كتاب : في ظلال القرآن
المؤلف : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي

. نحس بها عميقة حية مؤثرة . كما لا نحس من خلال أي تعبير آخر . . وصفي أو تحليلي . . وتلك طريقة القرآن في مشاهد القيامة ، وفي غيرها من مواضع التعبير بالتصوير .
وقد بدأ الدرس بالأمر بعبادة الله والنهي عن إشراك شيء به . . والصلاة أمس الشعائر بمعنى العبادة . وفي الآية التالية بيان لبعض أحكامها ، وأحكام الطهارة الممهدة لها :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى - حتى تعلموا ما تقولون - ولا جنباً - إلا عابري سبيل - حتى تغتسلوا . وإن كنتم مرضى أو على سفر ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء ، فتيمموا صعيداً طيباً ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم . إن الله كان عفواً غفوراً « . .
إنها حلقة في سلسلة التربية الربانية للجماعة المسلمة - التي التقطها المنهج الإسلامي من سفح الجاهلية - وكانت الخمر إحدى تقاليد المجتمع الجاهلي الأصلية الشاملة؛ وإحدى الظواهر المميزة لهذا المجتمع . كما أنها تكاد تكون ظاهرة مميزة لكل جاهلية في القديم والحديث أيضاً . . الخمر كانت ظاهرة مميزة للمجتمع الروماني في أوج جاهليته؛ وللمجتمع الفارسي أيضاً . وكذلك هي اليوم ظاهرة مميزة للمجتمع الأوربي والمجتمع الأمريكي في أوج جاهليته والشأن أيضاً كذلك في جاهلية المجتمع الإفريقي المتخلفة من الجاهلية الأولى
في السويد - وهي أرقى أو من أرقى أمم الجاهلية الحديثة - كانت كل عائلة في النصف الأول من القرن الماضي تعد الخمر الخاصة بها . وكان متوسط ما يستهلكه الفرد ، حوالي عشرين لتراً . وأحست الحكومة خطورة هذه الحال ، وما ينشره من إدمان؛ فاتجهت إلى سياسة احتكار الخمور ، وتحديد الاستهلاك الفردي ، ومنع شرب الخمور في المحال العامة ، ولكنها عادت فخففت هذه القيود منذ أعوام قليلة فأبيح شرب الخمر في المطاعم بشرط تناول الطعام . ثم أبيحت الخمر في عدد محدود من المحال العامة ، حتى منتصف الليل فقط وبعد ذلك يباح شرب » النبيذ والبيرة « فحسب وإدمان الخمر عند المراهقين يتضاعف . .
أما في أمريكا ، فقد حاولت الحكومة الأمريكية مرة القضاء على هذه الظاهرة فسنت قانوناً في سنة 1919 سمي قانون » الجفاف « من باب التهكم عليه ، لأنه يمنع » الري « بالخمر وقد ظل هذا القانون قائماً مدة أربعة عشر عاماً ، حتى اضطرت الحكومة إلى إلغائه في سنة1933 . وكانت قد استخدمت جميع وسائل النشر والإذاعة والسينما والمحاضرات للدعاية ضد الخمر . ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليوناً من الدولارات . وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على عشرة بلايين صفحة .

وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاما لا يقل عن250 مليون جنيه وقد أعدم فيها نفس 300 وسجن كذلك 532335 نفسا وبلغت الغرامات 16 مليون جنيه وصادرت من الأملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة بلايين جنيه وبعد ذلك كله اضطرت إلى التراجع وإلغاء القانون فأما الإسلام فقضى على هذه الظاهرة العميقة في المجتمع الجاهلي ببضع آيات من القرآن وهذا هو الفرق في علاج النفس البشرية وفي علاج المجتمع الإنساني بين منهج الله ومناهج الجاهلية قديما وحديثا على السواء ولكي ندرك تغلغل هذه الظاهرة في المجتمع الجاهلي يجب أن نعود إلى الشعر الجاهلي ; حيث نجد الخمر عنصرا أساسيا من عناصر المادة الأدبية ; كما أنه عنصر أساسي من عناصر الحياة كلها لقد بلغ من شيوع تجارة الخمر أن أصبحت كلمة التجارة مرادفة لبيع الخمر يقول لبيد
قد بت سامرها وغاية تاجر ... وافيت إذ رفعت وعز مدامها
ويقول عمرو بن قميئة
إذا أسحب الريط والمروط إلى ... أدني تجاري وأنفض اللمما
ووصف مجالس الشراب والمفاخرة بها تزحم الشعر الجاهلي وتطبعه طابعا ظاهرا يقول امرؤ القيس
وأصبحت ودعت الصبا غير ... أنني أراقب خلات من العيش أربعا
فمنهن قولي للندامى تفرفقوا ... يداجون نشاجا من الخمر مترعا
ومنهن ركض الخيل ترجم بالقنا ... يبادرن سربا آمنا أن يفزعا
الخ
ويقول طرفة بن العبد
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وما زال تشرابي الخمور ولذتي ... وبذلي وإنفاقي طريفي وتالدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد
ويقول الأعشى
فقد أشرب الراح قد تعلمين ... يوم المقام ويوم الظعن
وأشرب بالريف حتى يقال ... قد طال بالريف ما قد دجن
ويقول المنخل اليشكري
ولقد شربت من المدامة ... بالصغير وبالكبير
فإذا سكرت فإنني ... رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني ... رب الشويهة والبعير
وغير هذا كثير في الشعر الجاهلي ورواية الحوادث التي صاحبت مراحل تحريم الخمر في المجتمع المسلم والرجال الذين كانوا أبطال هذه الحوادث وفيهم عمر وعلي وحمزة وعبدالرحمن بن عوف وأمثال هذا الطراز من الرجال تشي بمدى تغلغل هذه الظاهرة في الجاهلية العربية وتكفي عن الوصف المطول المفصل يقول عمر رضي الله عنه في قصة إسلامه في رواية كنت صاحب خمر في الجاهلية فقلت لو أذهب إلى فلان الخمار فأشرب وظل عمر يشرب الخمر في الإسلام حتى إذا نزلت آية يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما قال اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر

. واستمر . . حتى إذا نزلت هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } . . قال : اللهم بيّن لنا بياناً شافياً في الخمر حتى إذا نزلت آية التحريم الصريحة : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } . قال : انتهينا انتهينا وانتهى . .
وفي سبب نزول هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } ترد روايتان يشترك في أحداثهما علي وعبد الرحمن بن عوف من المهاجرين . وسعد بن معاذ من الأنصار .
روى ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود - بإسناده - عن مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال : « نزلت في أربع آيات . صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعا أناساً من المهاجرين وأناساً من الأنصار . فأكلنا وشربنا ، حتى سكرنا ، ثم افتخرنا ، فرفع رجل لحي بعير ( عظم الفك ) فغرز بها أنف سعد . فكان سعد مغروز الأنف . وذلك قبل تحريم الخمر . فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } . . والحديث بطوله عند مسلم من رواية شعبة .
وروى ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار . حدثنا عبد الرحمن بن عبدالله الدشتكي أبو جعفر . عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : » صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً ، فدعانا ، وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة ، فقدموا فلاناً قال : فقرأ قل يا أيها الكافرون . ما أعبد ما تعبدون . ونحن نعبد ما تعبدون فأنزل الله : { يا أيها الذين أمنوا لا تقربوا الصلاة وأنت سكارى حتى تعلموا ما تقولون } .
ولا نحتاج إلى مزيد من الأمثلة والروايات؛ لندلل على تغلغل ظاهرة الخمر في المجتمع الجاهلي . فهي كانت والميسر ، الظاهرتين البارزتين؛ المتداخلتين ، في تقاليد هذا المجتمع . .
فماذا صنع المنهج الرباني لمقاومة هذه الظاهرة المتغلغلة؟ ماذا صنع لمكافحة هذه الآفة ، التي لا يقوم معها مجتمع جاد صالح مستقيم واع أبداً؟ ماذا صنع ليقف في وجه عادة أصيلة قديمة ، تتعلق بها تقاليد اجتماعية؛ كما تتعلق بها مصالح اقتصادية؟
لقد عالج المنهج الرباني هذا كله ببضع آيات من القرآن؛ وعلى مراحل ، وفي رفق وتؤدة . وكسب المعركة . دون حرب . ودون تضحيات . ودون إراقة دماء . . والذي أريق فقط هو دنان الخمر وزقاقها وجرعات منها كانت في أفواه الشاربين - حين سمعوا آية التحريم - فمجوها من أفواهم . ولم يبلعوها . كما سيجيء
في مكة - حيث لم يكن للإسلام دولة ولا سلطان . . إلا سلطان القرآن - وردت في القرآن المكي تلميحة سريعة إلى نظرة الإسلام للخمر . تدرك من ثنايا العبارة . وهي مجرد إشارة :
جاء في سورة النحل :

{ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } . فوضع « السكر » وهو الشراب المسكر الذي كانوا يتخذونه من ثمرات النخيل والأعناب ، وفي مقابل الرزق الحسن ملمحا بهذا التقابل إلى أن السكر شيء . والرزق « الحسن » شيء آخر . . وكانت مجرد لمسة من بعيد؛ للضمير المسلم الوليد
ولكن عادة الشراب ، أو تقليد الشراب - بمعنى أدق - فقد كان أعمق من عادة فردية . كان تقليداً اجتماعياً ، له جذور اقتصادية . . كان أعمق من أن تؤثر فيه هذه اللمسة السريعة البعيدة . .
وفي المدينة حيث قامت للإسلام دولة وكان له سلطان . . لم يلجأ إلى تحريم الخمر بقوة الدولة وسيف السلطان . إنما كان أولاً سلطان القرآن . .
وبدأ المنهج عمله في رفق وفي يسر ، وفي خبرة بالنفس البشرية ، والأوضاع الاجتماعية . .
بدأ بآية البقرة رداً على أسئلة تدل على فجر اليقظة في الضمير المسلم ضد الخمر والميسر : { يسألونك عن الخمر والميسر . قل : فيهما إثم كبير ، ومنافع للناس . . وإثمهما أكبر من نفعهما . . } وكانت هي الطرقة الأولى ، ذات الصوت المسموع . . في الحس الإسلامي ، وفي الضمير الإسلامي ، وفي المنطق الفقهي الإسلامي . . فمدار الحل والحرمة . . أو الكراهية . . على رجحان الإثم أو رجحان الخير ، في أمر من الأمور . . وإذا كان إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما . . فهذا مفرق الطريق . .
ولكن الأمر كان أعمق من هذا . . وقال عمر - رضي الله عنه - : « اللهم بين لنا بياناً شافياً في الخمر » . . عمر وهذا وحده يكفي لبيان عمق هذا التقليد في نفس العربي
ثم حدثت أحداث - كالتي رويناها - ونزلت هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ، حتى تعلموا ما تقولون } . .
وأخذ المنهج البصير الرفيق يعمل . .
لقد كانت هذه هي المرحلة الوسيطة ، بين التنفير من الخمر ، لأن إثمها أكبر من نفعها ، وبين التحريم البات ، لأنها رجس من عمل الشيطان . وكانت وظيفة هذه المرحلة الوسيطة : هي « قطع عادة الشراب » أو « كسر الإدمان » . . وذلك بحظر الشراب قرب أوقات الصلاة . وأوقات الصلاة موزعة على مدار النهار . وبينها فترات لا تكفي للشراب - الذي يرضي المدمنين - ثم الإفاقة من السكر الغليظ حتى يعلموا ما يقولون فضلاً على أن للشراب كذلك أوقاتاً ومواعيد خاصة من الصبوح والغبوق . . صباحاً ومساء . . وهذه تتخللها وتعقبها أوقات الصلاة . . وهنا يقف ضمير المسلم بين أداء الصلاة وبين لذة الشراب . . وكان هذا الضمير قد بلغ أن تكون الصلاة عنده عماد الحياة . .
ومع ذلك . . فقد قال عمر رضي الله عنه - وهو عمر - « اللهم بين لنا بياناً شافياً في الخمر » . .
ثم مضى الزمن . ووقعت الأحداث . وجاء الوعد المناسب - وفق ترتيب المنهج - للضربة الحاسمة .

فنزلت الآيتان في المائدة : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ، فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟ } وانتهى المسلمون كافة . وأريقت زقاق الخمر ، وكسرت دنانها في كل مكان . . بمجرد سماع الأمر . . ومج الذين كان في أفواههم جرعات من الخمر ما في أفواههم - حين سمعوا ولم يبلعوها وهي في أفواههم . وهم شاربون . .
لقد انتصر القرآن . وأفلح المنهج . وفرض سلطانه - دون أن يستخدم السلطان
ولكن كيف كان هذا؟ كيف تمت هذه المعجزة ، التي لا نظير لها في تاريخ البشر؛ ولا مثيل لها في تاريخ التشريعات والقوانين والإجراءات الحكومية في أي مكان ، ولا في أي زمان؟
لقد تمت المعجزة ، لأن المنهج الرباني ، أخذ النفس الإنسانية ، بطريقته الخاصة . . أخذها بسلطان الله وخشيته ومراقبته ، وبحضور الله - سبحانه - فيها حضوراً لا تملك الغفلة عنه لحظة من زمان . . أخذها جملة لا تفاريق . . وعالج الفطرة بطريقة خالق الفطرة . .
لقد ملأ فراغها باهتمامات كبيرة لا تدع فيها فراغاً تملؤه بنشوة الخمر ، وخيالات السكر ، وما يصاحبها من مفاخرات وخيلاء . . في الهواء . .
ملأ فراغها باهتمامات . منها : نقل هذه البشرية الضالة الشاردة كلها ، من تيه الجاهلية الأجرد ، وهجيرها المتلظي ، وظلامها الدامس ، وعبوديتها المذلة ، وضيقها الخانق ، إلى رياض الإسلام البديعة ، وظلاله الندية ، ونوره الوضيء ، وحريته الكريمة ، وسعته التي تشمل الدنيا والآخرة
وملأ فراغها - وهذا هو الأهم - بالإيمان . بهذا الإحساس الندي الرضي الجميل البهيج . فلم تعد في حاجة إلى نشوة الخمر ، تحلق بها في خيالات كاذبة وسمادير وهي ترف بالإيمان المشع إلى الملأ الأعلى الوضيء . . وتعيش بقرب الله ونوره وجلاله . . وتذوق طعم هذا القرب ، فتمج طعم الخمر ونشوتها؛ وترفض خمارها وصداعها؛ وتستقذر لوثتها وخمودها في النهاية
إنه استنقذ الفطرة من ركام الجاهلية؛ وفتحها بمفتاحها ، الذي لا تفتح بغيره؛ وتمشى في حناياها وأوصالها؛ وفي مسالكها ودروبها . . ينشر النور ، والحياة ، والنظافة ، والطهر ، واليقظة ، والهمة ، والاندفاع للخير الكبير والعمل الكبير ، والخلافة في الأرض ، على أصولها ، التي قررها العليم الخبير ، وعلى عهد الله وشرطه ، وعلى هدى ونور . .
إن الخمر - كالميسر . كبقية الملاهي . كالجنون بما يسمونه « الألعاب الرياضية » والإسراف في الاهتمام بمشاهدها . . كالجنون بالسرعة . . كالجنون بالسينما . . كالجنون « بالمودات » « والتقاليع » . . كالجنون بمصارعة الثيران . . كالجنون ببقية التفاهات التي تغشى حياة القطعان البشرية في الجاهلية الحديثة اليوم ، جاهلية الحضارة الصناعية
إن هذه كلها ليست إلا تعبيراً عن الخواء الروحي . . من الإيمان أولاً . . ومن الاهتمامات الكبيرة التي تستنفد الطاقة ثانياً . . وليست إلا إعلاناً عن إفلاس هذه الحضارة في إشباع الطاقات الفطرية بطريقة سوية . . ذلك الخواء وهذا الإفلاس هما اللذان يقودان إلى الخمر والميسر لملء الفراغ ، كما يقودان إلى كل أنواع الجنون التي ذكرنا .

. وهما بذاتهما اللذان يقودان إلى « الجنون » المعروف ، وإلى المرض النفسي والعصبي . . وإلى الشذوذ . .
إنها لم تكن كلمات . . هي التي حققت تلك المعجزة الفريدة . . إنما كان منهج . منهج هذه الكلمات متنه وأصله . منهج من صنع رب الناس . لا من صنع الناس وهذا هو الفارق الأصيل بينه وبين كل ما يتخذه البشر من مناهج ، لا تؤدي إلى كثير
إنه ليست المسألة أن يقال كلام فالكلام كثير . وقد يكتب فلان من الفلاسفة . أو فلان من الشعراء . أو فلان من المفكرين . أو فلان من السلاطين قد يكتب كلاماً منمقاً جميلاً يبدو أنه يؤلف منهجاً ، أو مذهباً ، أو فلسفة . . الخ . . ولكن ضمائر الناس تتلقاه ، بلا سلطان . لأنه « ما أنزل الله به من سلطان » فمصدر الكلمة هو الذي يمنحها السلطان . . وذلك فوق ما في طبيعة المنهج البشري ذاته من ضعف ومن هوى ومن جهل ومن قصور
فمتى يدرك هذه الحقيقة البسيطة من يحاولون أن يضعوا لحياة الناس مناهج ، غير منهج العليم الخبير؟ وأن يشرعوا للناس قواعد غير التي شرعها الحكيم البصير؟ وأن يقيموا للناس معالم لم يقمها الخلاق القدير؟ متى؟ متى ينتهون عن هذا الغرور؟؟؟
ونعود من هذا الاستطراد إلى الآية الكريمة :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى - تعلموا ما تقولون - ولا جنباً - إلا عابري سبيل - حتى تغتسلوا . . . }
كما منعت الآية - الذين آمنوا - أن يقربوا الصلاة وهم سكارى - حتى يعلموا ما يقولون - كذلك منعتهم من الصلاة وهم جنب - إلا عابري سبيل - حتى يغتسلوا . . .
وتختلف الأقوال في المقصود من « عابري سبيل » كما تختلف في معنى قرب الصلاة المنهي عنه . .
فقول : إن المقصود هو عدم قرب المساجد ، أو المكث فيها ، لمن كان جنباً ، حتى يغتسل . إلا أن يكون عابراً بالمسجد مجرد عبور . وقد كان جماعة من الصحابة أبواب بيوتهم تفتح في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو طريقهم من وإلى هذه البيوت . فرخص لهم في المرور - وهم جنب - لا بالمكث في المسجد - ولا الصلاة بطبيعة الحال - إلا بعد الاغتسال .
وقول : إن المقصود هو الصلاة ذاتها . والنهي عن أدائها للجنب - إلا بعد الاغتسال - مالم يكن مسافراً . فيحل له عندئذ أن يقصد المسجد وأن يصلي - بلا اغتسال - ولكن بالتيمم . الذي يسد مسد الغسل - عندئذ - كما يسد مسد الوضوء . .
والقول الأول يبدو أظهر وأوجه . لأن الحالة الثانية - حالة السفر - ذكرت في الآية نفسها بعد ذلك . فتفسير عابري سبيل - بالمسافرين ، ينشىء تكراراً للحكم في الآية الواحدة ، لا ضرورة له :
{ وإن كنتم مرضى ، أو على سفر ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء - فلم تجدوا ماء - فتيمموا صعيداً طيباً .

فامسحوا بوجوهكم وأيديكم . إن الله كان عفواً غفوراً } . .
فهذا النص يشمل حالة المسافر - عندما يصيبه حدث أكبر فيكون جنباً في حاجة إلى الغسل أو حدث أصغر ، فيكون في حاجة إلى الوضوء ، لأداء الصلاة .
والنص يسويه في هذه الحالة بمن كان مريضاً ، فألم به حدث أكبر أو أصغر . أو بمن جاء من الغائط ( والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه ، فكنى عن الفعل بالمجيء من مكان الفعل ) فأصابه حدث أصغر يقتضي الوضوء . أو بمن لامس النساء . .
وفي { لامستم النساء } . . أقوال كذلك :
قول : إنه كناية عن الجماع . . فهو يستوجب الغسل .
وقول إنه يعني حقيقة اللمس . . لمس أي جزء من جسم الرجل لجسم المرأة . . وهو يستوجب الوضوء في بعض المذاهب ، ولا يستوجبه في بعضها . بتفصيلات تطلب في كتب الفروع نذكر منها إجمالاً :
« أ » اللمس يوجب الوضوء إطلاقاً .
« ب » اللمس يوجب الوضوء إذا كان اللامس ممن تثور الشهوة في نفسه باللمس . وإذا كانت الملموسة ممن تثير الشهوة باللمس .
« ج » اللمس يوجب الوضوء إذا أحس اللامس نفسه - حسب تقديره في كل حالة - أن اللمسة أثارت في نفسه حركة .
« د » اللمس لا يوجب الوضوء إطلاقاً ، ولا العناق ولا التقبيل للزوجة . .
ولكل قول سنده من أفعال أو من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم . . على طريقة الاختلافات الفقهية في الفروع .
والذي نرجحه في معنى { أو لامستم النساء } أنه كناية عن الفعل الذي يستوجب الغسل . وبذلك نستغني هنا عن كل الخلافات في مسألة الوضوء . .
وفي جميع هذه الحالات المذكورة ، سواء كانت الحالة تستوجب الغسل أو تستوجب الوضوء للصلاة . . حين لا يوجد الماء - وكذلك حين يوجد ولكن استعماله يكون ضاراً أو غير مقدور عليه - يغني عن الغسل والوضوء : التيمم . وقد جاء اسمه من نص الآية .
{ فتيمموا صعيداً طيباً } . .
أي فاقصدوا صعيداً طيباً . . طاهراً . . والصعيد كل ما كان من جنس الأرض من تراب . أو حجر . أو حائط . ولو كان التراب مما على ظهر الدابة . أو في الفراش من ذرات التراب المتطاير . متى كان هناك تراب يتطاير عند ضرب اليدين به .
وطريقة التيمم : إما خبطة واحدة بالكفين على الصعيد الطاهر . ثم نفضهما . ثم مسح الوجه . ثم مسح اليدين إلى المرفقين بهما . . وإما خبطتان : خبطة يمسح بها الوجه ، وخبطة يمسح بها الذراعان . . ولا داعي هنا لذكر الخلافات الفقهية الدقيقة فيما وراء هذا . . فهذا الدين يسر ، وفي شرعية التيمم يتجلى معنى التيسير واضحاً :
{ إن الله كان عفواً غفوراً } . .
وهو التعقيب الموحي بالتيسير .

وبالعطف على الضعف ، وبالمسامحة في القصور . والمغفرة في التقصير . .
وقبل أن ننهي الحديث عن هذه الآية وعن هذا الدرس . . نقف أمام بضع لمسات في هذه الآية القصيرة :
نقف أمام « حكمة التيمم » . نحاول استيضاح ما ييسره لنا الله من حكمتها . .
إن بعض الباحثين في حكمة التشريعات والعبادات الإسلامية ، يندفعون أحياناً في تعليل هذه الأحكام؛ بصورة توحي بأنهم استقصوا هذه الحكمة؛ فلم يعد وراء ما استقصوه شيء وهذا منهج غير سليم في مواجهة النصوص القرآنية والأحكام التشريعية . . ما لم يكن قد نص على حكمتها نصاً . . وأولى : أن نقول دائماً : إن هذا ما استطعنا أن نستشرفه من حكمة النص أو الحكم . وأنه قد تكون دائماً هنالك أسرار من الحكمة لم يؤذن لنا في استجلائها وبذلك نضع عقلنا البشري - في مكانه - أمام النصوص والأحكام الإلهية . بدون إفراط ولا تفريط . .
أقول هذا ، لأن بعضنا - ومنهم المخلصون - يحبون أن يقدموا النصوص والأحكام الإسلامية للناس ، ومعها حكمة محددة ، مستقاة مما عرفه البشر من واقعهم أو مما كشف عنه « العلم الحديث » وهذا حسن - ولكن في حدود - هي الحدود التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة .
وكثيراً ما ذكر عن حكمة الوضوء - قبل الصلاة - أنها النظافة . .
وقد يكون هذا المعنى مقصوداً في الوضوء . ولكن الجزم بأنه هو . . وهو دون غيره . . هو المنهج غير السليم . وغير المأمون أيضاً :
فقد جاء وقت قال بعض المماحكين : لا حاجة بنا إلى هذه الطريقة البدائية : فالنظافة الآن موفورة . والناس يجعلونها في برنامج حياتهم اليومي . فإذا كانت هذه هي « حكمة الوضوء » فلا داعي للوضوء إذن للصلاة بل . . لا داعي للصلاة أيضاً
وكثيراً ما ذكر عن « حكمة الصلاة » . . . تارة أنها حركات رياضية تشغل الجسم كله وتارة بأنها تعويد على النظام : أولاً في مواقيتها . وثانياً في حركاتها . وثالثاً في نظام الصفوف والإمامة . . . الخ . وتارة أنها الاتصال بالله في الدعاء والقراءة . . وهذا وذاك وذلك قد يكون مقصوداً . . ولكن الجزم بأن هذا أو ذاك أو ذلك هو « حكمة الصلاة » يتجاوز المنهج السليم والحد المأمون .
وقد جاء حين من الدهر قال بعضهم فيه : إنه لا حاجة بنا إلى حركات الصلاة الرياضية . فالتدريبات الرياضية المنوعة كفيلة بهذا بعد أن أصبحت الرياضة فناً من الفنون
وقال بعضهم : ولا حاجة بنا إلى الصلاة لتعود النظام . فعندنا الجندية - مجال النظام الأكبر . وفيها غناء
وقال بعضهم : لا حاجة لتحتيم شكل هذه الصلاة . فالاتصال بالله يمكن أن يتم في خلوة ونجوة بعيداً عن حركات الجوارح ، التي قد تعطل الاستشراف الروحي
وهكذا . . إذا رحنا « نحدد » حكمة كل عبادة . وحكمة كل حكم . ونعلله تعليلاً وفق « العقل البشري » أو وفق « العلم الحديث » ثم نجزم بأن هذا هو المقصود .

. فإننا نبعد كثيراً عن المنهج السليم في مواجهة نصوص الله وأحكامه . كما نبعد كذلك عن الحد المأمون . ونفتح الباب دائماً للمماحكات . فوق ما تحتمله تعليلاتنا من خطأ جسيم . وبخاصة حين نربطها بالعلم . والعلم قلب لا يثبت على حال . وهو كل يوم في تصحيح وتعديل
وهنا في موضوعنا الحاضر - موضوع التيمم - يبدو أن حكمة الوضوء أو الغسل ، ليست هي « مجرد » النظافة . وإلا فإن البديل من أحدهما أو من كليهما ، لا يحقق هذه « الحكمة » فلا بد إذن من حكمة « أخرى » للوضوء أو الغسل . تكون متحققة كذلك في « التيمم » . .
ولا نريد نحن أن نقع في الغلطة نفسها فنجزم ولكننا نقول فقط : إنها - ربما - كانت هي الاستعداد النفسي للقاء الله ، بعمل ما ، يفصل بين شواغل الحياة اليومية العادية ، وبين اللقاء العظيم الكريم . . ومن ثم يقوم التيمم - في هذا الجانب - مكان الغسل أو مكان الوضوء . .
ويبقى وراء هذا علم الله الكامل الشامل اللطيف؛ بدخائل النفوس ، ومنحنياتها ودروبها ، التي لا يعلمها إلا اللطيف الخبير . . ويبقى أن نتعلم نحن شيئاً من الأدب مع الجليل العظيم العلي الكبير . .
ونقف مرة أخرى أمام حرص المنهج الرباني على الصلاة؛ وعلى إقامتها في وجه جميع الأعذار والمعوقات . وتذليل هذه المعوّقات . والتيسير البادي في إحلال التيمم محل الوضوء ، ومحل الغسل ، أو محلهما معاً ، عند تعذر وجود الماء؛ أو عند التضرر بالماء ( أو عند الحاجة إلى الماء القليل للشرب وضروريات الحياة ) وكذلك عند السفر ( حتى مع وجود الماء في أقوال ) . .
إن هذا كله يدل - بالاضافة إلى ما سيأتي في السورة من بيان كيفية الصلاة عند الخوف - في ميدان القتال - على حرص شديد من المنهج الرباني ، على الصلاة . . بحيث لا ينقطع المسلم عنها لسبب من الأسباب ( ويبدو ذلك كذلك في المرض حيث تؤدى الصلاة من قعود ، أو من اضطجاع ، أو من نوم . وتؤدى بحركات من جفني العين عندما يشق تحريك الجسم والأطراف )
إنها هذه الصلة بين العبد والرب . الصلة التي لا يحب الله للعبد أن ينقطع عنها . لأنه - سبحانه - يعلم ضرورتها لهذا العبد . فالله سبحانه غني عن العالمين . ولا يناله من عبادة العباد شيء . إلا صلاحهم هم . وإلا ما يجدون في الصلاة والاتصال بالله ، من العون على تكاليفهم ، والاسترواح لقلوبهم ، والاطمئنان لأرواحهم . والإشراق في كيانهم؛ والشعور بأنهم في كنف الله ، وقربه ، ورعايته ، بالطريقة التي تصلح لفطرتهم . . والله أعلم بفطرتهم هذه ، وبما يصلح لها وما يصلحها . . وهو أعلم بمن خلق . وهو اللطيف الخبير .
ونقف كذلك أمام بعض التعبيرات الرائقة في هذا النص القصير :
ذلك حين يعبر عن قضاء الحاجة في الغائط بقوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } .

. فلا يقول : إذا عملتم كذا وكذا . . بل يكتفي بالعودة من هذا المكان ، كناية عما تم فيه ومع هذا لا يسند الفعل إلى المخاطبين . فلا يقول : أو جئتم من الغائط . بل يقول : { أو جاء أحد منكم من الغائط } زيادة في أدب الخطاب ، ولطف الكناية . ليكون هذا الأدب نموذجاً للبشر حين يتخاطبون
وحين يعبر عما يكون بين الرجل والمرأة بقوله : { أو لامستم النساء } والتعبير بالملامسة أرق وأحشم وأرقى - والملامسة قد تكون مقدمة للفعل أو تعبيراً عنه - وعلى أية حال فهو أدب يضربه الله للناس ، في الحديث عن مثل هذه الشؤون . عندما لا يكون هناك مقتض للتعبير المكشوف .
وحين يعبر عن الصعيد الطاهر ، بأنه الصعيد الطيب . ليشير إلى أن الطاهر طيب . وأن النجس خبيث . . وهو إيحاء لطيف المدخل إلى النفوس . .
وسبحان خالق النفوس . العليم بهذه النفوس

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)

ابتداء من هذا الدرس في السورة ، تبدأ المعركة التي يخوضها القرآن بالجماعة المسلمة ، في مواجهة الجاهلية المحيطة بها - واليهود من أهل الكتاب خاصة - تلك المعركة التي شهدنا مواقعها ومجالاتها في سورتي البقرة وآل عمران من قبل . . وهي هي . . والمعسكرات المعادية هي هي كذلك المعسكرات التي تحدثنا عنها في تقديم سورة البقرة ، وفي تقديم سورة آل عمران ، وفي تقديم هذه السورة كذلك .
ابتداء من هذا الدرس تبدأ المعركة الخارجية . معركة الجماعة المسلمة مع المعسكرات المعادية من حولها . . ولكن هذا في الحقيقة ليس بدء المعركة . فكل ما سبق في السورة من التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والعائلية والأخلاقية؛ ومحو الملامح الجاهلية - في المجتمع المسلم الذي التقطه المنهج الرباني من سفح الجاهلية - وتخطيط وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة في هذا المجتمع . . كل ذلك لم يكن بعيداً عن المعركة الخارجية مع أعداء الجماعة المسلمة في المدينة خاصة؛ وفي الجزيرة عامة . . إنما كان التمهيد الحقيقي لها ، والاستعداد الحقيقي لمواجهتها . . كانت تلك معركة البناء . بناء هذا المجتمع الجديد ، على أسس المنهج الإسلامي الجديد؛ كي يستطيع أن يواجه المجتمعات المعادية من حوله ، ويتفوق عليها .
وكما رأينا في سورتي البقرة وآل عمران العناية تتجه أولاً إلى بناء هذا المجتمع من داخله . بناء عقيدته وتصوراته ، وأخلاقه ومشاعره ، وتشريعاته وأوضاعه ، إلى جانب تعليم الجماعة المسلمة كل شيء عن طبيعة أعدائها ، ووسائلهم ، وتحذيرها من كيدهم ومكرهم ، وتوجيهها إلى المعركة معهم بقلوب مطمئنة ، وعيون مفتوحة ، وإرادات محشودة ، ومعرفة بطبيعة المعركة وطبيعة الأعداء . . كذلك نجد الأمر هنا في هذه السورة ، سواء بسواء .
لقد كان القرآن فيها جميعاً ، يخوض المعركة بالجماعة المسلمة ، في كل جبهة . . كان يخوضها في الضمائر والمشاعر ، حيث ينشى ء فيها عقيدة جديدة ، ومعرفة بربها جديدة ، وتصوراً للوجود جديداً ، ويقيم فيها موازين جديدة ، وينشىء فيها قيماً جديدة؛ ويستنقذ فطرتها من ركام الجاهلية؛ ويمحو ملامح الجاهلية في النفس والمجتمع؛ وينشىء ويثبت ملامح الإسلام الوضيئة الجميلة . . ثم يقودها في المعركة مع أعدائها المتربصين بها في الداخل والخارج . . اليهود والمنافقين والمشركين . . وهي على أتم استعداد للقائهم ، والتفوق عليهم؛ بمتانة بنائها الداخلي الجديد : الاعتقادي والأخلاقي والاجتماعي والتنظيمي سواء . .
ولقد كان التفوق الحقيقي للمجتمع المسلم على المجتمعات الجاهلية من حوله - بما فيها مجتمع اليهود القائم في قلب المدينة - هو تفوقه في البناء الروحي والخلقي والاجتماعي والتنظيمي - بفضل المنهج القرآني الرباني - قبل أن يكون تفوقاً عسكرياً أو اقتصادياً أو مادياً على العموم
بل هو لم يكن قط تفوقاً عسكرياً واقتصادياً - مادياً - فقد كان أعداء المعسكر الإسلامي دائماً أكثر عدداً ، وأقوى عدة ، وأغنى مالاً ، وأوفر مقدرات مادية على العموم سواء في داخل الجزيرة العربية ، أو في خارجها في زمن الفتوحات الكبرى بعد ذلك .

. ولكن التفوق الحقيقي كان في ذلك البناء الروحي والخلقي والاجتماعي - ومن ثم السياسي والقيادي - الذي أسسه الإسلام بمنهجه الرباني المتفرد .
وبهذا التفوق الساحق على الجاهلية في بنائها الروحي والخلقي والاجتماعي - ومن ثم السياسي والقيادي - اجتاح الإسلام الجاهلية . . اجتاحها أولاً في الجزيرة العربية . واجتاحها ثانياً في الإمبراطوريتين العظيمتين الممتدتين حوله : إمبراطوريتي كسرى وقيصر . . ثم بعد ذلك في جوانب الأرض الأخرى . سواء كان معه جيش وسيف ، أم كان معه مصحف وأذان
ولولا هذا التفوق الساحق ما وقعت تلك الخارقة التي لم يعرف لها التاريخ نظيراً . حتى في الاكتساحات العسكرية التاريخية الشهيرة . كزحف التتار في التاريخ القديم . وزحف الجيوش الهتلرية في التاريخ الحديث . . ذلك أنه لم يكن اكتساحاً عسكرياً فحسب . ولكنه كان اكتساحاً عقيدياً . ثقافياً . حضارياً كذلك يتجلى فيه التفوق الساحق الذي يطوي - من غير إكراه - عقائد الشعوب ولغاتها ، وتقاليدها وعاداتها . . الأمر الذي لا نظير له على الإطلاق في أي اكتساح عسكري آخر ، قديماً أو حديثاً
لقد كان تفوقاً « إنسانياً » كاملاً . تفوقاً في كل خصائص « الإنسانية » ومقوماتها . كان ميلاداً آخر للإنسان . ميلاد إنسان جديد غير الذي تعرفه الأرض على وجه اليقين والتأكيد . ومن ثم صبغ البلاد التي غمرها هذا المد بصبغته؛ وترك عليها طابعه الخاص؛ وطغى هذا المد على رواسب الحضارات التي عاشت عشرات القرون من قبل في بعض البلاد . كالحضارة الفرعونية في مصر . وحضارة البابليين والأشوريين في العراق ، وحضارة الفينيقيين والسريان في الشام . لأنه كان أعمق جذوراً في الفطرة البشرية؛ وأوسع مجالاً في النفس الإنسانية ، وأضخم قواعد وأشمل اتجاهات في حياة بني الإنسان ، من كل تلك الحضارات .
وغلبة اللغة الإسلامية واستقرارها في هذه البلاد ، ظاهرة عجيبة ، لم تستوف ما تستحقه من البحث والدراسة والتأمل ، وهي في نظري أعجب من غلبة العقيدة واستقرارها . إذ أن اللغة من العمق في الكينونة البشرية ومن التشابك مع الحياة الاجتماعية . بحيث يعد تغييرها على هذا النحو معجزة كاملة وليس الأمر في هذا هو أمر « اللغة العربية » . فاللغة العربية كانت قائمة؛ ولكنها لم تصنع هذه المعجزة في أي مكان على ظهر الأرض - قبل الاسلام - ومن ثم سميتها « اللغة الإسلامية » فالقوة الجديدة التي تولدت في اللغة العربية ، وأظهرت هذه المعجزة على يديها ، كانت هي « الإسلام » قطعاً
وكذلك اتجهت العبقريات الكامنة في البلاد المفتوحة ( المفتوحة للحرية والنور والطلاقة ) اتجهت إلى التعبير عن ذاتها - لا بلغاتها الأصلية - لكن باللغة الجديدة . لغة هذا الدين . اللغة الإسلامية . وأنتجت بهذه اللغة في كل حقل من حقول الثقافة نتاجاً تبدو فيه الأصالة؛ ولا يلوح عليه الاحتباس من معاناة التعبير في لغة غريبة - غير اللغة الأم - لقد أصبحت اللغة الإسلامية هي اللغة الأم فعلاً لهذه العبقريات .

. ذلك أن الرصيد الذي حملته هذه اللغة كان من الضخامة أولاً؛ ومن ملاصقة الفطرة ثانياً؛ بحيث كان أقرب إلى النفوس وأعمق فيها من ثقافاتها القديمة . ومن لغاتها القديمة أيضاً
لقد كان هذا الرصيد هو رصيد العقيدة والتصور؛ ورصيد البناء الروحي والعقلي والخلقي والاجتماعي الذي أنشاه المنهج الإسلامي في فترة وجيزة . وكان من الضخامة والعمق واللصوق بالفطرة ، بحيث أمد اللغة - لغة الإسلام - بسلطان لا يقاوم . كما أمد الجيوش - جيوش الإسلام - بسلطان لا يقاوم كذلك
وبغير هذا التفسير يصعب أن نعلل تلك الظاهرة التاريخية الفريدة .
وعلى أية حال فهذا موضوع يطول شرحه . فحسبنا منه هذه اللمحة في سياق الظلال . .
منذ هذا الدرس في هذه السورة تبدأ المعركة مع المعسكرات المعادية المتربصة بالجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة . . ففي هذا الدرس تعجيب من حال اليهود وتصرفاتهم في مواجهة الدين الجديد والجماعة التي تمثله . . وفي الدرس الذي يليه بيان لوظيفة الجماعة المسلمة ، وطبيعة منهجها ، وحد الإسلام ، وشرط الإيمان ، الذي يتميز به منهجها وحياتها ونظامها . . وفي الدرس الذي يليه دعوة لهذه الجماعة للذود عن منهجها ووضعها ووجودها؛ وكشف للمنافقين المندسين فيها؛ وبيان لطبيعة الموت والحياة وقدر الله الذي يجري بهما؛ وهو جزء من تربية هذه الجماعة ، وإعدادها لوظيفتها وللمعركة مع أعدائها . . وفي الدرس الذي يليه مزيد من الحديث عن المنافقين؛ وتحذير للجماعة المسلمة من الانقسام في شأنهم ، أو الدفاع عن تصرفاتهم . ثم تفصيل للإجراءات التي تواجه بها الجماعة المسلمة شتى المعسكرات من حولها - أي لقواعد قانون المعاملات الدولية - وفي الدرس الذي يليه نجد نموذجاً لرفعة الإسلام في معاملته ليهودي فرد في المجتمع الإسلامي . . والدرس الذي يليه جولة مع الشرك والمشركين ، وتوهين للأسس التي يقوم عليها المجتمع المشرك في الجزيرة . . ويتوسط هذه المعركة لمحة من التنظيم الداخلي ، ترتبط بأوائل السورة في شأن الأسرة . . ثم يجيء الدرس الأخير - في هذا الجزء - خاصاً بالنفاق والمنافقين؛ يهبط بهم إلى الدرك الأسفل من النار
وهذه الإشارات الخاطفة تبين لنا طبيعة مجالات المعركة وجوانبها المتعددة - في الداخل والخارج . . وطبيعة التوافق والتكامل ، بين المعركة الداخلية والمعركة الخارجية في حياة المجتمع الإسلامي الأول . . وهي هي بذاتها معركة الأمة المسلمة اليوم وغداً في أساسها وحقيقتها .
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ، يشترون الضلالة ، ويريدون أن تضلوا السبيل؟ والله أعلم بأعدائكم ، وكفى بالله ولياً ، وكفى بالله نصيراً . من الذين هادوا ، يحرفون الكلم عن مواضعه . ويقولون : سمعنا وعصينا ، واسمع - غير مسمع - وراعنا .

