذن قسمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ، ولقد جاءهم من ربهم الهدى . أم للإنسان ما تمنى؟ فلله الآخرة والأولى . وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى . إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى . وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً } كما صحح لهم ضلالتهم الثانية في تصورهم لطبيعة الملائكة في هاتين الآيتين في هذه السورة وفي مواضع أخرى كثيرة :
{ وقالوا : لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون } . .
وهذا جانب من التعريف بهذا الخلق من عباد الله . . إنهم يقترحون أن ينزل الله ملكاً ، ولكن سنة الله أن ينزل الملائكة - حين ينزلون إلى الأرض على قوم كذبوا برسولهم - أن ينزلوا للتدمير عليهم ، وتحقيق أمر الله فيهم بالهلاك والدمار . ولو أن الله استجاب للمشركين من العرب فأنزل ملكاً ، لقضي الأمر ، وتم التدمير ، ولم يُنظروا إلى مهلة بعد هذا التنزيل فهل هذا ما يريدون وما يقترحون؟ وهلا يستشعرون رحمة الله في عدم إجابتهم لما يقترحون لأنفسهم من الهلاك المبين؟ . . هكذا يقفهم السياق وجهاً لوجه أمام رحمة الله بهم وحلمه عليهم؛ وأمام جهلهم بمصلحة أنفسهم ، وجهلهم بسنة الله في تنزيل الملائكة . . وهم بهذا الجهل الذي يكاد يدمر عليهم حياتهم ، يرفضون الهدى ويرفضون الرحمة ويتعنتون في طلب الدليل
والجانب الثاني من التعريف بهذا الخلق من عباد الله تتضمنه الآية الثانية :
{ ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً ، وللبسنا عليهم ما يلبسون } . .
إنهم يقترحون أن ينزل الله - سبحانه - ملكاً على رسوله - صلى الله عليه وسلم - يصدقه في دعواه . . ولكن الملائكة خلق آخر غير الخلق الإنساني .

خلق ذو طبيعة خاصة يعلمها الله . وهم - كما يقول الله عنهم ، ونحن لا علم لنا بهم إلا مما يقوله عنهم الذي خلقهم - لا يستطيعون أن يمشوا في الأرض بهيئتهم التي خلقهم الله عليها؛ لأنهم ليسوا من سكان هذا الكوكب؛ ولكن لهم - مع ذلك - من الخصائص ما يجعلهم يتخذون هيئة البشر حين يؤدون وظيفة من وظائفهم في حياة البشر؛ كتبليغ الرسالة؛ أو التدمير على من يريد الله أن يدمر عليهم من المكذبين؛ أو تثبيت المؤمنين ، أو قتال أعدائهم وقتلهم . . إلى آخر الوظائف التي يقص القرآن الكريم أنهم يكلفون بها من ربهم ، فلا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
فلو شاء الله أن يرسل ملكاً يصدق رسوله ، لتبدى للناس في صورة رجل - لا في صورته الملائكية - وعندئذ يلتبس عليهم الأمر مرة أخرى وإذا كانوا يلبسون على أنفسهم الحقيقة ومحمد - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم : أنا محمد الذي تعرفونه أرسلني الله إليكم لأنذركم وأبشركم . . فكيف يكون اللبس إذا جاءهم ملك - في صورة رجل لا يعرفونه - يقول لهم : أنا ملك أرسلني الله لأصدق رسوله . . بينما هم يرونه رجلاً كأي منهم؟ إنهم يلبسون الحقيقة البسيطة . فلو أرسل الله ملكاً لجعله رجلاً وللبس عليهم الحقيقة التي يلبسونها؛ ولما اهتدوا قط إلى يقين
وهكذا يكشف الله - سبحانه - جهلهم بطبيعة خلائقه ، كما كشف لهم جهلهم في معرفة سنته . . وذلك بالإضافة إلى كشف تعنتهم وعنادهم بلا مبرر ، وبلا معرفة ، وبلا دليل
والحقيقة الثالثة التي يثيرها النص القرآني في الفكر : هي طبيعة التصور الإسلامي ومقومات هذا التصور - ومن بينها تلك العوالم الظاهرة والمغيبة التي علم الإسلامُ المسلمَ أن يدركها أولاً ، وأن يتعامل معها أخيراً - ومن بين تلك العوالم المغيبة عالم الملائكة . . وقد جعل الإسلام الإيمان بها مقوماً من مقومات الإيمان ، لا يتم الإيمان إلا به . . الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره . .
وقد سبق أن ذكرنا في هذه الظلال ونحن نتحدث عن مطلع سورة البقرة : ما ملخصه أن الإيمان بالغيب نقلة في حياة الإنسان ضخمة؛ لأن خروجه من دائرة المحسوس الضيقة إلى إدراك أن هناك غيباً مجهولاً يمكن وجوده ويمكن تصوره ، هو - بلا شك - نقلة من دائرة الحس الحيواني إلى مجال الإدراك الإنساني . وأن إغلاق هذا المجال دون الإدراك الإنساني نكسة به إلى الوراء؛ وهو ما تحاوله المذاهب المادية الحسية؛ وتدعوه « تقدمية » وسنتحدث - إن شاء الله - بشيء من التفصيل عن « الغيب » عندما نواجه في هذه السورة قوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } فنقصر الحديث هنا عن الملائكة ، من عالم الغيب .

لقد تضمن التصور الإسلامي عن عالم الغيب ، أن هناك خلقاً من عباد الله اسمهم الملائكة . وأخبرنا القرآن الكريم عن قدر من صفاتهم ، يكفي لهذا التصور ويكفي للتعامل معهم في حدوده .
فهم خلق من خلق الله ، يدين لله بالعبودية ، وبالطاعة المطلقة؛ وهم قريبون من الله - لا ندري كيف ولا ندري نوع القرب على وجه التحديد - : { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً . سبحانه بل عباد مكرمون ، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون } وهم يحملون عرش الرحمن ، ويحفون به يوم القيامة كذلك - لا ندري كيف فليس لنا من علم إلا بقدر ما كشف الله لنا في هذا الغيب - : { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به . . . } { وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ، وقضي بينهم بالحق وقيل : الحمد لله رب العالمين } وهم خزنة الجنة وخزنة النار ، يستقبلون أهل الجنة بالسلام والدعاء ، ويستقبلون أهل النار بالتأنيب والوعيد : { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً ، حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها ، وقال لهم خزنتها : ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا : بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين : قيل : ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين . وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً ، حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ، وقال لهم خزنتها : سلام عليكم ، طبتم فادخلوها خالدين } { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } وهم يتعاملون مع أهل الأرض في صور شتى :
فهم يقومون عليهم حفظة بأمر الله؛ يتابعونهم ويسجلون عليهم كل ما يصدر عنهم؛ ويتوفونهم إذا جاء أجلهم : { وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون } { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفطونه . . من أمر الله . . } { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } وهم يبلغون الوحي إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم . . وقد أعلمنا الله - سبحانه - أن جبريل عليه السلام هو الذي يقوم منهم بهذه الوظيفة : { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده : أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } { قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله } . ووصفه - سبحانه بأنه ذو مرة ( أي قوة ) وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه على هيئته الملائكية مرتين اثنتين ، بينما جاءه في صور شتى في مرات الوحي التالية : { والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى . وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى . علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى . ولقد رآه نزلة أخرى . عند سدرة المنتهى . عندها جنة المأوى . إذ يغشى السدرة ما يغشى . ما زاغ البصر وما طغى . لقد رأى من آيات ربه الكبرى . . . }

وهم يتنزلون على المؤمنين بالتثبيت والمدد والتأييد في معركتهم الكبرى مع الباطل والطاغوت : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } { إذ تقول للمؤمنين : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين . بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين . وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به ، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم . . } { إذ يوحي ربك إلى الملائكة : أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ، فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } وهم مشغولون بأمر المؤمنين ، يسبحون ربهم ، ويستغفرون للذين آمنوا من ذنوبهم ، ويدعون ربهم لهم دعاء المحب المشفق المشغول بشأن من يحب : { الذي يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ، ويستغفرون للذين آمنوا ، ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً ، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ، وقهم عذاب الجحيم . ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ، ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ، إنك أنت العزيز الحكيم . وقهم السيئات ، ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته ، وذلك هو الفوز العظيم } وهم كذلك يبشرون المؤمنين بالجنة عند قبض أرواحهم ، ويستقبلونهم بالبشرى في الآخرة ويسلمون عليهم في الجنة : { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ، يقولون : سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } { . . جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ، سلام عليكم بما صبرتم ، فنعم عقبى الدار } وهم يستقبلون الكافرين في جهنم بالتأنيب والوعيد - كما سبق - ويقاتلونهم في معارك الحق كذلك . وكذلك هم يستلون أرواحهم في تعذيب وتأنيب ومهانة : { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم : أخرجوا أنفسكم ، اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } { فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } ولقد كان لهم شأن مع البشر منذ نشأة أبيهم آدم ، كما أن هذه الصلة امتدت في طول الحياة وعرضها حتى مجال الحياة الباقية على النحو الذي أشرنا إليه في المقتطفات القرآنية السابقة . وشأن الملائكة مع النشأة الإنسانية يرد في مواضع شتى ، كالذي جاء في سورة البقرة : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة . قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال : إني أعلم ما لا تعلمون . وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة ، فقال : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . قالوا : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم . قال : يا آدم أنبئهم بأسمائهم ، فلما أنبأهم بأسمائهم قال : ألم أقل لكم : إني أعلم غيب السماوات والأرض ، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وإذ قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين . . }

فهذا المجال الفسيح الذي تتصل فيه حياة البشر بهذا الملأ الأعلى ، هو فسحة في التصور ، وفسحة في إدراك حقائق هذا الوجود ، وفسحة في الشعور ، وفسحة في الحركة النفسية والفكرية ، يتيحها التصور الإسلامي للمسلم؛ والقرآن يعرض عليه هذا المجال الفسيح ، وعالم الغيب المتصل بما هو فيه من عالم الشهود .
والذين يريدون أن يغلقوا على « الإنسان » هذا المجال . . ومجال عالم الغيب كله . . إنما يريدون به أقبح الشر . . يريدون أن يغلقوا عالمه على مدى الحس القريب المحدود؛ ويريدون بذلك أن يزجوا به في عالم البهائم؛ وقد كرمه الله بقوة التصور؛ التي يملك بها أن يدرك ما لا تدركه البهائم؛ وأن يعيش في بحبوحة من المعرفة ، وبحبوحة من الشعور وأن ينطلق بعقله وقلبه إلى مثل هذا العالم؛ وأن يتطهر وهو يرف بكيانه كله في مثل هذا النور
والعرب في جاهليتهم - على كل ما في هذه الجاهلية من خطأ في التصور - كانوا ( من هذا الجانب ) أرقى من أهل الجاهلية ( العلمية ) الحديثة؛ الذين يسخرون من الغيب كله ويعدون الإيمان بمثل هذه العوالم الغيبية سذاجة غيرعلمية ويضعون « الغيبية » في كفة ، و « العلمية » في الكفة الأخرى وسنناقش عند مواجهة قوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } هذه الدعوى التي لا سند لها من العلم ، كما أنه لا سند لها من الدين . أما هنا فنكتفي بكلمة مختصرة عن شأن الملائكة .
ونسأل : ماذا عند أدعياء العقلية « العلمية » ، من علمهم ذاته ، يحتم عليهم نفي هذا الخلق المسمى بالملائكة ، وإبعاده عن دائرة التصور والتصديق؟ ماذا لديهم من علم يوجب عليهم ذلك؟
إن علمهم لا يملك أن ينفي وجود حياة من نوع آخر غير الحياة المعروفة في الأرض في أجرام أخرى ، يختلف تركيب جوها وتختلف طبيعتها وظروفها عن جو الأرض وظروفها . . فلماذا يجزمون بنفي هذه العوالم ، وهم لا يملكون دليلاً واحداً على نفي وجودها؟
إننا لا نحاكمهم إلى عقيدتنا ، ولا إلى قول الله سبحانه إنما نحاكمهم إلى « علمهم » الذي يتخذونه إلهاً . . فلا نجد إلا أن المكابرة وحدها - من غير أي دليل من هذا العلم - هي التي تقودهم إلى هذا الإنكار « غير العلمي » ألمجرد أن هذه العوالم غيب؟ لقد نرى حين نناقش هذه القضية أن الغيب الذي ينكرونه هو الحقيقة الوحيدة التي يجزم هذا « العلم » اليوم بوجودها؛ حتى في عالم الشهادة الذي تلمسه الأيدي وتراه العيون .

وتنتهي هذه الموجة بعرض ما وقع للمستهزئين بالرسل . ودعوة المكذبين إلى تدبر مصارع أسلافهم ، والسير في الأرض لرؤية هذه المصارع؛ الناطقة بسنة الله في المستهزئين المكذبين :
{ ولقد استهزىء برسل من قبلك ، فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون . قل : سيروا في الأرض ، ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } . .
إن هذه اللفتة - بعد ذكر إعراضهم عناداً وتعنتاً؛ وبعد بيان ما في اقتراحاتهم من عنت وجهالة؛ وما في عدم الاستجابة لهذه المقترحات من رحمة من الله وحلم - لترمي إلى غرضين ظاهرين :
الأول : تسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتسرية عنه ، مما يلقاه من عناد المعرضين ، وعنت المكذبين؛ وتطمين قلبه - صلى الله عليه وسلم - إلى سنة الله سبحانه في أخذ المكذبين المستهزئين بالرسل؛ وتأسيته كذلك بأن هذا الإعراض والتكذيب ليس بدعاً في تاريخ الدعوة إلى الحق . فقد لقي مثله الرسل قبله؛ وقد لقي المستهزئون جزاءهم الحق وحاق بهم ما كانوا يستهزئون به من العذاب ، ومن غلبة الحق على الباطل في نهاية المطاف . .
والثاني : لمس قلوب المكذبين المستهزئين من العرب بمصارع أسلافهم من المكذبين المستهزئين : وتذكيرهم بهذه المصارع التي تنتظرهم إن هم لجوا في الاستهزاء والسخرية والتكذيب . وقد أخذ الله - من قبلهم - قروناً كانت أشد منهم قوة وتمكيناً في الأرض؛ وأكثر منهم ثراء ورخاء ، كما قال لهم في مطلع هذه الموجة؛ التي ترج القلوب رجاً بهذه اللفتات الواقعية المخيفة .
ومما يستدعي الانتباه ذلك التوجيه القرآني :
{ قل : سيروا في الأرض ، ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } . .
والسير في الأرض للاستطلاع والتدبر والاعتبار؛ ولمعرفة سنن الله مرتسمة في الأحداث ، والوقائع؛ مسجلة في الآثار الشاخصة ، وفي التاريخ المروي في الأحاديث المتداولة حول هذه الآثار في أرضها وقومها . . السير على هذا النحو ، لمثل هذا الهدف ، وبمثل هذا الوعي . . أمور كلها كانت جديدة على العرب؛ تصور مدى النقلة التي كان المنهج الإسلامي الرباني ينقلهم إليها من جاهليتهم إلى هذا المستوى من الوعي والفكر والنظر والمعرفة .
لقد كانوا يسيرون في الأرض ، ويتنقلون في أرجائها للتجارة والعيش ، وما يتعلق بالعيش من صيد ورعي . . أما أن يسيروا وفق منهج معرفي تربوي . . فهذا كان جديداً عليهم . وكان هذا المنهج الجديد يأخذهم به؛ وهو يأخذ بأيديهم من سفح الجاهلية ، في الطريق الصاعد ، إلى القمة السامقة التي بلغوا إليها في النهاية .
ولقد كان تفسير التاريخ الإنساني وفق قواعد منهجية كهذة التي كان القرآن يوجه إليها العرب؛ ووفق سنن مطردة تتحقق آثارها كلما تحققت أسبابها - بإذن الله - ويستطيع الناس ملاحظتها؛ وبناء تصوراتهم للمقدمات والنتائج عليها؛ ومعرفة مراحلها وأطوارها .

. كان هذا المنهج برمته في تفسير التاريخ شيئاً جديداً على العقل البشري كله في ذلك الزمان . إذ كان قصارى ما يروى من التاريخ وما يدون من الأخبار ، مجرد مشاهدات أو روايات عن الأحداث والعادات والناس؛ لا يربط بينها منهج تحليلي أو تكويني يحدد الترابط بين الأحداث ، كما يحدد الترابط بين المقدمات والنتائج ، وبين المراحل والأطوار . . فجاء المنهج القرآني ينقل البشرية إلى هذا الأفق؛ ويشرع لهم منهج النظر في أحداث التاريخ الإنساني . وهذا المنهج ليس مرحلة في طرائق الفكر والمعرفة . إنما هو « المنهج » . . هو الذي يملك وحده إعطاء التفسير الصحيح للتاريخ الإنساني .
والذين يأخذهم الدهش والعجب للنقلة الهائلة التي انتقل إليها العرب في خلال ربع قرن من الزمان على عهد الرسالة المحمدية ، وهي فترة لا تكفي إطلاقاً لحدوث تطور فجائي في الأوضاع الاقتصادية ، سيرتفع عنهم الدهش ويزول العجب ، لو أنهم حولوا انتباههم من البحث في العوامل الاقتصادية؛ ليبحثوا عن السر في هذا المنهج الرباني الجديد ، الذي جاءهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند الله العليم الخبير . . ففي هذا المنهج تكمن المعجزة ، وفي هذا المنهج يكمن السر الذي يبحثون عنه طويلاً عند الإله الزائف الذي أقامته المادية حديثاً . . إله الاقتصاد . .
وإلا فأين هو التحول الاقتصادي المفاجئ في الجزيرة العربية؛ الذي ينشئ من التصورات الاعتقادية ونظام الحكم ، ومناهج الفكر ، وقيم الأخلاق ، وآماد المعرفة ، وأوضاع المجتمع ، كل هذا الذي نشأ في ربع قرن من الزمان؟
إن هذه اللفتة :
{ قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } .
إلى جانب اللفتة التي جاءت في صدر هذه الموجة من قوله تعالى : { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ، وأرسلنا السماء عليهم مدراراً ، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم ، فأهلكناهم بذنوبهم ، وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين } . .
إلى جانب أمثالها في هذه السورة وفي القرآن كله لتؤلف جانباً من منهج جديد جدة كاملة على الفكر البشري . وهو منهج باق . ومنهج كذلك فريد . .

قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)

هذه الموجة الجديدة ذات المد العالي والإيقاع الرهيب ، تجيء في أعقاب الحديث عن التكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء؛ وما ختم به هذا الحديث وما تخلله من التهديد المخيف؛ مع توجيه الأنظار والقلوب إلى الاعتبار بمصارع المكذبين المستهزئين . . كما أنها تجيء بعد موجة الافتتاح السابقة للحديث عن المكذبين؛ والتي عرضت حقيقة الألوهية في المجال الكوني العريض؛ وفي المجال الإنساني العميق . وهي كذلك تعرض حقيقة الألوهية في مجالات أخرى ، بإيقاعات جديدة؛ ومع مؤثرات كذلك جديدة . . فيقع الحديث عن التكذيب بين موجة الافتتاح وهذه الموجة؛ ويبدو أمره في غاية النكارة وفي غاية البشاعة
ولقد عرضت الموجة الأولى حقيقة الألوهية ممثلة في خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، وخلق الإنسان من طين ، وقضاء الأجل الأول لعمره ، وتسمية الأجل الثاني لبعثه . مقررة شمول ألوهية الله للسماوات وللأرض ، وإحاطة علمه بسر الناس وجهرهم وما يكسبونه في السر والجهر . . كل أولئك لا لمجرد التقرير اللاهوتي أو الفلسفي النظري السلبي . ولكن لتقرير مقتضيات هذه الحقائق في الحياة الإنسانية . من إسلامها بجملتها لله وحده ، لا تعدل به أحداً ، ولا تمتري في هذه الوحدانية . ومن إقرارها بشمول الألوهية لشئون الكون ولشئون الحياة الإنسانية في السر والجهر . ومن ترتيب النتائج الطبيعية لهذه الحقائق في الاستسلام لحاكمية الله وحده في شؤون الحياة الأرضية كالاستسلام لهذه الحاكمية في الشؤون الكونية . .
فأما هذه الموجة الجديدة فتستهدف كذلك إبراز حقيقة الألوهية ، ممثلة في الملك والفاعلية ، وفي الرزق والكفالة؛ وفي القدرة والقهر؛ وفي النفع والضر . . كل ذلك لا لمجرد التقرير اللاهوتي أو الفلسفي النظري السلبي . . ولكن لتقرير مقتضيات هذه الحقائق من توحيد الولاية والتوجه؛ وتوحيد الاستسلام والعبودية . . واعتبار الولاية والتوجه مظهر الاستسلام والعبودية . فإذا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستنكر أن يتخذ غير الله ولياً؛ بين أن هذا الاستنكار قائم أولاً على أن الله يطعم ولا يطعم؛ وقائم ثانياً على أن تولي غير الله نقض لما أُمر به من الإسلام وعدم الشرك أيضاً . .
ويصاحب عرض حقيقة الألوهية ، في هذه الصورة ولهذا الغرض ، جملة مؤثرات قوية تخلخل القلوب . تبدأ بعرض حقيقة الملكية لكل شيء . وحقيقة أن الله هو الذي يطعم ولا يطعم . وعرض العذاب الرعيب الذي يعد مجرد صرفه رحمة من الله وفوزاً عظيماً . وعرض القدرة على الضر والخير . وعرض الاستعلاء والقهر . وعرض الحكمة والخبرة . . ثم الإيقاع الرهيب المزلزل ، المتمثل في الأمر العلوي الهائل : قل . قل . قل :
فإذا تم هذا العرض بكل مؤثراته العميقة ، جاء الختام بالإيقاع العالي المجلجل . . إيقاع الإشهاد على التوحيد ، وإنكار الشرك ، والمفاصلة الحاسمة؛ مصحوباً كذلك بالأمر العلوي في كل فاصلة : { قل : أي شيء أكبر شهادة؟ } .

