كتاب : في ظلال القرآن
المؤلف : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي

ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ، إنه هو السميع العليم } . .
هذه القضايا تعرض في حشد من المؤثرات الشعورية العميقة . تعرض في المجال الكوني الحافل بالآيات العظام . وتعرض في عالم النفس البشرية العجيبة التكوين . وتعرض في مجال بشري من مصارع الغابرين . وأخيراً تعرض في جو من مشاهد القيامة وتأثيرها العميق؛ وبعض هذه المشاهد فريد في صوره ومواقفه يثير الدهش الشديد .
ومن بين المشاهد الكونية في هذه السورة مشهد الخلق الأول للأرض والسماء بكثير من التفصيل المثير : { قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً؟ ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين . ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا أتينا طائعين . فقضاهن سبع سماوات في يومين ، وأوحى في كل سماء أمرها . وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً . ذلك تقدير العزيز العليم } . . ومن بينها كذلك آيات الليل والنهار والشمس والقمر وعبادة الملائكة وخشوع الأرض بالعبادة ونبضها بالحياة : { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر . لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون . فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون . ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة؛ فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت . إن الذي أحياها لمحيي الموتى ، إنه على كل شيء قدير } أما النفس البشرية فيكشف عن حقيقتها في هذه السورة ، وتعرض على أصحابها عارية من كل ستار : { لا يسأم الإنسان من دعاء الخير ، وإن مسه الشر فيؤوس قنوط ، ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن : هذا لي ، وما أظن الساعة قائمة ، ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ، فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ . وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه ، وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } ومن مصارع الغابرين يصور مصرع عاد ومصرع ثمود : { فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق ، وقالوا : من أشد منا قوة؟ أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ، وكانوا بآياتنا يجحدون . فأرسلنا عليهم ريحاً صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون . وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ، فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون . ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون } . .
ومن مشاهد القيامة المؤثرة في هذه السورة : { ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون . حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعلمون .

وقالوا لجلودهم : لم شهدتم علينا؟ قالوا : أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء . وهو خلقكم أول مرة ، وإليه ترجعون } . . ومنها كذلك مشهد الحنق الواضح من المخدوعين على الخادعين : { وقال الذين كفروا : ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس ، نجعلهما تحت أقدامنا ، ليكونا من الأسفلين } . .
وهكذا تعرض حقائق العقيدة في السورة في هذا الحشد من المؤثرات العميقة . ولعل هذا الحشد المنوع من تلك المؤثرات يصف جو السورة ، ويصور طابعها ، ويرسم ظلالها . . والواقع أن القلب يجد أنه منذ مطلع السورة إلى ختامها أمام مؤثرات وإيقاعات تجول به في ملكوت السماوات والأرض ، وفي أغوار النفس ، وفي مصارع البشر ، وفي عالم القيامة ، وتوقع على أوتاره إيقاعات شتى كلها مؤثر عميق . .
ويجري سياق السورة بموضوعاتها ومؤثراتها في شوطين اثنين ، متماسكي الحلقات . .
الشوط الأول يبدأ بالآيات التي تتحدث عن تنزيل الكتاب وطبيعته وموقف المشركين منه . وتليها قصة خلق السماء والأرض . فقصة عاد وثمود . فمشهدهم في الآخرة تشهد عليهم الأسماع والأبصار والجلود . ومن هنا يرتد إلى الحديث عنهم في الدنيا وكيف ضلوا هذا الضلال ، فيذكر أن الله قيض لهم قرناء سوء من الجن والإنس . يزينون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم . ومن آثار هذا قولهم : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . ثم موقفهم يوم القيامة حانقين على هؤلاء الذين خدعوهم من قرناء الجن والإنس وعلى الضفة الأخرى الذين قالوا : ربنا الله ثم استقاموا . وهؤلاء تتنزل عليهم الملائكة لا قرناء السوء يطمئنونهم ويبشرونهم ويعلنون ولايتهم لهم في الدنيا والآخرة . ويلي هذا ما جاء عن الدعوة والداعية . . وبذلك ينتهي هذا الشوط .
ويليه الشوط الثاني يتحدث عن آيات الله من الليل والنهار والشمس والقمر والملائكة العابدة ، والأرض الخاشعة ، والحياة التي تهتز فيها وتربو بعد الموات . ويلي هذا الحديث عن الذين يلحدون في آيات الله وفي كتابه ، وهنا يجيء ذلك الحديث عن هذا الكتاب . ويشار إلى كتاب موسى واختلاف قومه فيه . ويوكل أمرهم إلى الله بعد الأجل المضروب . وهنا يرد حديث عن الساعة واختصاص علم الله بها . وعلمه بما تكنه الأكمام من ثمرات ، وما تكنه الأرحام من أنسال . ويعرض مشهد الكافرين وهم يسألون عن الشركاء . يلي هذا الحديث عن النفس البشرية عارية من أستارها . ومع حرص الإنسان على نفسه هكذا فإنه لا يحتاط لها فيكذب ويكفر ، غير محتاط لما يعقب التكذيب من دمار وعذاب .
وتختم السورة بوعد من الله أن يكشف للناس عن آياته في الأنفس والآفاق حتى يتبينوا ويثقوا : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق . أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد . ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم . ألا إنه بكل شيء محيط } وتختم السورة بهذا الإيقاع الأخير .

.
والآن نبدأ في التفصيل . .
{ حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون . بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . وقالوا : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب . فاعمل إننا عاملون . قل إنما أنا بشر مثلكم ، يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد ، فاستقيموا إليه واستغفروه؛ وويل للمشركين ، الذين لا يؤتون الزكاة ، وهم بالآخرة هم كافرون . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون } . .
سبق الحديث عن الافتتاح بالأحرف المقطعة في سور شتى . وتكرار هذا الافتتاح : « حا . ميم » . . يتمشى مع طريقة القرآن في تكرار الإشارة إلى الحقائق التي يلمس بها القلب البشري ، لأن فطرة هذا القلب تحتاج إلى تكرار التنبيه؛ فهو ينسى إذا طال عليه الأمد؛ وهو يحتاج ابتداء إلى التكرار بطرق شتى لتثبيت أية حقيقة شعورية فيه . والقرآن يأخذ هذا القلب بما أودع في فطرته من خصائص واستعدادات ، وفق ما يعلم خالق هذا القلب ومصرفه بما يشاء .
{ تنزيل من الرحمن الرحيم } . . وكأن « حا . ميم » اسم للسورة . أو لجنس القرآن . إذ أنها من جنس الأحرف التي صيغ منها لفظ هذا القرآن . وهي تقع مبتدأ . . و { تنزيل من الرحمن الرحيم } خبر المبتدأ .
وذكر الرحمن الرحيم عند ذكر تنزيل الكتاب؛ يشير إلى الصفة الغالبة في هذا التنزيل . صفة الرحمة . وما من شك أن تنزيل هذا الكتاب جاء رحمة للعالمين . رحمة لمن آمنوا به واتبعوه ورحمة كذلك لغيرهم . لا من الناس وحدهم ، ولكن للأحياء جميعاً . فقد سن منهجاً ورسم خطة تقوم على الخير للجميع . وأثر في حياة البشرية ، وتصوراتها ، ومدركاتها ، وخط سيرها؛ ولم يقتصر في هذا على المؤمنين به إنما كان تأثيره عالمياً ومطرداً منذ أن جاء إلى العالمين . والذين يتتبعون التاريخ البشري بإنصاف ودقة؛ ويتتبعونه في معناه الإنساني العام ، الشامل لجميع أوجه النشاط الإنساني ، يدركون هذه الحقيقة ، ويطمئنون إليها . وكثير منهم قد سجلوا هذا واعترفوا به في وضوح .
{ كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون } . .
والتفصيل المحكم ، وفق الأغراض والأهداف ، ووفق أنواع الطبائع والعقول ، ووفق البيئات والعصور ، ووفق الحالات النفسية وحاجاتها المتنوعة . . التفصيل المحكم وفق هذه الاعتبارات سمة واضحة في هذا الكتاب . وقد فصلت هذه الآيات وفق تلك الاعتبارات . فصلت قرآناً عربياً { لقوم يعلمون } . . لديهم الاستعداد للعلم والمعرفة والتمييز .
وقام هذا القرآن يؤدي وظيفته :
{ بشيراً ونذيراً } . .
يبشر المؤمنين العاملين ، وينذر المكذبين المسيئين ، ويبين أسباب البشرى وأسباب الإنذار ، بأسلوبه العربي المبين . لقوم لغتهم العربية . ولكن أكثرهم مع هذا لم يقبل ويستجب :
{ فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون }
وقد كانوا يعرضون فلا يسمعون فعلاً ، ويتحامون أن يعرضوا قلوبهم لتأثير هذا القرآن القاهر . وكانوا يحضون الجماهير على عدم السماع كما سيجيء قولهم : { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } .

.
وأحياناً كانوا يسمعون ، وكأنهم لا يسمعون ، لأنهم يقاومون أثر هذا القرآن في نفوسهم؛ فكأنهم صم لا يسمعون
{ وقالوا : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب ، فاعمل إننا عاملون } . .
قالوا هذا إمعاناً في العناد ، وتيئيساً للرسول صلى الله عليه وسلم ليكف عن دعوتهم ، لما كانوا يجدونه في قلوبهم من وقع كلماته ، على حين يريدون عامدين ألا يكونوا مؤمنين
قالوا : قلوبنا في أغطية فلا تصل إليها كلماتك . وفي أذاننا صمم فلا تسمع دعوتك . ومن بيننا وبينك حجاب ، فلا اتصال بيننا وبينك . فدعنا واعمل لنفسك فإننا عاملون لأنفسنا . أو أنهم قالوا غير مبالين : نحن لا نبالي قولك وفعلك ، وإنذارك ووعيدك . فإذا شئت فامض في طريقك فإنا ماضون في طريقنا . لا نسمع لك وافعل ما أنت فاعل . وهات وعيدك الذي تهددنا به فإننا غير مبالين .
هذا نموذج مما كان يلقاه صاحب الدعوة الأول صلى الله عليه وسلم ثم يمضي في طريقه يدعو ويدعو ، لا يكف عن الدعوة ، ولا ييأس من التيئيس ، ولا يستبطئ وعد الله له ولا وعيده للمكذبين . كان يمضي مأموراً أن يعلن لهم أن تحقق وعيد الله ليس بيده؛ فما هو بشر يتلقى الوحي ، فيبلغ به ، ويدعو الناس إلى الله الواحد . وإلى الاستقامة على الطريق ، وينذر المشركين كما أمر أن يفعل . والأمر بعد ذلك لله لا يملك منه شيئاً ، فهو ليس إلا بشراً مأموراً :
{ قل : إنما أنا بشر مثلكم ، يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد؛ فاستقيموا إليه واستغفروه ، وويل للمشركين } . .
يا لعظمة الصبر والاحتمال والإيمان والتسليم إنه لا يدرك ما في الصبر على هذه الحال ، والتبرؤ من كل حول وقوة في مثل هذا الموقف ، واحتمال الإعراض والتكذيب في تبجح واستهتار ، دون استعجال الآية التي تردع المعرضين المكذبين المستهترين . . إنه لا يدرك ما في الصبر على هذا الحال من مشقة ، ومن عظمة في احتمال هذه المشقة ، إلا من يكابد طرفاً من هذا الموقف في واقع الحياة . ثم يمضي في الطريق
ومن أجل هذا الموقف وأمثاله كان التوجيه إلى الصبر كثير الورود للأنبياء والرسل . فطريق الدعوة هو طريق الصبر . الصبر الطويل . وأول ما يستوجب الصبر تلك الرغبة الملحة في انتظار الدعوة ، ثم إبطاء النصر . بل إبطاء أماراته . ثم ضرورة التسليم لهذا والرضى به والقبول
إن أقصى ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤمر به في مقابلة التبجح والاستهتار أن يقول :
{ وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون } . .
وتخصيص الزكاة في هذا الموضع لا بد كانت له مناسبة حاضرة ، لم نقف عليها ، فهذه الآية مكية . والزكاة لم تفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة في المدينة .

وإن كان أصل الزكاة كان معروفاً في مكة . والذي جد في المدينة هو بيان أنصبتها في المال ، وتحصيلها كفريضة معينة . أما في مكة فقد كانت أمراً عاماً يتطوع به المتطوعون ، غير محدود ، وأداؤه موكول إلى الضمير . . أما الكفر بالآخرة فهو عين الكفر الذي يستحق الويل والثبور .
وقد ذكر بعضهم أن المقصود بالزكاة هنا الإيمان والطهارة من الشرك . وهو محتمل كذلك في مثل هذه الظروف .
ثم يمضي الداعية يكشف لهم عن شناعة الجرم الذي يرتكبونه بالشرك والكفر . يمضي بهم في المجال الكوني العريض . مجال السماوات والأرض ، والكون الذي هم بالقياس إليه شيء ضئيل هزيل . يمضي بهم في هذا المجال ليكشف لهم عن سلطان الله الذي يكفرون به في فطرة هذا الكون الذي هم جزء منه . ثم ليخرجهم من الزاوية الضيقة الصغيرة التي ينظرون منها إلى هذه الدعوة ، حيث يرون أنفسهم وذواتهم كبيرة كبيرة؛ ويشغلهم النظر إليها وإلى اختيار محمد صلى الله عليه وسلم من دونهم . والحرص على مكانتهم ومصالحهم . . إلى آخر هذه الاعتبارات الصغيرة . . يشغلهم هذا عن النظر إلى الحقيقة الضخمة التي جاءهم بها محمد ، وفصلها هذا القرآن . الحقيقة التي تتصل بالسماوات والأرض؛ وتتصل بالبشرية كلها في جميع أعصارها؛ وتتصل بالحق الكبير الذي يتجاوز زمانهم ومكانهم وشخوصهم؛ وتتصل بالكون كله في الصميم :
{ قل : أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ، وتجعلون له أنداداً؟ ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها ، وبارك فيها ، وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين . ثم استوى إلى السماء وهي دخان ، فقال لها وللأرض : ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا : أتينا طائعين . فقضاهن سبع سماوات في يومين ، وأوحى في كل سماء أمرها ، وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً . ذلك تقدير العزيز العليم } . .
قل لهم : إنكم إذ تكفرون . إذ تلقون بهذه الكلمة الكبيرة في استهتار . إنما تأتون أمراً عظيماً ، مستنكراً قبيحاً ، إنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها . وبارك فيها . وقدر فيها أقواتها .
والذي خلق السماوات ونظم أمرها . وزين السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً . والذي أسلمت له السماء والأرض قيادهما طائعتين مستسلمتين . . وأنتم . . أنتم بعض سكان هذه الأرض تتأبون وتستكبرون
ولكن النسق القرآني يعرض هذه الحقائق بطريقة القرآن التي تبلغ أعماق القلوب وتهزها هزاً . فلنحاول أن نسير مع هذا النسق بالترتيب والتفصيل :
{ قل : أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ، وتجعلون له أنداداً . ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها ، وبارك فيها ، وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين } . .
إنه يذكر حقيقة خلق الأرض في يومين . ثم يعقب عليها قبل عرض بقية قصة الأرض . يعقب على الحلقة الأولى من قصة الأرض . { ذلك رب العالمين } .

. وأنتم تكفرون به وتجعلون له أنداداً . وهو خلق هذه الأرض التي أنتم عليها . فأي تبجح وأي استهتار وأي فعل قبيح؟
وما هذه الأيام : الاثنان اللذان خلق فيهما الأرض . والاثنان اللذان جعل فيهما الرواسي وقدر فيهما الأقوات ، وأحل فيهما البركة . فتمت بهما الأيام الأربعة؟
إنها بلا شك أيام من أيام الله التي يعلم هو مداها . وليست من أيام هذه الأرض . فأيام هذه الأرض إنما هي مقياس زمني مستحدث بعد ميلاد الأرض . وكما للأرض أيام ، هي مواعيد دورتها حول نفسها أمام الشمس ، فللكواكب الأخرى أيام ، وللنجوم أيام . وهي غير أيام الأرض . بعضها أقصر من أيام الأرض وبعضها أطول .
والأيام التي خلقت فيها الأرض أولاً ، ثم تكونت فيها الجبال ، وقدرت فيها الأقوات ، هي أيام أخرى مقيسة بمقياس آخر ، لا نعلمه ، ولكننا نعرف أنه أطول بكثير من أيام الأرض المعروفة .
وأقرب ما نستطيع تصوره وفق ما وصل إليه علمنا البشري أنها هي الأزمان التي مرت بها الأرض طوراً بعد طور ، حتى استقرت وصلبت قشرتها وأصبحت صالحة للحياة التي نعلمها . وهذه قد استغرقت فيما تقول النظريات التي بين أيدينا نحو ألفي مليون سنة من سنوات أرضنا
وهذه مجرد تقديرات علمية مستندة إلى دراسة الصخور وتقدير عمر الأرض بوساطتها . ونحن في دراسة القرآن لا نلجأ إلى تلك التقديرات على أنها حقائق نهائية . فهي في أصلها ليست كذلك . وإن هي إلا نظريات قابلة للتعديل . فنحن لا نحمل القرآن عليها؛ إنما نجد أنها قد تكون صحيحة إذا رأينا بينها وبين النص القرآني تقارباً ، ووجدنا أنها تصلح تفسيراً للنص القرآني بغير تمحل . فنأخذ من هذا أن هذه النظرية أو تلك أقرب إلى الصحة لأنها أقرب إلى مدلول النص القرآني .
والراجح الآن في أقوال العلم أن الأرض كانت كرة ملتهبة في حالة غازية كالشمس الآن والأرجح أنها قطعة من الشمس انفصلت عنها لسبب غير متفق على تقديره وأنها استغرقت أزماناً طويلة حتى بردت قشرتها وصلبت . وأن جوفها لا يزال في حالة انصهار لشدة الحرارة حيث تنصهر أقسى الصخور .
ولما بردت القشرة الأرضية جمدت وصلبت . وكانت في أول الأمر صخرية صلبة . طبقات من الصخر بعضها فوق بعض .
وفي وقت مبكر جداً تكونت البحار من اتحاد الإيدروجين بنسبة 2 والأكسجين بنسبة 1 ومن اتحادهما ينشأ الماء .
« والهواء والماء على أرضنا هذه قد تعاونا على تفتيت الصخر وتشتيته ، وحمله وترسيبه ، حتى كانت من ذلك تربة أمكن فيها الزرع . وتعاونا على نحر الجبال والنجاد ، وملء الوهاد ، فلا تكاد تجد في شيء كان على الأرض أو هو كائن إلا أثر الهدم وأثر البناء » .
« إن هذه القشرة الأرضية في حركة دائمة ، وفي تغير دائم ، يهتز البحر بالموج فيؤثر فيها ، ويتبخر ماء البحر .

تبخره الشمس ، فيصعد إلى السماء فيكون سحباً تمطر الماء عذباً ، فينزل على الأرض متدفقاً ، فتكون السيول ، وتكون الأنهار ، تجري في هذه القشرة الأرضية فتؤثر فيها . تؤثر في صخره فتحله فتبدل فيه من صخر صخراً . ( أي تحوله إلى نوع آخر من الصخور ) وهي من بعد ذلك تحمله وتنقله . ويتبدل وجه الأرض على القرون ، ومئات القرون وآلافها . وتعمل الثلوج الجامدة بوجه الأرض ما يفعله الماء السائل . وتفعل الرياح بوجه الأرض ما يفعل الماء . وتفعل الشمس بوجه الأرض ما يفعله الماء والريح ، بما تطلق على هذا الوجه من نار ومن نور . والأحياء على الأرض تغير من وجهها كذلك . ويغير فيها ما ينبثق فيها من جوف الأرض من براكين « .
» وتسأل عالم الأرض العالم الجيولوجي عن صخور هذه القشرة فيعدد لك من صخورها الشيء الكثير ، ويأخذ يحدثك عن أنواعها الثلاثة الكبرى « .
» يحدثك عن الصخور النارية . تلك التي خرجت من جوف الأرض إلى ظهرها صخراً منصهراً . ثم برد . ويضرب لك منها مثلاً بالجرانيت والبازلت . ويأيتك بعينة منها يشير لك فيها إلى ما احتوته من بلورات ، بيضاء وحمراء أو سوداء ، ويقول لك : إن كل بلورة من هذه تدل على مركب كيماوي ، له كيان بذاته . فهذه الصخور أخلاط . ويلفت فكرك إلى أنه من هذه الصخور النارية ومن أشباهها تكونت قشرة هذه الأرض عندما تمت الأرض تكونا في القديم الأقدم من الزمان . ثم قام يفعل فيها الماء ، هابطاً من السماء أو جارياً في الأرض ، أو جامداً في الثلج ، وقام يفعل الهواء ويفعل الريح . . وقامت تفعل الشمس . قامت جميعها تغير من هذه الصخور . من طبيعتها ومن كيميائها . فولدت منها صخوراً غير تلك الصخور حتى ما يكاد يجمعها في منظر أو مخبر شيء « .
» وينتقل بك الجيولوجي إلى الصنف الأكبر الثاني من الصخور . إلى الصخور التي أسموها بالمترسبة أو الراسبة ، وهي تلك الصخور التي اشتقت ، بفعل الماء والريح والشمس ، أو بفعل الأحياء من صخور أكثر في الأرض أصالة وأعقد . وأسموها راسبة لأنها لا توجد في مواضعها الأولى . إنها حملت من بعد اشتقاق من صخورها الأولى ، أو وهي في سبيل اشتقاق . حملها الماء أو حملتها الريح ، ثم هبطت ورسبت واستقرت حيث هي من الأرض « .
» ويضرب لك الجيولوجي مثلاً للصخور الراسبة بالحجر الجيري الذي يتألف منه جبل كجبل المقطم ، ومن حجره تبني القاهرة بيوتها . ويقول لك : إنه مركب كيماوي يعرف بكربونات الكلسيوم ، وإنه اشتق في الأرض من عمل الأحياء أو عمل الكيمياء . ويضرب لك مثلا ، بالرمل ، ويقول لك : إن أكثره أكسيد السيلسيوم ، وإنه مشتق كذلك ، ومثلا آخر بالطفل والصلصال ، وكلها من أصول سابقة « .

« وتسأل عن هذه الأصول السابقة التي منها اشتقت تلك الصخور الراسبة ، على اختلافها ، فتعلم أنها الصخور النارية . بدأت الأرض عندما انجمد سطحها من بعد انصهار ، في قديم الأزل ، ولا شيء على هذا السطح المنجمد غير الصخر الناري . ثم جاء الماء ، وجاءت البحار ، وتفاعل الصخر الناري والماء . وشركهما الهواء . شركهما غازات متفاعلة ، وشركهما رياحاً عاصفة ، وشركتهما الشمس ناراً ونوراً . وتفاعلت كل هذه العوامل جميعا . وفقا لما أودع فيها من طبائع . فغيرت من صخر ناري صلد غير نافع ، إلى صخر نافع . صخر ينفع في بناء المساكن ، وصخر ينفع في استخراج المعادن . وأهم من هذا ، وأخطر من هذا ، أنها استخرجت من هذا المساكن ، وصخر ينفع في استخراج المعادن . وأهم من هذا ، وأخطر من هذا ، أنها استخرجت من هذا الصخر الناري الصلد ، الذي لا ينفع لحياة تقوم عليه ، استخرجت تربة ، رسبت على سطح الأرض ، مهدت لقدوم الأحياء والخلائق » .
« إن الجرانيت لا ينفع لحرث أو زرع أو سقيا ، ولكن تنفع تربة هشة لينة خرجت منه ومن أشباه له . وبظهور هذه التربة ظهر النبات ، وبظهور النبات ظهر الحيوان . وتمهدت الأرض لقيام رأس الخلائق على هذه الأرض . ذلك الإنسان . . »
هذه الرحلة الطويلة كما يقدرها العلم الحديث ، قد تساعدنا على فهم معنى الأيام في خلق الأرض وجعل الرواسي فوقها ، والمباركة فيها ، وتقدير أقواتها في أربعة أيام . . من أيام الله . . التي لا نعرف ما هي؟ ما طولها؟ ولكننا نعرف أنها غير أيام هذه الأرض حتماً . .
ونقف لحظة أمام كل فقرة من النص القرآني قبل أن نغادر الأرض إلى السماء
{ وجعل فيها رواسي من فوقها } . . وكثيراً ما يرد تسمية الجبال { رواسي } وفي بعض المواضع يعلل وجود هذه الرواسي { أن تميد بكم } أي إنها هي راسية ، وهي ترسي الأرض ، وتحفظ توازنها فلا تميد . . ولقد غبر زمان كان الناس يحسبون أن أرضهم هذه ثابتة راسخة على قواعد متينة ثم جاء زمان يقال لهم فيه الآن : إن أرضكم هذه إن هي إلا كرة صغيرة سابحة في فضاء مطلق ، لا تستند إلى شيء . . ولعلهم يفزعون حين يقال لهم هذا الكلام أول مرة أو لعل منهم من ينظر بوجل عن يمينه وعن شماله خيفة أن تتأرجح به هذه الأرض أو تسقط في أعماق الفضاء فليطمئن . فإن يد الله تمسكها أن تزول هي والسماء . ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده وليطمئن فإن النواميس التي تحكم هذا الكون متينة من صنع القوي العزيز
ونعود إلى الجبال فنجد القرآن يقول إنها { رواسي } وإنها كذلك ترسي الأرض فلا تميد . ولعلها كما قلنا في موضع آخر من هذه الظلال تحفظ التناسق بين القيعان في المحيطات والمرتفعات في الأرض فتتوازن فلا تميد .
وهذا عالم يقول :
« إن كل حدث يحدث في الأرض ، في سطحها أو فيما دون سطحها ، يكون من أثره انتقال مادة من مكان إلى مكان يؤثر في سرعة دورانها .

فليس المد والجزر هو العامل الوحيد في ذلك . ( أي في بطء سرعة الأرض كما قال قبل هذه الفقرة ) حتى ما تنقله الأنهار من مائها من ناحية في الأرض إلى ناحية يؤثر في سرعة الدوران . وما ينتقل من رياح يؤثر في سرعة الدوران . وسقوط في قاع البحار ، أو بروز في سطح الأرض هنا أو هنا يؤثر في سرعة الدوران . . ومما يؤثر في سرعة هذا الدوران أن تتمدد الأرض أو تنكمش بسبب ما . ولو انكماشاً أو تمدداً طفيفاً لا يزيد في قطرها منه إلا بضع أقدام « .
فهذه الأرض الحساسة إلى هذا الحد ، لا عجب أن تكون الجبال الرواسي حافظة لتوازنها ومانعة : { أن تميد بكم } كما جاء في القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً .
{ وبارك فيها وقدر فيها أقواتها } . . وقد كانت هذه الفقرة تنقل إلى أذهان أسلافنا صورة الزرع النامي في هذه الأرض وبعض ما خبأه الله في جوف الأرض من معادن نافعة كالذهب والفضة والحديد وما إليها . . فأما اليوم بعد ما كشف الله للإنسان أشياء كثيرة من بركته في الأرض ومن أقواتها التي خزنها فيها على أزمان طويلة ، فإن مدلول هذه الفقرة يتضاعف في أذهاننا . .
وقد رأينا كيف تعاونت عناصر الهواء فكونت الماء . وكيف تعاون الماء والهواء والشمس والرياح فكونت التربة الصالحة للزرع . وكيف تعاون الماء والشمس والرياح فكونت الأمطار أصل الماء العذب كله من أنهار ظاهرة وأنهار باطنة تظهر في شكل ينابيع وعيون وآبار . . وهذه كلها من أسس البركة ومن أسس الأقوات .
وهناك الهواء . ومن الهواء أنفاسنا وأجسامنا . .
» إن الأرض كرة تلفها قشرة من صخر . وتلف أكثر الصخر طبقة من ماء . وتلف الصخر والماء جميعاً طبقة من هواء . وهي طبقة من غاز سميكة . كالبحر ، لها أعماق . ونحن بني الإنسان ، والحيوان ، والنبات ، نعيش في هذه الأعماق ، هانئين بالذي فيها « .
» فمن الهواء نستمد أنفاسنا ، من أكسجينه . ومن الهواء يبني النبات جسمه ، من كربونه ، بل من أكسيد كربونه ، ذلك الذي يسميه الكيماويون ثاني أكسيد الكربون . يبني النبات جسمه من أكسيد الفحم هذا . ونحن نأكل النبات . ونأكل الحيوان الذي يأكل النبات . ومن كليهما نبني أجسامنا . بقي من غازات الهواء النتروجين ، أي الأزوت ، فهذا لتخفيف الأكسجين حتى لا نحترق بأنفاسنا . وبقي بخار الماء وهذا لترطيب الهواء . وبقيت طائفة من غازات أخرى ، توجد فيه بمقادير قليلة هي في غير ترتيب الأرجون ، والهليوم ، والنيون ، وغيرها . ثم الإدروجين ، وهذه تخلقت على الأكثر في الهواء من بقايا خلقة الأرض الأولى « .

والمواد التي نأكلها والتي ننتفع بها في حياتنا والأقوات أوسع مما يؤكل في البطون كلها مركبات من العناصر الأصلية التي تحتويها الأرض في جوفها أو في جوها سواء . وعلى سبيل المثال هذا السكر ما هو؟ إنه مركب من الكربون والايدروجين والاكسيجين . والماء علمنا تركيبه من الادروجين والاكسيجين . . وهكذا كل ما نستخدمه من طعام أو شراب أو لباس أو أداة . . إن هو إلا مركب من بين عناصر هذه الأرض المودعة فيها . .
فهذا كله يشير إلى شيء من البركة وشيء من تقدير الأقوات . . في أربعة أيام . . فقد تم هذا في مراحل زمنية متطاولة . . هي أيام الله ، التي لا يعلم مقدارها إلا الله .
{ ثم استوى إلى السماء وهي دخان . فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا أتينا طائعين . فقضاهن سبع سماوات في يومين ، وأوحى في كل سماء أمرها . وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً . ذلك تقدير العزيز العيم } .
والاستواء هنا القصد . والقصد من جانب الله تعالى هو توجه الإرادة . و { ثم } قد لا تكون للترتيب الزمني ، ولكن للارتقاء المعنوي . والسماء في الحس أرفع وأرقى .
{ ثم استوى إلى السماء وهي دخان } . . إن هناك اعتقاداً أنه قبل خلق النجوم كان هناك ما يسمى السديم . وهذا السديم غاز . . دخان
« والسدم من نيرة ومعتمة ليس الذي بها من غاز وغبار إلا ما تبقى من خلق النجوم إن نظرية الخلق تقول : إن المجرة كانت من غاز وغبار . ومن هذين تكونت بالتكثف النجوم . وبقيت لها بقية . ومن هذه البقية كانت السدم . ولا يزال من هذه البقية منتشراً في هذه المجرة الواسعة مقدار من غاز وغبار ، يساوي ما تكونت منه النجوم . ولا تزال النجوم تجر منه بالجاذبية إليها . فهي تكنس السماء منه كنساً . ولكن الكناسين برغم أعدادهم الهائلة قليلون بالنسبة لما يراد كنسه من ساحات أكبر وأشد هولاً » .
وهذا الكلام قد يكون صحيحاً لأنه أقرب ما يكون إلى مدلول الحقيقة القرآنية : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } . . وإلى أن خلق السماوات تم في زمن طويل . في يومين من أيام الله .
ثم نقف أمام الحقيقة الهائلة :
{ فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا : أتينا طائعين } . .
إنها إيماءة عجيبة إلى انقياد هذا الكون للناموس ، وإلى اتصال حقيقة هذا الكون بخالقه اتصال الطاعة والاستسلام لكلمته ومشيئته . فليس هناك إذن إلا هذا الإنسان الذي يخضع للناموس كرهاً في أغلب الأحيان . إنه خاضع حتماً لهذا الناموس ، لا يملك أن يخرج عنه ، وهو ترس صغير جداً في عجلة الكون الهائلة؛ والقوانين الكونية الكلية تسري عليه رضي أم كره . ولكنه هو وحده الذي لا ينقاد طائعاً طاعة الأرض والسماء . إنما يحاول أن يتفلت ، وينحرف عن المجرى الهين اللين؛ فيصطدم بالنواميس التي لا بد أن تغلبه وقد تحطمه وتسحقه فيستسلم خاضعاً غير طائع .