ليّاً بألسنتهم ، وطعناً في الدين . ولو أنهم قالوا : سمعنا وأطعنا ، واسمع وانظرنا ، لكان خيراً لهم وأقوم . ولكن لعنهم الله بكفرهم ، فلا يؤمنون إلا قليلاً } . .
إنه التعجيب الأول - من سلسلة التعجيبات الكثيرة - من موقف أهل الكتاب - من اليهود - يوجه الخطاب فيه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو إلى كل من يرى هذا الموقف العجيب المستنكر :
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب . . يشترون الضلالة . ويريدون أن تضلوا السبيل } . .
لقد كان من شأن أن يؤتوا نصيباً من الكتاب . . الهداية . . فقد آتاهم الله التوراة ، على يدي موسى عليه السلام ، لتكون هداية لهم من ضلالتهم الأولى . . ولكنهم يدعون هذا النصيب . يدعون الهداية . ويشترون الضلالة والتعبير بالشراء يعني القصد والنية في المبادلة ففي أيديهم الهدى ولكنهم يتركونه ويأخذون الضلالة . فكأنما هي صفقة عن علم وعن قصد وعمد . لا عن جهل أو خطأ أو سهو وهو أمر عجيب مستنكر ، يستحق التعجيب منه والاستنكار .
ولكنهم لا يقفون عند هذا الأمر العجيب المستنكر . بل هم يريدون أن يضلوا المهتدين . يريدون أن يضلوا المسلمين . . بشتى الوسائل وشتى الطرق . التي سبق ذكرها في سورتي البقرة وآل عمران؛ والتي سيجيء طرف منها في هذه السورة كذلك . . فهم لا يكتفون بضلال أنفسهم الذي يشترونه؛ بل يحاولون طمس معالم الهدى من حولهم؛ حتى لا يكون هناك هدى ولا مهتدون
وفي هذه اللمسة : الأولى ، والثانية ، تنبيه للمسلمين وتحذير؛ من ألاعيب اليهود وتدبيرهم . . ويا له من تدبير وإثارة كذلك لنفوس المسلمين ضد الذين يريدون لهم الضلالة بعد الهدى . وقد كان المسلمون يعتزون بهذا الهدى؛ ويعادون من يحاول ردهم عنه إلى جاهليتهم التي عرفوها وعرفوا الإسلام . فكرهوها وأحبوا الإسلام وكرهوا كل من يحاول ردهم إليها في قليل أو كثير . . وكان القرآن يخاطبهم هكذا ، عن علم من الله ، بما في صدورهم من هذا الأمر الكبير .
ومن ثم يعقب على إبراز هذه المحاولة من اليهود ، بالتصريح بأن هؤلاء أعداء للمسلمين . وبتطمين الجماعة المسلمة إلى ولاية الله ونصره ، إزاء تلك المحاولة :
{ والله أعلم بأعدائكم . وكفى بالله ولياًَ . وكفى بالله نصيراً } . .
وهكذا يصرح العداء ويستعلن ، بين الجماعة المسلمة واليهود في المدينة . . وتتحدد الخطوط . .
وقد كان التعجيب من أهل الكتاب عامة - وكان المفهوم أن المعنيين هم يهود المدينة - ولكن السياق لا يكتفي بهذا المفهوم . بل يمضي فيعين اليهود . ثم يصف حالهم وتصرفاتهم وسوء أدبهم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الفترة التي يبدو أنها كانت في أوائل سنوات الهجرة ، قبل أن تخضد شوكتهم في المدينة :
{ من الذين هادوا ، يحرفون الكلم عن مواضعه؛ ويقولون : سمعنا وعصينا . واسمع - غير مسمع - وراعنا لياً بألسنتهم وطعناً في الدين . } . .
لقد بلغ من التوائهم ، وسوء أدبهم مع الله عز وجل : أن يحرفوا الكلام عن المقصود به .

والأرجح أن ذلك يعني تأويلهم لعبارات التوراة بغير المقصود منها . وذلك كي ينفوا ما فيها من دلائل على الرسالة الأخيرة؛ ومن أحكام كذلك وتشريعات يصدقها الكتاب الأخير؛ وتدل وحدتها في الكتابين على المصدر الواحد؛ وتبعاً لهذا على صحة رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم . وتحريف الكلم عن المقصود به ، ليوافق الأهواء ظاهرة ملحوظة في كل رجال دين ينحرفون عن دينهم ، ويتخذونه حرفة وصناعة ، يوافقون بها أهواء ذوي السلطان في كل زمان؛ وأهواء الجماهير التي تريد التفلت من الدين . . واليهود أبرع من يصنع ذلك . وإن كان في زماننا هذا من محترفي دين المسلمين من ينافسون - في هذه الخصلة - اليهود
ثم بلغ من التوائهم وسوء أدبهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقولوا له : سمعنا يا محمد ما تقول . ولكننا عصينا فلا نؤمن ولا نتبع ولا نطيع - مما يدل على أن هذه الآيات نزلت في وقت مبكر ، حيث كانت لليهود هذه الجرأة على مواجهة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يضيفون إلى التبجح سوء الأدب والخلق والالتواء أيضاً . إذ يقولون للرسول - صلى الله عليه وسلم - :
{ واسمع - غير مسمع - وراعنا } . .
ففي ظاهر اللفظ أنهم يقولون : اسمع - غير مأمور بالسمع وهي ( صيغة تأدب ) - وراعنا : أى : انظر إلينا نظرة رعاية لحالنا أو نظرة اهتمام لوضعنا . بما أنهم أهل كتاب ، فلا ينبغي أن يدعوا إلى إلاسلام كالمشركين
أما في الليّ الذي يلوونه ، فهم يقصدون : اسمع - لا سمعت ، ولا كنت سامعاً - ( أخزاهم الله ) . وراعنا يميلونها إلى وصف « الرعونة »
وهكذا . . تبجح وسوء أدب ، والتواء ومداهنة ، وتحريف للكلم عن مواضعه وعن معانيه . .
إنها يهود
وبعد أن يحكي القرآن هذا عنهم؛ يقرر المنهج اللائق بأهل الكتاب؛ والأدب الجدير بمن أوتوا نصيباً منه . ويطمعهم - بعد ذلك كله - في الهداية والجزاء الحسن والفضل والخير من الله . لو ثابوا إلى الطريق القويم . وذلك مع بيان حقيقة طبيعتهم . وأنها هكذا كانت وهكذا تكون :
{ ولو أنهم قالوا : سمعنا وأطعنا ، واسمع وانظرنا ، لكان خيراً لهم وأقوم ، ولكن لعنهم الله بكفرهم ، فلا يؤمنون إلاقليلاً « . .
فهم لا يواجهون الحق بهذه الصراحة وهذه النصاعة وهذه الاستقامة . ولو أنهم واجهوه هكذا بالألفاظ الصريحة التي لا التواء فيها :
{ سمعنا وأطعنا ، واسمع وانظرنا } .
لكان هذا خيراً لهم ، وأقوم لطبيعتهم وأنفسهم وحالهم . ولكن واقع الأمر أنهم - بسبب كفرهم - مطرودون من هداية . الله فلا يؤمن منهم إلا القليل .
وصدق قول الله . . فلم يدخل في الإسلام - في تاريخه الطويل - إلا القليل من اليهود .

ممن قسم الله لهم الخير ، وأراد لهم الهدى؛ باجتهادهم للخير وسعيهم للهدى . أما كتلة اليهود ، فقد ظلت طوال أربعة عشر قرناً ، حرباً على الإسلام والمسلمين . منذ أن جاورهم الإسلام في المدينة إلى اللحظة الحاضرة . وكيدهم للإسلام كان هو الكيد الواصب الذي لا ينقطع ، العنيد الذي لا يكف ، المنوع الأشكال والألوان والفنون ، منذ ذلك الحين وما من كيد كاده أحد للإسلام في تاريخه كله - بما في ذلك كيد الصليبية العالمية والاستعمار بشتى أشكاله - إلا كان من ورائه اليهود . أو كان لليهود فيه نصيب
بعد ذلك يتجه الخطاب إلى الذين أوتوا الكتاب - اليهود - دعوة إلى الكتاب المصدق لما بين أيديهم؛ وتهديداً لهم بالمسخ واللعن المتوقعين من وراء عنادهم وأفاعيلهم . ودمغاً لهم بالشرك والانحراف عن التوحيد الخالص ، الذي عليه دينهم ، والله لا يغفر أن يشرك به . . وفي الوقت ذاته بيان عام لحدود المغفرة الواسعة؛ وبشاعة الشرك حتى إنه ليخرج من هذه الحدود :
{ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا ، مصدقاً لما معكم ، من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها ، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت . . وكان أمر الله مفعولاً . إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك - لمن يشاء - ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً } . .
إنه نداء لهم بالصفة التي كان من شأنها أن يكونوا أول المستجيبين؛ وبالسبب الذي كان من شأنه أن يكونوا أول المسلمين :
{ يا أيها الذين أوتوا الكتاب ، آمنوا بما نزلنا ، مصدقاً لما معكم } . .
فهم أوتوا الكتاب ، فليس غريباً عليهم هذا الهدى . والله الذي آتاهم الكتاب هو الذي يدعوهم إلى الإيمان بما أنزل مصدقاً لما معهم . فليس غريباً عليهم كذلك . وهو مصدق لما معهم . .
ولو كان الإيمان بالبينة . أو بالأسباب الظاهرة . لآمنت يهود أول من آمن . ولكن يهود كانت لها مصالح ومطامح . وكانت لها أحقاد وعناد . وكانت هي بطبعها منحرفة صلبة الرقبة . . كما تعبر عنهم التوراة بأنهم : « شعب صلب الرقبة » . ومن ثم لم تؤمن . ومن ثم يجيئها التهديد العنيف القاسي :
{ من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها . أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت . وكان أمر الله مفعولاً } . .
وطمس الوجوه إزالة معالمها المميزة لآدميتها؛ وردها على أدبارها ، دفعها لأن تمشي القهقرى . . وقد يكون المقصود هو التهديد بمعناه المادي؛ الذي يفقدهم آدميتهم ويردهم يمشون على أدبارهم؛ ويكون كذلك اللعن الذي أصاب أصحاب السبت ( وهم الذين احتالوا على صيد السمك يوم السبت ، وهو محرم عليهم في شريعتهم ) هو مسخهم بالفعل قردة وخنازير . . كما قد يكون المقصود طمس معالم الهدى والبصيرة في نفوسهم ، وردهم إلى كفرهم وجاهليتهم ، قبل أن يؤتيهم الله الكتاب . والكفر بعد الإيمان ، والهدى بعد الضلال ، طمس للوجوه والبصائر ، وارتداد على الأدبار دونه كل ارتداد .

وسواء كان هذا هو المقصود أو ذاك . . فهو التهديد الرعيب العنيف؛ الذي يليق بطبيعة يهود الجاسية الغليظة؛ كما يليق بفعالهم اللئيمة الخبيثة
وقد كان ممن ارتدع بهذا التهديد : كعب الأحبار فأسلم :
أخرج ابن أبي حاتم : حدثنا أبي . حدثنا ابن نفيل . حدثنا عمرو بن واقد ، عن يونس بن جليس ، عن أبى إدريس عائذ الله الخولاني ، قال : كان أبو مسلم الخليلي معلم كعب . وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فبعثه إليه ينظر : أهو هو؟ قال كعب : فركبت حتى أتيت المدينة . فإذا تال يقرأ القرآن يقول : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم ، من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها . . . } فبادرت الماء فاغتسلت ، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس ثم أسلمت .
والتعقيب على هذا التهديد :
{ وكان أمر الله مفعولاً } . .
فيه توكيد للتهديد ، يناسب كذلك طبيعة اليهود
ثم يجيء تعقيب يتضمن تهديداً آخر في الآخرة . تهديداً بعدم المغفرة لجريمة الشرك . مع فتح أبواب الرحمة الإلهية كلها لما دون ذلك من الذنوب :
{ إن الله لا يغفر أن يشرك به؛ ويغفر ما دون ذلك - لمن يشاء - ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً } . .
وسياق الآية هكذا يتضمن اتهام اليهود بالشرك؛ ودعوتهم إلى الإيمان الخالص والتوحيد . ولا يذكر هنا القول أو الفعل الذي يعده عليهم شركاً . . وقد ورد في مواضع أخرى تفصيل لهذا : فقد روى القرآن عنهم قولهم : { عزير ابن الله } كقول النصارى { المسيح ابن الله } وهو شرك لا شك فيه كذلك روى عن هؤلاء وهؤلاء أنهم { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } . وهم لم يكونوا يعبدون الأحبار والرهبان . إنما كانوا - فقط - يقرون لهم بحق التشريع . حق التحليل والتحريم . الحق الخاص بالله ، والذي هو من خصائص الألوهية . ومن ثم اعتبرهم القرآن مشركين . . ولهذا الاعتبار قيمة خاصة في التصور الإسلامي الصحيح لحد الإسلام وشرط الإيمان - كما سيجيء في سياق السورة بالتفصيل .
وعلى أية حال فاليهود على عهد الرسالة المحمدية كانت عقائدهم في الجزيرة حافلة بالوثنيات ، منحرفة عن التوحيد . والتهديد هنا موجه إليهم بأن الله يغفر ما دون الشرك - لمن يشاء - ولكنه لا يتسامح في إثم الشرك العظيم . ولا مغفرة عنده لمن لقيه مشركاً به؛ لم يرجع في الدنيا عن شركه .
إن الشرك انقطاع ما بين الله والعباد . فلا يبقى لهم معه أمل في مغفرة . إذا خرجوا من هذه الدنيا وهم مشركون . مقطوعو الصلة بالله رب العالمين . وما تشرك النفس بالله ، وتبقى على هذا الشرك حتى تخرج من الدنيا - وأمامها دلائل التوحيد في صفحة الكون وفي هداية الرسل - ما تفعل النفس هذا وفيها عنصر من عناصر الخير والصلاحية .

إنما تفعله وقد فسدت فساداً لا رجعة فيه وتلفت فطرتها التي برأها الله عليها ، وارتدت أسفل سافلين ، وتهيأت بذاتها لحياة الجحيم
أما ما وراء هذا الإثم المبين الواضح الظاهر ، والظلم العظيم الوقح الجاهر . . أما ما وراء ذلك من الذنوب - والكبائر - فإن الله يغفره - لمن يشاء - فهو داخل في حدود المغفرة - بتوبة أو من غير توبة كما تقول بعض الروايات المأثورة الواردة - ما دام العبد يشعر بالله؛ ويرجو مغفرته؛ ويستيقن أنه قادر على أن يغفر له؛ وأن عفوه لا يقصر عن ذنبه . . وهذا منتهى الأمد في تصوير الرحمة التي لا تنفد ولا تحد؛ والمغفرة التي لا يوصد لها باب؛ ولا يقف عليها بوّاب
أخرج البخاري ومسلم - كلاهما - عن قتيبة ، عن جرير بن عبد الحميد ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن زيد بن وهب ، « عن أبي ذر ، قال : خرجت ليلة من الليالي ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي وحده ، وليس معه إنسان . قال : فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد . قال فجعلت أمشي في ظل القمر . فالتفت فرآني . فقال : » من هذا « فقلت : أبو ذر - جعلني الله فداك - قال : » يا أبا ذر تعال « قال : فمشيت معه ساعة . فقال لي : » إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة ، إلا من أعطاه الله خيراً ، فيجعل يبثه عن يمينه وشماله وبين يديه ووراءه ، وعمل فيه خيراً « قال : فمشيت معه ساعة ، فقال لي : » اجلس ها هنا « . فأجلسني في قاع حوله حجارة . فقال لي : » اجلس هاهنا حتى أرجع إليك « قال : فانطلق في الحرة حتى لا أراه . فلبث عني ، حتى إذا طال اللبث . . ثم إني سمعته وهو مقبل يقول : » وإن زنى وإن سرق « قال فلما جاء لم أصبر حتى قلت : يا نبي الله - جعلني الله فداك - من تكلمه في جانب الحرة ، ؟ فإني سمعت أحداً يرجع إليك . قال : » ذلك جبريل ، عرض لي جانب الحرة ، فقال : « بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة » . قلت أيا جبريل . وإن سرق وإن زنى؟ « . قال : » نعم « . » قلت : وإن سرق وإن زنى؟ « قال : نعم . وإن شرب الخمر » .
وأخرج ابن أبى حاتم - بإسناده - « عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما من نفس تموت ، لا تشرك بالله شيئاً ، إلا حلت لها المغفرة إن شاء الله عذبها ، وإن شاء غفر لها . إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء »

.
وأخرج ابن أبي حاتم - بإسناده - عن ابن عمر قال . « كنا - أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نشك في قاتل النفس ، وآكل مال اليتيم ، وقاذف المحصنات ، وشاهد الزور . حتى نزلت : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فأمسك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشهادة
وروى الطبراني - بإسناده - عن عكرمة ، » عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله عز وجل : من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي . ما لم يشرك بي شيئاً «
وفي هذا الحديث الأخير لمحة كاشفة . . فالمهم هو شعور القلب بالله على حقيقته - سبحانه - ومن وراء هذا الشعور الخير . والرجاء . والخوف . والحياء . . فإذا وقع الذنب ، فمن ورائه هذه السمات تؤهل للتقوى وتؤهل للمغفرة .
ثم يمضي القرآن - وهو يخوض المعركة بالجماعة المسلمة مع اليهود في المدينة - يعجب من أمر هؤلاء الخلق؛ الذين يزعمون أنهم شعب الله المختار؛ ويثنون على أنفسهم؛ ويزكونها؛ بينما هم يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويتطاولون على الله ورسوله - كما سبق - وبينما هم يؤمنون بالجبت والطاغوت - كما سيجيء - كاذبين على الله في تزكيتهم لأنفسهم ، وفي زعمهم أنهم مقربون إليه مهما عملوا من السوء :
{ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم؟ بل الله يزكي من يشاء ، ولا يظلمون فتيلاً . انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثماً مبيناً } . .
ودعوى اليهود أنهم شعب الله المختار هي دعواهم من قديم . وقد اختارهم الله فعلاً لحمل الأمانة وأداء الرسالة ، وفضلهم على العالمين في ذلك الأوان؛ وأهلك لهم فرعون وملأه ، وأورثهم الأرض المقدسة . . ولكنهم هم انحرفوا بعد ذلك عن منهج الله؛ وعتوا في الأرض عتواً كبيرا ، واجترحوا السيئات التي تضج منها الأرض ، وأحل لهم أحبارهم ما حرم الله وحرموا عليهم ما أحله لهم ، واتبعوهم؛ ولم ينكروا عليهم حق الألوهية هذا الذي ادعوه عملياً - بهذا التحريم والتحليل - وقد بدل هؤلاء الأحبار في شريعة الله ، ليرضوا ذوي السلطان والشرفاء؛ وليملقوا كذلك رغبات الجماهير وأهواءهم . وبذلك اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله . وأكلوا الربا . . ووهنت علاقتهم بدين الله وكتابة الذي أنزله عليهم . . وعلى الرغم من ذلك كله - وغيره كثير - فقد ظلوا يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه . وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة . وأنه لا يهتدي ولا يقبل عند الله إلا من كان هوداً كأن المسألة مسألة قرابة ونسب ومحاباة بينهم وبين الله - تعالى عن ذلك علواً كبيراً - فالله لا تصل بينه وبين أحد من خلقه قرابة ولا نسب؛ إنما تربط عباده به العقيدة المستقيمة والعمل الصالح ، والاستقامة على منهج الله .

. فمن أخل بهذا فقد غضب الله عليه . ويشتد غضبه إذا كان قد آتى الضالين الهدى فانحرفوا عنه وما شأن هؤلاء اليهود إلا شأن من يزعمون الإسلام اليوم ، ويحسبون أنهم من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن الله لا بد ناصرهم ، ومخرج لهم اليهود من أرضهم . . بينما هم ينسلخون انسلاخاً كاملاً من دين الله الذي هو منهجه للحياة؛ فينبذونه من حياتهم؛ ولا يتحاكمون إلى كتاب الله لا في أقضيتهم ولا في اقتصادهم ، ولا في اجتماعهم ، ولا في آدابهم ، ولا في تقاليدهم . وكل ما لهم من الإسلام أسماء المسلمين وأنهم ولدوا في أرض كان المسلمون يسكنونها ذات يوم ويقيمون فيها دين الله ، ويحكمون منهجه في الحياة
والله يعجب رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أمر أولئك اليهود الذين يزكون أنفسهم . وأمر « المسلمين » المعاصرين أعجب ، وأشد إثارة للتعجيب والتعجب
إنه ليس الناس هم الذين يزكون أنفسهم؛ ويشهدون لها بالصلاح والقرب من الله واختيار الله . إنما الله هو الذي يزكي من يشاء . فهو أعلم بالقلوب والأعمال . ولن يظلم الناس شيئاً ، وإذا هم تركوا هذا التقدير لله - سبحانه - واتجهوا إلى العمل . لا إلى الادعاء . فلئن عملوا - وهم ساكتون متواضعون في حياء من الله ، وبدون تزكية ولا ادعاء - فلن يغبنوا عند الله؛ ولن ينسى لهم عمل؛ ولن يبخس لهم حق .
والله - سبحانه - يشهد على اليهود أنهم - إذ يزكون أنفسهم ويدعون أن الله راض عنهم - يفترون عليه الكذب . ويشنع بفعلتهم هذه ، ويوجه الأنظار إلى بشاعتها :
{ انظر . كيف يفترون على الله الكذب . وكفى به إثماً مبينا « .
وما أرى أننا - الذين ندعي الإسلام لأننا نحمل أسماء المسلمين ، ونعيش في أرض كان يسكنها المسلمون بينما نحن لا نجعل الإسلام في شيء من منهجنا في الحياة . . ما أحسبنا ونحن ندعي الإسلام ، فنشوه الإسلام بصورتنا وواقعنا؛ ونؤدي ضده شهادة منفرة منه ثم ونحن ندعي أن الله مختار لنا لأننا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بينما دين محمد ومنهجه مطرود من واقع حياتنا طرداً . . ما أحسبنا إلا في مثل هذا الموضع ، الذي يعجب الله - سبحانه - منه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويدمغ أصحابه بافتراء الكذب على الله ، وارتكاب هذا الإثم المبين والعياذ بالله
إن دين الله منهج حياة . وطاعة الله هي تحكيم هذا المنهج في الحياة . والقرب من الله لا يكون إلا بطاعته . . فلننظر أين نحن من الله ودينه ومنهجه . . ثم لننظر أين نحن من حال هؤلاء اليهود ، الذين يعجب الله من حالهم ، ويدمغهم بإثم الافتراء عليه في تزكيتهم لأنفسهم فالقاعدة هي القاعدة .

والحال هي الحال . وليس لأحد عند الله نسب ولا صهر ولا محاباة
ويمضي السياق في التعجيب من أمر أولئك الذين يزكون أنفسهم . . بينما هم يؤمنون بالباطل وبالأحكام التي لا تستند إلى شرع الله ، وليس لها ضابط منه يعصمها من الطغيان : « الجبت والطاغوت » وبينما هم يشهدون للشرك والمشركين بأنهم أهدى من المؤمنين بكتاب الله ومنهجه وشريعته ، ويحمل عليهم - بعد التعجيب من أمرهم ، وذكر هذه المخازي عنهم - حملة عنيفة؛ ويرذلهم ترذيلاً شديداً؛ ويظهر كامن طباعهم من الحسد والبخل؛ والأسباب الحقيقية التي تجعلهم يقفون هذا الموقف إلى جانب انحرافهم عن دين إبراهيم - الذي يفخرون بالانتساب إليه - وينهي هذه الحملة بتهديدهم بجهنم . { وكفى بجهنم سعيراً } .
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ، يؤمنون بالجبت والطاغوت ، ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً أولئك الذين لعنهم الله . ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً . أم لهم نصيب من الملك؟ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا . أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؟ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة؛ وآتيناهم ملكاً عظيماً . فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه؛ وكفى بجهنم سعيراً } . .
لقد كان الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ، أولى الناس أن يتبعوا الكتاب؛ وأن يكفروا بالشرك الذي يعتنقه من لم يأتهم من الله هدى؛ وأن يحكموا كتاب الله في حياتهم ، فلا يتبعوا الطاغوت - وهو كل شرع لم يأذن به الله ، وكل حكم ليس له من شريعة الله سند - ولكن اليهود - الذين كانوا يزكون أنفسهم ، ويتباهون بأنهم أحباء الله - كانوا في الوقت ذاته يتبعون الباطل والشرك باتباعهم للكهانة وتركهم الكهان والأحبار يشرعون لهم ما لم يأذن به الله . وكانوا يؤمنون بالطاغوت؛ وهو هذا الحكم الذي يقوم على غير شريعة الله . . وهو طاغوت لما فيه من طغيان - بادعاء الإنسان إحدى خصائص الألوهية - وهي الحاكمية - وبعدم انضباطه بحدود من شرع الله ، تلزمه العدل والحق . فهو طغيان ، وهو طاغوت؛ والمؤمنون به والمتبعون له ، مشركون أو كافرون . . يعجب الله من أمرهم ، وقد أوتوا نصيباً من الكتاب ، فلم يلتزموا بما أوتوه من الكتاب
ولقد كانوا يضيفون إلى الإيمان بالجبت والطاغوت ، موقفهم في صف المشركين الكفار ، ضد المؤمنين الذين آتاهم الله الكتاب أيضاً :
{ ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } . .
قال ابن إسحاق . حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة - أو عن سعيد بن جبير - عن ابن عباس . قال : « كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة ، حيي بن أخطب ، وسلام بن الحقيق ، وأبو رافع ، والربيع بن الحقيق ، وأبو عامر ، ووحوح بن عامر ، وهودة بن قيس ، فأما وحوح وأبو عامر وهودة ، فمن بني وائل ، وكان سائرهم من بني النضير .

. فلما قدموا على قريش قالوا : هؤلاء أحبار يهود ، وأهل العلم بالكتاب الأول . فاسألوهم : أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم . فقالوا : دينكم خير من دينه ، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه . فأنزل الله - عز وجل - : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } . . . إلى قوله عز وجل : { وآتيناهم ملكاً عظيماً } . . وهذا لعن لهم ، وإخبار بأنه لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة . لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين . وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم . وقد أجابوهم ، وجاءوا معهم يوم الأحزاب؛ حتى حفر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حول المدينة الخندق ، وكفى الله شرهم { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً . وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قوياً عزيزاً } وكان عجيباً أن يقول اليهود : إن دين المشركين خير من دين محمد ومن معه ، وإن المشركين أهدى سبيلاً من الذين آمنوا بكتاب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولكن هذا ليس بالعجيب من اليهود . . إنه موقفهم دائماً من الحق والباطل ، ومن أهل الحق وأهل الباطل . . إنهم ذوو أطماع لا تنتهي ، وذوو أهواء لا تعتدل ، وذوو أحقاد لا تزول وهم لا يجدون عند الحق وأهله عوناً لهم في شيء من أطماعهم وأهوائهم وأحقادهم إنما يجدون العون والنصرة - دائماً - عند الباطل وأهله . ومن ثم يشهدون للباطل ضد الحق؛ ولأهل الباطل ضد أهل الحق
هذه حال دائمة ، سببها كذلك قائم . . وكان طبيعياً منهم ومنطقياً أن يقولوا عن الذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً
وهم يقولونها اليوم وغداً . إنهم يشوهون بوسائل الدعاية والإعلام التي في أيديهم كل حركة إسلامية ناجحة على ظهر الأرض؛ ويعينون عليها أهل الباطل لتشويهها وتحطيمها - بالضبط كما كانوا يعينون مشركي قريش ويستنصرون بهم في الوقت ذاته - لتشويه الحركة الإسلامية الأولى وتحطيمها .
ولكنهم أحياناً - لخبثهم ولتمرسهم بالحيل الماكرة ولملابسات العصر الحديث - قد لا يثنون ثناء مكشوفاً على الباطل وأهله . بل يكتفون بتشويه الحق وأهله . ليعينوا الباطل على هدمه وسحقه . ذلك أن ثناءهم المكشوف - في هذا الزمان - أصبح متهماً ، وقد يثير الشبهات حول حلفائهم المستورين ، الذين يعملون لحسابهم ، في سحق الحركات الإسلامية في كل مكان . .
بل لقد يبلغ بهم المكر والحذق أحياناً ، أن يتظاهروا بعداوة وحرب حلفائهم ، الذين يسحقون لهم الحق وأهله . ويتظاهروا كذلك بمعركة كاذبة جوفاء من الكلام . ليبعدوا الشبهة تماماً عن أخلص حلفائهم ، الذين يحققون لهم أهدافهم البعيدة
ولكنهم لا يكفون أبداً عن تشويه الإسلام وأهله . . لأن حقدهم على الإسلام ، وعلى كل شبح من بعيد لأي بعث إسلامي ، أضخم من أن يداروه .

. ولو للخداع والتمويه
إنها جبلة واحدة ، وخطة واحدة ، وغاية واحدة . . هي التي من أجلها يجبههم الله باللعنة والطرد ، وفقدان النصير . والذي يفقد نصرة الله فما له من ناصر وما له من معين ولو كان أهل الأرض كلهم له ناصر وكلهم له معين :
{ أؤلئك الذين لعنهم الله . ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً } . .
ولقد يهولنا اليوم أن نجد دول الغرب كلها نصيراً لليهود . فنسأل : وأين وعد الله بأنه لعنهم ، وأن من يلعن الله فلن تجد له نصيراً؟
ولكن الناصر الحقيقي ليس هو الناس . ليس هو الدول . ولو كانت تملك القنابل الأيدروجينية والصواريخ . إنما الناصر الحق هو الله . القاهر فوق عباده : ومن هؤلاء العباد من يملكون القنابل الأيدروجينية والصواريخ
والله ناصر من ينصره . . { ولينصرن الله من ينصره } والله معين من يؤمن به حق الإيمان ، ويتبع منهجه حق الاتباع؛ ويتحاكم إلى منهجه في رضى وفي تسليم . .
ولقد كان الله - سبحانه - يخاطب بهذا الكلام أمة مؤمنة به ، متبعة لمنهجه ، محتكمة إلى شريعته . وكان يهوّن من شأن عدوها - اليهود - وناصريهم . وكان يعد المسلمين النصر عليهم لأنهم - اليهود - لا نصير لهم . وقد حقق الله لهم وعده . وعده الذى لا يناله إلا المؤمنون حقاً . والذي لا يتحقق إلا على أيدي العصبة المؤمنة حين تقوم .
فلا يهولننا ما نلقاه من نصرة الملحدين والمشركين والصليبيين لليهود . فهم في كل زمان ينصرونهم على الإسلام والمسلمين . . فليست هذه هي النصرة . . ولكن كذلك لا يخدعننا هذا . فإنما يتحقق هذا الأمر للمسلمين ويوم يكونون مسلمين
وليحاول المسلمون أن يجربوا - مرة واحدة - أن يكونوا مسلمين . ثم يروا بأعينهم إن كان يبقى لليهود نصير . أو أن ينفعهم هذا النصير
وبعد التعجيب من أمرهم وموقفهم وقولهم؛ وإعلان اللعنة عليهم والخذلان . . يأخذ في استنكار موقفهم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين؛ وغيظهم من أن يمن الله عليهم هذه المنة . . منة الدين والنصر والتمكين . وحسدهم لهم على ما أعطاعهم الله من فضله . وهم لم يعطوهم من عندهم شيئاً ويكشف في الوقت ذاته عن كزازة طبيعتهم؛ واستكثار أي عطاء يناله غيرهم؛ مع أن الله قد أفاض عليهم وعلى آبائهم ، فلم يعلمهم هذا الفيض السماحة؛ ولم يمنعهم من الحسد والكنود :
{ أم لهم نصيب من الملك؟ فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؟ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة ، وآتيناهم ملكاً عظيماً } . .
يا عجباً إنهم لا يطيقون أن ينعم الله على عبد من عباده بشيء من عنده . . فهل هم شركاؤه - سبحانه - هل لهم نصيب في ملكه ، الذي يمنح منه ويفيض؟ ولو كان لهم نصيب لضنوا - بكزازتهم وشحهم - أن يعطوا الناس نقيراً .

. والنقير النقرة تكون في ظهر النواة - وهذه لا تسمح كزازة يهود وأثرتها البغيضة أن تعطيها للناس ، لو كان لها في الملك نصيب والحمد لله أن ليس لها في الملك نصيب . . وإلا لهلك الناس جميعاً وهم لا يعطون حتى النقير
أم لعله الحسد . . حسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، على ما آتاهم الله من فضله . . من هذا الدين الذي أنشأهم نشأة أخرى ووهب لهم ميلاداً جديداً ، وجعل لهم وجوداً إنسانيا متميزاً؛ ووهبهم النور والثقة والطمأنينة واليقين؛ كما وهبهم النظافة والطهر ، مع العز والتمكين؟
وإنه فعلاً للحسد من يهود . مع تفويت أطماعها في السيادة الأدبية والاقتصادية على العرب الجاهلين المتفرقين المتخاصمين . . يوم أن لم يكن لهم دين . .
ولكن لماذا يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله من النبوة والتمكين في الأرض؟ وهم غارقون في فضل الله من عهد إبراهيم . . الذي آتاه الله وآله الكتاب والحكمة - وهي النبوة - وآتاهم الملك كذلك والسيادة . وهم لم يرعوا الفضل ولم يحتفظوا بالنعمة ، ولم يصونوا العهد القديم ، بل كان منهم فريق من غير المؤمنين . ومن يؤت هذا الفضل كله لا يليق أن يكون منهم جاحدون كافرون
{ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً . فمنهم من آمن به ، ومنهم من صد عنه } .
إنه لمن أَلأم الحسد : أن يحسد ذو النعمة الموهوب لقد يحسد المحروم ويكون الحسد منه رذيلة أما أن يحسد الواجد المغمور بالنعمة ، فهذا هو الشر الأصيل العميق شر يهود المتميز الفريد
ومن ثم يكون التهديد بالسعير ، هو الجزاء المقابل لهذا الشر النكير :
{ وكفى بجهنم سعيراً } . .
وعندما يبلغ السياق هذا المقطع من ذكر الإيمان والصدود عن الإيمان في آل إبراهيم ، يعقب بالقاعدة الشاملة للجزاء . جزاء المكذبين ، وجزاء المؤمنين . . هؤلاء وهؤلاء أجمعين . . في كل دين وفي كل حين؛ ويعرض هذا الجزاء في صورة مشهد من مشاهد القيامة العنيفة الرعيبة :
{ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً ، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب . إن الله كان عزيزاً حكيماً . والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها أبداً ، لهم فيها أزواج مطهرة ، وندخلهم ظلاً ظليلاً } . .
. . . { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب } . . .
إنه مشهد لا يكاد ينتهي . مشهد شاخص متكرر . يشخص له الخيال ، ولا ينصرف عنه إنه الهول . وللهول جاذبية آسرة قاهرة والسياق يرسم ذلك المشهد ويكرره بلفظ واحد . . « كلما » . . ويرسمه كذلك عنيفاً مفزعاً بشطر جملة . . { كلما نضجت جلودهم } . . ويرسمه عجيباً خارقاً للمألوف بتكملة الجملة . . { بدلناهم جلوداً غيرها } . . ويجمل الهول الرهيب المفزع العنيف كله في جملة شرطية واحدة لا تزيد
ذلك جزاء الكفر - وقد تهيأت أسباب الإيمان - وهو مقصود .

وهو جزاء وفاق :
{ ليذوقوا العذاب } . .
ذلك ، أن الله قادر على الجزاء . حكيم في توقيعه :
{ إن الله كان عزيزاً حكيماً } . .
وفي مقابل هذا السعير المتأجج . وفي مقابل الجلود الناضجة المشوية المعذبة . . كلما نضجت بدلت . ليعود الاحتراق من جديد . ويعود الألم من جديد . في مقابل هذا المشهد المكروب الملهوف . . نجد { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } في جنات ندية :
{ تجري من تحتها الأنهار } :
ونجد في المشهد ثباتاً وخلوداً مطمئناً أكيداً :
{ خالدين فيها أبداً }
ونجد في الجنات والخلد الدائم أزواجاً مطهرة :
{ لهم فيها أزواج مطهرة } . .
ونجد روح الظلال الندية؛ يرف على مشهد النعيم :
{ وندخلهم ظلاً ظليلاً } . .
تقابل كامل في الجزاء . وفي المشاهد . وفي الصور . وفي الإيقاع . . على طريقة القرآن في « مشاهد القيامة » ذات الإيحاء القوي النافذ العميق .

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)

هذا الدرس يتناول موضوعاً خطيراً . . الموضوع الأساسي في حياة الأمة المسلمة . إنه يتناول بيان شرط الإيمان وحدّه؛ متمثلاً في النظام الأساسي لهذه الأمة . . ومن الموضوع في ذاته ، ومن طريقة ارتباطه وامتزاجه بالنظام الأساسي للأمة ، يستمد خطورته وخطره . .
إن القرآن وهو - ينشىء هذه الأمة وينشئها - وهو يخرجها إلى الوجود إخراجاً . كما قال الله تعالى في التعبير القرآني الدقيق : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } إن القرآن وهو ينشىء هذه الأمة من حيث لم تكن؛ وينشئها لتصبح أمة فريدة في تاريخ البشر : { خير أمة أخرجت للناس } . ويجب أن نؤكد هذه الحقيقة ونوضحها قبل المضي في الحديث : حقيقة إنشاء القرآن لهذه الأمة وتنشئتها معاً . . فقد كانت - على التحقيق - إنشاء وتنشئة ، كانت ميلاداً جديداً للأمة؛ بل ميلاداًَ جديداً « للإنسان » في صورة جديدة ولم تكن مرحلة في طريق النشأة؛ ولا خطوة في سبيل التطور ، ولا حتى وثبة من وثبات النهضة إنما كانت - على وجه التحديد - « نشأة » و « ميلاداً » للأمة العربية وللإنسان كله
وحين ننظر إلى الشعر الجاهلي - والنتف الأخرى من المأثورات الجاهلية - وهو ديوان العرب ، الذي تضمن أعلى وأخلد ما كان للعرب من نظرة للحياة والوجود والكون والإنسان والخلق والسلوك؛ كما تضمن معالم حياتهم ، ومكنون مشاعرهم ، ومجموع تصوراتهم؛ ولباب ثقافتهم وحضارتهم؛ وكينونتهم كلها بالاختصار . .
حين ننظر إلى مجموعة الثقافات والتصورات والقيم التي يتضمنها هذا الديوان؛ في ظل القرآن؛ وما تضمنه من نظرة للوجود والحياة ، وللكون والإنسان؛ ومن قيم في الحياة الإنسانية ; ومن نظام للمجتمع؛ ومن تصور لغاية الوجود الإنساني . ومن تنظيم واقعي يقوم على أساس هذا التصور . .
ثم ننظر إلى واقع العرب قبل الإسلام وبعده . . في ظل تلك التصورات الجاهلية التي تتمثل في ديوانها . ثم في ظل هذه التصورات القرآنية التي تمثل المنهج الرباني . .
حين ننظر إلى الديوان المأثور والحياة الواقعية . . في ظل القرآن وواقع الحياة الإسلامية : يتبين لنا على وجه التأكيد والتحديد . . أنها كانت نشأة ولم تكن خطوة ولا مرحلة ولا وثبة كانت « إخراجاً » من صنع الله؛ كتعبير القرآن الدقيق . . وكانت أعجب نشأة؛ وأغرب إخراج . . فيهي المرة الأولى والأخيرة - فيما نعلم - التي تنبثق فيها أمة من بين دفتي كتاب و « تخرج » فيها حياة من خلال الكلمات
ولكن لا عجب . . فهذه الكلمات . . كلمات الله . .
ومن أراد المجادلة والمماحلة ، فليقل لنا أين كانت هذه الأمة قبل أن « يخرجها » الله بكلماته؛ وقيل أن ينشئها الله بقرآنه؟
إننا نعرف أنها كانت في الجزيرة العربية ولكن أين كانت في الوجود « الإنساني »؟ أين كانت في سجل الحضارة البشرية؟ أين كانت في التاريخ العالمي؟ أين كانت تجلس على المائدة العالمية الإنسانية؟ وماذا كانت تقدم على هذه المائدة ، فيعرف باسمها ويحمل طابعها؟
لقد « نشأت » هذه الأمة نشأتها بهذا الدين؛ ونُشئت تنشئتها بهذا المنهج القويم؛ وقادت نفسها وقادت البشرية بعد ذلك بكتاب الله الذي في يدها ، وبمنهجه الذي طبع حياتها .