. { قل : الله } . . { قل : لا أشهد } . . { قل : إنما هو إله واحد } . . مما يضفي على الجو كله رهبة غامرة؛ ويضفي على الأمر كله طابع جد مرهوب
{ قل : لمن ما في السماوات والأرض؟ قل لله ، كتب على نفسه الرحمة ، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ، الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون . وله ما سكن في الليل والنهار ، وهو السميع العليم } . .
إنه موقف المواجهة للبيان والتقرير ، ثم المفاصلة . . ومن ثم يبدأ بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهذه المواجهة . مواجهة المشركين - الذين يعرفون أن الله هو الخالق ثم يعدلون به من لا يخلق؛ فيجعلون له شركاء مع الله في تصريف حياتهم - مواجهتهم بالسؤال عن الملكية - بعد الخلق - لكل ما في السماوات والأرض ، مسقصياً بهذا السؤال حدود الملكية في المكان :
{ ما في السماوات والأرض } . . مع تقرير الحقيقة التي لم يكونوا هم يجادولن فيها؛ والتي حكى القرآن في مواضع إقرارهم الكامل بها :
{ قل : لمن ما في السماوات والأرض؟ قل : لله } . .
ولقد كان العرب في جاهليتهم - على كل ما في هذه الجاهلية من ضلال في التصور ينشأ عنه انحطاط في الحياة - أرقى - في هذا الجانب - من الجاهلية « العلمية » الحديثة ، التي لا تعرف هذه الحقيقة ، والتي تغلق فطرتها وتعطلها دون رؤية هذه الحقيقة كانوا يعرفون ويقررون أن لله ما في السماوات والأرض . ولكنهم ما كانوا يرتبون على هذه الحقيقة نتائجها المنطقية؛ بإفراد الله سبحانه بالحاكمية فيما يملك ، وعدم التصرف فيه إلا بإذن الله وحده وشرعه . . وبهذا اعتبروا مشركين ، وسميت حياتهم بالجاهلية فكيف بمن يخرجون الحاكمية في أمرهم كله من اختصاص الله سبحانه؛ ويزاولونها هم بأنفسهم؟ بماذا يوصفون وبماذا توصف حياتهم؟ لا بد من إعطائهم صفة أخرى غير الشرك . . فهو الكفر والظلم والفسق كما يقرر الله سبحانه . . أياً كانت دعواهم في الإسلام وأياً كانت الصفة التي تعطيها لهم شهادات الميلاد
ونعود إلى الآية . لنجد السياق يلحق بهذا التقرير لملكية الله - سبحانه - لما في السماوات وما في الأرض ، أنه - سبحانه :
{ كتب على نفسه الرحمة } . .
فهو سبحانه المالك ، لا ينازعه منازع ، ولكنه - فضلاً منه ومنة - كتب على نفسه الرحمة . كتبها بإرادته ومشيئته؛ لا يوجبها عليه موجب؛ ولا يقترحها عليه مقترح؛ ولا يقتضيها منه مقتض - إلا إرادته الطليقة وإلا ربوبيته الكريمة - وهي - الرحمة - قاعدة قضائه في خلقه ، وقاعدة معاملته لهم في الدنيا والآخرة . . والاعتقاد إذن بهذه القاعدة يدخل في مقوّمات التصور الإسلامي ، فرحمة الله بعباده هي الأصل ، حتى في ابتلائه لهم أحياناً بالضراء . فهو يبتليهم ليعد طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته ، بعد الخلوص والتجرد والمعرفة والوعي والاستعداد والتهيؤ عن طريق هذا الابتلاء؛ وليميز الخبيث من الطيب في الصف ، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه؛ وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة .

. والرحمة في هذا كله ظاهرة . .
على أن تلمس مواضع رحمة الله ومظاهرها يستغرق الأعمار والأجيال . فما من لحظة إلا وتغمر العباد فيها الرحمة . . إنما ذكرنا الرحمة في الابتلاء بالضراء ، لأن هذه هي التي قد تزيغ فيها القلوب والأبصار
ولن نحاول نحن أن نتقصى مواضع الرحمة الإلهية أو مظاهرها - وإن كنا سنشير إشارة مجملة إلى شيء من ذلك فيما يلي - ولكننا سنحاول أن نقف قليلاً أمام هذا النص القرآني العجيب :
{ كتب على نفسه الرحمة } .
وقد تكرر وروده في السورة في موضع آخر سيأتي : { كتب ربكم على نفسه الرحمة } . .
إن الذي يستوقف النظر في هذا النص هو ذلك التفضل الذي أشرنا من قبل إليه . . تفضل الخالق المالك ذي السلطان القاهر فوق عباده . . تفضله - سبحانه - بأن يجعل رحمته بعباده في هذه الصورة . . مكتوبة عليه . . كتبها هو على نفسه؛ وجعلها عهداً منه لعباده . . بمحض إرادته ومطلق مشيئته . . وهي حقيقة هائلة لا يثبت الكيان البشري لتمليها وتأملها وتذوق وقعها؛ حين يقف لتدبرها في هذه الصورة العجيبة . .
كذلك يستوقف النظر مرة أخرى ذلك التفضل الآخر الذي يتجلى في إخباره لعباده بما كتبه - سبحانه - على نفسه من رحمته . فإن العناية بإبلاغهم هذه الحقيقة هي تفضل آخر ، لا يقل عن ذلك التفضل الأول فمن هم العباد حتى تبلغ العناية بهم أن يبلغوا ما جرت به إرادة الله في الملأ الأعلى؟ وأن يبلغوا بكلمات منه سبحانه يحملها إليهم رسوله؟ من هم؟ إلا أنه الفضل العميم ، الفائض من خلق الله الكريم؟
إن تدبر هذه الحقيقة على هذا النحو ليدع القلب في عجب وفي دهش؛ كما يدعه في أنس وفي روْح لا تبلغ الكلمات أن تصور جوانبه وحواشيه
ومثل هذه الحقائق ، وما تثيره في القلب من مشاعر؛ ليس موكولاً إلى التعبير البشري ليبلغ شيئاً في تصويره؛ وإن كان القلب البشري مهيأ لتذوقه ، لا لتعريفه
وتمثل هذه الحقيقة في التصور الإسلامي يكوّن جانباً أساسياً من تصور حقيقة الألوهية ، وعلاقة العباد بها . . وهو تصوّر جميل مطمئن ودود لطيف . يعجب الإنسان معه لمناكيد الخلق الذين يتقولون على التصور الإسلامي في هذا الجانب ، لأنه لا يقول ببنوة أحد من عباد الله لله - على نحو ما تقول التصورات الكنسية المحرفة - فالتصور الإسلامي إذ يرتفع على هذه التصورات الصبيانية الطفولية ، يبلغ في الوقت ذاته من تصوير العلاقة الرحيمة بين الله وعباده هذا المستوى الذي يعجز التعبير البشري عن وصفه . والذي يترع القلب بحلاوة مذاقه ، كما يروعه بجلال إيقاعه . .
ورحمة الله تفيض على عباده جميعاً؛ وتسعهم جميعاً؛ وبها يقوم وجودهم ، وتقوم حياتهم .

وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات الوجود أو لحظات الحياة للكائنات . فأما في حياة البشر خاصة فلا نملك أن نتابعها في كل مواضعها ومظاهرها؛ ولكننا نذكر منها لمحات في مجاليها الكبيرة :
إنها تتجلى ابتداء في وجود البشر ذاته . في نشأتهم من حيث لا يعلمون . وفي إعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم؛ بكل ما فيه من خصائص يتفضل بها الإنسان على كثير من العالمين .
وتتجلى في تسخير ما قدر الله أن يسخره للإنسان ، من قوى الكون وطاقاته . وهذا هو الرزق في مضمونه الواسع الشامل . الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته .
وتتجلى في تعليم الله للإنسان ، بإعطائه ابتداء الاستعداد للمعرفة؛ وتقدير التوافق بين استعدادته هذه وإيحاءات الكون ومعطياته . . هذا العلم الذي يتطاول به بعض المناكيد على الله ، وهو الذي علمهم إياه وهو من رزق الله بمعناه الواسع الشامل كذلك .
وتتجلى في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض ، بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى ، كلما نسي وضل؛ وأخذه بالحلم كلما لج في الضلال؛ ولم يسمع صوت النذير ، ولم يصغ للتحذير . وهو على الله هين . ولكن رحمة الله وحدها هي التي تمهله ، وحلم الله وحده هو الذي يسعه .
وتتجلى في تجاوز الله - سبحانه - عن سيئاته إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب ، وبكتابة الرحمة على نفسه ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب .
وتتجلى في مجازاته عن السيئة بمثلها ، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها . والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء . ومحو السيئة بالحسنة . . وكله من فضل الله . فلا يبلغ أحد أن يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته . حتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال عن نفسه ، في معرفة كاملة بعجز البشر وفضل الله .
والإقصار منا عن متابعة رحمة الله في مظاهرها ، وإعلان القصور والعيّ عنها ، هو أجدر وأولى . وإلا فما نحن ببالغين من ذلك شيئاً وإن لحظة واحدة يفتح الله فيها أبواب رحمته لقلب العبد المؤمن؛ فيتصل به؛ ويعرفه؛ ويطمئن إليه - سبحانه - ويأمن في كنفه؛ ويستروح في ظله . . إن لحظة واحدة من هذه اللحظات لتعجز الطاقة البشرية عن تمليها واستجلائها ، فضلاً على وصفها والتعبير عنها .
فلننظر كيف مثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذه الرحمة بما يقّربها للقلوب شيئاً ما :
أخرج الشيخان - بإسناده عن أبى هريرة رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « لما قضى الله الخلق - وعند مسلم : لما خلق الله الخلق - كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي . . وعند البخاري في رواية أخرى : إن رحمتي غلبت غضبي » .

« وأخرج الشيخان بإسناده عنه رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : جعل الله الرحمة مائة جزء . فأمسك عنده تسعة وتسعين ، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً . فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق ، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه » .
وأخرج مسلم - بإسناده عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : « إن لله مائة رحمة . فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم ، وتسعة وتسعون ليوم القيامة » .
« وله في أخرى : إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة ، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض . فجعل منها في الأرض رحمة واحدة ، فيها تعطف الوالدة على ولدها ، والوحش والطير بعضها على بعض . فإذا كان يوم القيامة أكملها الله تعالى بهذه الرحمة » .
وهذا التمثيل النبوي الموحي ، يقرب للإدراك البشري تصور رحمة الله تعالى . . ذلك إذ ينظر إلى رحمة الأمهات بأطفالها في الخلائق الحية ويتملاها ويعجب لها ، وإلى رحمة القلوب البشرية بالطفولة والشيخوخة ، والضعف والمرض؛ وبالأقرباء والأوداء والأصحاب؛ وبرحمة الطير والوحش بعضها على بعض - ومنها ما يدعو إلى الدهش والعجب - ثم يرى أن هذا كله من فيض رحمة واحدة من رحمات الله سبحانه . . فهذا مما يقرب إلى إدراكه تصور هذه الرحمة الكبرى شيئاً ما
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يني يعلم أصحابه ويذكرهم بهذه الرحمة الكبرى :
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : « قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبي . فإذا امرأة من السبي تسعى قد تحلب ثديها ، إذ وجدت صبياً في السبي ، فأخذته ، فألزقته ببطنها فأرضعته . فقال - صلى الله عليه وسلم - : » أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ « قلنا : لا والله وهي تقدر على ألا تطرحه . قال : فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها » . ( أخرجه الشيخان ) .
وكيف لا . وهذه المرأة إنما ترحم ولدها ، من فيض رحمة واحدة من رحمات الله الواسعة؟
ومن تعليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه هذه الحقيقة القرآنية ، بهذا الأسلوب الموحي ، كان ينتقل بهم خطوة أخرى؛ ليتخلقوا بخلق الله هذا في رحمته ، ليتراحموا فيما بينهم وليرحموا الأحياء جميعاً؛ ولتتذوق قلوبهم مذاق الرحمة وهم يتعاملون بها ، كما تذوقتها في معاملة الله لهم بها من قبل .
عن ابن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « الراحمون يرحمهم الله تعالى . ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء »

. ( أخرجه أبو داود والترمذي ) .
وعن جرير - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا يرحم الله من لا يرحم الناس » . . ( أخرجه الشيخان والترمذي ) .
وفي رواية لأبي داود والترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : قال - صلى الله عليه وسلم - : « لا تنزع الرحمة إلا من شقي » .
وعن أبي هريرة كذلك . قال : « قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي - رضي الله عنهما - وعنده الأقرع بن حابس . فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : من لا يرحم لا يُرحم » . ( أخرجه الشيخان ) .
ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يقف في تعليمه لأصحابه - رضوان الله عليهم - عند حد الرحمة بالناس . وقد علم أن رحمة ربه وسعت كل شيء . وأن المؤمنين مأمورن أن يتخلقوا بأخلاق الله؛ وأن الإنسان لا يبلغ تمام إنسانيته إلا حين يرحم كل حي تخلقاً بخلق الله سبحانه ، وكان تعليمه لهم بالطريقة الموحية التي عهدناها :
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش ، فوجد بئراً ، فنزل فيها فشرب ، ثم خرج ، وإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش . فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني ، فنزل البئر ، فملأ خفه ماء ، ثم أمسكه بفيه حتى رقي ، فسقى الكلب . فشكر الله تعالى له فغفر له . قالوا : يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجراً؟ قال : في كل كبد رطبة أجر » . ( أخرجه مالك والشيخان )
« وفي أخرى : إن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر ، قد أدلع ( أي أخرج ) لسانه من العطش فنزعت له موقها ( أي خفها ) فغفر لها به » .
« وعن عبد الرحمن بن عبدالله عن أبيه - رضي الله عنه - قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر . فرأينا حمرة ( طائر ) معها فرخان لها فأخذناهما . فجاءت الحمرة تعرّش ( أو تفرش ) - ( أي ترخي جناحيها وتدنو من الأرض ) فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : » من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها « . ورأى قرية نمل قد أحرقناها فقال : » من أحرق هذه؟ « قلنا : نحن . قال : إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار » . . ( أخرجه أبو داود ) . .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

« قرصت نملة نبياً من الأنبياء . فأمر بقرية النمل فحرقت . فأوحى الله تعالى إليه : أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح؟ » . . ( أخرجه الشيخان ) .
وهكذا علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه هدى القرآن . ليتذوقوا رحمة الله من خلال مزاولتهم للرحمة . . أليس أنهم إنما يتراحمون برحمة واحدة من رحمات الله الكثيرة؟
وبعد فإن استقرار هذه الحقيقة في تصور المسلم لينشىء في حسه وفي حياته وفي خلقه آثاراً عميقة؛ يصعب كذلك تقصيها؛ ولا بد من الاكتفاء بالإشارة السريعة إليها ، كي لا نخرج من نطاق الظلال القرآنية ، إلى قضية مستقلة
إن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو ليسكب في قلب المؤمن الطمأنينة إلى ربه - حتى وهو يمر بفترات الابتلاء بالضراء ، التي تزيغ فيها القلوب والأبصار - فهو يستيقن أن الرحمة وراء كل لمحة ، وكل حالة ، وكل وضع؛ وأن ربه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه ، أو طرده من رحمته . فإن الله لا يطرد من رحمته أحداً يرجوها . إنما يطرد الناس أنفسهم من هذه الرحمة حين يكفرون بالله ويرفضون رحمته ويبعدون عنها
وهذه الطمأنينة إلى رحمة الله تملأ القلب بالثبات والصبر ، وبالرجاء والأمل ، وبالهدوء والراحة . . فهو في كنف ودود ، يستروح ظلاله ، ما دام لا يُبعد عنه في الشرود
والشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يستجيش في حس المؤمن الحياء من الله . فإن الطمع في المغفرة والرحمة لا يجرّىء على المعصية - كما يتوهم البعض - إنما يستجيش الحياء من الله الغفور الرحيم . والقلب الذي تجرئه الرحمة على المعصية هو قلب لم يتذوق حلاوة الإيمان الحقيقية لذلك لا أستطيع أن أفهم أو أسلم ما يجري على ألسنة بعض المتصوفة من أنهم يلجون في الذنب ليتذوقوا حلاوة الحلم ، أو المغفرة ، أو الرحمة . . إن هذا ليس منطق الفطرة السوية في مقابلة الرحمة الإلهية
كذلك فإن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يؤثر تأثيراً قوياً في خلق المؤمن ، وهو يعلم أنه مأمور أن يتخلق بأخلاق الله - سبحانه - وهو يرى نفسه مغموراً برحمة الله مع تقصيره وذنبه وخطئه - فيعلمه ذلك كله كيف يرحم ، وكيف يعفو ، وكيف يغفر . . كما رأينا في تعليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه؛ مستمداً تعليمه لهم من هذه الحقيقة الكبيرة . .
ومن مواضع رحمة الله التي تقررها الآية الكريمة : أن الله كتب ليجمعنهم إلى يوم القيامة :
{ قل لمن ما في السماوات والأرض؟ قل : لله . كتب على نفسه الرحمة . ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه . . } . .
فمن هذه الرحمة المكتوبة ، ذلك الجمع الذي لا ريب فيه . . ذلك الجمع الذي يشي بما وراءه من عناية الله - سبحانه - بعباده من الناس؛ فقد خلقهم لأمر؛ واستخلفهم في هذه الأرض لغاية ، ولم يخلقهم عبثاً ، ولم يتركهم سدى .

ولكن يجمعهم إلى يوم القيامة - فهذا اليوم هو نهاية المطاف الذي يفيئون إليه كما يفيء الراحل إلى وجهته - فيعطيهم جزاء كدحهم إليه ، وينقدهم أجر عملهم في دار الدنيا . فلا يضيع عليهم كدح ولا أجر؛ إنما يوفون أجورهم يوم القيامة . . وفي هذه العناية تتجلى الرحمة في مظهر من مظاهرها . . كما أن ما يتجلى من فضل الله في جزاء السيئة بمثلها ، والحسنة بعشرة أمثالها ، والإضعاف لمن يشاء ، والتجاوز عما يشاء لمن يشاء . . كل أولئك من مظاهر الرحمة التي تتجلى في هذا الجمع أيضاً .
ولقد كان العرب في جاهليتهم - قبل أن يمن الله عليهم بهذا الدين ويرفعهم إلى مستواه الكريم - يكذبون بيوم القيامة - شأنهم في هذا شأن أهل الجاهلية « العلمية » الحديثة لذلك جاء التعبير في هذه الصيغة المؤكدة بشتى التوكيدات ، لمواجهة ذلك التكذيب :
{ ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } . .
ولن يخسر في هذا اليوم إلا الذين لم يؤمنوا في الدنيا . . وهؤلاء لن يخسروا شيئاً ويكسبوا شيئاً . . هؤلاء خسروا كل شيء . . فقد خسروا أنفسهم كلها ، فلم يعودوا يملكون أن يكسبوا شيئاً . أليس أن الإنسان إنما يكسب لنفسه؟ فإذا خسر نفسه ذاتها فماذا يكسب؟ ولمن يكسب؟
{ الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } . .
لقد خسروا أنفسهم وفقدوها؛ فلم تعد لهم نفس تؤمن . . هو تعبير دقيق عن حالة واقعة . . إن الذين لا يؤمنون بهذا الدين - مع عمق ندائه وإيحائه للفطرة بموحيات الإيمان ودلائله - هؤلاء لا بد أن يكونوا قد فقدوا قبل ذلك فطرتهم لا بد أن تكون أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية في كيانهم معطلة مخربة؛ أو محجوبة مغلفة . فهم في هذه الحالة قد خسروا أنفسهم ذاتها ، بفقدانهم أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية الحية في كيانها ، ومن ثم فهم لا يؤمنون . . إذ أنهم لم يعودوا يملكون أنفسهم التي بها يؤمنون . . وهذا هو التفسير العميق لعدم إيمانهم مع توافر دلائل الإيمان وموحياته من حولهم . . وهذا هو الذي يحدد مصيرهم في ذلك اليوم . وهو الخسارة الكبرى المترتبة على خسارتهم من قبل لنفوسهم
بعد ذلك يمضي السياق يستقصي الخلائق في الزمان - كما استقصاها في الآية السابقة في المكان - ليقرر تفرد الله - سبحانه - بملكيتها؛ وعلمه - سبحانه - وسمعه المحيطين بها :
{ وله ما سكن في الليل والنهار ، وهو السميع العليم } . .
وأقرب تأويل لقوله : { ما سكن } أنه من السكنى - كما ذكر الزمخشري في الكشاف - وهو بهذا يعني كل ما اتخذ الليل والنهار سكناً؛ فهو يعني جميع الخلائق؛ ويقرر ملكيتها لله وحده . كما قرر من قبل ملكية الخلائق كلها له سبحانه .

غير أنه في الآية الأولى : { قل : لمن ما في السماوات والأرض؟ قل : لله } قد استقصى الخلائق من ناحية المكان . وفي هذه الآية الثانية : { وله ما سكن في الليل والنهار } . . قد استقصى الخلائق من ناحية الزمان . . ومثله معروف في التعبير القرآني حين يتجه إلى الاستقصاء . . وهذا هو التأويل الذي نطمئن إليه في الآيتين من بين شتى التأويلات .
والتعقيب بصفتي السمع والعلم يفيد الإحاطة بهذه الخلائق ، وبكل ما يقال عنها كذلك من مقولات المشركين الذي يواجههم هذا النص . . ولقد كانوا مع إقرارهم بوحدانية الخالق المالك ، يجعلون لأربابهم المزعومة جزءاً من الثمار ومن الأنعام ومن الأولاد - كما سيجيء في نهاية السورة - فهو يأخذ عليهم الإقرار هنا بملكية كل شيء؛ ليواجههم بها فيما يجعلونه للشركاء بغير إذن من الله . كما أنه يمهد بتقرير هذه الملكية الخالصة لما سيلي في هذه الفقرة من ولاية لله وحده ، بما أنه هو المالك المتفرد بملكية كل شيء . في كل مكان وفي كل زمان ، الذي يحيط سمعه وعلمه بكل شيء ، وبكل ما يقال عن كل شيء كذلك
والآن ، وقد تقرر أن الله وحده هو الخالق ، وأن الله وحده هو المالك . . يجيء الاستنكار العنيف للاستنصار بغير الله ، والعبودية لغير الله ، والولاء لغير الله . ويتقرر أن هذا مناقض لحقيقة الإسلام لله ، وأنه هو الشرك الذي لا يجتمع مع الإسلام . وتذكر من صفات الله سبحانه : أنه فاطر السماوات والأرض ، وأنه الرازق المطعم ، وأنه الضار النافع ، وأنه القادر القاهر . كما يذكر العذاب المخوف المرهوب . . فتجلل الموقف كله ظلال الجلال والرهبة ، في إيقاع مدوٍّ عميق :
{ قل : أغير الله أتخذ ولياً ، فاطر السماوات والأرض ، وهو يطعم ولا يطعم؟ قل : إني أمرت أن أكون أول من أسلم ، ولا تكونن من المشركين . قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه ، وذلك الفوز المبين . وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير } . .
إن هذه القضية . . قضية اتخاذ الله وحده ولياً . بكل معاني كلمة ( الولي ) . أي اتخاذه وحده رباً ومولى معبوداً يدين له العبد بالعبودية ممثلة في الخضوع لحاكميته وحده؛ ويدين له بالعبادة فيقدم له شعائرها وحده . واتخاذه وحده ناصراً يستنصر به ويعتمد عليه ، ويتوجه إليه في الملمات . . إن هذه القضية هي قضية العقيدة في صميمها . فإما إخلاص الولاء لله - بهذه المعاني كلها - فهو الإسلام . وإما إشراك غيره معه في أي منها ، فهو الشرك الذي لا يجتمع في قلب واحد هو والإسلام
وفي هذه الآيات تقرر هذه الحقيقة بأقوى عبارة وأعمق إيقاع :
{ قل : أغير الله أتخذ ولياً ، فاطر السماوات والأرض ، وهو يطعم ولا يطعم؟ قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ، ولا تكونن من المشركين } .