إلا عباد الله الذين تصطلح قلوبهم وكيانهم وحركاتهم وتصوراتهم وإراداتهم ورغباتهم واتجاهاتهم . . تصطلح كلها مع النواميس الكلية ، فتأتي طائعة ، وتسير هينة لينة ، مع عجلة الكون الهائلة ، متجهة إلى ربها مع الموكب ، متصلة بكل ما فيه من قوى ، وحينئذ تصنع الأعاجيب ، وتأتي بالخوارق ، لأنها مصطلحة مع الناموس ، مستمدة من قوته الهائلة ، وهي منه وهو مشتمل عليها في الطريق إلى الله { طائعين } . .
إننا نخضع كرهاً . فليتنا نخضع طوعاً . ليتنا نلبي تلبية الأرض والسماء . في رضى وفي فرح باللقاء مع روح الوجود الخاضعة المطيعة الملبية المستسلمة لله رب العالمين .
إننا نأتي أحياناً حركات مضحكة . . عجلة القدر تدور بطريقتها . وبسرعتها . ولوجهتها . وتدير الكون كله معها . وفق سنن ثابتة . . ونأتي نحن فنريد أن نسرع . أو أن نبطئ . نحن من بين هذا الموكب الضخم الهائل . نحن بما يطرؤ على نفوسنا حين تنفك عن العجلة وتنحرف عن خط السير من قلق واستعجال وأنانية وطمع ورغبة ورهبة . . ونظل نشرد هنا وهناك والموكب ماض . ونحتك بهذا الترس وذاك ونتألم . ونصطدم هنا وهناك ونتحطم . والعجلة ماضية في سرعتها وبطريقتها إلى وجهتها . وتذهب قوانا وجهودنا كلها سدى . فأما حين تؤمن قلوبنا حقاً ، وتستسلم لله حقاً ، وتتصل بروح الوجود حقاً . فإننا حينئذ نعرف دورنا على حقيقته؛ وننسق بين خطانا وخطوات القدر؛ ونتحرك في اللحظة المناسبة بالسرعة المناسبة ، في المدى المناسب . نتحرك بقوة الوجود كله مستمدة من خالق الوجود . ونصنع أعمالاً عظيمة فعلاً ، دون أن يدركنا الغرور . لأننا نعرف مصدر القوة التي صنعنا بها هذه الأعمال العظيمة . ونوقن أنها ليست قوتنا الذاتية ، إنما هي كانت هكذا لأنها متصلة بالقوة العظمى .
ويا للرضى . ويا للسعادة . ويا للراحة . ويا للطمأنينة التي تغمر قلوبنا يومئذ في رحلتنا القصيرة ، على هذا الكوكب الطائع الملبي ، السائر معنا في رحلته الكبرى إلى ربه في نهاية المطاف . .
ويا للسلام الذي يفيض في أرواحنا ونحن نعيش في كون صديق . كله مستسلم لربه ، ونحن معه مستلسمون . ولا تشذ خطانا عن خطاه ، ولا يعادينا ولا نعاديه . لأننا منه . ولأننا معه في الاتجاه :
{ قالتا : أتينا طائعين } . . { فقضاهن سبع سماوات في يومين } . . { وأوحى في كل سماء أمرها } . .
واليومان قد يكونان هما اللذان تكونت فيهما النجوم من السدم . أو تم فيهما التكوين كما يعلمه الله . والوحي بالأمر في كل سماء يشير إلى إطلاق النواميس العاملة فيها ، على هدى من الله وتوجيه؛ أما ما هي السماء المقصودة فلا نملك تحديداً . فقد تكون درجة البعد سماء . وقد تكون المجرة الواحدة سماء . وقد تكون المجرات التي على أبعاد متفاوتة سماوات . . وقد يكون غير ذلك . مما تحتمله لفظة سماء وهو كثير .

{ وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً } . .
والسماء الدنيا هي كذلك ليس لها مدلول واحد محدد . فقد تكون هي أقرب المجرات إلينا وهي المعروفة بسكة التبان والتي يبلغ قطرها مائة ألف مليون سنة ضوئية وقد يكون غيرها مما ينطبق عليه لفظ سماء . وفيه النجوم والكواكب المنيرة لنا كالمصابيح .
{ وحفظاً } . . من الشياطين . . كما يدل على هذا ما ورد في المواضع الأخرى من القرآن . . ولا نملك أن نقول عن الشياطين شيئاً مفصلاً . أكثر من الإشارات السريعة في القرآن . فحسبنا هذا . .
{ ذلك تقدير العزيز العليم } . .
وهل يقدر هذا كله؟ ويمسك الوجود كله ، ويدبر الوجود كله . . إلا العزيز القوي القادر؟ وإلا العليم الخبير بالموارد والمصادر؟
فكيف بعد هذه الجولة الكونية الهائلة يكون موقف الذين يكفرون بالله ويجعلون له أندادا؟ كيف . والسماء والأرض تقولان لربهما : { أتينا طائعين } وهذا النمل الصغير العاجز من البشر الذي يدب على الأرض يكفر بالله في تبجح واستهتار؟
وما يكون جزاء هذا التبجح وهذا الاستهتار؟
{ فإن أعرضوا فقل : أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود . إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله . قالوا : لو شاء ربنا لأنزل ملائكة ، فإنا بما أرسلتم به كافرون . فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق ، وقالوا : من أشد منا قوة؟ أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة؟ وكانوا بآياتنا يجحدون . فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون . وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ، فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون . ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون } . .
وهذا الإنذار المرهوب المخيف : { فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } يناسب شناعة الجرم وقبح الذنب ، وتبجح المشركين الذي حُكي في مطلع السورة ، وشذوذ كفار البشر من موكب الوجود الكبير الذي عُرض قبل هذا الإنذار .
وقد روى ابن إسحاق قصة عن هذا الإنذار قال : حدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة ، وكان سيداً ، قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون فقالوا : بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه . « فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا بن أخي . إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب وأنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم ، وسفهت أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم . فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها ، لعلك تقبل منها بعضها . قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » قل يا أبا الوليد أسمع « . قال : يا بن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً؛ وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك؛ وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء ، وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه . . أو كما قال . . حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال : » أفرغت يا أبا الوليد « قال : نعم . قال : » فاستمع مني « . قال : أفعل . قال : { بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون ، بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون } ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه . فلما سمع عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره ، معتمداً عليهما ، يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد . ثم قال : » قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك « فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به »

فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط . والله ما هو بالسحر . ولا بالشعر ، ولا بالكهانة . يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي . . خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به . قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال : هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم .
وقد روى البغوي في تفسيره حديثاً بسنده عن محمد بن فضيل عن الأجلح وهو ابن عبدالله الكندي الكوفي ( قال ابن كثير : وقد ضُعف بعض الشيء ) عن الزيال بن حرملة عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه إلى قوله : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } فأمسك عتبة على فيه . وناشده الرحم ، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش ، واحتبس عنهم . . الخ . .
ثم لما حدثوه في هذا قال : « فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف .

وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب . فخشيت أن ينزل بكم العذاب « . .
فهذه صورة من وقع هذا الإنذار من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قلب رجل لم يؤمن ولا نترك هذه الرواية قبل أن نقف وقفة قصيرة أمام صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدب النفس الكبيرة وطمأنينة القلب المؤمن . وهو يستمع من عتبة إلى هذه الخواطر الصغيرة التي يعرضها عليه ، وقلبه مشغول بما هو أعظم ، حتى لتبدو هذه الخواطر الصغيرة التي يعرضها عليه ، وقلبه مشغول بما هو أعظم ، حتى لتبدو هذه الخواطر مقززة تثير الاشمئزاز : ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقاها حليماً ، ويستمع كريماً ، وهو مطمئن هادئ ودود . لا يعجل عتبة عن استكمال هذه الخواطر الصغيرة . » حتى إذا انتهى قال في هدوء وثبات وسماحة : « أفرغت يا أبا الوليد؟ » . فيقول : نعم . فيقول : صلى الله عليه وسلم « فاستمع مني » ولا يفاجئه بالقول حتى يقول : أفعل . وعندئذ يتلو صلى الله عليه وسلم في ثقة وفي طمأنينة وفي امتلاء روح قول ربه لا قوله : { بسم الله الرحمن الرحيم . حم . . . } . . «
إنها صورة تلقي في القلب المهابة . والثقة . والمودة . والاطمئنان . . ومن ثم كان يملك قلوب سامعيه . . الذين قد يقصدون إليه أول الأمر ساخرين أو حانقين
صلى الله عليه وسلم . . وصدق الله العظيم : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } ونعود بعد هذه الوقفة القصيرة إلى النص القرآني الكريم :
{ فإن أعرضوا فقل : أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود . . } . .
إنها جولة في مصارع الغابرين ، بعد تلك الجولة في ملكوت السماوات والأرض . جولة تهز القلوب المستكبرة برؤية مصارع المستكبرين :
{ إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله } . .
الكلمة الواحدة التي جاء بها الرسل أجمعين . وقام عليها بنيان كل دين .
{ قالوا : لو شاء ربنا لأنزل ملائكة . فإنا بما أرسلتم به كافرون } . .
وهي كذلك الشبهة المتكررة التي ووجه بها كل رسول . وما كان لرسول يخاطب البشر أن يكون إلا من البشر . يعرفهم ويعرفونه . ويجدون فيه قدوة واقعية ، ويعاني هو ما يعانونه . ولكن عادا وثمودا أعلنوا كفرهم برسلهم ، لأنهم بشر لا ملائكة كما كانوا يقترحون
وإلى هنا أجمل مصير عاد وثمود . وهو واحد . إذ انتهى هؤلاء وهؤلاء إلى الأخذ بالصاعقة . ثم فصل قصة كل منهما بعض التفصيل :
{ فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق . وقالوا : من أشد منا قوة؟ } . .
إن الحق أن يخضع العباد لله ، وألا يستكبروا في الأرض ، وهم من هم بالقياس إلى عظمة خلق الله . فكل استكبار في الأرض فهو بغير حق .

استكبروا واغتروا { وقالوا : من أشد منا قوة؟ } . .
وهو الشعور الكاذب الذي يحسه الطغاة . الشعور بأنه لم تعد هناك قوة تقف إلى قوتهم . وينسون :
{ أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة؟ } . .
إنها بديهة أولية . . إن الذي خلقهم من الأصل أشد منهم قوة . لأنه هو الذي مكن لهم في هذا القدر المحدود من القوة . ولكن الطغاة لا يذكرون :
{ وكانوا بآياتنا يجحدون } . .
وبينما هم في هذا المشهد يعرضون عضلاتهم ويتباهون بقوتهم . إذا المشهد التالي في الآية التالية هو المصرع المناسب لهذا العجب المرذول :
{ فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات . لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا } . .
إنها العاصفة الهوجاء المجتاحة الباردة في أيام نحس عليهم . وإنه الخزي في الحياة الدنيا . الخزي اللائق بالمستكبرين المتباهين المختالين على العباد . .
ذلك في الدنيا . . وليسوا بمتروكين في الآخرة :
{ ولعذاب الآخرة أخزى . وهم لا ينصرون } . .
{ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } . .
ويظهر أن هذه إشارة إلى اهتدائهم بعد آية الناقة ، ثم ردتهم وكفرهم بعد ذلك . وإيثارهم العمى على الهدى . والضلال بعد الهدى عمى أشد العمى
{ فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون } . .
والهوان أنسب عاقبة . فليس هو العذاب فحسب ، وليس هو الهلاك فحسب . ولكنه كذلك الهوان جزاء على العمى بعد الإيمان .
{ ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون } . .
وتنتهي الجولة على مصرع عاد وثمود . والإنذار بهذا المصرع المخيف المرهوب . ويتكشف لهم سلطان الله الذي لا ترده قوة ولا يعصم منه حصن ، ولا يبقى على مستكبر مريد .
والآن وقد كشف لهم عن سلطان الله في فطرة الكون؛ وسلطان الله في تاريخ البشر ، يطلعهم على سلطان الله في ذوات أنفسهم ، التي لا يملكون منها شيئاً ، ولا يعصمون منها شيئاً من سلطان الله . حتى سمعهم وأبصارهم وجلودهم تطيع الله وتعصيهم في الموقف المشهود ، وتكون عليهم بعض الشهود :
{ ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون . حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون . وقالوا لجلودهم : لم شهدتم علينا؟ قالوا : أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة ، وإليه ترجعون . وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ، ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون . وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم ، فأصبحتم من الخاسرين . فإن يصبروا فالنار مثوى لهم . وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين } . .
إنها المفاجأة الهائلة في الموقف العصيب . وسلطان الله الذي تطيعه جوارحهم وتستجيب . وهم يوصمون بأنهم أعداء الله . فما مصير أعداء الله؟ إنهم يحشرون ويجمع أولهم على آخرهم وآخرهم على أولهم كالقطيع إلى أين؟ إلى النار حتى إذا كانوا حيالها وقام الحساب ، إذا شهود عليهم لم يكونوا لهم في حساب . إن ألسنتهم معقودة لا تنطق ، وقد كانت تكذب وتفتري وتستهزئ .

وإن أسماعهم وأبصارهم وجلودهم تخرج عليهم ، لتستجيب لربها طائعة مستسلمة ، تروي عنهم ما حسبوه سراً . فقد يستترون من الله . ويظنون أنه لا يراهم وهم يتخفون بنواياهم ، ويتخفون بجرائمهم . ولم يكونوا ليستخفوا من أبصارهم وأسماعهم وجلودهم . وكيف وهي معهم؟ بل كيف وهي أبعاضهم؟ وها هي ذي تفضح ما حسبوه مستوراً عن الخلق أجمعين . وعن الله رب العالمين
يا للمفاجأة بسلطان الله الخفي ، يغلبهم على أبعاضهم فتلبي وتستجيب
{ وقالوا لجلودهم : لم شهدتم علينا؟ } . .
فإذا هي تجبههم بالحقيقة التي خفيت عليهم في غير مواربة ولا مجاملة :
{ قالوا : أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } ؟
أليس هو الذي جعل الألسنة هي الناطقة؟ وإنه لقادر على أن يجعل سواها . وقد أنطق كل شيء فهو اليوم يتحدث وينطق ويبين .
{ وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون } . .
فإليه المنشأ وإليه المصير ، ولا مفر من قبضته في الأول وفي الأخير .
وهذا ما أنكروه بالعقول . وهذا ما تقرره لهم الجلود
وقد تكون بقية التعليق من حكاية أقوال أبعاضهم لهم . وقد تكون تعقيباً على الموقف العجيب :
{ وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم } . .
فما كان يخطر ببالكم أنها ستخرج عليكم ، وما كنتم بمستطيعين أن تستتروا منها لو أردتم
{ ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } . .
وخدعكم هذا الظن الجاهل الأثيم وقادكم إلى الجحيم :
{ وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين } . .
ثم يجيء التعقيب الأخير :
{ فإن يصبروا فالنار مثوى لهم } . .
يا للسخرية فالصبر الآن صبر على النار؛ وليس الصبر الذي يعقبه الفرج وحسن الجزاء . إنه الصبر الذي جزاؤه النار قراراً ومثوى يسوء فيه الثواء
{ وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين } . .
فما عاد هناك عتاب ، وما عاد هناك متاب . وقد جرت العادة أن الذي يطلب العتاب يطلب من ورائه الصفح والرضى بعد إزالة أسباب الجفاء . فاليوم يغلق الباب في وجه العتاب . لا الصفح والرضى الذي يعقب العتاب
ثم يكشف لهم كذلك عن سلطان الله في قلوبهم ، وهم بعد في الأرض ، يستكبرون عن الإيمان بالله . فالله قد قيض لهم بما اطلع على فساد قلوبهم قرناء سوء من الجن ومن الأنس ، يزينون لهم السوء ، وينتهون بهم إلى مواكب الذين كتب عليهم الخسران ، وحقت عليهم كلمة العذاب :
{ وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم ، وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس ، إنهم كانوا خاسرين } . .
فلينظروا كيف هم في قبضة الله الذي يستكبرون عن عبادته . وكيف أن قلوبهم التي بين جنوبهم تقودهم إلى العذاب والخسارة وقد قيض الله وأحضر قرناء يوسوسون لهم ، ويزينون لهم كل ما حولهم من السوء ، ويحسنون لهم أعمالهم فلا يشعرون بما فيها من قبح .

وأشد ما يصيب الإنسان أن يفقد إحساسه بقبح فعله وانحرافه ، وأن يرى كل شيء من شخصه حسناً ومن فعله فهذه هي المهلكة وهذا هو المنحدر الذي ينتهي دائماً بالبوار .
وإذا هم في قطيع السوء . في الأمم التي حق عليها وعد الله من قبلهم من الجن والإنس . قطيع الخاسرين { إنهم كانوا خاسرين } .
وكان من تزيين القرناء لهم دفعهم إلى محاربة هذا القرآن ، حين أحسوا بما فيه من سلطان :
{ وقال الذين كفروا : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } . .
كلمة كان يوصي بها الكبراء من قريش أنفسهم ويغرون بها الجماهير؛ وقد عجزوا عن مغالبة أثر القرآن في أنفسهم وفي نفوس الجماهير .
{ لا تسمعوا لهذا القرآن } . فهو كما كانوا يدعون يسحرهم ، ويغلب عقولهم ، ويفسد حياتهم . ويفرق بين الوالد وولده ، والزوج وزوجه . ولقد كان القرآن يفرق نعم ولكن بفرقان الله بين الإيمان والكفر ، والهدى والضلال . كان يستخلص القلوب له ، فلا تحفل بوشيجة غير وشيجته . فكان هو الفرقان .
{ والغوا فيه لعلكم تغلبون } .
وهي مهاترة لا تليق . ولكنه العجز عن المواجهة بالحجة والمقارعة بالبرهان ، ينتهي إلى المهاترة ، عند من يستكبر على الإيمان .
ولقد كانوا يلغون بقصص اسفنديار ورستم كما فعل مالك بن النضر ليصرف الناس عن القرآن . ويلغون بالصياح والهرج . ويلغون بالسجع والرجز . ولكن هذا كله ذهب أدراج الرياح وغلب القرآن ، لأنه يحمل سر الغلب ، إنه الحق . والحق غالب مهما جهد المبطلون
ورداً على قولتهم المنكرة يجيء التهديد المناسب :
{ فلنذيقن الذين كفروا عذاباً شديداً ، ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون . ذلك جزاء أعداء الله النار ، لهم فيها دار الخلد ، جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون } .
وسرعان ما نجدهم في النار . وسرعان ما نشهد حنق المخدوعين ، الذين زين لهم قرناؤهم ما بين أيديهم وما خلفهم ، وأغروهم بهذه المهلكة التي انتهى إليها مطافهم :
{ وقال الذين كفروا : ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس ، نجعلهما تحت أقدامنا ، ليكونا من الأسفلين } .
إنه الحنق العنيف ، والتحرق على الانتقام : { نجعلهما تحت أقدامنا } . { ليكونا من الأسفلين } . وذلك بعد الموادة والمخادنة والوسوسة والتزيين
هذه صلة . صلة الوسوسة والإغراء . وهناك صلة . صلة النصح والولاء . إنهم المؤمنون . الذين قالوا : ربنا الله ، ثم استقاموا على الطريق إليه بالإيمان والعمل الصالح . إن الله لا يقيض لهؤلاء قرناء سوء من الجن والإنس؛ إنما يكلف بهم ملائكة يفيضون على قلوبهم الأمن والطمأنينة ، ويبشرونهم بالجنة ، ويتولونهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة :
{ إن الذين قالوا : ربنا الله . ثم استقاموا . تتنزل عليهم الملائكة : ألا تخافوا ولا تحزنوا ، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون . نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة . ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون . نزلا من غفور رحيم } .
والاستقامة على قولة : { ربنا الله } .

الاستقامة عليها بحقها وحقيقتها . الاستقامة عليها شعوراً في الضمير ، وسلوكاً في الحياة . الاستقامة عليها والصبر على تكاليفها . أمر ولا شك كبير . وعسير . ومن ثم يستحق عند الله هذا الإنعام الكبير . صحبة الملائكة ، وولاءهم ، ومودتهم . هذه التي تبدو فيما حكاه الله عنهم . وهم يقولون لأوليائهم المؤمنين : لا تخافوا . لا تحزنوا . أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون . نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة . ثم يصورون لهم الجنة التي يوعدون تصوير الصديق لصديقه ما يعلم أنه يسره علمه ورؤيته من حظه المرتقب : لكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون . ويزيدونها لهم جمالاً وكرامة : نزلاً من غفور رحيم . فهي من عند الله أنزلكم إياها بمغفرته ورحمته . فأي نعيم بعد هذا النعيم؟
ويختم هذا الشوط برسم صورة الداعية إلى الله ، ووصف روحه ولفظه ، وحديثه وأدبه . ويوجه إليها رسوله صلى الله عليه وسلم وكل داعية من أمته . وكان قد بدأ السورة بوصف جفوة المدعوين وسوء أدبهم ، وتبجحهم النكير . ليقول للداعية : هذا هو منهجك مهما كانت الأمور :
{ ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال : إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ، إنه هو السميع العليم } . .
إن النهوض بواجب الدعوة إلى الله ، في مواجهة التواءات النفس البشرية ، وجهلها ، واعتزازها بما ألفت ، واستكبارها أن يقال : إنها كانت على ضلالة ، وحرصها على شهواتها وعلى مصالحها ، وعلى مركزها الذي قد تهدده الدعوة إلى إله واحد ، كل البشر أمامه سواء .
إن النهوض بواجب الدعوة في مواجهة هذه الظروف أمر شاق . ولكنه شأن عظيم :
{ ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله ، وعمل صالحاً ، وقال : إنني من المسلمين } .
إن كلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تقال في الأرض ، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء . ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الكلمة؛ ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات . فتصبح الدعوة خالصة لله ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ .
ولا على الداعية بعد ذلك أن تتلقى كلمته بالإعراض ، أو بسوء الأدب ، أو بالتبجح في الإنكار . فهو إنما يتقدم بالحسنة . فهو في المقام الرفيع؛ وغيره يتقدم بالسيئة . فهو في المكان الدون :
{ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } .
وليس له أن يرد بالسيئة ، فإن الحسنة لا يستوي أثرها كما لا تستوي قيمتها مع السيئة والصبر والتسامح ، والاستعلاء على رغبة النفس في مقابلة الشر بالشر ، يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة ، فتنقلب من الخصومة إلى الولاء ، ومن الجماح إلى اللين :
{ ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } .

وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)

هذا شوط جديد مع القلب البشري في مجال الدعوة . يبدأ بجولة مع آيات الله الكونية : الليل والنهار والشمس والقمر ، وفي المشركين من كان يسجد للشمس وللقمر مع الله . وهما من خلق الله . ويعقب على عرض هذه الآيات بأنهم إن استكبروا عن عبادة الله فهناك من هم أقرب منهم إلى الله يعبدونه . ثم هناك الأرض كلها في مقام العبادة وهي تتلقى من ربها الحياة ، كما تلقوها فلم يتحركوا بها إلى الله . إنما هم يلحدون في آيات الله الكونية ، ويجادلون في آياته القرآنية؛ وهو قرآن عربي غير مشوب بأعجمية . وينتقل بهم إلى مشهد من مشاهد القيامة . ثم يعرض عليهم أنفسهم عارية بكل ما فيها من ضعف وتقلب ونسيان ، وبكل ما فيها من حرص على الخير وجزع من الضر . ثم هم لا يقون أنفسهم من شر ما يصيبها عند الله . وتنتهي السورة بوعد الله سبحانه أن يكشف للناس عن آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، ويذهب ما في قلوبهم من ريب وشك . .
{ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر . لا تسجدوا للشمس ولا للقمر . واسجدوا لله الذي خلقهن . إن كنتم إياه تعبدون } . .
وهذه الآيات معروضة للأنظار ، يراها العالم والجاهل . ولها في القلب البشري روعة مباشرة . ولو لم يعلم الإنسان شيئاً عن حقيقتها العلمية . فبينها وبين الكائن البشري صلة أعمق من المعرفة العلمية . بينها وبينه هذا الاتصال في النشأة ، وفي الفطرة ، وفي التكوين . فهو منها وهي منه . تكوينه تكوينها ، ومادته مادتها ، وفطرته فطرتها ، وناموسه ناموسها ، وإلهه إلهها . . فهو من ثم يستقبلها بحسه العميق في هزة وإدراك مباشر لمنطقها العريق
لهذا يكتفي القرآن غالباً بتوجيه القلب إليها ، وإيقاظه من غفلته عنها ، هذه الغفلة التي ترد عليه من طول الألفة تارة ، ومن تراكم الحواجز والموانع عليه تارة ، فيجلوها القرآن عنه ، لينتفض جديداً حياً يقظاً يعاطف هذا الكون الصديق ، ويتجاوب معه بالمعرفة القديمة العميقة الجذور .
وصورة من صور الانحراف تلك التي تشير إليها الآية هنا . فقد كان قوم يبالغون في الشعور بالشمس والقمر شعوراً منحرفاً ضالاً فيعبدونهما باسم التقرب إلى الله بعبادة أبهى خلائقه فجاء القرآن ليردهم عن هذا الانحراف؛ ويزيل الغبش عن عقيدتهم المدخولة . ويقول لهم : إن كنتم تعبدون الله حقاً فلا تسجدوا للشمس والقمر . . { واسجدوا لله الذي خلقهن } فالخالق هو وحده الذي يتوجه إليه المخلوقون أجمعين . والشمس والقمر مثلكم يتوجهون إلى خالقهما فتوجهوا معهم إلى الخالق الواحد الذي يستحق أن تعبدوه . ويعيد الضمير عليهما مؤنثاً مجموعاً : { خلقهن } باعتبار جنسهما وأخواتهما من الكواكب والنجوم؛ ويتحدث عنهن بضمير المؤنث العاقل ليخلع عليهن الحياة والعقل ، ويصورهن شخوصاً ذات أعيان
فإن استكبروا بعد عرض هذه الآيات ، وبعد هذا البيان ، فلن يقدم هذا أو يؤخر؛ ولن يزيد هذا أو ينقص .

فغيرهم يعبد غير مستكبر :
{ فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار ، وهم لا يسأمون } . .
وأقرب ما يرد على القلب عند ذكر { الذين عند ربك } الملائكة . ولكن قد يكون هناك غير الملائكة من عباد الله المقربين؛ وهل نعلم نحن شيئاً إلا اليسير الضئيل؟
هؤلاء . الذين عند ربك . وهم أرفع وأعلى . وهم أكرم وأمثل . لا يستكبرون كما يستكبر أولئك المنحرفون الضالون في الأرض . ولا يغترون بقرب مكانهم من الله . ولا يفترون عن تسبيحه ليلاً ونهاراً { وهم لا يسأمون } . . فماذا يساوي أن يتخلف من أهل الأرض من يتخلف في حقيقة العبودية لله من الجميع؟
وهنالك الأرض أمهم التي تقوتهم الأرض التي منها خرجوا وإليها يعودون . الأرض التي هم على سطحها نمال تدب ولا طعام لها ولا شراب إلا ما تستمده منها . . هذه الأرض تقف خاشعة لله ، وهي تتلقى من يديه الحياة :
{ ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت . إن الذي أحياها لمحيي الموتى ، إنه على كل شيء قدير } . .
ونقف لحظة أمام دقة التعبير القرآني في كل موضع . فخشوع الأرض هنا هو سكونها قبل نزول الماء عليها . فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت . وكأنما هي حركة شكر وصلاة على أسباب الحياة . ذلك أن السياق الذي وردت فيه هذه الآية سياق خشوع وعبادة وتسبيح ، فجيء بالأرض في هذا المشهد ، شخصاً من شخوص المشهد ، تشارك فيه بالشعور المناسب وبالحركة المناسبة . .
ونستعير هنا صفحة من كتاب « التصوير الفني في القرآن » عن التناسق الفني في مثل هذا التعبير :
« عبر القرآن عن الأرض قبل نزول المطر . وقبل تفتحها بالنبات ، مرة بأنها { هامدة } ، ومرة بأنها { خاشعة } . وقد يفهم البعض أن هذا مجرد تنويع في التعبير . فلننظر كيف وردت هاتان الصورتان :
لقد وردتا في سياقين مختلفين على هذا النحو :
وردت { هامدة } في هذا السياق : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث ، فإنا خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة . لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى؛ ثم نخرجكم طفلاً ، ثم لتبلغوا أشدكم؛ ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ، لكي لا يعلم من بعد علم شياً . وترى الأرض هامدة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج } ووردت { خاشعة } في هذا السياق : { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر . لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ، واسجدوا لله الذي خلقهن ، إن كنتم إياه تعبدون . فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار ، وهم لا يسأمون .

ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } .
« وعند التأمل السريع في هذين السياقين ، يتبين وجه التناسق في { هامدة } و { خاشعة } . إن الجو في السياق الأول جو بعث وإحياء وإخراج؛ فمما يتسق معه تصوير الأرض { هامدة } ثم تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج . وإن الجو في السياق الثاني هو جو عبادة وخشوع وسجود ، يتسق معه تصوير الأرض { خاشعة } فإذا نزل عليها الماء اهتزت وربت .
ثم لا يزيد على الاهتزاز والإرباء هنا ، الإنبات والإخراج ، كما زاد هناك ، لأنه لا محل لها في جو العبادة والسجود . ولم تجئ { اهتزت وربت } هنا للغرض الذي جاءتا من أجله هناك . إنهما تخيلان حركة للأرض بعد خشوعها . وهذه الحركة هي المقصودة هنا ، لأن كل ما في المشهد يتحرك حركة العبادة ، فلم يكن من المناسب أن تبقى الأرض وحدها خاشعة ساكنة ، فاهتزت لتشارك العابدين المتحركين في المشهد حركتهم ، ولكي لا يبقى جزء من أجزاء المشهد ساكناً ، وكل الأجزاء تتحرك من حوله . وهذا لون من الدقة في تناسق الحركة المتخيلة يسمو على كل تقدير » الخ . الخ .
ونعود إلى النص القرآني فنجد أن التعقيب في نهاية الآية يشير إلى إحياء الموتى ، ويتخذ من إحياء الأرض نموذجاً ودليلاً :
{ إن الذي أحياها لمحيي الموتى ، إنه على كل شيء قدير } . .
ويتكرر في القرآن عرض مثل هذا المشهد واتخاذه نموذجاً للإحياء في الآخرة ، ودليلاً كذلك على القدرة . ومشهد الحياة في الأرض قريب من كل قلب ، لأنه يلمس القلوب قبل أن يلمس العقول ، والحياة حين تنبض من بين الموات ، توحي بالقدرة المنشئة إيحاء خفياً ينبض في أعماق الشعور . والقرآن يخاطب الفطرة بلغتها من أقرب طريق .
وأمام مشهد هذه الآيات الكونية ذات الأثر الشعوري العميق يجيء التنديد والتهديد لمن يلحدون في هذه الآيات الظاهرة الباهرة؛ فيكفرون بها ، أو يغالطون فيها :
{ إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا . أفمن يلقى في النار خير؟ أم من يأتي آمناً يوم القيامة . اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير } .
ويبدأ التهديد ملفوفاً ولكنه مخيف : { لا يخفون علينا } . . فهم مكشوفون لعلم الله . وهم مأخذون بما يلحدون ، مهما غالطوا والتووا ، وحسبوا أنهم مفلتون من يد الله كما قد يفلتون بالمغالطة من حساب الناس .
ثم يصرح بالتهديد : { أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة؟ } . . وهو تعريض بهم ، وبما ينتظرهم من الإلقاء في النار والخوف والفزع ، بالمقابلة إلى مجيء المؤمنين آمنين .
وتنتهي الآية بتهديد آخر ملفوف : { اعملوا ما شئتم . إنه بما تعملون بصير } . . ويا خوف من يترك ليعمل فليحد في آيات الله . والله بما يعمل بصير .
ويستطرد إلى الذين يكفرون بآيات الله القرآنية ، والقرآن كتاب عزيز قوي منيع الجانب ، لا يدخل عليه الباطل من قريب ولا من بعيد :
{ إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم ، وإنه لكتاب عزيز ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .

تنزيل من حكيم حميد . ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ، إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم . ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا : لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي؟ قل : هو للذين آمنوا هدى وشفاء . والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ، وهو عليهم عمىً ، أولئك ينادون من مكان بعيد } .
والنص يتحدث عن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم؛ ولا يذكر ماذا هم ولا ماذا سيقع لهم . فلا يذكر الخبر : { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم . . } كأنما ليقال : إن فعلتهم لا يوجد وصف ينطبق عليها ويكافئها لشدة بشاعتها
لذلك يترك النص خبر { إن } لا يأتي به ويمضي في وصف الذكر الذي كفروا به لتفظيع الفعلة وتبشيعها :
{ وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . تنزيل من حيكم حميد } . .
وأنى للباطل أن يدخل على هذا الكتاب . وهو صادر من الله الحق . يصدع بالحق . ويتصل بالحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض؟
وأنى يأتيه الباطل وهو عزيز . محفوظ بأمر الله الذي تكفل بحفظه فقال : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } والمتدبر لهذا القرآن يجد فيه ذلك الحق الذي نزل به ، والذي نزل ليقره . يجده في روحه ويجده في نصه . يجده في بساطة ويسر . حقاً مطمئناً فطرياً ، يخاطب أعماق الفطرة ، ويطبعها ويؤثر فيها التأثير العجيب .
وهو { تنزيل من حكيم حميد } . . والحكمة ظاهرة في بنائه ، وفي توجيهه ، وفي طريقة نزوله ، وفي علاجه للقلب البشري من أقصر طريق . والله الذي نزله خليق بالحمد . وفي القرآن ما يستجيش القلب لحمده الكثير .
ثم يربط السياق بين القرآن وسائر الوحي قبله؛ وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الرسل قبله . ويجمع أسرة النبوة كلها في ندوة واحدة تتلقى من ربها حديثاً واحداً ، ترتبط به أرواحها وقلوبها ، وتتصل به طريقها ودعوتها؛ ويحس المسلم الأخير أنه فرع من شجر وارفة عميقة الجذور ، وعضو من أسرة عريقة قديمة التاريخ :
{ ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك . إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم } . .
إنه وحي واحد ، ورسالة واحدة ، وعقيدة واحدة . وإنه كذلك استقبال واحد من البشرية ، وتكذيب واحد ، واعتراضات واحدة . . ثم هي بعد ذلك وشيجة واحدة ، وشجرة واحدة ، وأسرة واحدة ، وآلام واحدة ، وتجارب واحدة ، وهدف في نهاية الأمر واحد ، وطريق واصل ممدود .
أي شعور بالأنس ، والقوة ، والصبر ، والتصميم . توحيه هذه الحقيقة لأصحاب الدعوة ، السالكين في طريق سار فيها من قبل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم جميعاً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟
وأي شعور بالكرامه والاعتزاز والاستعلاء على مصاعب الطريق وعثرتها وأشواكها وعقباتها ، وصاحب الدعوة يمضي وهو يشعر أن أسلافه في هذا الطريق هم تلك العصبة المختارة من بني البشر أجمعين؟
إنها حقيقة : { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } .

. ولكن أي آثار هائلة عميقة ينشئها استقرار هذه الحقيقة في نفوس المؤمنين؟
وهذا ما يصنعه هذا القرآن ، وهو يقرر مثل هذه الحقيقة الضخمة ويزرعها في القلوب .
ومما قيل للرسل وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل :
{ إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم } . .
ذلك كي تستقيم نفس المؤمن وتتوازن . فيطمع في رحمة الله ومغفرته فلا ييأس منها أبداً . ويحذر عقاب الله ويخشاه فلا يغفل عنه أبداً .
إنه التوازن طابع الإسلام الأصيل .
ثم يذكرهم بنعمة الله عليهم أن جعل هذا القرآن عربياً بلسانهم؛ كما يشير إلى طريقتهم في العنت والإلحاد والجدل والتحريف :
{ ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا : لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي؟ } . .
فهم لا يصغون إليه عربياً ، وهم يخافون منه لأنه عربي يخاطب فطرة العرب بلسانهم . فيقولون : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . ولو جعله الله قرآناً أعجمياً لاعترضوا عليه أيضاً ، وقالوا لولا جاء عربياً فصيحاً مفصلاً دقيقاً ولو جعل بعضه أعجمياً وبعضه عربياً لاعترضوا كذلك وقالوا أأعجمي وعربي؟ فهو المراء والجدل والإلحاد .
والحقيقة التي تخلص من وراء هذا الجدل حول الشكل ، هي أن هذا الكتاب هدى للمؤمنين وشفاء ، فقلوب المؤمنين هي التي تدرك طبيعته وحقيقته ، فتهتدي به وتشتفي . فأما الذين لا يؤمنون فقلوبهم مطموسة لا تخالطها بشاشة هذا الكتاب ، فهو وقر في آذانهم ، وعمىً في قلوبهم . وهم لا يتبينون شيئاً . لأنهم بعيدون جداً عن طبيعة هذا الكتاب وهواتفه :
{ قل : هو للذين آمنوا هدى وشفاء ، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ، وهو عليهم عمىً ، أولئك ينادون من مكان بعيد } . .
ويجد الإنسان مصداق هذا القول في كل زمان وفي كل بيئة . فناس يفعل هذا القرآن في نفوسهم فينشئها إنشاء ، ويحييها إحياء؛ ويصنع بها ومنها العظائم في ذاتها وفيما حولها . وناس يثقل هذا القرآن على آذانهم وعلى قلوبهم ، ولا يزيدهم إلا صمماً وعمى . وما تغير القرآن . ولكن تغيرت القلوب . وصدق الله العظيم .
ويشير إلى موسى وكتابه واختلاف قومه في هذا الكتاب . يشير إليه نموذجاً للرسل الذين ورد ذكرهم من قبل إجمالاً . وقد أجل الله حكمه في اختلافهم ، وسبقت كلمته أن يكون الفصل في هذا كله في يوم الفصل العظيم :
{ ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ، وإنهم لفي شك منه مريب } . .
وكذلك سبقت كلمة ربك أن يدع الفصل في قضية الرسالة الأخيرة إلى ذلك اليوم الموعود . وأن يدع الناس يعملون ، ثم يجازون على ما يعملون :
{ من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ، وما ربك بظلام للعبيد } .

.
لقد جاءت هذه الرسالة تعلن رشد البشرية ، وتضع على كاهلها عبء الاختيار؛ وتعلن مبدأ التبعة الفردية . ولمن شاء أن يختار { وما ربك بظلام للعبيد } . .
وبمناسبة الإشارة إلى الأجل المسمى ، وتقرير عدل الله فيه ، يقرر أن أمر الساعة وعلمها إلى الله وحده ، ويصور علم الله في بعض مجالاته صورة موحية تمس أعماق القلوب . وذلك في الطريق إلى عرض مشهد من مشاهد القيامة يسأل فيه المشركون ويجيبون :
{ إليه يرد علم الساعة ، وما تخرج من ثمرات من أكمامها ، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه . ويوم يناديهم : أين شركائي؟ قالوا : آذناك ما منا من شهيد . وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل ، وظنوا ما لهم من محيص } . .
والساعة غيب غائر في ضمير المجهول . والثمرات في أكمامها سر غير منظور ، والحمل في الأرحام غيب كذلك مستور . وكلها في علم الله ، وعلم الله بها محيط . ويذهب القلب يتتبع الثمرات في أكمامها ، والأجنة في أرحامها . يذهب في جنبات الأرض كلها يرقب الأكمام التي لا تحصى؛ ويتصور الأجنة التي لا يحصرها خيال وترتسم في الضمير صورة لعلم الله بقدر ما يطيق الضمير البشري أن يتصور من الحقيقة التي ليس لها حدود .
ويتصور القطيع الضال من البشر ، واقفاً أمام هذا العلم الذي لا يند عنه خاف ولا مستور :
{ ويوم يناديهم : أين شركائي؟ } . .
هنا في هذا اليوم الذي لا يجدي فيه جدال ، ولا تحريف للكلم ولا محال . فماذا هم قائلون؟
{ قالوا : أذناك ما منا من شهيد؟ } . .
أعلمناك ، أن ليس منا اليوم من يشهد أنك لك شريك
{ وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل ، وظنوا ما لهم من محيص } . .
فما عادوا يعرفون شيئاً عن دعواهم السابقة . ووقع في نفوسهم أن ليس لهم مخرج مما هم فيه وتلك أمارة الكرب المذهل ، الذي ينسي الإنسان ماضيه كله؛ فلا يذكر إلا ما هو فيه .
ذلك هو اليوم الذي لا يحتاطون له ، ولا يحترسون منه ، مع شدة حرص الإنسان على الخير ، وجزعه من الضر . . وهنا يصور لهم نفوسهم عارية من كل رداء ، مكشوفة من كل ستار ، عاطلة من كل تمويه :
{ لا يسأم الإنسان من دعاء الخير ، وإن مسه الشر فيؤوس قنوط . ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ، ليقولن : هذا لي ، وما أظن الساعة قائمة ، ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى . فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ، ولنذيقنهم من عذاب غليظ . وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه ، وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } . .
إنه رسم دقيق صادق للنفس البشرية ، التي لا تهتدي بهدى الله ، فتستقيم على طريق . . رسم يصور تقلبها ، وضعفها ، ومراءها ، وحبها للخير ، وجحودها للنعمة ، واغترارها بالسراء ، وجزعها من الضراء .

. رسم دقيق عجيب . .
هذا الإنسان لا يسأم من دعاء الخير . فهو ملح فيه ، مكرر له ، يطلب الخير لنفسه ولا يمل طلبه . وإن مسه الشر . مجرد مس . فقد الأمل والرجاء؛ وظن أن لا مخرج له ولا فرج ، وتقطعت به الأسباب؛ وضاق صدره وكبر همه؛ ويئس من رحمة الله وقنط من رعايته . ذلك أن ثقته بربه قليلة ، ورباطه به ضعيف
وهذا الإنسان إذا أذاقه الله منه رحمة بعد ذلك الضر ، استخفته النعمة فنسي الشكر ، واستطاره الرخاء فغفل عن مصدره . وقال : هذا لي . نلته باستحقاقي وهو دائم علي ونسي الآخرة واستبعد أن تكون؛ { وما أظن الساعة قائمة } . . وانتفخ في عين نفسه فراح يتألى على الله ، ويحسب لنفسه مقاماً عنده ليس له ، وهو ينكر الآخرة فيكفر بالله . ومع هذا يظن أنه لو رجع إليه كانت له وجاهته عنده { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } وهو غرور . . عندئذ يجيء التهديد في موضعه لهذا الغرور :
{ فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ، ولنذيقنهم من عذاب غليظ } . .
وهذا الإنسان إذا أنعم الله عليه : استعظم وطغى . وأعرض ونأى بجانبه . فأما إذا مسه الشر فيتخاذل ويتهاوى ، ويصغر ويتضاءل ، ويتضرع ولا يمل الضراعة . فهو ذو دعاء عريض
أية دقة ، وأي تسجيل للصغيرة في نفس الإنسان والكبيرة إنه خالقه الذي يصفه . خالقه الذي يعرف دروب نفسه . ويعرف أنها تظل تدور في هذه الدروب المنحنية ، إلا أن تهتدي إلى الطريق المستقيم . . فتستقيم . .
وأمام هذه النفس العارية من كل رداء ، المكشوفة من كل ستار ، يسألهم : فماذا أنتم إذن صانعون إن كان هذا الذي تكذبون به ، من عند الله ، وكان هذا الوعيد حقاً؛ وكنتم تعرضون أنفسكم لعاقبة التكذيب والشقاق :
{ قل : أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به؟ من أضل ممن هو في شقاق بعيد؟ } . .
إنه احتمال يستحق الاحتياط . فماذا أخذوا لأنفسهم من وسائل الاحتياط؟
ويدعهم بعدئذ يفكرون ويحسبون . ويتجه إلى الكون العريض . يكشف عن بعض ما قدر فيه وفي ذوات أنفسهم من مقادير :
{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق . أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟ ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم . ألا إنه بكل شيء محيط } . .
إنه الإيقاع الأخير . وإنه لإيقاع كبير . .
إنه وعد الله لعباده بني الإنسان أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون ، ومن خفايا أنفسهم على السواء . وعدهم أن يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق . هذا الدين . وهذا الكتاب . وهذا المنهج . وهذا القول الذي يقوله لهم . ومن أصدق من الله حديثاًَ؟
ولقد صدقهم الله وعده؛ فكشف لهم عن آياته في الآفاق في خلال القرون الأربعة عشر التي تلت هذا الوعد؛ وكشف لهم عن آياته في أنفسهم .

حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)

هذه السورة تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية؛ ولكنها تركز بصفة خاصة على حقيقة الوحي والرسالة ، حتى ليصح أن يقال : إنها هي المحور الرئيسي الذي ترتبط به السورة كلها؛ وتأتي سائر الموضوعات فيها تبعاً لتلك الحقيقة الرئيسية فيها .
هذا مع أن السورة تتوسع في الحديث عن حقيقة الوحدانية ، وتعرضها من جوانب متعددة؛ كما أنها تتحدث عن حقيقة القيامة والإيمان بها؛ ويأتي ذكر الآخرة ومشاهدها في مواضع متعددة منها . وكذلك تتناول عرض صفات المؤمنين وأخلاقهم التي يمتازون بها . كما تلم بقضية الرزق : بسطه وقبضه؛ وصفة الإنسان في السراء والضراء .
ولكن حقيقة الوحي والرسالة ، وما يتصل بها ، تظل مع ذلك هي الحقيقة البارزة في محيط السورة ، والتي تطبعها وتظللها . وكأن سائر الموضوعات الأخرى مسوقة لتقوية تلك الحقيقة الأولى وتوكيدها .
ويسير سياق السورة في عرض تلك الحقيقة ، وما يصاحبها من موضوعات أخرى بطريقة تدعو إلى مزيد من التدبر والملاحظة . فهي تعرض من جوانب متعددة . يفترق بعضها عن بعض ببضع آيات تتحدث عن وحدانية الخالق . أو وحدانية الرازق . أو وحدانية المتصرف في القلوب . أو وحدانية المتصرف في المصير . . ذلك بينما يتجه الحديث عن حقيقة الوحي والرسالة إلى تقرير وحدانية الموحي سبحانه ووحدة الوحي . ووحدة العقيدة . ووحدة المنهج والطريق . وأخيراً وحدة القيادة البشرية في ظل العقيدة .
ومن ثم يرتسم في النفس خط الوحدانية بارزاً واضحاً ، بشتى معانيه وشتى ظلاله وشتى إيحاءاته ، من وراء موضوعات السورة جميعاً . . ونضرب بعض الأمثلة من السورة إجمالاً ، قبل أن نأخذ في التفصيل :
تبدأ بالأحرف المقطعة : « حام . ميم . سين . قاف » . . يليها : { كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } . . مقرراً وحدة مصدر الوحي في الأولين والآخرين : { إليك وإلى الذين من قبلك } . .
ثم يستطرد السياق في صفة الله العزيز الحكيم : { له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم } . . مقرراً وحدانية المالك لما في السماوات والأرض واستعلاءه وعظمته على وجه الانفراد .
ثم يستطرد استطراداً آخر في وصف حال الكون تجاه قضية الإيمان بالمالك الواحد ، وتجاه الشرك الذي يشذ به بعض الناس : { تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن ، والملائكة يسبحون بحمد ربهم ، ويستغفرون لمن في الأرض ، ألا إن الله هو الغفور الرحيم ، والذين اتخذوا من دونه أولياء ، الله حفيظ عليهم ، وما أنت عليهم بوكيل } . . فإذا الكون كله مشغول بقضية الإيمان والشرك حتى إن السماوات ليكدن يتفطرن من شذوذ بعض أهل الأرض ، بينما الملائكة يستغفرون لمن في الأرض جميعا من هذه الفعلة الشنعاء التي جاء بها بعض المنحرفين
وبعد هذه الجولة يعود السياق إلى الحقيقة الأولى : { وكذلك أوحينا إليك ، قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها ، وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه ، فريق في الجنة وفريق في السعير } .

.
ثم يستطرد مع { فريق في الجنة وفريق في السعير } . . فقوله ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة . ولكن مشيئته اقتضت بما له من علم وحكمة أن { يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير } . . ويقرر أن الله وحده هو الولي { وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير } . .
ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى ، حقيقة الوحي والرسالة ، فيقرر أن الحكم فيما يختلف فيه البشر من شيء هو الله الذي أنزل هذا القرآن ليرجع إليه الناس في كل اختلاف : { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله . ذلكم الله ربي عليه توكلت ، وإليه أنيب } . .
ويستطرد مع الربوبية إلى وحدانية الخالق ، وتفرد ذاته . ووحدانية المتصرف في مقادير السماوات والأرض ، وفي بسط الرزق وقبضه . وفي علمه بكل شيء : { فاطر السماوات والأرض ، جعل لكم من أنفسكم أزواجا ، ومن الأنعام أزواجاً ، يذرؤكم فيه ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير . له مقاليد السماوات والأرض ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، إنه بكل شيء عليم } . .
ثم يعود إلى الحقيقة الأولى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ، والذي أوحينا إليك ، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه . كبر على المشركين ما تدعوهم إليه . الله يجتبي إليه من يشاء ، ويهدي إليه من ينيب . ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ، ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب . فلذلك فادع واستقم كما أمرت ، ولا تتبع أهواءهم وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب . . الخ } . .
وعلى مثل هذا النسق تمضي السورة في عرض هذه الحقيقة؛ محوطة بمثل هذا الجو ، وهذه الاستطرادات المتعلقة بقضايا العقيدة الأخرى ، المثبتة في الوقت ذاته للحقيقة الأولى التي تبدو كأنها موضوع السورة الرئيسي .
وهذا النسق واضح وضوحاً كاملاً في هذا الدرس الأول من السورة . فالقارئ يلتقي بعد كل بعض آيات بحقيقة الوحي والرسالة في جانب من جوانبها .
فأما الدرس الثاني ويؤلف بقية السورة ، فيبدأ باستعراض بعض آيات الله في بسط الرزق وقبضه؛ وفي تنزيل الغيث برحمته؛ وفي خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة؛ وفي الفلك الجواري في البحر كالأعلام . ويستطرد من هذه الآيات إلى صفة المؤمنين التي تفردهم وتميز جماعتهم . فإلى مشهد من مشاهد القيامة يعرض صورة الظالمين لما رأوا العذاب : { يقولون هل إلى مرد من سبيل ، وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي } واستعلاء المؤمنين يومئذ ووقوفهم موقف المقرر لحال الظالمين :
{ وقال الذين آمنوا : إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة . ألا إن الظالمين في عذاب مقيم }

وفي ظل هذا المشهد يدعو الناس إلى إنقاذ أنفسهم من مثل هذا الموقف قبل فوات الأوان : { استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ، ما لكم من ملجأ يومئذ ، وما لكم من نكير } ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى في السورة . حقيقة الوحي والرسالة . في جانب من جوانبها : { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ . . } ويمضي سياق السورة حتى ختامها يدور حول هذا المحور مباشرة أو غير مباشرة ، مع طابع الاستطراد بين كل إشارة وإشارة إلى تلك الحقيقة ، حتى يكون ختام السورة هذا البيان في شأن الوحي والرسالة : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ، أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء ، إنه عليّ حكيم . وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان؛ ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا ، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور } وبعد فمن وراء التركيز على حقيقة الوحي والرسالة في سياق السورة كله يبرز هدف خاص لعرضها على هذا النحو وفي هذا التتابع .
هذا الهدف هو تعيين القيادة الجديدة للمبشرين ممثلة في الرسالة الأخيرة ، ورسولها ، والأمة المسلمة التي تتبع نهجه الإلهي الثابت القويم .
وتبدأ أول إشارة مع مطلع السورة { كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } . . لتقرر أن الله هو الموحي بجميع الرسالات لجميع الرسل ، وأن الرسالة الأخيرة هي امتداد لأمر مقرر مطرد من قديم .
وتأتي الإشارة الثانية بعد قليل : { وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها } . . لتقرر مركز القيادة الجديدة التي سترد الإشارة إليها فيما بعد .
وفي الإشارة الثالثة يقرر وحدة الرسالة بعد ما قرر في الإشارة الأولى وحدة المصدر : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } . .
وتستطرد هذه الإشارة إلى تقرير أن التفرق قد وقع ، مخالفاً لهذه التوصية ، ولم يقع عن جهل من أتباع أولئك الرسل الكرام ولكن عن علم . وقع بغيا وظلما وحسدا : { وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم } . .
ثم تستطرد كذلك إلى بيان حال الذين جاءوا من بعد أولئك الذين اختلفوا : { وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } . .
وعند هذا الحد يتبين أن البشرية قد آلت إلى فوضى وارتياب ، ولم تعد لها قيادة راشدة تقوم على نهج ثابت قويم . . فرسالة السماء التي تقود البشرية قد آلت إلى اختلاف بين أتباعها .

والذين جاءوا من بعدهم تلقوها في ريبة وفي شك لا تستقيم معهما قيادة راشدة .
ومن ثم يعلن انتداب الرسالة الأخيرة وحاملها صلى الله عليه وسلم لهذه القيادة : { فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم . وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب ، وأمرت لأعدل بينكم . الله ربنا وربكم . . الخ } . . ومن ثم تجيء صفة الجماعة المؤمنة المميزة لها طبيعية في سياق هذه السورة في الدرس الثاني بوصفها الجماعة التي ستقوم على قيادة هذه البشرية على ذلك النهج الثابت القويم .
وعلى ضوء هذه الحقيقة يصبح سياق السورة وموضوعها الرئيسي والموضوعات الأخرى فيه واضحة القصد والاتجاه . وتتبع هذا السياق بالتفصيل يزيد هذا الأمر وضوحا . .
{ حم . عسق . كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم . له ما في السماوات وما في الأرض ، وهو العلي العظيم . تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن ، والملائكة يسبحون بحمد ربهم ، ويستغفرون لمن في الأرض . ألا إن الله هو الغفور الرحيم . والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم ، وما أنت عليهم بوكيل } . .
سبق الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور بما فيه الكفاية . وهي تذكر هنا في مطلع السورة ، ويليها قوله تعالى :
{ كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } . .
أي مثل ذلك ، وعلى هذا النسق ، وبهذه الطريقة يكون الوحي إليك وإلى الذين من قبلك . فهو كلمات وألفاظ وعبارات مصوغة من الأحرف التي يعرفها الناس ويفهمونها ويدركون معانيها؛ ولكنهم لا يملكون أن يصوغوا مثلها مما بين أيديهم من أحرف يعرفونها .
ومن الناحية الأخرى تتقرر وحدة الوحي . وحدة مصدره فالموحي هو الله العزيز الحكيم . والموحى إليهم هم الرسل على مدار الزمان . والوحي واحد في جوهره على اختلاف الرسل واختلاف الزمان : { إليك وإلى الذين من قبلك } . .
إنها قصة بعيدة البداية ، ضاربة في أطواء الزمان . وسلسلة كثيرة الحلقات ، متشابكة الحلقات . ومنهج ثابت الأصول على تعدد الفروع .
وهذه الحقيقة على هذا النحو حين تستقر في ضمائر المؤمنين تشعرهم بأصالة ما هم عليه وثباته ، ووحدة مصدره وطريقه . وتشدهم إلى مصدر هذا الوحي : { الله العزيز الحكيم } . . كما تشعرهم بالقرابة بينهم وبين المؤمنين أتباع الوحي في كل زمان ومكان ، فهذه أسرتهم تضرب في بطون التاريخ ، وتمتد جذورها في شعاب الزمن؛ وتتصل كلها بالله في النهاية . فيلتقون فيه جميعا . وهو { العزيز } القوي القادر { الحكيم } الذي يوحي لمن يشاء بما يشاء وفق حكمة وتدبير . فأنى يصرفون عن هذا المنهج الإلهي الواحد الثابت إلى السبل المتفرقة التي لا تؤدي إلى الله؛ ولا يعرف لها مصدر ، ولا تستقيم على اتجاه قاصد قويم؟
ويستطرد في صفة الله الذي يوحي وحده إلى الرسل جميعا؛ فيقرر أنه المالك الوحيد لما في السماوات وما في الأرض ، وأنه وحده العلي العظيم :
{ له ما في السماوات وما في الأرض ، وهو العلي العظيم } .

.
وكثيراً ما يُخدع البشر فيحسبون أنهم يملكون شيئاً ، لمجرد أنهم يجدون أشياء في أيديهم ، مسخرة لهم ، ينتفعون بها ، ويستخدمونها فيما يشاءون . ولكن هذا ليس ملكاً حقيقياً . إنما الملك الحقيقي لله؛ الذي يوجد ويعدم ، ويحيي ويميت؛ ويملك أن يعطي البشر ما يشاء ، ويحرمهم ما يشاء؛ وأن يذهب بما في أيديهم من شيء ، وأن يضع في أيديهم بدلاً مما أذهب . . الملك الحقيقي لله الذي يحكم طبائع الأشياء ، ويصرفها وفق الناموس المختار ، فتلبي وتطيع وتتصرف وفق ذلك الناموس . وكل ما في السماوات وما في الأرض من شيء « لله » بهذا الاعتبار الذي لا يشاركه فيه أحد سواه . . { وهو العلي العظيم } . . فليس هو الملك فحسب ، ولكنه ملك العلو والعظمة على وجه التفرد كذلك . العلو الذي كل شيء بالقياس إليه سفول؛ والعظمة التي كل شيء بالقياس إليها ضآلة
ومتى استقرت هذه الحقيقة استقراراً صادقاً في الضمائر ، عرف الناس إلى أين يتجهون فيما يطلبون لأنفسهم من خير ومن رزق ومن كسب . فكل ما في السماوات وما في الأرض لله . والمالك هو الذي بيده العطاء . ثم إنه هو { العلي العظيم } الذي لا يصغر ولا يسفل من يمد يده إليه بالسؤال؛ كما لو مدها للمخاليق ، وهم ليسوا بأعلياء ولا عظماء .
ثم يعرض مظهراً لخلوص الملكية لله في الكون ، وللعلو والعظمة كذلك . يتمثل في حركة السماوات تكاد تتفطر من روعة العظمة التي تستشعرها لربها ، ومن زيغ بعض من في الأرض عنها . كما يتمثل في حركة الملائكة يسبحون بحمد ربهم ، ويستغفرون لأهل الأرض من انحرافهم وتطاولهم :
{ تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن ، والملائكة يسبحون بحمد ربهم ، ويستغفرون لمن في الأرض . ألا إن الله هو الغفور الرحيم } . .
والسماوات هي هذه الخلائق الضخمة الهائلة التي نراها تعلونا حيثما كنا على ظهر هذه الأرض ، والتي لا نعلم إلا أشياء قليلة عن جانب منها صغير . وقد عرفنا حتى اليوم أن بعض ما في السماوات نحو من مئة ألف مليون مجموعة من الشموس . في كل منها نحو مئة ألف مليون شمس كشمسنا هذه ، التي مبلغ حجمها أكثر من مليون ضعف من حجم أرضنا الصغيرة وهذه المجموعات من الشموس التي أمكن لنا نحن البشر أن نرصدها بمراصدنا الصغيرة ، متناثرة في فضاء السماء مبعثرة ، وبينها مسافات شاسعة تحسب بمئات الألوف والملايين من السنوات الضوئية . أي المحسوبة بسرعة الضوء ، التي تبلغ 168 . 000 ميل في الثانية
هذه السماوات التي عرفنا منها هذا الجانب الصغير المحدود يكدن يتفطرن من فوقهن . . من خشية الله وعظمته وعلوه ، وإشفاقاً من انحراف بعض أهل الأرض ونسيانهم لهذه العظمة التي يحسها ضمير الكون ، فيرتعش ، وينتفض ، ويكاد ينشق من أعلى مكان فيه
{ والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض } .

.
والملائكة أهل طاعة مطلقة ، فقد كانوا أولى الخلق بالطمأنينة . ولكنهم دائبون في تسبيح ربهم ، لما يحسون من علوه وعظمته ، ولما يخشون من التقصير في حمده وطاعته . ذلك بينما أهل الأرض المقصرون الضعاف ينكرون وينحرفون؛ فيشفق الملائكة من غضب الله؛ ويروحون يستغفرون لأهل الأرض مما يقع في الأرض من معصية وتقصير . ويجوز أن يكون المقصود هو استغفار الملائكة للذين آمنوا ، كالذي جاء في سورة غافر : { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ، ويؤمنون به ، ويستغفرون للذين آمنوا } وفي هذه الحالة يبدو : كم يشفق الملائكة من أية معصية تقع في الأرض ، حتى من الذين آمنوا ، وكم يرتاعون لها ، فيستغفرون ربهم وهم يسبحون بحمده استشعاراً لعلوه وعظمته؛ واستهوالاً لأية معصية تقع في ملكه؛ واستدرارا لمغفرته ورحمته؛ وطمعاً فيهما :
{ ألا إن الله هو الغفور الرحيم } . .
فيجمع إلى العزة والحكمة ، العلو والعظمة ، ثم المغفرة والرحمة . . ويعرف العباد ربهم بشتى صفاته .
وفي نهاية الفقرة بعد تقرير تلك الصفات وأثرها في الكون كله يعرض للذين يتخذون من دون الله أولياء . وقد بدا أن ليس في الكون غيره من ولي . ليعفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمرهم فما هو عليهم بوكيل ، والله هو الحفيظ عليهم ، وهو بهم كفيل :
{ والذين اتخذوا من دونه أولياء ، الله حفيظ عليهم ، وما أنت عليهم بوكيل } . .
وتبدو للضمير صورة هؤلاء المناكيد التعساء؛ وهم يتخذون من دون الله أولياء؛ وأيديهم مما أمسكت خاوية ، وليس هنالك إلا الهباء تبدو للضمير في ضآلتهم وضآلة أوليائهم من دون الله . والله حفيظ عليهم . وهم في قبضته ضعاف صغار . فأما النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه ، فهم معفون من التفكير في شأنهم ، والاحتفال بأمرهم ، فقد كفاهم الله هذا الاهتمام .
ولا بد أن تستقر هذه الحقيقة في ضمائر المؤمنين لتهدأ وتطمئن من هذا الجانب في جميع الأحوال . سواء كان أولئك الذين يتخذون من دون الله أولياء أصحاب سلطان ظاهر في الأرض ، أم كانوا من غير ذوي السلطان . تطمئن في الحالة الأولى لهوان شأن أصحاب السلطان الظاهر مهما تجبروا ما داموا لا يستمدون سلطانهم هذا من الله؛ والله حفيظ عليهم؛ وهو من ورائهم محيط؛ والكون كله مؤمن بربه من حولهم ، وهم وحدهم المنحرفون كالنغمة النشاز في اللحن المتناسق وتطمئن في الحالة الثانية من ناحية أن ليس على المؤمنين من وزر في تولي هؤلاء غير الله؛ فهم ليسوا بوكلاء على من ينحرفون من الخلق؛ وليس عليهم إلا النصح والبلاغ . والله هو الحفيظ على قلوب العباد .
ومن ثم يسير المؤمنون في طريقهم . مطمئنين إلى أنه الطريق الموصول بوحي الله .

وأن ليس عليهم من ضير في انحراف المنحرفين عن الطريق . كائنا ما يكون هذا الانحراف . .
ثم يعود إلى الحقيقة الأولى :
{ وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها ، وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه ، فريق في الجنة وفريق في السعير . ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ، ولكن يدخل من يشاء في رحمته ، والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير . أم اتخذوا من دونه أولياء؟ فالله هو الولي . وهو يحيي الموتى . وهو على كل شيء قدير } . .
{ وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً . . . . } . .
يعطف هذا الطرف من حقيقة الوحي على ذاك الطرف الذي بدأ به السورة . والمناسبة هنا بين تلك الأحرف المقطعة ، وعربية القرآن ، مناسبة ظاهرة . فهذه أحرفهم العربية ، وهذا قرآنهم العربي . نزل الله به وحيه في هذه الصورة العربية ، ليؤدي به الغاية المرسومة :
{ لتنذر أم القرى ومن حولها } . .
وأم القرى مكة المكرمة . المكرمة ببيت الله العتيق فيها . وقد اختار الله أن تكون هي وما حولها من القرى موضع هذه الرسالة الأخيرة؛ وأنزل القرآن بلغتها العربية لأمر يعلمه ويريده . و { الله أعلم حيث يجعل رسالته } وحين ننظر اليوم من وراء الحوادث واستقرائها ، ومن وراء الظروف ومقتضياتها ، وبعد ما سارت هذه الدعوة في الخط الذي سارت فيه ، وأنتجت فيه نتاجها . . حين ننظر اليوم هذه النظرة ندرك طرفاً من حكمة الله في اختيار هذه البقعة من الأرض ، في ذلك الوقت من الزمان ، لتكون مقر الرسالة الأخيرة ، التي جاءت للبشرية جميعاً . والتي تتضح عالميتها منذ أيامها الأولى .
كانت الأرض المعمورة عند مولد هذه الرسالة الأخيرة تكاد تتقسمها امبراطوريات أربع : الامبراطورية الرومانية في أوربا وطرف من آسيا وإفريقية . والامبراطورية الفارسية وتمد سلطانها على قسم كبير من آسيا وإفريقية . والامبراطورية الهندية . ثم الامبراطورية الصينية . وتكادان تكونان مغلقتين على أنفسهما ومعزولتين بعقائدهما واتصالاتهما السياسية وغيرها وهذه العزلة كانت تجعل الامبراطوريتين الأوليين هما ذواتا الأثر الحقيقي في الحياة البشرية وتطوراتها .
وكانت الديانتان السماويتان قبل الإسلام اليهودية والنصرانية قد انتهتا إلى أن تقعا في صورة من الصور تحت نفوذ هاتين الامبراطوريتين ، حيث تسيطر عليهما الدولة في الحقيقة ، ولا تسيطران على الدولة فضلا على ما أصابهما من انحراف وفساد .
ولقد وقعت اليهودية فريسة لاضطهاد الرومان تارة ، ولاضطهاد الفرس تارة ، ولم تعد تسيطر في هذه الأرض على شيء يذكر على كل حال؛ وانتهت بسبب عوامل شتى إلى أن تكون ديانة مغلقة على بني إسرائيل ، لا مطمع لها ولا رغبة في أن تضم تحت جناحها شعوبا أخرى .
وأما المسيحية فقد ولدت في ظل الدولة الرومانية . التي كانت تسيطر حين الميلاد على فلسطين وسورية ومصر وبقية المناطق التي انتشرت فيها المسيحية سرا؛ وهي تتخفى من مطاردة الامبراطورية الرومانية التي اضطهدت العقيدة الجديدة اضطهاداً فظيعاً ، تخللته مذابح شملت عشرات الألوف في قسوة ظاهرة .