. لا بشيء آخر . . وأمامنا التاريخ وقد صدقها الله وعده وهو يقول للعرب : { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم . . أفلا تعقلون } فبسبب من هذا الكتاب ذكرت هذه الأمة في الأرض؛ وكان لها دورها في التاريخ؛ وكان لها « وجود إنساني » ابتداء ، وحضارة عالمية ثانياً . . ذلك بينما يريد جماعة من الحمقى أن يرفضوا نعمة الله هذه على الأمة العربية؛ ويجحدوا فضل الله في أن جعل كلمته الأخيرة لأهل الأرض قاطبة في العرب وبلسانهم . . ومن ثم جعل لهم وجوداً وذكراً وتاريخاً وحضارة - يريدون أن يخلعوا هذا الرداء الذي ألبسهم الله إياه؛ وأن يمزقوا هذه الراية التي قادتهم إلى الذكر والمجد . . بل إلى الوجود يوم أخرج الله منهم الأمة المسلمة
نقول . . إن القرآن حين كان « ينشىء » هذه الأمة و « ينشئها » . . ويخطط ويثبت ملامح الإسلام الجديدة ، في الجماعة المسلمة - التي التقطها من سفح الجاهلية - ويطمس ويمحو ملامح الجاهلية في حياتها ونفوسها ورواسبها . . وينظم مجتمعها - أو يقيمه ابتداء - على أساس الميلاد الجديد . .
وحين كان يخوض بالجماعة المسلمة المعركة؛ في مواجهة الجاهلية الراسبة في نفوسها وأوضاعها من مخلفات البيئة التي التقطها المنهج الرباني منها؛ وفي مواجهة الجاهلية الرابضة فيها ومن حولها - ممثلة في يهود المدينة ومنافقيها ومشركي مكة وما حولها - والمعركتان موصولتان في الزمان والمكان
حين كان القرآن يصنع ذلك كله . . كان يبدأ فيقيم للجماعة المسلمة تصورها الصحيح ، ببيان شرط الإيمان وحدّ الإسلام؛ ويربط بهذا التصور - في هذه النقطة بالذات - نظامها الأساسي ، الذي يميز وجودها من وجود الجاهلية حولها؛ ويفردها بخصائص الأمة التي أخرجت للناس ، لتبين للناس ، وتقودهم إلى الله . . نظامها الرباني . .
وهذا الدرس يتولى بيان هذا النظام الأساسي ، قائماً ومنبثقاً من التصور الإسلامي لشرط الإيمان وحدّ الإسلام
إنه يتولى تحديد الجهة التي تتلقى منها الأمة المسلمة منهج حياتها؛ والطريقة التي تتلقى بها؛ والمنهج الذي تفهم به ما تتلقى ، وترد إليه ما يجدّ من مشكلات وأقضية لم يرد فيها نص وتختلف الأفهام فيها؛ والسلطة التي تطيعها وعلة طاعتها ومصدر سلطانها . . ويقول : إن هذا هو شرط الإيمان وحدّه الإسلام . .
وعندئذ يلتقي « النظام الأساسي » لهذه الأمة؛ بالعقيدة التي تؤمن بها . . في وحدة لا تتجزأ؛ ولا تفترق عناصرها . .
وهذا هو الموضوع الخطير الذي يجلوه هذا الدرس جلاء دقيقاً كاملاً .

. وهذه هي القضية التي تبدو ، بعد مطالعة هذا الدرس ، بديهية يعجب الإنسان كيف يجادل « مسلم » فيها
إنه يقول للأمة المسلمة : إن الرسل أرسلت لتطاع - بإذن الله - لا لمجرد الإبلاغ والإقناع :
{ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } . .
ويقول لها : إن الناس لا يؤمنون - ابتداء - إلا أن يتحاكموا إلى منهج الله؛ ممثلاً - في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم - في أحكام الرسول . وباقياً بعده في مصدريه القرآن والسنة بالبداهة؛ ولا يكفي أن يتحاكموا - إليه ليحسبوا مؤمنين - بل لا بد من أن يتلقوا حكمه مسلمين راضين :
{ فلا وربك . . لا يومنون . . حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } . . فهذا هو شرط الإيمان وحد الإسلام .
ويقول لها : إن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت - أي إلى غير شريعة الله - لا يقبل منهم زعمهم أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول وما أنزل من قبله . فهو زعم كاذب . يكذبه أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت :
{ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك ، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت - وقد أمروا أن يكفروا به - ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً } .
ويقول لها : إن علامة النفاق أن يصدوا عن التحاكم إلى ما أنزل الله والتحاكم إلى رسول الله :
{ وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً } .
ويقول لها : إن منهجها الإيماني ونظامها الأساسي ، أن تطيع الله - عز وجل - في هذا القرآن - وأن تطيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته - وأولي الأمر من المؤمنين الداخلين في شرط الإيمان وحد الإسلام معكم :
{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ، وأطيعوا الرسول . وأولي الأمر منكم } . .
ويقول لها : إن المرجع ، فيما تختلف فيه وجهات النظر في المسائل الطارئة المتجددة ، والأقضية التي لم ترد فيها أحكام نصية . . إن المرجع هو الله ورسوله . . أي شريعة الله وسنة رسوله :
{ فإن تنازعتم في شيء ، فردوه إلى الله والرسول } . .
وبهذا يبقى المنهج الرباني مهيمناً على ما يطرأ على الحياة من مشكلات وأقضية كذلك ، أبد الدهر ، في حياة الأمة المسلمة . . وتمثل هذه القاعدة نظامها الأساسي ، الذي لا تكون مؤمنة إلا به ، ولا تكون مسلمة إلا بتحقيقه . . إذ هو يجعل الطاعة بشروطها تلك ، ورد المسائل التي تجد وتختلف فيها وجهات النظر إلى الله ورسوله . . شرط الإيمان وحد الإسلام . . شرطاً واضحاً ونصاً صريحاً :
{ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } . .
ولا ننسَ ما سبق بيانه عند قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }

من أن اليهود وصموا بالشرك بالله ، لأنهم كانوا يتخذون أحبارهم أرباباً من دون الله - لا لأنهم عبدوهم - ولكن لأنهم قبلوا منهم التحليل والتحريم؛ ومنحوهم حق الحاكمية والتشريع - ابتداء من عند أنفسهم - فجعلوا بذلك مشركين . . الشرك الذي يغفر الله كل ما عداه . حتى الكبائر . . « وإن زنى وإن سرق . وإن شرب الخمر » . . فرد الأمر كله إلى إفراد الله - سبحانه - بالألوهية . ومن ثم إفراده بالحاكمية . فهي أخص خصائص الألوهية . وداخل هذا النطاق يبقى المسلم مسلماً ويبقى المؤمن مؤمناً . ويطمع أن يغفر له ذنوبه ومنها كبائره . . أما خارج هذا النطاق فهو الشرك الذي لا يغفره الله أبداً . . إذ هو شرط الإيمان وحد الإسلام . { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . . }
هذا هو الموضوع الخطير الذي يتناوله هذا الدرس . بالإضافة إلى بيان وظيفة الأمة المسلمة في الأرض . من إقرار مبادىء العدل والخلق على أساس منهج الله القويم السليم : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها . وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . . إن الله نعما يعظكم به . . إن الله كان سميعاً بصيراً } . .
وقد ألممنا به إجمالاً . فنأخذ في مواجهة النصوص تفصيلاً . .
{ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها؛ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . إن الله نعما يعظكم به . إن الله كان سميعاً بصيراً } . .
هذه هي تكاليف الجماعة المسلمة؛ وهذا هو خلقها : أداء الأمانات إلى أهلها . والحكم بين « الناس » بالعدل . على منهج الله وتعليمه .
والأمانات تبدأ من الأمانة الكبرى . . الأمانة التي ناط الله بها فطرة الإنسان؛ والتي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها « الإنسان » . . أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد واتجاه . فهذه أمانة الفطرة الإنسانية خاصة . فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به ، والاهتداء إليه ، ومعرفته ، وعبادته ، وطاعته . وألزمه طاعة ناموسه بغير جهد منه ولا قصد ولا إرادة ولا اتجاه . والإنسان وحده هو الذي وكل إلى فطرته ، وإلى عقله ، وإلى معرفته ، وإلى إرادته ، وإلى اتجاهه ، وإلى جهده الذي يبذله للوصول إلى الله ، بعون من الله : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } وهذه أمانة حملها وعليه أن يؤديها أول ما يؤدي من الأمانات .
ومن هذه الأمانة الكبرى ، تنبثق سائر الأمانات ، التي يأمر الله أن تؤدى :
ومن هذه الأمانات : أمانة الشهادة لهذا الدين . . الشهادة له في النفس أولاً بمجاهدة النفس حتى تكون ترجمة له . ترجمة حية في شعورها وسلوكها . حتى يرى الناس صورة الإيمان في هذه النفس . فيقولوا : ما أطيب هذا الإيمان وأحسنه وأزكاه؛ وهو يصوغ نفوس أصحابه على هذا المثال من الخلق والكمال فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون .

. والشهادة له بدعوة الناس إليه ، وبيان فضله ومزيته - بعد تمثل هذا الفضل وهذه المزية في نفس الداعية - فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للإيمان في ذات نفسه ، إذا هو لم يدع إليها الناس كذلك ، وما يكون قد أدى أمانة الدعوة والتبليغ والبيان . وهي إحدى الأمانات . . ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض؛ منهجاً للجماعة المؤمنة؛ ومنهجاً للبشرية جميعاً . . المحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيلة ، وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة . فإقرار هذا المنهج في حياة البشر هو كبرى الأمانات؛ بعد الإيمان الذاتي . ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة . . ومن ثم ف « الجهاد ماض إلى يوم القيامة » على هذا الأساس . . أداء لإحدى الأمانات . .
ومن هذه الأمانات - الداخلة في ثنايا ما سبق - أمانة التعامل مع الناس؛ ورد أماناتهم إليهم : أمانة المعاملات والودائع المادية . وأمانة النصيحة للراعي وللرعية . وأمانة القيام على الأطفال الناشئة . وأمانة المحافظة على حرمات الجماعة وأموالها وثغراتها . . . وسائر ما يجلوه المنهج الرباني من الواجبات والتكاليف في كل مجالي الحياة على وجه الإجمال . . فهذه من الأمانات التي يأمر الله أن تؤدى؛ ويجملها النص هذا الإجمال . .
فأما الحكم بالعدل بين « الناس » فالنص يطلقه هكذا عدلاً شاملاً « بين الناس » جميعاً . لا عدلاً بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب . ولا عدلاً مع أهل الكتاب ، دون سائر الناس . . وإنما هو حق لكل إنسان بوصفه « إنساناً » . فهذه الصفة - صفة الناس - هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني . وهذه الصفة يلتقي عليها البشر جميعاً : مؤمنين وكفاراً . أصدقاء وأعداء . سوداً وبيضاً . عرباً وعجماً . والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل - متى حكمت في أمرهم - هذا العدل الذي لم تعرفه البشرية قط - في هذه الصورة - إلا على يد الإسلام ، وإلا في حكم المسلمين ، وإلا في عهد القيادة الإسلامية للبشرية . . والذي افتقدته من قبل ومن بعد هذه القيادة؛ فلم تذق له طعماً قط ، في مثل هذه الصورة الكريمة التي تتاح للناس جميعاً . لأنهم « ناس » لا لأية صفة أخرى زائدة عن هذا الأصل الذي يشترك فيه « الناس »
وذلك هو أساس الحكم في الإسلام؛ كما أن الأمانة - بكل مدلولاتها - هي أساس الحياة في المجتمع الإسلامي .
والتعقيب على الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها؛ والحكم بين الناس بالعدل؛ هو التذكير بأنه من وعظ الله - سبحانه - وتوجيهه . ونعم ما يعظ الله به ويوجه :
{ إن الله نعما يعظكم به } . .
ونقف لحظة أمام التعبير من ناحية أسلوب الأداء فيه . فالأصل في تركيب الجملة : إنه نعم ما يعظكم الله به .

. ولكن التعبير يقدم لفظ الجلالة ، فيجعله « اسم إن » ويجعل نعم ما « نعما » ومتعلقاتها ، في مكان « خبر إن » بعد حذف الخبر . . ذلك ليوحي بشدة الصلة بين الله - سبحانه - وهذا الذي يعظهم به . .
ثم إنها لم تكن « عظة » إنما كانت « أمراً » . . ولكن التعبير يسميه عظة . لأن العظة أبلغ إلى القلب ، وأسرع إلى الوجدان ، وأقرب إلى التنفيذ المنبعث عن التطوع والرغبة الحياء
ثم يجيء التعقيب الأخير في الآية؛ يعلق الأمر بالله ومراقبته وخشيته ورجائه :
{ إن الله كان سميعاً بصيراً } . .
والتناسق بين المأمور به من التكاليف؛ وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس؛ وبين كون الله سبحانه « سميعاً بصيراً » مناسبة واضحة ولطيفة معاً . . فالله يسمع ويبصر ، قضايا العدل وقضايا الأمانة . والعدل كذلك في حاجة إلى الاستماع البصير وإلى حسن التقدير ، وإلى مراعاة الملابسات والظواهر ، وإلى التعمق فيما وراء الملابسات والظواهر . وأخيراً فإن الأمر بهما يصدر عن السميع البصير بكل الأمور .
وبعد فالأمانة والعدل . . ما مقياسهما؟ ما منهج تصورهما وتحديدهما وتنفيذهما؟ في كل مجال في الحياة ، وفي كل نشاط للحياة؟
أنترك مدلول الأمانة والعدل؛ ووسائل تطبيقها وتحقيقهما إلى عرف الناس واصطلاحهم؟ وإلى ما تحكم به عقولهم - أو أهواؤهم؟
إن للعقل البشري وزنه وقيمته بوصفه أداة من أدوات المعرفة والهداية في الإنسان : هذا حق . . ولكن هذا العقل البشري هو عقل الأفراد والجماعات في بيئة من البيئات ، متأثراً بشتى المؤثرات . . ليس هناك ما يسمى « العقل البشري » كمدلول مطلق إنما هناك عقلي وعقلك ، وعقل فلان وعلان ، وعقول هذه المجموعة من البشر ، في مكان ما وفي زمان ما . . وهذه كلها واقعة تحت مؤثرات شتى؛ تميل بها من هنا ، وتميل بها من هناك . .
ولا بد من ميزان ثابت ، ترجع إليه هذه العقول الكثيرة؛ فتعرف عنده مدى الخطأ والصواب في أحكامها وتصوراتها . ومدى الشطط والغلو ، أو التقصير والقصور في هذه الأحكام والتصورات . وقيمة العقل البشري هنا هو أنه الأداة المهيأة للإنسان ، ليعرف بها وزن أحكامه في هذا الميزان . . الميزان الثابت ، الذي لا يميل مع الهوى ، ولا يتأثر بشتى المؤثرات . .
ولا عبرة بما يضعه البشر أنفسهم من موازين . . فقد يكون الخلل في هذه الموازين ذاتها . فتختل جميع القيم . . ما لم يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت القويم .
والله يضع هذا الميزان للبشر ، للأمانة والعدل ، ولسائر القيم ، وسائر الأحكام ، وسائر أوجه النشاط ، في كل حقل من حقول الحياة :
{ يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله؛ وأطيعوا الرسول ، وأولي الأمر . . منكم . . فإن تنازعتم في شيء ، فردوه إلى الله والرسول . إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . ذلك خير وأحسن تأويلاً } . .
وفي هذا النص القصير يبين الله - سبحانه - شرط الإيمان وحد الإسلام .

في الوقت الذي يبين فيه قاعدة النظام الأساسي في الجماعة المسلمة؛ وقاعدة الحكم ، ومصدر السلطان . . وكلها تبدأ وتنتهي عند التلقي من الله وحده؛ والرجوع إليه فيما لم ينص عليه نصاً ، من جزيئات الحياة التي تعرض في حياة الناس على مدى الأجيال؛ مما تختلف فيه العقول والآراء والأفهام . . ليكون هنالك الميزان الثابت ، الذي ترجع إليه العقول والآراء والأفهام
إن « الحاكمية » لله وحده في حياة البشر - ما جل منها وما دق ، وما كبر منها وما صغر - والله قد سن شريعة أودعها قرآنه . وأرسل بها رسولاً يبينها للناس . ولا ينطق عن الهوى . فسنته - صلى الله عليه وسلم - من ثم شريعة من شريعة الله .
والله واجب الطاعة . ومن خصائص ألوهيته أن يسن الشريعة . فشريعته واجبة التنفيذ . وعلى الذين آمنوا أن يطيعوا الله - ابتداء - وأن يطيعوا الرسول - بما له من هذه الصفة . صفة الرسالة من الله - فطاعته إذن من طاعة الله ، الذي أرسله بهذه الشريعة ، وببيانها للناس في سنته . . وسنته وقضاؤه - على هذا - جزء من الشريعة واجب النفاذ . . والإيمان يتعلق - وجوداً وعدماً - بهذه الطاعة وهذا التنفيذ - بنص القرآن :
{ إن كنم تؤمنون بالله واليوم الآخر } . .
فأما أولو الأمر؛ فالنص يعين من هم .
{ وأولي الأمر . . منكم . . }
أي من المؤمنين . . الذين يتحقق فيهم شرط الإيمان وحد الإسلام المبين في الآية . . من طاعة الله وطاعة الرسول؛ وإفراد الله - سبحانه - بالحاكمية وحق التشريع للناس ابتداء؛ والتلقي منه وحده - فيما نص عليه - والرجوع إليه أيضاً فيما تختلف فيه العقول والأفهام والآراء ، مما لم يرد فيه نص؛ لتطبيق المبادىء العامة في النصوص عليه .
والنص يجعل طاعة الله أصلاً؛ وطاعة رسوله أصلاً كذلك - بما أنه مرسل منه - ويجعل طاعة أولي الأمر . . منكم . . تبعاً لطاعة الله وطاعة رسوله . فلا يكرر لفظ الطاعة عند ذكرهم ، كما كررها عند ذكر الرسول- صلى الله عليه وسلم - ليقرر أن طاعتهم مستمدة من طاعة الله وطاعة رسوله - بعد أن قرر أنهم « منكم » بقيد الإيمان وشرطه . .
وطاعة أولي الأمر . . منكم . . بعد هذه التقريرات كلها ، في حدود المعروف المشروع من الله ، والذي لم يرد نص بحرمته؛ ولا يكون من المحرم عندما يرد إلى مبادىء شريعته ، عند الاختلاف فيه . . والسنة تقرر حدود هذه الطاعة ، على وجه الجزم واليقين :
في الصحيحين من « حديث الأعمش : إنما الطاعة في المعروف » .
وفيهما من « حديث يحيى القطان : السمع والطاعة على المرء المسلم . فيما أحب أو كره . ما لم يؤمر بمعصية . فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة » .
وأخرج مسلم من « حديث أم الحصين : ولو استعمل عليكم عبد . يقودكم بكتاب الله . اسمعوا له وأطيعوا » .

بهذا يجعل الإسلام كل فرد أميناً على شريعة الله وسنة رسوله . أميناً على إيمانه وهو ودينه . أميناً على نفسه وعقله . أميناً على مصيره في الدنيا والآخرة . . ولا يجعله بهيمة في القطيع؛ تزجر من هنا أو من هنا فتسمع وتطيع فالمنهج واضح ، وحدود الطاعة واضحة . والشريعة التي تطاع والسنة التي تتبع واحدة لا تتعدد ، ولا تتفرق ، ولا يتوه فيها الفرد بين الظنون
ذلك فيما ورد فيه نص صريح . فأما الذي لم يرد فيه نص . وأما الذي يعرض من المشكلات والأقضية ، على مدى الزمان وتطور الحاجات واختلاف البيئات - ولا يكون فيه نص قاطع ، أو لا يكون فيه نص على الإطلاق . . مما تختلف في تقديره العقول والآراء والأفهام - فإنه لم يترك كذلك تيهاً . ولم يترك بلا ميزان . ولم يترك بلا منهج للتشريع فيه والتفريع . . ووضع هذا النص القصير ، منهج الاجتهاد كله ، وحدده بحدوده؛ وأقام « الأصل » الذي يحكم منهج الاجتهاد أيضاً .
{ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } . .
ردوه إلى النصوص التي تنطبق عليه ضمناً . فإن لم توجد النصوص التي تنطبق على هذا النحو ، فردوه إلى المبادىء الكلية العامة في منهج الله وشريعته . . وهذه ليست عائمة ، ولا فوضى ، ولا هي من المجهلات التي تتيه فيها العقول كما يحاول بعض المخادعين أن يقول . وهناك - في هذا الدين - مبادىء أساسية واضحة كل الوضوح ، تغطي كل جوانب الحياة الأساسية ، وتضع لها سياجاً خرقه لا يخفى على الضمير المسلم المضبوط بميزان هذا الدين .
{ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } . .
تلك الطاعة لله والطاعة للرسول ، ولأولي الأمر المؤمنين القائمين على شريعة الله وسنة الرسول . . ورد ما يتنازع فيه إلى الله والرسول . . هذه وتلك شرط الإيمان بالله واليوم الآخر . كما أنها مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر . . فلا يوجد الإيمان ابتداء وهذا الشرط مفقود . . ولا يوجد الإيمان ، ثم يتخلف عنه أثره الأكيد .
وبعد أن يضع النص المسألة في هذا الوضع الشرطي ، يقدمها مرة أخرى في صورة « العظة » والترغيب والتحبيب؛ على نحو ما صنع في الأمر بالأمانة والعدل ثم التحبيب فيها والترغيب :
{ ذلك خير وأحسن تأويلاً } . .
ذلك خير لكم وأحسن مآلاً . خير في الدنيا وخير في الآخرة . وأحسن مآلاً في الدنيا وأحسن مآلاً في الآخرة كذلك . . فليست المسألة أن اتباع هذا المنهج يؤدي إلى رضاء الله وثواب الآخرة - وهو أمر هائل ، عظيم - ولكنه كذلك يحقق خير الدنيا وحسن مآل الفرد والجماعة في هذه الحياة القريبة .
إن هذا المنهج معناه : أن يستمتع « الإنسان » بمزايا منهج يضعه له الله . . الله الصانع الحكيم العليم البصير الخبير . . منهج بريء من جهل الإنسان وهوى الإنسان ، وضعف الإنسان ، وشهوة الإنسان .

منهج لا محاباة فيه لفرد ، ولا لطبقة ، ولا لشعب ، ولا لجنس ، ولا لجيل من البشر على جيل . . لأن الله رب الجميع ، ولا تخالجه - سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً - شهوة المحاباة لفرد ، أو طبقة ، أو شعب ، أو جنس ، أو جيل .
ومنهج من مزاياه ، أن صانعه هو صانع هذا الإنسان . . الذي يعلم حقيقة فطرته ، والحاجات الحقيقية لهذه الفطرة ، كما يعلم منحنيات نفسه ودروبها؛ ووسائل خطابها وإصلاحها ، فلا يخبط - سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً - في تيه التجارب بحثاً عن منهج يوافق . ولا يكلف البشر ثمن هذه التجارب القاسية ، حين يخبطون هم في التيه بلا دليل وحسبهم أن يجربوا في ميدان الإبداع المادي ما يشاءون ، فهو مجال فسيح جد فسيح للعقل البشري . وحسبهم كذلك أن يحاول هذا العقل تطبيق ذلك المنهج؛ ويدرك مواضع القياس والاجتهاد فيما تتنازع فيه العقول .
ومنهج من مزاياه أن صانعه هو صانع هذا الكون ، الذي يعيش فيه الإنسان . فهو يضمن للإنسان منهجاً تتلاءم قواعده مع نواميس الكون؛ فلا يروح يعارك هذه النواميس . بل يروح يتعرف إليها ، ويصادقها ، وينتفع بها . . والمنهج يهديه في هذا كله ويحميه .
ومنهج من مزاياه أنه - في الوقت الذي يهدي فيه الإنسان ويحميه - يكرمه ويحترمه ويجعل لعقله مكاناً للعمل في المنهج . . مكان الاجتهاد في فهم النصوص الواردة . ثم الاجتهاد في رد ما لم يرد فيه نص إلى النصوص أو إلى المبادىء العامة للدين . . ذلك إلى المجال الأصيل ، الذي يحكمه العقل البشري ، ويعلن فيه سيادته الكاملة : ميدان البحث العلمي في الكون؛ والإبداع المادي فيه . .
{ ذلك خير وأحسن تأويلاً } . . وصدق الله العظيم :
وحين ينتهي السياق من تقرير هذه القاعدة الكلية ، في شرط الإيمان وحد الإسلام ، وفي النظام الأساسي للأمة المسلمة ، وفي منهج تشريعها وأصوله . . يلتفت إلى الذين ينحرفون عن هذه القاعدة؛ ثم يزعمون - بعد ذلك - أنهم مؤمنون وهم ينقضون شرط الإيمان وحد الإسلام . إذ يريدون أن يتحاكموا إلى غير شريعة الله . . { إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به } . .
يلتفت إليهم ليعجب من أمرهم ويستنكر . . وليحذرهم - وأمثالهم - من إرادة الشيطان بهم الضلال . ويصف حالهم حين يدعون إلى ما أنزل الله وإلى الرسول فيصدون . ويعتبر هذا الصدود نفاقاً . كما اعتبر إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت خروجاً من الإيمان - بل وعدم دخول فيه ابتداء - كما يصف معاذيرهم الواهية الكاذبة في اتباع هذه الخطة المستنكرة؛ حين تجر عليهم الوبال والنكال . . ومع هذا كله فهو يوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النصح لهم وموعظتهم . . ويختم المقطع كله ببيان ما أراده الله - سبحانه - من إرسال الرسل .

. وهو أن يطاعوا . . ثم بنص صريح جازم في شرط الإيمان وحد الإسلام مرة أخرى . .
{ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت - وقد أمروا أن يكفروا به - ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً . وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً . فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ، ثم جاءوك ، يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً . أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم . فأعرض عنهم ، وعظهم ، وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً . وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله . ولو أنهم - إذ ظلموا أنفسهم - جاءوك ، فاستغفروا الله ، واستغفر لهم الرسول ، لوجدوا الله تواباً رحيماً . . فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم . ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت؛ ويسلموا تسليماً } . .
إن هذا التصوير لهذه المجموعة التي تصفها النصوص ، يوحي بأن هذا كان في أوائل العهد بالهجرة . يوم كان للنفاق صولة؛ وكان لليهود - الذين يتبادلون التعاون مع المنافقين - قوة . .
وهؤلاء الذين يريدون أن يتحاكموا إلى غير شريعة الله - إلى الطاغوت - قد يكونون جماعة من المنافقين - كما صرح بوصفهم في الآية الثانية من هذه المجموعة - وقد يكونون جماعة من اليهود الذين كانوا يُدعَوْن - حين تجدّ لهم أقضية مع بعضهم البعض أو أهل المدينة - إلى التحاكم إلى كتاب الله فيها . . التوراة أحياناً ، وإلى حكم الرسول أحيانا - كما وقع في بعض الأقضية - فيرفضون ويتحاكمون إلى العرف الجاهلي الذي كان سائداً . . ولكننا نرجح الفرض الأول لقوله فيهم : { يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } . . واليهود لم يكونوا يسلمون أو يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول . إنما كان المنافقون هم الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله ( كما هو مقتضى العقيدة الإسلامية من الإيمان بالرسل كلهم ) .
وهذا لم يكن يقع إلا في السنوات الأولى للهجرة . قبل أن تخضد شوكة اليهود في بني قريظة وفي خيبر . وقبل أن يتضاءل شأن المنافقين بانتهاء شأن اليهود في المدينة
على أية حال نحن نجد في هذه المجموعة من الآيات ، تحديداً كاملاً دقيقاً حاسماً لشرط الإيمان وحد الإسلام ، ونجد شهادة من الله بعدم إيمان الذين { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } { وقد أمروا أن يكفروا به } كما نجد قسماً من الله سبحانه - بذاته العلية - أنهم لا يدخلون في الإيمان؛ ولا يحسبون مؤمنين حتى يحكموا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أقضيتهم . ثم يطيعوا حكمه ، وينفذوا قضاءه . طاعة الرضى ، وتنفيذ الارتياح القلبي؛ الذي هو التسليم ، لا عجزاً واضطراراً .

ولكن طمأنينة وارتضاء . .
{ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت - وقد أمروا أن يكفروا به - ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً } . .
ألم تر إلى هذا العجب العاجب . . قوم . . يزعمون . . الإيمان . ثم يهدمون هذا الزعم في آن؟ قوم { يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } . ثم لا يتحاكمون إلى ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك؟ إنما يريدون أن يتحاكموا إلى شيء آخر ، وإلى منهج آخر ، وإلى حكم آخر . . يريدون أن يتحاكموا إلى . . الطاغوت . . الذي لا يستمد مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . ولا ضابط له ولا ميزان ، مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . . ومن ثم فهو . . طاغوت . . طاغوت بادعائه خاصية من خواص الألوهية . وطاغوت بأنه لا يقف عند ميزان مضبوط أيضاً وهم لا يفعلون هذا عن جهل ، ولا عن ظن . . إنما هم يعلمون يقيناً ويعرفون تماماً ، أن هذا الطاغوت محرم التحاكم إليه : { وقد أمروا أن يكفروا به } . . فليس في الأمر جهالة ولا ظن . بل هو العمد والقصد . ومن ثم لا يستقيم ذلك الزعم . زعم أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك إنما هو الشيطان الذي يريد بهم الضلال الذي لا يرجى منه مآب . .
{ ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً } . .
فهذه هي العلة الكامنة وراء إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت . وهذا هو الدافع الذي يدفعهم إلى الخروج من حد الإيمان وشرطه بإرادتهم التحاكم إلى الطاغوت هذا هو الدافع يكشفه لهم . لعلهم يتنبهون فيرجعوا . ويكشفه للجماعة المسلمة ، لتعرف من يحرك هؤلاء ويقف وراءهم كذلك .
ويمضي السياق في وصف حالهم إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله إلى الرسول وما أنزل من قبله . . ذلك الذي يزعمون أنهم آمنوا به :
{ وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً } .
يا سبحان الله إن النفاق يأبى إلا أن يكشف نفسه ويأبى إلا أن يناقض بديهيات المنطق الفطري . . وإلا ما كان نفاقاً . .
إن المقتضى الفطري البديهي للإيمان ، أن يتحاكم الإنسان إلى ما آمن به ، وإلى من آمن به . فإذا زعم أنه آمن بالله وما أنزل ، وبالرسول وما أنزل إليه . ثم دعي إلى هذا الذي آمن ، به ليتحاكم إلى أمره وشرعه ومنهجه؛ كانت التلبية الكاملة هي البديهية الفطرية . فأما حين يصد ويأبى فهو يخالف البديهية الفطرية . ويكشف عن النفاق . وينبئ عن كذب الزعم الذي زعمه من الإيمان
وإلى هذه البديهية الفطرية يحاكم الله - سبحانه - أولئك الذين يزعمون الإيمان بالله ورسوله . ثم لا يتحاكمون إلى منهج الله ورسوله . بل يصدون عن ذلك المنهج حين يدعون إليه صدوداً
ثم يعرض مظهراً من مظاهر النفاق في سلوكهم؛ حين يقعون في ورطة أو كارثة بسبب عدم تلبيتهم للدعوة إلى ما أنزل الله وإلى الرسول؛ أو بسبب ميلهم إلى التحاكم إلى الطاغوت .

ومعاذيرهم عند ذلك . وهي معاذير النفاق :
{ فكيف إذا أصابتهم مصيبة - بما قدمت أيديهم - ثم جاءوك يحلفون بالله : إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً } . .
وهذه المصيبة قد تصيبهم بسبب انكشاف أمرهم في وسط الجماعة المسلمة - يومذاك - حيث يصبحون معرضين للنبذ والمقاطعة والازدراء في الوسط المسلم . فما يطيق المجتمع المسلم أن يرى من بينه ناساً يزعمون أنهم آمنوا بالله وما أنزل ، وبالرسول وما أنزل إليه؛ ثم يميلون إلى التحاكم لغير شريعة الله؛ أو يصدون حين يدعون إلى التحاكم إليها . . إنما يقبل مثل هذا في مجتمع لا إسلام له ولا إيمان . وكل ما له من الإيمان زعم كزعم هؤلاء؛ وكل ما له من الإسلام دعوى وأسماء
أو قد تصيبهم المصيبة من ظلم يقع بهم؛ نتيجة التحاكم إلى غير نظام الله العادل؛ ويعودون بالخيبة والندامة من الاحتكام إلى الطاغوت؛ في قضية من قضاياهم .
أو قد تصيبهم المصيبة ابتلاء من الله لهم . لعلهم يتفكرون ويهتدون . .
وأياً ما كان سبب المصيبة؛ فالنص القرآني ، يسأل مستنكراً : فكيف يكون الحال حينئذ كيف يعودون إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
{ يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً } . .
إنها حال مخزية . . حين يعودون شاعرين بما فعلوا . . غير قادرين على مواجهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحقيقة دوافعهم . وفي الوقت ذاته يحلفون كاذبين : أنهم ما أرادوا بالتحاكم إلى الطاغوت - وقد يكون هنا هو عرف الجاهلية - إلا رغبة في الإحسان والتوفيق وهي دائماً دعوى كل من يحيدون عن الاحتكام إلى منهج الله وشريعته : أنهم يريدون اتقاء الإشكالات والمتاعب والمصاعب ، التي تنشأ من الاحتكام إلى شريعة الله ويريدون التوفيق بين العناصر المختلفة والاتجاهات المختلفة والعقائد المختلفة . . إنها حجة الذين يزعمون الإيمان - وهم غير مؤمنين - وحجة المنافقين الملتوين . . هي هي دائماً وفي كل حين
والله - سبحانه - يكشف عنهم هذا الرداء المستعار . ويخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه يعلم حقيقة ما تنطوي عليه جوانحهم . ومع هذا يوجهه إلى أخذهم بالرفق ، والنصح لهم بالكف عن هذا الالتواء :
{ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم . فأعرض عنهم وعظهم ، وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } . .
أولئك الذين يخفون حقيقة نواياهم وبواعثهم؛ ويحتجون بهذه الحجج ، ويعتذرون بهذه المعاذير . والله يعلم خبايا الضمائر ومكنونات الصدور . . ولكن السياسة التي كانت متبعة - في ذلك الوقت - مع المنافقين كانت هي الإغضاء عنهم ، وأخذهم بالرفق ، واطراد الموعظة والتعليم . .
والتعبير العجيب :
{ وقل لهم . . في أنفسهم .

. قولاً بليغاً } .
تعبير مصور . . كأنما القول يودع مباشرة في الأنفس ، ويستقر مباشرة في القلوب .
وهو يرغبهم في العودة والتوبة والاستقامة والاطمئنان إلى كنف الله وكنف رسوله . . بعد كل ما بدا منهم من الميل إلى الاحتكام إلى الطاغوت؛ ومن الصدود عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين يدعون إلى التحاكم إلى الله والرسول . . فالتوبة بابها مفتوح ، والعودة إلى الله لم يفت أوانها بعد؛ واستغفارهم الله من الذنب ، واستغفار الرسول لهم ، فيه القبول ولكنه قبل هذا كله يقرر القاعدة الأساسية : وهي أن الله قد أرسل رسله ليطاعوا - بإذنه - لا ليخالف عن أمرهم . ولا ليكونوا مجرد وعاظ ومجرد مرشدين
{ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله . ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك ، فاستغفروا الله ، واستغفر لهم الرسول ، لوجدوا الله تواباً رحيماً } .
وهذه حقيقة لها وزنها . . إن الرسول ليس مجرد « واعظ » يلقي كلمته ويمضي . لتذهب في الهواء - بلا سلطان - كما يقول المخادعون عن طبيعة الدين وطبيعة الرسل؛ أو كما يفهم الذين لا يفهمون مدلول « الدين » .
إن الدين منهج حياة . منهج حياة واقعية . بتشكيلاتها وتنظيماتها ، وأوضاعها ، وقيمها ، وأخلاقها وآدابها . وعباداتها وشعائرها كذلك .
وهذا كله يقضي أن يكون للرسالة سلطان . سلطان يحقق المنهج ، وتخضع له النفوس خضوع طاعة وتنفيذ . . والله أرسل رسله ليطاعوا - بإذنه وفي حدود شرعه - في تحقيق منهج الدين . منهج الله الذي أراده لتصريف هذه الحياة . وما من رسول إلا أرسله الله ، ليطاع ، بإذن الله . فتكون طاعته طاعة لله . . ولم يرسل الرسل لمجرد التأثر الوجداني ، والشعائر التعبدية . . فهذا وهم في فهم الدين؛ لا يستقيم مع حكمة الله من إرسال الرسل . وهي إقامة منهج معين للحياة ، في واقع الحياة . . وإلا فما أهون دنيا كل وظيفة الرسول فيها أن يقف واعظاً . لا يعنيه إلا أن يقول كلمته ويمضي . يستهتر بها المستهترون ، ويبتذلها المبتذلون
ومن هنا كان تاريخ الإسلام كما كان . . كان دعوة وبلاغاً . ونظاماً وحكماً . وخلافة بعد ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقوم بقوة الشريعة والنظام ، على تنفيذ الشريعة والنظام . لتحقيق الطاعة الدائمة للرسول . وتحقيق إرادة الله من إرسال الرسول . وليست هنالك صورة أخرى يقال لها : الإسلام . أو يقال لها : الدين . إلا أن تكون طاعة للرسول ، محققة في وضع وفي تنظيم . ثم تختلف أشكال هذا الوضع ما تختلف؛ ويبقى أصلها الثابت . وحقيقتها التي لا توجد بغيرها . . استسلام لمنهج الله ، وتحقيق لمنهج رسول الله . وتحاكم إلى شريعة الله . وطاعة للرسول فيما بلغ عن الله ، وإفراد لله - سبحانه - بالألوهية ( شهادة أن لا إله إلا الله ) ومن ثم إفراده بالحاكمية التي تجعل التشريع ابتداء حقاً لله ، لا يشاركه فيه سواه .

وعدم احتكام إلى الطاغوت . في كثير ولا قليل . والرجوع إلى الله والرسول ، فيما لم يرد فيه نص من القضايا المستجدة ، والأحوال الطارئه؛ حين تختلف فيه العقول . .
وأمام الذين { ظلموا أنفسهم } بميلهم عن هذا المنهج ، الفرصة التي دعا الله المنافقين إليها على عهد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم - ورغبهم فيها . .
{ ولو أنهم - إذ ظلموا أنفسهم - جاءوك ، فاستغفروا الله ، واستغفر لهم الرسول ، لوجدوا الله تواباً رحيماً } . .
والله تواب في كل وقت على من يتوب . والله رحيم في كل وقت على من يؤوب . وهو - سبحانه - يصف نفسه بصفته . ويعد العائدين إليه ، المستغفرين من الذنب ، قبول التوبة وإفاضة الرحمة . . والذين يتناولهم هذا النص ابتداء ، كان لديهم فرصة استغفار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد انقضت فرصتها . وبقي باب الله مفتوحاً لا يغلق . ووعده قائماً لا ينقض . فمن أراد فليقدم . ومن عزم فليتقدم . .
وأخيراً يجيء ذلك الإيقاع الحاسم الجازم . إذ يقسم الله - سبحانه - بذاته العلية ، أنه لا يؤمن مؤمن ، حتى يحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمره كله . ثم يمضي راضياً بحكمه ، مسلماً بقضائه . ليس في صدره حرج منه ، ولا في نفسه تلجلج في قبوله :
{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم . ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ، ويسلموا تسليماً } . .
ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحدّ الإسلام . يقرره الله سبحانه بنفسه . ويقسم عليه بذاته . فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام ، ولا تأويل لمؤول .
اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام . . وهي أن هذا القول مرهون بزمان ، وموقوف على طائفة من الناس وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئاً؛ ولا يفقه من التعبير القرآني قليلاً ولا كثيراً . فهذه حقيقة كلية من حقائق الإسلام؛ جاءت في صورة قسم مؤكد؛ مطلقة من كل قيد . . وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو تحكيم شخصه . إنما هو تحكيم شريعته ومنهجه . وإلا لم يبق لشريعة الله وسنة رسوله مكان بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - وذلك قول أشد المرتدين ارتداداً على عهد أبي بكر - رضي الله عنه - وهو الذي قاتلهم عليه قتال المرتدين . بل قاتلهم على ما هو دونه بكثير . وهو مجرد عدم الطاعة لله ورسوله ، في حكم الزكاة؛ وعدم قبول حكم رسول الله فيها ، بعد الوفاة
وإذا كان يكفي لإثبات « الإسلام » أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله . . فانه لا يكفي في « الإيمان » هذا ، ما لم يصحبه الرضى النفسي ، والقبول القلبي ، وإسلام القلب والجنان ، في اطمئنان
هذا هو الإسلام .

. وهذا هو الإيمان . . فلتنظر نفس أين هي من الإسلام؛ وأين هي من الإيمان قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان
وبعد أن يقرر أن لا إيمان قبل تحكيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبل الرضى والتسليم بقضائه ، يعود ليقول : إن هذا المنهج الذي يدعون إليه؛ وهذه الشريعة التي يقال لهم : تحاكموا إليها - لا لسواها - وهذا القضاء الذي يتحتم عليهم قبوله والرضاء به . . . إنه منهج ميسر ، وشريعة سمحة ، وقضاء رحيم . . إنه لا يكلفهم شيئاً فوق طاقتهم؛ ولا يكلفهم عنتاً يشق عليهم؛ ولا يكلفهم التضحية بعزيز عليهم . . فالله يعلم ضعف الإنسان؛ ويرحم هذا الضعف . والله يعلم أنهم لو كلفوا تكاليف شاقة ، ما أداها إلا قليل منهم . . وهو لا يريد لهم العنت ، ولا يريد لهم أن يقعوا في المعصية . . ومن ثم لم يكتب عليهم ما يشق ، وما يدعو الكثيرين منهم للتقصير والمعصية . ولو أنهم استجابوا للتكاليف اليسيرة التي كتبها الله عليهم؛ واستمعوا للموعظة التي يعظهم الله بها؛ لنالوا خيراً عظيماً في الدنيا والآخرة؛ ولأعانهم الله بالهدى ، كما يعين كل من يجاهد للهدى بالعزم والقصد والعمل والإرادة ، في حدود الطاقة :
{ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ، أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه - إلا قليل منهم - ولو أنهم فعلوا ما يوعظون ، به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتا؛ وإذن لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً؛ ولهديناهم صراطاً مستقيماً } . .
إن هذا المنهج ميسر لينهض به كل ذي فطرة سوية . إنه لا يحتاج للعزائم الخارقة الفائقة ، التي لا توجد عادة إلا في القلة من البشر . وهذا الدين لم يجىء لهذه القلة القليلة . إنه جاء للناس جميعاً . والناس معادن ، وألوان ، وطبقات . من ناحية القدرة على النهوض بالتكاليف . وهذا الدين ييسر لهم جميعاً أن يؤدوا الطاعات المطلوبة فيه ، وأن يكفوا عن المعاصي التي نهى عنها .
وقتل النفس ، والخروج من الديار . . مثلان للتكاليف الشاقة ، التي لو كتبت عليهم ما فعلها إلا قليل منهم . وهي لم تكتب لأنه ليس المراد من التكاليف أن يعجز عنها عامة الناس؛ وأن ينكل عنها عامة الناس . بل المراد أن يؤديها الجميع ، وأن يقدر عليها الجميع ، وأن يشمل موكب الإيمان كل النفوس السوية العادية؛ وأن ينتظم المجتمع المسلم طبقات النفوس ، وطبقات الهمم ، وطبقات الاستعدادات؛ وأن ينميها جميعاً ويرقيها ، في أثناء سير الموكب الحافل الشامل العريض
قال ابن جريج : حدثنا المثنى إسحاق أبو الأزهر ، عن إسماعيل ، « عن أبي إسحاق السبيعي قال : لما نزلت : { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } . . . الآية : قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا . . فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن من أمتي لرجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي » .

وروى ابن أبي حاتم - بإسناده - عن مصعب بن ثابت . عن عمه « عامر بن عبدالله بن الزبير . قال : لما نزلت { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم } قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم » .
وفي رواية له - بإسناده - « عن شريح بن عبيد : قال : لما تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية : { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم . . . } الآية ، أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده إلى عبدالله ابن رواحة ، فقال : لو أن الله كتب هذا ، لكان هذا من أولئك القليل » .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرف رجاله معرفة وثيقة عميقة دقيقة؛ ويعرف من خصائص كل منهم ما لا يعرفه كل منهم عن نفسه وفي السيرة من هذا الكثير من الشواهد على خبرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكل واحد من رجاله؛ وخبرته كذلك بالرجال والقبائل التي كانت تحاربه . . خبرة القائد البصير بكل ما حوله ومن حوله . . في دقة عجيبة . . لم تدرس بعد الدراسة الواجبة .
وليس هذا موضوعنا . ولكن موضوعنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعرف أن في أمته من ينهض بالتكاليف الشاقة لو كتبت عليهم . ولكنه كان يعرف كذلك أن الدين لم يجىء لهذه القلة الممتازة في البشرية كلها . وكان الله - سبحانه - يعلم طبيعة هذا « الإنسان » الذي خلقه؛ وحدود طاقته؛ فلم يكتب على الناس في الدين الذي جاء للبشر أجمعين ، إلا ما هو ميسر للجميع؛ حين تصح العزيمة ، وتعتدل الفطرة ، وينوي العبد الطاعة ، ولا يستهتر ولا يستهين .
وتقرير هذه الحقيقة ذو أهمية خاصة؛ في مواجهة الدعوات الهدامة؛ التي تدعو الإنسان إلى الانحلال والحيوانية ، والتلبط في الوحل كالدود بحجة أن هذا هو « واقع » الإنسان ، وطبيعته وفطرته وحدود طاقته وأن الدين دعوة « مثالية » لم تجىء لتحقق في واقع الأرض؛ وإذا نهض بتكاليفها فرد ، فإن مائة لا يطيقون
هذه دعوى كاذبة أولاً؛ وخادعة ثانياً؛ وجاهلة ثالثاً . . لأنها لا تفهم « الإنسان » ولا تعلم منه ما يعلمه خالقه ، الذي فرض عليه تكاليف الدين؛ وهو يعلم - سبحانه - أنها داخلة في مقدور الإنسان العادي . لأن الدين لم يجىء للقلائل الممتازين
وإن هي إلا العزيمة - عزيمة الفرد العادي - وإخلاص النية . والبدء في الطريق . وعندئذ يكون ما يعد الله به العاملين :
{ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً . وإذا لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً .

ولهديناهم صراطاً مستقيماً } . .
فمجرد البدء ، يتبعه العون من الله . ويتبعه التثبيت على المضي في الطريق . ويتبعه الأجر العظيم . وتتبعه الهداية إلى الطريق المستقيم . . وصدق الله العظيم . . فما يخدع الله - سبحانه وتعالى - عباده؛ ولا يعدهم وعداً لا يفي لهم به؛ ولا يحدثهم إلا حديث الصدق . . { ومن أصدق من الله حديثاً } في الوقت ذاته ليس اليسر - في هذا المنهج - هو الترخص . ليس هو تجميع الرخص كلها في هذا الدين وجعلها منهج الحياة . فهذا الدين عزائم ورخص . والعزائم هي الأصل والرخص للملابسات الطارئة . . وبعض المخلصين حسني النية ، الذين يريدون دعوة الناس إلى هذا الدين ، يعمدون إلى « الرخص » فيجمعونها ويقدمونها للناس ، على أنها هي هذا الدين . ويقولون لهم : انظروا كم هو ميسر هذا الدين وبعض الذين يتملقون شهوات السلطان أو شهوات الجماهير ، يبحثون عن « منافذ » لهذه الشهوات من خلال الأحكام والنصوص؛ ويجعلون هذه المنافذ هي الدين
وهذا الدين ليس هذا وليس ذاك . إنما هو بجملته . برخصه وعزائمه . ميسر للناس يقدر عليه الفرد العادي ، حين يعزم . ويبلغ فيه تمام كماله الذاتي - في حدود بشريته - كما يبلغ تمام كماله الذاتي في الحديقة الواحدة : العنب والخوخ والكمثرى والتوت والتين والقثاء . . ولا تكون كلها ذات طعم واحد . . ولا يقال عن أحدها : إنه غير ناضج - حين يبلغ نضجه الذاتي - إذا كان طعمه أقل مرتبة من النوع الآخر
في حديقة هذا الدين ينبت البقل والقثاء؛ وينبت الزيتون والرمان ، وينبت التفاح والبرقوق ، وينبت العنب والتين . . . وينضج كله؛ مختلفة طعومه ورتبه . . . ولكنه كله ينضج . ويبلغ كماله المقدر له . .
إنها زرعة الله . . في حقل الله . . برعاية الله . . وتيسير الله . .
وفي نهاية هذه الجولة ، ونهاية هذا الدرس ، يعود السياق إلى الترغيب؛ واستجاشة القلوب؛ والتلويح للأرواح بالمتاع الحبيب . . متاع الصحبة في الآخرة للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
{ ومن يطع الله والرسول ، فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ذلك الفضل من الله ، وكفى بالله عليماً } . .
إنها اللمسة التي تستجيش مشاعر كل قلب ، فيه ذرة من خير؛ وفيه بذرة من صلاح وفيه أثارة من التطلع إلى مقام كريم في صحبة كريمة ، في جوار الله الكريم . . وهذه الصحبة لهذا الرهط العلوي . . إنما هي من فضل الله . فما يبلغ إنسان بعمله وحده وطاعته وحدها أن ينالها . . إنما هو الفضل الواسع الغامر الفائض العميم .
ويحسن هنا أن نعيش لحظات مع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يتشوقون إلى صحبته في الآخرة؛ وفيهم من يبلغ به الوجد ألا يمسك نفسه عند تصور فراقه . . وهو - صلى الله عليه وسلم - بين ظهرانيهم . فتنزل هذه الآية : فتندي هذا الوجد؛ وتبل هذه اللهفة .

. الوجد النبيل . واللهفة الشفيفة :
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب السقمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، « عن سعيد بن جبير . قال : جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محزون فقال له النبى - صلى الله عليه وسلم - : » يا فلان . ما لي أراك محزوناً؟ « فقال : يا نبي الله . شيء فكرت فيه . فقال : » ما هو؟ « قال : نحن نغدو عليك ونروح . ننظر إلى وجهك ، ونجالسك . وغداً ترفع مع النبيين ، فلا نصل إليك . . فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً . فأتاه جبريل بهذه الآية : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين } . . الآية ، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فبشره » .
« وقد رواه أبو بكر بن مردويه مرفوعاً - بإسناده - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله . إنك أحب إليّ من نفسي ، وأحب إليّ من أهلي ، وأحب إليّ من ولدي ، وإني لأكون في البيت ، فأذكرك ، فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك . وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين ، وإن دخلتُ الجنة خشيت ألا أراك . فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلت : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً } . . »
وفي صحيح مسلم من حديث عقل بن زياد ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن كثير ، عن أبى سلمة بن عبد الرحمن ، « عن ربيعة بن كعب الأسلمي ، أنه قال : كنت أبيت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته بوضوئه وحاجته . فقال لي : » سل « . فقلت يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة . فقال : » أو غير ذلك « . قلت : هو ذاك . قال : فأعنّي على نفسك بكثرة السجود » .
« وفي صحيح البخاري من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم ، فقال : » المرء مع من أحب « . . قال أنس : فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث » .
لقد كان الأمر يشغل قلوبهم وأرواحهم . . أمر الصحبة في الآخرة . . وقد ذاقوا طعم الصحبة في الدنيا وإنه لأمر يشغل كل قلب ذاق محبة هذا الرسول الكريم . . وفي الحديث الأخير أمل وطمأنينة ونور . . .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)

نرجح أن تكون مجموعة هذه الآيات الواردة في هذا الدرس ، نزلت في وقت مبكر . . ربما كان ذلك بعد غزوة أحد ، وقبل الخندق . فصورة الصف المسلم التي تبدو من خلال هذه الآيات توحي بهذا . توحي بوجود جماعات منوعة في داخل الصف ، لم تنضج بعد؛ أو لم تؤمن إنما هي تنافق وتوحي بأن الصف كان في حاجة إلى جهود ضخمة من التربية والتوجيه ، ومن الاستنهاض والتشجيع ، لينهض بالمهمة الضخمة الملقاة على عاتق الجماعة المسلمة؛ والارتفاع إلى مستوى هذه المهمة . سواء في التصورات الاعتقادية؛ أو في خوض المعركة مع المعسكرات المعادية .
وهذا الذي نقرره لا يطعن في الحقيقة الأخرى . حقيقة أنه كان في هذا الصف من النماذج المسلمة من استوى على القمة السامقة؛ وصعد المرتقى إلى هذه القمة . . ووصل . . ولكننا إنما نتحدث عن « الصف المسلم » ككل . وكبناء مختلط ولكنه غير متجانس؛ وهو في هذه الحالة يحتاج إلى الجهد الجاهد لتسويته وتنسيقه؛ مما هو ظاهر في هذه التوجيهات القرآنية الكثيرة .
والتدقيق في الملامح التي تبدو من خلال هذه التوجيهات ، يجعلنا نعيش مع الجماعة المسلمة ، في صورتها البشرية التي كثيراً ما ننساها ونرى فيها مواضع الضعف ومواضع القوة . ونرى كيف كان القرآن يخوض المعركة مع الضعف البشري ومع رواسب الجاهلية ومع المعسكرات المعادية في وقت واحد . ونرى منهج القرآن في التربية - وهو يعمل في النفوس الحية في عالم الواقع - ونرى طرفاً من الجهد الموصول الذي بذله هذا المنهج ، حتى انتهى بهذه المجموعة - المختلفة الدرجات ، المختلفة السمات ، الملتقطة ابتداء من سفح الجاهلية - إلى ذلك التناسق والتكامل والارتفاع ، الذي نشهده في أواخر أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقدر ما تسمح به الفطرة البشرية كذلك
وهذا يفيدنا . . يفيدنا كثيراً . .
يفيدنا في إدراك طبيعة النفس البشرية ، وما تحمله من استعدادات الضعف واستعدادات القوة . متمثلة في خير الجماعات . . الجماعة التي رباها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمنهج القرآني . .
ويفيدنا في إدراك طبيعة المنهج القرآني في التربية؛ وكيف كان يأخذ هذه النفوس؛ وكيف كان يتلطف لها؛ وكيف كان ينسق الصف ، الذي يحتوي على نماذج شتى . من مستويات شتى حيث نراه وهو يعمل في عالم الواقع . . على الطبيعة . .
ويفيدنا في أن نقيس حالنا وحال المجموعات البشرية؛ على واقع النفس البشرية ، ممثلة في تلك الجماعة المختارة . . كي لا نيأس من أنفسنا حين نطلع على مواضع الضعف ، فنترك العلاج والمحاولة وكي لا تبقى الجماعة الأولى - على كل فضلها - مجرد حلم طائر في خيالنا ، لا مطمع لنا في محاولة السير على خطاها . من السفح الهابط ، في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة
وكل هذه ذخيرة ، حين نخرج بها - من الحياة في ظلال القرآن - نكون قد جنينا خيراً كثيراً إن شاء الله .

.
إن من خلال هذه المجموعة من آيات هذا الدرس يبدو لنا أنه كان في الصف المسلم يومذاك :
« أ » من يبطىء نفسه عن الجهاد في سبيل الله ، ومن يبطىء غيره . ثم يحسبها غنيمة إذا لم يخرج فسلم ، على حين أصابت المسلمين مصيبة كما يعدها خسارة إذا لم يخرج فغنم المسلمون ، لأنه لم يكن له سهم في الغنيمة وبذلك يشتري الدنيا بالآخرة
« ب » وكان فيه من المهاجرين أنفسهم - وممن كانت تأخذهم الحماسة للقتال ودفع العدوان وهم في مكة ، مكفوفون عن القتال - من يأخذهم الجزع حينما كتب عليهم القتال في المدينة؛ ويتمنى لو أن الله أمهلهم إلى أجل ، ولم يكتب عليهم القتال الآن
« ج » ومن كان يرجع الحسنة - حين تصيبه - إلى الله؛ ويرجع السيئة - حين تصيبه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا لشدة إيمانه بالله طبعاً ; ولكن لتجريح القيادة والتطير بها
« د » ومن كان يقول : طاعة ، في حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإذا خرج بيت هو ومن لف لفه غير الذي يقول
« ه » ومن كان يتناول الشائعات ، فيذيع بها في الصف؛ محدثاً بها ما يحدثه من البلبة ، قبل أن يتثبت منها ، من القيادة التي يتبعها
« و » ومن كان يشك في أن مصدر هذه الأوامر والتوجيهات كلها هو الله سبحانه . ويظن أن بعضها من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - لا مما أوحي له به
« ز » ومن كان يدافع عن بعض المنافقين - كما سيأتي في مطلع الدرس التالي - حتى لتنقسم الجماعة المسلمة في أمرهم فئتين . . مما يوحي بعدم التناسق في التصور الإيماني وفي التنظيم القيادي ( من ناحية عدم فهم المجموع لوظيفة القيادة وعلاقتهم بها في مثل هذه الشؤون ) . .
وقد يكون هؤلاء جميعاً مجموعة واحدة من المنافقين؛ أو مجموعتين : المنافقين . وضعاف الإيمان ، الذين لم تنضج شخصيتهم الإيمانية - ولو كان بعضهم من المهاجرين . . ولكن وجود تلك المجموعة أو هاتين المجموعتين في الصف المسلم - وهو يواجه العداوات المحيطة به في المدينة من اليهود ، وفي مكة من المشركين ، وفي الجزيرة العربية كلها من المتربصين . . من شأنه أن يحدث خلخلة في الصف؛ تحتاج إلى تربية طويلة ، وإلى جهاد طويل
ونحن نرى في هذا الدرس نماذج من هذا الجهاد ، ومن هذه التربية . وعلاجاً لكل خبيئة في النفس أو في الصف . في دقة ، وفي عمق ، وفي صبر كذلك ، يتمثل في صبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قائد هذا الصف ، الذي يتولى تربيته بالمنهج القرآني :
« أ » نرى الأمر بالحذر ، فلا يخرج المجاهدون المؤمنون فرادى ، للسرايا أو المهام الجهادية .

بل يخرجون « ثُباتٍ » أي سرايا أو فصائل . . أو يخرجون جميعاً في جيش متكامل . لأن الأرض حولهم ملغمة والعداوات حولهم شتى ، والكمين قد يكون كامناً بينهم من المنافقين ، أو ممن يؤويهم المنافقون واليهود من عيون الأعداء المتربصين
« ب » ونرى تصويراً منفراً للمبطئين يبدو فيه سقوط الهمة؛ وحب المنفعة القريبة؛ والتلون من حال إلى حال ، حسب اختلاف الأحوال وكذلك نرى التعجيب من حال أولئك الذين كانوا شديدي التحمس في مكة للقتال ، فلما كتب عليهم في المدينة عراهم الجزع .
« ج » ونرى وعد الله لمن يقاتلون في سبيل الله ، بالأجر العظيم ، وإحدى الحسنيين : { ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } . .
« د » ونرى تصوير القرآن لشرف القصد ، وارتفاع الهدف ، ونبل الغاية ، في القتال الذي يدفعهم إليه . . { في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، الذين يقولون : ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ، واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً } . .
« ه » كما نرى تصوير القرآن لأحقية الغاية التي يجاهد لها الذين آمنوا وقوة السند؛ إلى جانب بطلان غاية الذين كفروا وضعف سندهم فيها : { الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت . فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } . .
« و » ونرى معالجة المنهج القرآني للتصورات الفاسدة ، التي تنشأ عنها المشاعر الفاسدة والسلوك الضعيف . وذلك بتصحيح هذه التصورات الاعتقادية . . مرة في بيان حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة : { قل : متاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى ، ولا تظلمون فتيلاً } . . ومرة في تقرير حتمية الموت ونفاذ المقدر فيه؛ مهما يتخذ المرء من الاحتياط ، ومهما ينكل عن الجهاد : { أينما تكونوا يدرككم الموت ، ولو كنتم في بروج مشيدة } . . ومرة في تقرير حقيقة قدر الله وعمل الإنسان : { وإن تصبهم حسنة يقولوا : هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا : هذه من عندك . قل : كل من عند الله . فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟ ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك } . .
« ز » ونرى القرآن يؤكد حقيقة الصلة بين الله - سبحانه - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن طاعته من طاعته . ويقرر أن هذا القرآن كله من عنده؛ ويدعوهم إلى تدبر الوحدة الكاملة فيه ، الدالة على وحدة مصدره : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } . . { أفلا يتدبرون القرآن؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } .
« ح » ثم نراه - بعد أن يصف حال المرجفين بالأنباء - يوجههم إلى الطريق الأسلم ، المتفق مع قاعدة التنظيم القيادي للجماعة : { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم } .

« ط » ويحذرهم من عاقبة هذا الطريق ، وهو يذكرهم فضل الله عليهم في هدايتهم : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً } . .
ونستطيع أن ندرك مدى الخلخلة التي كانت تنشئها هذه الظواهر في الجماعة المسلمة؛ والتي كانت تحتاج إلى مثل هذا الجهد الموصول ، المنوع الأساليب . . حين نسمع الله - سبحانه - يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يجاهد - ولو كان وحيداً - وأن يحرض المؤمنين على القتال . فيكون مسئولاً عن نفسه فحسب : والله يتولى المعركة : { فقاتل في سبيل الله - لا تكلف إلا نفسك - وحرض المؤمنين ، عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً } . . وفي هذا الأسلوب ما فيه من استجاشة القلوب ، واستثارة الهمم؛ بقدر ما فيه من استجاشة الأمل في النصر ، والثقة ببأس الله وقوته . .
لقد كان القرآن يخوض المعركة بالجماعة المسلمة في ميادين كثيرة . وكان أولها ميدان النفس ضد الهواجس والوساوس وسوء التصور ورواسب الجاهلية ، والضعف البشري - حتى ولو لم يكن صادراً عن نفاق أو انحراف - وكان يسوسها بمنهجه الرباني لتصل إلى مرتبة القوة ، ثم إلى مرتبة التناسق في الصف المسلم . وهذه غاية أبعد وأطول أمداً . فالجماعة حين يوجد فيها الأقوياء كل القوة ، لا يغنيها هذا ، إذا وجدت اللبنات المخلخلة في الصف بكثرة . . ولا بد من التناسق مع اختلاف المستويات . . وهي تواجه المعارك الكبيرة .
والآن نأخذ في مواجهة النصوص مواجهة تفصيلية :
{ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم . فانفروا ثبات ، أو انفروا جميعاً . وإن منكم لمن ليبطئن . فإن أصابتكم مصيبة قال : قد أنعم الله عليّ ، إذ لم أكن معهم شهيداً . ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - يا ليتني كنت معهم ، فأفوز فوزاً عظيماً } . .
إنها الوصية للذين آمنوا : الوصية من القيادة العليا ، التي ترسم لهم المنهج ، وتبين لهم الطريق . وإن الإنسان ليعجب ، وهو يراجع القرآن الكريم؛ فيجد هذا الكتاب يرسم للمسلمين - بصفة عامة طبعاً - الخطة العامة للمعركة وهي ما يعرف باسم « استراتيجية المعركة » . ففي الآية الأخرى يقول للذين أمنوا : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } فيرسم الخطة العامة للحركة الإسلامية . وفي هذه الآية يقول للذين آمنوا : { خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً } وهي تبين ناحية من الخطة التنفيذية أو ما يسمى « التاكتيك » . وفي سورة الأنفال جوانب كذلك في الآيات : { فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون }

. . الآيات .
وهكذا نجد هذا الكتاب لا يعلم المسلمين العبادات والشعائر فحسب؛ ولا يعلمهم الآداب والأخلاق فحسب - كما يتصور الناس الدين ذلك التصور المسكين إنما هو يأخذ حياتهم كلها جملة . ويعرض لكل ما تتعرض له حياة الناس من ملابسات واقعية . . ومن ثم يطلب - بحق - الوصاية التامة على الحياة البشرية؛ ولا يقبل من الفرد المسلم ولا من المجتمع المسلم ، أقل من أن تكون حياته بجملتها من صنع هذا المنهج ، وتحت تصرفه وتوجيهه . وعلى وجه التحديد لا يقبل من الفرد المسلم ، ولا من المجتمع المسلم أن يجعل لحياته مناهج متعددة المصادر : منهجاً للحياة الشخصية ، وللشعائر والعبادات ، والأخلاق والآداب ، مستمداً من كتاب الله . ومنهجاً للمعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولية ، مستمداً من كتاب أحد آخر؛ أو من تفكير بشري على الإطلاق إن مهمة التفكير البشري أن تستنبط من كتاب الله ومنهجه أحكاماً تفصيلية تطبيقية لأحداث الحياة المتجددة ، وأقضيتها المتطورة - بالطريقة التي رسمها الله في الدرس السابق من هذه السورة - ولا شيء وراء ذلك . وإلا فلا إيمان أصلاً ولا إسلام . لا إيمان ابتداء ولا إسلام ، لأن الذين يفعلون ذلك لم يدخلوا بعد في الإيمان ، ولم يعترفوا بعد بأركان الإسلام . وفي أولها : شهادة أن لا إله إلا الله ، التي ينشأ منها أن لا حاكم إلا الله ، وأن لا مشرع إلا الله .
وها هو ذا كتاب الله يرسم للمسلمين جانباً من الخطة التنفيذية للمعركة؛ المناسبة لموقفهم حينذاك . ولوجودهم بين العداوات الكثيرة في الخارج . والمنافقين وحلفائهم اليهود في الداخل . وهو يحذرهم ابتداء :
{ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } . .
خذو حذركم من عدوكم جميعاً . وبخاصة المندسين في الصفوف من المبطئين ، الذين سيرد ذكرهم في الآية :
{ فانفروا ثباتٍ أو انفروا جميعاً } . .
ثُباتٍ . جميع ثُبة : أي مجموعة . . والمقصود لا تخرجوا للجهاد فرادى . ولكن اخرجوا مجموعات صغيرة ، أو الجيش كله . . حسب طبيعة المعركة . . ذلك أن الآحاد قد يتصيدهم الأعداء ، المبثوثون في كل مكان . وبخاصة إذا كان هؤلاء الأعداء منبثين في قلب المعسكر الإسلامي . . وهم كانوا كذلك؛ ممثلين في المنافقين ، وفي اليهود ، في قلب المدينة .
{ وإن منكم لمن ليبطئن . فإن أصابتكم مصيبة قال : قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً . ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً } . .
انفروا جماعات نظامية . أو انفروا جميعاً . ولا ينفر بعضكم ويتثاقل بعضكم - كما هو واقع - وخذوا حذركم . لا من العدو الخارجي وحده؛ ولكن كذلك من المعوقين المبطئين المخذلين؛ سواء كانوا يبطئون أنفسهم - أي يقعدون متثاقلين - أو يبطئون غيرهم معهم؛ وهو الذي يقع عادة من المخذّلين المثبطين
ولفظة « ليبطئن » مختارة هنا بكل ما فيها من ثقل وتعثر؛ وإن اللسان ليتعثر في حروفها وجرسها ، حتى يأتي على آخرها ، وهو يشدها شداً؛ وإنها لتصور الحركة النفسية المصاحبة لها تصويراً كاملاً بهذا التعثر والتثاقل في جرسها .

وذلك من بدائع التصوير الفني في القرآن ، الذي يرسم حالة كاملة بلفظة واحدة .
وكذلك يشي تركيب الجملة كلها : { وإن منكم لمن ليبطئن } ، بأن هؤلاء المبطئين - وهم معدودون من المسلمين - { منكم } يزاولون عملية التبطئة كاملة ، ويصرون عليها إصراراً ، ويجتهدون فيها اجتهاداً . . وذلك بأسلوب التوكيد بشتى المؤكدات في الجملة مما يوحي بشدة إصرار هذه المجموعة على التبطئة ، وشدة أثرها في الصف المسلم؛ وشدة ما يلقاه منها
ومن ثم يسلط السياق الأضواء الكاشفة عليهم ، وعلى دخيلة نفوسهم؛ ويرسم حقيقتهم المنفرة ، على طريقة القرآن التصويرية العجيبة :
فها هم أولاء ، بكل بواعثهم ، وبكل طبيعتهم وبكل أعمالهم وأقوالهم . . ها هم أولاء مكشوفين للأعين ، كما لو كانوا قد وضعوا تحت مجهر ، يكشف النوايا والسرائر؛ ويكشف البواعث والدوافع .
ها هم أولاء - كما كانوا على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكما يكونون في كل زمان وكل مكان . ها هم أولاء . ضعافاً منافقين ملتوين؛ صغار الاهتمامات أيضاً : لا يعرفون غاية أعلى من صالحهم الشخصي المباشر ، ولا أفقاً أعلى من ذواتهم المحدودة الصغيرة . فهم يديرون الدنيا كلها على محور واحد . وهم هم هذا المحور الذي لا ينسونه لحظة
إنهم يبطئون ويتلكأون ، ولا يصارحون ، ليمسكوا العصا من وسطها كما يقال وتصورهم للربح والخسارة هو التصور الذي يليق بالمنافقين الضعاف الصغار :
يتخلفون عن المعركة . . فإن أصابت المجاهدين محنة ، وابتلوا الابتلاء الذي يصيب المجاهدين - في بعض الأحايين - فرح المتخلفون؛ وحسبوا أن فرارهم من الجهاد ، ونجاتهم من الابتلاء نعمة :
{ فإن أصابتكم مصيبة قال : قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً } . .
إنهم لا يخجلون - وهم يعدون هذه النجاة مع التخلف نعمة - أن ينسبوها لله . الله الذي خالفوا عن أمره فقعدوا والنجاة في هذه الملابسة لا تكون من نعمة الله أبداً . فنعمة الله لا تنال بالمخالفة . ولو كان ظاهرها نجاة
إنها نعمة ولكن عند الذين لا يتعاملون مع الله . عند من لا يدركون لماذا خلقهم الله . ولا يعبدون الله بالطاعة والجهاد لتحقيق منهجه في الحياة . نعمة عند من لا يتطلعون إلى آفاق أعلى من مواطىء الأقدام في هذه الأرض . . كالنمال . . نعمة عند من لا يحسون أن البلاء - في سبيل الله وفي الجهاد لتحقيق منهج الله وإعلاء كلمة الله - هو فضل واختيار من الله ، يختص به من يشاء من عباده؛ ليرفعهم في الحياة الدنيا على ضعفهم البشري ، ويطلقهم من إسار الأرض يستشرفون حياة رفيعة ، يملكونها ولا تملكهم .

وليؤهلهم بهذا الانطلاق وذلك الارتفاع للقرب منه في الآخرة . . في منازل الشهداء . .
إن الناس كلهم يموتون ولكن الشهداء في - سبيل الله - هم وحدهم الذين « يستشهدون » . . وهذا فضل من الله عظيم .
فأما إذا كانت الأخرى . . فانتصر المجاهدون؛ الذين خرجوا مستعدين لقبول كل ما يأتيهم به الله . . ونالهم فضل من الله بالنصر والغنيمة . . ندم المتخلفون أن لم يكونوا شركاء في معركة رابحة رابحة بحسب مفهومهم القريب الصغير للربح والخسارة
{ ولئن أصابكم فضل من الله ، ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً } .
إنها أمنية الفوز الصغير بالغنيمة والإياب ، هي التي يقولون عنها : { فوزاً عظيماً } والمؤمن لا يكره الفوز بالإياب والغنيمة؛ بل مطلوب منه أن يرجوه من الله . والمؤمن لا يتمنى وقوع البلاء بل مطلوب منه أن يسأل الله العافية . . ولكن التصور الكلي للمؤمن غير هذا التصور ، الذي يرسمه التعبير القرآني لهذه الفئة رسماً مستنكراً منفراً . .
إن المؤمن لا يتمنى البلاء بل يسأل الله العافية . ولكنه إذا ندب للجهاد خرج - غير متثاقل - خرج يسأل الله إحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة . . وكلاهما فضل من الله؛ وكلاهما فوز عظيم . فيقسم له الله الشهادة ، فإذا هو راض بما قسم الله؛ أو فرح بمقام الشهادة عند الله . ويقسم له الله الغنيمة والإياب ، فيشكر الله على فضله ، ويفرح بنصر الله . لا لمجرد النجاة
وهذا هو الأفق الذي أراد الله أن يرفع المسلمين إليه؛ وهو يرسم لهم هذه الصورة المنفرة لذلك الفريق « منهم » وهو يكشف لهم عن المندسين في الصف من المعوقين ، ليأخذوا منهم حذرهم؛ ; كما يأخذون حذرهم من أعدائهم
ومن وراء التحذير والاستنهاض للجماعة المسلمة في ذلك الزمان ، يرتسم نموذج إنساني متكرر في بني الإنسان ، في كل زمان ومكان ، في هذه الكلمات المعدودة من كلمات القرآن
ثم تبقى هذه الحقيقة تتملاها الجماعة المسلمة أبداً . وهي أن الصف قد يوجد فيه أمثال هؤلاء . فلا ييئس من نفسه . ولكن يأخذ حذره ويمضي . ويحاول بالتربية والتوجيه والجهد ، أن يكمل النقص ، ويعالج الضعف ، وينسق الخطى والمشاعر والحركات
ثم يمضي السياق يحاول أن يرفع ويطلق هؤلاء المبطئين المثقلين بالطين وأن يوقظ في حسهم التطلع إلى ما هو خير وأبقى . . الآخرة . . وأن يدفعهم إلى بيع الدنيا وشراء الآخرة . ويعدهم على ذلك فضل الله في الحالتين ، وإحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة :
{ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة . ومن يقاتل في سبيل الله ، فيقتل أو يَغلب ، فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } . .
فليقاتل - في سبيل الله - فالإسلام لا يعرف قتالاً إلا في هذا السبيل . لا يعرف القتال للغنيمة ولا يعرف القتال للسيطرة . ولا يعرف القتال للمجد الشخصي أو القومي
إنه لا يقاتل للاستيلاء على الأرض؛ ولا للاستيلاء على السكان .

. لا يقاتل ليجد الخامات للصناعات ، والأسواق للمنتجات؛ أو لرؤوس الأموال يستثمرها في المستعمرات وشبه المستعمرات
إنه لا يقاتل لمجد شخص . ولا لمجد بيت . ولا لمجد طبقة . ولا لمجد دولة ، ولا لمجد أمة ، ولا لمجد جنس . إنما يقاتل في سبيل الله . لإعلاء كلمة الله في الأرض . ولتمكين منهجه من تصريف الحياة . ولتمتيع البشرية بخيرات هذا المنهج ، وعدله المطلق « بين الناس » مع ترك كل فرد حراً في اختيار العقيدة التي يقتنع بها . . في ظل هذا المنهج الرباني الإنساني العالمي العام . .
وحين يخرج المسلم ليقاتل في سبيل الله ، بقصد إعلاء كلمة الله ، وتمكين منهجه في الحياة . ثم يقتل . . يكون شهيداً . وينال مقام الشهداء عند الله . . وحين يخرج لأي هدف آخر - غير هذا الهدف - لا يسمى « شهيداً » ولا ينتظر أجره عند الله ، بل عند صاحب الهدف الأخر الذي خرج له . . والذين يصفونه حينئذ بأنه « شهيد » يفترون على الله الكذب؛ ويزكون أنفسهم أو غيرهم بغير ما يزكي به الله الناس . افتراء على الله
فليقاتل في سبيل الله - بهذا التحديد . . من يريدون أن يبيعوا الدنيا ليشتروا بها الآخرة . ولهم - حينئذ - فضل من الله عظيم؛ في كلتا الحالتين : سواء من يُقتل في سبيل الله؛ ومن يَغلب في سبيل الله أيضاً :
{ ومن يقاتل في - سبيل الله - فيقتل أو يغلب ، فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } . .
بهذه اللمسة يتجه المنهج القرآني إلى رفع هذه النفوس؛ وإلى تعليقها بالرجاء في فضل الله العظيم؛ في كلتا الحالتين . وأن يهوّن عليها ما تخشاه من القتل ، وما ترجوه من الغنيمة كذلك فالحياة أو الغنيمة لا تساوي شيئاً إلى جانب الفضل العظيم من الله . كما يتجه إلى تنفيرها من الصفقة الخاسرة إذا هي اشترت الدنيا بالآخرة ولم تشتر الآخرة بالدنيا ( ولفظ يشري من ألفاظ الضد فهي غالباً بمعنى يبيع ) فهي خاسرة سواء غنموا أو لم يغنموا في معارك الأرض . وأين الدنيا من الآخرة؟ وأين غنيمة المال من فضل الله؟ وهو يحتوي المال - فيما يحتويه - ويحتوي سواه؟
ثم يلتفت السياق إلى المسلمين . يلتفت من أسلوب الحكاية والتصوير عن أولئك المبطئين؛ إلى أسلوب الخطاب للجماعة المسلمة كلها . يلتفت إليها لاستجاشة مروءة النفوس ، وحساسية القلوب؛ تجاه المستضعفين من الرجال والنساء والولدان؛ الذين كانوا يقاسون في مكة ما يقاسون على أيدي المشركين غير قادرين على الهجرة إلى دار الإسلام والفرار بدينهم وعقيدتهم؛ وهم يتطلعون إلى الخلاص ، ويدعون الله أن يجعل لهم مخرجاً من دار الظلم والعدوان . . يلتفت هذه الالتفاتة ليوحي إليهم بسمو المقصد ، وشرف الغاية ، ونبل الهدف ، في هذا القتال ، الذي يدعوهم أن ينفروا إليه ، غير متثاقلين ولا مبطئين .

وذلك في أسلوب تحضيضي؛ يستنكر البطء والقعود :
{ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ، والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان . الذين يقولون : ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ، واجعل لنا من لدنك ولياً ، واجعل لنا من لدنك نصيراً؟ } . .
وكيف تقعدون عن القتال في سبيل الله؛ واستنقاذ هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان؟ هؤلاء الذين ترتسم صورهم في مشهد مثير لحمية المسلم ، وكرامة المؤمن ، ولعاطفة الرحمة الإنسانية على الإطلاق؟ هؤلاء الذين يعانون أشد المحنة والفتنة؛ لأنهم يعانون المحنة في عقيدتهم ، والفتنة في دينهم . والمحنة في العقيدة أشد من المحنة في المال والأرض والنفس والعرض ، لأنها محنة في أخص خصائص الوجود الإنساني ، الذي تتبعه كرامة النفس والعرض ، وحق المال والأرض
ومشهد المرأة الكسيرة والولد الضعيف ، مشهد مؤثر مثير . لا يقل عنه مشهد الشيوخ الذين لا يملكون أن يدفعوا - وبخاصة حين يكون الدفع عن الدين والعقيدة - وهذا المشهد كله معروض في مجال الدعوة إلى الجهاد . وهو وحده يكفي . لذلك يستنكر القعود عن الاستجابة لهذه الصرخات . . وهو أسلوب عميق الوقع ، بعيد الغور في مسارب الشعور والإحساس .
ولا بد من لفتة هنا إلى التصور الإسلامي للبلد والأرض والوطن : إن { هذه القرية الظالم أهلها } التي يعدها الإسلام - في موضعها ذاك - دار حرب ، يجب أن يقاتل المسلمون لاستنقاذ المسلمين المستضعفين منها ، هي « مكة » وطن المهاجرين ، الذين يُدعون هذه الدعوة الحارة إلى قتال المشركين فيها . ويدعو المسلمون المستضعفون هذه الدعوة الحادة للخروج منه
إن كونها بلدهم لم يغير وضعها في نظر الإسلام - حين لم تقم فيها شريعة الله ومنهجه؛ وحين فتن فيها المؤمنون عن دينهم ، وعذبوا في عقيدتهم . . بل اعتبرت بالنسبة لهم هم أنفسهم « دار حرب » . . دار حرب ، هم لا يدافعون عنها ، وليس هذا فحسب بل هم يحاربونها لإنقاذ إخوتهم المسلمين منها . . إن راية المسلم التي يحامي عنها هي عقيدته . ووطنه الذي يجاهد من أجله هو البلد الذي تقام شريعة الله فيه؛ وأرضه التي يدفع عنها هي « دار الإسلام » التي تتخذ المنهج الإسلامي منهجاً للحياة . . وكل تصور آخر للوطن هو تصور غير إسلامي ، تنضح به الجاهليات ، ولا يعرفه الإسلام .
ثم لمسة نفسية أخرى ، لاستنهاض الهمم ، واستجاشة العزائم ، وإنارة الطريق ، وتحديد القيم والغايات والأهداف ، التي يعمل لها كل فريق :
{ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله؛ والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت . فقاتلوا أولياء الشيطان . إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } . .
وفي لمسة واحدة يقف الناس على مفرق الطريق . وفي لحظة ترتسم الأهداف ، وتتضح الخطوط . وينقسم الناس إلى فريقين اثنين؛ تحت رايتين متميزتين :
{ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله } . .
{ والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت } .

.
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله؛ لتحقيق منهجه ، وإقرار شريعته ، وإقامة العدل « بين الناس » باسم الله . لا تحت أي عنوان آخر . اعترافاً بأن الله وحده هو الإله ومن ثم فهو الحاكم :
والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ، لتحقيق مناهج شتى - غير منهج الله - وإقرار شرائع شتى - غير شريعة الله - وإقامة قيم شتى - غير التي أذن بها الله - ونصب موازين شتى غير ميزان الله
ويقف الذين آمنوا مستندين الى ولاية الله وحمايته ورعايته .
ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم ، وشتى مناهجهم ، وشتى شرائعهم ، وشتى طرائقهم ، وشتى قيمهم ، وشتى موازينهم . . . فكلهم أولياء الشيطان .
ويأمر الله الذين أمنوا أن يقاتلوا أولياء الشيطان؛ ولا يخشوا مكرهم ولا مكر الشيطان :
{ فقاتلوا أولياء الشيطان ، إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } .
وهكذا يقف المسلمون على أرض صلبة ، مسندين ظهورهم إلى ركن شديد . مقتنعي الوجدان بأنهم يخوضون معركة لله ، ليس لأنفسهم منها نصيب ، ولا لذواتهم منها حظ . وليست لقومهم ، ولا لجنسهم ، ولا لقرابتهم وعشيرتهم منها شيء . . إنما هي لله وحده ، ولمنهجه وشريعته . وأنهم يواجهون قوماً أهل باطل؛ يقاتلون لتغليب الباطل على الحق . لأنهم يقاتلون لتغليب مناهج البشر الجاهلية - وكل مناهج البشر جاهلية - على شريعة منهج الله؛ ولتغليب شرائع البشر الجاهلية - وكل شرائع البشر جاهلية - على الله؛ ولتغليب ظلم البشر- وكل حكم للبشر من دون الله ظلم - على عدل الله ، الذي هم مأمورون أن يحكموا به بين الناس . .
كذلك يخوضون المعركة ، وهم يوقنون أن الله وليهم فيها . وأنهم يواجهون قوماً ، الشيطان وليهم فهم إذن ضعاف . . إن كيد الشيطان كان ضعيفاً . .
ومن هنا يتقرر مصير المعركة في حس المؤمنين ، وتتحدد نهايتها . قبل أن يدخلوها . وسواء بعد ذلك استشهد المؤمن في المعركة - فهو واثق من النتيجة - أم بقي حتى غلب ، ورأى بعينيه النصر؛ فهو واثق من الأجر العظيم .
من هذا التصور الحقيقي للأمر في كلتا حالتيه ، انبثقت تلك الخوارق الكثيرة التي حفظها تاريخ الجهاد في سبيل الله في حياة الجماعة المسلمة الأولى؛ والتي تناثرت على مدى التاريخ في أجيال كثيرة . وما بنا أن نضرب لها هنا الأمثال؛ فهي كثيرة مشهورة . . ومن هذا التصور كان ذلك المد الإسلامي العجيب ، في أقصر فترة عرفت في التاريخ؛ فقد كان هذا التصور جانباً من جوانب التفوق الذي حققه المنهج الرباني للجماعة المسلمة ، على المعسكرات المعادية . . ذلك التفوق الذي أشرنا إليه من قبل في هذا الجزء . وبناء هذا التصور ذاته كان طرفاً من المعركة الكلية الشاملة التي خاضها القرآن في نفوس المؤمنين ، وهو يخوض بهم المعركة مع أعدائهم المتفوقين في العدد والعدة والمال؛ ولكنهم في هذا الجانب كانوا متخلفين؛ فأمسوا مهزومين
وها نحن أولاء نرى الجهد الذي بذله المنهج في إنشاء هذا التصور وتثبيته .