.
إنه منطق الفطرة القوي العميق . . لمن يكون الولاء ولمن يتمحض؟ لمن إن لم يكن لفاطر السماوات والأرض الذي خلقهما وأنشأهما؟ لمن إن لم يكن لرازق من في السماوات والأرض الذي يطعم ولا يطلب طعاماً؟
{ قل : أغير الله أتخذ ولياً } . . وهذه صفاته سبحانه . . أي منطق يسمح بأن يتخذ غير الله ولياً؟ إن كان يتولاه لينصره ويعينه ، فالله هو فاطر السماوات والأرض ، فله السلطان في السماوات والأرض . وإن كان يتولاه ليرزقه ويطعمه ، فالله هو الرازق المطعم لمن في السماوات ومن في الأرض . ففيم الولاء لغير صاحب السلطان الرزاق؟
ثم . . { قل : إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين } . . والإسلام وعدم الشرك معناهما المتعين ألا أتخذ غير الله ولياً . فاتخاذ غير الله ولياً - بأي معنى - هو الشرك . ولن يكون الشرك إسلاماً . .
قضية واحدة محددة ، لا تقبل ليناً ولا تميعاً . . إما إفراد الله سبحانه بالتوجه والتلقي والطاعة والخضوع والعبادة والاستعانة؛ والإقرار له وحده بالحاكمية في كل أمر من هذه الأمور ورفض إشراك غيره معه فيها؛ وولاء القلب والعمل ، في الشعيرة والشريعة له وحده بلا شريك . . إما هذا كله فهو الإسلام . . وإما إشراك أحد من عباده معه في شيء من هذا كله فهو الشرك . الذي لا يجتمع في قلب واحد مع الإسلام .
لقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن هذا الاستنكار في وجه المشركين الذين كانوا يدعونه إلى الملاينة والمداهنة؛ ليجعل لآلهتهم مكاناً في دينه ، مقابل أن يدخلوا معه في هذا الدين . وليترك لهم بعض خصائص الألوهية يزاولونها إبقاء على مكانتهم وكبريائهم ومصالحهم ، . . وأولها تقاليد التحريم والتحليل . . في مقابل أن يكفوا عن معارضته ، وأن يجعلوه رئيساً فيهم؛ ويجمعوا له من مالهم ، ويزوجوه أجمل بناتهم
لقد كانوا يرفعون يداً للإيذاء والحرب والتنكيل ، ويمدون يداً بالإغراء والمصالحة واللين . .
وفي وجه هذه المحاولة المزدوجة أُمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقذف بهذا الاستنكار العنيف ، وبهذا الحسم الصريح ، وبهذا التقرير الذي لا يدع مجالاً للتمييع .
وأمر كذلك أن يقذف في قلوبهم بالرعب والترويع؛ في الوقت الذي يعلن فيه تصوره لجدية الأمر والتكليف ولخوفه هو من عذاب ربه ، إن عصاه فيما أمر به من الإسلام والتوحيد :
{ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه ، وذلك الفوز المبين } . .
إنه تصوير لحقيقة مشاعر الرسول - صلى الله عليه وسلم - تجاه أمر ربه له؛ وتجسيم لخوفه من عذابه . العذاب الذي يعتبر مجرد صرفه عن العبد رحمة من الله وفوزاً مبيناً . ولكنه في الوقت ذاته حملة مزلزلة على قلوب المشركين في ذلك الزمان ، وقلوب المشركين بالله في كل زمان .

حملة مزلزلة تصور العذاب في ذلك اليوم العظيم؛ يطلب الفريسة ، ويحلق عليها ، ويهجم ليأخذها . فلا تصرفه عنها إلا القدرة القادرة التي تأخذ بخطامه فتلويه عنها وإن أنفاس القاريء لهذا التصوير لتحتبس - وهو يتمثل المشهد - في انتظار هذه اللقطة الأخيرة
ثم إنه لماذا يتخذ غير الله ولياً ويعرض نفسه للشرك الذي نهى عنه وللمخالفة عن الإسلام الذي أمر به ، ولما يعقب المعصية من هذا العذاب الهائل الرعيب؟ . . ألعل ذلك رجاء جلب نفع أو دفع ضر في هذه الحياة الدنيا؟ رجاء نصرة الناس له في الضراء؛ ورجاء نفع الناس له بالسراء؟ . . إن هذا كله بيد الله؛ وله القدرة المطلقة في عالم الأسباب؛ وله القهر كذلك على العباد؛ وعنده الحكمة والخبرة في المنع والعطاء :
{ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير } . .
إنه تتبع هواجس النفس ووساوس الصدر؛ وتتبع مكامن الرغائب والمخافات ، ومطارح الظنون والشبهات وتجلية هذا كله بنور العقيدة ، وفرقان الإيمان ، ووضوح التصور ، وصدق المعرفة بحقيقة الألوهية . ذلك لخطورة القضية التي يعالجها السياق القرآني في هذا الموضع ، وفي جملة هذا القرآن :
وأخيراً تجيء قمة المد في هذه الموجة؛ ويجيء الإيقاع المدوي العميق؛ في موقف الإشهاد والإنذار والمفاصلة والتبرؤ من المشاركة في الشرك . . كل ذلك في رنة عالية ، وفي حسم رهيب :
{ قل : أي شيء أكبر شهادة؟ قل الله . شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ، أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل : لا أشهد ، قل : إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون } . .
إن تتابع المقاطع والإيقاعات في الآية الواحدة عجيب؛ وإن هذا التتابع ليرسم الموقف لحظة لحظة ، ومشهداً مشهداً ، ويكاد ينطق بملامح الوجوه فيه وخلجات الصدور . .
فها هو ذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤمر من ربه هذا الأمر . . ثم ها هو ذا يواجه المشركين الذين يتخذون من دون الله أولياء؛ يجعلون لهم بعض خصائص الألوهية مع الله؛ ويدعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرهم على هذا الذي هم فيه ليدخلوا هم فيما جاءهم به كأن ذلك يمكن أن يكون وكأنه يمكن أن يجتمع الإسلام والشرك في قلب واحد على هذا النحو الذي كانوا يتصورونه؛ والذي لا يزال يتصوره ناس في هذا الزمان ، من أنه يمكن أن يكون الإنسان مسلماً لله؛ بينما هو يتلقى من غير الله في شؤون الحياة؛ وبينما هو يخضع لغير الله ويستنصر بغير الله ، ويتولى غير الله
ها هو ذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواجه هؤلاء المشركين ، ليبين لهم مفرق الطريق بين دينه ودينهم ، وبين توحيده وشركهم ، وبين إسلامه وجاهليتهم .

وليقرر لهم : أنه لا موضع للقاء بينه وبينهم ، إلا أن يتخلصوا هم من دينهم ويدخلوا في دينه . وأنه لا وجه للمصالحة في هذا الأمر؛ لأنه يفترق معهم في أول الطريق
وها هو ذا يبدأ معهم مشهد الإشهاد العلني المفتوح المكشوف :
{ قل : أي شيء أكبر شهادة؟ } . .
أيّ شاهد في هذا الوجود كله هو أكبر شهادة؟ أي شاهد تعلو شهادته كل شهادة؟ أي شاهد تحسم شهادته في القضية فلا يبقى بعد شهادته شهادة؟
وللتعميم المطلق ، حتى لا يبقى في الوجود كله « شيء » لا يستقصى وزنه في مقام الشهادة : يكون السؤال : { أي شيء أكبر شهادة؟ } .
وكما يؤمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسؤال ، فهو يؤمر كذلك بالجواب . ذلك أنه لا جواب غيره باعتراف المخاطبين أنفسهم . ولا جواب غيره في حقيقة الأمر والواقع :
{ قل : الله } . .
نعم فالله - سبحانه وتعالى - هو أكبر شهادة . . هو الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين . . هو الذي لا شهادة بعد شهادته ، ولا قول بعد قوله . فإذا قال فقد انتهى القول ، وقد قضي الأمر .
فإذا أعلن هذه الحقيقة : حقيقة أن الله سبحانه هو أكبر شهادة ، أعلن لهم أنه - سبحانه - هو الشهيد بينه وبينهم في القضية :
{ شهيد بيني وبينكم } . .
على تقدير : هو شهيد بيني وبينكم ، فهذا التقطيع في العبارة هو الأنسب في جو المشهد : وهو أولى من الوصل على تقدير : { قل الله شهيد بيني وبينكم } .
فإذا تقرر المبدأ : مبدأ تحكيم الله سبحانه في القضية ، أعلن إليهم أن شهادة الله سبحانه ، تضمنها هذا القرآن ، الذي أوحاه إليه لينذرهم به؛ وينذر به كل من يبلغه في حياته صلى الله عليه وسلم - أو من بعد . فهو حجة عليهم وعلى من يبلغه غيرهم؛ لأنه يتضمن شهادة الله في هذه القضية الأساسية؛ التي تقوم عليها الدنيا والآخرة ، ويقوم عليها الوجود كله والوجود الإنساني ضمناً :
{ وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } . .
فكل من بلغه هذا القرآن من الناس ، بلغة يفهمها ، ويحصل منها محتواه ، فقد قامت عليه الحجة به ، وبلغه الإنذار ، وحق عليه العذاب ، إن كذب بعد البلاغ . . ( فأما من يحول عدم فهمه للغة القرآن دون فهمه لفحواه ، فلا تقوم عليه الحجة به؛ ويبقى إثمه على أهل هذا الدين الذين لم يبلغوه بلغته التي يفهم بها مضمون هذا الشهادة . . هذا إذا كان مضمون القرآن لم يترجم إلى لغته ) . .
فإذا أعلن إليهم أن شهادة الله - سبحانه - متضمنة في هذا القرآن ، أعلن إليهم مضمون هذه الشهادة في صورة التحدي والاستنكار لشهادتهم هم ، المختلفة في أساسها عن شهادة الله سبحانه .

وعالنهم بأنه ينكر شهادتهم هذه ويرفضها؛ وأنه يعلن غيرها ويقرر عكسها ويشهد لربه بالوحدانية المطلقة والألوهية المتفردة؛ وأنه يفاصلهم على هذا عند مفرق الطريق؛ وأنه يتبرأ من شركهم في صيغة التشديد والتوكيد :
{ أئنكم لتشهدون أن مع الله ألهة أخرى؟ قل : لا أشهد قل إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون } . .
والنصوص القرآنية بمقاطعها هذه ، وبإيقاعاتها هذه ، تهز القلوب بما لا يملك البيان البشري أن يفعل . فلا أريد أن أوقف تدفقها وانسكابها في القلب بأي تعليق .
ولكني أريد أن أتحدث عن القضية التي تضمنها هذا المقطع ، وجرت بها هذه الموجة . . إن هذه القضية التي عرضها السياق القرآني في هذه الآيات . . قضية الولاء والتوحيد والمفاصلة . . هي قضية هذه العقيدة؛ وهي الحقيقية الكبرى فيها . وإن العصبة المؤمنة اليوم لخليقة بأن تقف أمام هذا الدرس الرباني فيها وقفة طويلة . .
إن هذه العصبة تواجه اليوم من الجاهلية الشاملة في الأرض ، نفس ما كانت تواجهه العصبة التي تنزلت عليها هذه الآيات ، لتحدد على ضوئها موقفها ، ولتسير على هذا الضوء في طريقها؛ وتحتاج - من ثم - أن تقف وقفة طويلة أمام هذه الآيات ، لترسم طريقها على هداها .
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية؛ وعادت البشرية إلى مثل الموقف الذي كانت فيه يوم تنزل هذا القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويوم جاءها الإسلام مبنياً على قاعدته الكبرى : « شهادة أن لا إله إلا الله » . . شهادة أن لا إله إلا الله بمعناها الذي عبر عنه ربعي بن عامر رسول قائد المسلمين إلى رستم قائد الفرس ، وهو يسأله : « ما الذي جاء بكم؟ » فيقول : « الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام » . . وهو يعلم أن رستم وقومه لا يعبدون كسرى بوصفه إلهاً خالقاً للكون؛ ولا يقدمون له شعائر العبادة المعروفة؛ ولكنهم إنما يتلقون منه الشرائع ، فيعبدونه بهذا المعنى الذي يناقض الإسلام وينفيه؛ فأخبره أن الله ابتعثهم ليخرجوا الناس من الأنظمة والأوضاع التي يعبد العباد فيها العباد ، ويقرون لهم بخصائص الألوهية - وهي الحاكمية والتشريع والخضوع لهذه الحاكمية والطاعة لهذا التشريع - ( وهي الأديان ) . . إلى عبادة الله وحده وإلى عدل الإسلام .
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله . فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد ، وإلى جور الأديان؛ ونكصت عن لا إله إلا الله ، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن : « لا إله إلا الله »؛ دون أن يدرك مدلولها ، ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها ، ودون أن يرفض شرعية « الحاكمية » التي يدعيها العباد لأنفسهم - وهي مرادف الألوهية - سواء ادعوها كأفراد ، أو كتشكيلات تشريعية ، أو كشعوب .

فالأفراد ، كالتشكيلات ، كالشعوب ، ليست آلهة ، فليس لها إذن حق الحاكمية . . إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية ، وارتدت عن لا إله إلا الله . فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية . ولم تعد توحد الله ، وتخلص له الولاء . .
البشرية بجملتها ، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات : « لا إله إلا الله » بلا مدلول ولا واقع . . وهؤلاء أثقل إثماً وأشد عذاباً يوم القيامة ، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد - من بعدما تبين لهم الهدى - ومن بعد أن كانوا في دين الله
فما أحوج العصبة المسلمة اليوم أن تقف طويلاً أمام هذه الآيات البينات
ما أحوجها أن تقف أمام آية الولاء :
{ قل : أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض ، وهو يطعم ولا يطعم؟ قل : إني أمرت أن أكون أول من أسلم ، ولا تكونن من المشركين } . .
ذلك لتعلم أن اتخاذ غير الله ولياً - بكل معاني « الولي » . . وهي الخضوع والطاعة ، والاستنصار والاستعانة . . يتعارض مع الإسلام ، لأنه هو الشرك الذي جاء الإسلام ليخرج منه الناس . . ولتعلم أن أول ما يتمثل فيه الولاء لغير الله هو تقبل حاكمية غير الله في الضمير أو في الحياة . . الأمر الذي تزاوله البشرية كلها بدون استثناء . ولتعمل أنها تستهدف اليوم إخراج الناس جميعاً من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؛ وأنها تواجه جاهلية كالتي واجهها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والجماعة المسلمة حين تلقي هذه الآيات . .
وما أحوجها أن تستصحب في مواجهتها للجاهلية تلك الحقائق والمشاعر التي تسكبها في القلب المؤمن الآيات التالية :
{ قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه ، وذلك الفوز المبين . وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير } . .
فما أحوج من يواجه الجاهلية بطاغوتها وجبروتها ، وبإعراضها وعنادها ، وبالتوائها وكيدها ، وبفسادها وانحلالها . . ما أحوج من يواجه هذا الشر كله ، أن يستصحب في قلبه هذه الحقائق وهذا المشاعر . . مخافة المعصية والولاء لغير الله . ومخافة العذاب الرعيب الذي يترقب العصاة . . واليقين بأن الضار والنافع هو الله . وأن الله هو القاهر فوق عباده فلا معقب على حكمه ولا راد لما قضاه . إن قلباً لا يستصحب هذه الحقائق وهذه المشاعر لن يقوى على تكاليف « إنشاء » الإسلام من جديد في وجه الجاهلية الطاغية . . وهي تكاليف هائلة تنوء بها الجبال
ثم ما أحوج العصبة المؤمنة - بعد أن تستيقن حقيقة مهمتها في الأرض اليوم؛ وبعد أن تستوضح حقيقة العقيدة التي تدعو إليها ومقتضياتها من إفراد الله سبحانه بالولاء بكل مدلولاته؛ وبعد أن تستصحب معها في مهمتها الشاقة تلك الحقائق والمشاعر .

. ما أحوجها بعد ذلك كله إلى موقف الإشهاد والقطع والمفاصلة والتبرؤ من الشرك الذي تزاوله الجاهلية البشرية اليوم كما كانت تزاوله جاهلية البشرية الأولى . وأن تقول ما أُمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله؛ وأن تقذف في وجه الجاهلية ، بما قذف به في وجهها الرسول الكريم ، تنفيذاً لأمر ربه العظيم :
{ قل : أي شيء أكبر شهادة؟ قل : الله ، شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ . أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل : لا أشهد . قل : إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون } . .
إنه لا بد أن تقف العصبة المسلمة في الأرض ، من الجاهلية التي تغمر الأرض ، هذا الموقف . لا بد أن تقذف في وجهها بكلمة الحق هذه عالية مدوية ، قاطعة فاصلة ، مزلزلة رهيبة . . ثم تتجه إلى الله تعلم أنه على كل شيء قدير ، وأنه هو القاهر فوق عباده . وأن هؤلاء العباد - بما فيهم الطواغيت المتجبرون - أضعف من الذباب ، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه وأنهم ليسوا بضارين من أحد إلا بإذن الله؛ وليسوا بنافعين أحداً إلا بإذن الله ، وأن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
ولا بد أن تستيقن العصبة المسلمة كذلك أنها لن تنصر ولن يتحقق لها وعد الله بالتمكين في الأرض ، قبل أن تفاصل الجاهلية على الحق عند مفترق الطريق . وقبل أن تعلن كلمة الحق في وجه الطاغوت ، وقبل أن تشهد على الجاهلية هذا الإشهاد ، وتنذرها هذه النذارة ، وتعلنها هذا الإعلان ، وتفاصلها هذه المفاصلة ، وتتبرأ منها هذه البراءة . .
إن هذا القرآن لم يأت لمواجهة موقف تاريخي؛ إنما جاء منهجاً مطلقاً خارجاً عن قيود الزمان والمكان . منهجاً تتخذه الجماعة المسلمة حيثما كانت في مثل الموقف الذي تنزل فيه هذا القرآن . وهي اليوم في مثل هذا الموقف تماماً؛ وقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا القرآن لينشىء الإسلام في الأرض إنشاء . . فليكن اليقين الجازم بحقيقة هذا الدين . والشعور الواضح بحقيقة قدرة الله وقهره . والمفاصلة الحاسمة مع الباطل وأهله . . لتكن هذه عدة الجماعة المسلمة . . والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين . .

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)

هذه الجولة - أو هذه الموجة - عودة إلى مواجهة المشركين المكذبين بالقرآن الكريم ، المكذبين بالبعث والآخرة . . ولكنها لا تواجههم بتصوير تعنتهم وعنادهم؛ ولا تواجههم بمصارع الغابرين من المكذبين من أسلافهم - كما سبق في سياق السورة - إنما تواجههم بمصيرهم في يوم البعث الذي يكذبون به؛ وبجزائهم في الآخرة التي ينكرونها . . تواجههم بهذا الجزاء وبذلك المصير في مشاهد حية شاخصة . . تواجههم به وهم محشورون جميعاً ، مسؤولون سؤال التبكيت والتأنيب ، وسؤال التشهير والتعجيب : { أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ } وهم في رعب وفزع ، وفي تضعضع وذهول يقسمون بالله ويعترفون له وحده بالربوبية : { والله ربنا ما كنا مشركين } . . وتواجههم به وهم موقوفون على النار ، محبوسون عليها ، وهم في رعب وفزع ، وفي ندم وحسرة يقولون : { يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين } . . وتواجههم به وهم موقوفون على ربهم ، وهم يتذاوبون من الخجل والندم ، ومن الروع والهول؛ وهو - جل جلاله - يسألهم سبحانه : { أليس هذا بالحق؟ } فيجيبون في استخذاء وتذاوب : { بلى وربنا } . فلا يجديهم هذا الاعتراف شيئاً : { قال : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } . . ويواجهون به وهم قد خسروا أنفسهم وخسروا كل شيء إذن؛ وجاءوا يحملون أوزارهم على ظهورهم؛ وهم يجأرون بالحسرة على تفريطهم في الآخرة ، وأخذهم للصفقة الخاسرة
مشهد وراء مشهد ، وكل مشهد يزلزل القلوب ، ويخلخل المفاصل ، ويهز الكيان ، ويفتح العين والقلب - عند من يشاء الله أن يفتح عينه وقلبه - على الحق الذي يواجههم به رسول الله صلى الله عليه وسلم - والكتاب الذي يكذبون به؛ بينما الذين أوتوا الكتاب من قبلهم يعرفونه كما يعرفون أبنائهم
{ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } . .
لقد تكرر في القرآن الكريم ذكر معرفة أهل الكتاب - وهم اليهود والنصارى - لهذا القرآن؛ أو لصحة رساله محمد - صلى الله عليه وسلم - وتنزيل هذا القرآن عليه من عند الله . . تكرر ذكر هذه الحقيقة سواء في مواجهة أهل الكتاب أنفسهم ، عندما كانوا يقفون من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن هذا الدين وقفة المعارضة والإنكار والحرب والعداء ( وكان هذا غالباً في المدينة ) أو في مواجهة المشركين من العرب؛ لتعريفهم أن أهل الكتاب ، الذين يعرفون طبيعة الوحي والكتب السماوية ، يعرفون هذا القرآن ، ويعرفون صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أنه وحي أوحى به ربه إليه كما أوحى إلى الرسل من قبله .
وهذا الآية - كما رجحنا - مكية . وذكر أهل الكتاب فيها على هذا النحو - إذن - يفيد أنها كانت مواجهة للمشركين بأن هذا القرآن الذي ينكرونه ، يعرفه أهل الكتاب كما يعرفون أبناءهم؛ وإذا كانت كثرتهم لم تؤمن به فذلك لأنهم خسروا أنفسهم ، فهم لا يؤمنون .