فلما انقضى عهد الاضطهاد الروماني ، ودخل الامبراطور الروماني في المسيحية ، دخلت معه أساطير الرومان الوثنية ، ومباحث الفلسفة الإغريقية الوثنية كذلك؛ وطبعت المسيحية بطابع غريب عليها؛ فلم تعد هي المسيحية السماوية الأولى . كما أن الدولة ظلت في طبيعتها لا تتأثر كثيراً بالديانة؛ وظلت هي المهيمنة ، ولم تهيمن العقيدة عليها أصلا . وذلك كله فضلاً على ما انتهت إليه المذاهب المسيحية المتعددة من تطاحن شامل فيما بينها مزق الكنيسة ، وكاد يمزق الدولة كلها تمزيقاً . وأوقع في الاضطهاد البشع المخالفين للمذهب الرسمي للدولة . وهؤلاء وهؤلاء كانوا في الانحراف عن حقيقة المسيحية سواء
وفي هذا الوقت جاء الإسلام . جاء لينقذ البشرية كلها مما انتهت إليه من انحلال وفساد واضطهاد وجاهلية عمياء في كل مكان معمور . وجاء ليهيمن على حياة البشرية ويقودها في الطريق إلى الله على هدى وعلى نور . ولم يكن هنالك بد من أن يسيطر الإسلام لتحقيق هذه النقلة الضخمة في حياة البشر . فلم يكن هنالك بد من أن يبدأ رحلته من أرض حرة لا سلطان فيها لامبراطورية من تلك الامبراطوريات؛ وأن ينشأ قبل ذلك نشأة حرة لا تسيطر عليه فيها قوة خارجة على طبيعته؛ بل يكون فيها هو المسيطر على نفسه وعلى من حوله . وكانت الجزيرة العربية ، وأم القرى وما حولها بالذات ، هي أصلح مكان على وجه الأرض لنشأة الإسلام يومئذ ، وأصلح نقطة يبدأ منها رحلته العالمية التي جاء من أجلها منذ اللحظة الأولى .
لم تكن هناك حكومة منظمة ذات قوانين وتشريعات وجيوش وشرطة وسلطان شامل في الجزيرة . تقف للعقيدة الجديدة . بسلطانها المنظم ، وتخضع لها الجماهير خضوعا دقيقاً ، كما هو الحال في الامبراطوريات الأربع .
ولم تكن هنالك ديانة ثابتة كذلك ذات معالم واضحة؛ فقد كانت الوثنية الجاهلية ممزقة ، ومعتقداتها وعباداتها شتى . وكان للعرب آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب والأصنام . ومع أنه كان للكعبة وقريش سلطان ديني عام في الجزيرة ، فإنه لم يكن ذلك السلطان المحكم الذي يقف وقفة حقيقية في وجه الدين الجديد . ولولا المصالح الاقتصادية والأوضاع الخاصة لرؤساء قريش ما وقفوا هذه الوقفة في وجه الإسلام . فقد كانوا يدركون ما في عقائدهم من خلخلة واضطراب .
وكانت خلخلة النظام السياسي للجزيرة إلى جانب خلخلة النظام الديني ، أفضل ظرف يقوم فيه دين جديد ، متحرراً من كل سلطان عليه في نشأته ، خارج عن طبيعته .
وفي وسط هذه الخلخلة كان للأوضاع الاجتماعية في الجزيرة قيمتها كذلك في حماية نشأة الدعوة الجديدة . كان النظام القبلي هو السائد . وكان للعشيرة وزنها في هذا النظام . فلما قام محمد صلى الله عليه وسلم بدعوته وجد من سيوف بني هاشم حماية له؛ ووجد من التوازن القبلي فرصة ، لأن العشائر كانت تشفق من إثارة حرب على بني هاشم بسبب حمايتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم وهم على غير دينه .

بل إنها كانت تشفق من الاعتداء على كل من له عصبية من القلائل الذين أسلموا في أول الدعوة ، وتدع تأديبه أو تعذيبه لأهله أنفسهم . والموالي الذين عذبوا لإسلامهم عذبهم سادتهم . ومن ثم كان أبو بكر رضي الله عنه يشتري هؤلاء الموالي ويعتقهم ، فيمتنع تعذيبهم بهذا الإجراء ، وتمتنع فتنتهم عن دينهم . . ولا يخفى ما في هذا الوضع من ميزة بالقياس إلى نشأة الدين الجديد .
ثم كانت هنالك صفات الشعب العربي نفسه من الشجاعة والأريحية والنخوة . وهي استعدادات ضرورية لحمل العقيدة الجديدة والنهوض بتكاليفها .
وقد كانت الجزيرة في ذلك الزمان تزخر بحضانة عميقة لبذور نهضة؛ وكانت تجيش بكفايات واستعدادات وشخصيات تتهيأ لهذه النهضة المذخورة لها في ضمير الغيب؛ وكانت قد حفلت بتجارب إنسانية معينة من رحلاتها إلى أطراف امبراطوريتي كسرى وقيصر . وأشهرها رحلة الشتاء إلى الجنوب ورحلة الصيف إلى الشمال . المذكورتان في القرآن في قوله تعالى : { لإيلاف قريش . إيلافهم رحلة الشتاء والصيف . فليعبدوا رب هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } وتضافرت أسباب كثيرة لحشد رصيد ضخم من التجارب مع التفتح والتأهب لاستقبال المهمة الضخمة التي اختيرت لها الجزيرة . فلما جاءها الإسلام استغل هذا الرصيد كله ، ووجه هذه الطاقة المختزنة ، التي كانت تتهيأ كنوزها للتفتح؛ ففتحها الله بمفتاح الإسلام . وجعلها رصيداً له وذخراً . ولعل هذا بعض ما يفسر لنا وجود هذا الحشد من الرجال العظام في الصحابة في الجيل الأول في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من أمثال : أبي بكر وعمر وعثمان وعلي . وحمزة والعباس وأبي عبيدة . وسعد ابن أبي وقاص وخالد بن الوليد وسعد بن معاذ ، وأبي أيوب الأنصاري وغيرهم وغيرهم من تلك العصبة التي تلقت الإسلام؛ فتفتحت له ، وحملته ، وكبرت به من غير شك وصلحت؛ ولكنها كانت تحمل البذرة الصالحة للنمو والتمام .
وليس هنا مكان التفصيل في وصف استعداد الجزيرة لحمل الرسالة الجديدة ، وصيانة نشأتها ، وتمكينها من الهيمنة على ذاتها وعلى من حولها ، مما يشير إلى بعض أسباب اختيارها لتكون مهد العقيدة الجديدة ، التي جاءت للبشرية جميعها . وإلى اختيار هذا البيت بالذات ليكون منه حامل هذه الرسالة صلى الله عليه وسلم فذلك أمر يطول . ومكانه رسالة خاصة مستقلة . وحسبنا هذه الإشارة إلى حكمة الله المكنونة ، التي يظهر التدبر والتفكر بعض أطرافها كلما اتسعت تجارب البشر وإدراكهم لسنن الحياة .
وهكذا جاء هذا القرآن عربياً لينذر أم القرى ومن حولها . فلما خرجت الجزيرة من الجاهلية إلى الإسلام ، وخلصت كلها للإسلام ، حملت الراية وشرقت بها وغربت؛ وقدمت الرسالة الجديدة والنظام الإنساني الذي قام على أساسها ، للبشرية جميعها كما هي طبيعة هذه الرسالة وكان الذين حملوها هم أصلح خلق الله لحملها ونقلها؛ وقد خرجوا بها من أصلح مكان في الأرض لميلادها ونشأتها .

وليس من المصادفات أن يعيش الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تخلص الجزيرة العربية للإسلام؛ ويتمحض هذا المهد للعقيدة التي اختير لها على علم . كما اختير لها اللسان الذي يصلح لحملها إلى أقطار الأرض جميعا . فقد كانت اللغة العربية بلغت نضجها وأصبحت صالحة لحمل هذه الدعوة والسير بها في أقطار الأرض . ولو كانت لغة ميتة أو ناقصة التكوين الطبيعي ما صلحت لحمل هذه الدعوة أولاً ، وما صلحت بالذات لنقلها إلى خارج الجزيرة العربية ثانياً . . وقد كانت اللغة ، كأصحابها ، كبيئتها ، أصلح ما تكون لهذا الحدث الكوني العظيم .
وهكذا تبدو سلسلة طويلة من الموافقات المختارة لهذه الرسالة ، حيثما وجه الباحث نظره إلى تدبر حكمة الله واختياره ومصداق قوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } { لتنذر أم القرى ومن حولها ، وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه ، فريق في الجنة وفريق في السعير } . .
وقد كان الإنذار الأكبر والأشد والأكثر تكراراً في القرآن هو الإنذار بيوم الجمع . يوم الحشر . يوم يجمع الله ما تفرق من الخلائق على مدار الأزمنة واختلاف الأمكنة ، ليفرقهم من جديد : { فريق في الجنة وفريق في السعير } . بحسب عملهم في دار العمل ، في هذه الأرض ، في فترة الحياة الدينا .
{ ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة . ولكن يدخل من يشاء في رحمته ، والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير } . .
فلو شاء الله لخلق البشر خلقة أخرى توحد سلوكهم ، فتوحد مصيرهم ، إما إلى جنة وإما إلى نار . ولكنه سبحانه خلق هذا الإنسان لوظيفة . خلقه للخلافة في هذه الأرض . وجعل من مقتضيات هذه الخلافة ، على النحو الذي أرادها ، أن تكون للإنسان استعدادات خاصة بجنسه ، تفرقه عن الملائكة وعن الشياطين ، وعن غيرهما من خلق الله ذوي الطبيعة المفردة الموحدة الاتجاه . استعدادات يجنح بها ومعها فريق إلى الهدى والنور والعمل الصالح؛ ويجنح بها ومعها فريق إلى الضلال والظلام والعمل السيِّئ كل منهما يسلك وفق أحد الاحتمالات الممكنة في طبيعة تكوين هذا المخلوق البشري؛ وينتهي إلى النهاية المقررة لهذا السلوك : { فريق في الجنة وفريق في السعير } . . وهكذا : { يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير } . . وفق ما يعلمه الله من حال هذا الفريق وذاك ، واستحقاقه للرحمة بالهداية أو استحقاقه للعذاب بالضلال .
ولقد سبق أن بعضهم يتخذ من دون الله أولياء . فهو يقرر هنا أن الظالمين : { ما لهم من ولي ولا نصير } . . فأولياؤهم الذين يتخذونهم لا حقيقة لهم إذن ولا وجود .

ثم يعود فيسأل في استنكار :
{ أم اتخذوا من دونه أولياء؟ } . .
ليقرر بعد هذا الاستنكار أن الله وحده هو الولي ، وأنه هو القادر تتجلى قدرته في إحياء الموتى . العمل الذي تظهر فيه القدرة المفردة بأجلى مظاهرها :
{ فالله هو الولي ، وهو يحيي الموتى } . .
ثم يعمم مجال القدرة ويبرز حقيقتها الشاملة لكل شيء والتي لا تنحصر في حدود :
{ وهو على كل شيء قدير } . .
ثم يعود إلى الحقيقة الأولى ، لبيان الجهة التي يرجع إليها عند كل اختلاف . وهي هذا الوحي الذي جاء من عند الله يتضمن حكم الله كي لا يكون للهوى المتقلب أثر في الحياة بعد ذلك المنهج الإلهي القويم :
{ وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله . ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب . فاطر السماوات والأرض ، جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجا ، يذرؤكم فيه ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير . له مقاليد السماوات والأرض ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، إنه بكل شيء عليم } . .
وطريقة إيراد هذه الحقائق وتسلسلها وتجمعها في هذه الفقرة طريقة عجيبة ، تستحق التدبر . فالترابط الخفي والظاهر بين أجزائها ترابط لطيف دقيق .
إنه يرد كل اختلاف يقع بين الناس إلى الله : { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } . . والله أنزل حكمه القاطع في هذا القرآن؛ وقال قوله الفصل في أمر الدنيا والآخرة؛ وأقام للناس المنهج الذي اختاره لهم في حياتهم الفردية والجماعية ، وفي نظام حياتهم ومعاشهم وحكمهم وسياستهم ، وأخلاقهم وسلوكهم . وبيّن لهم هذا كله بياناً شافيا . وجعل هذا القرآن دستوراً شاملاً لحياة البشر ، أوسع من دساتير الحكم وأشمل . فإذا اختلفوا في أمر أو اتجاه فحكم الله فيه حاضر في هذا الوحي الذي أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم لتقوم الحياة على أساسه .
وعقب تقرير هذه الحقيقة يحكي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما أمره كله لله ، منيباً إلى ربه بكليته :
{ ذلكم الله ربي عليه توكلت ، وإليه أنيب } . .
فتجيء هذه الإنابة ، وذاك التوكل ، وذلك الإقرار بلسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعها النفسي المناسب للتعقيب على تلك الحقيقة . . فها هو ذا رسول الله ونبيه يشهد أن الله هو ربه ، وأنه يتوكل عليه وحده ، وأنه ينيب إليه دون سواه . فكيف يتحاكم الناس إذن إلى غيره عند اختلافهم في شيء من الأمر ، والنبي المهدي لا يتحاكم إلا إليه ، وهو أولى من يتحاكم الناس إلى قوله الفصل ، لا يتلفتون عنه لحظة هنا أو هناك؟ وكيف يتجهون في أمر من أمورهم وجهة أخرى ، والنبي المهدي يتوكل على الله وحده ، وينيب إليه وحده ، بما أنه هو ربه ومتولي أمره وكافله وموجهه إلى حيث يختار؟
واستقرار هذه الحقيقة في ضمير المؤمن ينير له الطريق ويحدد معالمه ، فلا يتلفت هنا أو هناك .

ويسكب فيه الطمأنينة إلى طريقه ، والثقة بمواقع خطواته ، فلا يتشكك ولا يتردد ولا يحتار . ويشعره أن الله راعيه وحاميه ومسدد خطاه في هذا الاتجاه . والنبي المهدي سالك هذا الطريق إلى الله .
واستقرار هذه الحقيقة في ضمير المؤمن يرفع من شعوره بمنهجه وطريقه ، فلا يجد أن هناك منهجاً آخر أو طريقاً يصح أن يتلفت إليه؛ ولا يجد أن هنالك حكما غير قول الله وحكمه يرجع عند الاختلاف إليه . والنبي المهدي ينيب إلى ربه الذي شرع هذا المنهج وحكم هذا الحكم .
ثم يعقب مرة أخرى بما يزيد هذه الحقيقة استقراراً وتمكيناً :
{ فاطر السماوات والأرض ، جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا . يذرؤكم فيه . ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } . .
فالله منزل ذلك القرآن ليكون حكمه الفصل فيما يختلفون فيه من شيء . . هو { فاطر السماوات والأرض } . . وهو مدبر السماوات والأرض . والناموس الذي يحكم السماء والأرض هو حكمه الفصل في كل ما يختص بهما من أمر . وشؤون الحياة والعباد إن هي إلا طرف من أمر السماوات والأرض؛ فحكمه فيها هو الحكم الذي ينسق بين حياة العباد وحياة هذا الكون العريض ، ليعيشوا في سلام مع الكون الذي يحيط بهم ، والذي يحكم الله في أمره بلا شريك .
والله الذي يجب أن يرجعوا إلى حكمه فيما يختلفون فيه من شىء هو خالقهم الذي سوى نفوسهم ، وركبها : { جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } . . فنظم لكم حياتكم من أساسها ، وهو أعلم بما يصلح لها وما تصلح به وتستقيم . وهو الذي أجرى حياتكم وفق قاعدة الخلق التي اختارها للأحياء جميعا : { ومن الأنعام أزواجاً } . . فهنالك وحدة في التكوين تشهد بوحداينة الأسلوب والمشيئة وتقديرها المقصود . . إنه هو الذي جعلكم أنتم والأنعام تتكاثرون وفق هذا المنهج وهذا الأسلوب . ثم تفرد هو دون خلقه جميعا ، فليس هنالك من شيء يماثله سبحانه وتعالى : { ليس كمثله شىء } . . والفطرة تؤمن بهذا بداهة . فخالق الأشياء لا تماثله هذه الأشياء التي هي من خلقه . . ومن ثم فإنها ترجع كلها إلى حكمه عندما تختلف فيما بينها على أمر ، ولا ترجع معه إلى أحد غيره؛ لأنه ليس هناك أحد مثله ، حتى يكون هناك أكثر من مرجع واحد عند الاختلاف .
ومع أنه - سبحانه - { ليس كمثله شىء } . . فإن الصلة بينه وبين ما خلق ليست منقطعة لهذا الاختلاف الكامل . فهو يسمع ويبصر : { وهو السميع البصير } . . ثم يحكم حكم السميع البصير .
ثم إنه إذ يجعل حكمه فيما يختلفون فيه من شيء هو الحكم الواحد الفصل . يقيم هذا على حقيقة أن مقاليد السماوات والأرض كلها إليه بعد ما فطرها أول مرة ، وشرع لها ناموسها الذي يدبرها : { له مقاليد السماوات والأرض } .

. وهم بعض ما في السماوات والأرض ، فمقاليدهم إليه .
ثم إنه هو الذي يتولى أمر رزقهم قبضاً وبسطاً فيما يتولى من مقاليد السماوات والأرض : { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } . . فهو رازقهم وكافلهم ومطعمهم وساقيهم . فلمن غيره يتجهون إذن ليحكم بينهم فيما يختلفون فيه؟ وإنما يتجه الناس إلى الرازق الكافل المتصرف في الأرزاق . الذي يدبر هذا كله بعلم وتقدير : { إنه بكل شىء عليم } . . والذي يعلم كل شىء هو الذي يحكم وحكمه العدل ، وحكمه الفصل . .
وهكذا تتساوق المعاني وتتناسق بهذه الدقة الخفية اللطيفة العجيبة؛ لتوقع على القلب البشري دَقة بعد دَقة ، حتى يتكامل فيها لحن متناسق عميق .
ثم يعود إلى الحقيقة الأولى :
{ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ، والذي أوحينا إليك ، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه . كبر على المشركين ما تدعوهم إليه . الله يجتبي إليه من يشاء ، ويهدي إليه من ينيب . وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب . فلذلك فادع واستقم كما أمرت ، ولا تتبع أهواءهم ، وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب؛ وأمرت لأعدل بينكم ، الله ربنا وربكم ، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، لا حجة بيننا وبينكم ، الله يجمع بيننا وإليه المصير . والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد } . .
لقد جاء في مطلع السورة : { كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } . . فكانت هذه إشارة إجمالية إلى وحدة المصدر ، ووحدة المنهج ، ووحدة الاتجاه . فالآن يفصل هذه الإشارة؛ ويقرر أن ما شرعه الله للمسلمين هو في عمومه ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى . وهو أن يقيموا دين الله الواحد ، ولا يتفرقوا فيه . ويرتب عليها نتائجها من وجوب الثبات على المنهج الإلهي القديم ، دون التفات إلى أهواء المختلفين . ومن هيمنة هذا الدين الواضح المستقيم ، ودحض حجة الذين يحاجون في الله ، وإنذارهم بالغضب والعذاب الشديد .
ويبدو من التماسك والتناسق في هذه الفقرة كالذي بدا في سابقتها بشكل ملحوظ :
{ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ، والذي أوحينا إليك ، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } . .
وبذلك يقرر الحقيقة التي فصلناها في مطلع السورة . حقيقة الأصل الواحد ، والنشأة الضاربة في أصول الزمان . ويضيف إليها لمحة لطيفة الوقع في حس المؤمن . وهو ينظر إلى سلفه في الطريق الممتدة من بعيد . فإذا هم على التتابع هؤلاء الكرام . . نوح . إبراهيم . موسى . عيسى ، محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ويستشعر أنه امتداد لهؤلاء الكرام وأنه على دربهم يسير .

إنه سيستروح السير في الطريق ، مهما يجد فيه من شوك ونصب ، وحرمان من أعراض كثيرة . وهو برفقة هذا الموكب الكريم على الله . الكريم على الكون كله منذ فجر التاريخ .
ثم إنه السلام العميق بين المؤمنين بدين الله الواحد ، السائرين على شرعه الثابت؛ وانتفاء الخلاف والشقاق؛ والشعور بالقربى الوثيقة ، التي تدعو إلى التعاون والتفاهم ، ووصل الحاضر بالماضي ، والماضي بالحاضر ، والسير جملة في الطريق .
وإذا كان الذي شرعه الله من الدين للمسلمين المؤمنين بمحمد هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى . ففيم يتقاتل أتباع موسى وأتباع عيسى؟ وفيم يتقاتل أصحاب المذاهب المختلفة من أتباع عيسى؛ وفيما يتقاتل أتباع موسى وعيسى مع أتباع محمد؟ وفيم يتقاتل من يزعمون أنهم على ملة إبراهيم من المشركين مع المسلمين؟ ولم لا يتضام الجميع ليقفوا تحت الراية الواحدة التي يحملها رسولهم الأخير؟ والوصية الواحدة الصادرة للجميع : { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } ؟ فيقيموا الدين ، ويقوموا بتكاليفه ، ولا ينحرفوا عنه ولا يلتووا به؛ ويقفوا تحت رايته صفا ، وهي راية واحدة ، رفعها على التوالي نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم حتى انتهت إلى محمد صلى الله عليه وسلم في العهد الأخير .
ولكن المشركين في أم القرى ومن حولها وهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم كانوا يقفون من الدعوة القديمة الجديدة موقفاً آخر :
{ كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } . .
كبر عليهم أن يتنزل الوحي على محمد من بينهم؛ وكانوا يريدون أن يتنزل { على رجل من القريتين عظيم } أي صاحب سلطان من كبرائهم . ولم تكن صفات محمد الذاتية وهو بإقرارهم الصادق الأمين ، ولا كان نسبه وهو من أوسط بيت في قريش . ما كان هذا كله يعدل في نظرهم أن يكون سيد قبيلة ذا سلطان
وكبر عليهم أن ينتهي سلطانهم الديني بانتهاء عهد الوثنية والأصنام والأساطير التي يقوم عليها هذا السلطان؛ وتعتمد عليها مصالحهم الاقتصادية والشخصية . فتشبثوا بالشرك وكبر عليهم التوحيد الخالص الواضح الذي دعاهم إليه الرسول الكريم .
وكبر عليهم أن يقال : إن آباءهم الذين ماتوا على الشرك ماتوا على ضلالة وعلى جاهلية؛ فتشبثوا بالحماقة ، وأخذتهم العزة بالإثم ، واختاروا أن يلقوا بأنفسهم إلى الجحيم ، على أن يوصم آباؤهم بأنهم ماتوا ضالين .
والقرآن يعقب على موقفهم هذا بأن الله هو الذي يصطفي ويختار من يشاء؛ وأنه كذلك يهدي إليه من يرغب في كنفه ، ويتوب إلى ظله من الشاردين :
{ الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب } . .
وقد اجتبى محمداً صلى الله عليه وسلم للرسالة . وهو يفتح الطريق لمن ينيب إليه ويثوب .
ثم يعود إلى موقف أتباع الرسل ، الذين جاءوا قومهم بدين واحد ، فتفرق أتباعهم شيعا وأحزابا :
{ وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } .

.
فهم لم يتفرقوا عن جهل؛ ولم يتفرقوا لأنهم يعرفون الأصل الواحد الذي يربطهم ، ويربط رسلهم ومعتقداتهم . إنما تفرقوا بعد ما جاءهم العلم . تفرقوا بغيا بينهم وحسدا وظلما للحقيقة ولأنفسهم سواء . تفرقوا تحت تأثير الأهواء الجائرة ، والشهوات الباغية . تفرقوا غير مستندين إلى سبب من العقيدة الصحيحة والمنهج القويم . ولو أخلصوا لعقيدتهم ، واتبعوا منهجهم ما تفرقوا .
ولقد كانوا يستحقون أن يأخذهم الله أخذا عاجلا ، جزاء بغيهم وظلمهم في هذا التفرق والتفريق . ولكن كلمة سبقت من الله لحكمة أرادها ، بإمهالهم إلى أجل مسمى { ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم } . . فحق الحق وبطل الباطل؛ واتنهى الأمر في هذه الحياة الدنيا . ولكنهم مؤجلون إلى يوم الوقت المعلوم .
فأما الأجيال التي ورثت الكتاب من بعد أولئك الذين تفرقوا وفرقوا من أتباع كل نبي ، فقد تلقوا عقيدتهم وكتابهم بغير يقين جازم؛ إذ كانت الخلافات السابقة مثارا لعدم الجزم بشيء ، وللشك والغموض والحيرة بين شتى المذاهب والاختلافات :
{ وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } . .
وما هكذا تكون العقيدة . فالعقيدة هي الصخرة الصلبة التي يقف عليها المؤمن ، فتميد الأرض من حوله وهو ثابت راسخ القدمين فوق الصخرة الصلبة التي لا تميد . والعقيدة هي النجم الهادي الثابت على الأفق يتجه إليه المؤمن وسط الأنواء والزوابع ، فلا يضل ولا يحيد . فأما حين تصبح العقيدة ذاتها موضع شك ومثار ريبة ، فلا ثبات لشىء ولا لأمر في نفس صاحبها ، ولا قرار له على وجهة ، ولا اطمئنان إلى طريق .
ولقد جاءت العقيدة ليعرف أصحابها طريقهم ووجهتهم إلى الله؛ ويقودوا من وراءهم من البشر في غير ما تلجلج ولا تردد ولا ضلال . فإذا هم استرابوا وشكوا فهم غير صالحين لقيادة أحد ، وهم أنفسهم حائرون .
وكذلك كان حال أتباع الرسل يوم جاء هذا الدين الجديد .
يقول الأستاذ الهندي أبو الحسن الندوي في كتابه : « ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين » :
« أصبحت الديانات العظمى فريسة العابثين والمتلاعبين ، ولعبة المحرفين والمنافقين ، حتى فقدت روحها وشكلها ، فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها ، وأصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام ، وعسف الحكام ، وشغلت بنفسها ، لا تحمل للعالم رسالة ولا للأمم دعوة ، وأفلست في معنوياتها ، ونضب معين حياتها ، لا تملك مشرعاً صافياً من الدين السماوي ، ولا نظاماً ثابتا من الحكم البشري » .
ويقول الكاتب الأوربي « ج . ه . دنيسون » في كتابه « العواطف كأساس للحضارة » :
« ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شفا جرف هارٍ من الفوضى ، لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت؛ ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها .

وكان يبدو إذ ذاك أن المدينة الكبرى ، التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة ، مشرفة على التفكك والانحلال؛ وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية ، إذ القبائل تتحارب وتتناحر ، لا قانون ولا نظام . أما النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار : بدلاً من الاتحاد والنظام . وكانت المدينة كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله . واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب . . وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه « . . يعني محمداً صلى الله عليه وسلم . .
ولأن أتباع الرسل تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم ولأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم كانوا في شك منه مريب . . لهذا وذلك ، ولخلو مركز القيادة البشرية من قائد ثبت مستيقن يعرف طريقه إلى الله . . أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم ووجه إليه الأمر أن يدعو وأن يستقيم على دعوته ، وألا يلتفت إلى الأهواء المصطرعة حوله وحول دعوته الواضحة المستقيمة؛ وأن يعلن تجديد الإيمان بالدعوة الواحدة التي شرعها الله للنبيين أجمعين :
{ فلذلك فادع واستقم كما أمرت ، ولا تتبع أهواءهم ، وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب . وأمرت لأعدل بينكم . الله ربنا وربكم . لنا أعمالنا ولكم أعمالكم . لا حجة بيننا وبينكم . الله يجمع بيننا ، وإليه المصير } . .
إنها القيادة الجديدة للبشرية جمعاء . القيادة الحازمة المستقيمة على نهج واضح ويقين ثابت . تدعو إلى الله على بصيرة . وتستقيم على أمر الله دون انحراف . وتنأى عن الأهواء المضطربة المتناوحة من هنا وهناك . القيادة التي تعلن وحدة الرسالة ووحدة الكتاب ووحدة النهج والطريق . والتي ترد الإيمان إلى أصله الثابت الواحد ، وترد البشرية كلها إلى ذلك الأصل الواحد : { وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب } . . ثم هو الاستعلاء والهيمنة بالحق والعدل . { وأمرت لأعدل بينكم } . . فهي قيادة ذات سلطان ، تعلن العدل في الأرض بين الجميع . ( هذا والدعوة بعد في مكة محصورة بين شعابها مضطهدة هي وأصحابها . ولكن طبيعتها المهيمنة الشاملة تبدو واضحة ) . وتعلن الربوبية الواحدة : { الله ربنا وربكم } . . وتعلن فردية التبعة : { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } . . وتعلن إنهاء الجدل بالقول الفصل : { لا حجة بيننا وبينكم } . . وتكل الأمر كله إلى الله صاحب الأمر الأخير : { الله يجمع بيننا وإليه المصير } . .
وتكشف هذه الآية الواحدة عن طبيعة هذه الرسالة الأخيرة ، في مقاطعها القصيرة الفاصلة على هذا النحو الجامع الحازم الدقيق . فهي رسالة جاءت لتمضي في طريقها لا تتأثر بأهواء البشر . وجاءت لتهيمن فتحقق العدالة في الأرض . وجاءت لتوحد الطريق إلى الله كما هو في حقيقته موحد على مدى الرسالات .

.
وبعد وضوح القضية على هذا النحو ، واستجابة العصبة المؤمنة لله هذه الاستجابة ، يبدو جدل المجادلين في الله مستنكراً لا يستحق الالتفات ، وتبدو حجتهم باطلة فاشلة ليس لها وزن ولا حساب . فتنتهي هذه الفقرة بالفصل في أمرهم ، وتركهم لوعيد الله الشديد :
{ والذين يحاجون في الله . من بعد ما استجيب له . حجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ، ولهم عذاب شديد } . .
ومن تكون حجته باطلة مغلوبة عند ربه فلا حجة له ولا سلطان . ووراء الهزيمة والبطلان في الأرض ، الغضب والعذاب الشديد في الآخرة . وهو الجزاء المناسب على اللجاج بالباطل بعد استجابة القلوب الخالصة؛ والجدل المغرض بعد وضوح الحق الصريح .
ثم يبدأ جولة جديدة مع الحقيقة الأولى :
{ الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان . وما يدريك لعل الساعة قريب . يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ، والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ، ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد . الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز . من كان يريد حرث الآخرة نزد له من حرثه ، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها ، وما له في الآخرة من نصيب } . .
فالله أنزل الكتاب بالحق وأنزل العدل؛ وجعله حكما فيما يختلف فيه أصحاب العقائد السالفة ، وفيما تختلف فيه آراء الناس وأهواؤهم؛ وأقام شرائعه على العدل في الحكم . العدل الدقيق كأنه الميزان توزن به القيم ، وتوزن به الحقوق ، وتوزن به الأعمال والتصرفات .
وينتقل من هذه الحقيقة . حقيقة الكتاب المنزل بالحق والعدل . إلى ذكر الساعة . والمناسبة بين هذا وهذه حاضرة ، فالساعة هي موعد الحكم العدل والقول الفصل . والساعة غيب . فمن ذا يدري إن كانت على وشك :
{ وما يدريك لعل الساعة قريب؟ } . .
والناس عنها غافلون ، وهي منهم قريب ، وعندها يكون الحساب القائم على الحق والعدل ، الذي لا يهمل فيه شىء ولا يضيع . .
ويصور موقف المؤمنين من الساعة وموقف غير المؤمنين :
{ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ، والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق } . .
والذين لا يؤمنون بها لا تحس قلوبهم هولها ، ولا تقدر ما ينتظرهم فيها؛ فلا عجب يستعجلون بها مستهترين . لأنهم محجوبون لا يدركون . وأما الذين آمنوا فهم مستيقنون منها ، ومن ثم هم يشفقون ويخافون ، وينتظرونها بوجل وخشية ، وهم يعرفون ما هي حين تكون .
وإنها لحق . وإنهم ليعلمون أنها الحق . وبينهم وبين الحق صلة فهم يعرفون .
{ ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد } . .
فقد أوغلوا في الضلال وأبعدوا ، فعسير أن يعودوا بعد الضلال البعيد . .
وينتقل من الحديث عن الآخرة والإشفاق منها أو الاستهتار بها ، إلى الحديث عن الرزق الذي يتفضل الله به على عباده :
{ الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز } . .
وتبدو المناسبة بعيدة في ظاهر الأمر بين هذه الحقيقة وتلك .