فلم يكن الأمر هيناً . ولم يكن مجرد كلمة تقال . ولكنه كان جهداً موصولاً ، لمعالجة شح النفس ، وحرصها على الحياة - بأي ثمن - وسوء التصور لحقيقة الربح والخسارة . . وفي الدرس بقية من هذا العلاج ، وذلك الجهد الموصول .
إن السياق يمضي - بعد هذا - إلى التعجيب من أمر طائفة أو أكثر من المسلمين - قيل إن بعضهم من المهاجرين ، الذين كانت تشتد بهم الحماسة - وهم في مكة يلقون الأذى والاضطهاد - ليؤذن لهم في قتال المشركين . حيث لم يكن مأذوناً لهم - بعد - في قتال ، للحكمة التي يعلمها الله؛ والتي قد نصيب طرفاً من معرفتها فيما سنذكره بعد . . فلما كتب عليهم القتال ، بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة ، وعلم الله أن في هذا الإذن خيراً لهم وللبشرية . . إذا هم - كما يصورهم القرآن - { يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب } ممن إذا أصابتهم الحسنة قالوا : هذه من عند الله . وإن أصابتهم السيئة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : هذه من عندك . وممن يقولون : طاعة حتى إذا خرجوا من عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيت طائفة منهم غير الذي تقول . وممن إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . . .
يمضي السياق ليعجب من شأن هؤلاء ، في الأسلوب القرآني؛ الذي يصور حالة النفس ، كما لو كانت مشهداً يرى ويحس ويصحح لهم - ولغيرهم - سوء التصور والإدراك لحقائق الموت والحياة ، والأجل والقدر ، والخير والشر ، والنفع والضرر ، والكسب والخسارة ، والموازين والقيم؛ ويبين لهم حقائقها في أسلوب يصور الحقائق في صورتها الموحية المؤثرة :
{ ألم تر إلى الذين قيل لهم : كفوا أيديكم ، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل : متاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى ، ولا تظلمون فتيلاً . أينما تكونوا يدرككم الموت . ولو كنتم في بروج مشيدة } .
{ وإن تصبهم حسنة يقولوا : هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك . قل : كل من عندالله . فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟ ما أصابك من حسنة فمن الله . وما أصابك من سيئة فمن نفسك . وأرسلناك للناس رسولاً ، وكفى بالله شهيداً . من يطع الرسول فقد أطاع الله؛ ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً } .
{ ويقولون : طاعة . فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول - والله يكتب ما يبيتون - فأعرض عنهم ، وتوكل على الله ، وكفى بالله وكيلاً .

أفلا يتدبرون القرآن؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } .
{ وأذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم . . ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً } . .
هؤلاء الذين تتحدث عنهم هذه المجموعات الأربع من الآيات؛ قد يكونون هم أنفسهم الذين تحدثت عنهم مجموعة سابقة في هذا الدرس : { وإن منكم لمن ليبطئن } . . . الآيات . . . ويكون الحديث كله عن تلك الطائفة من المنافقين؛ التي تصدر منها هذه الأعمال وهذه الأقوال كلها .
وقد كدنا نرجح هذا الرأي؛ لأن ملامح النفاق واضحة ، فيما تصفه هذه المجموعات كلها . وصدور هذه الأعمال وهذا الأقوال عن طوائف المنافقين في الصف المسلم ، أمر أقرب إلى طبيعتهم ، وإلى سوابقهم كذلك . وطبيعة السياق القرآني شديدة الالتحام بين الآيات جميعا . .
ولكن المجموعة الأولى من هذه المجموعات التي تتحدث عن الذين : { قيل لهم : كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . فلما كتب عليهم القتال } . . . الآيات هي التي جعلتنا نتردد في اعتبار الآيات كلها حديثاً عن المنافقين - وإن بدت فيها صفات المنافقين وبدت فيها لحمة السياق واستطراده - وجعلتنا نميل إلى اعتبار هذه المجموعة واردة في طائفة من المهاجرين - ضعاف الإيمان غير منافقين - والضعف قريب الملامح من النفاق - وأن كل مجموعة أخرى من هذه المجموعات الأربع ربما كانت تصف طائفة بعينها من طوائف المنافقين ، المندسين في الصف المسلم . وربما كانت كلها وصفاً للمنافقين عامة؛ وهي تعدد ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال .
والسبب في وقوفنا هذا الموقف أمام آيات المجموعة الأولى؛ وظننا أنها تصف طائفة من المهاجرين الضعاف الإيمان؛ أو الذين لم ينضج بعد تصورهم الإيماني؛ ولم تتضح معالم الاعتقاد في قلوبهم وعقولهم . .
السبب هو أن المهاجرين هم الذين كان بعضهم تأخذه الحماسة والاندفاع ، لدفع أذى المشركين - وهم في مكة - في وقت لم يكن مأذوناً لهم في القتال - فقيل لهم : { كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } . .
وحتى لو أخذنا في الاعتبار ما عرضه أصحاب بيعة العقبة الثانية الاثنان والسبعون على النبي - صلى الله عليه وسلم - من ميلهم على أهل منى - أي قتلهم - لو أمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورده عليهم : « إننا لم نؤمر بقتال » . فإن هذا لا يجعلنا ندمج هذه المجموعة من السابقين من الأنصار - أصحاب بيعه العقبة - في المنافقين ، الذين تتحدث عنهم بقية الآيات . ولا في الضعاف الذين تصفهم المجموعة الأولى . فإنه لم يعرف عن هؤلاء الصفوة نفاق ولا ضعف؛ رضي الله عنهم جميعاً .
فأقرب الاحتمالات هو أن تكون هذه المجموعة واردة في بعض من المهاجرين ، الذين ضعفت نفوسهم - وقد أمنوا في المدينة وذهب عنهم الأذى - عن تكاليف القتال .

. وألا تكون بقية الأوصاف واردة فيهم ، بل في المنافقين . لأنه يصعب علينا - مهما عرفنا من ظواهر الضعف البشري - أن نسم أي مهاجر من هؤلاء السابقين بسمة رد السيئة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون الحسنة أو قول الطاعة وتبييت غيرها . . وإن كنا لا نستبعد أن توجد فيهم صفة الإذاعة بالأمر من الأمن أو الخوف . لأن هذه قد تدل على عدم الدربة على النظام ، ولا تدل على النفاق . .
والحق . . أننا نجد أنفسنا - أمام هذه الآيات كلها - في موفق لا نملك الجزم فيه بشيء . والروايات الواردة عنها ليس فيها جزم كذلك بشيء . . حتى في آيات المجموعة الأولى . التي ورد أنها في طائفة من المهاجرين؛ كما ورد أنها في طائفة من المنافقين
ومن ثم نأخذ بالأحوط؛ في تبرئة المهاجرين من سمات التبطئة والانخلاع مما يصيب المؤمنين من الخير والشر . التي وردت في الآيات السابقة . ومن سمة إسناد السيئة للرسول - صلى الله عليه وسلم - دون الحسنة ، ورد هذه وحدها إلى الله ومن سمة تبييت غير الطاعة . . وإن كانت تجزئة سياق الآيات على هذا النحو ليست سهلة على من يتابع السياق القرآني ، ويدرك - بطول الصحبة - طريقة التعبير القرآنية والله المعين .
{ ألم تر إلى الذين قيل لهم : كفوا أيديكم ، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاه . . فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل : متاع الدنيا قليل . والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً . أينما تكونوا يدرككم الموت ، ولو كنتم في بروج مشيدة . . . }
يعجب الله - سبحانه - من أمر هؤلاء الناس؛ الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال ويستعجلونه وهم في مكة ، يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين . حين لم يكن مأذونا لهم في القتال للحكمة التي يريدها الله . فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدره الله؛ وتهيأت الظروف المناسبة وكتب عليهم القتال - في سبيل الله - إذا فريق منهم شديد الجزع ، شديد الفزع ، حتى ليخشى الناس الذين أمروا بقتالهم - وهم ناس من البشر - كخشية الله ; القهار الجبار ، الذي لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد . . { أو أشد خشية } وإذا هم يقولون - في حسرة وخوف وجزع - { ربنا لم كتبت علينا القتال؟ } . . وهو سؤال غريب من مؤمن . وهو دلالة على عدم وضوح تصوره لتكاليف هذا الدين؛ ولوظيفة هذا الدين أيضاً . . ويتبعون ذلك التساؤل ، بأمنية حسيرة مسكينة { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } وأمهلتنا بعض الوقت ، قبل ملاقاة هذا التكليف الثقيل المخيف
إن أشد الناس حماسة واندفاعاً وتهوراً ، قد يكونون هم أشد الناس جزعاً وانهياراً وهزيمة عندما يجد الجد ، وتقع الواقعة .

. بل إن هذه قد تكون القاعدة ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالباً ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف . لا عن شجاعة واحتمال وإصرار . كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال . قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة؛ فتدفعهم قلة الاحتمال ، إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل . دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار . . حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا ، وأشق مما تصوروا . فكانوا أول الصف جزعاً ونكولاً وانهياراً . . على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم ، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت؛ ويعدون للأمر عدته ، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة ، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف . فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته . . والمتهورون المندفعون المستحمسون يحسبونهم إذا ذاك ضعافاً ، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالاً؛ وأي الفريقين أبعد نظراً كذلك
وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف ، الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه؛ ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة . فيندفع يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بدفع الأذى ، أو حفظ الكرامة . والرسول - صلى الله عليه وسلم - يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار ، والتربية والإعداد ، وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب . فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة؛ ولم يعد هناك أذى ولا إذلال ، وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص؛ لم يعد يرى للقتال مبرراً؛ أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة
{ فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ، وقالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب } .
وقد يكون هذا الفريق مؤمناً فعلا . بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا . فالإيمان الذي لم ينضج بعد؛ والتصور الذي لم تتضح معالمه؛ ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض - وأنها أكبر من حماية الأشخاص ، وحماية الأقوام ، وحماية الأوطان ، إذ أنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض ، وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم؛ وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان ، يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله؛ ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض؛ ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه إذا هو اختاره بكامل حريته - بأي لون من ألوان الفتنة - ومنها أن يطارد في رزقه أو في نشاطه حيث هو - وهذه كلها مهام خارجة عن وقوع أذى على أشخاص بعينهم أو عدم وقوعه .

. وإذن فلم يكن الأمن في المدينة - حتى على فرض وجوده كاملاً غير مهدد - لينهي مهمة المسلمين هناك؛ وينهى عن الجهاد
الإيمان الذي لم ينضج بعد ليبلغ بالنفس إلى إخراج ذاتها من الأمر؛ والاستماع فقط إلى أمر الله واعتباره هو العلة والمعلول ، والسبب والمسبب ، والكلمة الأخيرة - سواء عرف المكلف حكمتها أم لم تتضح له - والتصور الذي لم تتضح معالمه بعد ليعرف المؤمن مهمة هذا الدين في الأرض؛ ومهمته هو - المؤمن - بوصفه قدراً من قدر الله ، ينفذ به الله ما يشاؤه في هذه الحياة . . لا جرم ينشأ عنه مثل هذا الموقف ، الذي يصوره السياق القرآني هذا التصوير؛ ويعجب منه هذا التعجيب وينفر منه هذا التنفير .
فأما لماذا لم يأذن الله للمسلمين - في مكة - بالانتصار من الظلم؛ والرد على العدوان؛ ودفع الأذى بالقوة . . وكثيرون منهم كان يملك هذا؛ فلم يكن ضعيفاً ولا مستضعفاً؛ ولم يكن عاجزاً عن رد الصاع صاعين . . مهما يكن المسلمون في ذلك الوقت قلة . .
أما حكمة هذا ، والأمر بالكف عن القتال ، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والصبر والاحتمال . . حتى وبعض المسلمين يلقى من الأذى والعذاب ما لا يطاق ، وبعضهم يتجاوز العذاب طاقته؛ فيفتن عن دينه . وبعضهم لا يحتمل الاستمرار في العذاب فيموت تحت وطأته . .
أما حكمة هذا فلسنا في حل من الجزم بها . لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة؛ ونفرض على أوامره أسباباً وعللاً ، قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية . أو قد تكون ، ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها ، ويعلم - سبحانه - أن فيها الخير والمصلحة . . وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف . أو أي حكم في شريعة الله - لم يبين الله سببه محدداً جازماً حاسماً - فمهما خطر له من الأسباب والعلل لهذا الحكم أو لذلك التكليف؛ أو لكيفية تنفيذ هذا الحكم أو طريقة أداء ذلك التكليف ، مما يدركه عقله ويحسن فيه . . فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرد احتمال . ولا يجزم - مهما بلغت ثقته بعلمه وعقله وتدبره لأحكام الله - بأن ما رآه هو حكمة؛ هو الحكمة التي أرادها الله . . نصاً . . وليس وراءها شيء ، وليس من دونها شيء فذلك التحرج هو مقتضى الأدب الواجب مع الله . ومقتضى ما بين علم الله ومعرفة الإنسان من اختلاف في الطبيعة والحقيقة .
وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة . . نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب . . على أنه مجرد احتمال . . وندع ما وراءه لله . لا نفرض على أمره أسباباً وعللاً ، لا يعلمها إلا هو . . ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح
إنها أسباب .

. اجتهادية . . تخطىء وتصيب . وتنقص وتزيد . ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله . وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان :
« أ » ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد؛ في بيئة معينة ، لقوم معينين ، وسط ظروف معينة . ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات ، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به . ليخلص من شخصه ، ويتجرد من ذاته ، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به ، محوراً لحياة في نظره ، ودافع الحركة في حياته . . وتربيته كذلك على ضبط أعصابه؛ فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مهيج . ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته . . وتربيته على أن يتبع مجتمعاً منظماً له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته؛ ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره - مهما يكن مخالفاً لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي ، لإنشاء « المجتمع المسلم » الخاضع لقيادة موجهة؛ المترقي المتحضر ، غير الهمجي أو القبلي .
« ب » وربما كان ذلك أيضاً ، لأن الدعوة السلمية أشد أثراً وأنفذ ، في مثل بيئة قريش؛ ذات العنجهية والشرف؛ والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه الفترة - إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية جديدة ، كثارات العرب المعروفة ، التي أثارت حرب داحس والغبراء ، وحرب البسوس - أعواماً طويلة ، تفانت فيها قبائل برمتها - وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام . فلا تهدأ بعد ذلك أبداً . ويتحول الإسلام من دعوة ، إلى ثارات وذحول تنسى معها فكرته الأساسية ، وهو في مبدئه ، فلا تذكر أبداً
« ج » وربما كان ذلك أيضاً ، اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت . فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة ، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم . إنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد ، يعذبونه هم ويفتنونه و « يؤدبونه » ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت . . ثم يقال : هذا هو الإسلام ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال فقد كانت دعاية قريش في الموسم ، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة : إن محمداً يفرق بين الوالد وولده؛ فوق تفريقه لقومه وعشيرته فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد ، والمولى بقتل الولي . . في كل بيت وكل محلة؟
« د » وربما كان ذلك أيضاً ، لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم ، ويعذبونهم ويؤذونهم؛ هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص ، بل من قادته .

. ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟
« ه » وربما كان ذلك ، أيضاً ، لأن النخوة العربية ، في بيئة قبلية ، من عادتها أن تثور للمظلوم ، الذي يحتمل الأذى ، ولا يتراجع وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم . . وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة - في هذه البيئة - فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة ، ورأى في ذلك عاراً على العرب وعرض عليه جواره وحمايته . . . وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب ، بعدما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة . . بينما في بيئة أخرى من البيئات ذات الحضارة القديمة التي مردت على الذل ، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة؛ وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي
« و » وربما كان ذلك أيضاً ، لقلة عدد المسلمين حينذاك ، وانحصارهم في مكة . حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة . أو بلغت أخبارها متناثرة؛ حيث كانت القبائل تقف على الحياد ، من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها ، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف . . ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة ، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك ، وتنمحي الجماعة المسلمة . ولم يقم في الأرض للإسلام نظام ، ولا وجد له كيان واقعي . . وهو دين جاء ليكون منهج حياة ، وليكون نظاماً واقعياً عملياً للحياة .
« ز » في الوقت ذاته لم يكن هناك ضرورة قاهرة ملحة ، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها ، والأمر بالقتال ودفع الأذى . لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائماً - وقتها - ومحققاً . . هذا الأمر الأساسي هو « وجود الدعوة » . . وجودها في شخص الداعية - صلى الله عليه وسلم - وشخصه في حماية سيوف بني هاشم ، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع والنظام القبلي السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني هاشم ، إذا هي امتدت يدها إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فكان شخص الداعية من ثم محمياً حماية كافية . . وكان الداعية يبلغ دعوته - إذن - في حماية سيوف بني هاشم ومقتضيات النظام القبلي ، ولا يكتمها ، ولا يخفيها ، ولا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغها وإعلانها ، في ندوات قريش في الكعبة ، ومن فوق جبل الصفا؛ وفي اجتماعات عامة . . ولا يجرؤ أحد على سد فمه؛ ولا يجرؤ أحد على خطفه وسجنه أو قتله ولا يجرؤ أحد على أن يفرض عليه كلاماً بعينه يقوله؛ يعلن فيه بعض حقيقة دينه؛ ويسكت عن بعضها . وحين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف .

وحين طلبوا إليه أن يسكت عن عيب دين آبائهم وأجدادهم وكونهم في جهنم لم يسكت . وحين طلبوا إليه أن يدهن فيدهنوا . أي أن يجاملهم فيجاملوه؛ بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا هم بعض عبادته ، لم يدهن . . . وعلى الجملة كان للدعوة « وجودها » الكامل ، في شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محروساً بسيوف بني هاشم - وفي إبلاغه لدعوة ربه كاملة في كل مكان وفي كل صورة . . ومن ثم لم تكن هنالك الضرورة القاهرة لاستعجال المعركة ، والتغاضي عن كل هذه الاعتبارات البيئية التي هي في مجموعها ، مساندة للدعوة ومساعدة في مثل هذه البيئة .
هذه الاعتبارات - كلها - فيما نحسب - كانت بعض ما اقتضت حكمة الله - معه - أن يأمر المسلمين بكف أيديهم . وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة . . لتتم تربيتهم وإعدادهم ، ولينتفع بكل إمكانيات الخطة في هذه البيئة؛ وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة ، في الوقت المناسب . وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها ، فلا يكون لذواتهم فيها حظ . لتكون خالصة لله . وفي سبيل الله . . والدعوة لها « وجودها » وهي قائمة ومؤداة ومحمية ومحروسة . . .
وأياً ما كانت حكمة الله من وراء هذه الخطة ، فقد كان هناك المتحمسون يبدون لهفتهم على اللحظة التي يؤذن لهم فيها بالقتال :
{ فلما كتب عليهم القتال ، إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب } .
وكان وجود هذه الطائفة في الصف المسلم ينشىء فيه حالة من الخلخلة وينشى ء فيه حالة من عدم التناسق بين هذه الطائفة الجزوع الهلوع ، وبين الرجال المؤمنين ، ذوي القلوب الثابتة المطمئنة؛ المستقبلة لتكاليف الجهاد - على كل ما فيها من مشقة - بالطمأنينة والثقة والعزم والحماسة أيضاً . ولكن في موضعها المناسب . فالحماسة في تنفيذ الأمر حين يصدر هي الحماسة الحقيقية . أما الحماسة قبل الأمر ، فقد تكون مجرد اندفاع وتهور؛ يتبخر عند مواجهة الخطر
وكان القرآن يعالج هذه الحالة بمنهجه الرباني :
{ قل : متاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى ، ولا تظلمون فتيلاً . أينما تكونوا يدرككم الموت ، ولو كنتم في بروج مشيدة } . .
إنهم يخشون الموت ، ويريدون الحياة . ويتمنون في حسرة مسكينة لو كان الله قد أمهلهم بعض الوقت؛ ومد لهم - شيئاً - في المتاع بالحياة
والقرآن يعالج هذه المشاعر في منابتها؛ ويجلو غبش التصور لحقيقة الموت والأجل . .
{ قل متاع الدنيا قليل } . .
متاع الدنيا كله . والدنيا كلها . فما بال أيام ، أو أسابيع ، أو شهور ، أو سنين؟ ما قيمة هذا الإمهال لأجل قصير . إذا كان متاع الحياة الدنيا بطولها في جملته قليلا؟ ما الذي يملكون تحقيقه من المتاع في أيام ، أو أسابيع ، أو شهور ، أو سنين .

ومتاع الدنيا كله والدنيا بطولها قليل؟
{ والآخرة خير لمن اتقى } . .
فالدنيا - أولاً - ليست نهاية المطاف ولا نهاية الرحلة . . إنها مرحلة . . ووراءها الآخرة والمتاع فيها هو المتاع - فضلاً على أن المتاع فيها طويل كثير - فهي { خير } . . { خير لمن اتقى } . . وتذكر التقوى هنا والخشية والخوف في موضعها . التقوى لله . فهو الذي يتقى ، وهو الذي يخشى . وليس الناس الناس . . الذين سبق أن قال : إنهم يخشونهم كخشية الله - أو أشد خشية - والذي يتقي الله لا يتقي الناس . والذي يعمر قلبه الخوف من الله لا يخاف أحداً . فماذا يملك له إذا كان الله لا يريد؟
{ ولا تظلمون فتيلاً }
فلا غبن ولا ضير ولا بخس؛ إذا فاتهم شيء من متاع الدنيا . فهناك الآخرة . وهناك الجزاء الأوفى؛ الذي لا يبقى معه ظلم ولا بخس في الحساب الختامي للدنيا والآخرة جميعاً
ولكن بعض الناس قد تهفو نفسه - مع هذا كله - إلى أيام تطول به في هذه الأرض حتى وهو يؤمن بالآخرة ، وهو ينتظر جزاءها الخير . . وبخاصة حين يكون في المرحلة الإيمانية التي كانت فيها هذه الطائفة
هنا تجيء اللمسة الأخرى . اللمسة التي تصحح التصور عن حقيقة الموت والحياة ، والأجل والقدر؛ وعلاقة هذا كله بتكليف القتال ، الذي جزعوا له هذا الجزع ، وخشوا الناس فيه هذه الخشية
{ أينما تكونوا يدرككم الموت ، ولو كنتم في بروج مشيدة } . .
فالموت حتم في موعده المقدر . ولا علاقة له بالحرب والسلم . ولا علاقة له بحصانة المكان الذي يحتمي به الفرد أو قلة حصانته . ولا يؤخره أن يؤخر عنهم تكليف القتال إذن؛ ولا هذا التكليف والتعرض للناس في الجهاد يعجله عن موعده . .
هذا أمر وذاك أمر؛ ولا علاقة بينهما . . إنما العلاقة هناك بين الموت والأجل . بين الموعد الذي قدره الله وحلول ذلك الموعد . . وليست هنالك علاقة أخرى . . ولا معنى إذن لتمني تأجيل القتال . ولا معنى إذن لخشية الناس في قتال أو في غير قتال
وبهذه اللمسة الثانية يعالج المنهج القرآني كل ما يهجس في الخاطر عن هذا الأمر؛ وكل ما ينشئه التصور المضطرب من خوف ومن ذعر . .
إنه ليس معنى هذا ألا يأخذ الإنسان حذره وحيطته وكل ما يدخل في طوقه من استعداد وأهبة ووقاية . . فقد سبق أن أمرهم الله بأخذ الحذر . وفي مواضع أخرى أمرهم بالاحتياط في صلاة الخوف . وفي سور أخرى أمرهم باستكمال العدة والأهبة . . ولكن هذا كله شيء ، وتعليق الموت والأجل به شيء آخر . . إن أخذ الحذر واستكمال العدة أمر يجب أن يطاع ، وله حكمته الظاهرة والخفية ، ووراءه تدبير الله . . وإن التصور الصحيح لحقيقة العلاقة بين الموت والأجل المضروب - رغم كل استعداد واحتياط - أمر آخر يجب أن يطاع؛ وله حكمته الظاهرة والخفية ، ووراءه تدبير الله .

.
توازن واعتدال . وإلمام بجميع الأطراف . وتناسق بين جميع الأطراف . .
هذا هو الإسلام . وهذا هو منهج التربية الإسلامي ، للأفراد والجماعات . .
وبهذا ربما ينتهي الحديث عن تلك الطائفة من المهاجرين . ويبدأ الحديث عن طائفة أخرى من الطوائف المنبثة في المجتمع الإسلامي ، والتي يتألف منها الصف المسلم ومن سواها . . هذا وإن كان السياق لا انقطاع فيه ، ولا فصل ، ولا وقفة تنبىء بأن الحديث الآتي عن طائفة أخرى ، وأن الحديث عن هذه الطائفة قد انتهى . . ولكننا نمضي مع الاعتبارات التي أسلفناها :
{ وإن تصبهم حسنة يقولوا : هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا : هذه من عندك قل : كل من عند الله . فمال هؤلاء القول لا يكادون يفقهون حديثاً؟ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك . وأرسلناك للناس رسولاً . وكفى بالله شهيداً . من يطع الرسول فقد أطاع الله ، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً } . .
إن الذين يقولون هذا القول ، وينسبون ما يصيبهم من الخير إلى الله ، وما يصيبهم من الضر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتمل فيهم وجوه :
الوجه الأول : أنهم يتطيرون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيظنونه - حاشاه - شؤماً عليهم . يأتيهم السوء من قبله . فإن أجدبت السنة ، ولم تنسل الماشية ، أو إذا أصيبوا في موقعة؛ تطيروا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فأما حين يصيبهم الخير فينسبون هذا إلى الله
الوجه الثاني : أنهم يريدون عامدين تجريح قيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تخلصاً من التكاليف التي يأمرهم بها . وقد يكون تكليف القتال منها - أو أخصها - فبدلاً من أن يقولوا : إنهم ضعاف يخشون مواجهة القتال ، يتخذون ذلك الطريق الملتوي الآخر ويقولون : إن الخير يأتيهم من الله ، وإن السوء لا يجيئهم إلا من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن أوامره . وهم يعنون بالخير أو السوء النفع أو الضر القريب الظاهر
والوجه الثالث : هو سوء التصور فعلاً لحقيقة ما يجري لهم وللناس في هذه الحياة ، وعلاقته بمشيئة الله . وطبيعة أوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم؛ وحقيقة صلة الرسول بالله سبحانه وتعالى . .
وهذا الوجه الثالث - إذا صح - ربما يكون قابلاً لأن يوسم به ذلك الفريق من المهاجرين الذين كان سوء تصورهم لحقيقة الموت والأجل ، يجعلهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . ويقولون : { ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب } . . غير أننا ما نزال نميل إلى اعتبار المتحدث عنهم هنا طائفة أخرى . . تجتمع فيها تلك الأوجه كلها أو بعضها . وهذا الوجه الثالث منها . .
إن القضية التي تتناولها هذه الآيات ، هي جانب من قضية كبيرة . . القضية المعروفة في تاريخ الجدل والفلسفة في العالم كله باسم « قضية القضاء والقدر » أو « الجبر والاختيار » .

. وقد وردت في أثناء حكاية ذلك الفريق من الناس؛ ثم في الرد عليهم ، وتصحيح تصورهم . والقرآن يتناولها ببساطة واضحة لا تعقيد فيها ولا غموض . . فلنعرضها كما وردت وكما رد عليها القرآن الكريم :
{ وإن تصبهم حسنة يقولوا : هذه من عندالله . وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك . قل : كل من عند الله . فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟ } . .
إن الله هو الفاعل الأول ، والفاعل الواحد ، لكل ما يقع في الكون ، وما يقع للناس ، وما يقع من الناس . فالناس يملكون أن يتجهوا وأن يحاولوا . ولكن تحقق الفعل - أي فعل - لا يكون إلا بإرادة من الله وقدر .
فنسبة إنشاء الحسنة أو إنشاء السيئة ، وإيقاعها بهم ، للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو بشر منهم مخلوق مثلهم - نسبة غير حقيقية؛ تدل على عدم فقههم لشيء ما في هذا الموضوع .
إن الإنسان قد يتجه ويحاول تحقيق الخير؛ بالوسائل التي أرشد الله إلى أنها تحقق الخير . ولكن تحقق الخير فعلاً يتم بإرادة الله وقدره . لأنه ليست هناك قدرة - غير قدرة الله - تنشىء الأشياء والأحداث وتحقق ما يقع في هذا الكون من وقائع . وإذن يكون تحقق الخير - بوسائله التي اتخذها الإنسان وباتجاه الإنسان وجهده - عملاً من أعمال القدرة الإلهية .
وإن الإنسان قد يتجه إلى تحقيق السوء . أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء . ولكن وقوع السوء فعلاً ، ووجوده أصلاً ، لا يتم إلا بقدرة الله وقدر الله . لأنه ليس هناك قدرة منشئة للأشياء والأحداث في هذا الكون غير قوة الله .
وفي الحالتين يكون وجود الحدث وتحققه من عند الله . . وهذا ما تقرره الآية الأولى . .
أما الآية الثانية :
{ ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك . . . }
فإنها تقرر حقيقة أخرى . ليست داخلة ولا متداخلة مع مجال الحقيقة الأولى . . إنها في واد آخر . . والنظرة فيها من زاوية أخرى :
إن الله - سبحانه - قد سن منهجاً ، وشرع طريقاً ، ودل على الخير ، وحذر من الشر . فحين يتبع الإنسان هذا المنهج ، ويسير في هذا الطريق ، ويحاول الخير ، ويحذر الشر . . فإن الله يعينه على الهدى كما قال : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } . ويظفر الإنسان بالحسنة . . ولا يهم أن تكون من الظواهر التي يحسبها الناس من الخارج كسباً . . إنما هي الحسنة فعلاً في ميزان الله تعالى . . وتكون من عند الله . لأن الله هو الذي سن المنهج وشرع الطريق ودل على الخير وحذر من الشر . . وحين لا يتبع الإنسان منهج الله الذي سنه ، ولا يسلك طريقه الذي شرعه ، ولا يحاول الخير الذي دله عليه ، ولا يحذر الشر الذي حذره منه .

. حينئذ تصيبه السيئة . السيئة الحقيقية . سواء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً . . ويكون هذا من عند نفسه . لأنه هو الذي لم يتبع منهج الله وطريقه . .
وهذا معنى غير المعنى الأول ، ومجال غير المجال الأول . . كما هو واضح فيما نحسب . .
ولا يغير هذا من الحقيقة الأولى شيئاً . وهي أن تحقق الحسنة ، وتحقق السيئة ووقوعهما لا يتم إلا بقدرة الله وقدره . لأنه المنشىء لكل ما ينشأ . المحدث لكل ما يحدث . الخالق لكل ما يكون . . أياً كانت ملابسة إرادة الناس وعملهم في هذا الذي يحدث ، وهذا الذي يكون .
ثم يبين لهم حدود وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعمله وموقف الناس منه ، وموقفه من الناس . ويرد الأمر كله إلى الله في النهاية :
{ وأرسلناك للناس رسولاً . وكفى بالله شهيداً . من يطع الرسول فقد أطاع الله . ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً } . .
إن وظيفة الرسول هي أداء الرسالة . لا إحداث الخير ولا إحداث السوء . فهذا من أمر الله - كما سلف - والله شهيد على أنه أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأداء هذه الوظيفة { وكفى بالله شهيداً } . .
وأمُر الناس مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن من أطاعه فقد أطاع الله . فلا تفرقة بين الله ورسوله . ولا بين قول الله وقول رسوله . . ومن تولى معرضاً مكذباً فأمره إلى الله من ناحية حسابه وجزائه . ولم يرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليجبره على الهدى ، ويكرهه على الدين ، وليس موكلاً بحفظه من العصيان والضلال . فهذا ليس داخلاً في وظيفة الرسول؛ ولا داخلاً في قدرة الرسول .
بهذا البيان يصحح تصورهم عن حقيقة ما يقع لهم . . فكله لا ينشأ ولا يتحقق إلا بإرادة الله وقدره . وما يصيبهم من حسنة أو سيئة - بأي معنى من معاني الحسنة أو السيئة ، سواء حسب ما يرونه هم في الظاهر ، أو ما هو في حقيقة الأمر والواقع - فهو من عند الله . لأنه لا ينشىء شيئاً ولا يحدثه ولا يخلقه ويوجده إلا الله . . وما يصيبهم من حسنة حقيقية - في ميزان الله - فهو من عند الله ، لأنه بسبب منهجه وهدايته . وما يصيبهم من سيئة حقيقية - في ميزان الله - فهو من عند أنفسهم ، لأنه بسبب تنكبهم عن منهج الله والإعراض عن هدايته . .
والرسول وظيفته الأولى والأخيرة أنه رسول . لا ينشىء ولا يحدث ولا يخلق . ولا يشارك الله تعالى في خاصية الألوهية هذه : وهي الخلق والإنشاء والإحداث . وهو يبلغ ما جاء به من عند الله ، فطاعته فيما يأمر به إذن هي طاعة لله . وليس هناك طريق آخر لطاعة الله غير طاعة الرسول . والرسول ليس مكلفاً أن يحدث الهدى للمعرضين المتولين ، ولا أن يحفظهم من الإعراض والتولي .

بعد البلاغ والبيان . .
حقائق - هكذا - واضحة مريحة ، بينة صريحة؛ تبني التصور ، وتريح الشعور؛ وتمضي شوطاً مع تعليم الله لهذه الجماعة ، وإعدادها لدورها الكبير الخطير . .
بعد ذلك يحكي السياق عن حال طائفة أخرى - في الصف المسلم - أم لعلها هي طائفة المنافقين يذكر عنها فعلاً جديداً ، وفصلاً جديداً ومع الحكاية التنفير من الفعلة؛ ومع التنفير التعليم والتوجيه والتنظيم . . كل ذلك في آيات قليلة ، وعبارات معدودة :
{ ويقولون : طاعة . فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول - والله يكتب ما يبيتون - فأعرض عنهم ، وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً . أفلا يتدبرون القرآن؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } . .
إن هذا الفريق من الناس إذا كان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع منه القرآن وما فيه من التكاليف . . قالوا : { طاعة } . . قالوها هكذا جامعة شاملة . طاعة مطلقة . لا اعتراض ولا استفهام ولا استيضاح ولا استثناء ولكن ما إن يخرجوا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تبيت طائفة منهم غير الذي تقول؛ وتروح في ما بينها تتآمر على عدم التنفيذ؛ وعلى اتخاذ خطة للتخلص من التكليف .
أم لعل النص يصور حال الجماعة المسلمة كلها؛ ويستثني منها هذه الطائفة ذات الشأن الخاص ، والتصرف الخاص . . ويكون المعنى أن المسلمين يقولون : طاعة . بجملتهم . ولكن طائفة منهم - وهي هذه الطائفة المنافقة - إذا خرجت بيت أفرادها غير ما قالوا . . وهي صورة ترسم تلك الخلخلة بعينها في الصف المسلم . فإن هؤلاء مندسون فيه على كل حال . وتصرفهم على هذا النحو يؤذي الصف ويخلخله؛ والجماعة المسلمة تخوض المعركة في كل ميادينها وبكل قوتها
والله - سبحانه - يطمئن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمخلصين في الصف . يطمئنهم بأن عينه على هذه الطائفة التي تبيت وتمكر ، وشعور المسلمين بأن عين الله على المبيتين الماكرين يثبت قلوبهم ، ويسكب فيها الطمأنينة إلى أن هذه الطائفة لن تضرهم شيئاً بتآمرها وتبيتها . ثم هي تهديد ووعيد للمتآمرين المبيتين؛ فلن يذهبوا مفلحين ، ولن يذهبوا ناجين :
{ والله يكتب ما يبيتون } . .
وكانت الخطة التي وجه الله إليها نبيه - صلى الله عليه وسلم - في معاملة المنافقين ، هي أخذهم بظاهرهم - لا بحقيقة نواياهم - والإعراض والتغاضي عما يبدر منهم . . وهي خطة فتلتهم في النهاية ، وأضعفتهم ، وجعلت بقاياهم تتوارى ضعفاً وخجلاً . . وهنا طرف من هذه الخطة :
{ فأعرض عنهم } .
ومع هذا التوجيه بالإغضاء عنهم ، التطمين بكلاءة الله وحفظه مما يبيتون :
{ وتوكل على الله . . وكفى بالله وكيلاً } . .
نعم . . وكفى بالله وكيلاً . لا يضار من كان وكيله؛ ولا يناله تآمر ولا تبيت ولا مكيدة .

.
وكأنما كان الذي يدفع هذه الطائفة إلى أن تقول في حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع القائلين : { طاعة } فإذا خرجت بيتت غير الذي تقول . . كأنما كان هذا بسبب شكهم في مصدر ما يأمرهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وظنهم أن هذا القرآن من عنده وحين يوجد مثل هذا الشك لحظة يتوارى سلطان الأمر والتكليف جملة . فهذا السلطان مستمد كله من الاعتقاد الجازم الكامل ، بأن هذا كلام الله ، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى . . ومن ثم كان هذا التوكيد الشديد الجازم المكرر على هذه الحقيقة . .
وهنا يعرض عليهم القرآن خطة ، هي غاية ما يبلغه المنهج الرباني من تكريم الإنسان والعقل الإنساني ، واحترام هذا الكائن البشري وإدراكه ، الذي وهبه له الخالق المنان . يعرض عليهم الاحتكام في أمر القرآن إلى إدراكهم هم وتدبر عقولهم . . ويعين لهم منهج النظر الصحيح؛ كما يعين لهم الظاهرة التي لا تخطىء إذا اتبعها ذلك المنهج . وهي ظاهرة واضحة كل الوضوح في القرآن من جهة؛ ويمكن للعقل البشري إدراكها من جهة أخرى . . ودلالتها على أنه من عند الله دلالة لا تمارى :
{ أفلا يتدبرون القرآن؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } . .
وفي هذا العرض ، وهذا التوجيه ، منتهى الإكرام للإنسان وإدراكه وشخصيته - كما قلنا - كما أن فيه منتهى النصفة في الاحتكام إلى هذا الإدراك في ظاهرة لا يعييه إدراكها . وهي في الوقت ذاته ذات دلالة - كما أسلفنا - لا تمارى
والتناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من يتدبر هذا القرآن أبداً . . ومستوياتها ومجالاتها ، مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها . ولكن كل عقل وكل جيل يجد منها - بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه - ما يملك إدراكه ، في محيط يتكيف بمدى القدرة والثقافة والتجربة والتقوى .
ومن ثم فإن كل أحد ، وكل جيل ، مخاطب بهذه الآية . ومستطيع - عند التدبر وفق منهج مستقيم - أن يدرك من هذه الظاهرة - ظاهرة عدم الاختلاف ، أو ظاهرة التناسق - ما تهيئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه . .
وتلك الطائفة في ذلك الجيل كانت تخاطب بشيء تدركه ، وتملك التحقق منه بإدراكها في حدودها الخاصة .
تتجلى هذه الظاهرة ظاهرة . عدم الاختلاف . . أو ظاهرة التناسق . . ابتداء في التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية . . ففي كلام البشر تبدو القمم والسفوح؛ التوفيق والتعثر . القوة والضعف . التحليق والهبوط . الرفرفة والثقلة . الإشراق والانطفاء . . إلى آخر الظواهر التي تتجلى معها سمات البشر . وأخصها سمة « التغير » والاختلاف المستمر الدائم من حال إلى حال . يبدو ذلك في كلام البشر ، واضحاً عندما تستعرض أعمال الأديب الواحد ، أو المفكر الواحد ، أو الفنان الواحد ، أو السياسي الواحد ، أو القائد العسكري الواحد .