شأنهم في هذا شأن المشركين ، الذين خسروا أنفسهم ، فلم يدخلوا في هذا الدين والسياق قبل هذه الآية وبعدها كله عن المشركين . مما يرجح مكيتها كما قلنا من قبل في التعريف بالسورة . .
وقد جرى المفسرون على تفسير مثل هذا التقرير : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } . .
على أنهم يعرفون أنه منزل من عند الله حقاً؛ أو على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رسول من عندالله حقاً ، يوحى إليه بهذا القرآن . .
وهذا جانب من مدلول النص فعلاً ، ولكنا نلمح - باستصحاب الواقع التاريخي وموقف أهل الكتاب من هذا الدين فيه - أن هناك جانباً آخر من مدلول النص؛ لعل الله - سبحانه - أراد أن يعلمه للجماعة المسلمة ، ليستقر في وعيها على مدار التاريخ ، وهي تواجه أهل الكتاب بهذا الدين . .
إن أهل الكتاب يعرفون أن هذا الكتاب حق من عند الله؛ ويعرفون - من ثم - ما فيه من سلطان وقوة؛ ومن خير وصلاح؛ ومن طاقة دافعة للأمة التي تدين بالعقيدة التي جاء بها؛ وبالأخلاق التي تنبثق منها؛ وبالنظام الذي يقوم عليها . ويحسبون كل حساب لهذا الكتاب وأهله؛ ويعلمون جيداً أن الأرض لا تسعهم وتسع أهل الدين . . إنهم يعرفون ما فيه من حق ، ويعرفون ما هم فيه من باطل . . ويعرفون أن الجاهلية التي صاروا إليها ، وصارت إليها أوضاع قومهم وأخلاقهم وأنظمتهم ، لا يمكن أن يهادنها هذا الدين ، أو يبقي عليها . . وأنها - من ثم - معركة لا تهدأ حتى تجلو الجاهلية عن هذه الأرض ، ويستعلي هذا الدين ، ويكون الدين كله لله . . أي أن يكون السلطان في الأرض كله لله؛ وأن يطارد المعتدون على سلطان الله في الأرض كلها . وبذلك وحده يكون الدين كله لله . .
إن أهل الكتاب يعلمون جيداً هذه الحقيقة في هذا الدين . . ويعرفونه بها كما يعرفون أبناءهم . . وهم جيلاً بعد جيل يدرسون هذا الدين دراسة دقيقة عميقة؛ وينقبون عن أسرار قوته؛ وعن مداخله إلى النفوس ومساربه فيها؛ ويبحثون بجد : كيف يستطيعون أن يفسدوا القوة الموجهة في هذا الدين؟ كيف يلقون بالريب والشكوك في قلوب أهله؟ كيف يحرفون الكلم فيه عن مواضعه؟ كيف يصدون أهله عن العلم الحقيقي به؟ كيف يحولونه من حركة دافعة تحطم الباطل والجاهلية وتسترد سلطان الله في الأرض وتطارد المعتدين على هذا السلطان ، وتجعل الدين كله لله . . إلى حركة ثقافية باردة ، وإلى بحوث نظرية ميتة ، وإلى جدل لاهوتي أو فقهي أو طائفي فارغ؟ كيف يفرغون مفهوماته في أوضاع وأنظمة وتصورات غريبة عنه مدمرة له ، مع إيهام أهله أن عقيدتهم محترمة مصونة؟ كيف في النهاية يملأون فراغ العقيدة بتصورات أخرى ومفهومات أخرى واهتمامات أخرى ، ليجهزوا على الجذور العاطفية الباقية من العقيدة الباهتة؟
إن أهل الكتاب يدرسون هذا الدين دراسة جادة عميقة فاحصة؛ لا لأنهم يبحثون عن الحقيقية - كما يتوهم السذج من أهل هذا الدين - ولا لينصفوا هذا الدين وأصله - كما يتصور بعض المخدوعين حينما يرون اعترافاً من باحث أو مستشرق بجانب طيب في هذا الدين - كلا إنما هم يقومون بهذه الدراسة الجادة العميقة الفاحصة ، لأنهم يبحثون عن مقتل لهذا الدين لأنهم يبحثون عن منافذه ومساربه إلى الفطرة ليسدوها أو يميعوها لأنهم يبحثون عن أسرار قوته ليقاوموه منها لأنهم يريدون أن يعرفوا كيف يبني نفسه في النفوس ليبنوا على غراره التصورات المضادة التي يريدون ملء فراغ الناس بها
وهم من أجل هذه الأهداف والملابسات كلها يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
ومن واجبنا نحن أن نعرف ذلك .

. وأن نعرف معه أننا نحن الأوْلى بأن نعرف ديننا كما نعرف أبناءنا
إن الواقع التاريخي من خلال أربعة عشر قرناً ينطق بحقيقة واحدة . . هي هذه الحقيقة التي يقررها القرآن الكريم في هذه الآية : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } . . ولكن هذه الحقيقة تتضح في هذه الفترة وتتجلى بصورة خاصة . . إن البحوث التي تكتب عن الإسلام في هذه الفترة تصدر بمعدل كتاب كل أسبوع؛ بلغة من اللغات الأجنبية . . وتنطق هذه البحوث بمدى معرفة أهل الكتاب بكل صغيرة وكبيرة عن طبيعة هذا الدين وتاريخه ، ومصادر قوته ، ووسائل مقاومته ، وطرق إفساد توجيهه ومعظمهم - بطبيعة الحال - لا يفصح عن نيته هذه؛ فهم يعلمون أن الهجوم الصريح على هذا الدين كان يثير حماسة الدفاع والمقاومة؛ وأن الحركات التي قامت لطرد الهجوم المسلح على هذا الدين - الممثل في الاستعمار - إنما كانت ترتكز على قاعدة من الوعي الديني أو على الأقل العاطفة الدينية؛ وأن استمرار الهجوم على الإسلام - ولو في الصورة الفكرية - سيظل يثير حماسة الدفاع والمقاومة لذلك يلجأ معظمهم إلى طريقة أخبث . . يلجأ إلى إزجاء الثناء لهذا الدين ، حتى ينوم المشاعر المتوفزة ، ويخدر الحماسة المتحفزة ، وينال ثقة القارىء واطمئنانه . . ثم يضع السم في الكأس ويقدمها مترعة . . هذا الدين نعم عظيم . . ولكنه ينبغي أن يتطور بمفهوماته ويتطور كذلك بتنظيماته ليجاري الحضارة « الإنسانية » الحديثة وينبغي ألا يقف موقف المعارضة للتطورات التي وقعت في أوضاع المجتمع ، وفي أشكال الحكم ، وفي قيم الأخلاق وينبغي - في النهاية - أن يتمثل في صورة عقيدة في القلوب ، ويدع الحياة الواقعية تنظمها نظريات وتجارب وأساليب الحضارة « الإنسانية » الحديثة ويقف فقط ليبارك ما تقرره الأرباب الأرضية من هذه التجارب والأساليب . . وبذلك يظل ديناً عظيماً . .
وفي أثناء عرض مواضع القوة والعمق في هذا الدين - وهي ظاهرياً تبدو في صورة الإنصاف الخادع والثناء المخدر - يقصد المؤلف قومه من أهل الكتاب؛ لينبههم إلى خطورة هذا الدين ، وإلى أسرار قوته؛ ويسير أمام الأجهزة المدمرة بهذا الضوء الكشاف ، ليسددوا ضرباتهم على الهدف .

وليعرفوا هذا الدين كما يعرفون أبناءهم
إن أسرار هذا القرآن ستظل تتكشف لأصحابه؛ جديدة دائماً؛ كلما عاشوا في ظلاله؛ وهم يخوضون معركة العقيدة؛ ويتدبرون بوعي أحداث التاريخ؛ ويطالعون بوعي أحداث الحاضر . ويرون بنور الله . الذي يكشف الحق ، وينير الطريق . .
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته؟ إنه لا يفلح الظالمون . ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين . انظر كيف كذبوا على أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون } . .
هذا استطراد في مواجهة المشركين بحقيقة ما يزاولونه ، ووصف موقفهم وعملهم في تقدير الله سبحانه . . مواجهة تبدأ باستفهام تقريري لظلمهم بافتراء الكذب على الله؛ وذلك فيما كانوا يدعونه من أنهم على دينه الذي جاء به إبراهيم عليه السلام؛ ومن زعمهم أن ما يحلونه وما يحرمونه من الأنعام والمطاعم والشعائر - كالذي سيجيء في آخر السورة مشفوعاً بقوله تعالى : { بزعمهم } - هو من أمر الله . . وليس من أمره . وذلك كالذي يزعمه بعض من يدعون اليوم أنهم على دين الله الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - ويقولون عن أنفسهم إنهم « مسلمون » وهو من الكذب المفترى على الله . ذلك أنهم يصدرون أحكاماً وينشئون أوضاعاً ، ويبتدعون قيماً من عند أنفسهم يغتصبون فيها سلطان الله ويدعونه لأنفسهم ، ويزعمون أنها هي دين الله؛ ويزعم لهم بعض من باعوا دينهم ليشتروا به مثوى في دركات الجحيم ، أنه هو دين الله . . وباستنكار تكذيبهم كذلك بآيات الله ، التي جاءهم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فردوها وعارضوها وجحدوها . وقالوا : إنها ليست من عند الله . بينما هم يزعمون أن ما يزاولونه في جاهليتهم هو الذي من عند الله وذلك كالذي يحدث من أهل الجاهلية اليوم . . حذوك النعل بالنعل . .
يواجههم باستنكار هذا كله؛ ووصفه بأنه أظلم الظلم :
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته } . .
والظلم هنا كناية عن الشرك . في صورة التفظيع له والتقبيح . وهو التعبير الغالب في السياق القرآني عن الشرك . وذلك حين يريد أن يبشع الشرك وينفر منه . ذلك أن الشرك ظلم للحق ، وظلم للنفس ، وظلم للناس . هو اعتداء على حق الله - سبحانه - في أن يوحد ويعبد بلا شريك . واعتداء على النفس بإيرادها موارد الخسارة والبوار . واعتداء على الناس بتعبيدهم لغير ربهم الحق ، وإفساد حياتهم بالأحكام والأوضاع التي تقوم على أساس هذا الاعتداء .

. ومن ثم فالشرك ظلم عظيم ، كما يقول عنه رب العالمين . ولن يفلح الشرك ولا المشركون :
{ إنه لا يفلح الظالمون } . .
والله - سبحانه - يقرر الحقيقة الكلية؛ ويصف الحصيلة النهائية للشرك والمشركين - أو للظلم والظالمين - فلا عبرة بما تراه العيون القصيرة النظر ، في الأمد القريب ، فلاحاً ونجاحاً . . فهذا هو الاستدراج المؤدي إلى الخسار والبوار . . ومن أصدق من الله حديثاً؟ . .
وهنا يصور من عدم فلاحهم موقفهم يوم الحشر والحساب ، في هذا المشهد الحي الشاخص الموحي :
{ ويوم نحشرهم جميعاً ، ثم نقول للذين أشركوا : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين . انظر كيف كذبوا على أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون } . .
إن الشرك ألوان ، والشركاء ألوان ، والمشركين ألوان . . وليست الصورة الساذجة التي تتراءى للناس اليوم حين يسمعون كلمة الشرك وكلمة الشركاء وكلمة المشركين : من أن هناك ناساً كانوا يعبدون أصناماً أو أحجاراً ، أو أشجاراً ، أو نجوماً ، أو ناراً . . الخ . . هي الصورة الوحيدة للشرك
إن الشرك في صميمه هو الاعتراف لغير الله - سبحانه - بإحدى خصائص الألوهية . . سواء كانت هي الاعتقاد بتسيير إرادته للأحداث ومقادير الكائنات . أو كانت هي التقدم لغير الله بالشعائر التعبدية والنذور وما إليها . أو كانت هي تلقي الشرائع من غير الله لتنظيم أوضاع الحياة . . كلها ألوان من الشرك ، يزاولها ألوان من المشركين ، يتخذون ألواناً من الشركاء
والقرآن الكريم يعبر عن هذا كله بالشرك؛ ويعرض مشاهد يوم القيامة تمثل هذه الألوان من الشرك والمشركين والشركاء؛ ولا يقتصر على لون منها ، ولا يقصر وصف الشرك على واحد منها؛ ولا يفرق في المصير والجزاء بين ألوان المشركين في الدنيا وفي الآخرة سواء . .
ولقد كان العرب يزاولون هذه الألوان من الشرك جميعاً :
كانوا يعتقدون أن هناك كائنات من خلق الله ، لها مشاركة - عن طريق الشفاعة الملزمة عندالله - في تسيير الأحداث والأقدار . كالملائكة . أو عن طريق قدرتها على الأذى - كالجن بذواتهم أو باستخدام الكهان والسحرة لهم - أو عن طريق هذه وتلك - كأرواح الآباء والأجداد - وكل أولئك كانوا يرمزون له بالأصنام التي تعمرها أرواح هذه الكائنات؛ ويستنطقها الكهان؛ فتحل لهم ما تحل ، وتحرم عليهم ما تحرم . . وإنما هم الكهان في الحقيقة . . هم الشركاء
وكانوا يزاولون الشرك في تقديم الشعائر لهذه الأصنام؛ وتقديم القربان لها والنذور - وفي الحقيقة للكهان - كما أن بعضهم - نقلاً عن الفرس - كانوا يعتقدون في الكواكب ومشاركتها في تسيير الأحداث - عن طريق المشاركة لله - ويتقدمون لها كذلك بالشعائر ( ومن هنا علاقة الحلقة المذكورة في هذه السورة من قصة إبراهيم عليه السلام بموضوع السورة كما سيأتي ) .

.
وكذلك كانوا يزاولون اللون الثالث من الشرك بإقامتهم لأنفسهم - عن طريق الكهان والشيوخ - شرائع وقيماً وتقاليد ، لم يأذن بها الله . . وكانوا يدعون ما يدعيه بعض الناس اليوم من أن هذا هو شريعة الله
وفي هذا المشهد - مشهد الحشر والمواجهة - يواجه المشركين - كل أنواع المشركين بكل ألوان الشرك - بسؤالهم عن الشركاء - كل أصناف الشركاء - أين هم؟ فإنه لا يبدو لهم أثر؛ ولا يكفون عن أتباعهم الهول والعذاب :
{ ويوم نحشرهم جميعاً ، ثم نقول للذين أشركوا : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ } . .
والمشهد شاخص ، والحشر واقع ، والمشركون مسؤولون ذلك السؤال العظيم . . الأليم : { أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ } . .
وهنا يفعل الهول فعله . . هنا تتعرى الفطرة من الركام الذي ران عليها في الدنيا . . هنا ينعدم من الفطرة ومن الذاكرة - كما هو منعدم في الواقع والحقيقة - وجود الشركاء؛ فيشعرون أنه لم يكن شرك ، ولم يكن شركاء . . لم يكن لهذا كله من وجود لا في حقيقة ولا واقع . . هنا « يفتنون » فيذهب الخبث ، ويسقط الركام - من فتنة الذهب بالنار ليخلص من الخبث والزبد - :
{ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين } . .
إن الحقيقة التي تجلت عنها الفتنة ، أو التي تبلورت فيها الفتنة ، هي تخليهم عن ماضيهم كله وإقرارهم بربوبية الله وحده؛ وتعريهم من الشرك الذي زاولوه في حياتهم الدنيا . . ولكن حيث لا ينفع الإقرار بالحق والتعري من الباطل . . فهو إذن بلاء هذا الذي تمثله قولتهم وليس بالنجاة . . لقد فات الأوان . . فاليوم للجزاء لا للعمل . . واليوم لتقرير ما كان لا لاسترجاع ما كان . .
لذلك يقرر الله سبحانه ، معجباً رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أمر القوم ، أنهم كذبوا على أنفسهم يوم اتخذوا هؤلاء الشركاء شركاء ، حيث لا وجود لشركتهم مع الله في الحقيقة . وأنهم اليوم غاب عنهم ما كانوا يفترونه ، فاعترفوا بالحق بعد ما غاب عنهم الافتراء :
{ انظر كيف كذبوا على أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون } . .
فالكذب منهم كان على أنفسهم؛ فهم كذبوها وخدعوها يوم اتخذوا مع الله شريكاً ، وافتروا على الله هذا الافتراء . وقد ضل عنهم ما كانوا يفترون وغاب ، في يوم الحشر والحساب
هذا هو التأويل الذي أستريح إليه في حلفهم بالله يوم القيامة وهم في حضرته : أنهم ما كانوا مشركين . وفي تأويل كذبهم على أنفسهم كذلك . فهم لا يجرؤون يوم القيامة أن يكذبوا على الله ، وأن يحلفوا أنهم ما كانوا مشركين عامدين بالكذب على الله - كما تقول بعض التفاسير - فهم يوم القيامة لا يكتمون الله حديثاً . . إنما هو تعري الفطرة عن الشرك أمام الهول الرعيب؛ وأنمحاء هذا الباطل الكاذب حتى لا أثر له في حسهم يومذاك .

ثم تعجيب الله - سبحانه - من كذبهم الذي كذبوه على أنفسهم في الدنيا؛ والذي لا ظل له في حسهم ولا في الواقع يوم القيامة
. . والله أعلم بمراده على كل حال . . إنما هو احتمال . .
ويمضي السياق يصور حال فريق من المشركين؛ ويقرر مصيرهم في مشهد من مشاهد القيامة . . يصور حالهم وهم يستمعون القرآن معطلي الإدراك ، مطموسي الفطرة ، معاندين مكابرين ، يجادلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم على هذا النحو من الاستغلاق والعناد ، ويدعون على هذا القرآن الكريم أنه أساطير الأولين؛ وينأون عن سماعه وينهون غيرهم عنه أيضاً . . يصور حالهم هكذا في الدنيا في صفحة ، وفي الصفحة الأخرى يرسم لهم مشهداً كئيباً مكروباً؛ وهم موقوفون على النار محبوسون عليها ، وهي تواجههم بهول المصير الرعيب؛ وهم يتهافتون متخاذلين؛ ويتهاوون متحسرين؛ يتمنون لو يردون إلى الدنيا فيكون لهم موقف غير ذلك الموقف ، الذي انتهى بهم إلى هذا المصير . فيردون عن هذا التمني بالتصغير والتحقير :
{ ومنهم من يستمع إليك ، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، حتى إذا جاءوك يجادلونك ، يقول الذين كفروا : إن هذا إلا أساطير الأولين . وهم ينهون عنه وينأون عنه ، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون . ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا : يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، وإنهم لكاذبون } . .
إنهما صفحتان متقابلتان : صفحة في الدنيا يرتسم فيها العناد والإعراض؛ وصفحة في الآخرة يرتسم فيها الندم والحسرة . . يرسمها السياق القرآني ، ويعرضهما هذا العرض المؤثر الموحي؛ ويخاطب بهما الفطر الجاسية؛ ويهز بها هذه الفطر هزاً ، لعل الركام الذي ران عليها يتساقط ، ولعل مغاليقها الصلدة تتفتح ، ولعلها تفيء إلى تدبر هذا القرآن قبل فوات الأوان .
{ ومنهم من يستمع إليك ، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } . .
والأكنة : الأغلفة التي تحول دون أن تتفتح هذه القلوب فتفقه؛ والوقر : الصمم الذي يحول دون هذه الآذان أن تؤدي وظيفتها فتسمع . .
وهذه النماذج البشرية التي تستمع؛ ولكنها لا تفقه ، كأن ليس لها قلوب تدرك؛ وكأن ليس لها آذان تسمع . . نماذج مكرورة في البشرية في كل جيل وفي كل قبيل ، في كل زمان وفي كل مكان . . إنهم أناسي من بني آدم . . ولكنهم يسمعون القول وكأنهم لا يسمعونه . كأن آذانهم صماء لا تؤدي وظيفتها . وكأن إدراكهم في غلاف لا تنفذ إليه مدلولات ما سمعته الآذان
{ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها . حتى إذا جاءوك يجادلونك . يقول الذين كفروا : إن هذا إلا أساطير الأولين } .

.
فأعينهم ترى كذلك . ولكن كأنها لا تبصر . أو كأن ما تبصره لا يصل إلى قلوبهم وعقولهم
فما الذي أصاب القوم يا ترى؟ ما الذي يحول بينهم وبين التلقي والاستجابة . بينما لهم آذان ولهم عيون ولهم عقول؟ يقول الله - سبحانه - :
{ وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً . وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } . .
وهذا يعبر عن قضاء الله فيهم بألا يتلقى إدراكهم هذا الحق ولا يفقهه؛ وبألا تؤدي أسماعهم وظيفتها فتنقل إلى إدراكهم ما تسمع من هذا الحق فتستجيب له ، مهما يروا من دلائل الهدى وموحيات الإيمان .
غير أنه يبقى أن نلتمس سنة الله في هذا القضاء . . إنه سبحانه يقول : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } ويقول : { ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها } . فشأن الله - سبحانه - أن يهدي من يجاهد ليبلغ الهدى؛ وأن يفلح من يزكي نفسه ويطهرها . . فأما هؤلاء فلم يتجهوا إلى الهدى ليهديهم الله؛ ولم يحاولوا أن يستخدموا أجهزة الاستقبال الفطرية في كيانهم ، فييسر الله لهم الاستجابة . . هؤلاء عطلوا أجهزتهم الفطرية ابتداء؛ فجعل الله بينهم وبين الهدى حجاباً؛ وجرى قضاؤه فيهم بهذا الذي جرى جزاء على فعلهم الأول ونيتهم الأولى . . وكل شيء إنما يكون بأمر الله . ومن أمر الله أن يهدي من يجاهد ، وأن يفلح من يتزكى . ومن أمر الله أن يجعل على قلوب المعرضين أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها . . والذين يحيلون ضلالهم وشركهم وخطاياهم على إرادة الله بهم ، وعلى قضائه فيهم ، إنما يغالطون في هذه الإحالة . والله سبحانه يجبههم بالحق ، وهو يحكي أقوالهم في هذا الشأن ويسفهها : { وقال الذين أشركوا : لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ، ولا حرمنا من دونه من شيء . كذلك فعل الذين من قبلهم . فهل على الرسل إلا البلاغ المبين؟ ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً : أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ، فمنهم من هدى الله ، ومنهم من حقت عليه الضلالة ، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } . فدل هذا على إنكار الله عليهم قولهم؛ وعلى أن الضلالة إنما حقت عليهم - بعد النذارة - بفعلهم . .
والذين أثاروا قضايا القضاء والقدر ، والجبر والاختيار ، وإرادة العبد وكسبه . . ليجعلوا منها مباحث لاهوتية ، تخضع لما تتصوره عقولهم من فروض وتقديرات ، إنما يجانبون منهج القرآن في عرض هذه القضية في صورتها الواقعية التقريرية البسيطة؛ التي تقرر أن كل شيء إنما يكون بقدر من الله؛ وأن اتجاه الإنسان على هذا النحو أو ذاك داخل في حدود فطرته التي خلقه الله عليها ، والتي جرى بها قدر الله فكانت على ما كانت عليه؛ وأن اتجاهه على هذا النحو أو ذاك تترتب عليه نتائج وآثار في الدنيا والآخرة يجري بها قدر الله أيضاً ، فتكون .