ولكن الصلة تبدو وثيقة عند قراءة الآية التالية :
{ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب } . .
فالله لطيف بعباده يرزق من يشاء . يرزق الصالح والطالح ، والمؤمن والكافر . فهؤلاء البشر أعجز من أن يرزقوا أنفسهم شيئاً؛ وقد وهبهم الله الحياة ، وكفل لهم أسبابها الأولية؛ ولو منع رزقه عن الكافر والفاسق والطالح ما استطاعوا أن يرزقوا أنفسهم ولماتوا جوعاً وعرياً وعطشاً ، وعجزاً عن أسباب الحياة الأولى ، ولما تحققت حكمة الله من إحيائهم وإعطائهم الفرصة ليعملوا في الحياة الدنيا ما يحسب لهم في الآخرة أو عليهم . ومن ثم أخرج الرزق من دائرة الصلاح والطلاح ، والإيمان والكفر ، وعلقه بأسبابه الموصولة بأوضاع الحياة العامة واستعدادات الأفراد الخاصة . وجعله فتنة وابتلاء . يجزي عليهما الناس يوم الجزاء .
ثم جعل الآخرة حرثا والدنيا حرثا يختار المرء منهما ما يشاء . فمن كان يريد حرث الآخرة عمل فيه ، وزاد له الله في حرثه ، وأعانه عليه بنيته ، وبارك له فيه بعمله . وكان له مع حرث الآخرة رزقه المكتوب له في هذه الأرض لا يحرم منه شيئا . بل إن هذا الرزق الذي يعطاه في الأرض قد يكون هو بذاته حرث الآخرة بالقياس إليه ، حين يرجو وجه الله في تثميره وتصريفه والاستمتاع به والإنفاق منه . . ومن كان يريد حرث الدنيا أعطاه الله من عرض الدنيا رزقه المكتوب له لا يحرم منه شيئا . ولكن لم يكن له في الآخرة نصيب . فهو لم يعمل في حرث الآخرة شيئاً ينتظر عليه ذلك النصيب
ونظرة إلى طلاب حرث الدنيا وطلاب حرث الآخرة ، تكشف عن الحماقة في إرادة حرث الدنيا فرزق الدنيا يتلطف الله فيمنحه هؤلاء وهؤلاء . فلكل منهما نصيبه من حرث الدنيا وفق المقدور له في علم الله . ثم يبقى حرث الآخرة خالصا لمن أراده وعمل فيه .
ومن طلاب حرث الدنيا نجد الأغنياء والفقراء؛ بحسب أسباب الرزق المتعلقة بالأوضاع العامة والاستعدادات الخاصة . وكذلك نجد الحال عند طلاب حرث الآخرة سواء بسواء . ففي هذه الأرض لا اختلاف بين الفريقين في قضية الرزق . إنما يظهر الاختلاف والامتياز هناك فمن هو الأحمق الذي يترك حرث الآخرة . وتركه لا يغير من أمره شيئا في هذه الحياة؟
والأمر في النهاية مرتبط بالحق والميزان الذي نزل به الكتاب من عند الله . فالحق والعدل ظاهران في تقدير الرزق لجميع الأحياء . وفي زيادة حرث الآخرة لمن يشاء . وفي حرمان الذين يريدون حرث الدنيا من حرث الآخرة يوم الجزاء . .
ومن ثم يبدأ جولة أخرى حول الحقيقة الأولى :
{ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله؟ ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم ، وإن الظالمين لهم عذاب أليم .

ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات ، لهم ما يشاءون عند ربهم ، ذلك هو الفضل الكبير . ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، قل : لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى؛ ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً ، إن الله غفور شكور } . .
في فقرة سابقة قرر أن ما شرعه الله للأمة المسلمة هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ، وهو ما أوحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم وفي هذه الفقرة يتساءل في استنكار عما هم فيه وما هم عليه ، من ذا شرعه لهم ما دام الله لم يشرعه؟ وهو مخالف لما شرعه منذ أن كان هناك رسالات وتشريعات؟
{ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله؟ } . .
وليس لأحد من خلق الله أن يشرع غير ما شرعه الله وأذن به كائنا من كان؛ فالله وحده هو الذي يشرع لعباده . بما أنه سبحانه هو مبدع هذا الكون كله ، ومدبره بالنواميس الكلية الكبرى التي اختارها له . والحياة البشرية إن هي إلا ترس صغير في عجلة هذا الكون الكبير ، فينبغي أن يحكمها تشريع يتمشى مع تلك النواميس؛ ولا يتحقق هذا إلا حين يشرع لها المحيط بتلك النواميس . وكل من عدا الله قاصر عن تلك الإحاطة بلا جدال . فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور .
ومع وضوح هذه الحقيقة إلى حد البداهة؛ فإن الكثيرين يجادلون فيها ، أو لا يقتنعون بها ، وهم يجرؤون على استمداد التشريع من غير ما شرع الله ، زاعمين أنهم يختارون الخير لشعوبهم ، ويوائمون بين ظروفهم والتشريع الذي ينشئونه من عند أنفسهم . كأنما هم أعلم من الله وأحكم من الله أو كأنما لهم شركاء من دون الله يشرعون لهم ما لم يأذن به الله وليس أخيب من ذلك ولا أجرأ على الله
لقد شرع الله للبشرية ما يعلم سبحانه ، أنه يتناسق مع طبيعتها وفطرتها وطبيعة الكون الذي تعيش فيه وفطرته . ومن ثم يحقق لهذه البشرية أقصى درجات التعاون فيما بينها ، والتعاون كذلك مع القوى الكونية الكبرى . شرع في هذا كله أصولاً ، وترك للبشر فقط استنباط التشريعات الجزئية المتجددة مع حاجات الحياة المتجددة ، في حدود المنهج الكلي والتشريعات العامة . فإذا ما اختلف البشر في شىء من هذا ردوه إلى الله؛ ورجعوا به إلى تلك الأصول الكلية التي شرعها للناس ، لتبقى ميزاناً يزن به البشر كل تشريع جزئي وكل تطبيق .
بذلك يتوحد مصدر التشريع ، ويكون الحكم لله وحده . وهو خير الحاكمين . وما عدا هذا النهج فهو خروج على شريعة الله ، وعلى دين الله ، وعلى ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً عليهم الصلاة والسلام .

{ ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم } . .
فقد قال الله كلمة الفصل بإمهالهم إلى يوم القول الفصل . ولولاها لقضى الله بينهم ، فأخذ المخالفين لما شرعه الله ، المتبعين لشرع من عداه . لأخذهم بالجزاء العاجل . ولكنه أمهلهم ليوم الجزاء .
{ وإن الظالمين لهم عذاب أليم } . .
فهذا هو الذي ينتظرهم جزاء الظلم . وهل أظلم من المخالفة عن شرع الله إلى شرع من عداه؟
ومن ثم يعرض هؤلاء الظالمين في مشهد من مشاهد القيامة . يعرضهم خائفين من العذاب وكانوا من قبل لا يشفقون ، بل يستعجلون ويستهترون :
{ ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم } . .
والتعبير العجيب يجعل إشفاقهم { مما كسبوا } فكأنما هو غول مفزع؛ وهو هو الذي كسبوه وعملوه بأيديهم وكانوا به فرحين ولكنهم اليوم يشفقون منه ويفزعون { وهو واقع بهم } . . وكأنه هو بذاته انقلب عذابا لا مخلص منه ، وهو واقع بهم
وفي الصفحة الأخرى نجد المؤمنين الذين كانوا يشفقون من هذا اليوم ويخافون . نجدهم في أمن وعافية ورخاء :
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات ، لهم ما يشاءون عند ربهم . ذلك هو الفضل الكبير . ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات } . .
والتعبير كله رُخاء يرسم ظلال الرخاء : { في روضات الجنات } . . { لهم ما يشاءون عند ربهم } بلا حدود ولا قيود . { ذلك هو الفضل الكبير } . . { ذلك الذي يبشر الله عباده } فهو بشرى حاضرة ، مصداقاً للبشرى السالفة . وظل البشرى هنا هو أنسب الظلال .
وعلى مشهد هذا النعيم الرخاء الجميل الظليل يلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : إنه لا يطلب منهم أجراً على الهدى الذي ينتهي بهم إلى هذا النعيم ، وينأى بهم عن ذلك العذاب الأليم . إنما هي مودته لهم لقرابتهم منه ، وحسبه ذلك أجراً :
{ قل : لا أسألكم عليه أجرا . إلا المودة في القربى . ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا . إن الله غفور شكور } . .
والمعنى الذي أشرت إليه ، وهو أنه لا يطلب منهم أجرا ، إنما تدفعه المودة للقربى وقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة بكل بطن من بطون قريش ليحاول هدايتهم بما معه من الهدى ، ويحقق الخير لهم إرضاء لتلك المودة التي يحملها لهم ، وهذا أجره وكفى
هذا المعنى هو الذي انقدح في نفسي وأنا أقرأ هذا التعبير القرآني في مواضعه التي جاء فيها . وهناك تفسير مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أثبته هنا لوروده في صحيح البخاري :
قال البخاري حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة ، قال : سمعت طاووسا يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل عن قوله تعالى : { إلا المودة في القربى } فقال سعيد بن جبير : قربى آل محمد .

وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

هذا القسم الثاني من السورة يمضي في الحديث عن دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق وعن آثار القدرة فيما يحيط بالناس ، وفيما يتعلق مباشرة بحياتهم ومعاشهم ، وفي صفة المؤمنين التي تميز جماعتهم . . وذلك بعد الحديث في القسم الأول عن الوحي والرسالة من جوانبها المتعددة . . ثم يعود في نهاية السورة إلى الحديث عن طبيعة الوحي وطريقته . وبين القسمين اتصال ظاهر ، فهما طريقان إلى القلب البشري ، يصلانه بالوحي والإيمان .
{ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات ، ويعلم ما تفعلون . ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله ، والكافرون لهم عذاب شديد . ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض . ولكن ينزل بقدر ما يشاء ، إنه بعباده خبير بصير } . .
تجيء هذه اللمسة بعد ما سبق من مشهد الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم ، ومشهد الذين آمنوا في روضات الجنات . ونفي كل شبهة عن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغهم به عن الله . وتقرير علم الله بذوات الصدور .
تجيء لترغيب من يريد التوبة والرجوع عما هو فيه من ضلالة ، قبل أن يقضى في الأمر القضاء الأخير . ويفتح لهم الباب على مصراعيه : فالله يقبل عنهم التوبة ، ويعفو عن السيئات؛ فلا داعي للقنوط واللجاج في المعصية ، والخوف مما أسلفوا من ذنوب . والله يعلم ما يفعلون . فهو يعلم التوبة الصادقة ويقبلها . كما يعلم ما أسلفوا من السيئات ويغفرها .
وفي ثنايا هذه اللمسة يعود إلى جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين . فالذين آمنوا وعملوا الصالحات يستجيبون لدعوة ربهم ، وهو يزيدهم من فضله . { والكافرون لهم عذاب شديد } . . وباب التوبة مفتوح للنجاة من العذاب الشديد ، وتلقي فضل الله لمن يستجيب .
وفضل الله في الآخرة بلا حساب ، وبلا حدود ولا قيود . فأما رزقه لعباده في الأرض فهو مقيد محدود؛ لما يعلمه سبحانه من أن هؤلاء البشر لا يطيقون في الأرض - أن يتفتح عليهم فيض الله غير المحدود :
{ ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ، ولكن ينزل بقدر ما يشاء . إنه بعباده خبير بصير } . .
وهذا يصور نزارة ما في هذه الحياة الدنيا من أرزاق مهما كثرت بالقياس إلى ما في الآخرة من فيض غزير . فالله يعلم أن عباده ، هؤلاء البشر ، لا يطيقون الغنى إلا بقدر ، وأنه لو بسط لهم في الرزق من نوع ما يبسط في الآخرة لبغوا وطغوا . إنهم صغار لا يملكون التوازن . ضعاف لا يحتملون إلا إلى حد . والله بعباده خبير بصير . ومن ثم جعل رزقهم في هذه الأرض مقدرا محدوداً ، بقدر ما يطيقون . واستبقى فيضه المبسوط لمن ينجحون في بلاء الأرض ، ويجتازون امتحانها ، ويصلون إلى الدار الباقية بسلام .

ليتلقوا فيض الله المذخور لهم بلا حدود ولا قيود .
{ وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ، وينشر رحمته ، وهو الولي الحميد } . .
وهذه لمسة أخرى كذلك تذكرهم بجانب من فضل الله على عباده في الأرض . وقد غاب عنهم الغيث ، وانقطع عنهم المطر ، ووقفوا عاجزين عن سبب الحياة الأول . . الماء . . وأدركهم اليأس والقنوط . ثم ينزل الله الغيث ، ويسعفهم بالمطر ، وينشر رحمته ، فتحيا الأرض ، ويخضر اليابس ، وينبت البذر ، ويترعرع النبات ، ويلطف الجو ، وتنطلق الحياة ، ويدب النشاط ، وتنفرج الأسارير ، وتتفتح القلوب ، وينبض الأمل ، ويفيض الرجاء . . وما بين القنوط والرحمة إلا لحظات . تتفتح فيها أبواب الرحمة . فتتفتح أبواب السماء بالماء . . { وهو الولي الحميد } . . وهو النصير والكافل المحمود الذات والصفات . .
واللفظ القرآني المختار للمطر في هذه المناسبة . . { الغيث } . . يلقي ظل الغوث والنجدة ، وتلبية المضطر في الضيق والكربة . كما أن تعبيره عن آثار الغيث . . { وينشر رحمته } . . يلقي ظلال النداوة والخضرة والرجاء والفرح ، التي تنشأ فعلاً عن تفتح النبات في الأرض وارتقاب الثمار . وما من مشهد يريح الحس والأعصاب ، ويندّي القلب والمشاعر ، كمشهد الغيث بعد الجفاف . وما من مشهد ينفض هموم القلب وتعب النفس كمشهد الأرض تتفتح بالنبت بعد الغيث ، وتنتشي بالخضرة بعد الموات .
{ ومن آياته خلق السماوات والأرض ، وما بث فيهما من دابة . وهو على جمعهم إذا يشاء قدير . وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ، ويعفو عن كثير . وما أنتم بمعجزين في الأرض ، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } . .
وهذه الآية الكونية معروضة على الأنظار ، قائمة تشهد بذاتها على ما جاء الوحي ليشهد به ، فارتابوا فيه واختلفوا في تأويله . وآية السماوات والأرض لا تحتمل جدلا ولا ريبة . فهي قاطعة في دلالتها ، تخاطب الفطرة بلغتها ، وما يجادل فيها مجادل وهو جاد . إنها تشهد بأن الذي أنشأها ودبرها ليس هو الإنسان ، ولا غيره من خلق الله . ولا مفر من الاعتراف بمنشئ مدبر . فإن ضخامتها الهائلة ، وتناسقها الدقيق ، ونظامها الدائب ، ووحدة نواميسها الثابتة . . كل أولئك لا يمكن تفسيره عقلاً إلا على أساس أن هناك إلها أنشأها ويدبرها . أما الفطرة فهي تتلقى منطق الكون تلقياً مباشراً ، وتدركه وتطمئن إليه ، قبل أن تسمع عنه كلمة واحدة من خارجها
وتنطوي آية السماوات والأرض على آية أخرى في ثناياها : { وما بث فيهما من دابة } . . والحياة في هذه الأرض وحدها ودع عنك ما في السماوات من حيوات أخرى لا ندركها آية أخرى . وهي سر لم ينفذ إلى طبيعته أحد ، فضلاً على التطلع إلى إنشائه . سر غامض لا يدري أحد من أين جاء ، ولا كيف جاء ، ولا كيف يتلبس بالأحياء وكل المحاولات التي بذلت للبحث عن مصدره أو طبيعته أغلقت دونها الستر والأبواب؛ وانحصرت البحوث كلها في تطور الأحياء بعد وجود الحياة وتنوعها ووظائفها؛ وفي هذا الحيز الضيق المنظور اختلفت الآراء والنظريات .

فأما ما وراء الستر فبقي سراً خافياً لا تمتد إليه عين ، ولا يصل إليه إدراك . . إنه من أمر الله . الذي لا يدركه سواه .
هذه الأحياء المبثوثة في كل مكان . فوق سطح الأرض وفي ثناياها . وفي أعماق البحر وفي أجواز الفضاء ودع عنك تصور الأحياء الأخرى في السماء هذه الأحياء المبثوثة التي لا يعلم الإنسان منها إلا النزر اليسير ، ولا يدرك منها بوسائله المحدودة إلا القليل المشهور . هذه الأحياء التي تدب في السماوات والأرض يجمعها الله حين يشاء ، لا يضل منها فرد واحد ولا يغيب
وبنو الإنسان يعجزهم أن يجمعوا سربا من الطير الأليف ينفلت من أقفاصهم ، أو سرباً من النحل يطير من خلية لهم
وأسراب من الطير لا يعلم عددها إلا الله . وأسراب من النحل والنمل وأخواتها لا يحصيها إلا الله . وأسراب من الحشرات والهوام والجراثيم لا يعلم مواطنها إلا الله . وأسراب من الأسماك وحيوان البحر لا يطلع عليها إلا الله . وقطعان من الأنعام والوحش سائمة وشاردة في كل مكان ، وقطعان من البشر مبثوثة في الأرض في كل مكان . . ومعها خلائق أربى عدداً وأخفى مكاناً في السماوات من خلق الله . . كلها . . كلها . . يجمعها الله حين يشاء . .
وليس بين بثها في السماوات والأرض وجمعها إلا كلمة تصدر . والتعبير يقابل بين مشهد البث ومشهد الجمع في لمحة على طريقة القرآن؛ فيشهد القلب هذين المشهدين الهائلين قبل أن ينتهي اللسان من آية واحدة قصيرة من القرآن
وفي ظل هذين المشهدين يحدثهم عما يصيبهم في هذه الحياة بما كسبت أيديهم . لا كله . فإن الله لا يؤاخذهم بكل ما يكسبون . ولكن يعفو منه عن كثير . ويصور لهم عجزهم ويذكرهم به ، وهم قطاع صغير في عالم الأحياء الكبير :
{ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير . وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } .
وفي الآية الأولى يتجلى عدل الله ، وتتجلى رحمته بهذا الإنسان الضعيف . فكل مصيبة تصيبه لها سبب مما كسبت يداه؛ ولكن الله لا يؤاخذه بكل ما يقترف؛ وهو يعلم ضعفه وما ركب في فطرته من دوافع تغلبه في أكثر الأحيان ، فيعفو عن كثير ، رحمة منه وسماحة .
وفي الآية الثانية يتجلى ضعف هذا الإنسان ، فما هو بمعجز في الأرض ، وما له من دون الله من ولي ولا نصير . فأين يذهب إلا أن يلتجئ إلى الولي والنصير؟
{ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام . إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره . إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور . أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير .

ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص } . .
والسفن الجواري في البحر كالجبال آية أخرى من آيات الله . آية حاضرة مشهودة . آية تقوم على آيات كلها من صنع الله دون جدال . هذا البحر من أنشأه؟ مَن مِن البشر أو غيرهم يدعي هذا الادعاء؟ ومن أودعه خصائصه من كثافة وعمق وسعة حتى يحمل السفن الضخام؟ وهذه السفن من أنشأ مادتها وأودعها خصائصها فجعلها تطفو على وجه الماء؟ وهذه الريح التي تدفع ذلك النوع من السفن التي كانت معلومة وقتها للمخاطبين ( وغير الريح من القوى التي سخرت للإنسان في هذا الزمان من بخار أو ذرة أو ما يشاء الله بعد الآن ) من جعلها قوة في هذا الكون تحرك الجواري في البحر كالأعلام؟ . .
{ إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره } . .
وإنها لتركد أحياناً فتهمد هذه الجواري وتركد كما لو كانت قد فارقتها الحياة
{ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } . .
في إجرائهن وفي ركودهن على السواء آيات لكل صبار شكور . والصبر والشكر كثيراً ما يقترنان في القرآن . الصبر على الابتلاء والشكر على النعماء؛ وهما قوام النفس المؤمنة في الضراء والسراء .
{ أو يوبقهن بما كسبوا } . .
فيحطمهن أو يغرقهن بما كسب الناس من ذنب ومعصية ومخالفة عن الإيمان الذي تدين به الخلائق كلها ، فيما عدا بعض بني الإنسان
{ ويعف عن كثير } . .
فلا يؤاخذ الناس بكل ما يصدر منهم من آثام ، بل يسمح ويعفو ويتجاوز منها عن كثير .
{ ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص } . .
لو شاء الله أن يقفهم أمام بأسه ، ويوبق سفائنهم ، وهم لا يملكون منها نجاة
وهكذا يشعرهم بأن ما يملكون من أعراض هذه الحياة الدنيا ، عرضة كله للذهاب ، فلا ثبات ولا استقرار لشيء إلا الصلة الوثيقة بالله .
ثم يخطو بهم خطوة أخرى ، وهو يلفتهم إلى أن كل ما أتوه في هذه الأرض متاع موقوت في هذه الحياة الدنيا . وأن القيمة الباقية هي التي يدخرها الله في الآخرة للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون . ويستطرد فيحدد صفة المؤمنين هؤلاء ، بما يميزهم ، ويفردهم أمة وحدهم ذات خصائص وسمات
{ فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا ، وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون . والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ، وإذا ما غضبوا هم يغفرون ، والذين استجابوا لربهم ، وأقاموا الصلاة ، وأمرهم شورى بينهم ، ومما رزقناهم ينفقون . والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون . وجزاء سيئة سيئة مثلها ، فمن عفا وأصلح فأجره على الله ، إنه لا يحب الظالمين . ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل . إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق ، أولئك لهم عذاب أليم . ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } .

.
لقد سبق في السورة أن صور القرآن حالة البشرية؛ وهو يشير إلى أن الذين أوتوا الكتاب تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم؛ وكان تفرقهم بغيا بينهم لا جهلاً بما نزل الله لهم من الكتاب ، وبما سن لهم من نهج ثابت مطرد من عهد نوح إلى عهد إبراهيم إلى عهد موسى إلى عهد عيسى عليهم صلوات الله وهو يشير كذلك إلى أن الذين أورثوا الكتاب بعد أولئك المختلفين ، ليسوا على ثقة منه ، بل هم في شك منه مريب .
وإذا كان هذا حال أهل الأديان المنزلة ، وأتباع الرسل صلوات الله عليهم فحال أولئك الذين لا يتبعون رسولا ولا يؤمنون بكتاب أضل وأعمى .
ومن ثم كانت البشرية في حاجة إلى قيادة راشدة ، تنقذها من تلك الجاهلية العمياء التي كانت تخوض فيها . وتأخذ بيدها إلى العروة الوثقى؛ وتقود خطاها في الطريق الواصل إلى الله ربها ورب هذا الوجود جميعا .
ونزل الله الكتاب على عبده محمد صلى الله عليه وسلم قرآناً عربياً ، لينذر أم القرى ومن حولها؛ وشرع فيه ما وصى به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ، ليصل بين حلقات الدعوة منذ فجر التاريخ ، ويوحد نهجها وطريقها وغايتها؛ ويقيم بها الجماعة المسلمة التي تهيمن وتقود؛ وتحقق في الأرض وجود هذه الدعوة كما أرادها الله ، وفي الصورة التي يرتضيها .
وهنا في هذه الآيات يصور خصائص هذه الجماعة التي تطبعها وتميزها . ومع أن هذه الآيات مكية ، نزلت قبل قيام الدولة المسلمة في المدينة ، فإننا نجد فيها أن من صفة هذه الجماعة المسلمة : { وأمرهم شورى بينهم } . . مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظاماً سياسياً للدولة ، فهو طابع أساسي للجماعة كلها ، يقوم عليه أمرها كجماعة ، ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة ، بوصفها إفرازاً طبيعيا للجماعة . كذلك نجد من صفة هذه الجماعة : { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } . . مع أن الأمر الذي كان صادراً للمسلمين في مكة هو أن يصبروا وألا يردوا العدوان بالعدوان ، إلى أن صدر لهم أمر آخر بعد الهجرة وأذن لهم في القتال . وقيل لهم : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير } وذكر هذه الصفة هنا في آيات مكية بصدد تصوير طابع الجماعة المسلمة يوحي بأن صفة الانتصار من البغي صفة أساسية ثابتة؛ وأن الأمر الأول بالكف والصبر كان أمراً استثنائياً لظروف معينة . وأنه لما كان المقام هنا مقام عرض الصفات الأساسية للجماعة المسلمة ذكر منها هذه الصفة الأساسية الثابتة ، ولو أن الآيات مكية ، ولم يكن قد أذن لهم بعد في الانتصار من العدوان .
وذكر هذه الصفات المميزة لطابع الجماعة المسلمة ، المختارة لقيادة البشرية وإخراجها من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام .

ذكرها في سورة مكية وقبل أن تكون القيادة العملية في يدها فعلا ، جدير بالتأمل . فهي الصفات التي يجب أن تقوم أولا ، وأن تتحقق في الجماعة لكي تصبح بها صالحة للقيادة العملية . ومن ثم ينبغي أن نتدبرها طويلا . . ما هي؟ ما حقيقتها؟ وما قيمتها في حياة البشرية جميعاً؟
إنها الإيمان . والتوكل . واجتناب كبائر الإثم والفواحش . والمغفرة عند الغضب . والاستجابة لله . وإقامة الصلاة . والشورى الشاملة . والإنفاق مما رزق الله . والانتصار من البغي . والعفو . والإصلاح . والصبر .
فما حقيقة هذه الصفات وما قيمتها؟ يحسن أن نبين هذا ونحن نستعرض الصفات في نسقها القرآني .
إنه يقف الناس أمام الميزان الإلهي الثابت لحقيقة القيم . القيم الزائلة والقيم الباقية؛ كي لا يختلط الأمر في نفوسهم ، فيختل كل شيء في تقديرهم . ويجعل هذا الميزان مقدمة لبيان صفة الجماعة المسلمة :
{ فما أوتيتم من شىء فمتاع الحياة الدنيا ، وما عند الله خير وأبقى } . .
إن في هذه الأرض متاعاً جذاباً براقاً ، وهناك أرزاق وأولاد وشهوات ولذائذ وجاه وسلطان؛ وهناك نعم آتاها الله لعباده في الأرض تلطفا منه وهبة خالصة ، لا يعلقها بمعصية ولا طاعة في هذه الحياة الدنيا . وإن كان يبارك للطائع ولو في القليل ويمحق البركة من العاصي ولو كان في يده الكثير .
ولكن هذا كله ليس قيمة ثابتة باقية . إنما هو متاع . متاع محدود الأجل . لا يرفع ولا يخفض ، ولا يعد بذاته دليل كرامة عند الله أو مهانة؛ ولا يعتبر بذاته علامة رضى من الله أو غضب . إنما هو متاع . { وما عند الله خير وأبقى } . . خير في ذاته . وأبقى في مدته . فمتاع الحياة الدنيا زهيد حين يقاس إلى ما عند الله ، ومحدود حين يقاس إلى الفيض المنساب . ومتاع الحياة الدنيا معدود الأيام . أقصى أمده للفرد عمر الفرد ، وأقصى أمده للبشرية عمر هذه البشرية؛ وهو بالقياس إلى أيام الله ومضة عين أو تكاد .
وبعد تقرير هذه الحقيقة في بيان صفة المؤمنين الذين يذخر الله لهم ما هو خير وأبقى . .
ويبدأ بصفة الإيمان . { وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا } . . وقيمة الإيمان أنه معرفة بالحقيقة الأولى التي لا تقوم في النفس البشرية معرفة صحيحة لشىء في هذا الوجود إلا عن طريقها . فمن طريق الإيمان بالله ينشأ إدراك لحقيقة هذا الوجود ، وأنه من صنع الله؛ وبعد إدراك هذه الحقيقة يستطيع الإنسان أن يتعامل مع الكون وهو يعرف طبيعته كما يعرف قوانينه التي تحكمه . ومن ثم ينسق حركته هو مع حركة هذا الوجود الكبير ، ولا ينحرف عن النواميس الكلية ، فيسعد بهذا التناسق ، ويمضي مع الوجود كله إلى بارئ الوجود في طاعة واستسلام وسلام . وهذه الصفة لازمة لكل إنسان ، ولكنها ألزم ما تكون للجماعة التي تقود البشرية إلى بارئ الوجود .

وقيمة الإيمان كذلك الطمأنينة النفسية ، والثقة بالطريق ، وعدم الحيرة أو التردد ، أو الخوف أو اليأس . وهذه الصفات لازمة لكل إنسان في رحلته على هذا الكوكب؛ ولكنها ألزم ما تكون للقائد الذي يرتاد الطريق ، ويقود البشرية في هذا الطريق .
وقيمة الإيمان التجرد من الهوى والغرض والصالح الشخصي وتحقيق المغانم . إذ يصبح القلب متعلقاً بهدف أبعد من ذاته؛ ويحس أن ليس له من الأمر شىء ، إنما هي دعوة الله ، وهو فيها أجير عند الله وهذا الشعور ألزم ما يكون لمن توكل إليه مهمة القيادة كي لا يقنط إذا أعرض عنه القطيع الشارد أو أوذي في الدعوة؛ ولا يغتر إذا ما استجابت له الجماهير ، أو دانت له الرقاب . فإنما هو أجير .
ولقد آمنت العصبة الأولى من المسلمين إيماناً كاملاً أثر في نفوسهم وأخلاقهم وسلوكهم تأثيراً عجيباً . وكانت صورة الإيمان في نفس البشرية قد بهتت وغمضت حتى فقدت تأثيرها في أخلاق الناس وسلوكهم ، فلما أن جاء الإسلام أنشأ صورة للإيمان حية مؤثرة فاعلة تصلح بها هذه العصبة للقيادة التي وضعت على عاتقها .
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه : « ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين » . عن هذا الإيمان :
« انحلت العقدة الكبرى عقدة الشرك والكفر فانحلت العقد كلها؛ وجاهدهم الرسول جهاده الأول ، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر ونهي؛ وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى ، فكان النصر حليفه في كل معركة؛ وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة ، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى ، ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى . . . . »
« حتىإذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم وأنصفوا من أنفسهم إنصافهم من غيرهم ، وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة ، وفي اليوم رجال الغد ، لا تجزعهم مصيبة ، ولا تبطرهم نعمة ، ولا يشغلهم فقر ، ولا يطغيهم غنى ، ولا تلهيهم تجارة ، ولا تستخفهم قوة ، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا ، وأصبحوا للناس القسطاس المستقيم ، قوامين بالقسط شهداء لله على أنفسهم أو الوالدين والأقربين . . وطأ لهم أكناف الأرض ، وأصبحوا عصمة للبشرية ، ووقاية للعالم . وداعية إلى دين الله . . . »
ويقول عن تأثير الإيمان الصحيح في الأخلاق والميول :
« كان الناس عرباً وعجماً يعيشون حياة جاهلية ، يسجدون فيها لكل ما خلق لأجلهم ويخضع لإرادتهم وتصرفهم ، لا يثيب الطائع بجائزة ، ولا يعذب العاصي بعقوبة ، ولا يأمر ولا ينهى؛ فكانت الديانة سطحية طافية في حياتهم ، ليس لها سلطان على أرواحهم ونفوسهم وقلوبهم ، ولا تأثير لها في أخلاقهم واجتماعهم . كانوا يؤمنون بالله كصانع أتم عمله واعتزل وتنازل عن مملكته لأناس خلع عليهم خلعة الربوبية؛ فأخذوا بأيديهم أزمة الأمر ، وتولوا إدارة المملكة وتدبير شؤونها وتوزيع أرزاقها ، إلى غير ذلك من مصالح الحكومة المنظمة .