. أو أيٍّ كان في صناعته؛ التي يبدو فيها الوسم البشري واضحاً . . وهو : التغير ، والاختلاف . .
هذه الظاهرة واضح كل الوضوح أن عكسها وهو : الثبات ، والتناسق ، هو الظاهرة الملحوظة في القرآن - ونحن نتحدث فقط عن ناحية التعبير اللفظي والأداء الأسلوبي - فهناك مستوى واحد في هذا الكتاب المعجز - تختلف ألوانه باختلاف الموضوعات التي يتناولها - ولكن يتحد مستواه وأفقه ، والكمال في الأداء بلا تغير ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى . . كما هو الحال في كل ما يصنع الإنسان . . إنه يحمل طابع الصنعة الإلهية؛ ويدل على الصانع . يدل على الموجود الذي لا يتغير من حال إلى حال ، ولا تتوالى عليه الأحوال .
وتتجلى ظاهرة عدم الاختلاف . . والتناسق المطلق الشامل الكامل . . بعد ذلك في ذات المنهج الذي تحمله العبارات . ويؤديه الأداء . . منهج التربية للنفس البشرية - والمجتمعات البشرية - ومحتويات هذا المنهج وجوانبه الكثيرة - ومنهج التنظيم للنشاط الإنساني للأفراد - وللمجتمع الذي يضم الأفراد وشتى الجوانب والملابسات التي تطرأ في حياة المجتمعات البشرية على توالي الأجيال - ومنهج التقويم للإدراك البشري ذاته وتناول شتى قواه وطاقاته وإعمالها معاً في عملية الإدراك - ومنهج التنسيق بين الكائن الإنساني بجملته - في جميع مجتمعاته وأجياله ومستوياته - وبين هذا الكون الذي يعيش فيه؛ ثم بين دنياه وآخرته؛ وما يشتجر في العلاقة بينهما من ملابسات لا تحصى في عالم كل فرد؛ وفي عالم « الإنسان » وهو يعيش في هذا الكون بشكل عام . .
وإذا كان الفارق بين صنعة الله وصنعة الإنسان واضحاً كل الوضوح في جانب التعبير اللفظي والأداء الفني ، فإنه أوضح من ذلك في جانب التفكير والتنظيم والتشريع . فما من نظرية بشرية ، وما من مذهب بشري ، إلا وهو يحمل الطابع البشري . . جزئية النظر والرؤية . . والتأثر الوقتي بالمشكلات الوقتية . . وعدم رؤية المتناقضات في النظرية أو المذهب أو الخطة؛ التي تؤدي إلى الاصطدام بين مكوّناتها - إن عاجلاً وإن آجلاً - كما تؤدي إلى إيذاء بعض الخصائص في الشخصية البشرية الواحدة التي لم يحسب حساب بعضها؛ أو في مجموعة الشخصيات الذين لم يحسب حساب كل واحدة منها . . إلى عشرات ومئات من النقائص والاختلاف ، الناشئة من طبيعة الإدراك البشري المحدود ، ومن الجهل البشري بما وراء اللحظة الحاضرة ، فوق جهله بكل مكونات اللحظة الحاضرة - في أية لحظة حاضرة - وعكس ذلك كله هو ما يتسم به المنهج القرآني الشامل المتكامل ، الثابت الأصول؛ ثبات النواميس الكونية؛ الذي يسمح بالحركة الدائمة - مع ثباته - كما تسمح بها النواميس الكونية
وتدبر هذه الظاهرة ، في آفاقها هذه ، قد لا يتسنى لكل إدراك ، ولا يتسنى لكل جيل . بل المؤكد أن كل إدراك سيتفاوت مع الآخر في إدراكها؛ وكل جيل سيأخذ بنصيبه في إدراكها ويدع آفاقاً منها للأجيال المترقية ، في جانب من جوانب المعرفة أو التجربة .

. إلا أنه يتبقى من وراء كل الاختلاف البشري الكثير في إدراك هذه الظاهرة - كاختلافه الكثير في كل شيء آخر - بقية يلتقي عليها كل إدراك ، ويلتقي عليها كل جيل . . وهي أن هذه الصنعة شيء وصنعة البشر شيء آخر . وأنه لا اختلاف في هذه الصنعة ولا تفاوت ، وإنما وحدة وتناسق . . ثم يختلف الناس بعد ذلك ما يختلفون في إدراك آماد وآفاق وأبعاد وأنواع ذلك التناسق
وإلى هذا القدر الذي لا يخطئه متدبر - حين يتدبر - يكل الله تلك الطائفة ، كما يكل كل أحد ، وكل جماعة ، وكل جيل . وإلى هذا القدر من الإدراك المشترك يكل إليهم الحكم على هذا القرآن؛ وبناء اعتقادهم في أنه من عند الله . ولا يمكن أن يكون من عند غير الله .
ويحسن أن نقف هنا وقفة قصيرة ، لتحديد مجال الإدراك البشري في هذا الأمر وفي أمر الدين كله . فلا يكون هذا التكريم الذي كرمه الله للإنسان بهذا التحكيم ، سبيلاً إلى الغرور ، وتجاوز الحد المأمون؛ والانطلاق من السياج الحافظ من المضي في التيه بلا دليل
إن مثل هذه التوجيهات في القرآن الكريم يساء إدراكها ، وإدراك مداها . فيذهب بها جماعة من المفكرين الإسلاميين - قديماً وحديثاً - إلى إعطاء الإدراك البشري سلطة الحكم النهائية في أمر الدين كله . ويجعلون منه نداً لشرع الله . بل يجعلونه هو المسيطر على شرع الله
الأمر ليس كذلك . . الأمر أن هذه الأداة العظيمة - أداة الإدراك البشري - هي بلا شك موضع التكريم من الله - ومن ثم يكل إليها إدراك الحقيقة الأولى : حقيقة أن هذا الدين من عند الله . لأن هناك ظواهر يسهل إدراكها؛ وهي كافية بذاتها للدلالة - دلالة هذا الإدراك البشري ذاته - على أن هذا الدين من عند الله . . ومتى أصبحت هذه القاعدة الكبيرة مسلماً بها ، أصبح من منطق هذا الإدراك ذاته أن يسلم - بعد ذلك -تلقائياً بكل ما ورد في هذا الدين - لا يهم عندئذ أن يدرك حكمته الخفية أو لا يدركها . فالحكمة متحققة حتماً ما دام من عند الله . ولا يهم عندئذ أن يرى « المصلحة » متحققة فيه في اللحظة الحاضرة . فالمصلحة متحققة حتماً ما دام من عندالله . . والعقل البشري ليس نداً لشريعة الله - فضلاً على أن يكون الحاكم عليها - لأنه لا يدرك إلا إدراكاً ناقصاً في المدى المحدود؛ ويستحيل أن ينظر من جميع الزوايا وإلى جميع المصالح - لا في اللحظة الواحدة ولا في التاريخ كله - بينما شريعة الله تنظر هذه النظرة؛ فلا ينبغي أن يكون الحكم فيها ، أو في حكم ثابت قطعي من أحكامها موكولاً إلى الإدراك البشري .

. وأقصى ما يتطلب من الإدراك البشري أن يتحرى إدراك دلالة النص وانطباقه؛ لا أن يتحرى المصلحة أو عدم المصلحة فيه فالمصلحة متحققة أصلاً بوجود النص من قبل الله تعالى . . إنما يكون هذا فيما لا نص فيه ، مما يجدّ من الأقضية؛ وهذا سبق بيان المنهج فيه ، وهو رده إلى الله والرسول . . وهذا هو مجال الاجتهاد الحقيقي . إلى جانب الاجتهاد في فهم النص ، والوقوف عنده ، لا تحكيم العقل البشري في أن مدلوله يحمل المصلحة أو لا يحملها إن مجال العقل البشري الأكبر في معرفة نواميس الكون والإبداع في عالم المادة . . وهو ملك عريض
يجب أن نحترم الإدراك البشري بالقدر الذي أراده الله له من التكريم في مجاله الذي يحسنه - ثم لا نتجاوز به هذا المجال . كي لا نمضي في التيه بلا دليل . إلا دليلاً يهجم على ما لا يعرف من مجاهل الطريق . . وهو عندئذ أخطر من المضي بلا دليل
ويمضي السياق يصور حال طائفة أخرى . أو يصف فعلة أخرى لطائفة في المجتمع المسلم : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . ولوردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم . ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً } . .
والصورة التي يرسمها هذا النص ، هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي ، لم تألف نفوسهم النظام؛ ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر؛ وفي النتائج التي تترتب عليها ، وقد تكون قاصمة؛ لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث؛ ولم يدركوا جدية الموقف؛ وأن كلمة عابرة وفلتة لسان ، قد تجر من العواقب على الشخص ذاته ، وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال؛ وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال أو - ربما - لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر؛ وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جراء أخذ كل شائعة والجري بها هنا وهناك ، وإذاعتها ، حين يتلقاها لسان عن لسان . سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف . .
فكلتاهما قد يكون لإشاعتها خطورة مدمرة - فإن إشاعة أمر الأمن مثلاً في معسكر متأهب مستيقظ متوقع لحركة من العدو . . إشاعة أمر الأمن في مثل هذا المعسكر تحدث نوعاً من التراخي - مهما تكن الأوامر باليقظة - لأن اليقظة النابعة من التحفز للخطر غير اليقظة النابعة من مجرد الأوامر وفي ذلك التراخي قد تكون القاضية كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته ، ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة . وقد تحدث إشاعة أمر الخوف فيه خلخلة وارتباكاً ، وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف . . وقد تكون كذلك القاضية
وعلى أية حال فهي سمة المعسكر الذي لم يكتمل نظامه؛ أو لم يكتمل ولاؤه لقيادته .

أو هما معاً . . ويبدو أن هذه السمة وتلك كانتا واقعتين في المجتمع المسلم حينذاك؛ باحتوائه على طوائف مختلفة المستويات في الإيمان ، ومختلفة المستويات في الإدراك ، ومختلفة المستويات في الولاء . . . وهذه الخلخلة هي التي كان يعالجها القرآن بمنهجه الرباني .
والقرآن يدل الجماعة المسلمة على الطريق الصحيح :
{ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم } .
أي لو أنهم ردوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إن كان معهم ، أو إلى أمرائهم المؤمنين ، لعلم حقيقته القادرون على استنباط هذه الحقيقة؛ واستخراجها من ثنايا الأنباء المتناقضة ، والملابسات المتراكمة .
فمهمة الجندي الطيب في الجيش المسلم ، الذي يقوده أمير مؤمن - بشرط الإيمان ذاك وحدّه - حين يبلغ إلى أذنيه خبر ، أن يسارع فيخبر به نبيه أو أميره . لا أن ينقله ويذيعه بين زملائه؛ أو بين من لا شأن لهم به . لأن قيادته المؤمنة هي التي تملك استنباط الحقيقة ، كما تملك تقدير المصلحة في إذاعة الخبر - حتى بعد ثبوته - أو عدم إذاعته . .
وهكذا كان القرآن يربي . . فيغرس الإيمان والولاء للقيادة المؤمنة؛ ويعلم نظام الجندية في آية واحدة . . بل بعض آية . . فصدر الآية يرسم صورة منفرة للجندي وهو يتلقى نبأ الأمن أو الخوف ، فيحمله ويجري متنقلاً ، مذيعاً له ، من غير تثبت ، ومن غير تمحيص ، ومن غير رجعة إلى القيادة . . ووسطها يعلم ذلك التعليم . . وآخرها يربط القلوب بالله في هذا ، ويذكرها بفضله ، ويحركها إلى الشكر على هذا الفضل ، ويحذرها من اتباع الشيطان الواقف بالمرصاد؛ الكفيل بإفساد القلوب لولا فضل الله ورحمته :
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً } . .
آية واحدة تحمل هذه الشحنة كلها؛ وتتناول القضية من أطرافها؛ وتتعمق السريرة والضمير؛ وهي تضع التوجيه والتعليم ذلك أنه من عند الله . . { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } . .
وحين يصل السياق إلى هذا الحد من تقويم عيوب الصف؛ التي تؤثر في موقفه في الجهاد وفي الحياة - ومنذ أول الدرس وهذا التقويم مطرد لهذه العيوب - عندئذ ينتهي إلى قمة التحضيض على القتال الذي جاء ذكره في ثنايا الدرس . قمة التكليف الشخصي ، الذي لا يقعد الفرد عنه تبطئة ولا تخذيل ، ولا خلل في الصف ، ولا وعورة في الطريق . حيث يوجه الخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يقاتل - ولو كان وحيداً - فإنه لا يحمل في الجهاد إلا تبعة شخصه - صلى الله عليه وسلم - وفي الوقت ذاته يحرض المؤمنين على القتال . . وكذلك يوحي إلى النفوس بالطمأنينة ورجاء النصر : فالله هو الذي يتولى المعركة . والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً :
{ فقاتل في سبيل الله - لا تكلف إلا نفسك - وحرض المؤمنين .

عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا . والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً } . .
ومن خلال هذه الآية - بالإضافة إلى ما قبلها - تبرز لنا ملامح كثيرة في الجماعة المسلمة يومذاك . كما تبرز لنا ملامح كثيرة في النفس البشرية في كل حين :
« أ » يبرز لنا مدى الخلخلة في الصف المسلم؛ وعمق آثار التبطئة والتعويق والتثبيط فيه؛ حتى لتكون وسيلة الاستنهاض والاستجاشة ، هي تكليف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاتل في سبيل الله - ولو كان وحده - ليس عليه إلا نفسه؛ مع تحريض المؤمنين . غير متوقف مضيه في الجهاد على استجابتهم أو عدم استجابتهم ولو أن عدم استجابتهم - جملة - أمر لا يكون . ولكن وضع المسألة هذا الوضع يدل على ضرورة إبراز هذا التكليف على هذا النحو؛ واستجاشة النفوس له هذه الاستجاشة . فوق ما يحمله النص - طبعاً - من حقيقة أساسية ثابتة في التصور الإسلامي . وهي أن كل فرد لا يكلف إلا نفسه . .
« ب » كما يبرز لنا مدى المخاوف والمتاعب في التعرض لقتال المشركين يومذاك . . حتى ليكون أقصى ما يعلق الله به رجاء المؤمنين : أن يتولى هو سبحانه كف بأس الذين كفروا؛ فيكون المسلمون ستاراً لقدرته في كف بأسهم عن المسلمين . . مع إبراز قوة الله - سبحانه - وأنه أشد بأساً وأشد تنكيلاً . . وإيحاء هذه الكلمات واضح عن قوة بأس الذين كفروا يومذاك؛ والمخاوف المبثوثة في الصف المسلم . . وربما كان هذا بين أحد والخندق . فهذه أحرج الأوقات التي مرت بها الجماعة المسلمة في المدينة؛ بين المنافقين ، وكيد اليهود ، وتحفز المشركين وعدم اكتمال التصور الإسلامي ووضوحه وتناسقه بين المسلمين
« ج » كذلك تبرز لنا حاجة النفس البشرية؛ وهي تدفع إلى التكاليف التي تشق عليها ، إلى شدة الارتباط بالله؛ وشدة الطمأنينة إليه؛ وشدة الاستعانة به؛ وشدة الثقة بقدرته وقوته . . فكل وسائل التقوية غير هذه لا تجدي حين يبلغ الخطر قمته . وهذه كلها حقائق يستخدمها المنهج الرباني؛ والله هو الذي خلق هذه النفوس . وهو الذي يعلم كيف تربى وكيف تُقّوى وكيف تستجاش وكيف تستجيب . .
وبمناسبة تحريض الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين على القتال الذي ورد الأمر به في آخر الدرس ، وذكر المبطئين المثبطين في أوله ، يقرر قاعدة عامة في الشفاعة - وهي تشمل التوجيه والنصح والتعاون :
{ من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ، وكان الله على كل شيء مقيتاً } . .
فالذي يشجع ويحرض ويعاون على القتال في سبيل الله ، يكون له نصيب من أجر هذه الدعوة وآثارها . والذي يبطىء ويثبط تكون له تبعة فيها وفي آثارها .

. وكلمة { كفل } توحي بأنه متكفل بجرائرها .
والمبدأ عام في كل شفاعة خير ، أو شفاعة سوء . وقد ذكر المبدأ العام بمناسبة الملابسة الخاصة ، على طريقة المنهج القرآني ، في إعطاء القاعدة الكلية من خلال الحادثة الجزئية ، وربط الواقعة المفردة بالمبدأ العام كذلك . وربط الأمر كله بالله ، الذي يرزق بكل شيء . أو الذي يمنح القدرة على كل شيء . وهو ما يفسر كلمة « مقيت » في قوله تعالى في التعقيب :
{ وكان الله على كل شيء مقيتاً } .
ثم استطرد السياق بعد ذكر الشفاعة إلى الأمر برد التحية بخير منها أو بمثلها . والتحية في المجتمع علاقة من العلاقات التي تدور بها عجلة الحياة في يسر ، إذا اتبع الأدب الواجب فيها . . والمناسبة قريبة بينها - في جو المجتمع - وبين الشفاعة التي سبق التوجيه فيها :
{ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها ، أو ردوها ، إن الله كان على كل شيء حسيباً } . .
وقد جاء الإسلام بتحيته الخاصة ، التي تميز المجتمع المسلم؛ وتجعل كل سمة فيه - حتى السمات اليومية العادية - متفردة متميزة؛ لا تندغم ولا تضيع في سمات المجتمعات الأخرى ومعالمها . .
جعل الإسلام تحيته : « السلام عليكم » أو « السلام عليكم ورحمة الله » أو « السلام عليكم ورحمة الله وبركاته » . . والرد عليها بأحسن منها - بالزيادة على كل منها ما عدا الثالثة فلم تبق زيادة لمستزيد - فالرد على الأولى ( وعليكم السلام ورحمة الله ) والرد على الثانية ( وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ) . والرد على الثالثة ( وعليكم . . ) إذ أنها استوفت كل الزيادات ، فترد بمثلها . . . وهكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم . .
ونقف أمام اللمسات الكامنة في آية التحية هذه :
إنها - أولاً - تلك السمة المتفردة ، التي يحرص المنهج الإسلامي على أن يطبع بها المجتمع المسلم بحيث تكون له ملامحه الخاصة ، وتقاليده الخاصة - كما أن له شرائعه الخاصة ونظامه الخاص - وقد سبق أن تحدثنا عن هذه الخاصية بالتفصيل عند الكلام عن تحويل القبلة ، وتميز الجماعة المسلمة بقبلتها ، كتميزها بعقيدتها . وذلك في سورة البقرة من قبل في الظلال .
وهي - ثانياً - المحاولة الدائمة لتوثيق علاقات المودة والقربى بين أفراد الجماعة المسلمة . . وإفشاء السلام؛ والرد على التحية بأحسن منها ، من خير الوسائل لإنشاء هذه العلاقات وتوثيقها . « وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي العمل خير؟ قال : تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف » . هذا في إفشاء السلام بين الجماعة المسلمة ابتداء . وهو سنة . أما الرد عليها فهو فريضة بهذه الآية . . والعناية بهذا الأمر تبدو قيمتها عند الملاحظة الواقعية لآثار هذا التقليد في إصفاء القلوب ، وتعارف غير المتعارفين؛ وتوثيق الصلة بين المتصلين . . وهي ظاهرة يدركها كل من يلاحظ آثار مثل هذا التقليد في المجتمعات ، ويتدبر نتائجها العجيبة
وهي - ثالثاً - نسمة رخية في وسط آيات القتال قبلها وبعدها . . لعل المراد منها أن يشار إلى قاعدة الإسلام الأساسية . . السلام . . فالإسلام دين السلام . وهو لا يقاتل إلا لإقرار السلام في الأرض ، بمعناه الواسع الشامل . السلام الناشىء من استقامة الفطرة على منهج الله .

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)

يبدأ هذا الدرس بقاعدة التصور الإسلامي الأساسية . . التوحيد وإفراد الله - سبحانه - بالألوهية؛ ثم يبني على هذه القاعدة أحكاماً شتى في معاملة المجتمع المسلم مع المعسكرات المختلفة؛ بعد التنديد بانقسام الصف المسلم إلى فئتين ورأيين ، في معاملة المنافقين - ويبدو أنها جماعة خاصة من المنافقين من غير سكان المدينة - فتقوم هذه الأحكام - وهذا التنديد أيضاً - على قاعدتها الأصيلة ، التي يقوم عليها بناء النظام الإسلامي كله . . والتي يتكرر ذكرها كلما اتجه المنهج الرباني إلى تشريع أو توجيه .
هذه الأحكام في معاملة المعسكرات المختلفة ، هي طرف من القواعد التي أنشأها الإسلام - لأول مرة في تاريخ البشرية - لتنظيم المعاملات الدولية؛ واتخاذ قواعد أخرى لهذه المعاملات ، غير تحكيم السيف ، ومنطق القوة ، وشريعة الغاب .
إن أوربا بقانونها الدولي - وكل ما تفرع عنه من المنظمات الدولية - لم تبدأ في هذا الاتجاه إلا في القرن السابع عشر الميلادي ( الحادي عشر الهجري ) . ولم يزل هذا القانون - في جملته - حبراً على ورق؛ ولم تزل هذه المنظمات - في جملتها - أدوات تختفي وراءها الأطماع الدولية؛ ومنابر للحرب الباردة وليست أداة لإحقاق حق؛ ولا لتحقيق عدل وقد دعت إليها منازعات بين دول متكافئة القوى . ولكن كلما اختل هذا التكافؤ لم يعد للقوانين الدولية قيمة ، ولا للمنظمات الدولية عمل ذو قيمة
أما الإسلام - المنهج الرباني للبشر - فقد وضع أسس المعاملات الدولية في القرن السابع الميلادي ( الأول الهجري ) . ووضعها من عند نفسه؛ دون أن تضطره إلى ذلك ملابسات القوى المتكافئة . فهو كان يضعها ليستخدمها هو ، وليقيم المجتمع المسلم علاقاته مع المعسكرات الأخرى على أساسها . ليرفع للبشرية راية العدالة ، وليقيم لها معالم الطريق . ولو كانت المعسكرات الأخرى - الجاهلية - لا تعامل المجتمع المسلم بتلك المبادىء من جانبها . . فلقد كان الإسلام ينشىء هذه المبادىء إنشاء وللمرة الأولى . .
وهذه القواعد للمعاملات الدولية متفرقة في مواضعها ومناسباتها من سور القرآن ، وهي تؤلف في مجموعها قانوناً كاملاً للتعامل الدولي . يضم حكماً لكل حالة من الحالات التي تعرض بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات الأخرى : محاربة . ومهادنة . ومحالفة . ومحايدة . ومرتبطة مع محارب ، أو مهادن ، أو محالف ، أو محايد . . . الخ . .
وليس بنا هنا أن نستعرض هذه المبادىء والأحكام ( فهي جديرة ببحث مستقل يتولاه متخصص في القانون الدولي ) . ولكننا نستعرض ما جاء في هذه المجموعة من الآيات في هذا الدرس . . وهي تتعلق بالتعامل مع الطوائف التالية :
« أ » المنافقين غير المقيمين في المدينة .
« ب » الذين يرتبطون بقوم بينهم وبين المسلمين ميثاق . .
« ج » المحايدين الذين تضيق صدورهم بحرب المسلمين أو حرب قومهم كذلك .

وهم على دينهم .
« د » المتلاعبين بالعقيدة الذين يظهرون الإسلام إذا قدموا المدينة ويظهرون الكفر إذا عادوا إلى مكة .
« ه » حالات القتل الخطأ بين المسلمين والقتل العمد على اختلاف المواطن والأقوام . .
وسنجد أحكاماً صريحة واضحة في جميع هذه الحالات؛ التي تكوّن جانباً من مبادىء التعامل في المحيط الدولي . شأنها شأن بقية الأحكام ، التي تتناول شتى العلاقات الأخرى .
ونبدأ من حيث بدأ السياق القرآني بالقاعدة الأولية التي يقوم عليها بناء الإسلام كله . وبناء النظام الإسلامي في شتى جوانبه :
{ الله لا إله إلا هو ، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه . ومن أصدق من الله حديثاً؟ }
إنه من توحيد الله - سبحانه - وإفراده بالألوهية تبدأ خطوات المنهج الرباني - سواء في تربية النفوس أم في إقامة المجتمع ، ووضع شرائعه وتنظيمه؛ وسواء كانت هذه الشرائع متعلقة بالنظام الداخلي للمجتمع المسلم ، أم بالنظام الدولي ، الذي يتعامل هذا المجتمع على أساسه مع المجتمعات الأخرى . ومن ثم نجد هذا الافتتاح لمجموعة الآيات المتضمنة لطائفة من قواعد التعامل الخارجية والداخلية أيضاً .
كذلك من الاعتقاد في الآخرة ، وجمع الله الواحد لعباده ، ليحاسبهم هناك على ما أتاح لهم في الدنيا من فرص العمل والابتلاء ، تبدأ خطوات هذا المنهج في تربية النفوس ، وإثارة الحساسية فيها تجاه التشريعات والتوجيهات؛ وتجاه كل حركة من حركاتها في الحياة . . فهو الابتلاء في الصغيرة والكبيرة في الدنيا؛ والحساب على الصغيرة والكبيرة في الآخرة . . وهذا هو الضمان الأوثق لنفاذ الشرائع والأنظمة؛ لأنه كامن هناك في أعماق النفس ، حارس عليها ، سهران حيث يغفو الرقباء ويغفل السلطان
هذا حديث الله - سبحانه - وهذا وعده :
{ ومن أصدق من الله حديثاً } . .
وبعد هذه اللمسة للقلوب ، وهي اللمسة الدالة على طريقة هذا المنهج في التربية ، كما هي دالة على أساس التصور الاعتقادي العملي في حياة الجماعة المسلمة . .
بعد هذه اللمسة يبدأ في إستنكار حالة من التميع في مواجهة النفاق والمنافقين؛ وقلة الحسم في موضع الحسم في معاملة الجماعة المسلمة لهم؛ وانقسام هذه الجماعة فئتين في أمر طائفة من المنافقين - من خارج المدينة كما سنبين - حيث يشي هذا الاستنكار بما كان في المجتمع المسلم يومئذ من عدم التناسق؛ كما يشي بتشدد الإسلام في ضرورة تحديد الأمور وحسمها ، وكراهة التميع في التعامل مع المنافقين والنظر إليهم؛ والارتكان إلى ظاهرهم . . ما لم يكن ذلك عن خطة مقررة هادفة :
{ فما لكم في المنافقين فئتين؟ والله أركسهم بما كسبوا؛ أتريدون أن تهدوا من أضل الله؟ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً . ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء . فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله . فإن تولوا فخذوهم ، واقتلوهم حيث وجدتموهم ، ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيرًا } .

.
وقد وردت في شأن هؤلاء المنافقين روايات ، أهمها روايتان :
قال الإمام أحمد : حدثنا بهز ، حدثنا شعبة ، قال عدي بن ثابت : أخبرني عبدالله بن يزيد ، عن زيد بن ثابت ، « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى أحد ، فرجع ناس خرجوا معه . فكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم ، فرقتين : فرقة تقول : نقتلهم ، وفرقة تقول : لا . هم المؤمنون فأنزل الله : { فما لكم في المنافقين فئتين؟ } فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنها طيبة . وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد » . ( أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة ) .
وقال العوفي عن ابن عباس : نزلت في قوم كانوا قد تكلموا بالإسلام؛ وكانوا يظاهرون المشركين . فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم . فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس . . وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة ، قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عدوكم . وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله : - أو كما قالوا - أتقتلون قوماً قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به؟ من أجل أنهم لم يهاجروا ، ولم يتركوا ديارهم نستحل دماءهم وأموالهم؟ فكانوا كذلك فئتين ، والرسول عندهم لا ينهى واحداً من الفريقين عن شيء ، فنزلت : { فما لكم في المنافقين فئتين؟ } . . ( رواه ابن أبي حاتم ، وقد روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا ) .
ومع أن الرواية الأولى أوثق من ناحية السند والإخراج إلا أننا نرجح مضمون الرواية الثانية ، بالاستناد إلى الواقع التاريخي؛ فالثابت أن منافقي المدينة لم يرد أمر بقتالهم؛ ولم يقاتلهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو يقتلهم . إنما كانت هناك خطة أخرى مقررة في التعامل معهم . هي خطة الإغضاء عنهم ، وترك المجتمع نفسه ينبذهم ، وتقطيع الأسناد من حولهم بطرد اليهود - وهم الذين يغرونهم ويملون لهم - من المدينة أولاً . ثم من الجزيرة العربية كلها أخيراً . . أما هنا فنحن نجد أمراً جازماً بأخذهم أسرى ، وقتلهم حيث وجدوا : مما يقطع بأنهم مجموعة أخرى غير مجموعة المنافقين في المدينة . . وقد يقال : إن الأمر بأخذهم أسرى وقتلهم مشروط بقوله تعالى : { فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ، فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم } . . فهو تهديد ليقلعوا عما هم فيه . . وقد يكونون أقلعوا فلم ينفذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر فيهم . . ولكن كلمة { يهاجروا } تقطع - في هذه الفترة - بأنهم ليسوا من أهل المدينة . وأن المقصود هو أن يهاجروا إلى المدينة؛ فقد كان هذا قبل الفتح . ومعنى الهجرة - قبل الفتح - كان محدداً بأنه الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام؛ والانضمام للجماعة المسلمة؛ والخضوع لنظامها .

وإلا فهو الكفر أو النفاق . . وسيجيء في سياق السورة - في الدرس التالي - تنديد شديد بموقف الذين بقوا - بغير عذر من الضعف - من المسلمين في مكة؛ دار الكفر والحرب بالنسبة لهم - ولو كانوا من أهلها ومواطنين فيها - وكل هذا يؤيد ترجيح الرواية الثانية . وأن هؤلاء المنافقين كانوا جماعة من مكة - أو ممن حولها - يقولون كلمة الإسلام بأفواههم ، ويظاهرون عدو المسلمين بأعمالهم .
ونعود إلى النص القرآني :
{ فما لكم في المنافقين فئتين؛ والله أركسهم بما كسبوا؟ أتريدون أن تهدوا من أضل الله؟ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً . ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء . فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله . فإن تولوا فخذوهم ، واقتلوهم حيث وجدتموهم ، ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً } . .
إننا نجد في النصوص استنكاراً لانقسام المؤمنين فئتين في أمر المنافقين وتعجباً من اتخاذهم هذا الموقف؛ وشدة وحسماً في التوجيه إلى تصور الموقف على حقيقته ، وفي التعامل مع أولئك المنافقين كذلك .
وكل ذلك يشي بخطر التميع في الصف المسلم حينذاك - وفي كل موقف مماثل - التميع في النظرة إلى النفاق والمنافقين؛ لأن فيها تميعاً كذلك في الشعور بحقيقة هذا الدين . ذلك أن قول جماعة من المؤمنين : « سبحان الله - أو كما قالوا - أتقتلون قوماً قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم ، نستحل دماءهم وأموالهم؟ » . . وتصورهم للأمر على هذا النحو ، من أنه كلام مثل ما يتكلم المسلمون مع أن شواهد الحال كلها وقول هؤلاء المنافقين : « إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس » . . وشهادة الفئة الأخرى من المؤمنين وقولهم : « يظاهرون عدوكم » . . تصورهم للأمر على هذا النحو فيه تمييع كبير لحقيقة الإيمان ، في ظروف تستدعي الوضوح الكامل ، والحسم القاطع . فإن كلمة تقال باللسان؛ مع عمل واقعي في مساعدة عدو المسلمين الظاهرين ، لا تكون إلا نفاقاً . ولا موضع هنا للتسامح أو للإغضاء . لأنه تمييع للتصور ذاته . . وهذا هو الخطر الذي يواجهه النص القرآني بالعجب والاستنكار والتشديد البين .
ولم يكن الحال كذلك في الإغضاء عن منافقي المدينة . فقد كان التصور واضحاً . . هؤلاء منافقون . . ولكن هناك خطة مقررة للتعامل معهم . هي أخذهم بظاهرهم والإغضاء إلى حين .
وهذا أمر آخر غير أن ينافح جماعة من المسلمين عن المنافقين . لأنهم قالوا كلاماً كالذي يقوله المسلمون . وأدَّوا بألسنتهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . بينما هم يظاهرون أعداء المسلمين
من أجل هذا التميع في فهم فئة من المسلمين ، ومن أجل ذلك الاختلاف في شأن المنافقين في الصف المسلم ، كان هذا الاستنكار الشديد في مطلع الآية .

. ثم تبعه الإيضاح الإلهي لحقيقة موقف هؤلاء المنافقين :
{ والله أركسهم بما كسبوا } . .
ما لكم فئتين في شأن المنافقين . والله أوقعهم فيما هم فيه بسبب سوء نيتهم وسوء عملهم؟ وهي شهادة من الله حاسمة في أمرهم . بأنهم واقعون في السوء بما أضمروا وبما عملوا من سوء .
ثم استنكار آخر :
{ أتريدون أن تهدوا من أضل الله؟ } . .
ولعله كان في قول الفريق . . المتسامح . . ما يشير إلى إعطائهم فرصة ليهتدوا ، ويتركوا اللجلجة فاستنكر الله هذا في شأن قوم استحقوا أن يوقعهم الله في شر أعمالهم وسوء مكاسبهم .
{ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً } . .
فإنما يضل الله الضالين . أي يمد لهم في الضلالة حين يتجهون هم بجهدهم ونيتهم إلى الضلالة . وعندئذ تغلق في وجوههم سبل الهداية؛ بما بعدوا عنها ، وسلكوا غير طريقها؛ ونبذوا العون والهدى ، وتنكروا لمعالم الطريق
ثم يخطو السياق خطوة أخرى في كشف موقف المنافقين . . إنهم لم يضلوا أنفسهم فحسب؛ ولم يستحقوا أن يوقعهم الله في الضلالة بسعيهم ونيتهم فحسب . . إنما هم كذلك يبتغون إضلال المؤمنين :
{ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } . .
إنهم قد كفروا . . على الرغم من أنهم تكلموا بما تكلم به المسلمون ، ونطقوا بالشهادتين نطقاً يكذبه العمل في مظاهرة أعداء المسلمين . . وهم لا يريدون أن يقفوا عند هذا الحد . فالذي يكفر لا يستريح لوجود الإيمان في الأرض ووجود المؤمنين . ولا بد له من عمل وسعي ، ولا بد له من جهد وكيد لرد المسلمين إلى الكفر . ليكونوا كلهم سواء .
هذا هو الإيضاح الأول لحقيقة موقف أولئك المنافقين . . وهو يحمل البيان الذي يرفع التميع في تصور الإيمان؛ ويقيمه على أساس واضح من القول والعمل متطابقين . وإلا فلا عبرة بكلمات اللسان ، وحولها هذه القرائن التي تشهد بالكذب والنفاق :
والقرآن يلمس مشاعر المؤمنين لمسة قوية مفزعة لهم ، وهو يقول لهم :
{ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } . .
فقد كانوا حديثي عهد بتذوق حلاوة الإيمان بعد مرارة الكفر . وبالنقلة الضخمة التي يجدونها في أنفسهم ، بين مشاعرهم ومستواهم ومجتمعهم في الجاهلية . . ثم في الإسلام . وكان الفرق واضحاً بارزاً في مشاعرهم وفي واقعهم ، تكفي الإشارة إليه لاستثارة عداوتهم كلها لمن يريد أن يردهم إلى ذلك السفح الهابط - سفح الجاهلية - الذي التقطهم منه الإسلام؛ فسار بهم صعداً في المرتقى الصاعد ، نحو القمة السامقة .
ومن ثم يتكىء المنهج القرآني على هذه الحقيقة؛ فيوجه إليهم الأمر في لحظة التوفز والتحفز والانتباه للخطر البشع الفظيع الذي يتهددهم من قبل هؤلاء :
{ فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله . فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ، ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً } . .
ونحس من النهي عن اتخاذ أولياء منهم .

. أنه كانت ما تزال للروابط والوشائج العائلية والقبلية بقايا في نفوس المسلمين في المدينة - وربما كان للمصالح الاقتصادية أيضاً - وكان المنهج القرآني يعالج هذه الرواسب؛ ويقرر للأمة المسلمة قواعد ارتباطاتها . كما يقرر قواعد تصورها في الوقت ذاته .
كان يعلمها أن الأمة لا تقوم على روابط العشيرة والقبيلة ، أو روابط الدم والقرابة . أو روابط الحياة في أرض واحدة أو مدينة واحدة أو روابط المصالح الاقتصادية في التجارة وغير التجارة . . إنما تقوم الأمة على العقيدة؛ وعلى النظام الاجتماعي المنبثق من هذه العقيدة .
ومن ثم فلا ولاية بين المسلمين في دار الإسلام ، وبين غيرهم ممن هم في دار الحرب . . ودار الحرب هي يومئذ مكة موطن المهاجرين الأول . . لا ولاية حتى يهاجر أولئك الذين يتكلمون بكلمة الإسلام؛ وينضموا إلى المجتمع المسلم - أي إلى الأمة المسلمة - حيث تكون هجرتهم لله وفي سبيل الله . من أجل عقيدتهم ، لا من أجل أي هدف آخر؛ ولإقامة المجتمع المسلم الذي يعيش بالمنهج الإسلامي لا لأي غرض آخر . . بهذه النصاعة . وبهذا الحسم . وبهذا التحديد الذي لا يقبل أن تختلط به شوائب أخرى ، أو مصالح أخرى ، أو أهداف أخرى . .
فإن هم فعلوا . فتركوا أهلهم ووطنهم ومصالحهم . . في دار الحرب . . وهاجروا إلى دار الإسلام ، ليعيشوا بالنظام الإسلامي ، المنبثق من العقيدة الإسلامية ، القائم على الشريعة الإسلامية . . إن هم فعلوا هذا فهم أعضاء في المجتمع المسلم ، مواطنون في الأمة المسلمة . وإن لم يفعلوا وأبوا الهجرة ، فلا عبرة بكلمات تقال فتكذبها الأفعال :
{ فإن تولوا فخذوهم ( أي أسرى ) واقتلوهم حيث وجدتموهم ، ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً } .
وهذا الحكم - كما قلنا - هو الذي يرجح عندنا ، أنهم لم يكونوا هم منافقي المدينة . إذ قد اتبعت مع منافقي المدينة سياسة أخرى .
إن الإسلام يتسامح مع أصحاب العقائد المخالفة له؛ فلا يكرههم أبداً على اعتناق عقيدته . ولهم - حتى وهم يعيشون في ظل نظامه ودولته - أن يجهروا بمعتقداتهم المخالفة للإسلام . في غير ما دعوة للمسلمين ولا طعن في الدين . فقد ورد في القرآن من استنكار مثل هذا الطعن من أهل الكتاب ما لا يدع مجالاً للشك في أن الإسلام لا يدع غير المعتنقين له ممن يعيشون في ظله يطعنون فيه ويموهون حقائقه ويلبسون الحق بالباطل كما تقول بعض الآراء المائعة في زماننا هذا وحسب الإسلام أنه لا يكرههم على اعتناق عقيدته . وأنه يحافظ على حياتهم وأموالهم ودمائهم؛ وأنه يمتعهم بخير الوطن الإسلامي بلا تمييز بينهم وبين أهل الإسلام؛ وأنه يدعهم يتحاكمون إلى شريعتهم في غير ما يتعلق بمسائل النظام العام .
إن الإسلام يتسامح هذا التسامح مع مخالفيه جهاراً نهاراً في العقيدة . . ولكنه لا يتسامح هذا التسامح مع من يقولون الإسلام كلمة باللسان تكذبها الأفعال .

لا يتسامح مع من يقولون : إنهم يوحدون الله ويشهدون أن لا إله إلا الله . ثم يعترفون لغير الله بخاصية من خصائص الألوهية ، كالحاكمية والتشريع للناس؛ فيصم أهل الكتاب بأنهم مشركون ، لأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم . . لا لأنهم عبدوهم . ولكن لأنهم أحلوا لهم الحلال ، وحرموا عليهم الحرام فاتبعوهم
ولا يتسامح هذا التسامح في وصف جماعة من المنافقين بأنهم مؤمنون . لأنهم شهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله . ثم بقوا في دار الكفر ، يناصرون أعداء المسلمين
ذلك أن التسامح هنا ليس تسامحاً . إنما هو تميع . والإسلام عقيدة التسامح . ولكنه ليس عقيدة « التميع » . إنه تصور جاد . ونظام جاد . والجد لا ينافي التسامح . ولكنه ينافي التميع .
وفي هذه اللفتات واللمسات من المنهج القرآني للجماعة المسلمة الأولى ، بيان ، وبلاغ . .
ثم استثنى من هذا الحكم - حكم الأسر والقتل - لهذا الصنف من المنافقين ، الذين يعينون أعداء المسلمين - من يلجأون إلى معسكر بينه وبين الجماعة الإسلامية عهد - عهد مهادنة أو عهد ذمة - ففي هذه الحالة يأخذون حكم المعسكر الذي يلتجئون ، إليه ويتصلون به :
{ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } . .
ويبدو في هذا الحكم اختيار الإسلام للسلم ، حيثما وجد مجالاً للسلم لا يتعارض مع منهجه الأساسي . من حرية الإبلاغ وحرية الاختيار؛ وعدم الوقوف في وجه الدعوة ، بالقوة مع كفالة الأمن للمسلمين؛ وعدم تعريضهم للفتنة ، أو تعريض الدعوة الإسلامية ذاتها للتجميد والخطر .
ومن ثم يجعل كل من يلجأ ويتصل ويعيش بين قوم معاهدين - عهد ذمة أو عهد هدنة - شأنه شأن القوم المعاهدين . يعامل معاملتهم ، ويسالم مسالمتهم . وهي روح سلمية واضحة المعالم في مثل هذه الأحكام .
كذلك يستثني من الأسر والقتل جماعة أخرى . هي الأفراد أو القبائل أو المجموعات التي تريد أن تقف على الحياد ، فيما بين قومهم وبين المسلمين من قتال . إذ تضيق صدورهم أن يقاتلوا المسلمين مع قومهم . كما تضيق صدورهم أن يقاتلوا قومهم مع المسلمين . فيكفوا أيديهم عن الفريقين بسبب هذا التحرج من المساس بهؤلاء أو هؤلاء :
{ أو جاءوكم ، حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم } . .
وواضح كذلك في هذا الحكم الرغبة السلمية في اجتناب القتال؛ حيثما كف الآخرون عن التعرض للمسلمين ودعوتهم؛ واختاروا الحياد بينهم وبين المحاربين لهم . وهؤلاء الذين يتحرجون أن يحاربوا المسلمين أو يحاربوا قومهم . . كانوا موجودين في الجزيرة؛ وفي قريش نفسها؛ ولم يلزمهم الإسلام أن يكونوا معه أو عليه . فقد كان حسبه ألا يكونوا عليه . . كما أنه كان المرجو من أمرهم أن ينحازوا إلى الإسلام ، حينما تزول الملابسات التي تحرجهم من الدخول فيه؛ كما وقع بالفعل .