. وبهذا يكون مرجع الأمر كله إلى قدر الله . . ولكن على النحو الذي يرتب على إرادة الإنسان الموهوبة له ما يوقعه قدر الله به . . وليس وراء هذا التقرير إلا الجدل الذي ينتهي إلى المراء
والمشركون كانت معروضة عليهم أمارات الهدى ودلائل الحق وموحيات الإيمان ، في هذا القرآن ، الذي يلفتهم إلى آيات الله في الأنفس والآفاق؛ وهي وحدها كانت كفيلة - لو اتجهت إليها قلوبهم - أن توقع على أوتار هذه القلوب ، وأن تهز فيها المدارك الغافية فتوقظها وتحييها ، لتتلقى وتستجيب . . إلا أنهم هم لم يجاهدوا ليهتدوا؛ بل عطلوا فطرتهم وحوافزها؛ فجعل الله بينهم وبين موحيات الهدى حجاباً؛ وصاروا حين يجيئون إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يجيئون مفتوحي الأعين والآذان والقلوب؛ ليتدبروا ما يقوله لهم تدبر الباحث عن الحق؛ ولكن ليجادلوا ويتلمسوا أسباب الرد والتكذيب :
{ حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا : إن هذا إلا أساطير الأولين } . .
والأساطير جمع أسطورة . وكانوا يطلقونها على الحكايات التي تتضمن الخوارق المتعلقة بالألهة والأبطال في قصص الوثنيات . وأقربها إليهم كانت الوثنية الفارسية وأساطيرها .
وهم كانوا يعلمون جيداً أن هذا القرآن ليس بأساطير الأولين . ولكنهم إنما كانوا يجادلون؛ ويبحثون عن أسباب الرد والتكذيب؛ ويتلمسون أوجه الشبهات البعيدة . . وكانوا يجدون فيما يتلى عليهم من القرآن قصصاً عن الرسل وأقوامهم؛ وعن مصارع الغابرين من المكذبين . فمن باب التمحل والتماس أوهى الأسباب ، قالوا عن هذا القصص وعن القرآن كله : { إن هذا إلا أساطير الأولين }
وإمعاناً في صرف الناس عن الاستماع لهذا القرآن ، وتثبيت هذه الفرية . . فرية أن هذا القرآن إن هو إلا أساطير الأولين . . كان مالك بن النضر ، وهو يحفظ أساطير فارسية عن رستم واسفنديار من أبطال الفرس الأسطوريين ، يجلس مجلساً قريباً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتلو القرآن . فيقول للناس : إن كان محمد يقص عليكم أساطير الأولين ، فعندي أحسن منها ثم يروح يقص عليهم مما عنده من الأساطير ، ليصرفهم عن الاستماع إلى القرآن الكريم
ولقد كانوا كذلك ينهون الناس عن الاستماع إليه - وهم كبراؤهم - وينأون هم عن الاستماع خشية التأثر والاستجابة :
{ وهم ينهون عنه ، وينأون عنه ، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون } . .
لقد كانوا على يقين من أنه ليس أساطير الأولين . وأن مواجهته بأساطير الأولين لا تجدي لو ترك الناس يسمعون وكان كبراء قريش يخافون على أنفسهم من تأثير هذا القرآن فيها كما يخافون على أتباعهم . فلم يكن يكفي إذن في المعركة بين الحق النفاذ بسلطانه القوي ، والباطل الواهن المتداعي ، أن يجلس النضر بن الحارث يروي للناس أساطير الأولين ومن ثم كانوا ينهون أتباعهم أن يستمعوا لهذا القرآن؛ كما كانوا هم أنفسهم ينأون بأنفسهم - خوفاً عليها أن تتأثر وتستجيب - وحكاية الأخنس بن شريق ، وأبي سفيان بن حرب ، وعمرو بن هشام وهم يقاومون جاذبية القرآن التي تشدهم شداً إلى التسمع في خفية لهذا القرآن حكاية مشهورة في السيرة .

وهذا الجهد كله الذي كانوا يبذلونه ليمنعوا أنفسهم ويمنعوا غيرهم من الاستماع لهذا القرآن؛ ومن التأثر به والاستجابة له . . هذا الجهد كله إنما كانوا يبذلونه في الحقيقة لإهلاك أنفسهم - كما يقرر الله - سبحانه - :
{ وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون }
وهل يهلك إلا نفسه من يجاهد نفسه ويجاهد غيره دون الهدى والصلاح والنجاة ، في الدنيا والآخرة؟
إنهم مساكين أولئك الذين يجعلون همهم كله في الحيلولة بين أنفسهم والناس معهم وبين هدى الله مساكين ولو تبدوا في ثياب الجبابرة وزي الطواغيت مساكين فهم لا يهلكون إلا أنفسهم في الدنيا والآخرة . وإن بدا لهم حيناً من الدهر وبدا للمخدوعين بالزبد أنهم رابحون مفلحون .
ومن شاء أن يرى فلينظر في الصفحة الأخرى المواجهة لهذه الصفحة الأولى :
{ ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا : يا ليتنا نرد ، ولا نكذب بآيات ربنا ، ونكون من المؤمنين }
إنه المشهد المقابل لمشهدهم في الدنيا . . مشهد الاستخذاء والندامة والخزي والحسرة . في مقابل مشهد الإعراض والجدال والنهي والنأي والادعاء العريض
{ ولو ترى إذ وقفوا على النار } . .
لو ترى ذلك المشهد لو تراهم وقد حبسوا على النار لا يملكون الإعراض والتولي ولا يملكون الجدل والمغالطة
لو ترى لرأيت ما يهول ولرأيتهم يقولون :
{ يا ليتنا نرد ، ولا نكذب بآيات ربنا ، ونكون من المؤمنين } . .
فهم يعلمون الآن أنها كانت « آيات ربنا » وهم يتمنون لو يردون إلى الدنيا . وعندئذ فلن يكون منهم تكذيب بهذه الآيات ، وعندئذ سيكونون من المؤمنين
ولكنها ليست سوى الأماني التي لا تكون
على أنهم إنما يجهلون جبلتهم . فهي جبلة لا تؤمن . وقولهم هذا عن أنفسهم : إنهم لو ردوا لما كذبوا ولكانوا مؤمنين ، إنما هو كذب لا يطابق حقيقة ما يكون منهم لو كان لإجابتهم من سبيل وإنهم ما يقولون قولتهم هذه ، إلا لأنه تكشف لهم من سوء عملهم وسوء مغبتهم ما كانوا من قبل يخفونه على أتباعهم ليوهموهم أنهم محقون ، وأنهم ناجون ، وأنهم مفلحون .
{ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل . ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه . وإنهم لكاذبون } . .
إن الله يعلم طبيعتهم؛ ويعلم إصرارهم على باطلهم؛ ويعلم أن رجفة الموقف الرعيب على النار هي التي أنطقت ألسنتهم بهذه الأماني وهذه الوعود . . { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون } . .
ويدعهم السياق في هذا المشهد البائس ، وهذا الرد يصفع وجوههم بالمهانة والتكذيب
يدعهم ليفتح صفحتين جديدتين متقابلتين كذلك؛ ويرسم لهما مشهدين متقابلين : أحدهما في الدنيا وهم يجزمون بأن لا بعث ولا نشور ، ولا حساب ولا جزاء .

وثانيهما في الآخرة وهم موقوفون على ربهم يسألهم عما هم فيه : { أليس هذا بالحق؟ } . . السؤال الذي يزلزل ويذيب . . فيجيبون إجابة المهين الذليل : { بلى وربنا } . . فيجبهون عندئذ بالجزاء الأليم بما كانوا يكفرون . . ثم يمضي السياق يرسم مشهدهم والساعة تأخذهم بغتة ، بعدما كذبوا بلقاء الله ، فتنتابهم الحسرة؛ وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم وفي النهاية يقرر حقيقة وزن الدنيا والآخرة في ميزان الله الصحيح :
{ وقالوا : إن هي إلا حياتنا الدنيا ، وما نحن بمبعوثين . ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال : أليس هذا بالحق؟ قالوا : بلى وربنا . قال : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . . قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا : يا حسرتنا على ما فرطنا فيها ، وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون . وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ، وللدار الآخرة خير للذين يتقون . أفلا تعقلون؟ }
وقضية البعث والحساب والجزاء في الدار الآخرة من قضايا العقيدة الأساسية ، التي جاء بها الإسلام؛ والتي يقوم عليها بناء هذه العقيدة بعد قضية وحدانية الألوهية . والتي لا يقوم هذا الدين - عقيدة وتصوراً ، وخلقاً وسلوكاً ، وشريعة ونظاماً - إلا عليها . . وبها . .
إن هذا الدين الذي أكمله الله ، وأتم به نعمته على المؤمنين به ، ورضيه لهم ديناً - كما قال لهم في كتابه الكريم - هو منهج للحياة كامل في حقيقته ، متكامل متناسق في تكوينه . . « يتكامل » ويتناسق فيه تصوره الاعتقادي مع قيمه الخلقية ، مع شرائعه التنظيمية . . وتقوم كلها على قاعدة واحدة من حقيقة الألوهية فيه وحقيقة الحياة الآخرة .
فالحياة - في التصور الإسلامي - ليست هي هذه الفترة القصيرة التي تمثل عمر الفرد؛ وليست هي هذه الفترة المحدودة التي تمثل عمر الأمة من الناس؛ كما أنها ليست هي هذه الفترة المشهودة التي تمثل عمر البشرية في هذه الحياة الدنيا .
إن الحياة في - التصور الإسلامي - تمتد طولاً في الزمان ، وتمتد عرضاً في الآفاق ، وتمتد عمقاً في العوالم ، وتمتد تنوعاً في الحقيقة . . عن تلك الفترة التي يراها ويظنها ويتذوقها من يغفلون الحياة الآخرة من حسابهم ولا يؤمنون بها .
إن الحياة - في التصور الإسلامي - تمتد في الزمان ، فتشمل هذه الفترة المشهودة - فترة الحياة الدنيا - وفترة الحياة الأخرى التي لا يعلم مداها إلا الله؛ والتي تعد فترة الحياة الدنيا بالقياس إليها ساعة من نهار
وتمتد في المكان ، فتضيف إلى هذه الأرض التي يعيش عليها البشر؛ داراً أخرى : جنة عرضها كعرض السماوات والأرض؛ وناراً تسع الكثرة من جميع الأجيال التي عمرت وجه الأرض ملايين الملايين من السنين
وتمتد في العوالم ، فتشمل هذا الوجود المشهود إلى وجود مغيب لا يعلم حقيقته كلها إلا الله؛ ولا نعلم نحن عنه إلا ما أخبرنا به الله .

وجود يبدأ من لحظة الموت ، وينتهي في الدار الآخرة . وعالم الموت وعالم الآخرة كلاهما من غيب الله . وكلاهما يمتد فيه الوجود الإنساني في صور لا يعلمها إلا الله .
وتمتد الحياة في حقيقتها؛ فتشمل هذا المستوى المعهود في الحياة الدنيا ، إلى تلك المستويات الجديدة في الحياة الأخرى . . في الجنة وفي النار سواء . . وهي ألوان من الحياة ذات مذاقات ليست من مذاقات هذه الحياة الدنيا . . ولا تساوي الدنيا - بالقياس إليها - جناح بعوضة
والشخصية الإنسانية - في التصور الإسلامي - يمتد وجودها في هذه الأبعاد من الزمان ، وفي هذه الآفاق من المكان ، وفي هذه الأعماق والمستويات من العوالم والحيوات . . ويتسع تصورها للوجود كله؛ وتصورها للوجود الإنساني؛ ويتعمق تذوقها للحياة؛ وتكبر اهتماماتها وتعلقاتها وقيمها ، بقدر ذلك الامتداد في الأبعاد والآفاق والأعماق والمستويات . . بينما أولئك الذين لا يؤمنون بالآخرة ، يتضاءل تصورهم للوجود الكوني ، وتصورهم للوجود الإنساني؛ وهم يحشرون أنفسهم وتصوراتهم وقيمهم وصراعهم في ذلك الجحر الضيق الصغير الضئيل من هذه الحياة الدنيا
ومن هذا الاختلاف في التصور يبدأ الاختلاف في القيم ، ويبدأ الاختلاف في النظم . . ويتجلى كيف أن هذا الدين منهج حياة متكامل متناسق؛ وتتبين قيمة الحياة الآخرة في بنائه : تصوراً واعتقاداً ، وخلقاً وسلوكاً ، وشريعة ونظاماً . .
إن إنساناً يعيش في هذا المدى المتطاول من الزمان والمكان والعوالم والمذاقات ، غير إنسان يعيش في ذلك الجحر الضيق ، ويصارع الآخرين عليه ، بلا انتظار لعوض عما يفوته ، ولا لجزاء عما يفعله وما يفعل به . . إلا في هذه الأرض ومن هؤلاء الناس
إن اتساع التصور وعمقه وتنوعه ينشئ سعة في النفس وكبراً في الاهتمامات ورفعة في المشاعر ينشأ عنها هي بذاتها خلق وسلوك ، غير خلق الذين يعيشون في الجحور وسلوكهم فإذا أضيف إلى سعة التصور وعمقه وتنوعه ، طبيعة هذا التصور ، والاعتقاد في عدل الجزاء في الدار الآخرة ، وفي ضخامة العوض عما يفوت ونفاسته؛ استعدت النفس للبذل في سبيل الحق والخير والصلاح الذي تعلم أنه من أمر الله ، وأنه مناط العوض والجزاء؛ وصلح خلق الفرد واستقام سلوكه - متى استيقن من الآخرة كما هي في التصور الإسلامي - وصلحت الأوضاع والأنظمة ، التي لا يتركها الأفراد تسوء وتنحرف ، وهم يعلمون أن سكوتهم على فسادها لا يحرمهم صلاح الحياة الدنيا وحدها وخيراتها؛ ولكنه يحرمهم كذلك العوض في الآخرة ، فيخسرون الدنيا والآخرة
والذين يفترون على عقيدة الحياة الآخرة فيقولون : إنها تدعو الناس إلى السلبية في الحياة الدنيا؛ وإلى إهمال هذه الحياة؛ وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها؛ وإلى تركها للطغاة والمفسدين تطلعاً إلى نعيم الآخرة . . الذين يفترون هذا الافتراء على عقيدة الآخرة يضيفون إلى الافتراء الجهالة فهم يخلطون بين عقيدة الآخرة - كما هي في التصورات الكنسية المنحرفة - وعقيدة الآخرة كما هي في دين الله القويم .

. فالدنيا - في التصور الإسلامي - هي مزرعة الآخرة . والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه الحياة ، ورفع الشر والفساد عنها ، ورد الاعتداء عن سلطان الله فيها ، ودفع الطواغيت وتحقيق العدل والخير للناس جميعاً . . كل أولئك هو زاد الآخرة؛ وهو الذي يفتح للمجاهدين أبواب الجنة ، ويعوضهم عما فقدوا في صراع الباطل ، وما أصابهم من الأذى . .
فكيف يتفق لعقيدة هذه تصوراتها أن يدع أهلها الحياة الدنيا تركد وتأسن ، أو تفسد وتختل ، أو يشيع فيها الظلم والطغيان ، أو تتخلف في الصلاح والعمران . . وهم يرجون الآخرة ، وينتظرون فيها الجزاء من الله؟
إن الناس إذا كانوا في فترات من الزمان يعيشون سلبيين؛ ويدعون الفساد والشر والظلم والطغيان والتخلف والجهالة تغمر حياتهم الدنيا - مع ادعائهم الإسلام - فإنما هم يصنعون ذلك كله أو بعضه لأن تصورهم للإسلام قد فسد وانحرف؛ ولأن يقينهم في الآخرة قد تزعزع وضعف لا لأنهم يدينون بحقيقة هذا الدين؛ ويستيقنون من لقاء الله في الآخرة . فما يستيقن أحد من لقاء الله في الآخرة ، وهو يعي حقيقة هذا الدين ، ثم يعيش في هذه الحياة سلبياً ، أو متخلفاً ، أو راضياً بالشر والفساد والطغيان .
إنما يزاول المسلم هذه الحياة الدنيا ، وهو يشعر أنه أكبر منها وأعلى . ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا خالصة له يوم القيامة . ويجاهد لترقية هذه الحياة وتسخير طاقاتها وقواها وهو يعرف أن هذا واجب الخلافة عن الله فيها . ويكافح الشر والفساد والظلم محتملاً الأذى والتضحية حتى الشهادة وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة . . إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة؛ وأن ليس هنالك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا؛ وأن الدنيا صغيرة زهيدة ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى . .
وكل جزئية في النظام الإسلامي منظور فيها إلى حقيقية الحياة الآخرة؛ وما تنشئه في التصور من سعة وجمال وارتفاع؛ وما تنشئه في الخلق من رفعة وتطهر وسماحة ومن تشدد في الحق وتحرج وتقوى؛ وما تنشئه في النشاط الإنساني من تسديد وثقة وتصميم .
من أجل ذلك كله لا تستقيم الحياة الإسلامية بدون يقين في الآخرة . ومن أجل ذلك كله كان هذا التوكيد في القرآن الكريم على حقيقة الآخرة . .
وكان العرب في جاهليتهم - وبسبب من هذه الجاهلية - لا تتسع آفاقهم التصورية والشعورية والفكرية للاعتقاد في حياة أخرى غير هذه الحياة الدنيا؛ ولا في عالم آخر غير هذا العالم الحاضر : ولا في امتداد الذات الإنسانية إلى آماد وآفاق وأعماق غير هذه الآماد المحسوسة . . مشاعر وتصورات أشبه شيء بمشاعر الحيوان وتصوراته .

. شأنهم في هذا شأن الجاهلية الحاضرة . . « العلمية » كما يصر أهلها على تسميتها
{ وقالوا : إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } . .
وكان الله - سبحانه - يعلم أن الاعتقاد على هذا النحو يستحيل أن تنشأ في ظله حياة إنسانية رفيعة كريمة . . هذه الآفاق الضيقة في الشعور والتصور ، التي تلصق الإنسان بالأرض ، وتلصق تصوره بالمحسوس منها كالبهيمة . . وهذه الرقعة الضيقة من الزمان والمكان ، التي تطلق السعار في النفس ، والتكالب على المتاع المحدود ، والعبودية لهذا المتاع الصغير ، كما تطلق الشهوات من عقالها تعربد وحدها بلا كابح ، ولا هدنة ، ولا أمل في عوض ، إن لم تقض هذه الشهوات الهابطة الصغيرة ، التي لا تكاد تبلغ نزوات البهيمة . . وهذه الأنظمة والأوضاع ، التي تنشأ في الأرض منظوراً فيها إلى هذه الرقعة الضيقة من الزمان والمكان؛ بلا عدل ولا رحمة ، ولا قسط ولا ميزان . . إلا أن يصارع الأفراد بعضهم بعضاً ، وتصارع الطبقات بعضها بعضاً ، وتصارع الأجناس بعضها بعضاً . . وينطلق الكل في الغابة انطلاقاً لا يرتفع كثيراً على انطلاق الوحوش والغيلان كما نشهد اليوم في عالم « الحضارة » . . في كل مكان . .
كان الله - سبحانه - يعلم هذا كله؛ ويعلم أن الأمة التي قدر أن يعطيها مهمة الإشراف على الحياة البشرية ، وقيادتها إلى القمة السامقة التي يريد أن تتجلى فيها كرامة الإنسانية في صورة واقعية . . أن هذه الأمة لا يمكن أن تؤدي واجبها هذا إلا بأن تخرج بتصوراتها وقيمها من ذلك الجحر الضيق إلى تلك الآفاق والآماد الواسعة . . من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة . .
ولهذا كان ذلك التوكيد على حقيقة الآخرة . . أولاً لأنها حقيقة . والله يقص الحق . وثانياً لأن اليقين بها ضرورة لاستكمال إنسانية الإنسان : تصوراً واعتقاداً ، وخلقاً وسلوكاً ، وشريعة ونظاماً .
ومن ثم كانت هذه الإيقاعات العنيفة العميقة التي نراها في هذه الموجة من نهر السورة المتدفق . . الإيقاعات التي يعلم الله أن فطرة الإنسان تهتز لها وترجف؛ فتتفتح نوافذها ، وتستيقظ أجهزة الاستقبال فيها ، وتتحرك وتحيا ، وتتأهب للتلقي والاستجابة . . ذلك كله فضلاً على أنها تمثل الحقيقة :
{ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم . قال : أليس هذا بالحق؟ قالوا : بلى وربنا . قال : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } . .
هذا مصير الذين قالوا : { إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } . . وهذا هو مشهدهم البائس المخزي المهين؛ وهم موقوفون في حضرة ربهم الذي كذبوا بلقائه ، لا يبرحون الموقف . وكأنما أُخذ بأعناقهم حتى وقفوا في هذا المشهد الجليل الرهيب :
{ قال : أليس هذا بالحق؟ } . .
وهو سؤال يخزي ويذيب
{ قالوا : بلى وربنا } . .
الآن . وهم موقوفون على ربهم . في الموقف الذي نفوا على سبيل التوكيد أن يكون
وفي اختصار يناسب جلال الموقف ، ورهبة المشهد ، وهول المصير ، يجيء الأمر العلوي بالقضاء الأخير :
{ قال : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } .

.
وهو مصير يتفق مع الخلائق التي أبت على نفسها سعة التصور الإنساني وآثرت عليه جحر التصور الحسي والتي أبت أن ترتفع إلى الأفق الإنساني الكريم ، وأخلدت إلى الأرض ، وأقامت حياتها وعاشت على أساس ذلك التصور الهابط الهزيل لقد ارتكست هذه الخلائق حتى أهلت نفسها لهذا العذاب؛ الذي يناسب طبائع الكافرين بالآخرة؛ الذين عاشوا ذلك المستوى الهابط من الحياة بذلك التصور الهابط الهزيل
ويستكمل السياق المشهد الذي ختمه هناك بهذا القضاء العلوي تنسيقاً له مع الجلال والروعة والهول . . يستكمله بتقرير حقيقته :
{ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله . حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا : يا حسرتنا على ما فرطنا فيها } . . فهي الخسارة المحققة المطلقة . . خسارة الدنيا بقضاء الحياة فيها في ذلك المستوى الأدنى . . وخسارة الآخرة على النحو الذي رأينا . . والمفاجأة التي لم يحسب لها أولئك الغافلون الجاهلون حساباً :
{ حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا : يا حسرتنا على ما فرطنا فيها } . .
ثم مشهدهم كالدواب الموقرة بالأحمال :
{ وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } . .
بل الدواب أحسن حالاً . فهي تحمل أوزاراً من الأثقال . ولكن هؤلاء يحملون أوزاراً من الآثام والدواب تحط عنها أوزارها فتذهب لتستريح . وهؤلاء يذهبون بأوزارهم إلى الجحيم . مشيعين بالتأثيم :
{ ألا ساء ما يزرون } . .
وفي ظلال هذا المشهد الناطق بالخسارة والضياع ، بعد ذلك المشهد الناطق بالهول والرهبة . . يجيء الإيقاع الأخير في هذا المقطع؛ بحقيقة وزن الدنيا ووزن الآخرة في ميزان الله؛ وقيمة هذه الدنيا وقيمة الآخرة في هذا الميزان الصحيح :
{ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ، وللدار الآخرة خير للذين يتقون . أفلا تعقلون؟ } . .
هذه هي القيمة المطلقة الأخيرة في ميزان الله للحياة الدنيا وللدار الآخرة . . وما يمكن أن يكون وزن ساعة من نهار ، على هذا الكوكب الصغير ، إلا على هذا النحو ، حين توازن بذلك الأبد الأبيد في ذلك الملك العريض . وما يمكن أن تكون قيمة نشاط ساعة في هذه العبادة إلا لعباً ولهواً حين تقاس إلى الجد الرزين في ذلك العالم الآخر العظيم . .
هذا تقييم مطلق . . ولكنه في التصور الإسلامي لا ينشئ - كما قلنا - إهمالاً للحياة الدنيا ولا سلبية فيها ولا انعزالاً عنها . . وليس ما وقع من هذا الإهمال والسلبية والانعزال وبخاصة في بعض حركات « التصوف » « والزهد » بنابع من التصور الإسلامي أصلاً . إنما هو عدوى من التصورات الكنسية الرهبانية؛ ومن التصورات الفارسية ، ومن بعض التصورات الإشراقية الإغريقية المعروفة بعد انتقالها للمجتمع الإسلامي
والنماذج الكبيرة التي تمثل التصور الإسلامي في أكمل صورة ، لم تكن سلبية ولا انعزالية . . فهذا جيل الصحابة كله؛ الذين قهروا الشيطان في نفوسهم ، كما قهروه في الأنظمة الجاهلية السائدة من حولهم في الأرض؛ حيث كانت الحاكمية للعباد في الإمبراطوريات .