فكان إيمانهم بالله لا يزيد على معرفة تاريخية ، وكان إيمانهم بالله ، وإحالتهم خلق السماوات والأرض إلى الله لا يختلف عن جواب تلميذ من تلاميذ فن التاريخ ، يقال له : من بني هذا القصر العتيق؟ فيسمي ملكا من الملوك الأقدمين من غير أن يخافه ويخضع له؛ فكان دينهم عارياً عن الخشوع لله ودعائه ، وما كانوا يعرفون عن الله ما يحببه إليهم ، فكانت معرفتهم مبهمة غامضة ، قاصرة مجملة ، لا تبعث في نفوسهم هيبة ولا محبة « . .
» . . . انتقل العرب والذين أسلموا من هذه المعرفة العليلة الغامضة الميتة إلى معرفة عميقة واضحة روحية ذات سلطان على الروح والنفس والقلب والجوارح ، ذات تأثير في الأخلاق والاجتماع ، ذات سيطرة على الحياة وما يتصل بها . آمنوا بالله الذي له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى . آمنوا برب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور ، العزيز ، الحكيم ، الغفور ، الودود ، الرؤوف ، الرحيم ، له الخلق والأمر ، بيده ملكوت كل شيء ، يجير ولا يجار عليه . . إلى آخر ما جاء في القرآن من وصفه . يثيب بالجنة ويعذب بالنار ، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، يعلم الخبء في السماوات والأرض ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . إلى آخر ما جاء في القرآن من قدرته وتصرفه وعلمه . فانقلبت نفسيتهم بهذا الإيمان الواسع العميق الواضح انقلاباً عجيبا . فإذا آمن أحد بالله وشهد أن لا إله إلا الله انقلبت حياته ظهراً لبطن . تغلغل الإيمان في أحشائه وتسرب إلى جميع عروقه ومشاعره ، وجرى منه مجرى الروح والدم ، واقتلع جراثيم الجاهلية وجذورها . وغمر العقل والقلب بفيضانه ، وجعل منه رجلاً غير الرجل ، وظهر منه من روائع الإيمان واليقين والصبر والشجاعة ، ومن خوارق الأفعال والأخلاق ما حير العقل والفلسفة وتاريخ الأخلاق ، ولا يزال موضع حيرة ودهشة منه إلى الأبد ، وعجز العلم عن تعليله بشيء غير الإيمان الكامل العميق « .
» وكان هذا الإيمان مدرسة خلقية وتربية نفسية تملي على صاحبها الفضائل الخلقية من صرامة إرادة وقوة نفس ، ومحاسبتها والإنصاف منها ، وكان أقوى وازع عرفه تاريخ الأخلاق وعلم النفس عن الزلات الخلقية والسقطات البشرية؛ حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان ، وسقط الإنسان سقطة وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ، ولا تتناوله يد القانون ، تحول هذا الإيمان نفساً لوامة عنيفة ، ووخزاً لاذعاً للضمير ، وخيالاً مروعاً ، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون ، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ، ويتحملها مطمئناً مرتاحاً ، تفاديا من سخط الله وعقوبة الآخرة « . .
» . . . وكان هذا الإيمان حارساً لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته ، يملك نفسه النّزع أمام المطامع والشهوات الجارفة؛ وفي الخلوة والوحدة حيث لا يراه أحد ، وفي سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحدا .

وقد وقع في تاريخ الفتح الإسلامي من قضايا العفاف عند المغنم ، وأداء الأمانات إلى أهلها ، والإخلاص لله ، ما يعجز التاريخ البشري عن نظائره ، وما ذاك إلا نتيجة رسوخ الإيمان ، ومراقبة الله واستحضار علمه في كل مكان وزمان « .
» وكانوا قبل هذا الإيمان في فوضى من الأفعال والأخلاق والسلوك والأخذ والترك والسياسة والاجتماع ، لا يخضعون لسلطان ، ولا يقرون بنظام ، ولا ينخرطون في سلك ، يسيرون على الأهواء ، ويركبون العمياء ، ويخبطون خبط عشواء . فأصبحوا الآن في حظيرة الإيمان والعبودية لا يخرجون منها ، واعترفوا لله بالملك والسلطان ، والأمر والنهي ، ولأنفسهم بالرعوية والعبودية والطاعة المطلقة ، وأعطوا من أنفسهم المقادة ، واستسلموا للحكم الإلهي استسلاماً كاملاً ووضعوا أوزارهم ، وتنازلوا عن أهوائهم وأنانيتهم ، وأصبحوا عبيداً لا يملكون مالاً ولا نفساً ولا تصرفاً في الحياة إلا ما يرضاه الله ويسمح به ، لا يحاربون ولا يصالحون إلا بإذن الله ، ولا يرضون ولا يسخطون ، ولا يعطون ولا يمنعون ، ولا يصلون ولا يقطعون إلا بإذنه ووفق أمره « .
وهذا هو الإيمان الذي تشير إليه الآية وهي تصف الجماعة التي اختيرت لقيادة البشرية بهذه العقيدة . ومن مقتضيات هذا الإيمان التوكل على الله . ولكن القرآن يفرد هذه الصفة بالذكر ويميزها :
{ وعلى ربهم يتوكلون } . .
وهذا التقديم والتأخير في تركيب الجملة يفيد قصر التوكل على ربهم دون سواه . والإيمان بالله الواحد يقتضي التوكل عليه دون سواه . فهذا هو التوحيد في أول صورة من صوره . إن المؤمن يؤمن بالله وصفاته ، ويستيقن أنه لا أحد في هذا الوجود يفعل شيئا إلا بمشيئته ، وأنه لا شيء يقع في هذا الوجود إلا بإذنه . ومن ثم يقصر توكله عليه ، ولا يتوجه في فعل ولا ترك لمن عداه .
وهذا الشعور ضروري لكل أحد ، كي يقف رافع الرأس لا يحني رأسه إلا لله . مطمئن القلب لا يرجو ولا يرهب أحدا إلا الله . ثابت الجأش في الضراء؛ قرير النفس في السراء ، لا تستطيره نعماء ولا بأساء . . ولكن هذا الشعور أشد ضرورة للقائد ، الذي يحتمل تبعة ارتياد الطريق .
{ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } . .
وطهارة القلب ، ونظافة السلوك من كبائر الإثم ومن الفواحش ، أثر من آثار الإيمان الصحيح . وضرورة من ضرورات القيادة الراشدة . وما يبقى قلب على صفاء الإيمان ونقاوته وهو يقدم على كبائر الذنوب والمعاصي ولا يتجنبها . وما يصلح قلب للقيادة وقد فارقه صفاء الإيمان وطمسته المعصية وذهبت بنوره .
ولقد ارتفع الإيمان بالحساسية المرهفة في قلوب العصبة المؤمنة ، حتى بلغت تلك الدرجة التي أشارت إليها المقتطفات السابقة ( ص 77 ) وأهلت الجماعة الأولى لقيادة البشرية قيادة غير مسبوقة ولا ملحوقة .

ولكنها كالسهم يشير إلى النجم ليهتدي به من يشاء في معترك الشهوات
والله يعلم ضعف هذا المخلوق البشري ، فيجعل الحد الذي يصلح به للقيادة ، والذي ينال معه ما عند الله ، هو اجتناب كبائر الإثم والفواحش . لا صغائر الإثم والذنب . وتسعه رحمته بما يقع منه من هذه الصغائر ، لأنه أعلم بطاقته . وهذا فضل من الله وسماحة ورحمة بهذا الإنسان؛ توجب الحياء من الله ، فالسماحة تخجل والعفو يثير في القلب الكريم معنى الحياء .
{ وإذا ما غضبوا هم يغفرون } . .
وتأتي هذه الصفة بعد الإشارة الخفية إلى سماحة الله مع الإنسان في ذنوبه وأخطائه ، فتحبب في السماحة والمغفرة بين العباد . وتجعل صفة المؤمنين أنهم إذا ما غضبوا هم يغفرون .
وتتجلى سماحة الإسلام مرة أخرى مع النفس البشرية؛ فهو لا يكلف الإنسان فوق طاقته . والله يعلم أن الغضب انفعال بشري ينبع من فطرته . وهو ليس شراً كله . فالغضب لله ولدينه وللحق والعدل غضب مطلوب وفيه الخير . ومن ثم لا يحرم الغضب في ذاته ولا يجعله خطيئة . بل يعترف بوجوده في الفطرة والطبيعة ، فيعفي الإنسان من الحيرة والتمزق بين فطرته وأمر دينه . ولكنه في الوقت ذاته يقوده إلى أن يغلب غضبه ، وأن يغفر ويعفو ، ويحسب له هذا صفة مثلى من صفات الإيمان المحببة . هذا مع أنه عرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يغضب لنفسه قط ، إنما كان يغضب لله ، فإذا غضب لله لم يقم لغضبه شىء . ولكن هذه درجة تلك النفس المحمدية العظيمة؛ لا يكلف الله نفوس المؤمنين إياها . وإن كان يحببهم فيها . إنما يكتفي منهم بالمغفرة عند الغضب ، والعفو عند القدرة ، والاستعلاء على شعور الانتقام ، ما دام الأمر في حدود الدائرة الشخصية المتعلقة بالأفراد .
{ والذين استجابوا لربهم } . .
فأزالوا العوائق التي تقوم بينهم وبين ربهم . أزالوا هذه العوائق الكامنة في النفس دون الوصول . وما يقوم بين النفس وربها إلا عوائق من نفسها . . عوائق من شهواتها ونزواتها . عوائق من وجودها هي وتشبثها بذاتها . فأما حين تخلص من هذا كله فإنها تجد الطريق إلى ربها مفتوحاً وموصولا . وحينئذ تستجيب بلا عائق . تستجيب بكلياتها . ولا تقف أمام كل تكليف بعائق من هوى يمنعها . . وهذه هي الاستجابة في عمومها . . ثم أخذ يفصل بعض هذه الاستجابة :
{ وأقاموا الصلاة } . .
وللصلاة في هذا الدين مكانة عظمة ، فهي التالية للقاعدة الأولى فيه . قاعدة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وهي صورة الاستجابة الأولى لله . وهي الصلة بين العبد وربه . وهي مظهر المساواة بين العباد في الصف الواحد ركعاً سجداً ، لا يرتفع رأس على رأس ، ولا تتقدم رجل على رجل
ولعله من هذا الجانب أتبع إقامة الصلاة بصفة الشورى قبل أن يذكر الزكاة :
{ وأمرهم شورى بينهم }
والتعبير يجعل أمرهم كله شورى ، ليصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة .

وهو كما قلنا نص مكي . كان قبل قيام الدولة الإسلامية . فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين . إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها ، ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم فيها بعد .
والواقع أن الدولة في الإسلام ليست سوى إفراز طبيعي للجماعة وخصائصها الذاتية . والجماعة تتضمن الدولة وتنهض وإياها بتحقيق المنهج الإسلامي وهيمنته على الحياة الفردية والجماعية .
ومن ثم كان طابع الشورى في الجماعة مبكراً ، وكان مدلوله أوسع وأعمق من محيط الدولة وشؤون الحكم فيها . إنه طابع ذاتي للحياة الإسلامية ، وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية . وهي من ألزم صفات القيادة .
أما الشكل الذي تتم به الشورى فليس مصبوباً في قالب حديدي؛ فهو متروك للصورة الملائمة لكل بيئة وزمان ، لتحقيق ذلك الطابع في حياة الجماعة الإسلامية . والنظم الإسلامية كلها ليست أشكالاً جامدة ، وليست نصوصاً حرفية ، إنما هي قبل كل شيء روح ينشأ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب ، وتكيف الشعور والسلوك بهذه الحقيقة . والبحث في أشكال الأنظمة الإسلامية دون الاهتمام بحقيقة الإيمان الكامنة وراءها لا يؤدي إلى شيء . . وليس هذا كلاماً عائماً غير مضبوط كما قد يبدو لأول وهلة لمن لا يعرف حقيقة الإيمان بالعقيدة الإسلامية . فهذه العقيدة في أصولها الاعتقادية البحتة ، وقبل أي التفات إلى الأنظمة فيها تحوي حقائق نفسية وعقلية هي في ذاتها شيء له وجود وفاعلية وأثر في الكيان البشري ، يهيئ لإفراز أشكال معينة من النظم وأوضاع معينة في الحياة البشرية؛ ثم تجيء النصوص بعد ذلك مشيرة إلى هذه الأشكال والأوضاع ، لمجرد تنظيمها لا لخلقها وإنشائها . ولكي يقوم أي شكل من أشكال النظم الإسلامية ، لا بد قبلها من وجود مسلمين ، ومن وجود إيمان ذي فاعلية وأثر . وإلا فكل الأشكال التنظيمية لا تفي بالحاجة ، ولا تحقق نظاماً يصح وصفه بأنه إسلامي . .
ومتى وجد المسلمون حقاً ، ووجد الإيمان في قلوبهم بحقيقته ، نشأ النظام الإسلامي نشأة ذاتية ، وقامت صورة منه تناسب هؤلاء المسلمين وبيئتهم وأحوالهم كلها؛ وتحقق المبادئ الإسلامية الكلية خير تحقيق .
{ ومما رزقناهم ينفقون } . .
وهو نص مبكر كذلك على تحديد فرائض الزكاة التي حددت في السنة الثانية من الهجرة . ولكن الإنفاق العام من رزق الله كان توجيها مبكراً في حياة الجماعة الإسلامية . بل إنه ولد مع مولدها .
ولا بد للدعوة من الإنفاق . لا بد منه تطهيراً للقلب من الشح ، واستعلاء على حب الملك ، وثقة بما عند الله . وكل هذه ضرورية لاستكمال معنى الإيمان . ثم إنها ضرورية كذلك لحياة الجماعة . فالدعوة كفاح . ولا بد من التكافل في هذا الكفاح وجرائره وآثاره . وأحياناً يكون هذا التكافل كاملاً بحيث لا يبقى لأحد مال متميز .

كما حدث في أول العهد بهجرة المهاجرين من مكة ، ونزولهم على إخوانهم في المدينة . حتى إذا هدأت حدة الظروف وضعت الأسس الدائمة للإنفاق في الزكاة .
وعلى أية حال فالإنفاق في عمومه سمة من سمات الجماعة المؤمنة المختارة للقيادة بهذه الصفات . .
{ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } .
وذكر هذه الصفة في القرآن المكي ذو دلالة خاصة كما سلف . فهي تقرير لصفة أساسية في الجماعة المسلمة . صفة الانتصار من البغي ، وعدم الخضوع للظلم . وهذا طبيعي بالنسبة لجماعة أخرجت للناس لتكون خير أمة . لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتهيمن على حياة البشرية بالحق والعدل؛ وهي عزيزة بالله . { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } فمن طبيعة هذه الجماعة ووظيفتها أن تنتصر من البغي وأن تدفع العدوان . وإذا كانت هناك فترة اقتضت لأسباب محلية في مكة ، ولمقتضيات تربوية في حياة المسلمين الأوائل من العرب خاصة ، أن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فذلك أمر عارض لا يتعلق بخصائص الجماعة الثابتة الأصيلة .
ولقد كانت هنالك أسباب خاصة لاختيار أسلوب المسالمة والصبر في العهد المكي :
منها أن إيذاء المسلمين الأوائل وفتنتهم عن دينهم لم تكن تصدر من هيئة مسيطرة على الجماعة . فالوضع السياسي والاجتماعي في الجزيرة كان وضعاً قبلياً مخلخلاً . ومن ثم كان الذين يتولون إيذاء الفرد المسلم هم خاصة أهله إن كان ذا نسب ، ولم يكن أحد غير خاصة أهله يجرؤ على إيذائه ولم يقع إلا في الندرة أن وقع اعتداء جماعي على فرد مسلم أو على المسلمين كجماعة كما كان السادة يؤذون مواليهم إلى أن يشتريهم المسلمون ويعتقوهم فلا يجرؤ على إيذائهم غالباً . ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يحب أن تقع معركة في كل بيت بين الفرد المسلم من هذا البيت والذين لم يسلموا بعد . والمسالمة كانت أقرب إلى إلانة القلوب من المخاشنة .
ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة نخوة تثور لصاحب الحق الذي يقع عليه الأذى . واحتمال المسلمين للأذى وصبرهم على عقيدتهم ، كان أقرب إلى استثارة هذه النخوة في صف الإسلام والمسلمين . وهذا ما حدث بالقياس إلى حادث الشعب وحصر بني هاشم فيه . فقد ثارت النخوة ضد هذا الحصار ، ومزقت العهد الذي حوته الصحيفة ، ونقضت هذا العهد الجائر .
ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة حرب ومسارعة إلى السيف ، وأعصاب متوفزة لا تخضع لنظام . والتوازن في الشخصية الإسلامية كان يقتضي كبح جماح هذا التوفز الدائم ، وإخضاعها لهدف ، وتعويدها الصبر وضبط الأعصاب . مع إشعار النفوس باستعلاء العقيدة على كل نزوة وعلى كل مغنم . ومن ثم كانت الدعوة إلى الصبر على الأذى متفقة مع منهج التربية الذي يهدف إلى التوازن في الشخصية الإسلامية ، وتعليمها الصبر والثبات والمضي في الطريق .
فهذه الاعتبارات وأمثالها قد اقتضت سياسة المسالمة والصبر في مكة .

مع تقرير الطابع الأساسي الدائم للجماعة المسلمة : { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } . .
ويؤكد هذه القاعدة بوصفها قاعدة عامة في الحياة :
{ وجزاء سيئة سيئة مثلها } . .
فهذا هو الأصل في الجزاء . مقابلة السيئة بالسيئة ، كي لا يتبجح الشر ويطغى ، حين لا يجد رادعاً يكفه عن الإفساد في الأرض فيمضي وهو آمن مطمئن
ذلك مع استحباب العفو ابتغاء أجر الله وإصلاح النفس من الغيظ ، وإصلاح الجماعة من الأحقاد . وهو استثناء من تلك القاعدة . والعفو لا يكون إلا مع المقدرة على جزاء السيئة بالسيئة . فهنا يكون العفو وزنه ووقعه في إصلاح المعتدي والمسامح سواء . فالمعتدي حين يشعر بأن العفو جاء سماحة ولم يجئ ضعفا يخجل ويستحيي ، ويحس بأن خصمه الذي عفا هو الأعلى . والقوي الذي يعفو تصفو نفسه وتعلو . فالعفو عندئذ خير لهذا وهذا . ولا كذلك عند الضعف والعجز . وما يجوز أن يذكر العفو عند العجز . فليس له ثمة وجود . وهو شر يطمع المعتدي ويذلك المعتدى عليه ، وينشر في الأرض الفساد
{ إنه لا يحب الظالمين } . .
وهذا توكيد للقاعدة الأولى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } من ناحية . وإيحاء بالوقوف عند رد المساءة أو العفو عنها . وعدم تجاوز الحد في الاعتداء ، من ناحية أخرى .
وتوكيد آخر أكثر تفصيلا :
{ ولمن انتصر بعد ظلمه ، فأولئك ما عليهم من سبيل . إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ، ويبغون في الأرض بغير الحق . أولئك لهم عذاب أليم } . .
فالذي ينتصر بعد ظلمه ، ويجزي السيئة بالسيئة ، ولا يعتدي ، ليس عليه من جناح . وهو يزاول حقه المشروع . فما لأحد عليه من سلطان . ولا يجوز أن يقف في طريقه أحد . إنما الذين يجب الوقوف في طريقهم هم الذين يظلمون الناس ، ويبغون في الأرض بغير الحق . فإن الأرض لا تصلح وفيها ظالم لا يقف له الناس ليكفوه ويمنعوه من ظلمه؛ وفيها باغ يجور ولا يجد من يقاومه ويقتص منه . والله يتوعد الظالم الباغي بالعذاب الأليم . ولكن على الناس كذلك أن يقفوا له ويأخذوا عليه الطريق .
ثم يعود إلى التوازن والاعتدال وضبط النفس والصبر والسماحة في الحالات الفردية ، وعند المقدرة على الدفع كما هو مفهوم؛ وحين يكون الصبر والسماحة استعلاء لا استخذاء؛ وتجملاً لا ذلاً :
{ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } . .
ومجموعة النصوص في هذه القضية تصور الاعتدال والتوازن بين الاتجاهين؛ وتحرص على صيانة النفس من الحقد والغيظ ، ومن الضعف والذل ، ومن الجور والبغي . وتعلقها بالله ورضاه في كل حال . وتجعل الصبر زاد الرحلة الأصيل .
ومجموعة صفات المؤمنين ترسم طابعاً مميزاً للجماعة التي تقود البشرية وترجو ما عند الله وهو خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون . .
وبعد تقرير صفة المؤمنين الذين يدخر الله لهم عنده ما هو خير وأبقى ، يعرض في الصفحة المقابلة صورة الظالمين الضالين ، وما ينتظرهم من ذل وخسران :
{ ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده؛ وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون : هل إلى مرد من سبيل؟ وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ، ينظرون من طرف خفي ، وقال الذين آمنوا : إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة؛ ألا إن الظالمين في عذاب مقيم ، وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ، ومن يضلل الله فما له من سبيل } .

.
إن قضاء الله لا يرد ، ومشيئته لا معقب عليها { ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده } . . فإذا علم الله من حقيقة العبد أنه مستحق للضلال ، فحقت عليه كلمة الله أن يكون من أهل الضلال ، لم يكن له بعد ذلك من ولي يهديه من ضلاله ، أو ينصره من جزاء الضلال الذي قدره الله . . والذي يعرض منه مشهداً في بقية الآية :
{ وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون : هل إلى مرد من سبيل ، وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ، ينظرون من طرف خفي } . .
والظالمون كانوا طغاة بغاة ، فناسب أن يكون الذل هو مظهرهم البارز في يوم الجزاء . إنهم يرون العذاب ، فتتهاوى كبرياؤهم . ويتساءلون في انكسار : { هل إلى مرد من سبيل؟ } في هذه الصيغة الموحية باليأس مع اللهفة ، والانهيار مع التطلع إلى أي بارقة للخلاص وهم يعرضون على النار { خاشعين } لا من التقوى ولا من الحياء ، لكن من الذل والهوان وهم يعرضون منكسي الأبصار ، لا يرفعون أعينهم من الذل والعار : { ينظرون من طرف خفي } . . وهي صورة شاخصة ذليلة .
وفي هذا الوقت يبدو أن الذين آمنوا هم سادة الموقف؛ فهم ينطقون ويقررون : { وقال الذين آمنوا : إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة } . . وهم هؤلاء الذين خسروا كل شيء ، والذين يقفون خاشعين من الذل يقولون : هل إلى مرد من سبيل؟
ويجيء التعليق العام على المشهد بياناً لمآل هؤلاء المعروضين على النار :
{ ألا إن الظالمين في عذاب مقيم . وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله . ومن يضلل الله فما له من سبيل } . .
فقد عدم النصير ، وقد أغلق السبيل .
وفي ظل هذا المشهد يوجه الخطاب إلى المعاندين المكابرين ، ليستجيبوا لربهم قبل أن يفجأهم مثل هذا المصير فلا يجدوا لهم ملجأ يقيهم ، ولا نصيراً ينكر مصيرهم الأليم ، ويوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التخلي عنهم إذا هم أعرضوا فلم يستجيبوا لهذا النذير؛ فما عليه إلا البلاغ ، وما هو مكلف بهم ولا كفيل :
{ استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ، ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير . فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ } .

.
ثم يكشف عن طبيعة هذا الإنسان الذي يعارض ويعاند ، ويعرض نفسه للأذى والعذاب ، وهو لا يحتمل في نفسه الأذى؛ وهو رقيق الاحتمال ، يستطار بالنعمة ، ويجزع من الشدة ، ويتجاوز حده فيكفر من الضيق :
{ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها ، وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور } . .
ويعقب على هذا بأن نصيب هذا الإنسان من السراء والضراء ومن العطاء والحرمان كله بيد الله . فما لهذا الإنسان المحب للخير الجزوع من الشر ، يبعد عن الله المالك لأمره في جيمع الأحوال :
{ لله ملك السماوات والأرض ، يخلق ما يشاء ، يهب لمن يشاء إناثاً ، ويهب لمن يشاء الذكور . أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ، ويجعل من يشاء عقيماً ، إنه عليم قدير } . .
والذرية مظهر من مظاهر المنح والمنع والعطاء والحرمان؛ وهي قريبة من نفس الإنسان؛ والنفس شديدة الحساسية بها . فلمسها من هذا الجانب أقوى وأعمق . وقد سبق في السورة حديث عن الرزق بسطه وقبضه . فهذه تكملة في الرزق بالذرية . وهي رزق من عند الله كالمال .
والتقديم بأن لله ملك السماوات والأرض هو التقديم المناسب لكل جزئية بعد ذلك من توابع هذا الملك العام . وكذلك ذكر : { يخلق ما يشاء } . . فهي توكيد للإيحاء النفسي المطلوب في هذا الموضع . ورد الإنسان ، المحب للخير ، إلى الله الذي يخلق ما يشاء مما يسرّ وما يسوء ومن عطاء أو حرمان .
ثم يفصل حالات العطاء والحرمان : فهو يهب لمن يشا إناثا ( وهم كانوا يكرهون الإناث ) ويهب لمن يشاء الذكور . ويهب لمن يشاء أزواجاً من هؤلاء وهؤلاء . ويحرم من يشاء فيجعله عقيماً ( والعقم يكرهه كل الناس ) . . وكل هذه الأحوال خاضعة لمشية الله . لا يتدخل فيها أحد سواه . وهو يقدرها وفق علمه وينفذها بقدرته : { إنه عليم قدير } . .
وفي ختام السورة يعود السياق إلى الحقيقة التي تدور عليها السورة . حقيقة الوحي والرسالة . يعود إلى هذه الحقيقة ليكشف عن طبيعة هذا الاتصال بين الله والمختارين من عباده ، وفي أية صورة يكون . ويؤكد أنه قد وقع فعلاً إلى الرسول الأخير صلى الله عليه وسلم لغاية يريدها الله سبحانه . ليهدي من يشاء إلى صراط مستقيم :
{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب ، أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم . وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا ، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض . ألا إلى الله تصير الأمور } . .
ويقطع هذا النص بأنه ليس من شأن إنسان أن يكلمه الله مواجهة . وقد روي عن عائشة رضي الله عنها : « من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية » إنما يتم كلام الله للبشر بواحدة من ثلاث : « وحيا » يلقى في النفس مباشرة فتعرف أنه من الله ، { أو من وراء حجاب } .

. كما كلم الله موسى عليه السلام وحين طلب الرؤية لم يجب إليها ، ولم يطق تجلي الله على الجبل { وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين } { أو يرسل رسولاً } وهو الملك { فيوحي بإذنه ما يشاء } بالطرق التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الأولى : ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال : صلى الله عليه وسلم « إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب » . والثانية أنه كان صلى الله عليه وسلم يتمثل له الملك رجلاً ، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول . والثالثة : أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس ، وكان أشده عليه ، حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد ، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إن كان راكبها ، ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها . والرابعة : أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها ، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه . وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم .
هذه صور الوحي وطرق الاتصال . . { إنه علي حكيم } . . يوحي من علو ، ويوحي بحكمة إلى من يختار . . وبعد فإنه ما من مرة وقفت أمام آية تذكر الوحي أو حديث ، لأتأمل هذا الاتصال إلا أحسست له رجفة في أوصالي . . كيف؟ كيف يكون هذا الاتصال بين الذات الأزلية الأبدية التي ليس لها حيز في المكان ولا حيز في الزمان ، المحيطة بكل شيء ، والتي ليس كمثلها شيء . كيف يكون هذا الاتصال بين هذه الذات العلية وذات إنسان متحيزة في المكان والزمان ، محدودة بحدود المخلوقات ، من أبناء الفناء؟ ثم كيف يتمثل هذا الاتصال معاني وكلمات وعبارات؟
وكيف تطيق ذات محدودة فانية أن تتلقى كلام الله الأزلي الأبدي الذي لا حيز له ولا حدود؟ ولا شكل له معهود؟
وكيف؟ وكيف؟ . .
ولكني أعود فأقول : ومالك تسأل عن كيف؟ وأنت لا تملك أن تتصور إلا في حدود ذاتك المتحيزة القاصرة الفانية؟ لقد وقعت هذه الحقيقة وتمثلت في صورة . وصار لها وجود هو الذي تملك أن تدركه من وجود .
ولكن الوهلة والرجفة والروعة لا تزول إن النبوة هذه أمر عظيم حقا . وإن لحظة التلقي هذه لعظيمة حقاً . تلقي الذات الإنسانية لوحي من الذات العلوية . . أخي الذي تقرأ هذه الكلمات ، أأنت معي في هذا التصور؟ أأنت معي تحاول أن تتصور؟ هذا الوحي الصادر من هناك .

أأقول : هناك؟ كلا . إنه ليس هناك « هناك » الصادر من غير مكان ولا زمان ، ولا حيز ولا حد ولا جهة ولا ظرف . الصادر من المطلق النهائي ، الأزلي الأبدي ، الصادر من الله ذي الجلال إلى إنسان . . إنسان مهما يكن نبياً رسولاً ، فإنه هو هذا الإنسان ذو الحدود والقيود . . هذا الوحي . هذا الاتصال العجيب . المعجز . الذي لا يملك إلا الله أن يجعله واقعة تتحقق ، ولا يعرف إلا الله كيف يقع ويتحقق . . أخي الذي تقرأ هذه الكلمات . هل تحس ما أحس من وراء هذه العبارات المتقطعة التي أحاول أن أنقل بها ما يخالج كياني كله؟ إنني لا أعرف ماذا أقول عما يخالج كياني كله من الروعة والرجفة وأنا أحاول أن أتصور ذلك الحدث العظيم العجيب الخارق في طبيعته ، والخارق في صورته ، الذي حدث مرات ومرات . وأحس بحدوثه ناس رأوا مظاهره رأي العين ، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذه عائشة رضي الله عنها تشهد من هذه اللحظات العجيبة في تاريخ البشرية فتروي عن واحدة منها تقول : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يا عائشة . هذا جبريل يقرئك السلام « قلت : وعليه السلام ورحمة الله . قالت : وهو يرى ما لا نرى » وهذا زيد بن ثابت رضي الله عنه يشهد مثل هذه اللحظة وفخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذه ، وقد جاءه الوحي فثقلت حتى كادت ترض فخذه . وهؤلاء هم الصحابة رضوان الله عليهم في مرات كثيرة يشهدون هذا الحادث ويعرفونه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم فيدعونه للوحي حتى يسرى عنه ، فيعود إليهم ويعودون إليه . .
ثم . . أية طبيعة . طبيعة هذه النفس التي تتلقى ذلك الاتصال العلوي الكريم؟ أي جوهر من جواهر الأرواح ذلك الذي يتصل بهذا الوحي ، ويختلط بذلك العنصر ، ويتسق مع طبيعته وفحواه؟
إنها هي الأخرى مسألة إنها حقيقة . ولكنها تتراءى هنالك بعيداً على أفق عال ومرتقى صاعد ، لا تكاد المدارك تتملاه .
روح هذا النبي صلى الله عليه وسلم روح هذا الإنسان . كيف يا ترى كانت تحس بهذه الصلة وهذا التلقي؟ كيف كانت تتفتح؟ كيف كان ينساب فيها ذلك الفيض؟ كيف كانت تجد الوجود في هذه اللحظات العجيبة التي يتجلى فيها الله على الوجود؛ والتي تتجاوب جنباته كلها بكلمات الله؟
ثم . . أية رعاية؟ وأية رحمة؟ وأية مكرمة؟ . . والله العلي الكبير يتلطف فيعنى بهذه الخليقة الضئيلة المسماة بالإنسان . فيوحي إليها لإصلاح أمرها ، وإنارة طريقها ، ورد شاردها . . وهي أهون عليه من البعوضة على الإنسان ، حين تقاس إلى ملكه الواسع العريض؟
إنها حقيقة . ولكنها أعلى وأرفع من أن يتصورها الإنسان إلا تطلعاً إلى الأفق السامق الوضيء :
{ وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان .

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)

تعرض هذه السورة جانباً مما كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات؛ ومن جدال واعتراضات . وتعرض معها كيف كان القرآن الكريم يعالجها في النفوس؛ وكيف يقرر في ثنايا علاجها حقائقه وقيمه في مكان الخرافات والوثنيات والقيم الجاهلية الزائفة ، التي كانت قائمة في النفوس إذ ذاك ، ولا يزال جانب منها قائماً في النفوس في كل زمان ومكان .
كانت الوثنية الجاهلية تقول : إن في هذه الأنعام التي سخرها الله للعباد ، نصيباً لله ، ونصيباً لآلهتهم المدعاة : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً . فقالوا : هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا . فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم } وكانت لهم في الأنعام أساطير شتى وخرافات أخرى كلها ناشئ من انحرافات العقيدة . فكانت هناك أنواع من الأنعام محرمة ظهورها على الركوب وأنواع محرمة لحومها على الأكل : { وقالوا : هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه } وفي هذه السورة تصحيح لهذه الانحرافات الاعتقادية؛ ورد النفوس إلى الفطرة وإلى الحقائق الأولى . فالأنعام من خلق الله ، وهي طرف من آية الحياة ، مرتبط بخلق السماوات والأرض جميعاً . وقد خلقها الله وسخرها للبشر ليذكروا نعمة ربهم عليهم ويشكروها؛ لا ليجعلوا له شركاء ، ويشرعوا لأنفسهم في الأنعام ما لم يأمر به الله؛ بينما هم يعترفون بأن الله هو الخالق المبدع؛ ثم هم ينحرفون عن مقتضى هذه الحقيقة التي يقرون بها ، ويعزلونها عن حياتهم الواقعة ، ويتبعون خرافات وأساطير : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن : خلقهن العزيز العليم ، الذي جعل لكم الأرض مهدا ، وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون ، والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا ، كذلك تخرجون ، والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ، لتستووا على ظهوره ، ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ، وتقولوا : { سبحان الذي سخر لنا هذا ، وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون } . .
وكانت الوثنية الجاهلية تقول : إن الملائكة بنات الله؛ ومع أنهم هم يكرهون مولد البنات لهم ، فإنهم كانوا يختارون لله البنات ويعبدونهم من دونه ، ويقولون : إننا نعبدهم بمشيئة الله ولو شاء ما عبدناهم وكانت مجرد أسطورة ناشئة من انحراف العقيدة .
وفي هذه السورة يواجههم بمنطقهم هم؛ ويحاجهم كذلك بمنطق الفطرة الواضح ، حول هذه الأسطورة التي لا تستند إلى شيء على الإطلاق : { وجعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور مبين . . أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين ، وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسوداً وهو كظيم .

أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين؟ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ، أشهدوا خلقهم؟ ستكتب شهادتهم ويسألون . وقالوا : لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون . أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون؟ بل قالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون } . .
ولما قيل لهم : إنكم تعبدون أصناماً وأشجاراً وإنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ، وقيل لهم : إن كل معبود من دون الله هو وعابدوه في النار . حرفوا الكلام الواضح البين ، واتخذوا منه مادة للجدل . وقالوا : فما بال عيسى وقد عبده قومه؟ أهو في النار؟ ثم قالوا : إن الأصنام تماثيل الملائكة والملائكة بنات الله . فنحن في عبادتنا لهم خير من عبادة النصارى لعيسى وهو بشر له طبيعة الناس
وفي هذه السورة يكشف عن التوائهم في هذا الجدل؛ ويبرئ عيسى عليه السلام مما ارتكبه أتباعه من بعده وهو منه برىء : { ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون . وقالوا : أآلهتنا خير أم هو؟ ما ضربوه لك إلا جدلاً . بل هم قوم خصمون . إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لنبي إسرائيل . . } وقد كانوا يزعمون أنهم على ملة أبيهم إبراهيم ، وأنهم بذلك أهدى من أهل الكتاب وأفضل عقيدة . وهم في هذه الجاهلية الوثنية يخبطون .
فبين لهم في هذه السورة حقيقة ملة إبراهيم ، وأنها ملة التوحيد الخالص ، وأن كلمة التوحيد باقية في عقبه ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاءهم بها ، ولكنهم استقبلوها واستقبلوه بغير ما كان ينبغي من ذرية إبراهيم : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون ، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين . وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون . بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين . ولما جاءهم الحق قالوا : هذا سحر ، وإنا به كافرون . . . } . .
ولم يدركوا حكمة اختيار الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم ووقفت في وجوههم القيم الأرضية الزائفة الزهيدة التي اعتادوا أن يقيسوا بها الرجال .
وفي هذه السورة يحكي تصوراتهم وأقوالهم في هذا الصدد؛ ويرد عليها ببيان القيم الحقيقية ، وزهادة القيم التي يعتبرونها هم ويرفعونها : { وقالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم : أهم يقسمون رحمة ربك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ، ورحمة ربك خير مما يجمعون . ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون ، وزخرفاً . وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ، والآخرة عند ربك للمتقين } ثم جاء بحلقة من قصة موسى عليه السلام مع فرعون ، يبدو فيها اعتزاز فرعون بمثل تلك القيم الزائفة ، وهوانها على الله ، وهوان فرعون الذي اعتز بها ، ونهايته التي تنتظر المعتزين بمثل ما اعتز به :

{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه ، فقال : إني رسول رب العالمين . فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون . وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون . وقالوا : يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك ، إننا لمهتدون . فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون . ونادى فرعون في قومه قال : يا قوم أليس لي ملك مصر ، وهذه الأنهار تجري من تحتي ، أفلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين؛ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه ، إنهم كانوا قوماً فاسقين ، فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ، فجعلناهم سلفاً ومثلا للآخرين } حول تلك الأساطير الوثنية والانحرافات الاعتقادية ، وحول تلك القيم الصحيحة والزائفة ، تدور السورة ، وتعالجها على النحو الذي تقدم . في أشواط ثلاثة تقدم أولها قبل هذا وأشرنا إلى بعض مادة الأشواط الأخرى في بعض المقتطفات من آيات السورة . فلنأخذ في التفصيل :
{ حم . والكتاب المبين . إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون . وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم . أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين؟ وكم أرسلنا من نبي في الأولين . وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون . فأهلكنا أشد منهم بطشاً ، ومضى مثل الأولين } . .
تبدأ السورة بالحرفين : « حا . ميم » ثم يعطف عليهما قوله : { والكتاب المبين } . . ويقسم الله سبحانه بحاميم كما يقسم بالكتاب المبين . وحاميم من جنس الكتاب المبين ، أو الكتاب المبين من جنس حا ميم . فهذا الكتاب المبين في صورته اللفظية من جنس هذين الحرفين . وهذان الحرفان كبقية الأحرف في لسان البشر آية من آيات الخالق ، الذي صنع البشر هذا الصنع ، وجعل لهم هذه الأصوات . فهناك أكثر من معنى وأكثر من دلالة في ذكر هذه الأحرف عند الحديث عن القرآن .
يقسم الله سبحانه بحا ميم والكتاب المبين ، على الغاية من جعل هذا القرآن في صورته هذه التي جاء بها للعرب :
{ إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } . .
فالغاية هي أن يعقلوه حين يجدونه بلغتهم وبلسانهم الذي يعرفون . والقرآن وحي الله سبحانه وتعالى جعله في صورته هذه اللفظية عربياً ، حين اختار العرب لحمل هذه الرسالة ، للحكمة التي أشرنا إلى طرف منها في سورة الشورى؛ ولما يعلمه من صلاحية هذه الأمة وهذا اللسان لحمل هذه الرسالة ونقلها . والله أعلم حيث يجعل رسالته .
ثم يبين منزلة هذا القرآن عنده وقيمته في تقديره الأزلي الباقي :
{ وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } .

.
ولا ندخل في البحث عن المدلول الحرفي لأم الكتاب ما هي : أهي اللوح المحفوظ ، أم هي علم الله الأزلي . فهذا كهذا ليس له مدلول حرفي محدد في إدراكنا . ولكننا ندرك منه مفهوماً يساعد على تصورنا لحقيقة كلية . وحين نقرأ هذه الآية : { وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } . . فإننا نستشعر القيمة الأصيلة الثابتة لهذا القرآن في علم الله وتقديره . وهذا حسبنا . فهذا القرآن « عليّ » . . « حكيم » . . وهما صفتان تخلعان عليه ظل الحياة العاقلة . وإنه لكذلك وكأنما فيه روح . روح ذات سمات وخصائص ، تتجاوب مع الأرواح التي تلامسها . وهو في علوه وفي حكمته يشرف على البشرية ويهديها ويقودها وفق طبيعته وخصائصه . وينشئ في مداركها وفي حياتها تلك القيم والتصورات والحقائق التي تنطبق عليها هاتان الصفتان : علي . حكيم .
وتقرير هذه الحقيقة كفيل بأن يشعر القوم الذين جعل القرآن بلسانهم بقيمة الهبة الضخمة التي وهبها الله إياهم ، وقيمة النعمة التي أنعم الله عليهم؛ ويكشف لهم عن مدى الإسراف القبيح في إعراضهم عنها واستخفافهم بها؛ ومدى استحقاقهم هم للإهمال والإعراض؛ ومن ثم يعرّض بهم وبإسرافهم ، ويهددهم بالترك والإهمال جزاء هذا الإسراف :
{ أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين؟ } . .
ولقد كان عجيباً وما يزال أن يعنى الله سبحانه في عظمته وفي علوه وفي غناه بهذا الفريق من البشر ، فينزل لهم كتاباً بلسانهم ، يحدثهم بما في نفوسهم ، ويكشف لهم عن دخائل حياتهم ، ويبين لهم طريق الهدى ، ويقص عليهم قصص الأولين ، ويذكرهم بسنة الله في الغابرين . . ثم هم بعد ذلك يهملون ويعرضون
وإنه لتهديد مخيف أن يلوح لهم بعد ذلك بالإهمال من حسابه ورعايته ، جزاء إسرافهم القبيح
وإلى جانب هذا التهديد يذكرهم بسنة الله في المكذبين ، بعد إرسال النبيين :
{ وكم أرسلنا من نبي في الأولين ، وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون . فأهلكنا أشد منهم بطشاً ، ومضى مثل الأولين } . .
فماذا ينتظرون هم وقد أهلك الله من هم أشد منهم بطشاً ، حينما وقفوا يستهزئون بالرسل كما يستهزئون؟
والعجيب كان في أمر القوم أنهم كانوا يعترفون بوجود الله ، وخلقه للسماوات والأرض . ثم لا يرتبون على هذا الاعتراف نتائجه الطبيعية من توحيد الله ، وإخلاص التوجه إليه فكانوا يجعلون له شركاء ، يخصونهم ببعض ما خلق من الأنعام؛ كما كانوا يزعمون أن الملائكة بناته ، ويعبدونهم من دونه في صورة أصنام
والقرآن يعرض اعترافهم ، ويرتب عليه نتائجه ، ويوجههم إلى منطق الفطرة الذي يجانبونه ، وإلى السلوك الواجب تجاه نعمته عليهم فيما خلق لهم من الفلك والأنعام . ثم يناقشهم بمنطقهم في دعواهم عن الملائكة :
{ ولئن سألتهم : من خلق السماوات والأرض؟ ليقولن : خلقهن العزيز العليم .

الذي جعل لكم الأرض مهداً ، وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون . والذي نزل من السماء ماء بقدر ، فأنشرنا به بلدة ميتاً ، كذلك تخرجون . والذي خلق الأزواج كلها ، وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون . لتستووا على ظهوره ، ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ، وتقولوا : سبحان الذي سخر لنا هذا ، وما كنا له مقرنين؛ وإنا إلى ربنا لمنقلبون } . .
لقد كانت للعرب عقيدة نظن أنها بقايا من الحنيفية الأولى ملة إبراهيم عليه السلام ، ولكنها بهتت وانحرفت ودخلت فيها الأساطير وقد بقي منها ما لا تملك الفطرة إنكاره من وجود خالق لهذا الكون ، وأنه هوالله ، فما يمكن في منطق الفطرة وبداهتها أن يكون هذا الكون قد نشأ هكذا من غير خالق؛ وما يمكن أن يخلق هذا الكون إلا الله . ولكنهم كانوا يقفون بهذه الحقيقة التي تنطق بها بداهة الفطرة عند شكلها الظاهر ، ولا يعترفون بما وراءها من مقتضيات طبيعية لها :
{ ولئن سألتهم : من خلق السماوات والأرض؟ ليقولن : خلقهن العزيز العليم . . . } . .
وواضح أن هاتين الصفتين : { العزيز العليم } ليستا من قولهم . فهم كانوا يعترفون بأن الذي خلقهن هو « الله » . . ولكنهم لم يكونوا يعرفون الله بصفاته التي جاء بها الإسلام . هذه الصفات الإيجابية التي تجعل لذات الله في نفوسهم أثراً فعالاً في حياتهم وحياة هذا الكون . كانوا يعرفون الله خالقا لهذا الكون ، وخالقاً لهم كذلك . ولكنهم كانوا يتخذون من دونه شركاء . لأنهم لم يعرفوه بصفاته التي تنفي فكرة الشرك ، وتجعلها تبدو متهافتة سخيفة .
والقرآن هنا يعلمهم أن الله ، الذي يعترفون بأنه خالق السماوات والأرض ، هو { العزيز العليم } . . فهو القوي القادر ، وهو العليم العارف . فيبدأ بهم من اعترافهم ، ويخطو بهم الخطوات التالية لهذا الاعتراف .
ثم يمضي بهم خطوة أخرى في تعريف الله سبحانه بصفاته؛ وفي بيان فضله عليهم بعد الخلق والإنشاء :
{ الذي جعل لكم الأرض مهدا ، وجعل لكم فيها سبلاً ، لعلكم تهتدون } . .
وحقيقة جعل هذه الأرض مهداً للإنسان يدركها كل عقل في كل جيل بصورة من الصور . والذين تلقوا هذا القرآن أول مرة ربما أدركوها في رؤية هذه الأرض تحت أقدامهم ممهدة للسير ، وأمامهم ممهدة للزرع ، وفي عمومها ممهدة للحياة فيها والنماء . ونحن اليوم ندرك هذه الحقيقة في مساحة أعرض وفي صورة أعمق ، بقدر ما وصل إليه علمنا عن طبيعة هذه الأرض وتاريخها البعيد والقريب لو صحت نظرياتنا في هذا وتقديراتنا والذين يأتون بعدنا سيدركون من تلك الحقيقة ما لم ندرك نحن؛ وسيظل مدلول هذا النص يتسع ويعمق ، ويتكشف عن آفاق وآماد كلما اتسعت المعرفة وتقدم العلم ، وانكشفت المجاهيل لهذا الإنسان .
ونحن اليوم ندرك من حقيقة جعل الأرض مهداً لهذا الجنس يجد فيها سبله للحياة أن هذا الكوكب مر في أطوار بعد أطوار ، حتى صار مهداً لبني الإنسان .

وفي خلال هذه الأطوار تغير سطحه من صخر يابس صلد إلى تربة صالحة للزرع؛ وتكوّن على سطحه الماء من اتحاد الأيدروجين والأكسوجين؛ واتأد في دورانه حول نفسه فصار يومه بحيث يسمح باعتدال حرارته وصلاحيتها للحياة؛ وصارت سرعته بحيث يسمح باستقرار الأشياء والأحياء على سطحه ، وعدم تناثرها وتطايرها في الفضاء؟
ونعرف من هذه الحقيقة كذلك أن الله أودع هذا الكوكب من الخصائص خاصية الجاذبية ، فاحتفظ عن طريقها بطبقة من الهواء تسمح بالحياة؛ ولو أفلت الهواء المحيط بهذا الكوكب من جاذبيته ما أمكن أن تقوم الحياة على سطحه ، كما لم تقم على سطح الكواكب الأخرى التي تضاءلت جاذبيتها ، فأفلت هواؤها كالقمر مثلاً وهذه الجاذبية ذاتها قد جعلها الخالق متعادلة مع عوامل الدفع الناشئ من حركة الأرض؛ فأمكن أن تحفظ الأشياء والأحياء من التطاير والتناثر؛ وفي الوقت ذاته تسمح بحركة الإنسان والأحياء على سطح الأرض؛ ولو زادت الجاذبية عن القدر المناسب للصقت الأشياء والأحياء بالأرض وتعذرت حركتها أو تعسرت من ناحية ، ولزاد ضغط الهواء عليها من ناحية أخرى فألصقها بالأرض إلصاقاً ، أو سحقها كما نسحق نحن الذباب والبعوض أحياناً بضربة تركز الضغط عليها دون أن تمسها أيدينا ولو خف هذا الضغط عما هو عليه لانفجر الصدر والشرايين انفجاراً
ونعرف كذلك من حقيقة جعل الأرض مهداً وتذليل السبل فيها للحياة ، أن الخالق العزيز العليم قدر فيها موافقات شتى تسمح مجتمعة بوجود هذا الإنسان وتيسير الحياة له؛ ولو اختلت إحدى هذه الموافقات لتعذرت هذه الحياة أو تعسرت . فمنها هذه الموافقات التي ذكرنا ، ومنها أنه جعل كتلة الماء الضخمة التي تكونت على سطح الأرض من المحيطات والبحار كافية لامتصاص الغازات السامة التي تنشأ من التفاعلات الكثيرة التي تتم على سطحها ، والاحتفاظ بجوها دائماً في حالة تسمح للأحياء بالحياة . ومنها أنه جعل من النبات أداة للموازنة بين الأكسيجين الذي يستنشقه الأحياء ليعيشوا به ، والأكسجين الذي يزفره النبات في أثناء عمليات التمثيل التي يقوم بها؛ ولولا هذه الموازنة لاختنق الأحياء بعد فترة من الزمان .
وهكذا . وهكذا . من المدلولات الكثيرة لحقيقة : { جعل لكم الأرض مهداً وجعل لكم فيها سبلاً } تكشف لنا في كل يوم؛ وتضاف إلى المدلولات التي كان يدركها المخاطبون بهذا القرآن أول مرة . وكلها تشهد بالقدرة كما تشهد بالعلم لخالق السماوات والأرض العزيز العليم . وكلها تشعر القلب البشري باليد القادرة المدبرة ، في حيثما امتد بصره ، وتلفت خاطره؛ وأنه غير مخلوق سدى ، وغير متروك لقى؛ وأن هذه اليد تمسك به ، وتنقل خطاه ، وتتولى أمره في كل خطوة من خطواته في الحياة ، وقبل الحياة ، وبعد الحياة
{ لعلكم تهتدون } . . فإن تدبر هذا الكون ، وما فيه من نواميس متناسقة كفيل بهداية القلب إلى خالق هذا الكون ، ومودعه ذلك التنظيم الدقيق العجيب .

.
ثم يخطو بهم خطوة أخرى في طريق نشأة الحياة والأحياء ، بعد تمهيد الأرض للإنسان وتذليل السبل فيها للحياة :
{ والذي نزل من السماء ماء بقدر ، فأنشرنا به بلدة ميتاً ، كذلك تخرجون } . .
والماء الذي ينزل من السماء يعرفه كل إنسان ويراه كل إنسان؛ ولكن أكثر الناس يمرون على هذا الحدث العجيب دون يقظة ودون اهتزاز ، لطول الألفة والتكرار . فأما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يتلقى قطراته في حب وفي ترحيب وفي حفاوة وفي استبشار؛ لأنها قادمة إليه من عند الله . ذلك أن قلبه الحي كان يدرك صنع الله الحي في هذه القطرات ، ويرى يد الصناع وهكذا ينبغي أن يتلقاها القلب الموصول بالله ونواميسه في هذا الوجود . فهي وليدة هذه النواميس التي تعمل في هذا الكون وعين الله عليها ويد الله فيها في كل مرة وفي كل قطرة . ولا يبرد من حرارة هذه الحقيقة ، ولا ينقص من وقعها أن هذا الماء أصله البخار المتصاعد من الأرض المتكاثف في أجواز الفضاء . فمن أنشأ هذه الأرض؟ ومن جعل فيها الماء؟ ومن سلط عليها الحرارة؟ ومن جعل من طبيعة الماء أن يتبخر بالحرارة؟ ومن أودع البخار خاصية الارتفاع؛ وخاصية التكثف في أجواز الفضاء؟ ومن أودع الكون خصائصه الأخرى التي تجعل ذلك البخار المتكثف مشحوناً بالكهرباء التي تتلاقى وتتفرغ فيسقط الماء؟ وما الكهرباء؟ وما هذا وما ذاك من الخصائص والأسرار التي تنتهي كلها إلى نزول الماء؟ إننا نلقي من العلم على حسنا أثقالاً تحجب عنا إيقاع هذا الكون العجيب ، بدلاً من أن نتخذ من العلم معرفة ترهف المشاعر وترقق القلوب
{ والذي نزل من السماء ماء بقدر } . .
فهو مقدر موزون لا يزيد فيغرق؛ ولا يقل فتجف الأرض وتذبل الحياة؛ ونحن نرى هذه الموافقة العجيبة ، ونعرف اليوم ضرورتها لإنشاء الحياة وإبقائها كما أرادها الله .
{ فأنشرنا به بلدة ميتاً } . .
والإنشاء الإحياء . والحياة تتبع الماء . ومن الماء كل شيء حي .
{ كذلك تخرجون } . .
فالذي أنشأ الحياة أول مرة كذلك يعيدها؛ والذي أخرج الأحياء أول مرة من الأرض الميتة ، كذلك يخرج الأحياء منها يوم القيامة . فالإعادة من البدء؛ وليس فيها عزيز على الله .
ثم هذه الأنعام التي يجعلون منها جزءاً لله وجزءاً لغير الله ، وما لهذا خلقها الله؛ إنما خلقها لتكون من نعم الله على الناس ، يركبونها كما يركبون الفلك ، ويشكرون الله على تسخيرهما ، ويقابلون نعمته بما تستحقها :
{ والذي خلق الأزواج كلها ، وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ، لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ، وتقولوا : سبحان الذي سخر لنا هذا ، وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا منقلبون } .

.
والزوجية هي قاعدة الحياة كما تشير إليها هذه الآية . فكل الأحياء أزواج ، وحتى الخلية الواحدة الأولى تحمل خصائص التذكير والتأنيث معها . بل ربما كانت الزوجية هي قاعدة الكون كله لا قاعدة الحياة وحدها إذا اعتبرنا أن قاعدة الكون هي الذرة المؤلفة من الكترون سالب وبروتون موجب ، كما تشير البحوث الطبيعية حتى الآن .
وعلى أية حال فالزوجية في الحياة ظاهرة؛ والله هو الذي خلق الأزواج كلها من الإنسان وغير الإنسان : { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون } . .
يذكر الناس بهذه الإشارة بنعمة الله عليهم في اصطفائهم بخلافة هذه الأرض ، وبما سخر لهم فيها من قوى وطاقات . ثم يوجههم إلى الأدب الواجب في شكر هذه النعمة وشكر هذا الاصطفاء؛ وتذكر المنعم كلما عرضت النعمة؛ لتبقى القلوب موصولة بالله عند كل حركة في الحياة :
{ لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين } . . فما نحن بقادرين على مقابلة نعمته بنعمة مثلها ، وما نملك إلا الشكر نقابل به هذا الإنعام .
ثم ليتذكروا أنهم عائدون بعد الخلافة في الأرض إلى ربهم ليجزيهم عما فعلوا في هذه الخلافة التي زودهم فيها بأنعمه . وسخر لهم فيها ما سخر من القوى والطاقات :
{ وإنا إلى ربنا لمنقلبون } . .
هذا هو الأدب الواجب في حق المنعم ، يوجهنا الله إليه ، لنذكره كما استمتعنا بنعمة من نعمه التي تغمرنا ، والتي نتقلب بين أعطافها . ثم ننساه . .
والأدب الإسلامي في هذا وثيق الصلة بتربية القلب وإحياء الضمير . فليس هو مجرد طقوس تزاول عند الاستواء على ظهور الفلك والأنعام ، ولا مجرد عبارات يتلوها اللسان إنما هو استحياء للمشاعر لتحس بحقيقة الله ، وحقيقة الصلة بينه وبين عباده؛ وتشعر بيده في كل ما يحيط بالناس ، وكل ما يستمتعون به مما سخره الله لهم ، وهو محض الفضل والإنعام ، بلا مقابل منهم ، فما هم بقادرين على شىء يقابلون به فضل الله . ثم لتبقى قلوبهم على وجل من لقائه في النهاية لتقديم الحساب . . وكل هذه المشاعر كفيلة باستبقاء القلب البشري في حالة يقظة شاعرة حساسة لا تغفل عن مراقبة الله . ولا تجمد ولا تتبلد بالركود والغفلة والنسيان .
بعد ذلك يعالج أسطورة الملائكة واتخاذهم آلهة بزعم أنهم بنات الله ، وهم عباد الله :
{ وجعلوا له من عباده جزءاً . إن الإنسان لكفور مبين . أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين؟ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم . أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين؟ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم؟ ستكتب شهادتهم ويسألون . وقالوا : لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم ، إن هم إلا يخرصون . أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون؟ بل قالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارهم مهتدون .

وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون . قال : أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟ قالوا : إنا بما أرسلتم به كافرون . فانتقمنا منهم ، فانظر كيف كان عاقبة المكذبين } . .
إن هذا القرآن يحاصر هذه الأسطورة ويواجهها في نفوسهم من كل جانب ، ولا يبقي ثغرة مفتوحة حتى يأخذها عليهم ، ويواجههم في هذا كله بمنطقهم ومسلماتهم وواقع حياتهم ، كما يواجههم بمصير الذين وقفوا مثل وقفتهم ، وقالوا مثل قولتهم من الغابرين .
ويبدأ بتصوير سخف هذه الأسطورة وتهافتها ، ومقدار ما في القول بها من كفر صريح :
{ وجعلوا له من عباده جزءاً ، إن الإنسان لكفور مبين } . .
فالملائكة عباد الله ، ونسبة بنوتهم له معناها عزلهم من صفة العبودية ، وتخصيصهم بقرابة خاصة بالله؛ وهم عباد كسائر العباد ، لا مقتضى لتخصيصهم بصفة غير صفة العبودية في علاقتهم بربهم وخالقهم . وكل خلق الله عباد له خالصو العبودية . وادعاء الإنسان هذا الادعاء يدمغه بالكفر الذي لا شبهة فيه : { إن الإنسان لكفور مبين } .
ثم يحاجهم بمنطقهم وعرفهم ، ويسخر من سخف دعواهم أن الملائكة إناث ثم نسبتهم إلى الله :
{ أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين؟ } . .
فإذا كان الله سبحانه متخذاً أبناء ، فماله يتخذ البنات ويصفيهم هم بالبنين؛ وهل يليق أن يزعموا هذا الزعم بينما هم يستنكفون من ولادة البنات لهم ويستاءون :
{ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم } . .
أفما كان من اللياقة والأدب ألا ينسبوا إلى الله من يستاءون هم إذا بشروا به ، حتى ليسود وجه أحدهم من السوء الذي يبلغ حداً يجل عن الصريح به ، فيكظمه ويكتمه وهو يكاد يتميز من السوء؟ أفما كان من اللياقة والأدب ألا يخصوا الله بمن ينشأ في الحلية والدعة والنعومة ، فلا يقدر على جدال ولا قتال؛ بينما هم في بيئتهم يحتفلون بالفرسان والمقاويل من الرجال؟
إنه يأخذهم في هذا بمنطقهم ، ويخجلهم من انتقاء ما يكرهون ونسبته إلى الله . فهلا اختاروا ما يستحسنونه وما يسرون له فنسبوه إلى ربهم ، إن كانوا لا بد فاعلين؟
ثم يحاصرهم هم وأسطورتهم من ناحية أخرى . فهم يدعون أن الملائكة إناث . فعلام يقيمون هذا الادعاء؟
{ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا . أشهدوا خلقهم؟ ستكتب شهادتهم ويسألون } . .
أشهدوا خلقهم؟ فعلموا أنهم إناث؟ فالرؤية حجة ودليل يليق بصاحب الدعوى أن يرتكن إليه . وما يملكون أن يزعموا أنهم شهدوا خلقهم . ولكنهم يشهدون بهذا ويدعونه ، فليحتملوا تبعة هذه الشهادة بغير ما كانوا حاضريه : { ستكتب شهادتهم ويسألون } . .
ثم يتابع الفرية وما يصوغونه حولها من جدل واعتذار :
{ وقالوا : لو شاء الرحمن ما عبدناهم .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)

لقد كانت قريش تقول : إنها من ذرية إبراهيم وهذا حق وإنها على ملة إبراهيم وهذا ما ليس بحق فقد أعلن إبراهيم كلمة التوحيد قوية واضحة ، لا لبس فيها ولا غموض؛ ومن أجلها هجر أباه وقومه بعد ما تعرض للقتل والتحريق؛ وعليها قامت شريعته ، وبها أوصى ذريته . فلم يكن للشرك فيها ظل ولا خيط رفيع
وفي هذا الشوط من السورة يردهم إلى هذه الحقيقة التاريخية ، ليعرضوا عليها دعواهم التي يدعون . . ثم يحكي اعتراضهم على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } . . ويناقش قولتهم هذه ، وما تنطوي عليه من خطأ في تقدير القيم الأصيلة التي أقام الله عليها الحياة ، والقيم الزائفة التي تخايل لهم وتصدهم عن الحق والهدى . . وعقب تقرير الحقيقة في هذه القضية يطلعهم على عاقبة المعرضين عن ذكر الله بعد أن يطلعهم على علة هذا العمى وهو من وسوسة الشيطان . . ويلتفت في نهاية هذا الدرس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسليه ويؤسيه عن إعراضهم وعماهم ، فما هو بهادي العمي أو مسمع الصم؛ وسيلقون جزاءهم سواء شهد انتقام الله منهم ، أو أخره الله عنهم . ويوجهه إلى الاستمساك بما أوحى إليه فإنه الحق ، الذي جاء به الرسل أجمعون . فكلهم جاءوا بكلمة التوحيد : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا : أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟ } . .
ثم يعرض من قصة موسى عليه السلام حلقة تمثل هذا الواقع من العرب مع رسولهم . وكأنما هي نسخة مكررة تحوي ذات الاعتراضات التي يعترضونها ، وتحكي اعتزاز فرعون وملئه بذات القيم التي يعتز بها المشركون . .
{ وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه : إنني براء مما تعبدون ، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين . وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } . .
إن دعوة التوحيد التي يتنكرون لها هي دعوة أبيهم إبراهيم . الدعوة التي واجه بها أباه وقومه مخالفاً بها عقيدتهم الباطلة ، غير منساق وراء عبادتهم الموروثة ، ولا مستمسك بها لمجرد أنه وجد أباه وقومه عليها؛ بل لم يجاملهم في إعلان تبرئه المطلق منه في لفظ واضح صريح ، يحكيه القرآن الكريم بقوله :
{ إنني براء مما تعبدون ، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } . .
ويبدو من حديث إبراهيم عليه السلام وتبرئه مما يعبدون إلا الذي فطره أنهم لم يكونوا يكفرون ويجحدون وجود الله أصلاً؛ إنما كانوا يشركون به ويعبدون معه سواه ، فتبرأ من كل ما يعبدون ، واستثنى الله؛ ووصفه بصفته التي تستحق العبادة ابتداء ، وهو أنه فطره وأنشأه ، فهو الحقيق بالعبادة بحكم أنه الموجد . وقرر يقينه بهداية ربه له ، بحكم أنه هو الذي فطره؛ فقد فطره ليهديه؛ وهو أعلم كيف يهديه .

قال إبراهيم هذه الكلمة التي تقوم بها الحياة . كلمة التوحيد التي يشهد بها الوجود . قالها :
{ وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } . .
ولقد كان لإبراهيم عليه السلام أكبر قسط في إقرار هذه الكلمة في الأرض ، وإبلاغها إلى الأجيال من بعده ، عن طريق ذريته وعقبه . ولقد قام بها من بنيه رسل ، كان منهم ثلاثة من أولي العزم : موسى وعيسى ومحمد خاتم الرسل عليهم صلوات الله وسلامه واليوم بعد عشرات القرون يقوم في الأرض أكثر من ألف مليون ، من أتباع الديانات الكبرى يدينون بكلمة التوحيد لأبيهم إبراهيم ، الذي جعل هذه الكلمة باقية في عقبه ، يضل منهم عنها من يضل ، ولكنها هي باقية لا تضيع ، ثابتة لا تتزعزع ، واضحة لا يتلبس بها الباطل { لعلهم يرجعون } . . يرجعون إلى الذي فطرهم فيعرفوه ويعبدوه . ويرجعون إلى الحق الواحد فيدركوه ويلزموه .
ولقد عرفت البشرية كلمة التوحيد قبل إبراهيم . ولكن هذه الكلمة لم تستقر في الأرض إلا من بعد إبراهيم . عرفتها على لسان نوح وهود وصالح وربما إدريس ، وغيره من الرسل الذين لم يتصل لهم عقب يقوم على هذه الكلمة ، ويعيش بها ، ولها . فلما عرفتها على لسان إبراهيم ظلت متصلة في أعقابه؛ وقام عليها من بعده رسل متصلون لا ينقطعون ، حتى كان ابنه الأخير من نسل إسماعيل ، وأشبه أبنائه به : محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل ، وقائل كلمة التوحيد في صورتها الأخيرة الكاملة الشاملة ، التي تجعل الحياة كلها تدور حول هذه الكلمة ، وتجعل لها أثراً في كل نشاط للإنسان وكل تصور .
فهذه هي قصة التوحيد منذ أبيهم إبراهيم الذي ينتسبون إليه؛ وهذه هي كلمة التوحيد التي جعلها إبراهيم باقية في عقبه . هذه هي تأتي إلى هذا الجيل على لسان واحد من عقب إبراهيم فكيف يستقبلها من ينتسبون إلى إبراهيم ، وملة إبراهيم؟
لقد بعد بهم العهد؛ ومتعهم الله جيلاً بعد جيل ، حتى طال عليهم العمر ، ونسوا ملة إبراهيم ، وأصبحت كلمة التوحيد فيهم غريبة منكرة ، واستقبلوا صاحبها أسوأ استقبال وقاسوا الرسالة السماوية بالمقاييس الأرضية ، فاختل في أيديهم كل ميزان :
{ بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين . ولما جاءهم الحق قالوا : هذا سحر وإنا به كافرون . وقالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ، ورحمة ربك خير مما يجمعون . ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون ، وزخرفاً ، وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا؛ والآخرة عند ربك للمتقين } .