ويحبب الله المسلمين في انتهاج هذه الخطة مع المحايدين المتحرجين . فيكشف لهم عن الفرض الثاني الممكن في الموقف فلقد كان من الممكن - بدل أن يقفوا هكذا على الحياد متحرجين - أن يسلطهم الله على المسلمين فيقاتلوهم مع أعدائهم المحاربين فأما وقد كفهم الله عنهم على هذا النحو ، فالسلم أولى ، وتركهم وشأنهم هو السبيل :
{ ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم . فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم ، وألقوا إليكم السلم . فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } . .
وهكذا يلمس المنهج التربوي الحكيم نفوس المسلمين المتحمسين ، الذين قد لا يرضون هذا الموقف من هذا الفريق . يلمسه بما في هذا الموقف من فضل الله وتدبيره؛ ومن كف لجانب من العداء والأذى كان سيضاعف العبء على عاتق المسلمين . ويعلمهم أن يأخذوا الخير الذي يعرض فلا يرفضوه ، ويجتنبوا الشر الذي يأخذ طريقه بعيداً عنهم ، فلا يناوشوه . . طالما أن ليس في هذا كله تفريط في شيء من دينهم ، ولا تمييع لشيء من عقيدتهم؛ ولا رضى بالدنية في طلب السلم الرخيصة
لقد نهاهم عن السلم الرخيصة . لأنه ليس الكف عن القتال بأي ثمن هو غاية الإسلام . . إنما غاية الإسلام : السلم التي لا تتحيف حقاً من حقوق الدعوة ، ولا من حقوق المسلمين . . لا حقوق أشخاصهم وذواتهم؛ ولكن حقوق هذا المنهج الذي يحملونه ويسمون به مسلمين .
وإن من حق هذا المنهج أن تزال العقبات كلها من طريق إبلاغ دعوته وبيانه للناس في كل زاوية من زوايا الأرض . وأن يكون لكل من شاء - ممن بلغتهم الدعوة - أن يدخل فيه فلا يضار ولا يؤذى في كل زاوية من زوايا الأرض . وأن تكون هناك القوة التي يخشاها كل من يفكر في الوقوف في وجه الدعوة - في صورة من الصور - أو مضارة من يؤمن بها - أي لون من ألوان المضارة - وبعد ذلك فالسلم قاعدة . والجهاد ماض إلى يوم القيامة .
ولكن هناك طائفة أخرى ، لا يتسامح معها الإسلام هذا التسامح . لأنها طائفة منافقة شريرة كالطائفة الأولى . وليست مرتبطة بميثاق ولا متصلة بقوم لهم ميثاق . فإلاسلام إزاءها إذن طليق . يأخذها بما أخذ به طائفة المنافقين الأولى :
{ ستجدون آخرين ، يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم . كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها . فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ، ويكفوا أيديهم؛ فخذوهم ، واقتلوهم حيث ثقفتموهم ، وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً } . .
حكى ابن جرير عن مجاهد ، أنها نزلت في قوم من أهل مكة ، كانوا يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسلمون رياء؛ ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا ها هنا ، وها هنا . فأمر بقتلهم - إن لم يعتزلوا ويصلحوا - ولهذا قال تعالى : { فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ( المهادنة والصلح ) ويكفوا أيديهم ( أي عن القتال ) فخذوهم ( أسراء ) واقتلوهم حيث ثقفتموهم ( أي حيث وجدتموهم ) وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً } .

.
وهكذا نرى صفحة من حسم الإسلام وجديته ، إلى جانب سماحته وتغاضيه . . هذه في موضعها ، وتلك في موضعها . وطبيعة الموقف ، وحقيقة الواقعة ، هي التي تحدد هذه وتلك . .
ورؤية هاتين الصفحتين - على هذا النحو - كفيلة بأن تنشىء التوازن في شعور المسلم؛ كما تنشىء التوازن في النظام الإسلامي - السمة الأساسية الأصيلة - فأما حين يجيء المتشددون فيأخذون الأمر كله عنفاً وحماسة وشدة واندفاعاً فليس هذا هو الإسلام وأما حين يجيء المتميعون المترققون المعتذرون عن الجهاد في الإسلام ، كأن الإسلام في قفص الاتهام وهم يترافعون عن المتهم الفاتك الخطير فيجعلون الأمر كله سماحة وسلماً وإغضاء وعفواً؛ ومجرد دفاع عن الوطن الإسلامي وعن جماعة المسلمين - وليس دفعاً عن حرية الدعوة وإبلاغها لكل زاوية في الأرض بلا عقبة . وليس تأميناً لأي فرد في كل زاوية من زوايا الأرض يريد أن يختار الإسلام عقيدة . وليس سيادة لنظام فاضل وقانون فاضل يأمن الناس كلهم في ظله ، من اختار عقيدته ومن لم يخترها سواء . . فأما حينئذ فليس هذا هو الإسلام .
وفي هذه الطائفة من أحكام المعاملات الدولية بلاغ وبيان . .
ذلك في علاقات المسلمين مع المعسكرات الأخرى . فأما في علاقات المسلمين بعضهم ببعض ، مهما اختلفت الديار - وفي ذلك الوقت كما في كل وقت كان هناك مسلمون في شتى الديار - فلا قتل ولا قتال . . لا قتل إلا في حد أو قصاص . . فإنه لا يوجد سبب يبلغ من ضخامته أن يفوق ما بين المسلم والمسلم من وشيجة العقيدة . ومن ثم لا يقتل المسلم المسلم أبداً . وقد ربطت بينهما هذه الرابطة الوثيقة . اللهم إلا أن يكون ذلك خطأ . . وللقتل الخطأ توضع التشريعات والأحكام . فأما القتل العمد فلا كفارة له . لأنه وراء الحسبان ووراء حدود الإسلام
{ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ . ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله - إلا أن يصدقوا - فإن كان من قوم عدو لكم - وهو مؤمن - فتحرير رقبة مؤمنة . وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين . توبة من الله . وكان الله عليماً حكيماً } .
{ ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعد له عذاباً عظيماً } . .
وهذه الأحكام تتناول أربع حالات : ثلاث منها من حالات القتل الخطأ - وهو الأمر المحتمل وقوعه بين المسلمين في دار واحدة - دار الإسلام - أو في ديار مختلفة بين شتى الأقوام - والحالة الرابعة حالة القتل العمد . وهي التي يستبعد السياق القرآني وقوعها ابتداء .

فليس من شأنها أن تقع . إذ ليس في هذه الحياة الدنيا كلها ما يساوي دم مسلم يريقه مسلم عمداً . وليس في ملابسات هذه الحياة الدنيا كلها ما من شأنه أن يوهن من علاقة المسلم بالمسلم إلى حد أن يقتله عمداً . وهذه العلاقة التي أنشأها الإسلام بين المسلم والمسلم من المتانة والعمق والضخامة والغلاوة والإعزاز بحيث لا يفترض الإسلام أن تخدش هذا الخدش الخطير أبداً . . ومن ثم يبدأ حديثه عن أحكام القتل الخطأ :
{ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ } . .
فهذا هو الاحتمال الوحيد في الحس الإسلامي . . وهو الاحتمال الحقيقي في الواقع . . فإن وجود مسلم إلى جوار مسلم مسألة كبيرة . كبيرة جداً . ونعمة عظيمة . عظيمة جداً . ومن العسير تصور أن يقدم مسلم على إزالة هذه النعمة عن نفسه؛ والإقدام على هذه الكبيرة عن عمد وقصد . . إن هذا العنصر . . المسلم . . عنصر عزيز في هذه الأرض . . وأشد الناس شعوراً بإعزاز هذا العنصر هو المسلم مثله . . فمن العسير أن يقدم على إعدامه بقتله . . وهذا أمر يعرفه أصحابه . يعرفونه في نفوسهم ومشاعرهم . وقد علمهم الله إياه بهذه العقيدة . وبهذه الوشيجة . وبهذه القرابة التي تجمعهم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ترتقي فتجمعهم في الله سبحانه الذي ألف بين قلوبهم . ذلك التأليف الرباني العجيب .
فأما إذا وقع القتل خطأ فهناك تلك الحالات الثلاث ، التي يبين السياق أحكامها هنا :
الحالة الأولى : أن يقع القتل على مؤمن أهله مؤمنون في دار الإسلام . ويجب في هذه الحالة تحرير رقبة مؤمنة ، ودية تسلم إلى أهله . . فأما تحرير الرقبة المؤمنة ، فهو تعويض للمجتمع المسلم عن قتل نفس مؤمنة باستحياء نفس مؤمنة . وكذلك هو تحرير الرقاب في حس الإسلام . وأما الدية فتسكين لثائرة النفوس ، وشراء لخواطر المفجوعين ، وتعويض لهم عن بعض ما فقدوا من نفع المقتول . . ومع هذا يلوح الإسلام لأهل القتيل بالعفو - إذا اطمأنت نفوسهم إليه - لأنه أقرب إلى جو التعاطف والتسامح في المجتمع المسلم .
{ ومن يقتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ، ودية مسلمة إلى أهله - إلا أن يصدّقوا } . .
والحالة الثانية : أن يقع القتل على مؤمن وأهله محاربون للإسلام في دار الحرب . . وفي هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة لتعويض النفس المؤمنة التي قتلت ، وفقدها الإسلام . ولكن لا يجوز أداء دية لقومه المحاربين ، يستعينون بها على قتال المسلمين ولا مكان هنا لاسترضاء أهل القتيل وكسب مودتهم ، فهم محاربون ، وهم عدو للمسلمين .
والحالة الثالثة : أن يقع القتل على مؤمن قومه معاهدون - عهد هدنة أو عهد ذمة - ولم ينص على كون المقتول مؤمناً في هذه الحالة . مما جعل بعض المفسرين والفقهاء يرى النص على إطلاقه . ويرى الحكم بتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله - المعاهدين - ولو لم يكن مؤمناً .

لأن عهدهم مع المؤمنين يجعل دماءهم مصونة كدماء المسلمين .
ولكن الذي يظهر لنا أن الكلام ابتداء منصب على قتل المؤمن . { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ } . . ثم بيان للحالات المتنوعة التي يكون فيها القتيل مؤمناً . وإذا كان قد نص في الحالة الثانية فقال : { وإن كان من قوم عدو لكم - وهو مؤمن } فقد كان هذا الاحتراز مرة أخرى بسبب ملابسة أنه من قوم عدو . ويؤيد هذا الفهم النص على تحرير رقبة مؤمنة في هذه الحالة الثالثة . مما يوحي بأن القتيل مؤمن فأعتقت رقبة مؤمنة تعويضاً عنه . وإلا لكفى عتق رقبة إطلاقاً دون شرط الإيمان . .
« وقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودى بعض القتلى من المعاهدين : ولكن لم يرد عتق رقاب مؤمنة بعددهم » مما يدل على أن الواجب في هذه الحالة هو الدية . وأن هذا ثبت بعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا بهذه الآية . وأن الحالات التي تتناولها هذه الآية كلها هي حالات وقوع القتل على مؤمن . سواء كان من قوم مؤمنين في دار الإسلام ، أو من قوم محاربين عدو للمسلمين في دار الحرب ، أو من قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق . . ميثاق هدنة أو ذمة . . وهذا هو الأظهر في السياق .
ذلك القتل الخطأ . فأما القتل العمد ، فهو الكبيرة التي لا ترتكب مع إيمان؛ والتي لا تكفر عنها دية ولا عتق رقبة؛ وإنما يوكل جزاؤها إلى عذاب الله :
{ ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها ، وغضب الله عليه ولعنه . وأعد له عذاباً عظيماً } . .
إنها جريمة قتل لا لنفس فحسب - بغير حق - ولكنها كذلك جريمة قتل للوشيجة العزيزة الحبيبة الكريمة العظيمة ، التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم . إنها تنكر للإيمان ذاته وللعقيدة نفسها .
ومن ثم قرنت بالشرك في مواضع كثيرة؛ واتجه بعضهم - ومنهم ابن عباس - إلى أنه لا توبة منها . . ولكن البعض الآخر استند إلى قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } . . فرجا للقاتل التائب المغفرة . . وفسر الخلود بأنه الدهر الطويل .
والذين تربوا في مدرسة الإسلام الأولى ، كانوا يرون قاتلي آبائهم وأبنائهم وإخوانهم ، - قبل إسلامهم - يمشون على الأرض - وقد دخلوا في الإسلام - فيهيج في نفوس بعضهم ما يهيج من المرارة . ولكنهم لا يفكرون في قتلهم . لا يفكرون مرة واحدة؛ ولا يخطر لهم هذا الخاطر في أشد الحالات وجداً ولذعاً ومرارة . بل إنهم لم يفكروا في إنقاصهم حقاً واحداً من حقوقهم التي يخولها لهم الإسلام .
واحتراساً من وقوع القتل ولو كان خطأ؛ وتطهيراً لقلوب المجاهدين حتى ما يكون فيها شيء إلا لله ، وفي سبيل الله .

. يأمر الله المسلمين إذا خرجوا غزاة ، ألا يبدأوا بقتال أحد أو قتله حتى يتبينوا؛ وأن يكتفوا بظاهر الإسلام في كلمة اللسان ( إذ لا دليل هنا يناقض كلمة اللسان ) .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا؛ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً . تبتغون عرض الحياة الدنيا . فعند الله مغانم كثيرة . كذلك كنتم من قبل ، فمن الله عليكم . فتبينوا . إن الله كان بما تعملون خبيراً } . .
وقد وردت روايات كثيرة في سبب نزول الآية : خلاصتها أن سرية من سرايا المسلمين لقيت رجلاً معه غنم له . فقال السلام عليكم . يعني أنه مسلم . فاعتبر بعضهم أنها كلمة يقولها لينجو بها ، فقتله .
ومن ثم نزلت الآية ، تحرج على مثل هذا التصرف؛ وتنفض عن قلوب المؤمنين كل شائبة من طمع في الغنيمة؛ أو تسرع في الحكم . . وكلاهما يكرهه الإسلام .
إن عرض الحياة الدنيا لا يجوز أن يدخل للمسلمين في حساب؛ إذا خرجوا يجاهدون في سبيل الله . إنه ليس الدافع إلى الجهاد ولا الباعث عليه . . وكذلك التسرع بإهدار دم قبل التبين . وقد يكون دم مسلم عزيز ، لا يجوز أن يراق .
والله سبحانه يذكر الذين آمنوا بجاهليتهم القريبة وما كان فيها من تسرع ورعونة؛ وما كان فيها من طمع في الغنيمة . ويمن عليهم أن طهر نفوسهم ورفع أهدافهم ، فلم يعودوا يغزون ابتغاء عرض الحياة الدنيا كما كانوا في جاهليتهم . ويمن عليهم أن شرع لهم حدوداً وجعل لهم نظاماً؛ فلا تكون الهيجة الأولى هي الحكم الآخر . كما كانوا في جاهليتهم كذلك . . وقد يتضمن النص إشارة إلى أنهم هم كذلك كانوا يخفون إسلامهم - على قومهم - من الضعف والخوف ، فلا يظهرونه إلا عند الأمن مع المسلمين ، وأن ذلك الرجل القتيل كان يخفي إسلامه على قومه ، فلما لقي المسلمين أظهر لهم إسلامه وأقرأهم سلام المسلمين .
{ كذلك كنتم من قبل . فمن الله عليكم . فتبينوا . إن الله كان بما تعلمون خبيراً } .
وهكذا يلمس المنهج القرآني القلوب لتحيا وتتحرج وتتذكر نعمة الله . . وعلى هذه الحساسية والتقوى ، يقيم الشرائع والأحكام؛ بعد بيانها وإيضاحها .
وهكذا يتناول هذا الدرس تلك الجوانب من قواعد المعاملات الدولية بمثل هذا الوضوح ، ومثل هذه النظافة . منذ أربعة عشر قرناً . .

لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)

هذا الدرس وثيق الصلة ، شديد اللحمة بالدرس السابق والدرس الذي قبله كذلك . فهو تكملة موضوعية لموضوع الدرسين السابقين . ولو الرغبة في إقرار مبادىء المعاملات الدولية - كما يقررها الإسلام - لاعتبرناهما معاً مع هذا الدرس درساً واحداً متصلاً . إنما هي حلقات في خط واحد .
إن موضوعه الأساسي هو الهجرة إلى دار الإسلام؛ والحث على انضمام المسلمين المتخلفين في دار الكفر والحرب إلى الصف المسلم المجاهد في سبيل الله بالنفس والمال . واطراح الراحة النسبية والمصلحة كذلك في البقاء بمكة ، إلى جوار الأهل والمال
ولعل هذا هو المقصود بقوله تعالى في مطلع هذا الدرس : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين - غير أولي الضرر - والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم . فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة - وكلا وعد الله الحسنى - وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً . . . } . . فما كان في المدينة قاعدون - إلا المنافقين المعوقين الذين تحدث عنهم بلهجة غير هذه اللهجة في الدرس الماضي
وقد تلا هذه الفقرة فقرة أخرى فيها تحذير وتهديد لمن يظلون قاعدين هنالك في دار الكفر - وهم قادرون على الهجرة منها بدينهم وعقيدتهم - حتى تتوفاهم الملائكة { ظالمي أنفسهم } . . { فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً } . .
ثم تلتها فقرة أخرى عن ضمان الله سبحانه لمن يهاجر في سبيله ، منذ اللحظة التي يخرج فيها من بيته ، قاصداً الهجرة إلى الله خالصة . عالج فيها كل المخاوف التي تهجس في النفس البشرية وهي تقدم على هذه المخاطرة ، المحفوفة بالخطر ، الكثيرة التكاليف في الوقت ذاته . .
فالحديث مطرد عن الجهاد والهجرة إلى دار المجاهدين ، وأحكام التعامل بين المسلمين في دار الهجرة وبقية الطوائف خارج هذه الدار - بما في ذلك المسلمون الذين لم يهاجروا - والحديث موصول .
كذلك يلم هذا الدرس بكيفية الصلاة عند الخوف - في ميدان القتال أو في أثناء طريق الهجرة - وتدل هذه العناية بالصلاة في هذه الآونة الحرجة ، على طبيعة نظرة الإسلام إلى الصلاة - كما أسلفنا - كما يهيىء لإيجاد حالة تعبئة نفسية كاملة؛ في مواجهة الخطر الحقيقي المحدق بالجماعة المسلمة؛ من أعدائها الذين يتربصون بها لحظة غفلة أو غرة
وينتهي الدرس بلمسة قوية عميقة التأثير؛ في التشجيع على الجهاد في سبيل الله؛ في وجه الآلام والمتاعب التي تصيب المجاهدين . وذلك في تصوير ناصع لحال المؤمنين المجاهدين ، وحال أعدائهم المحاربين؛ على مفرق الطريق :
{ ولا تهنوا في ابتغاء القوم . . إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون . وترجون من الله ما لا يرجون . . }
وبهذا التصوير يفترق طريقان؛ ويبرز منهجان؛ ويصغر كل ألم ، وتهون كل مشقة . ولا يبقى مجال للشعور بالضنى وبالكلال .

. فالآخرون كذلك يألمون . ولكنهم يرجون من الله ما لا يرجون
ويرسم هذا الدرس - بجملة الموضوعات التي يعالجها ، وبطرائق العلاج التي يسلكها - ما كان يعتمل في جسم الجماعة المسلمة ، وهي تواجه مشاق التكوين الواقعية؛ ومشكلات التكوين العملية . وما كان يشتجر في النفوس من عوامل الضعف البشري؛ ومن رواسب الماضي الجاهلي ، ومن طبيعة الفطرة البشرية وهي تواجه التكاليف بمشاقها وآلامها؛ مع ما يصاحب هذه المشاق والآلام من أشواق ومن تطلع إلى الوفاء كذلك؛ يستثيرها المنهج الحكيم ، ويستجيشها في الفطرة لتنهض بهذا الأمر العظيم .
ونرى ذلك كله مرتسماً من خلال الوصف للواقع؛ ومن خلال التشجيع والاستجاشة؛ ومن خلال المعالجة للمخاوف الفطرية والآلام الواقعية؛ ومن خلال التسليح في المعركة بالصلاة وبالصلاة خاصة - إلى جانب التسلح بالعدة واليقظة - وبالثقة في ضمانة الله للمهاجرين ، وثوابه للمجاهدين ، وعونه للخارجين في سبيله ، وما أعده للكافرين من عذاب مهين .
ونرى طريقة المنهج القرآني الرباني في التعامل مع النفس البشرية في قوتها وضعفها؛ وفي التعامل مع الجماعة الإنسانية في أثناء تكوينها وإنضاجها . ونرى شتى الخيوط التي يشدها منها في الوقت الواحد وفي الآية الواحدة . . ونرى - على الأخص - كيف يملأ مشاعر الجماعة المسلمة بالتفوق على عدوها ، في الوقت الذي يملأ نفوسها بالحذر واليقظة والتهيؤ الدائم للخطر ، وفي الوقت الذي يدلها كذلك على مواطن الضعف فيها ، ومواضع التقصير ، ويحذرها إياها أشد التحذير .
إنه منهج عجيب في تكامله وفي تقابله مع النفس البشرية؛ وفي عدد الأوتار التي يلمسها في اللمسة الواحدة ، وعدد الخيوط التي يشدها في هذه النفس ، فتصوت كلها وتستجيب
لقد كان التفوق في منهج التربية ، والتفوق في التنظيم الاجتماعي الذي قام عليه؛ هو الأمر البارز الظاهر فيما بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات حوله من فروق . . ولقد كان هذا التفوق البارز هو كذلك أوضح الأسباب - التي يراها البشر - لتمكن هذا المجتمع الناشىء الشاب - بكل ما كان في حياته من ملابسات ومن ضعف أحياناً وتقصير - من طي تلك المجتمعات الأخرى ، والغلبة عليها . لا غلبة معركة بالسلاح فحسب؛ ولكن غلبة حضارة فتية على حضارات شاخت . غلبة منهج على مناهج ، ونموذج من الحياة على نماذج؛ ومولد عصر جديد على مولد إنسان جديد . .
ونكتفي بهذا القدر حتى نواجه النصوص بالتفصيل :
{ لا يستوي القاعدون من المؤمنين - غير أولي الضرر - والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم . فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ، وكلا وعد الله الحسنى . وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً . درجات منه ومغفرة ورحمة . وكان الله غفوراً رحيماً } . .
إن هذا النص القرآني كان يواجه حالة خاصة في المجتمع المسلم وما حوله؛ وكان يعالج حالة خاصة في هذا المجتمع من التراخي - من بعض عناصره - في النهوض بتكاليف الجهاد بالأموال والأنفس .

سواء كان المقصود أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة احتفاظاً بأموالهم ، إذ لم يكن المشركون يسمحون لمهاجر أن يحمل معه شيئاً من ماله؛ أو توفيراً لعناء الهجرة وما فيها من مخاطر ، إذ لم يكن المشركون يتركون المسلمين يهاجرون ، وكثيراً ما كانوا يحبسونهم ويؤذونهم - أو يزيدون في إيذائهم بتعبير أدق - إذا عرفوا منهم نية الهجرة . . سواء كان المقصود هم أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة - وهو ما نرجحه - أو كان المقصود بعض المسلمين في دار الإسلام ، الذين لم ينشطوا للجهاد بالأموال والأنفس - من غير المنافقين المبطئين الذين ورد ذكرهم في درس سابق - أو كان المقصود هؤلاء وهؤلاء ممن لم ينشطوا للجهاد بالأموال والأنفس في دار الحرب ودار الإسلام سواء .
إن هذا النص كان يواجه هذه الحالة الخاصة؛ ولكن التعبير القرآني يقرر قاعدة عامة؛ يطلقها من قيود الزمان ، وملابسات البيئة؛ ويجعلها هي القاعدة التي ينظر الله بها إلى المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان - قاعدة عدم الاستواء بين القاعدين من المؤمنين عن الجهاد بالأموال والأنفس - غير أولي الضرر الذين يقعدهم العجز عن الجهاد بالنفس ، او يقعدهم الفقر والعجز عن الجهاد بالنفس والمال - عدم الاستواء بين هؤلاء القاعدين والآخرين الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم . . قاعدة عامة على الإطلاق :
{ لا يستوي القاعدون من المؤمنين - غير أولي الضرر - والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } . .
ولا يتركها هكذا مبهمة ، بل يوضحها ويقررها ، ويبين طبيعة عدم الاستواء بين الفريقين :
{ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } . .
وهذه الدرجة يمثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامهم في الجنة .
في الصحيحين « عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله . وما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض » .
وقال الأعمش عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، « عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » من رمى بسهم فله أجره درجة « فقال رجل : يا رسول الله ، وما الدرجة؟ فقال : أما إنها ليست بعتبة أمك . ما بين الدرجتين مائة عام » .
وهذه المسافات التي يمثل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نحسب أننا اليوم أقدر على تصورها؛ بعد الذي عرفناه من بعض أبعاد الكون . حتى إن الضوء ليصل من نجم إلى كوكب في مئات السنين الضوئية وقد كان الذين يسمعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصدقونه بما يقول . ولكنا - كما قلت - ربما كنا أقدر - فوق الإيمان - على تصور هذه الأبعاد بما عرفناه من بعض أبعاد الكون العجيب
ثم يعود السياق بعد تقرير هذا الفارق في المستوى بين القاعدين من المؤمنين - غير أولي الضرر - والمجاهدين بأموالهم وأنفسهم ، فيقرر أن الله وعد جميعهم الحسنى :
{ وكلاًّ وعد الله الحسنى } .

.
فللإيمان وزنه وقيمته على كل حال؛ مع تفاضل أهله في الدرجات وفق تفاضلهم في النهوض بتكاليف الإيمان؛ فيما يتعلق بالجهاد بالأموال والأنفس . . وهذا الاستدراك هو الذي نفهم منه أن هؤلاء القاعدين ليسوا هم المنافقين المبطئين . إنما هم طائفة أخرى صالحة في الصف المسلم ومخلصة؛ ولكنها قصرت في هذا الجانب؛ والقرآن يستحثها لتلافي التقصير؛ والخير مرجو فيها ، والأمل قائم في أن تستجيب .
فإذا انتهى من هذا الاستدراك عاد لتقرير القاعدة الأولى؛ مؤكداً لها ، متوسعاً في عرضها؛ ممعناً في الترغيب فيما وراءها من أجر عظيم :
{ وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً . درجات منه ومغفرة ورحمة . وكان الله غفوراً رحيماً } .
وهذا التوكيد . . وهذه الوعود . . وهذا التمجيد للمجاهدين . . والتفضيل على القاعدين . . والتلويح بكل ما تهفو له نفس المؤمن من درجات الأجر العظيم . . ومن مغفرة الله ورحمته للذنوب والتقصير . .
هذا كله يشي بحقيقتين هامتين :
الحقيقة الأولى : هي أن هذه النصوص كانت تواجه حالات قائمة في الجماعة المسلمة كما أسلفنا وتعالجها . وهذا كفيل بأن يجعلنا أكثر إدراكاً لطبيعة النفس البشرية ، ولطبيعة الجماعات البشرية ، وأنها مهما بلغت في مجموعها من التفوق في الإيمان والتربية فهي دائماً في حاجة إلى علاج ما يطرأ عليها من الضعف والحرص والشح والتقصير في مواجهة التكاليف ، وبخاصة تكاليف الجهاد بالأموال والأنفس ، مع خلوص النفس لله ، وفي سبيل الله . وظهور هذه الخصائص البشرية - من الضعف والحرص والشح والتقصير - لا يدعو لليأس من النفس أو الجماعة ، ولا إلى نفض اليد ، منها وازدرائها؛ طالما أن عناصر الإخلاص والجد والتعلق بالصف والرغبة في التعامل مع الله موفورة فيها . . ولكن ليس معنى هذا هو إقرار النفس أو الجماعة على ما بدا منها من الضعف والحرص والشح والتقصير؛ والهتاف لها بالانبطاح في السفح ، باعتبار أن هذا كله جزء من « واقعها » بل لا بد لها من الهتاف لتنهض من السفح والحداء لتسير في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة . بكل ألوان الهتاف والحداء . . كما نرى هنا في المنهج الرباني الحكيم .
والحقيقة الثانية : هي قيمة الجهاد بالأموال والأنفس في ميزان الله واعتبارات هذا الدين وأصالة هذا العنصر في طبيعة هذه العقيدة وهذا النظام . لما يعلمه الله - سبحانه - من طبيعة الطريق؛ وطبيعة البشر؛ وطبيعة المعسكرات المعادية للإسلام في كل حين .
إن « الجهاد » ليس ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة . إنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه الدعوة وليست المسألة - كما توهم بعض المخلصين - أن الإسلام نشأ في عصر الإمبراطوريات؛ فاندس في تصورات أهله - اقتباساً مما حولهم - أنه لا بد لهم من قوة قاهرة لحفظ التوازن
هذه المقررات تشهد - على الأقل - بقلة ملابسة طبيعة الإسلام الأصيلة لنفوس هؤلاء القائلين بهذه التكهنات والظنون .

لو كان الجهاد ملابسة طارئة في حياة الأمة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول من صلب كتاب الله؛ في مثل هذا الأسلوب ولما استغرق كذلك كل هذه الفصول من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي مثل هذا الأسلوب . .
لو كان الجهاد ملابسة طارئة ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الكلمة الشاملة لكل مسلم إلى قيام الساعة : « من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق » .
ولئن كان - صلى الله عليه وسلم - رد في حالات فردية بعض المجاهدين ، لظروف عائلية لهم خاصة ، كالذي جاء في الصحيح « أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أجاهد . قال : » لك أبوان؟ « قال : نعم . قال : ففيهما جاهد » . لئن كان ذلك فإنما هي حالة فردية لا تنقض القاعدة العامة؛ وفرد واحد لا ينقص المجاهدين الكثيرين . ولعله - صلى الله عليه وسلم - على عادته في معرفة كل ظروف جنوده فرداً فرداً ، كان يعلم من حال هذا الرجل وأبويه ، ما جعله يوجهه هذا التوجيه . .
فلا يقولن أحد - بسبب ذلك - إنما كان الجهاد ملابسة طارئة بسبب ظروف . وقد تغيرت هذه الظروف
وليس ذلك لأن الإسلام يجب أن يشهر سيفه ويمشي به في الطريق يقطع به الروؤس ولكن لأن واقع حياة الناس وطبيعة طريق الدعوة تلزمه أن يمسك بهذا السيف ويأخذ حذره في كل حين
إن الله - سبحانه - يعلم أن هذا أمر تكرهه الملوك ويعلم أن لا بد لأصحاب السلطان أن يقاوموه . لأنه طريق غير طريقهم ، ومنهج غير منهجهم . ليس بالأمس فقط . ولكن اليوم وغداً . وفي كل أرض ، وفي كل جيل
وإن الله - سبحانه - يعلم أن الشر متبجح ، ولا يمكن أن يكون منصفاً . ولا يمكن أن يدع الخير ينمو - مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة - فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر . ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل . ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان؛ ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة
هذه جبلة وليست ملابسة وقتية . . .
هذه فطرة وليست حالة طارئة . . .
ومن ثم لا بد من الجهاد . . لابد منه في كل صورة . . ولا بد أن يبدأ في عالم الضمير .

ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود . ولا بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح . ولا بد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة . . وإلا كان الأمر انتحاراً . أو كان هزلاً لا يليق بالمؤمنين
ولا بد من بذل الأموال والأنفس . كما طلب الله من المؤمنين . وكما اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة . . فأما أن يقدر لهم الغلب؛ أو يقدر لهم الاستشهاد؛ فذلك شأنه - سبحانه - وذلك قدره المصحوب بحكمته . . أما هم فلهم إحدى الحسنيين عند ربهم . . والناس كلهم يموتون عندما يحين الأجل . . والشهداء وحدهم هم الذين يستشهدون . .
هناك نقط ارتكاز أصيلة في هذه العقيدة ، وفي منهجها الواقعي ، وفي خط سيرها المرسوم ، وفي طبيعة هذا الخط وحتمياته الفطرية ، التي لا علاقة لها بتغير الظروف .
وهذه النقط لا يجوز أن تتميع في حس المؤمنين - تحت أي ظرف من الظروف . ومن هذه النقط . . الجهاد . . الذي يتحدث عنه الله سبحانه هذا الحديث . . الجهاد في سبيل الله وحده . وتحت رايته وحدها . . وهذا هو الجهاد الذي يسمى من يقتلون فيه « شهداء » ويتلقاهم الملأ الأعلى بالتكريم . .
بعد ذلك يتحدث عن فريق من القاعدين؛ أولئك الذين يظلون قاعدين في دار الكفر لا يهاجرون؛ تمسك بهم أموالهم ومصالحهم ، أو يمسك بهم ضعفهم عن مواجهة متاعب الهجرة وآلام الطريق - وهم قادرون لو أرادوا واعتزموا التضحية - أن يهاجروا . . حتى يحين أجلهم؛ وتأتي الملائكة لتتوفاهم . يتحدث عنهم فيصورهم صورة زرية منكرة؛ تستنهض كل قاعد منهم للفرار بدينه وعقيدته ، وبمصيره عند ربه؛ من هذا الموقف الذي يرسمه لهم :
{ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم . . قالوا : فيم كنتم؟ قالوا : كنا مستضعفين في الأرض . قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم ، وساءت مصيراً . إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، لا يستطيعون حيلة ، ولا يهتدون سبيلاً . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، وكان الله عفوّاً غفوراً } . .
لقد كان هذا النص يواجه حالة واقعة في الجزيرة العربية - في مكة وغيرها - بعد هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيام الدولة المسلمة . فقد كان هناك مسلمون لم يهاجروا . حبستهم أموالهم ومصالحهم - حيث لم يكن المشركون يدعون مهاجراً يحمل معه شيئاً من ماله - أو حبسهم إشفاقهم وخوفهم من مشاق الهجرة - حيث لم يكن المشركون يدعون مسلماً يهاجر حتى يمنعوه ويرصدوا له في الطريق . . وجماعة حبسهم عجزهم الحقيقي ، من الشيوخ والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة للهرب ولا يجدون سبيلاً للهجرة . .
وقد اشتد أذى المشركين لهؤلاء الباقين من أفراد المسلمين؛ بعد عجزهم عن إدراك الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه ، ومنعهما من الهجرة . وبعد قيام الدولة المسلمة .

وبعد تعرض الدولة المسلمة لتجارة قريش في بدر ، وانتصار المسلمين ذلك الانتصار الحاسم . فأخذ المشركون يسومون هذه البقية المتخلفة ألواناً من العذاب والنكال ، ويفتنونهم عن دينهم في غيظ شديد .
وقد فتن بعضهم عن دينهم فعلاً؛ واضطر بعضهم إلى إظهار الكفر تقية ، ومشاركة المشركين عبادتهم . . وكانت هذه التقية جائزة لهم يوم أن لم تكن لهم دولة يهاجرون إليها - متى استطاعوا - فأما بعد قيام الدولة ، ووجود دار الإسلام ، فإن الخضوع للفتنة ، أو الالتجاء للتقية ، وفي الوسع الهجرة والجهر بالإسلام ، والحياة في دار الإسلام . . أمر غير مقبول .
وهكذا نزلت هذه النصوص؛ تسمي هؤلاء القاعدين محافظة على أموالهم ومصالحهم ، أو إشفاقاً من مشاق الهجرة ومتاعب الطريق . . حتى يحين أجلهم . . تسميهم : { ظالمي أنفسهم } . . بما أنهم حرموها الحياة في دار الإسلام ، تلك الحياة الرفيعة النظيفة الكريمة الحرة الطليقة . وألزموها الحياة في دار الكفر تلك الحياة الذليلة الخانسة الضعيفة المضطهدة ، وتوعدهم { جهنم وساءت مصيراً } . . مما يدل على أنها تعني الذين فتنوا عن دينهم بالفعل هناك
ولكن التعبير القرآني - على أسلوب القرآن - يعبر في صورة ، ويصور في مشهد حي نابض بالحركة والحوار :
{ إن الذين توفاهم الملائكة . . ظالمي أنفسهم . . قالوا : فيم كنتم؟ قالوا : كنا مستضعفين في الأرض قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة ، فتهاجروا فيها؟ } . .
إن القرآن يعالج نفوساً بشرية؛ ويهدف الى استجاشة عناصر الخير والمروءة والعزة فيها؛ وإلى مطاردة عوامل الضعف والشح والحرص والثقلة . . لذلك يرسم هذا المشهد . . إنه يصور حقيقة . ولكنه يستخدم هذه الحقيقة في موضعها أحسن استخدام ، في علاج النفس البشرية . .
ومشهد الاحتضار بذاته مشهد ترتجف له النفس البشرية ، وتتحفز لتصور ما فيه . وإظهار الملائكة في المشهد يزيد النفس ارتجافاً وتحفزاً وحساسية .
وهم - القاعدون - ظلموا أنفسهم . وقد حضرت الملائكة لتتوفاهم وهذا حالهم . . ظالمي أنفسهم . وهذا وحده كفيل بتحريك النفس وارتجافها . إذ يكفي أن يتصور المرء نفسه والملائكة تتوفاه وهو ظالم لنفسه؛ وليس أمامه من فرصة أخرى لإنصاف نفسه ، فهذه هي اللحظة الأخيرة .
ولكن الملائكة لا يتوفونهم - ظالمي أنفسهم - في صمت . بل يقلبون ماضيهم ، ويستنكرون أمرهم ويسألونهم : فيم أضاعوا أيامهم ولياليهم؟ وماذا كان شغلهم وهمهم في الدنيا :
{ قالوا : فيم كنتم؟ } . .
فإن ما كانوا فيه ضياع في ضياع؛ كأن لم يكن لهم شغل إلا هذا الضياع
ويجيب هؤلاء المحتضرون ، في لحظة الاحتضار ، على هذا الاستنكار ، جواباً كله مذلة ، ويحسبونه معذرة على ما فيه من مذلة .
{ قالوا : كنا مستضعفين في الأرض } . .
كنا مستضعفين . يستضعفنا الأقوياء . كنا أذلاء في الأرض لا نملك من أمرنا شيئاً .
وعلى كل ما في هذا الرد من مهانة تدعو إلى الزراية؛ وتنفر كل نفس من أن يكون هذا موقفها في لحظة الاحتضار ، بعد أن يكون هذا موقفها طوال الحياة .

. فإن الملائكة لا يتركون هؤلاء المستضعفين الظالمي أنفسهم . بل يجبهونهم بالحقيقة الواقعة؛ ويؤنبونهم على عدم المحاولة ، والفرصة قائمة :
{ قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ } . .
إنه لم يكن العجز الحقيقي هو الذي يحملهم - إذن - على قبول الذل والهوان والاستضعاف ، والفتنة عن الإيمان . . إنما كان هناك شيء آخر . . حرصهم على أموالهم ومصالحهم وأنفسهم يمسكهم في دار الكفر ، وهناك دار الإسلام . ويمسكهم في الضيق وهناك أرض الله الواسعة . والهجرة إليها مستطاعة؛ مع احتمال الآلام والتضحيات .
وهنا ينهي المشهد المؤثر ، بذكر النهاية المخيفة :
{ فأولئك مأواهم جهنم ، وساءت مصيراً } . .
ثم يستثني من لا حيلة لهم في البقاء في دار الكفر؛ والتعرض للفتنة في الدين؛ والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشيوخ الضعاف ، والنساء والأطفال؛ فيعلقهم بالرجاء في عفو الله ومغفرته ورحمته . بسبب عذرهم البين وعجزهم عن الفرار :
{ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، وكان الله عفواً غفوراً } . .
ويمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان؛ متجاوزاً تلك الحالة الخاصة التي كان يواجهها النص في تاريخ معين؛ وفي بيئة معينة . . يمضي حكماً عاماً؛ يلحق كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أية أرض؛ وتمسكه أمواله ومصالحه ، أو قراباته وصداقاته؛ أو إشفاقه من آلام الهجرة ومتاعبها . متى كان هناك - في الأرض في أي مكان - دار للإسلام؛ يأمن فيها على دينه ، ويجهر فيها بعقيدته ، ويؤدي فيها عباداته؛ ويحيا حياة إسلامية في ظل شريعة الله ، ويستمتع بهذا المستوى الرفيع من الحياة . .
أما السياق القرآني فيمضي في معالجة النفوس البشرية؛ التي تواجه مشاق الهجرة ومتاعبها ومخاوفها؛ وتشفق من التعرض لها . وقد عالجها في الآيات السابقة بذلك المشهد المثير للاشمئزاز والخوف معاً . فهو يعالجها بعد ذلك ببث عوامل الطمأنينة - سواء وصل المهاجر إلى وجهته أو مات في طريقه - في حالة الهجرة في سبيل الله؛ وبضمان الله للمهاجر منذ أن يخرج من بيته مهاجراً في سبيله . ووعده بالسعة والمتنفس في الأرض والمنطلق ، فلا تضيق به الشعاب والفجاج :
{ ومن يهاجر - في سبيل الله - يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة . ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله - ثم يدركه الموت - فقد وقع أجره على الله . وكان الله غفوراً رحيماً } . .
إن المنهج الرباني القرآني يعالج في هذه الآية مخاوف النفس المتنوعة؛ وهي تواجه مخاطر الهجرة؛ في مثل تلك الظروف التي كانت قائمة؛ والتي قد تتكرر بذاتها أو بما يشابهها من المخاوف في كل حين .
وهو يعالج هذه النفس في وضوح وفصاحة؛ فلا يكتم عنها شيئاً من المخاوف؛ ولا يداري عنها شيئاً من الأخطار - بما في ذلك خطر الموت - ولكنه يسكب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى وبضمانة الله سبحانه وتعالى .