. هذا الجيل الذي كان يدرك قيمة الحياة الدنيا كما هي في ميزان الله ، هو الذي عمل للآخرة بتلك الآثار الإيجابية الضخمة في واقع الحياة ، وهو الذي زاول الحياة بحيوية ضخمة ، وطاقة فائضة ، في كل جانب من جوانبها الحية الكثيرة .
إنما أفادهم هذا التقييم الرباني للحياة الدنيا وللدار الآخرة ، أنهم لم يصبحوا عبيداً للدنيا . لقد ركبوها ولم تركبهم وعبدوها فذللوها لله ولسلطانه ولم تستعبدهم ولقد قاموا بالخلافة عن الله فيها بكل ما تقتضيه الخلافة عن الله من تعمير وإصلاح ، ولكنهم كانوا يبتغون في هذه الخلافة وجه الله ، ويرجون الدار الآخرة . فسبقوا أهل الدنيا في الدنيا ، ثم سبقوهم كذلك في الآخرة
والآخرة غيب . فالأيمان بها سعة في التصور . وارتقاء في العقل . والعمل لها خير للمتقين يعرفه الذين يعقلون :
{ وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون } . .
والذين ينكرون الآخرة اليوم لأنها « غيب » إنما هم الجهال الذين يدعون العلم . . فالعلم علم الناس - ( كما سنذكر فيما بعد ) لم يعد لديه اليوم حقيقة واحدة مستيقنة له إلا حقيقة الغيب وحقيقة المجهول

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)

في هذه الموجة من موجات السياق المتدفق في السورة ، يتجه الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيب الله - سبحانه - خاطره في أوله ، مما يلاقيه من تكذيب قومه له ، وهو الصادق الأمين ، فإنهم لا يظنون به الكذب ، إنما هم مصرون على الجحود بآيات الله وعدم الاعتراف بها وعدم الإيمان ، لأمر آخر غير ظنهم به الكذب كما يواسيه بما وقع لإخوانه الرسل قبله من التكذيب والأذى ، وما وقع منهم من الصبر والاحتمال ، ثم ما انتهى إليه أمرهم من نصر الله لهم . وفق سنته التي لا تتبدل . . حتى إذا انتهى من المواساة والتسرية والتطمين ، التفت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرر له الحقيقية الكبرى في شأن هذه الدعوة . . إنها تجري بقدر الله وفق سنته ، وليس للداعية فيها إلا التبليغ والبيان . . إن الله هو الذي يتصرف في الأمر كله ، فليس على الداعية إلا أن يمضي وفق هذا الأمر ، لا يستعجل خطوة ولا يقترح على الله شيئاً . حتى ولو كان هو النبي الرسول ولا يستمع إلى مقترحات المكذبين - ولا الناس عامة - في منهج الدعوة ، ولا في اقتراح براهين وآيات معينة عليه . . والأحياء الذين يسمعون سيستجيبون ، أما موتى القلوب فهم موتى لا يستجيبون ، والأمر إلى الله إن شاء أحياهم وإن شاء أبقاهم موتى حتى يرجعوا إليه يوم القيامة .
وهم يطلبون آية خارقة على نحو ما كان يقع للأقوام من قبلهم ، والله قادر على أن ينزل آية . ولكنه سبحانه لا يريد - لحكمة يراها - فإذا كبر على الرسول إعراضهم فليحاول هو إذن بجهده البشري أن يأتيهم بآية . . إن الله - سبحانه - هو خالق الخلائق جميعاً ، وعنده أسرار خلقهم ، وحكمة اختلاف خصائصهم وطباعهم . وهو يترك المكذبين من البشر صماً وبكماً في الظلمات ، ويضل من يشاء ويهدي من يشاء وفق ما يعلمه من حكمة الخلق والتنويع . .
{ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون . فإنهم لا يكذبونك . ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } . .
إن مشركي العرب في جاهليتهم - وخاصة تلك الطبقة التي كانت تتصدى للدعوة من قريش - لم يكونوا يشكون في صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - فلقد عرفوه صادقاً أميناً ، ولم يعلموا عنه كذبة واحدة في حياته الطويلة بينهم قبل الرسالة ، كذلك لم تكن تلك الطبقة التي تتزعم المعارضة لدعوته تشك في صدق رسالته ، وفي أن هذا القرآن ليس من كلام البشر ، ولا يملك البشر أن يأتوا بمثله . .
ولكنهم - على الرغم من ذلك - كانوا يرفضون إظهار التصديق ، ويرفضون الدخول في الدين الجديد إنهم لم يرفضوا لأنهم يكذبون النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن لأن في دعوته خطراً على نفوذهم ومكانتهم .

. وهذا هو السبب الذي من أجله قرروا الجحود بآيات الله ، والبقاء على الشرك الذي كانوا فيه . .
والأخبار التي تقرر الأسباب الحقيقية لموقف قريش هذا وحقيقة ظنهم بهذا القرآن كثيرة :
قال ابن اسحاق : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري : أنه حُدِّث ، أن أبا سفيان بن حرب ، وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، حليف بني زهرة ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه . وكل لا يعلم بمكان صاحبة . فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الصبح تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائهم لأوقعتم في نفسه شيئاً . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له . حتى إذا طلع الفجر تفرقوا . فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود . فتعاهدوا على ذلك . . ثم تفرقوا . . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها ، وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به . ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه في بيته ، فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال : ماذا سمعت؟ قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف . . أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه قال : فقام عنه الأخنس وتركه . .
وروى ابن جرير - من طريق أسباط عن السدي - في قوله : { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } . . لما كان يوم بدر ، قال الأخنس بن شريق لبني زهرة : يا بني زهرة إن محمداً ابن أختكم ، فأنتم أحق من ذب عن ابن أخته ، فإن كان نبياً لم تقاتلوه اليوم ، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عن ابن أخته . قفوا حتى ألقى أبا الحكم ، فإن غَلب محمد رجعتم سالمين ، وإن غُلب محمد فإن قومكم لن يصنعوا بكم شيئاً - فيومئذ سمي الأخنس وكان اسمه أُبي - فالتقى الأخنس بأبي جهل ، فخلا به ، فقال : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد : أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا فقال أبو جهل : ويحك والله إن محمداً لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } .

.
ونلاحظ : أن السورة مكية ، وهذه الآية مكية لا شك في ذلك؛ بينما الحادثة المذكورة كانت في المدينة يوم بدر . . ولكن إذا عرفنا أنهم كانوا يقولون أحياناً عن آية ما : « فذلك قوله : كذا . . » ويقرنون إليها حادثاً ما لا للنص على أنها نزلت بسبب الحادث الذي يذكرونه؛ ولكن بسبب انطباق مدلولها على الحادث ، بغض النظر عما إذا كان سابقاً أو لاحقاً . . فإننا لا نستغرب هذه الرواية . .
وقال ابن إسحاق : حدثني يزيد بن زياد ، « عن محمد بن كعب القرظي ، قال : حُدِّثت أن عتبة بن ربيعة - وكان سيداً - قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل بعضها ، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ - وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ، ورأوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيدون ويكثرون - فقالوا : بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه ، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا ابن أخي . إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة ، والمكان في النسب . وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم . فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها ، لعلك تقبل منها بعضها . قال : فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » قل : يا أبا الوليد أسمع « قال : يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء ، وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه . . أو كما قال . . حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمع منه - قال : » أفرغت يا أبا الوليد؟ « قال : نعم . قال : » فاستمع مني « . قال : أفعل . قال : » بسم الله الرحمن الرحيم : حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون . بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . . « ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها وهو يقرؤها عليه . فلما سمع عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره ، معتمداً عليهما ، يستمع منه ، حتى انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السجدة منها فسجد . ثم قال : » قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك « . . فقام عتبة إلى أصحابه »

فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط . والله ما هو بالسحر ، ولا بالشعر ، ولا بالكهانة . يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي . . خلوا بين الرجل وما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به . . قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال : هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم
وقد روى البغوي في تفسيره حديثاً - بإسناده - « عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضى في قراءته إلى قوله : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود . . } فأمسك عتبة على فيه ، وناشده الرحم ، ورجع إلى أهله ، ولم يخرج إلى قريش ، واحتبس عنهم . . إلى آخره . . ثم لما حدثوه في هذا قال : فأمسكت بفيه ، وناشدته الرحم أن يكف . وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخشيت أن ينزل بكم العذاب » .
وقال ابن اسحاق : إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش - وكان ذا سن فيهم - وقد حضر الموسم . فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فاجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً ، ويرد قولكم بعضه بعضاً . قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل ، وأقم لنا رأياً نقل به ، قال : بل أنتم فقولوا : أسمع . قالوا : نقول : كاهن قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه قالوا : فنقول : مجنون قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته قالوا : فنقول : شاعر قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر قالوا : فنقول : ساحر قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم قالوا : فما نقول يا أبا عبد الشمس؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا : هو ساحر ، جاء بقول هو سحر ، يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته .

. فتفرقوا عنه بذلك . فجعلوا يجلسون بسبل الناس - حين قدموا الموسم - لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا له أمره
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثورة ، عن معمر ، عن عبادة بن منصور ، عن عكرمة : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له . فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام . فأتاه فقال له : أي عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً قال : لم؟ قال : يعطونكه ، فإنك أتيت محمداً تتعرض لما قبله ( يريد الخبيث أن يثير كبرياءه من الناحية التي يعرف أنه أشد بها اعتزازاً ) قال : قد علمت قريش أني أكثرها مالاً قال : فقل فيه قولاً يعلم قومك أنك منكر لما قال ، وأنك كاره له قال : فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقوله شيئاً من هذا . والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليحطم ما تحته . وإنه ليعلو وما يعلى . قال : والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه . . قال : فدعني حتى أفكر فيه . . فلما فكر قال : إن هذا إلا سحر يؤثر . يؤثره عن غيره . فنزلت : { ذرني ومن خلقت وحيداً . . } حتى بلغ : { عليها تسعة عشر } وفي رواية أخرى أن قريشاً قالت : لئن صبأ الوليد لتصبون قريش كلها فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه ثم دخل عليه . . وأنه قال - بعد التفكير الطويل - إنه سحر يؤثر . أما ترون أنه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه .
فهذه الروايات كلها تبين أن هؤلاء المكذبين لم يكونوا يعتقدون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكذبهم فيما يبلغه لهم . وإنما هم كانوا مصرين على شركهم لمثل هذه الأسباب التي وردت بها الروايات ، وما وراءها من السبب الرئيسي ، وهو ما يتوقعونه من وراء هذه الدعوة من سلب السلطان المغتصب ، الذي يزاولونه ، وهو سلطان الله وحده . كما هو مدلول شهادة أن لا إله إله إلا الله التي يقوم عليها الإسلام . وهم كانوا يعرفون جيداً مدلولات لغتهم؛ وكانوا لا يريدون أن يسلموا بمدلول هذه الشهادة .

وهو إنما يمثل ثورة كاملة على كل سلطان غير سلطان الله في حياة العباد . . وصدق الله العظيم :
{ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون . فإنهم لا يكذبونك ، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } . .
والظالمون في هذا الموضع هم المشركون . كما يغلب في التعبير القرآني الكريم .
ويستطرد من تطييب خاطر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبيان الأسباب الحقيقية لموقف المكذبين منه ومن دعوته ، ومن آيات الله الناطقة بصدقه وصدق ما جاء به . . يستطرد من هذا إلى تذكيره بما وقع لإخوانه الرسل قبله - وقد جاءه من أخبارهم في هذا القرآن - ثم ما كان منهم من الصبر والمضي في الطريق ، حتى جاءهم نصر الله . ليقرر أن هذه هي سنة الدعوات التي لا تتبدل ، ولا يغير منها اقتراحات المقترحين ، كما أنها لا تستعجل مهما ينزل بالدعاة من الأذى والتكذيب والضيق :
{ ولقد كذبت رسل من قبلك ، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ، ولا مبدل لكلمات الله ، ولقد جاءك من نبأ المرسلين } . .
إن موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم ، ضارب في شعاب الزمن ، ماض في الطريق اللاحب ، ماض في الخط الواصب . . مستقيم الخطى ، ثابت الأقدام . يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل ، ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون ، ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة ، وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء . . والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد . . والعاقبة هي العاقبة ، مهما طال الزمن ومهما طال الطريق . . إن نصر الله دائماً في نهاية الطريق :
{ ولقد كذبت رسل من قبلك ، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ، ولا مبدل لكلمات الله ، ولقد جاءك من نبأ المرسلين } . .
كلمات يقولها الله - سبحانه - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - . . كلمات للذكرى ، وللتسرية وللمواساة ، والتأسية . . وهي ترسم للدعاة إلى الله من بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طريقهم واضحاً ، ودورهم محدداً ، كما ترسم لهم متاعب الطريق وعقباته ، ثم ما ينتظرهم بعد ذلك كله في نهاية الطريق . . .
إنها تعلمهم أن سنة الله في الدعوات واحدة . كما أنها كذلك وحدة . وحدة لا تتجزأ . . دعوة تتلقاها الكثرة بالتكذيب ، وتتلقى أصحابها بالأذى . . وصبر من الدعاة على التكذيب وصبر كذلك على الأذى . . وسنة تجري بالنصر في النهاية . . ولكنها تجيء في موعدها . لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء الطيبين المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب ، ولا أن المجرمين الضالين والمضلين يقدرون على أذى المخلصين الأبرياء الطيبين ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد من ذاته ومن شهواته إنما يرغب في هداية قومه حباً في هدايتهم ، ويأسى على ما هم فيه من ضلال وشقوة ، وعلى ما ينتظرهم من دمار وعذاب في الدنيا والأخرة .

. لا يعجلها عن موعدها شيء من ذلك كله . فإن الله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه . ولا مبدل لكلماته . سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم ، أم تعلقت بالأجل المرسوم .
إنه الجد الصارم ، والحسم الجازم ، إلى جانب التطمين والتسرية والمواساة والتسلية . .
ثم يبلغ الجد الصارم مداه ، في مواجهة ما عساه يعتمل في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرغبة البشرية ، المشتاقة إلى هداية قومه ، المتطلعة إلى الاستجابة لما يطلبونه من آية لعلهم يهتدون . وهي الرغبة التي كانت تجيش في صدور بعض المسلمين في ذلك الحين ، والتي تشير إليها آيات أخرى في السورة آتية في السياق . وهي رغبة بشرية طبيعية . ولكن في صدد الحسم في طبيعة هذه الدعوة ومنهجها ودور الرسل فيها ، ودور الناس أجمعين ، تجيء تلك المواجهة الشديدة في القرآن الكريم :
{ وإن كان كبر عليك إعراضهم ، فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض ، أو سلماً في السماء ، فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين . إنما يستجيب الذين يسمعون . والموتى يبعثهم الله ، ثم إليه يرجعون } . .
وإنه للهول الهائل ينسكب من خلال الكلمات الجليلة . . وما يملك الإنسان أن يدرك حقيقة هذا الأمر ، إلا حين يستحضر في كيانه كله : أن هذه الكلمات موجهة من رب العالمين إلى نبيه الكريم . . النبي الصابر من أولي العزم من الرسل . . الذي لقي ما لقي من قومه صابراً محتسباً ، لم يدع عليهم دعوة نوح - عليه السلام - وقد لقي منهم سنوات طويلة ، ما يذهب بحلم الحليم
. . . تلك سنتنا - يا محمد - فإن كان قد كبر عليك إعراضهم ، وشق عليك تكذيبهم ، وكنت ترغب في إتيانهم بآية . . إذن . . فإن استطعت فابتغ لك نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء ، فأتهم بآية
. . . إن هداهم لا يتوقف على أن تأتيهم بآية . فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول . . ولو شاء الله لجمعهم على الهدى : إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى - كالملائكة - وإما بتوجيه قلوبهم وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه . وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم جميعاً . وإما بغير هذه من الوسائل وكلها يقدر الله عليها .
ولكنه سبحانه - لحكمته العليا الشاملة في الوجود كله - خلق هذا الخلق المسمى بالإنسان ، لوظيفة معينة ، تقتضي - في تدبيره العلوي الشامل - أن تكون له استعدادات معينة غير استعدادات الملائكة . من بينها التنوع في الاستعدادات ، والتنوع في استقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان ، والتنوع في الاستجابة لهذه الدلائل والموحيات . في حدود من القدرة على الاتجاه ، بالقدر الذي يكون عدلاً معه تنوع الجزاء على الهدى والضلال . .
لذلك لم يجمعهم الله على الهدى بأمر تكويني من عنده ، ولكنه أمرهم بالهدى وترك لهم اختيار الطاعة أو المعصية ، وتلقي الجزاء العادل في نهاية المطاف .

. فاعلم ذلك ولا تكن مما يجهلونه .
{ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى . فلا تكونن من الجاهلين } .
يا لهول الكلمة ويا لحسم التوجيه ولكنه المقام الذي يقتضي هول الكلمة وحسم التوجيه . .
وبعد ذلك بيان للفطرة التي فطر الله الناس عليها ، ولمواقفهم المختلفة في مواجهة الهدى ، الذي لا تنقصه البينة ولا ينقصه الدليل :
{ إنما يستجيب الذين يسمعون . والموتى يبعثهم الله . ثم إليه يرجعون } . .
إن الناس يواجهون هذا الحق الذي جاءهم به الرسول من عند الله وهم فريقان :
فريق حي ، أجهزة الاستقبال الفطرية فيه حية ، عاملة ، مفتوحة . . وهؤلاء يستجيبون للهدى . فهو من القوة والوضوح والاصطلاح مع الفطرة والتلاقي معها إلى الحد الذي يكفي أن تسمعه ، فتستجيب له :
{ إنما يستجيب الذين يسمعون } . .
وفريق ميت ، معطل الفطرة ، لا يسمع ولا يستقبل ، ومن ثم لا يتأثر ولا يستجيب . . ليس الذي ينقصه أن هذا الحق لا يحمل دليله - فدليله كامن فيه ، ومتى بلغ إلى الفطرة وجدت فيها مصداقه ، فاستجابت إليه حتماً - إنما الذي ينقص هذا الفريق من الناس هو حياة الفطرة ، وقيام أجهزة الاستقبال فيها بمجرد التلقي وهؤلاء لا حيلة فيهم للرسول ، ولا مجال معهم للبرهان . إنما يتعلق أمرهم بمشيئة الله . إن شاء بعثهم إن علم منهم ما يستحق أن يحييهم ، وإن شاء لم يبعثهم في هذه الحياة الدنيا ، وبقوا أمواتاً بالحياة حتى يرجعوا إليه في الآخرة .
{ والموتى يبعثهم الله . ثم إليه يرجعون } . .
هذه هي قصة الاستجابة وعدم الاستجابة تكشف حقيقة الموقف كله ، وتحدد واجب الرسول وعمله ، وتترك الأمر كله لصاحب الأمر يقضي فيه بما يريد .
ومن خطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الحقيقة ، ينتقل السياق إلى حكاية ما يطلبه المشركون من إنزال خارقة ، وإلى بيان ما في هذا الطلب من الجهالة بسنة الله ، ومن سوء إدراك لرحمته بهم ألا يستجيب لهذا الاقتراح الذي في أعقابه التدمير لهم لو أجيبوا إليه ويعرض جانباً من دقة التدبير الإلهي وإحاطته بالأحياء جميعاً ، يوحي بحكمة السنة الشاملة للأحياء جميعاً . وينتهي بتقرير ما وراء الهدى والضلال من أسرار وسنن تجري بها مشيئة الله طليقة .
{ وقالوا : لولا نزل عليه آية من ربه قل : إن الله قادر على أن ينزل آية ، ولكن أكثرهم لا يعلمون . وما من دابة في الأرض ، ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ، ثم إلى ربهم يحشرون . والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات . من يشأ الله يضلله ، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } . .
لقد كانوا يطلبون آية خارقة كالخوارق المادية التي صاحبت الرسالات السابقة ، ولا يقنعون بآية القرآن الباقية ، التي تخاطب الإدراك البشري الراشد ، وتعلن عهد الرشد الإنساني ، وتحترم هذا الرشد فتخاطبه هذا الخطاب الراقي؛ والتي لا تنتهي بانتهاء الجيل الذي يرى الخارقة المادية؛ بل تظل باقية تواجه الإدراك البشري بإعجازها إلى يوم القيامة .

.
وكانوا يطلبون خارقة ، ولا يفطنون إلى سنة الله في أخذ المكذبين بالدعوة بعد مجيء الخارقة ، وإهلاكهم في الدنيا . ولا يدركون حكمة الله في عدم مجيئهم بهذه الخارقة ، وهو يعلم أنهم سيجحدون بها بعد وقوعها - كما وقع في الأقوام قبلهم - فيحق عليهم الهلاك ، بينما يريد الله أن يمهلهم ليؤمن منهم من يؤمن . فمن لم يؤمن استخرج الله من ظهره ذرية مؤمنة . ولا يشكرون نعمة الله عليهم في إمهالهم ، وذلك بعدم الاستجابة لاقتراحهم ، الذي لا يعلمون جرائره
والقرآن يذكر اقتراحهم هذا ، ويعقب عليه بأن أكثرهم لا يعلمون ما وراءه ولا يعلمون حكمة الله في عدم الاستجابة ، ويقرر قدرة الله على تنزيل الآية ، ولكن حكمته هي التي تقتضي ، ورحمته التي كتبها على نفسه هي التي تمنع البلاء :
{ وقالوا : لولا نزل عليه آية من ربه قل : إن الله قادر على أن ينزل أية . ولكن أكثرهم لا يعلمون } .
ويأخذ السياق القرآني طريقه إلى قلوبهم من مدخل آخر لطيف . ويوقظ فيها قوى الملاحظة والتدبر لما في الوجود حولهم من دلائل الهدى وموحيات الإيمان ، لو تدبروه وعقلوه :
{ وما من دابة في الأرض ، ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ، ما فرطنا في الكتاب من شيء ، ثم إلى ربهم يحشرون } . .
إن الناس ليسوا وحدهم في هذا الكون ، حتى يكون وجودهم مصادفة ، وحتى تكون حياتهم سدى إن حولهم أحياء أخرى ، كلها ذات أمر منتظم ، يوحي بالقصد والتدبير والحكمة ، ويوحي كذلك بوحدة الخالق ، ووحدة التدبير الذي يأخذ به خلقه كله . .
إنه ما من دابة تدب على الأرض - وهذا يشمل كل الأحياء من حشرات وهوام وزواحف وفقاريات - وما من طائر يطير بجناحيه في الهواء - وهذا يشمل كل طائر من طير أو حشرة غير ذلك من الكائنات الطائرة . . ما من خلق حي في هذه الأرض كلها إلا وهو ينتظم في أمة ، ذات خصائص واحدة ، وذات طريقة في الحياة واحدة كذلك . . شأنها في هذا شأن أمة الناس . . ما ترك الله شيئاً من خلقه بدون تدبير يشمله ، وعلم يحصيه . . وفي النهاية تحشر الخلائق إلى ربها . . فيقضي في أمرها بما يشاء . .
إن هذه الآية القصيرة - فوق تقريرها الحاسم في حقيقة الحياة والأحياء - لتهز القلب بما ترسم من آفاق الإشراف الشامل ، والتدبير الواسع ، والعلم المحيط ، والقدرة القادرة ، لله ذي الجلال . . وكل جانب من هذه الجوانب لا نملك التوسع في الحديث عنه حتى لا نخرج عن منهج الظلال ، فنجاوزه إذن لنتمشى مع السياق .

. إذ المقصود الأول هنا هو توجيه القلوب والعقول ، إلى أن وجود هذه الخلائق بهذا النظام ، وشمولها بهذا التدبير ، وإحصاءها في علم الله ، ثم حشرها إلى ربها في نهاية المطاف . . توجيه القلوب والعقول إلى ما في هذه الحقيقة الهائلة الدائمة من دلائل وأمارات ، أكبر من الآيات والخوارق التي يراها جيل واحد من الناس
وتختم هذه الجولة - أو هذه الموجة - بتقرير ما وراء الهدى والضلال من مشيئة الله وسنته ، وما يدلان عليه من فطرة الناس في حالات الهدى وحالات الضلال :
{ والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات . من يشأ الله يضلله ، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } . .
وهو إعادة لتقرير الحقيقة التي مضت في هذه الجولة عن استجابة الذين يسمعون ، وموت الذين لا يستجيبون . ولكن في صورة أخرى ومشهد آخر . . إن الذين كذبوا بآيات الله هذه المبثوثة في صفحات الوجود ، وآياته الأخرى المسجلة في صفحات هذا القرآن ، إنما كذبوا لأن أجهزة الاستقبال فيهم معطلة . . إنهم صم لا يسمعون ، بكم لا يتكلمون ، غارقون في الظلمات لا يبصرون إنهم كذلك لا من ناحية التكوين الجثماني المادي . فإن لهم عيوناً وآذاناً وأفواهاً . . ولكن إدراكهم معطل ، فكأنما هذه الحواس لا تستقبل ولا تنقل . . وإنه لكذلك فهذه الآيات تحمل في ذاتها فاعليتها وإيقاعها وتأثيرها ، لو أنها استقبلت وتلقاها الإدراك وما يعرض عنها معرض إلا وقد فسدت فطرته ، فلم يعد صالحاً لحياة الهدى ، ولم يعد أهلاً لذلك المستوى الراقي من الحياة .
ووراء ذلك كله مشيئة الله . . المشيئة الطليقة التي قضت أن يكون هذا الخلق المسمى بالإنسان على هذا الاستعداد المزدوج للهدى والضلال ، عن اختيار وحكمة ، لا عن اقتضاء أو إلزام . . وكذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم . بمشيئته تلك ، التي تعين من يجاهد ، وتضل من يعاند . ولا تظلم أحداً من العباد . .
إن اتجاه الإنسان إلى طلب الهدى ، أو اتجاهه إلى الضلال ، كلاهما ينشأ من خلقته التي فطره الله عليها بمشيئته . فهذا الاتجاه وذاك مخلوق ابتداء بمشيئة الله . والنتائج التي تترتب على هذا الاتجاه وذاك من الاهتداء والضلال إنما ينشئها الله بمشيئته كذلك . فالمشيئة فاعلة ومطلقة . والحساب والجزاء إنما يقومان على اتجاه الإنسان . الذي يملكه ، وإن كان الاستعداد للاتجاه المزدوج هو في الأصل من مشيئة الله . .
والآن بعد الانتهاء من استعراض هذه الموجة من السياق ، نقف وقفة قصيرة لاستخلاص عبرة التوجيه فيها لكافة أصحاب الدعوة إلى هذا الدين في كل جيل ، فإن مدى التوجيه فيها يتجاوز المناسبة التاريخية الخاصة ، وينسحب على جميع الأجيال ، وجميع الدعاة ، ويرسم منهجاً للدعوة إلى هذا الدين ، لا يتقيد بالزمان والمكان . ونحن لا نملك هنا أن نفصل كل جوانب هذا المنهج ، فنقف منه إذن عند معالم الطريق :
إن طريق الدعوة إلى الله شاق ، محفوف بالمكاره ، ومع أن نصر الله للحق آت لا ريب فيه ، إلا أن هذا النصر إنما يأتي في موعده الذي يقدره الله ، وفق علمه وحكمته ، وهو غيب لا يعلم موعده أحد - حتى ولا الرسول - والمشقة في هذا الطريق تنشأ من عاملين أساسيين : من التكذيب والإعراض اللذين تقابل بهما الدعوة في أول الأمر ، والحرب والأذى اللذين يعلنان على الدعاة .

. ثم من الرغبة البشرية في نفس الداعية في هداية الناس إلى الحق الذي تذوقه ، وعرف طعمه ، والحماسة للحق والرغبة في استعلانه وهذه الرغبة لا تقل مشقة عن التكذيب والإعراض والحرب والأذى . فكلها من دواعي مشقة الطريق
والتوجيه القرآني في هذه الموجة من السياق يعالج هذه المشقة من جانبيها . . ذلك حين يقرر أن الذين يكذبون بهذا الدين أو يحاربون دعوته ، يعلمون علم اليقين أن ما يدعون إليه هو الحق ، وأن الرسول الذي جاء به من عندالله صادق . ولكنهم مع هذا العلم لا يستجيبون ، ويستمرون في جحودهم عناداً وإصراراً ، لأن لهم هوى في الإعراض والتكذيب وأن هذا الحق يحمل معه دليل صدقه ، وهو يخاطب الفطرة فتستجيب له ، متى كانت هذه الفطرة حية ، وأجهزة الاستقبال فيها صالحة : { إنما يستجيب الذين يسمعون } . . فأما الذين يجحدون فإن قلوبهم ميتة وهم موتى وهو صم وبكم في الظلمات . والرسول لا يسمع الموتى ولا يسمع الصم الدعاء . والداعية ليس عليه أن يبعث الموتى . فذلك من شأن الله . . هذا كله من جانب ، ومن الجانب الآخر ، فإن نصر الله آت لا ريب فيه . . كل ما هنالك أنه يجري وفق سنة الله وبقدر الله ، وكما أن سنة الله لا تستعجل ، وكلماته لا تتبدل ، من ناحية مجيء النصر في النهاية ، فكذلك هي لا تتبدل ولا تستعجل من ناحية الموعد المرسوم . . والله لا يعجل لأن الأذى والتكذيب يلحق بالدعاة - ولو كانوا هم الرسل - فإن استسلام صاحب الدعوة نفسه لقدر الله بلا عجلة ، وصبره على الأذى بلا تململ ، ويقينه في العاقبة بلا شك . . كلها مطلوبة من وراء تأجيل النصر إلى موعده المرسوم .
ويحدد هذا التوجيه القرآني دور الرسول في هذا الدين - ودور الدعاة بعده في كل جيل - إنه التبليغ ، والمضي في الطريق ، والصبر على مشاق الطريق . . أما هدى الناس أو ضلالهم فهو خارج عن حدود واجبه وطاقته . . والهدى والضلال إنما يتبعان سنة إلهية لا تتبدل ، ولا يغير منها رغبة الرسول في هداية من يحب ، كما لا يغير منها ضيقه ببعض من يعاند ويحارب . . إن شخصه لا اعتبار له في هذه القضية ، وحسابه ليس على عدد المهتدين ، إنما حسابه على ما أدى وما صبر وما التزم ، وما استقام كما أمر . . وأمر الناس بعد ذلك إلى رب الناس .

. { من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } . . { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } . .
{ إنما يستجيب الذين يسمعون } وقد بينا من قبل علاقة مشيئة الله الطليقة في الهدى والضلال باتجاه الناس وجهادهم . بما فيه الكفاية .
من هنا لا ينبغي لصاحب الدعوة إلى هذا الدين ، أن يستجيب لاقتراحات المقترحين ممن يوجه إليهم الدعوة ، في تحوير منهج دعوته عن طبيعته الربانية؛ ولا أن يحاول تزيين هذا الدين لهم وفق رغباتهم وأهوائهم وشهواتهم . . ولقد كان المشركون يطلبون الخوارق - وفق مألوف زمانهم ومستوى مداركهم كما حكى عنهم القرآن في مواضع منه شتى ، منها في هذه السورة { وقالوا : لولا أنزل عليه ملك } { وقالوا : لولا نزل عليه آية من ربه } . . { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها } وفي السور الأخرى ما هو أشد إثارة للعجب من هذه الاقتراحات . ذلك كالذي حكاه عنهم في سورة الإسراء : { وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً . أو تسقط السماء - كما زعمت - علينا كسفاً ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً . أو يكون لك بيت من زخرف ، أو ترقى في السماء . ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } . وكالذي حكاه عنهم في سورة الفرقان : { وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، لولا أنزل إليه ملك ، فيكون معه نذيراً . أو يلقى إليه كنز ، أو تكون له جنة يأكل منها } والتوجيه القرآني المباشر في هذه الموجة من السورة نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين أن يرغبوا في إتيانهم بآية - أية آية - مما يطلبون . وقيل للرسول - صلى الله عليه وسلم - : { وإن كان كبر عليك إعراضهم ، فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ، فلا تكونن من الجاهلين . إنما يستجيب الذين يسمعون ، والموتى يبعثهم الله ، ثم إليه يرجعون } . . وقيل للمؤمنين الذين رغبت نفوسهم في الاستجابة للمشركين في طلبهم آية عندما أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قيل لهم : { قل : إنما الآيات عندالله ، وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون . ونقلب افئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ، ونذرهم في طغيانهم يعمهون } . ليعلموا أولاً أن الذي ينقص المكذبين ليس هو الآية والدليل على الحق ، ولكن الذي ينقصهم أنهم لا يسمعون ، وأنهم موتى ، وأن الله لم يقسم لهم الهدى - وفق سنة الله في الهدى والضلال كما أسلفنا - ثم ليعلموا كذلك أن هذا الدين يجري وفق سنة لاتتبدل ، وأنه أعز من أن يصبح تحت رغبات المقترحين وأهوائهم
وهذا يقودنا إلى المجال الأشمل لهذا التوجيه القرآني .

. إنه ليس خاصاً بزمن ، ولا محصوراً في حادث ، ولا مقيداً باقتراح معين . فالزمن يتغير ، وأهواء الناس تتمثل في اقتراحات أخرى . وأصحاب الدعوة إلى دين الله ينبغي ألا تستخفهم أهواء البشر . . إن الرغبة في الاستجابة لمقترحات المقترحين هي التي تقود بعض أصحاب الدعوة الإسلامية اليوم إلى محاولة بلورة العقيدة الإسلامية في صورة « نظرية مذهبية » على الورق كالذي يجدونه في النظريات المذهبية الأرضية الصغيرة ، التي يصوغها البشر لفترة من الفترات؛ ثم يمضي الزمن فإذا كلها عورات وشطحات ومتناقضات . . وهي التي تقود بعض أصحاب هذه الدعوة إلى محاولة بلورة النظام الإسلامي في صورة مشروع نظام - على الورق - أو صورة تشريعات مفصلة - على الورق أيضاً - تواجه ما عليه أهل الجاهلية الحاضرة من أوضاع لا علاقة لها بإلاسلام ( لأن أهل هذه الجاهلية يقولون : إن الإسلام عقيدة ولا علاقة له بالنظام العام الواقعي للحياة ) وتنظم لهم هذه الأوضاع؛ بينما هم باقون على جاهليتهم يتحاكمون إلى الطاغوت ، ولا يحكمون أو يتحاكمون إلى شريعة الله . . وكلها محاولات ذليلة ، لا يجوز للمسلم أن يحاولها استجابة لأزياء التفكير البشري المتقلبة ، التي لا تثبت على حال . باسم تطور وسائل الدعوة إلى الله
وأذل من هذه المحاولة محاولة من يضعون على الإسلام أقنعة أخرى ، ويصفونه بصفات من التي تروج عند الناس في فترة من الفترات . . كالاشتراكية . . والديمقراطية . . وما إليها . . ظانين أنهم إنما يخدمون الإسلام بهذه التقدمة الذليلة . . إن « الاشتراكية » مذهب اجتماعي اقتصادي من صنع البشر؛ قابل للصواب والخطأ . وإن « الديمقراطية » نظام للحياة أو للحكم من صنع البشر كذلك ، يحمل صنع البشر من القابلية للصواب والخطأ أيضاً . . والإسلام منهج حياة يشمل التصور الاعتقادي ، والنظام الاجتماعي الاقتصادي ، والنظام التنفيذي والتشكيلي . . وهو من صنع الله المبرأ من النقص والعيب . . فأين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لمنهج الله - سبحانه - عند البشر بوصفه بصفة من أعمال البشر؟ بل أين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لله - سبحانه - عند العبيد بقول من أقوال هؤلاء العبيد؟ . .
لقد كان كل شرك المشركين في الجاهلية العربية أنهم يستشفعون عند الله ببعض خلقه . . يتخذونهم أولياء :
{ والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . . } فهذا هو الشرك فما الوصف الذي يطلق إذن على الذين لا يستشفعون لأنفسهم عند الله بأولياء من عبيده ، ولكنهم - ويا للنكر والبشاعة - يستشفعون لله - سبحانه - عند العبيد بمذهب أو منهج من مذاهب العبيد ومناهجهم؟
إن الإسلام هو الإسلام . والاشتراكية هي الاشتراكية . والديمقراطية هي الديمقراطية . . ذلك منهج الله ولا عنوان له ولا صفة إلا العنوان الذي جعله الله له ، والصفة التي وصفه بها . . وهذه وتلك من مناهج البشر .

ومن تجارب البشر . . وإذا اختاروها فليختاروها على هذا الأساس . . ولا ينبغي لصاحب الدعوة إلى دين الله ، أن يستجيب لإغراء الزي الرائج من أزياء الهوى البشري المتقلب . وهو يحسب أنه يحسن إلى دين الله
على أننا نسأل هؤلاء الذين هان عليهم دينهم ، ولم يقدروا الله حق قدره . . إذا كنتم تقدمون الإسلام اليوم للناس باسم الاشتراكية ، وباسم الديمقراطية ، لأن هذين زيان من أزياء الاتجاهات المعاصرة . . فلقد كانت الرأسمالية في فترة من الفترات هي الزي المحبوب عند الناس وهم يخرجون بها من النظام الإقطاعي كما كان الحكم المطلق في فترة من الفترات هو الزي المطلوب في فترة التجميع القومي للولايات المتناثرة كما في ألمانيا وإيطاليا أيام بسمرك وماتزيني مثلاً وغدا من يدري ماذا يكون الزي الشائع من الأنظمة الاجتماعية الأرضية وأنظمة الحكم التي يضعها العبيد للعبيد ، فكيف يا ترى ستقولون غداً عن الإسلام؟ لتقدموه للناس في الثوب الذي يحبه الناس؟
إن التوجيه القرآني في هذه الموجة التي نحن بصددها - وفي غيرها كذلك - يشمل هذا كله . . إنه يريد أن يستعلي صاحب الدعوة بدينه؛ فلا يستجيب لاقتراحات المقترحين؛ ولا يحاول تزيين هذا الدين بغير اسمه وعنوانه؛ ولا مخاطبة الناس به بغير منهجه ووسيلته . . إن الله غني عن العالمين . ومن لم يستجب لدينه عبودية له ، وانسلاخاً من العبودية لسواه ، فلا حاجة لهذا الدين به ، كما أنه لا حاجة لله - سبحانه - بأحد من الطائعين أو العصاة .
ثم إنه إذا كان لهذا الدين أصالته من ناحية مقوماته وخصائصه ، التي يريد الله أن تسود البشرية . فإن له كذلك أصالته في منهجه في العمل ، وفي أسلوبه في خطاب الفطرة البشرية . . إن الذي نزل هذا الدين بمقوماته وخصائصه ، وبمنهجه الحركي وأسلوبه ، هو - سبحانه - الذي خلق الإنسان ، ويعلم ما توسوس به نفسه . .
وفي هذه الموجة من السورة نموذج من مخاطبته للفطرة الإنسانية . . نموذج من نماذج متنوعة شتى . . فهو يربط الفطرة البشرية بالوجود الكوني ، ويدع الإيقاعات الكونية تواجه الفطرة البشرية ، ويثير انتباه الكينونة البشرية لتلقي هذه الإيقاعات . . وهو يعلم أنها تستجيب لها متى بلغتها بعمقها وقوتها : { إنما يستجيب الذين يسمعون } . .
والنموذج الذي يواجهنا في هذه الموجة هو :
{ وقالوا : لولا نزل عليه آية من ربه قل : إن الله قادر على أن ينزل آية . ولكن أكثرهم لا يعلمون } . .
وفي هذه الآية يحكي قول الذين يكذبون ويعارضون ويطلبون خارقة يراها جيلهم وتنتهي . . ثم يلمس قلوبهم بما يكمن وراء هذا الاقتراح لو أجيب إنه الأخذ والتدمير والله قادر على أن ينزل الآية . . ولكن رحمته هي التي اقتضت ألا ينزلها ، وحكمته هي التي اقتضت ألا يستجيب لهم فيها . .
وفجأة ينقلهم من هذا الركن الضيق في التصور والتفكير ، إلى الكون الواسع .

إلى الآيات الكبرى من حولهم . الآيات التي تتضاءل دونها تلك الآية التي يطلبونها . الآيات الباقية في صلب الكون للأجيال كلها من قبلهم ومن بعدهم تراها :
{ وما من دابة في الأرض ، ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم . ما فرطنا في الكتاب من شيء . ثم إلى ربهم يحشرون } . .
وهي حقيقة هائلة . . هي حقيقة تستطيع ملاحظتهم وحدها حينذاك - حيث لم يكن لهم علم منظم - أن تشهد بها . . حقيقة تجمع الحيوان والطير والحشرات من حولهم في أمم . . لها سماتها وخصائصها وتنظيماتها كذلك . . وهي الحقيقة التي تتسع مساحة رؤيتها كلما تقدم علم البشر ، ولكن علمهم لا يزيد شيئاً على أصلها وإلى جانبها الحقيقة الغيبية الموصولة بها ، وهي إحاطة علم الله اللدني بكل شيء ، وتدبير الله لكل شيء . . وهي الحقيقة التي تشهد بها تلك الحقيقة المشهودة . .
فأين تذهب الخارقة المادية التي كانوا يطلبون ، أمام الخارقة الكبرى التي يرونها حيثما امتدت أبصارهم وملاحظتهم وقلوبهم فيما كان وفيما سيكون؟
إن المنهج القرآني - في هذا النموذج - لا يزيد على أن يربط الفطرة بالوجود ، وأن يفتح النوافذ بين الوجود والفطرة ، وأن يدع هذا الوجود الهائل العجيب يوقع إيقاعاته الهائلة العميقة في الكيان الإنساني . .
إنه لا يقدم للفطرة جدلاً لاهوتياً ذهنياً نظرياً . ولا يقدم لها جدلاً كلامياً ( كعلم التوحيد ) الغريب على المنهج الإسلامي . ولا يقدم لها فلسفة عقلية أو حسية ، إنما يقدم لها هذا الوجود الواقعي - بعالميه عالم الغيب وعالم الشهادة - ويدعها تتفاعل معه وتتجاوب ، وتتلقى عنه وتستجيب ، ولكن في ظل منهج ضابط لا يدعها - وهي تتلقى من الوجود - تضل في المتاهات والدروب .
ثم يختم الفقرة بالتعقيب على موقف المكذبين بهذه الآيات الكبرى :
{ والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات . من يشأ الله يضلله ، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } . .
فيقرر حقيقة حالة المكذبين وطبيعتهم . . إنهم صم وبكم في الظلمات . . ويقرر سنة الله في الهدى والضلال . . إنها تعلق مشيئة الله بهذا أو ذاك ، وفق الفطرة التي فطر الله عليها العباد .
بذلك تلتئم جوانب التصور الإسلامي للأمر كله . إلى جانب وضوح المنهج في الدعوة ، وتقرير موقف صاحب الدعوة ، وهو يتحرك بهذه العقيدة ، ويواجه النفوس البشرية في كل حال وفي كل جيل . .
ولعل هذه اللمسات - إلى جانب ما تقدم في مقدمة السورة - عن المنهج يكون فيها ما ينير الطريق . وبالله التوفيق . .