.
فهو أولاً يحدد الهجرة بأنها { في سبيل الله } . . وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام . فليست هجرة للثراء ، أو هجرة للنجاة من المتاعب ، أو هجرة للذائذ والشهوات ، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة . ومن يهاجر هذه الهجرة - في سبيل الله - يجد في الأرض فسحة ومنطلقاً فلا تضيق به الأرض ، ولا يعدم الحيلة والوسيلة . للنجاة وللرزق والحياة :
{ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة } . .
وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها؛ يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق ، مرهونة بأرض ، ومقيدة بظروف ، ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلاً .
وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق وأسباب الحياة والنجاة؛ هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم ، وتسكت على الفتنة في الدين؛ ثم تتعرض لذلك المصير البائس . مصير الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم . والله يقرر الحقيقة الموعودة لمن يهاجر في سبيل الله . . إنه سيجد في أرض الله منطلقاً وسيجد فيها سعة . وسيجد الله في كل مكان يذهب إليه ، يحييه ويرزقه وينجيه . .
ولكن الأجل قد يوافي في أثناء الرحلة والهجرة في سبيل الله . . والموت - كما تقدم في سياق السورة - لا علاقة له بالأسباب الظاهرة؛ إنما هو حتم محتوم عندما يحين الأجل المرسوم . وسواء أقام أم هاجر ، فإن الأجل لا يستقدم ولا يستأخر .
غير أن النفس البشرية لها تصوراتها ولها تأثراتها بالملابسات الظاهرة . . . والمنهج يراعي هذا ويعالجه . فيعطي ضمانة الله بوقوع الأجر على الله منذ الخطوة الأولى من البيت في الهجرة إلى الله ورسوله :
{ ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله - ثم يدركه الموت - فقد وقع أجره على الله } . .
أجره كله . أجر الهجرة والرحلة والوصول إلى دار الإسلام والحياة في دار الإسلام . . فماذا بعد ضمان الله من ضمان؟
ومع ضمانة الأجر التلويح بالمغفرة للذنوب والرحمة في الحساب . وهذا فوق الصفقة الأولى .
{ وكان الله غفوراً رحيماً } .
إنها صفقة رابحة دون شك . يقبض فيها المهاجر الثمن كله منذ الخطوة الأولى - خطوة الخروج من البيت مهاجراً إلى الله ورسوله - والموت هو الموت . في موعده الذي لا يتأخر . والذي لا علاقة له بهجرة أو إقامة . ولو أقام المهاجر ولم يخرج من بيته لجاءه الموت في موعده . ولخسر الصفقة الرابحة . فلا أجر ولا مغفرة ولا رحمة . بل هنالك الملائكة تتوفاه ظالماً لنفسه
وشتان بين صفقة وصفقة وشتان بين مصير ومصير
ويخلص لنا من هذه الآيات التي استعرضناها من هذا الدرس - إلى هذا الموضع - عدة اعتبارات ، نجملها قبل أن نعبر إلى بقية الدرس وبقية ما فيه من موضوعات .
يخلص لنا منها مدى كراهية الإسلام للقعود عن الجهاد في سبيل الله؛ والقعود عن الانضمام للصف المسلم المجاهد .

. اللهم إلا من عذرهم الله من أولي الضرر ، ومن العاجزين عن الهجرة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً . .
ويخلص لنا منها مدى عمق عنصر الجهاد وأصالته في العقيدة الإسلامية ، وفي النظام الإسلامي ، وفي المقتضيات الواقعية لهذا المنهج الرباني . . وقد عدته الشيعة ركناً من أركان الإسلام - ولهم من قوة النصوص ومن قوة الواقع ما يفسر اتجاههم هذا . لولا ما ورد في حديث : « بني الإسلام على خمس . . . » ولكن قوة التكليف بالجهاد؛ وأصالة هذا العنصر في خطر الحياة الإسلامية؛ وبروز ضرورته في كل وقت وفي كل أرض - الضرورة التي تستند إلى مقتضيات فطرية لا ملابسات زمنية - كلها تؤيد هذا الشعور العميق بجدية هذا العنصر وأصالته .
ويخلص لنا كذلك أن النفس البشرية هي النفس البشرية؛ وأنها قد تحجم أمام الصعاب ، أو تخاف أمام المخاطر ، وتكسل أمام العقبات ، في خير الأزمنة وخير المجتمعات . وأن منهج العلاج في هذه الحالة ، ليس هو اليأس من هذه النفوس . ولكن استجاشتها ، وتشجيعها ، وتحذيرها ، وطمأنتها في آن واحد . وفق هذا المنهج القرآني الرباني الحكيم .
وأخيراً يخلص لنا كيف كان هذا القرآن يواجه واقع الحياة؛ ويقود المجتمع المسلم؛ ويخوض المعركة - في كل ميادينها - وأول هذه الميادين هو ميدان النفس البشرية؛ وطبائعها الفطرية ، ورواسبها كذلك من الجاهلية . وكيف ينبغي أن نقرأ القرآن ، ونتعامل معه ونحن نواجه واقع الحياة والنفس بالدعوة إلى الله .
بعد ذلك يستطرد الى رخصة ، يبيحها الله للمهاجرين ، أو الضاربين في الأرض للجهاد أو للتجارة . في حالة خوفهم أن يأخذهم الذين كفروا أسارى . فيفتنوهم عن دينهم . وهي رخصة القصر من الصلاة - وهو غير القصر المرخص به للمسافر إطلاقاً سواء خاف فتنة الذين كفروا أو لم يخف - فهذا قصر خاص .
{ وإذا ضربتم في الأرض ، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة - إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا - إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً } . .
إن الضارب في الأرض في حاجة ماسة إلى الصلة الدائمة بربه ، تعينه على ما هو فيه ، وتكمل عدته وسلاحه فيما هو مقدم عليه ، وما هو مرصود له في الطريق . . والصلاة أقرب الصلات إلى الله . وهي العدة التي يدعى المسلمون للاستعانة بها في الشدائد والملمات . فكلما كان هناك خوف أو مشقة قال لهم : { واستعينوا بالصبر والصلاة } . .
ومن ثم يجيء ذكرها هنا في إبانها المناسب ، وفي وقت الحاجة إليها والاضطرار . فما أحوج الخائف في الطريق إلى أن يطمئن قلبه بذكر الله . وما أحوج المهاجر من أرضه إلى أن يلتجى ء إلى حمى الله . . غير أن الصلاة الكاملة - وما فيها من قيام وركوع وسجود - قد تعوق الضارب في الأرض عن الإفلات من كمين قريب .

أو قد تلفت إليه أنظار عدوه فيعرفوه . أو قد تمكن لهم منه وهو راكع أو ساجد فيأخذوه . . ومن ثم هذه الرخصة للضارب في الأرض أن يقصر في الصلاة عند مخافة الفتنة .
والمعنى الذي نختاره في القصر هنا هو المعنى الذي اختاره الإمام الجصاص . وهو أنه ليس القصر في عدد الركعات بجعلها اثنتين في الصلاة الرباعية . فهذا مرخص به للمسافر إطلاقاً ، بلا تخصيص حالة الخوف من الفتنة . بل هذا هو المختار في الصلاة للمسافر - كفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل سفر - بحيث لا يجوز إكمال الصلاة في السفر في أرجح الأقوال .
وإذن فهذه الرخصة الجديدة - في حالة خوف الفتنة - تعني معنى جديداً غير مجرد القصر المرخص به لكل مسافر . إنما هو قصر في صفة الصلاة ذاتها . كالقيام بلا حركة ولا ركوع ولا سجود ولا قعود للتشهد . حيث يصلي الضارب في الأرض قائماً وسائراً وراكباً ، ويومى ء للركوع والسجود .
وكذلك لا يترك صلته بالله في حالة الخوف من الفتنة ، ولا يدع سلاحه الأول في المعركة ، ويأخذ حذره من عدوه :
{ إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً } .
وبمناسبة الحديث عن صلاة الضارب في الأرض ، الخائف من فتنة الذين كفروا ، يجيء حكم صلاة الخوف في أرض المعركة؛ وتحتشد جنبات هذا الحكم الفقهي بلمسات نفسية وتربوية شتى :
{ وإذا كنت فيهم ، فأقمت لهم الصلاة ، فلتقم طائفة منهم معك ، وليأخذوا أسلحتهم؛ فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم . ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك؛ وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم . ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم ، فيميلون عليكم ميلة واحدة . ولا جناح عليكم - إن كان بكم أذى من مطر ، أو كنتم مرضى - أن تضعوا أسلحتكم . وخذوا حذركم ، إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً . فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم . فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ، إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } . .
إن المتأمل في أسرار هذا القرآن؛ وفي أسرار المنهج الرباني للتربية ، المتمثل فيه ، يطلع على عجب من اللفتات النفسية ، النافذة إلى أعماق الروح البشرية . ومنها هذه اللفتة في ساحة المعركة إلى الصلاة . .
إن السياق القرآني لا يجيء بهذا النص هنا لمجرد بيان الحكم « الفقهي » في صفة صلاة الخوف . ولكنه يحشد هذا النص في حملة التربية والتوجيه والتعليم والإعداد للصف المسلم وللجماعة المسلمة .
وأول ما يلفت النظر هو الحرص على الصلاة في ساحة المعركة ولكن هذا طبيعي بل بديهي في الاعتبار الإيماني . إن هذه الصلاة سلاح من أسلحة المعركة . بل إنها السلاح فلا بد من تنظيم استخدام هذا السلاح ، بما يتناسب مع طبيعة المعركة ، وجو المعركة
ولقد كان أولئك الرجال - الذين تربوا بالقرآن وفق المنهج الرباني - يلقون عدوهم بهذا السلاح الذي يتفوقون فيه قبل أي سلاح .

لقد كانوا متفوقين في إيمانهم بإله واحد يعرفونه حق المعرفة؛ ويشعرون أنه معهم في المعركة . متفوقين كذلك في إيمانهم بهدف يقاتلون من أجله؛ ويشعرون أنه أرفع الأهداف جميعاً . متفوقين أيضاً في تصورهم للكون والحياة ولغاية وجودهم الإنساني ، تفوقهم في تنظيمهم الاجتماعي الناشىء من تفوق منهجهم الرباني . . وكانت الصلاة رمزاً لهذا كله ، وتذكيراً بهذا كله . ومن ثم كانت سلاحاً في المعركة . بل كانت هي السلاح
والأمر الثاني الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو . وهذا الحذر الذي يوصى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم ، ليميل عليهم ميلة واحدة ومع هذا التحذير والتخويف؛ التطمين والتثبيت؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قوماً كتب الله عليهم الهوان : { إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً } . . وهذا التقابل بين التحذير والتطمين؛ وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة؛ هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم ، في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم
أما كيفية صلاة الخوف؛ فتختلف فيها آراء الفقهاء ، أخذاً من هذا النص ، ولكننا نكتفي بالصفة العامة ، دون دخول في تفصيل الكيفيات المتنوعة .
{ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ، فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم ، فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم . ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك . وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } . .
والمعنى : إذا كنت فيهم فأممتهم في الصلاة ، فلتقم طائفة منهم تصلي معك الركعة الأولى . على حين تقف طائفة أخرى بأسلحتها من ورائكم لحمايتكم . فإذا أتمت الطائفة الأولى الركعة الأولى رجعت فأخذت مكان الحراسة ، وجاءت الطائفة التي كانت في الحراسة ولم تصل . فلتصل معك ركعة كذلك . ( وهنا يسلم الإمام إذ يكون قد أتم صلاته ركعتين ) .
عندئذ تجيء الطائفة الأولى فتقضي الركعة الثانية التي فاتتها مع الإمام . وتسلم - بينما تحرسها الطائفة الثانية - ثم تجيء الثانية فتقضي الركعة الأولى التي فاتتها وتسلم - بينما تحرسها الطائفة الأولى . .
وبذلك تكون الطائفتان قد صلتا بإمامة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكذلك مع خلفائه وأمرائه ، وأمراء المسلمين ( منهم ) في كل معركة .
{ وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم . ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم ، فيميلون عليكم ميلة واحدة } . .
وهي رغبة في نفوس الكفار تجاه المؤمنين دائمة . والسنون تتوالى ، والقرون تمر ، فتؤكد هذه الحقيقة ، التي وضعها الله في قلوب المجموعة المؤمنة الأولى . وهو يضع لها الخطط العامة للمعركة . كما يضع لها الخطة الحركية أحياناً . على هذا النحو الذي رأينا في صلاة الخوف .
على أن هذا الحذر ، وهذه التعبئة النفسية ، وهذا الاستعداد بالسلاح المستمر ، ليس من شأنه أن يوقع المسلمين في المشقة .

فهم يأخذون منه بقدر الطاقة :
{ ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر ، أو كنتم مرضى ، أن تضعوا أسلحتكم } فحمل السلاح في هذه الحالة يشق ، ولا يفيد . ويكفي أخذ الحذر؛ وتوقع عون الله ونصره :
{ وخذوا حذركم . إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً } . .
ولعل هذا الاحتياط ، وهذه اليقظة ، وهذا الحذر يكون أداة ووسيلة لتحقيق العذاب المهين الذي أعده الله للكافرين . فيكون المؤمنون هم ستار قدرته؛ وأداة مشيئته . . وهي الطمأنينة مع ذلك الحذر؛ والثقة في النصر على قوم أعد الله لهم عذاباً مهيناً . . .
{ فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم . فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة . إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } . .
وهكذا يوجههم إلى الاتصال بالله في كل حال ، وفي كل وضع ، إلى جانب الصلاة . . فهذه هي العدة الكبرى ، وهذا هو السلاح الذي لا يبلى . .
فأما حين الاطمئنان { فأقيموا الصلاة } . . أقيموها كاملة تامة بلا قصر - قصر الخوف الذي تحدثنا عنه - فهي فريضة ذات وقت محدد لأدائها . ومتى زالت أسباب الرخصة في صفة من صفاتها عادت إلى صفتها المفروضة الدائمة .
ومن قوله تعالى : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } . . يأخذ الظاهرية رأيهم في عدم قضاء الفائتة من الصلاة لأنها لا تجزي ولا تصح . لأن الصلاة لا تصح إلا في ميقاتها المعين . فمتى فات الميقات ، فلا سبيل لإقامة الصلاة . . والجمهور على صحة قضاء الفوائت . وعلى تحسين التبكير في الأداء ، والكراهية في التأخير . . ولا ندخل بعد هذا في تفصيلات الفروع . .
ويختم هذا الدرس بالتشجيع على المضي في الجهاد؛ مع الألم والضنى والكلال . ويلمس القلوب المؤمنة لمسة عميقة موحية ، تمس أعماق هذه القلوب ، وتلقي الضوء القوي على المصائر والغايات والاتجاهات :
{ ولا تهنوا في ابتغاء القوم . إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون . وترجون من الله ما لا يرجون . وكان الله عليماً حكيماً } . .
إنهن كلمات معدودات . يضعن الخطوط الحاسمة ، ويكشفن عن الشقة البعيدة ، بين جبهتي الصراع . .
إن المؤمنين يحتملون الألم والقرح في المعركة . . ولكنهم ليسوا وحدهم الذين يحتملونه . . إن أعداءهم كذلك يتألمون وينالهم القرح واللأواء . . ولكن شتان بين هؤلاء وهؤلاء . . إن المؤمنين يتوجهون إلى الله بجهادهم ، ويرتقبون عنده جزاءهم . . فأما الكفار فهم ضائعون مضيعون ، لا يتجهون لله ، ولا يرتقبون عنده شيئاً في الحياة ولا بعد الحياة . .
فإذا أصر الكفار على المعركة ، فما أجدر المؤمنين أن يكونوا هم أشد إصراراً ، وإذا احتمل الكفار آلامها ، فما أجدر المؤمنين بالصبر على ما ينالهم من آلام . وما أجدرهم كذلك أن لا يكفوا عن ابتغاء القوم ومتابعتهم بالقتال ، وتعقب آثارهم ، حتى لا تبقى لهم قوة ، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله .
وإن هذا لهو فضل العقيدة في الله في كل كفاح .

فهناك اللحظات التي تعلو فيها المشقة على الطاقة ، ويربو الألم على الاحتمال . ويحتاج القلب البشري إلى مدد فائض وإلى زاد . هنالك يأتي المدد من هذا المعين ، ويأتي الزاد من ذلك الكنف الرحيم .
ولقد كان هذا التوجيه في معركة مكشوفة متكافئة . معركة يألم فيها المتقاتلون من الفريقين . لأن كلا الفريقين يحمل سلاحه ويقاتل .
ولربما أتت على العصبة المؤمنة فترة لا تكون فيها في معركة مكشوفة متكافئة . . ولكن القاعدة لا تتغير . فالباطل لا يكون بعافية أبداً ، حتى ولو كان غالباً إنه يلاقي الآلام من داخله . من تناقضه الداخلي؛ ومن صراع بعضه مع بعض . ومن صراعه هو مع فطرة الأشياء وطبائع الأشياء .
وسبيل العصبة المؤمنة حينئذ أن تحتمل ولا تنهار . وأن تعلم أنها إن كانت تألم ، فإن عدوها كذلك يألم . والألم أنواع . والقرح ألوان . . { وترجون من الله ما لا يرجون } . . وهذا هو العزاء العميق . وهذا هو مفرق الطريق . .
{ وكان الله عليماً حكيماً } . .
يعلم كيف تعتلج المشاعر في القلوب . ويصف للنفس ما يطب لها من الألم والقرح . .

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)

هذه الآيات تحكي قصة لا تعرف لها الأرض نظيراً ، ولا تعرف لها البشرية شبيهاً . . وتشهد - وحدها - بأن هذا القرآن وهذا الدين لا بد أن يكون من عند الله؛ لأن البشر - مهما ارتفع تصورهم ، ومهما صفت أرواحهم ، ومهما استقامت طبائعهم - لا يمكن أن يرتفعوا - بأنفسهم - إلى هذا المستوى الذي تشير إليه هذه الآيات؛ إلا بوحي من الله . . هذا المستوى الذي يرسم خطا على الأفق لم تصعد إليه البشرية - إلا في ظل هذا المنهج - ولا تملك الصعود إليه أبداً إلا في ظل هذا المنهج كذلك
إنه في الوقت الذي كان اليهود في المدينة يطلقون كل سهامهم المسمومة ، التي تحويها جعبتهم اللئيمة ، على الإسلام والمسلمين؛ والتي حكت هذه السورة وسورة البقرة وسورة آل عمران جانباً منها ومن فعلها في الصف المسلم . .
في الوقت الذي كانوا فيه ينشرون الأكاذيب؛ ويؤلبون المشركين؛ ويشجعون المنافقين ، ويرسمون لهم الطريق؛ ويطلقون الإشاعات؛ ويضللون العقول؛ ويطعنون في القيادة النبوية ، ويشككون في الوحي والرسالة؛ ويحاولون تفسيخ المجتمع المسلم من الداخل ، في الوقت الذي يؤلبون عليه خصومه ليهاجموه من الخارج . . والإسلام ناشىء في المدينة ، ورواسب الجاهلية ما يزال لها آثارها في النفوس؛ ووشائج القربى والمصلحة بين بعض المسلمين وبعض المشركين والمنافقين واليهود أنفسهم ، تمثل خطراً حقيقياً على تماسك الصف المسلم وتناسقه . .
في هذا الوقت الحرج ، الخطر ، الشديد الخطورة . . كانت هذه الآيات كلها تتنزل ، على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى الجماعة المسلمة ، لتنصف رجلاً يهودياً ، اتهم ظلماً بسرقة؛ ولتدين الذين تآمروا على اتهامه ، وهم بيت من الأنصار في المدينة . والأنصار يومئذ هم عدة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجنده ، في مقاومة هذا الكيد الناصب من حوله ، ومن حول الرسالة والدين والعقيدة الجديدة . . .
أي مستوى هذا من النظافة والعدالة والتسامي ثم أي كلام يمكن أن يرتفع ليصف هذا المستوى؟ وكل كلام ، وكل تعليق ، وكل تعقيب ، يتهاوى دون هذه القمة السامقة؛ التي لا يبلغها البشر وحدهم . بل لا يعرفها البشر وحدهم . إلا أن يقادوا بمنهج الله ، إلى هذا الأفق العلوي الكريم الوضيء؟
والقصة التي رويت من عدة مصادر في سبب نزول هذه الآيات أن نفراً من الأنصار - قتادة بن النعمان وعمه رفاعة - غزوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته . فسرقت درع لأحدهم ( رفاعة ) . فحامت الشبهة حول رجل من الأنصار من أهل بيت يقال لهم : بنو أبيرق . فأتى صاحب الدرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن طعمة بن أبيرق سرق درعي . ( وفي رواية : إنه بشير بن أبيرق .

. وفي هذه الرواية : أن بشيراً هذا كان منافقاً يقول الشعر في ذم الصحابة وينسبه لبعض العرب ) فلما رأى السارق ذلك عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل يهودي ( اسمه زيد ابن السمين ) . وقال لنفر من عشيرته : إني غيبت الدرع ، وألقيتها في بيت فلان . وستوجد عنده . فانطلقوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا نبي الله : إن صاحبنا بريء ، وإن الذي سرق الدرع فلان . وقد أحطنا بذلك علماً . فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس ، وجادل عنه ، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك . . ولما عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الدرع وجدت في بيت اليهودي ، قام فبرأ ابن أبيرق وعذره على رؤوس الناس . وكان أهله قد قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل ظهور الدرع في بيت اليهودي - إن قتادة بن النعمان وعمه عمداً إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت قال قتادة : فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمته . فقال : « عمدت الى إهل بيت يذكر منهم إسلام وصلاح وترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة؟ » قال : فرجعت ، ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك . فأتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : الله المستعان . . فلم نلبث أن نزلت : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ، ولا تكن للخائنين خصيماً } - أي بني أبيرق - وخصيماً : أي محامياً ومدافعاً ومجادلاً عنهم - { واستغفر الله } - أي مما قلت لقتادة - { إن الله كان غفوراً رحيماً } . . { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } - إلى قوله تعالى : { رحيماً } - أي لو استغفروا الله لغفر لهم - { ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه } - إلى قوله : { إثماً مبيناً } . . { ولولا فضل الله عليك ورحمته } . إلى قوله : { فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } . . فلما نزل القرآن أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسلاح فرده إلى رفاعة . . قال قتادة : لما أتيت عمي بالسلاح - وكان شيخاً قد عمي - أو عشي - في الجاهلية ، وكنت أرى إسلامه مدخولاً ، فلما أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي هي في سبيل الله . فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين ، فأنزل الله تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، ويتبع غير سبيل المؤمنين ، نوله ما تولى ، ونصله جهنم وساءت مصيراً . إن الله لا يغفر أن يشرك به . ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً }

إن المسألة لم تكن مجرد تبرئة بريء ، تآمرت عليه عصبة لتوقعه في الاتهام - وإن كانت تبرئة بريء أمراً هائلاً ثقيل الوزن في ميزان الله - إنما كانت أكبر من ذلك . كانت هي إقامة الميزان الذي لا يميل مع الهوى ، ولا مع العصبية ، ولا يتأرجح مع المودة والشنآن أياً كانت الملابسات والأحوال .
وكانت المسألة هي تطهير هذا المجتمع الجديد؛ وعلاج عناصر الضعف البشري فيه مع علاج رواسب الجاهلية والعصبية - في كل صورها حتى في صورة العقيدة ، إذا تعلق الأمر بإقامة العدل بين الناس - وإقامة هذا المجتمع الجديد ، الفريد في تاريخ البشرية ، على القاعدة الطيبة النظيفة الصلبة المتينة التي لا تدنسها شوائب الهوى والمصلحة والعصبية ، والتي لا تترجرج مع الأهواء والميول والشهوات
ولقد كان هناك أكثر من سبب للإغضاء عن الحادث ، أو عدم التشديد فيه والتنديد به وكشفه هكذا لجميع الأبصار . بل فضحه بين الناس - على هذا النحو العنيف المكشوف . .
كان هناك أكثر من سبب ، لو كانت الاعتبارات الأرضية هي التي تتحكم وتحكم . ولو كانت موازين البشر ومقاييسهم هي التي يرجع إليها هذا المنهج
كان هناك سبب واضح عريض . . أن هذا المتهم « يهودي » . . من « يهود » . . يهود التي لا تدع سهماً مسموماً تملكه إلا أطلقته في حرب الإسلام وأهله . يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرين في هذه الحقبة ( ويشاء الله أن يكون ذلك في كل حقبة ) يهود التي لا تعرف حقاً ولا عدلاً ولا نصفة ، ولا تقيم اعتباراً لقيمة واحدة من قيم الأخلاق في التعامل مع المسلمين على الإطلاق
وكان هنالك سبب آخر؛ وهو أن الأمر في الأنصار . الأنصار الذين آووا ونصروا . والذين قد يوجد هذا الحادث بين بعض بيوتهم ما يوجد من الضغائن . بينما أن اتجاه الاتهام إلى يهودي ، يبعد شبح الشقاق
وكان هنالك سبب ثالث . هو عدم إعطاء اليهود سهماً جديداً يوجهونه إلى الأنصار . وهو أن بعضهم يسرق بعضاً ، ثم يتهمون اليهود وهم لا يدعون هذه الفرصة تفلت للتشهير بها والتغرير
ولكن الأمر كان أكبر من هذا كله . كان أكبر من كل هذه الاعتبارات الصغيرة . الصغيرة في حساب الإسلام . كان أمر تربية هذه الجماعة الجديدة لتنهض بتكاليفها في خلافة الأرض وفي قيادة البشرية . وهي لا تقوم بالخلافة في الأرض ولا تنهض بقيادة البشرية حتى يتضح لها منهج فريد متفوق على كل ما تعرف البشرية؛ وحتى يثبت هذا المنهج في حياتها الواقعية . وحتى يمحص كيانها تمحيصاً شديداً؛ وتنفض عنه كل خبيئة من ضعف البشر ومن رواسب الجاهلية . وحتى يقام فيها ميزان العدل - لتحكم به بين الناس - مجرداً من جميع الاعتبارات الأرضية ، والمصالح القريبة الظاهرة ، والملابسات التي يراها الناس شيئاً كبيراً لا يقدرون على تجاهله
واختار الله - سبحانه - هذا الحادث بذاته ، في ميقاته .

. مع يهودي . . من يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرين إذ ذاك في المدينة؛ والتي تؤلب عليهم المشركين ، وتؤيد بينهم المنافقين ، وترصد كل ما في جعبتها من مكر وتجربة وعلم لهذا الدين وفي فترة حرجة من حياة المسلمين في المدينة ، والعداوات تحيط بهم من كل جانب . ووراء كل هذه العداوات يهود
اختار الله هذا الحادث في هذا الظرف ، ليقول فيه - سبحانه - للجماعة المسلمة ما أراد أن يقول ، وليعلمها به ما يريد لها أن تتعلم
ومن ثم لم يكن هناك مجال للباقة ولا للكياسة ولا للسياسة ولا للمهارة في إخفاء ما يحرج ، وتغطية ما يسوء
ولم يكن هناك مجال لمصلحة الجماعة المسلمة الظاهرية ومراعاة الظروف الوقتية المحيطة بها
هنا كان الأمر جداً خالصاً ، لا يحتمل الدهان ولا التمويه وكان هذا الجد هو أمر هذا المنهج الرباني وأصوله . وأمر هذه الأمة التي تعد لتنهض بهذا المنهج وتنشره . وأمر العدل بين الناس . العدل في هذا المستوى الذي لا يرتفع إليه الناس - بل لا يعرفه الناس - إلا بوحي من الله ، وعون من الله .
وينظر الإنسان من هذه القمة السامقة على السفوح الهابطة - في جميع الأمم على مدار الزمان - فيراها هنالك . . هنالك في السفوح . . ويرى بين تلك القمة السامقة والسفوح الهابطة صخوراً متردية ، هنا وهناك ، من الدهاء ، والمراء ، والسياسة ، والكياسة ، والبراعة ، والمهارة ، ومصلحة الدولة ، ومصلحة الوطن ، ومصلحة الجماعة . . إلى آخر الأسماء والعنوانات . . فإذا دقق الإنسان فيها النظر رأى من تحتها . . الدود . . وينظر الإنسان مرة أخرى فيرى نماذج الأمة المسلمة - وحدها - صاعدة من السفح إلى القمة . . تتناثر على مدار التاريخ ، وهي تتطلع إلى القمة ، التي وجهها إليها المنهج الفريد .
أما العفن الذي يسمونه « العدالة » في أمم الجاهلية الغابرة والحاضرة ، فلا يستحق أن نرفع عنه الغطاء ، في مثل هذا الجو النظيف الكريم . .
والآن نواجه نصوص الدرس بالتفصيل :
{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ، لتحكم بين الناس بما أراك الله ، ولا تكن للخائنين خصيماً . واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً . ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ، إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً . يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله . وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول - وكان الله بما يعملون محيطاً . ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا ، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة؟ أم من يكون عليهم وكيلاً؟ } .
إننا نحس في التعبير صرامة ، يفوح منها الغضب للحق ، والغيرة على العدل؛ وتشيع في جو الآيات وتفيض منها :
وأول ما يبدو هذا في تذكير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتنزيل الكتاب إليه بالحق ليحكم بين الناس بما أراه الله .

وإتباع هذا التذكير بالنهي عن أن يكون خصيماً للخائنين ، يدافع عنهم ويجادل . وتوجيهه لاستغفار الله - سبحانه - عن هذه المجادلة .
{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله . ولا تكن للخائنين خصيماً . واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً } . .
ثم تكرار هذا النهي؛ ووصف هؤلاء الخائنين ، الذين جادل عنهم - صلى الله عليه وسلم - بأنهم يختانون أنفسهم . وتعليل ذلك بأن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً :
{ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم . إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً } .
وهم خانوا غيرهم في الظاهر . ولكنهم في الحقيقة خانوا أنفسهم . فقد خانوا الجماعة ومنهجها ، ومبادئها التي تميزها وتفردها . وخانوا الأمانة الملقاة على الجماعة كلها ، وهم منها . . ثم هم يختانون أنفسهم في صورة أخرى . صورة تعريض أنفسهم للإثم الذي يجازون عليه شر الجزاء . حيث يكرههم الله ، ويعاقبهم بما أثموا . وهي خيانة للنفس من غير شك . . وصورة ثالثة لخيانتهم لأنفسهم ، هي تلويث هذه الأنفس وتدنيسها بالمؤامرة والكذب والخيانة .
{ إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً } . .
وهذ عقوبة أكبر من كل عقوبة . . وهي تلقي إلى جانبها إيحاء آخر . فالذين لا يحبهم الله لا يجوز أن يجادل عنهم أحد ، ولا أن يحامي عنهم أحد . وقد كرههم الله للإثم والخيانة
ويعقب الوصف بالإثم والخيانة تصوير منفر لسلوك هؤلاء الخونة الآثمين :
{ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله - وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول } . . .
وهي صورة زرية داعية إلى الاحتقار والسخرية . زرية بما فيها من ضعف والتواء ، وهم يبيتون ما يبيتون من الكيد والمؤامرة والخيانة؛ ويستخفون بها عن الناس . والناس لا يملكون لهم نفعاً ولا ضراً . بينما الذي يملك النفع والضر معهم وهم يبيتون ما يبيتون؛ مطلع عليهم وهم يخفون نياتهم ويستخفون . وهم يزورون من القول مالا يرضاه فأي موقف يدعو إلى الزراية والاستهزاء أكثر من هذا الموقف؟
{ وكان الله بما يعملون محيطاً } . . .
إجمالاً وإطلاقاً . . فأين يذهبون بما يبيتون . والله معهم إذ يبيتون . والله بكل شيء محيط وهم تحت عينه وفي قبضته؟
وتستمر الحملة التي يفوح منها الغضب؛ على كل من جادل عن الخائنين :
{ ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا . فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة؟ أم من يكون عليهم وكيلاً؟ } . .
واللهم لا مجادل عنهم يوم القيامة ولا وكيل . فما جدوى الجدال عنهم في الدنيا وهي لا تدفع عنهم ذلك اليوم الثقيل؟
وبعد هذه الحملة الغاضبة على الخونة الأثمة ، والعتاب الشديد للمنافحين عنهم والمجادلين . يجيء تقرير القواعد العامة لهذه الفعلة وآثارها .

وللحساب عليها والجزاء . ولقاعدة الجزاء عامة . القاعدة العادلة التي يعامل بها الله العباد . ويطلب إليهم أن يحاولوا محاكاتها في تعاملهم فيما بينهم ، وأن يتخلقوا بخلق الله - خلق العدل - فيها :
{ ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ، ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً . ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه . وكان الله عليماً حكيماً . . ومن يكسب خطيئة أو إثماً ، ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً } . .
إنها آيات ثلاث تقرر المبادىء الكلية التي يعامل بها الله عباده؛ والتي يملك العباد أن يعاملوا بعضهم بعضاً بها ، ويعاملوا الله على أساسها فلا يصيبهم السوء .
الآية الأولى تفتح باب التوبة على مصراعيه ، وباب المغفرة على سعته؛ وتطمع كل مذنب تائب في العفو والقبول :
{ ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ، ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً } . . إنه - سبحانه - موجود للمغفرة والرحمة حيثما قصده مستغفر منيب . . والذي يعمل السوء يظلم غيره . ويظلم نفسه . وقد يظلم نفسه وحدها إذا عمل السيئة التي لا تتعدى شخصه . . وعلى أية حال فالغفور الرحيم يستقبل المستغفرين في كل حين؛ ويغفر لهم ويرحمهم متى جاءوه تائبين . هكذا بلا قيد ولا شرط ولا حجاب ولا بوّاب حيثما جاءوا تائبين مستغفرين وجدوا الله غفوراً رحيماً . .
والآية الثانية تقرر فردية التبعة . وهي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي في الجزاء ، والتي تثير في كل قلب شعور الخوف وشعور الطمأنينة . الخوف من عمله وكسبه . والطمأنينة من أن لا يحمل تبعة غيره .
{ ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه . وكان الله عليماً حكيماً } . .
ليست هناك خطيئة موروثة في الإسلام ، كالتي تتحدث عنها تصورات الكنيسة ، كما أنه ليست هناك كفارة غير الكفارة التي تؤديها النفس عن نفسها . . وعندئذ تنطلق كل نفس حذرة مما تكسب . مطمئنة إلى أنها لا تحاسب إلا على ما تكسب . . توازن عجيب ، في هذا التصور الفريد . هو إحدى خصائص التصور الإسلامي وأحد مقوماته ، التي تطمئن الفطرة ، وتحقق العدل الإلهي المطلق؛ المطلوب أن يحاكيه بنو الإنسان .
والآية الثالثة تقرر تبعة من يكسب الخطيئة ثم يرمي بها البريء . . وهي الحالة المنطبقة على حالة العصابة التي يدور عليها الكلام :
{ ومن يكسب خطيئة أو إثماً ، ثم يرم به بريئاً ، فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً } . .
البهتان في رميه البريء . والإثم في ارتكابه الذنب الذي رمى به البريء . . وقد احتملهما معه . وكأنما هما حمل يحمل . على طريقة التجسيم التي تبرز المعنى وتؤكده في التعبير القرآني المصور .
وبهذه القواعد الثلاث يرسم القرآن ميزان العدالة الذي يحاسب كل فرد على ما اجترح . ولا يدع المجرم يمضي ناجياً إذا ألقى جرمه على سواه . . وفي الوقت ذاته يفتح باب التوبة والمغفرة على مصراعيه؛ ويضرب موعداً مع الله - سبحانه - في كل لحظة للتائبين المستغفرين ، الذين يطرقون الأبواب في كل حين .

بل يلجونها بلا استئذان فيجدون الرحمة والغفران
وأخيراً يمن الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن عصمه من الانسياق وراء المتآمرين المبيتين؛ فأطلعه على مؤامراتهم التي يستخفون بها من الناس ولا يستخفون بها من الله - وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول - ثم يمتن عليه المنة الكبرى في إنزال الكتاب والحكمة وتعليمه ما لم يكن يعلم . . وهي المنة على البشرية كلها ، ممثلة ابتداء في شخص أكرمها على الله وأقربها لله :
{ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك . وما يضلون إلا أنفسهم . وما يضرونك من شيء . وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة . وعلمك ما لم تكن تعلم . وكان فضل الله عليك عظيماً } .
إن هذه المحاولة ليست إلا واحدة من محاولات كثيرة ، شتى الألوان والأنواع؛ مما بذله أعداء هذا الرسول الكريم ليضلوه عن الحق والعدل والصواب . ولكن الله - سبحانه - كان يتولاه بفضله ورحمته في كل مرة .
وكان الكائدون المتأمرون هم الذين يضلون ويقعون في الضلالة . . وسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حافلة بتلك المحاولات؛ ونجاته وهدايته؛ وضلال المتآمرين وخيبتهم .
والله - سبحانه - يمتن عليه بفضله ورحمته هذه؛ ويطمئنه في الوقت ذاته أنهم لا يضرونه شيئاً . بفضل من الله ورحمة .
وبمناسبة المنة في حفظه من هذه المؤامرة الأخيرة؛ وصيانة أحكامه من أن تتعرض لظلم بريء وتبرئة جارم ، وكشف الحقيقة له وتعريفه بالمؤامرة . . تجيء المنة الكبرى . . منة الرسالة :
{ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم . وكان فضل الله عليك عظيماً } .
وهي منة الله على « الإنسان » في هذه الأرض . المنة التي ولد الإنسان معها ميلاداً جديداً . ونشأ بها « الإنسان » كما نشأ أول مرة بنفخة الروح الأولى . .
المنة التي التقطت البشرية من سفح الجاهلية ، لترقى بها في الطريق الصاعد ، إلى القمة السامقة . عن طريق المنهج الرباني الفريد العجيب . .
المنة التي لا يعرف قدرها إلا الذي عرف الإسلام وعرف الجاهلية - جاهلية الغابر والحاضر - وذاق الإسلام وذاق الجاهلية . .
وإذا كانت منة يذكر الله بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلأنه هو أول من عرفها وذاقها . وأكبر من عرفها وذاقها . وأعرف من عرفها وذاقها . .
{ وعلمك ما لم تكن تعلم . وكان فضل الله عليك عظيماً } .

لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)

يتصل هذا الدرس بالدرس السابق ، بأكثر من صلة . فهو أولاً نزلت بعض آياته تعليقاً وتعقيباً على الأحداث التي تلت حادث اليهودي . من ارتداد « بشير بن أبيرق » ومشاقته للرسول - صلى الله عليه وسلم - وعودته إلى الجاهلية؛ التي تحدث هذا الدرس عنها ، وعن تصوراتها وحماقاتها وعلاقاتها بالشيطان ، ودور الشيطان فيها ويقرر أن الله لا يغفر أن يشرك به . ويغفر ما دون ذلك - لمن يشاء . وهو ثانياً يتحدث عن النجوى والتآمر؛ وأنه لا خير في كثير مما يتناجون به ، من أمثال ما بيتوا في ذلك الحادث وتناجوا . ويحدد أنواع النجوى التي يحبها الله؛ وهي التناجي في فعل الخير والمعروف والإصلاح بين الناس . ويقرر جزاء هذه النجوى وتلك عند الله . . وأخيراً يقرر القواعد العادلة التي يجازي بها الله على الأعمال؛ وأنها ليست تابعة لرغبات أحد من الناس وتمنياتهم . لا أماني المسلمين ولا أماني أهل الكتاب . إنما هي ترجع إلى عدل الله المطلق؛ وإلى الحق الذي لو اتبع أهواءهم لفسدت السماوات والأرض . .
فالدرس كله ، موضوعاً واتجاهاً ، موصول الأسباب بالدرس السابق من هذه الناحية . .
ثم هو حلقة من حلقات المنهج التربوي الحكيم ، في إعداد هذه الجماعة لتكون الأمة التي تقود البشرية؛ بتفوقها التربوي والتنظيمي؛ وليعالج فيها مواضع الضعف البشري ورواسب المجتمع الجاهلي؛ وليخوض بها المعركة في ميادينها كلها . . وهو الهدف الذي تتوخاه السورة بشتى موضوعاتها ، ويتولاه المنهج القرآني كله . .
{ لا خير في كثير من نجواهم . إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس . ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله ، فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } . .
لقد تكرر في القرآن النهي عن النجوى؛ وهي أن تجتمع طائفة بعيداً عن الجماعة المسلمة ، وعن القيادة المسلمة ، لتبيت أمراً . . وكان اتجاه التربية الإسلامية واتجاه التنظيم الإسلامي كذلك أن يأتي كل إنسان بمشكلته أو بموضوعه ، فيعرضه على النبي - صلى الله عليه وسلم - مسارة إن كان أمراً شخصياً لا يريد أن يشيع عنه شيء في الناس . أو مساءلة علنية إن كان من الموضوعات ذات الصبغة العامة ، التي ليست من خصوصيات هذا الشخص .
والحكمة في هذه الخطة ، هو ألا تتكون « جيوب » في الجماعة المسلمة؛ وألا تنعزل مجموعات منها بتصوراتها ومشكلاتها ، أو بأفكارها واتجاهاتها . وألا تبيت مجموعة من الجماعة المسلمة أمراً بليل ، وتواجه به الجماعة أمراً مقرراً من قبل؛ أو تخفيه عن الجماعة وتستخفي به عن أعينها - وإن كانت لا تختفي به عن الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول .
وهذا الموضع أحد المواضع التي ورد فيها هذا النهي عن التناجي والتبييت بمعزل عن الجماعة المسلمة وقيادتها .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36