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)

هنا - في هذه الموجة - يواجه السياق القرآني فطرة المشركين ببأس الله . بل يواجههم بفطرتهم ذاتها حين تواجه بأس الله . . حين تتعرى من الركام في مواجهة الهول ، وحين يهزها الهول فيتساقط عنها ذلك الركام وتنسى حكاية الآلهة الزائفة؛ وتتجه من فورها إلى ربها الذي تعرفه في قرارتها تسأله وحده الخلاص والنجاة
ثم يأخذ بأيديهم ليوقفهم على مصارع الغابرين من أسلافهم ، وفي الطريق يريهم كيف تجري سنة الله ، وكيف يعمل قدر الله . ويكشف لأبصارهم وبصائرهم عن استدراج الله لهم ، بعد تكذيبهم برسل الله ، وكيف قدم لهم الابتلاء بعد الابتلاء - الابتلاء بالبأساء والضراء ، ثم الابتلاء بالرخاء والنعماء - وأتاح لهم الفرصة بعد الفرصة ، لينتبهوا من الغفلة ، حتى إذا استنفدوا الفرص كلها ، وغرتهم النعمة بعد أن لم توقظهم الشدة ، جرى قدر الله ، وفق سنته الجارية وجاءهم العذاب بغتة : { فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } .
وما يكاد هذا المشهد الذي يهز القلوب هزاً يتوارى ، حتى يجيء في أعقابه مشهد آخر وهم يتعرضون لبأس الله أيضاً ، فيأخذ سمعهم وأبصارهم ، ويختم على قلوبهم ، ثم لا يجدون إلهاً غير الله يرد عليهم سمعهم وأبصارهم وإدراكهم .
وفي مواجهة هذين المشهدين الرائعين الهائلين يتحدث إليهم عن وظيفة الرسل . . إنها البشارة والنذارة . . ليس وراء ذلك شيء . . ليس لهم أن يأتوا بالخوارق ، ولا أن يستجيبوا لمقترحات المقترحين إنما هم يبلغون . يبشرون وينذرون . ثم يؤمن فريق من الناس ويعمل صالحاً فيأمن الخوف وينجو من الحزن . ويكذب فريق ويعرض فيمسه العذاب بهذا الإعراض والتكذيب . فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر . . فهذا هو المصير . .
{ قل : أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة ، أغير الله تدعون - إن كنتم صادقين - بل إياه تدعون ، فيكشف ما تدعون إليه - إن شاء - وتنسون ما تشركون } . .
هذا طرف من وسائل المنهج الرباني في خطاب الفطرة الإنسانية بهذه العقيدة يضم إلى ذلك الطرف الذي سبق بيانه في الفقرة السابقة وفيما قبلها وما بعدها كذلك في سياق السورة .
لقد خاطبها هناك بما في عوالم الأحياء من آثار التدبير الإلهي والتنظيم؛ وبما في علم الله من إحاطة وشمول . وهو هنا يخاطبها ببأس الله؛ وبموقف الفطرة إزاءه حين يواجهها في صورة من صوره الهائلة ، التي تهز القلوب ، فيتساقط عنها ركام الشرك؛ وتتعرى فطرتها من هذا الركام الذي يحجب عنها ما هو مستقر في أعماقها من معرفتها بربها ، ومن توحيدها له أيضاً :
{ قل : أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة . . أغير الله تدعون . . إن كنتم صادقين } . .
إنها مواجهة الفطرة بتصور الهول . . عذاب الله في الدنيا عذابَ الهلاك والدمار؛ أو مجيء الساعة على غير انتظار .

. والفطرة حين تلمس هذه اللمسة؛ وتتصور هذا الهول؛ تدرك - ويعلم الله سبحانه أنها تدرك - حقيقة هذا التصور ، وتهتز له؛ لأنه يمثل حقيقة كامنة فيها ، يعلم بارئها سبحانه أنها كامنة فيها ويخاطبها بها على سبيل التصور؛ فتهتز لها وترتجف وتتعرى
وهو يسألهم ويطلب إليهم الجواب بالصدق من ألسنتهم؛ ليكون تعبيراً عن الصدق في فطرتهم :
{ أغير الله تدعون . . إن كنتم صادقين } .
ثم يبادر فيقرر الجواب الصادق ، المطابق لما في فطرتهم بالفعل ، ولو لم تنطق به ألسنتهم :
{ بل إياه تدعون . . فيكشف ما تدعون إليه إن شاء . . وتنسون ما تشركون } .
بل تدعونه وحده؛ وتنسون شرككم كله . . إن الهول يعرّي فطرتكم - حينئذ - فتتجه بطلب النجاة إلى الله وحده . وتنسى أنها أشركت به أحداً . بل تنسى هذا الشرك ذاته . . إن معرفتها بربها هي الحقيقة المستقرة فيها؛ فأما هذا الشرك فهو قشرة سطحية طارئة عليها ، بفعل عوامل أخرى . قشرة سطحية في الركام الذي ران عليها . فإذا هزها الهول تساقط هذا الركام ، وتطايرت هذه القشرة ، وتكشفت الحقيقة الأصيلة ، وتحركت الفطرة حركتها الفطرية نحو بارئها ، ترجوه أن يكشف عنها الهول الذي لا يد لها به ، ولا حيلة لها فيه . .
هذا شأن الفطرة في مواجهة الهول؛ يواجه السياق القرآني به المشركين . . فأما شأن الله - سبحانه - فيقرره في ثنايا المواجهة . فهو يكشف ما يدعونه إليه - إن شاء - فمشيئته طليقة ، لا يرد عليها قيد . فإذا شاء استجاب لهم فكشف عنهم ما يدعون كله أو بعضه؛ وإن شاء لم يستجب ، وفق تقديره وحكمته وعلمه .
هذا هو موقف الفطرة من الشرك الذي تزاوله أحياناً ، بسبب ما يطرأ عليها من الانحراف ، نتيجة عوامل شتى ، تغطي على نصاعة الحقيقة الكامنة فيها . . حقيقة اتجاهها إلى ربها ومعرفتها بوحدانيته . . فما هو موقفها من الإلحاد وإنكار وجود الله أصلاً؟
نحن نشك شكاً عميقاً - كما قلنا من قبل - في أن أولئك الذين يمارسون الإلحاد في صورته هذه صادقون فيما يزعمون أنهم يعتقدونه . نحن نشك في أن هناك خلقاً أنشأته يد الله ، ثم يبلغ به الأمر حقيقة أن ينطمس فيه تماماً طابع اليد التي أنشأته؛ وفي صميم كينونته هذا الطابع ، مختلطاً بتكوينه متمثلاً في كل خلية وفي كل ذرة
إنما هو التاريخ الطويل من العذاب البشع ، ومن الصراع الوحشي مع الكنيسة ، ومن الكبت والقمع ، ومن أنكار الكنيسة للدوافع الفطرية للناس مع استغراقها هي في اللذائذ المنحرفة . . إلى آخر هذا التاريخ النكد الذي عاشته أوربا قروناً طويلة . . هو الذي دفع الأوربيين في هذه الموجة من الإلحاد في النهاية . . فراراً في التيه ، من الغول الكريه .
ذلك إلى استغلال اليهود لهذا الواقع التاريخي؛ ودفع النصارى بعيداً عن دينهم؛ ليسلس لهم قيادهم ، ويسهل عليهم إشاعة الانحلال والشقاء فيهم ، وليتيسر لهم استخدامهم - كالحمير - على حد تعبير « التلمود » و « بروتوكولات حكماء صهيون » .

. وما كان اليهود ليبلغوا من هذا كله شيئاً إلا باستغلال ذلك التاريخ الأوربي النكد ، لدفع الناس إلى الإلحاد هرباً من الكنيسة .
ومع كل هذا الجهد الناصب ، المتمثل في محاولة « الشيوعية » - وهي إحدى المنظمات اليهودية - لنشر الإلحاد ، خلال أكثر من نصف قرن ، بمعرفة كل أجهزة الدولة الساحقة ، فإن الشعب الروسي نفسه لم يزل في أعماق فطرته الحنين إلى عقيدة في الله . . ولقد اضطر « ستالين » الوحشي - كما يصوره خلفه خروشوف - أن يهادن الكنسية ، في أثناء الحرب العالمية الثانية ، وأن يفرج عن كبير الأساقفة ، لأن ضغط الحرب كان يلوي عنقه للاعتراف للعقيدة في الله بأصالتها في فطرة الناس . . مهما يكن رأيه ورأي القليلين من الملحدين من ذوي السلطان حوله .
ولقد حاول اليهود - بمساعدة « الحمير » الذين يستخدمونهم من الصليبيين - أن ينشروا موجة من الإلحاد في نفوس الأمم التي تعلن الإسلام عقيدة لها وديناً . ومع أن الإسلام كان قد بهت وذبل في هذه النفوس . . فإن الموجة التي أطلقوها عن طريق « البطل » أتاتورك في تركيا . . انحسرت على الرغم من كل ما بذلوه لها - وللبطل - من التمجيد والمساعدة . وعلى كل ما ألفوه من الكتب عن البطل والتجربة الرائدة التي قام بها . . ومن ثم استداروا في التجارب الجديدة يستفيدون من تجربة أتاتورك ، ألا يرفعوا على التجارب الرائدة راية الإلحاد . إنما يرفعون عليها راية الإسلام . كي لا تصدم الفطرة ، كما صدمتها تجربة أتاتورك . ثم يجعلون تحت هذه الراية ما يريدون من المستنقعات والقاذورات والانحلال الخلقي ، ومن أجهزة التدمير للخامة البشرية بجملتها في الرقعة الإسلامية .
غير أن العبرة التي تبقى من وراء ذلك كله ، هي أن الفطرة تعرف ربها جيداً ، وتدين له بالوحدانية ، فإذا غشي عليها الركام فترة ، فإنها إذا هزها الهول تساقط عنها ذلك الركام كله وتعرت منه جملة ، وعادت إلى بارئها كما خلقها أول مرة . . مؤمنة طائعة خاشعة . . أما ذلك الكيد كله فحسبه صيحة حق تزلزل قوائمه ، وترد الفطرة إلى بارئها سبحانه . ولن يذهب الباطل ناجياً ، وفي الأرض من يطلق هذه الصيحة . ولن يخلوا وجه الأرض مهما جهدوا ممن يطلق هذه الصيحة .
{ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ، فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون . فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ، ولكن قست قلوبهم ، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون . فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } .

إنها المواجهة بنموذج من بأس الله سبحانه . نموذج من الواقع التاريخي . نموذج يعرض ويفسر كيف يتعرض الناس لبأس الله ، وكيف تكون عاقبة تعرضهم له ، وكيف يمنحهم الله الفرصة بعد الفرصة ، ويسوق إليهم التنبيه بعد التنبيه؛ فإذا نسوا ما ذكروا به ، ولم توجههم الشدة إلى التوجه إلى الله والتضرع له ، ولم توجههم النعمة إلى الشكر والحذر من الفتنة ، كانت فطرتهم قد فسدت الفساد الذي لا يرجى معه صلاح ، وكانت حياتهم قد فسدت الفساد الذي لا تصلح معه للبقاء . فحقت عليهم كلمة الله . ونزل بساحتهم الدمار الذي لا تنجو منه ديار . .
{ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ، فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون . فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم ، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } . .
ولقد عرف الواقع البشري كثيراً من هذه الأمم ، التي قص القرآن الكريم على الإنسانية خبر الكثير منها ، قبل أن يولد « التاريخ » الذي صنعه الإنسان فالتاريخ الذي سجله بنو الإنسان حديث المولد ، صغير السن ، لا يكاد يعي إلا القليل من التاريخ الحقيقي للبشر على ظهر هذه الأرض وهذا التاريخ الذي صنعه البشر حافل - على قصره - بالأكاذيب والأغاليط؛ وبالعجز والقصور عن الإحاطة بجميع العوامل المنشئة والمحركة للتاريخ البشري؛ والتي يكمن بعضها في أغوار النفس ، ويتوارى بعضها وراء ستر الغيب ، ولا يبدو منها إلا بعضها . وهذا البعض يخطىء البشر في جمعه ، ويخطئون في تفسيره ، ويخطئون أيضاً في تمييز صحيحه من زائفة - إلا قليلاً - ودعوى أي بشر أنه أحاط بالتاريخ البشري علماً ، وأنه يملك تفسيره تفسيراً « علمياً » ، وأنه يجزم بحتمياته المقبلة أيضاً . . هي أكبر أكذوبة يمكن أن يدعيها بشر ومن عجب أن بعضهم يدعيها والأشد إثارة للعجب أن بعضهم يصدقها ولو قال ذلك المدعي : إنه يتحدث عن ( توقعات ) لا عن ( حتميات ) لكان ذلك مستساغاً . . ولكن إذا وجد المفتري من المغفلين من يصدقه فلماذا لا يفتري؟
والله يقول الحق؛ ويعلم ماذا كان ، ولماذا كان . ويقص على عبيده - رحمة منه وفضلاً - جانباً من أسرار سنته وقدره؛ ليأخذوا حذرهم ويتعظوا؛ وليدركوا كذلك ما وراء الواقع التاريخي من عوامل كامنة وأسباب ظاهرة؛ يفسرون بها هذا الواقع التاريخي تفسيراً كاملاً صحيحاً . ومن وراء هذه المعرفة يمكن أن يتوقعوا ما سيكون ، استناداً إلى سنة الله التي لا تتبدل . . هذه السنة التي يكشف الله لهم عنها . .
وفي هذه الآيات تصوير وعرض لنموذج متكرر في أمم شتى . . أمم جاءتهم رسلهم . فكذبوا . فأخذهم الله بالبأساء والضراء . في أموالهم وفي أنفسهم . في أحوالهم وأوضاعهم . . البأساء والضراء التي لا تبلغ أن تكون « عذاب الله » الذي تحدثت عنه الآية السابقة ، وهو عذاب التدمير والاستئصال . .
وقد ذكر القرآن نموذجاً محدداً من هذه الأمم ، ومن البأساء والضراء التي أخذها بها .

. في قصة فرعون وملئه : { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون . فإذا جاءتهم الحسنة قالوا : لنا هذه ، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه . ألا إنما طائرهم عند الله ، ولكن أكثرهم لا يعلمون . وقالوا : مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين . فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، آيات مفصلات ، فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين } وهو نموذج من نماذج كثيرة تشير إليها الآية . .
لقد أخذهم الله بالبأساء والضراء ليرجعوا إلى أنفسهم؛ وينقبوا في ضمائرهم وفي واقعهم ، لعلهم تحت وطأة الشدة يتضرعون إلى الله ، ويتذللون له ، وينزلون عن عنادهم واستكبارهم ، ويدعون الله أن يرفع عنهم البلاء بقلوب مخلصة ، فيرفع الله عنهم البلاء ، ويفتح لهم أبواب الرحمة . . ولكنهم لم يفعلوا ما كان حرياً أن يفعلوا . لم يلجأوا إلى الله ، ولم يرجعوا عن عنادهم ، ولم ترد إليهم الشدة وعيهم ، ولم تفتح بصيرتهم ، ولم تلين قلوبهم . وكان الشيطان من ورائهم يزين لهم ما هم فيه من الضلال والعناد :
{ ولكن قست قلوبهم ، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } . .
والقلب الذي لا ترده الشدة إلى الله قلب تحجر فلم تعد فيه نداوة تعصرها الشدة ومات فلم تعد الشدة تثير فيه الإحساس وتعطلت أجهزة الاستقبال الفطرية فيه ، فلم يعد يستشعر هذه الوخزة الموقظة ، التي تنبه القلوب الحية للتلقي والاستجابة . والشدة ابتلاء من الله للعبد؛ فمن كان حياً أيقظته ، وفتحت مغاليق قلبه ، وردته إلى ربه؛ وكانت رحمة له من الرحمة التي كتبها الله على نفسه . . ومن كان ميتاً حسبت عليه ، ولم تفده شيئاً ، وإنما أسقطت عذره وحجته ، وكانت عليه شقوة ، وكانت موطئة للعذاب
وهذه الأمم التي يقص الله - سبحانه - من أنبائها على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن وراءه من أمته . . لم تفد من الشدة شيئاً . لم تتضرع إلى الله ، ولم ترجع عما زينه لها الشيطان من الإعراض والعناد . . وهنا يملي لها الله - سبحانه - ويستدرجها بالرخاء :
{ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء . حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ، فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا ، والحمد لله رب العالمين } . .
إن الرخاء ابتلاء آخر كابتلاء الشدة . وهو مرتبة أشد وأعلى من مرتبة الشدة والله يبتلي بالرخاء كما يبتلي بالشدة . يبتلي الطائعين والعصاة سواء . بهذه وبذاك سواء . . والمؤمن يبتلى بالشدة فيصبر ، ويبتلى بالرخاء فيشكر . ويكون أمره كله خيراً . . وفي الحديث : « عجباً للمؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له » ( رواه مسلم ) .
فأما هذه الأمم التي كذبت بالرسل ، والتي يقص الله من أنبائها هنا .

فإنهم لما نسوا ما ذكروا به ، وعلم الله - سبحانه - أنهم مهلكون ، وابتلاهم بالبأساء والضراء فلم يتضرعوا . . فأما هؤلاء فقد فتح عليهم أبواب كل شيء للاستدراج بعد الابتلاء . .
والتعبير القرآني : { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } . . يصور الأرزاق والخيرات ، والمتاع ، والسلطان . . متدفقة كالسيول؛ بلا حواجز ولا قيود وهي مقبلة عليهم بلا عناء ولا كد ولا حتى محاولة
إنه مشهد عجيب؛ يرسم حالة في حركة؛ على طريقة التصوير القرآني العجيب .
{ حتى إذا فرحوا بما أوتوا } . .
وغمرتهم الخيرات والأرزاق المتدفقة؛ واستغرقوا في المتاع بها والفرح لها - بلا شكر ولا ذكر - وخلت قلوبهم من الاختلاج بذكر المنعم ومن خشيته وتقواه؛ وانحصرت اهتماماتهم في لذائذ المتاع واستسلموا للشهوات ، وخلت حياتهم من الاهتمامات الكبيرة كما هي عادة المستغرقين في اللهو والمتاع . وتبع ذلك فساد النظم والأوضاع ، بعد فساد القلوب والأخلاق؛ وجر هذا وذلك إلى نتائجه الطبيعية من فساد الحياة كلها . . عندئذ جاء موعد السنة التي لا تتبدل :
{ أخذناهم بغتة ، فإذا هم مبلسون } . .
فكان أخذهم على غرة؛ وهم في سهوة وسكرة . فإذا هم حائرون منقطعو الرجاء في النجاة عاجزون عن التفكير في أي اتجاه . واذا هم مهلكون بجملتهم حتى آخر واحد منهم .
{ فقطع دابر القوم الذين ظلموا } . .
ودابر القوم هو آخر واحد منهم يدبرهم أي يجيء على أدبارهم فإذا قطع هذا فأوائلهم أولى . . و { الذين ظلموا } تعني هنا الذين أشركوا . . كما هو التعبير القرآني في أغلب المواضع عن الشرك بالظلم وعن المشركين بالظالمين . .
{ والحمد لله رب العالمين } . .
تعقيب على استئصال الظالمين ( المشركين ) بعد هذا الاستدراج الإلهي والكيد المتين . . وهل يحمد الله على نعمة ، أجل من نعمة تطهير الأرض من الظالمين ، أو على رحمة أجل من رحمته لعباده بهذا التطهير؟
لقد أخذ الله قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط ، كما أخذ الفراعنة والإغريق والرومان وغيرهم بهذه السنة؛ ووراء ازدهار حضارتهم ثم تدميرها ، ذلك السر المغيب من قدر الله؛ وهذا القدر الظاهر من سنته؛ وهذا التفسير الرباني لهذا الواقع التاريخي المعروف .
ولقد كان لهذه الأمم من الحضارة؛ وكان لها من التمكين في الأرض؛ وكان لها من الرخاء والمتاع؛ ما لا يقل - إن لم يزد في بعض نواحيه - عما تتمتع به اليوم أمم؛ مستغرقة في السلطان والرخاء والمتاع؛ مخدوعة بما هي فيه؛ خادعة لغيرها ممن لا يعرفون سنة الله في الشدة والرخاء . .
هذه الأمم لا تدرك أن هناك سنة ، ولا تشعر أن الله يستدرجها وفق هذه السنة . والذين يدورون في فلكها يبهرهم اللألاء الخاطف ، ويتعاظمهم الرخاء والسلطان ، ويخدعهم إملاء الله لهذه الأمم ، وهي لا تعبد الله أو لا تعرفه ، وهي تتمرد على سلطانه ، وهي تدعي لأنفسها خصائص ألوهيته ، وهي تعيث في الأرض فساداً ، وهي تظلم الناس بعد اعتدائها على سلطان الله .

.
ولقد كنت - في أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأمريكية - أرى رأي العين مصداق قول الله سبحانه : { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء } . . فإن المشهد الذي ترسمه هذه الآية . . مشهد تدفق كل شيء من الخيرات والأرزاق بلا حساب . . لا يكاد يتمثل في الأرض كلها كما يتمثل هناك
وكنت أرى غرور القوم بهذا الرخاء الذي هم فيه ، وشعورهم بأنه وقف على « الرجل الأبيض » وطريقة تعاملهم مع الملونين في عجرفة مرذولة ، وفي وحشية كذلك بشعة وفي صلف على أهل الأرض كلهم لا يقاس إليه صلف النازية الذي شهر به اليهود في الأرض كلها حتى صار علماً على الصلف العنصري . بينما الأمريكي الأبيض يزاوله تجاه الملونين في صورة أشد وأقسى وبخاصة إذا كان هؤلاء الملونون من المسلمين . .
كنت أرى هذا كله فأذكر هذه الآية ، وأتوقع سنة الله ، وأكاد أرى خطواتها وهي تدب إلى الغافلين :
{ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } . .
وإذا كان الله قد رفع عذاب الاستئصال بعد بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهناك ألوان من العذاب باقية . والبشرية - وبخاصة الأمم التي فتحت عليها أبواب كل شيء - تذوق منها الكثير . على الرغم من هذا النتاج الوفير ، ومن هذا الرزق الغزير
إن العذاب النفسي ، والشقاء الروحي ، والشذوذ الجنسي ، والانحلال الخلقي . . الذي تقاسي منه هذه الأمم اليوم ، ليكاد يغطي على الإنتاج والرخاء والمتاع؛ وليكاد يصبغ الحياة كلها بالنكد والقلق والشقاء ذلك إلى جانب الطلائع التي تشير إليها القضايا الأخلاقية السياسية ، التي تباع فيها أسرار الدولة ، وتقع فيها الخيانة للأمة ، في مقابل شهوة أو شذوذ . . وهي طلائع لا تخطىء على نهاية المطاف
وليس هذا كله إلا بداية الطريق . . وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا - على معاصيه - ما يحب . فإنما هو استدراج » . ثم تلا { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء . حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } . . ( رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ) .
غير أنه ينبغي ، مع ذلك ، التنبيه إلى أن سنة الله في تدمير ( الباطل ) أن يقوم في الأرض ( حق ) يتمثل في ( أمة ) . . ثم يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذاهو زاهق . . فلا يقعدنّ أهل الحق كسالى يرتقبون أن تجري سنة الله بلا عمل منهم ولا كد . فإنهم حينئذ لا يمثلون الحق ، ولا يكونون أهله . . وهم كسالى قاعدون . . والحق لا يتمثل إلا في أمة تقوم لتقر حاكمية الله في الأرض ، وتدفع المغتصبين لها من الذين يدعون خصائص الألوهية .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36