.
يُضْرب السياق عن حديث إبراهيم ، ويلتفت إلى القوم الحاضرين :
{ بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين } . .
وكأنه بهذا الإضراب يقول : لندع حديث إبراهيم ، فما لهم به صلة ولا مناسبة؛ ولننظر في شأن هؤلاء وهو لا يتصل بشأن إبراهيم . . إن هؤلاء وآباءهم من قبلهم ، قد هيأت لهم المتاع ومددت لهم في الأجل ، حتى جاءهم الحق في هذا القرآن ، وجاءهم رسول مبين ، يعرض عليهم هذا الحق في وضوح وتبيين :
{ ولما جاءهم الحق قالوا : هذا سحر ، وإنا به كافرون } . .
ولا يختلط الحق بالسحر . فهو واضح بين ، وإنما هي دعوى ، كانوا هم أول من يعرف بطلانها . فما كان كبراء قريش ليغيب عنهم أنه الحق؛ ولكنهم كانوا يخدعون الجماهير من خلفهم ، فيقولون : إنه سحر ، ويعلنون كفرهم به على سبيل التوكيد ، يقولون : { وإنا به كافرون } ليلقوا في روع الجماهير أنهم واثقون مما يقولون؛ فيتبعوهم عن طريق الإيحاء والانقياد . شأن الملأ من كل قوم ، في التغرير بالجماهير ، خيفة أن يفلتوا من نفوذهم ، ويهتدوا إلى كلمة التوحيد التي يسقط معها كل كبير ، ولا يعبد ويتقى إلا الله العلي الكبير
ثم يحكي القرآن تخليطهم في القيم والموازين؛ وهم يعترضون على اختيار الله لمحمد صلى الله عليه وسلم ليحمل إليهم الحق والنور :
{ وقالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } . .
يقصدون بالقريتين مكة والطائف . ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذؤابة قريش ، ثم من ذؤابة بني هاشم . وهم في العلية من العرب . كما كان شخصه صلى الله عليه وسلم معروفاً بسمو الخلق في بيئته قبل بعثته . ولكنه لم يكن زعيم قبيلة ، ولا رئيس عشيرة ، في بيئته تعتز بمثل هذه القيم القبلية . وهذا ما قصد إليه المعترضون بقولهم : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم }
والله أعلم حيث يجعل رسالته . ولقد اختار لها من يعلم أنه لها أهل . ولعله سبحانه لم يشأ أن يجعل لهذه الرسالة سنداً من خارج طبيعتها ، ولا قوة من خارج حقيقتها؛ فاختار رجلاً ميزته الكبرى . . الخلق . . وهو من طبيعة هذه الدعوة . . وسمته البارزة . . التجرد . . وهو من حقيقة هذه الدعوة . . ولم يختره زعيم قبيلة ، ولا رئيس عشيرة ، ولا صاحب جاه ، ولا صاحب ثراء . كي لا تلتبس قيمة واحدة من قيم هذه الأرض بهذه الدعوة النازلة من السماء . ولكي لا تزدان هذه الدعوة بحلية من حلى هذه الأرض ليست من حقيقتها في شيء . ولكي لا يكون هناك مؤثر مصاحب لها خارج عن ذاتها المجردة . ولكي لا يدخلها طامع ولا يتنزه عنها متعفف .
ولكن القوم الذين غلب عليهم المتاع ، والذين لم يدركوا طبيعة دعوة السماء ، راحوا يعترضون ذلك الاعتراض .

{ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم }
فرد عليهم القرآن مستنكراً هذا الاعتراض على رحمة الله ، التي يختار لها من عباده من يشاء؛ وعلى خلطهم بين قيم الأرض وقيم السماء؛ مبيناً لهم عن حقيقة القيم التي يعتزون بها ، ووزنها الصحيح في ميزان الله :
{ أهم يقسمون رحمة ربك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ، ورحمة ربك خير مما يجمعون } . .
أهم يقسمون رحمة ربك؟ يا عجباً وما لهم هم ورحمة ربك؟ وهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً ، ولا يحققون لأنفسهم رزقاً حتى رزق هذه الأرض الزهيد نحن أعطيناهم إياه؛ وقسمناه بينهم وفق حكمتنا وتقديرنا لعمران هذه الأرض ونمو هذه الحياة .
{ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً } . .
ورزق المعاش في الحياة الدنيا يتبع مواهب الأفراد ، وظروف الحياة ، وعلاقات المجتمع . وتختلف نسب التوزيع بين الأفراد والجماعات وفق تلك العوامل كلها . تختلف من بيئة لبيئة ، ومن عصر لعصر ، ومن مجتمع لمجتمع ، وفق نظمه وارتباطاته وظروفه العامة كلها . ولكن السمة الباقية فيه ، والتي لم تتخلف أبداً حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة للإنتاج وللتوزيع أنه متفاوت بين الأفراد .
وتختلف أسباب التفاوت ما تختلف بين أنواع المجتمعات وألوان النظم . ولكن سمة التفاوت في مقادير الرزق لا تتخلف أبداً . ولم يقع يوماً حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة أن تساوى جميع الأفراد في هذا الرزق أبداً : { ورفعنا بعضهم فوق بعضه درجات } . .
والحكمة في هذا التفاوت الملحوظ في جميع العصور ، وجميع البيئات ، وجميع المجتمعات هي :
{ ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً } . .
ليسخر بعضهم بعضاً . . ودولاب الحياة حين يدور يسخر بعض الناس لبعض حتما . وليس التسخير هو الاستعلاء . . استعلاء طبقة على طبقة ، أو استعلاء فرد على فرد . . كلا إن هذا معنى قريب ساذج ، لا يرتفع إلى مستوى القول الإلهي الخالد . كلا إن مدلول هذا القول أبقى من كل تغير أو تطور في أوضاع الجماعة البشرية؛ وأبعد مدى من ظرف يذهب وظرف يجيء . . إن كل البشر مسخر بعضهم لبعض . ودولاب الحياة يدور بالجميع ، ويسخر بعضهم لبعض في كل وضع وفي كل ظرف . المقدر عليه في الرزق مسخر للمبسوط له في الرزق . والعكس كذلك صحيح . فهذا مسخر ليجمع المال ، فيأكل منه ويرتزق ذاك . وكلاهما مسخر للآخر سواء بسواء . والتفاوت في الرزق هو الذي يسخر هذا لذاك ، ويسخر ذاك لهذا في دورة الحياة . . العامل مسخر للمهندس ومسخر لصاحب العمل . والمهندس مسخر للعامل ولصاحب العمل . وصاحب العمل مسخر للمهندس وللعامل على السواء . . وكلهم مسخرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات ، والتفاوت في الأعمال والأرزاق . .
وأحسب أن كثيرين من دعاة المذاهب الموجهة يتخذون من هذه الآية موضع هجوم على الإسلام ونظمه الاجتماعية والاقتصادية .

وأحسب أن بعض المسلمين يقفون يجمجمون أمام هذا النص ، كأنما يدفعون عن الإسلام تهمة تقرير الفوارق في الرزق بين الناس ، وتهمة تقرير أن الناس يتفاوتون في الرزق ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا
وأحسب أنه قد آن لأهل الإسلام أن يقفوا بإسلامهم مواجهة وصراحة موقف الاستعلاء المطلق ، لا موقف الدفاع أمام اتهام تافه إن الإسلام يقرر الحقائق الخالدة المركوزة في فطرة هذا الوجود؛ الثابتة ثبات السماوات والأرض ونواميسها التي لا تختل ولا تتزعزع .
وطبيعة هذه الحياة البشرية قائمة على أساس التفاوت في مواهب الأفراد والتفاوت فيما يمكن أن يؤديه كل فرد من عمل؛ والتفاوت في مدى اتقان هذا العمل . وهذا التفاوت ضروري لتنوع الأدوار المطلوبة للخلافة في هذه الأرض . ولو كان جميع الناس نسخاً مكرورة ما أمكن أن تقوم الحياة في هذه الأرض بهذه الصورة . ولبقيت أعمال كثيرة جداً لا تجد لها مقابلاً من الكفايات ، ولا تجد من يقوم بها والذي خلق الحياة وأراد لها البقاء والنمو ، خلق الكفايات والاستعدادات متفاوتة تفاوت الأدوار المطلوب أداؤها . وعن هذا التفاوت في الأدوار يتفاوت الرزق . . هذه هي القاعدة . . أما نسبة التفاوت في الرزق فقد تختلف من مجتمع إلى مجتمع ، ومن نظام إلى نظام . ولكنها لا تنفي القاعدة الفطرية المتناسقة مع طبيعة الحياة الضرورية لنمو الحياة . ومن ثم لم يستطع أصحاب المذاهب المصطنعة المتكلفة أن يساووا بين أجر العامل وأجر المهندس ، ولا بين أجر الجندي وأجر القائد . على شدة ما حاولوا أن يحققوا مذهبهم . وهزموا أمام الناموس الإلهي الذي تقرره هذه الآية من كلام الله . وهي تكشف عن سنة ثابتة من سنن الحياة .
ذلك شأن الرزق والمعاش في هذه الحياة الدنيا . ووراء ذلك رحمة الله :
{ ورحمة ربك خير مما يجمعون } . .
والله يختار لها من يشاء ، ممن يعلم أنهم لها أهل . ولا علاقة بينها وبين عرض الحياة الدنيا؛ ولا صلة لها بقيم هذه الحياة الدنيا . فهذه القيم عند الله زهيدة زهيدة . ومن ثم يشترك فيها الأبرار والفجار ، وينالها الصالحون والطالحون . بينما يختص برحمته المختارين .
وإن قيم هذه الأرض لمن الزهادة والرخص بحيث لو شاء الله لأغدقها إغداقاً على الكافرين به . ذلك إلا أن تكون فتنة للناس ، تصدهم عن الإيمان بالله :
{ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون . ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون . وزخرفاً . وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا . والآخرة عند ربك للمتقين } . .
فهكذا لولا أن يفتتن الناس . والله أعلم بضعفهم وتأثير عرض الدنيا في قلوبهم لجعل لمن يكفر بالرحمن صاحب الرحمة الكبيرة العميقة بيوتاً سقفها من فضة ، وسلالمها من ذهب .

بيوتاً ذات أبواب كثيرة . قصورا . فيها سرر للاتكاء ، وفيها زخرف للزينة . . رمزاً لهوان هذه الفضة والذهب والزخرف والمتاع؛ بحيث تبذل هكذا رخيصة لمن يكفر بالرحمن
{ وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } . .
متاع زائل ، لا يتجاوز حدود هذه الدنيا . ومتاع زهيد يليق بالحياة الدنيا .
{ والآخرة عند ربك للمتقين } . .
وهؤلاء هم المكرمون عند الله بتقواهم؛ فهو يدخر لهم ما هو أكرم وأبقى؛ ويؤثرهم بما هو أقوم وأغلى . ويميزهم على من يكفر بالرحمن ، ممن يبذل لهم من ذلك المتاع الرخيص ما يبذله للحيوان
وإن عرض الحياة الدنيا الذي ضرب الله له بعض الأمثال من المال والزينة والمتاع ليفتن الكثيرين . وأشد الفتنة حين يرونه في أيدي الفجار ، ويرون أيادي الأبرار منه خالية؛ أو يرون هؤلاء في عسر أو مشقة أو ابتلاء ، وأولئك في قوة وثروة وسطوة واستعلاء . والله يعلم وقع هذه الفتنة في نفوس الناس . ولكنه يكشف لهم عن زهادة هذه القيم وهوانها عليه؛ ويكشف لهم كذلك عن نفاسة ما يدخره للأبرار الأتقياء عنده . والقلب المؤمن يطمئن لاختيار الله للأبرار وللفجار .
وأولئك الذين كانوا يعترضون على اختيار الله لرجل لم يؤت شيئاً من عرض هذه الحياة الدنيا؛ ويقيسون الرجال بما يملكون من رياسة ، أو بما يملكون من مال . يرون هذه الآيات هوان هذه الأعراض وزهادتها عند الله . وأنها مبذولة لشر خلق الله وأبغضهم عند الله . فهي لا تدل على قربى منه ولا تنبئ عن رضى ، ولا تشي باختيار
وهكذا يضع القرآن الأمور في نصابها؛ ويكشف عن سنن الله في توزيع الأرزاق في الدنيا والآخرة؛ ويقرر حقيقة القيم كما هي عند الله ثابتة . وذلك في صدد الرد على المعترضين على رسالة محمد؛ واختياره . واطراح العظماء المتسلطين
وهكذا يرسي القواعد الأساسية والحقائق الكلية التي لا تضطرب ولا تتغير؛ ولا تؤثر فيها تطورات الحياة ، واختلاف النظم ، وتعدد المذاهب ، وتنوع البيئات . فهناك سنن للحياة ثابتة ، تتحرك الحياة في مجالها؛ ولكنها لا تخرج عن إطارها . والذين تشغلهم الظواهر المتغيرة عن تدبر الحقائق الثابتة ، لا يفطنون لهذا القانون الإلهي ، الذي يجمع بين الثبات والتغير ، في صلب الحياة وفي أطوار الحياة؛ ويحسبون أن التطور والتغير ، يتناول حقائق الأشياء كما يتناول أشكالها . ويزعمون أن التطور المستمر يمتنع معه أن تكون هناك قواعد ثابتة لأمر من الأمور؛ وينكرون أن يكون هناك قانون ثابت غير قانون التطور المستمر . فهذا هو القانون الوحيد الذي يؤمنون بثباته فأما نحن أصحاب العقيدة الإسلامية فنرى في واقع الحياة مصداق ما يقرره الله من وجود الثبات والتغير متلازمين في كل زاوية من زوايا الكون ، وفي كل جانب من جوانب الحياة . وأقرب ما بين أيدينا من هذا التلازم ثبات التفاوت في الرزق بين الناس ، وتغير نسب التفاوت وأسبابه في النظم والمجتمعات .

. وهذا التلازم مطرد في غير هذا المثال .
ولما بين زهادة أعراض الحياة الدنيا وهوانها على الله؛ وأن ما يعطاه الفجار منها لا يدل على كرامة لهم عند الله ، ولا يشير إلى فلاح؛ وأن الآخرة عند ربك للمتقين ، استطراد يبين مصير أولئك الذين قد ينالون تلك الأعراض ، وهم عمي عن ذكر الله ، منصرفون عن الطاعات التي تؤهلهم لرزق الآخرة المعد للمتقين :
{ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين . وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون . حتى إذا جاءنا قال : يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين . فبئس القرين . ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } . .
والعشى كلال البصر عن الرؤية ، وغالباً ما يكون عند مواجهة الضوء الساطع الذي لا تملك العين أن تحدق فيه؛ أو عند دخول الظلام وكلال العين الضعيفة عن التبين خلاله . وقد يكون ذلك لمرض خاص . والمقصود هنا هو العماية والإعراض عن تذكر الرحمن واستشعار وجوده ورقابته في الضمير .
{ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين } . .
وقد قضت مشيئة الله في خلقة الإنسان ذلك . واقتضت أنه حين يغفل قلبه عن ذكر الله يجد الشيطان طريقه إليه ، فيلزمه ، ويصبح له قرين سوء يوسوس له ، ويزين له السوء . وهذا الشرط وجوابه هنا في الآية يعبران عن هذه المشيئة الكلية الثابتة ، التي تتحقق معها النتيجة بمجرد تحقق السبب ، كما قضاه الله في علمه .
ووظيفة قرناء السوء من الشياطين أن يصدوا قرناءهم عن سبيل الله ، بينما هؤلاء يحسبون أنهم مهتدون :
{ وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون } . .
وهذا أسوأ ما يصنعه قرين بقرين . أن يصده عن السبيل الواحدة القاصدة؛ ثم لا يدعه يفيق ، أو يتبين الضلال فيثوب؛ إنما يوهمه أنه سائر في الطريق القاصد القويم حتى يصطدم بالمصير الأليم .
والتعبير بالفعل المضارع : { ليصدونهم } . . { ويحسبون } . . يصور العملية قائمة مستمرة معروضة للأنظار؛ يراها الآخرون ، ولا يراها الضالون السائرون إلى الفخ وهم لا يشعرون .
ثم تفاجئهم النهاية وهم سادرون :
{ حتى إذا جاءنا قال : يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين . فبئس القرين }
وهكذا ننتقل في ومضة من هذه الدنيا إلى الآخرة . ويطوى شريط الحياة السادرة ، ويصل العمي ( الذين يعشون عن ذكر الرحمن ) إلى نهاية المطاف فجأة على غير انتظار . هنا يفيقون كما يفيق المخمور ، ويفتحون أعينهم بعد العشى والكلال؛ وينظر الواحد منهم إلى قرين السوء الذي زين له الضلال ، وأوهمه أنه الهدى وقاده في طريق الهلاك ، وهو يلوح له بالسلامة ينظر إليه في حنق يقول : { يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين } يا ليته لم يكن بيننا لقاء . على هذا البعد السحيق
ويعقب القرآن على حكاية قول القرين الهالك للقرين بقوله : { فبئس القرين }
ونسمع كلمة التيئيس الساحقة لهذا وذاك عند إسدال الستار على الجميع :
{ ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون }
فالعذاب كامل لا تخففه الشركة ، ولا يتقاسمه الشركاء فيهون
عندئذ ينصرف عن هؤلاء ، في مشهدهم البائس الكئيب؛ ويدعهم يتلاومون ويتشاتمون .

ويتجه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسليه عن هذا المصير البائس الذي انتهى إليه فريق من البشر؛ ويعزيه عن إعراضهم عنه وكفرهم بما جاء به؛ويثبته على الحق الذي اوحى إليه؛ وهو الحق الثابت المطرد من قديم ، في رسالة كل رسول :
{ أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين؟ فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون . أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون . فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم . وإنه لذكر لك ولقومك ، وسوف تسألون . واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا : أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟ } . .
وهذا المعنى يتكرر في القرآن تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبياناً لطبيعة الهدى والضلال ، ورجعهما إلى مشيئة الله وتقديره وحده؛ وإخراجهما من نطاق وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام ووضع حدود فاصلة بين مجال القدرة الإنسانية المحدودة في أعلى درجاتها عند مرتقى النبوة ، ومجال القدرة الإلهية الطليقة؛ وتثبيت معنى التوحيد في صورة من أدق صوره ، وفي موضع من ألطف مواضعه :
{ أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين } . .
وهم ليسوا صماً ولا عمياً ، ولكنهم كالصم والعمي في الضلال ، وعدم الانتفاع بالدعاء إلى الهدى ، والإشارة إلى دلائله . ووظيفة الرسول أن يُسمع من يَسمع ، وأن يهدي من يبصر . فإذا هم عطلوا جوارحهم ، وطمسوا منافذ قلوبهم وأرواحهم . فما للرسول إلى هداهم من سبيل؛ ولا عليه من ضلالهم ، فقد قام بواجبه الذي يطيق .
والله يتولى الأمر بعد أداء الرسول لواجبه المحدود :
{ فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون . أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون } . .
والأمر لا يخرج عن هذين الحالين . فإذا ذهب الله بنبيه فسيتولى هو الانتقام من مكذبيه . وإذا قدر له الحياة حتى يتحقق ما أنذرهم به ، فالله قادر على تحقيق النذير ، وهم ليسوا له بمعجزين . ومرد الأمر إلى مشيئة الله وقدرته في الحالين ، وهو صاحب الدعوة . وما الرسول إلا رسول .
{ فاستمسك بالذي أوحي إليك . إنك على صراط مستقيم } . .
واثبت على ما أنت فيه ، وسر في طريقك لا تحفل ما كان منهم وما يكون . سر في طريقك مطمئن القلب . { إنك على صراط مستقيم } . . لا يلتوي بك ولا ينحرف ولا يحيد .
وهذه العقيدة متصلة بحقيقة الكون الكبرى ، متناسقة مع الناموس الكلي الذي يقوم عليه هذا الوجود . فهي مستقيمة معه لا تنفرج عنه ولا تنفصل .

وهي مؤدية بصاحبها إلى خالق هذا الوجود ، على استقامة تؤمن معها الرحلة في ذلك الطريق
والله سبحانه يثبت رسوله صلى الله عليه وسلم بتوكيد هذه الحقيقة . وفيها تثبيت كذلك للدعاة من بعده ، مهما لاقوا من عنت الشاردين عن الطريق
{ وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون } . .
ونص هذه الآية هنا يحتمل أحد مدلولين :
أن هذا القرآن تذكير لك ولقومك تسألون عنه يوم القيامة ، فلا حجة بعد التذكير .
أو أن هذا القرآن يرفع ذكرك وذكر قومك . وهذا ما حدث فعلاً . .
فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فإن مئات الملايين من الشفاه تصلي وتسلم عليه ، وتذكره ذكر المحب المشتاق آناء الليل وأطراف النهار منذ قرابة ألف وأربع مئة عام . ومئات الملايين من القلوب تخفق بذكره وحبه منذ ذلك التاريخ البعيد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
وأما قومه فقد جاءهم هذا القرآن والدنيا لا تحس بهم ، وإن أحست اعتبرتهم على هامش الحياة . وهو الذي جعل لهم دورهم الأكبر في تاريخ هذه البشرية . وهو الذي واجهوا به الدنيا فعرفتهم ودانت لهم طوال الفترة التي استمسكوا فيها به . فلما أن تخلوا عنه أنكرتهم الأرض ، واستصغرتهم الدنيا؛ وقذفت بهم في ذيل القافلة هناك ، بعد أن كانوا قادة الموكب المرموقين
وإنها لتبعة ضخمة تسأل عنها الأمة التي اختارها الله لدينه ، واختارها لقيادة القافلة البشرية الشاردة ، إذا هي تخلت عن الأمانة : { وسوف تسألون } . .
وهذا المدلول الأخير أوسع وأشمل . وأنا إليه أميل .
{ واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا : أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟ } . .
والتوحيد هو أساس دين الله الواحد منذ أقدم رسول . فعلام يرتكن هؤلاء الذين يجعلون من دون الرحمن آلهة يعبدون؟
والقرآن يقرر هذه الحقيقة هنا في هذه الصورة الفريدة . . صورة الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الرسل قبله عن هذه القضية : { أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟ } وحول هذا السؤال ظلال الجواب القاطع من كل رسول . وهي صورة طريفة حقاً . وهو أسلوب موح شديد التأثير في القلوب .
وهناك أبعاد الزمان والمكان بين الرسول صلى الله عليه وسلم والرسل قبله . وهناك أبعاد الموت والحياة وهي أكبر من أبعاد الزمان والمكان . . ولكن هذه الأبعاد كلها تتلاشى هنا أمام الحقيقة الثابتة المطردة . حقيقة وحدة الرسالة المرتكزة كلها على التوحيد . وهي كفيلة أن تبرز وتثبت حيث يتلاشى الزمان والمكان والموت والحياة وسائر الظواهر المتغيرة؛ ويتلاقى عليها الأحياء والأموات على مدار الزمان متفاهمين متعارفين . . وهذه هي ظلال التعبير القرآني اللطيف العجيب . .
على أنه بالقياس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الرسل مع ربهم لا يبقى شىء بعيد وآخر قريب . فهناك دائماً تلك اللحظة اللدنية التي تزال فيها الحواجز وترتفع فيها السدود ، وتتجلى الحقيقة الكلية عارية من كل ستار .

حقيقة النفس وحقيقة الوجود كله وأهل هذا الوجود . تتجلى وحدة متصلة ، وقد سقط عنها حاجز الزمان وحاجز المكان وحاجز الشكل والصورة . وهنا يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ويجاب ، بلا حاجز ولا حجاب . كما وقع في ليلة الإسراء والمعراج .
وإنه ليحسن في مثل هذه المواطن ألا نعتد كثيراً بالمألوف في حياتنا . فهذا المألوف ليس هو القانون الكلي . ونحن لا ندرك من هذا الوجود إلا بعض ظواهره وبعض آثاره ، حين نهتدي إلى طرف من قانونه . وهناك حجب من تكويننا ذاته ومن حواسنا وما نرتبه عليها من مألوفات . فأما اللحظة التي تتجرد فيها النفس من هذه العوائق والحجب فيكون لقاء الحقيقة المجردة للإنسان بالحقيقة المجردة لأي شىء آخر أمراً أيسر من لمس الأجسام للأجسام
وفي سياق تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما يعترض به المعترضون من كبراء قومه على اختياره؛ واعتزازهم بالقيم الباطلة لعرض هذه الحياة الدنيا . تجيء حلقة من قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه ، يذكر فيها اعتزاز فرعون بمثل ما يعتز به من يقولون : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } وتباهيه بما له من ملك ومن سلطان ، وتساؤله في فخر وخيلاء : { أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ أفلا تبصرون؟ } . . وانتفاخه على موسى عبد الله ورسوله وهو مجرد من الجاه الأرضي والعرض الدنيوي : { أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين؟ } . . واقتراحه الذي يشبه ما يقترحون : { فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين } . .
وكأنما هي نسخة تكرر ، أو اسطوانة تعاد
ثم يبين كيف استجابت لفرعون الجماهير المستخفة المخدوعة؛ على الرغم من الخوارق التي عرضها عليهم موسى عليه السلام وعلى الرغم مما أصابهم من ابتلاءات ، واستغاثتهم بموسى ليدعو ربه فيكشف عنهم البلاء .
ثم كيف كانت العاقبة بعدما ألزمهم الله الحجة بالتبليغ : { فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ، فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين } . .
وها هم أولاء الآخرون لا يعتبرون ولا يتذكرون
ومن خلال هذه الحلقة تتجلى وحدة الرسالة ، ووحدة المنهج ، ووحدة الطريق . كما تتبدى طبيعة الكبراء والطغاة في استقبال دعوة الحق ، واعتزازهم بالتافه الزهيد من عرض هذه الأرض؛ وطبيعة الجماهير التي يستخفها الكبراء والطغاة على مدار القرون
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه ، فقال : إني رسول رب العالمين . فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون } . .
هنا يعرض حلقة اللقاء الأول بين موسى وفرعون ، في إشارة مقتضبة تمهيداً لاستعراض النقطة الرئيسية المقصودة من القصة في هذا الموضع وهي تشابه اعتراضات فرعون وقيمه مع اعتراضات مشركي العرب وقيمهم ويلخص حقيقة رسالة موسى : { فقال : إني رسول رب العالمين } .

. وهي ذات الحقيقة التي جاء بها كل رسول : أنه { رسول } وأن الذي أرسله هو { رب العالمين } . .
ويشير كذلك إشارة سريعة إلى الآيات التي عرضها موسى ، وينهي هذه الإشارة بطريقة استقبال القوم لها : { إذا هم منها يضحكون } . . شأن الجهال المتعالين
يلي ذلك إشارة إلى ما أخذ الله به فرعون وملأه من الابتلاءات المفصلة في سور أخرى :
{ وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها ، وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون . وقالوا : يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون . فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون } . .
وهكذا لم تكن الآيات التي ظهرت على يدي موسى عليه السلام مدعاة إيمان ، وهي تأخذهم متتابعة . كل آية أكبر من أختها . مما يصدق قول الله تعالى في مواضع كثيرة ، وفحواه أن الخوارق لا تهدي قلباً لم يتأهل للهدى؛ وأن الرسول لا يسمع الصم ولا يهدي العمي
والعجب هنا فيما يحكيه القرآن عن فرعون وملئه قولهم : { يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون } . . فهم أمام البلاء ، وهم يستغيثون بموسى ليرفع عنهم البلاء . ومع ذلك يقولون له : { يا أيها الساحر } ويقولون كذلك : { ادع لنا ربك بما عهد عندك } وهو يقول لهم : إنه رسول { رب العالمين } لا ربه هو وحده على جهة الاختصاص ولكن لا الخوارق ولا كلام الرسول مس قلوبهم ، ولا خالطتها بشاشة الإيمان ، على الرغم من قولهم : { إننا لمهتدون } :
{ فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون } . .
ولكن الجماهير قد تؤخذ بالخوارق المعجزة ، وقد يجد الحق سبيلاً إلى قلوبها المخدوعة . وهنا يبرز فرعون في جاهه وسلطانه ، وفي زخرفه وزينته ، يخلب عقول الجماهير الساذجة بمنطق سطحي ، ولكنه يروج بين الجماهير المستعبدة في عهود الطغيان ، المخدوعة بالأبهة والبريق :
{ ونادى فرعون في قومه : قال : يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ أفلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ، ولا يكاد يبين؟ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين؟ } .
إن ملك مصر وهذه الأنهار التي تجري من تحت فرعون ، أمر قريب مشهود للجماهير ، يبهرها وتستخفها الإشارة إليه . فأما ملك السماوات والأرض وما بينهما ومصر لا تساوي هباءة فيه فهو أمر يحتاج إلى قلوب مؤمنة تحسه ، وتعقد الموازنة بينه وبين ملك مصر الصغير الزهيد
والجماهير المستعبدة المستغفلة يغريها البريق الخادع القريب من عيونها؛ ولا تسمو قلوبها ولا عقولها إلى تدبر ذلك الملك الكوني العريض البعيد
ومن ثم عرف فرعون كيف يلعب بأوتار هذه القلوب ويستغفلها بالبريق القريب
{ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين؟ } .

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

في هذا الدرس الأخير من السورة يستطرد السياق إلى حكاية أساطيرهم حول عبادة الملائكة؛ ويحكي حادثاً من حوادث الجدل الذي كانوا يزاولونه ، وهم يدافعون عن عقائدهم الواهية ، لا بقصد الوصول إلى الحق ، ولكن مراء ومحالاً
فلما قيل لهم : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم . وكان القصد هو أصنامهم التي جعلوها تماثيل للملائكة ثم عبدوها بذاتها . وقيل لهم : إن كل عابد وما يعبد من دون الله في النار . لما قيل لهم هذا ضرب بعضهم المثل بعيسى ابن مريم وقد عبده المنحرفون من قومه أهو في النار؟ وكان هذا مجرد جدل ومجرد مراء . ثم قالوا : إذا كان أهل الكتاب يعبدون عيسى وهو بشر فنحن أهدى إذ نعبد الملائكة وهم بنات الله وكان هذا باطلاً يقوم على باطل .
وبهذه المناسبة يذكر السياق طرفاً من قصة عيسى ابن مريم ، يكشف عن حقيقته وحقيقة دعوته ، واختلاف قومه من قبله ومن بعده .
ثم يهدد المنحرفين عن سواء العقيدة جميعاً بمجيء الساعة بغتة . وهنا يعرض مشهداً مطولاً من مشاهد القيامة ، يتضمن صفحة من النعيم للمتقين ، وصفحة من العذاب الأليم للمجرمين .
وينفي أساطيرهم عن الملائكة ، وينزه الله سبحانه عما يصفون ، ويعرفه لعباده ببعض صفاته؛ وملكيته المطلقة للسماء والأرض والدنيا والآخرة وإليه يرجعون .
ويختم السورة بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الصفح عنهم والإعراض ويدعهم ليعملوا ما سيعملون وهو تهديد ملفوف يليق بالمجادلين المرائين بعد هذا الإيضاح والتبيين .
{ ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون . وقالوا : أآلهتنا خير أم هو؟ ما ضربوه لك إلا جدلاً . بل هم قوم خصمون . إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل . ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون . وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون ، هذا صراط مستقيم . ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين } . .
{ ولما جاء عيسى بالبينات قال : قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه ، فاتقوا الله وأطيعون . إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم . فاختلف الأحزاب من بينهم ، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم } . .
ذكر ابن إسحاق في السيرة قال : « جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم ، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه . ثم تلا عليه وعليهم : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } . . الآيات . . ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعري التميمي حتى جلس . فقال الوليد بن المغيرة له : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم . فقال عبد الله بن الزبعري : أما والله لو وجدته لخصمته . سلوا محمداً أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيراً ، والنصارى تعبد المسيح ابن مريم . فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم . فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده . فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته « فأنزل الله عز وجل : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } . . أي عيسى وعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله عز وجل ، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله ، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، وأنه يعبد من دون الله ، وعجب الوليد ومن حضر من حجته وخصومته : { ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون } . . أي يصدون عن أمرك بذلك » .

وذكر صاحب الكشاف في تفسيره : « لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } امتعضوا من ذلك امتعاضاً شديداً . فقال عبد الله بن الزبعري : يا محمد . أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجيمع الأمم؟ فقال عليه السلام : » هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم « فقال : خصمتك ورب الكعبة ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي ، وتثني عليه خيراً وعلى أمه؟ وقد علمت أن النصارى يعبدونهما؟ وعزير يعبد؟ والملائكة يعبدون؟ فإن كل هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا . وسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } ونزلت هذه الآية » والمعنى : ولما ضرب عبدالله بن الزبعري عيسى ابن مريم مثلاً ، وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه { إذا قومك } قريش من هذا المثل { يصدون } ترتفع لهم جلبة وضجيج ، فرحاً وجذلاً وضحكاً بما سمعوا من إسكات رسول الله - صلى الله عليه وسلم بجدله ، كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا تعبوا بحجة ثم فتحت عليهم . وأما من قرأ { يصدون } بالضم فمن الصدود . أي من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه .

وقيل : من الصديد وهو الجبة . وأنهما لغتان نحو يعكُف ويعكِف ونظائر لهما . { وقالوا أآلهتنا خير أم هو؟ } يعنون أن آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى؛ وإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا هيناً « .
ولم يذكر صاحب الكشاف من أين استقى روايته هذه . وهي تتفق في عمومها مع رواية ابن إسحاق .
ومن كليهما يتضح الالتواء في الجدل ، والمراء في المناقشة . ويتضح ما يقرره القرآن عن طبيعة القوم وهو يقول : { بل هم قوم خصمون } . . ذوو لدد في الخصومة ومهارة . فهم يدركون من أول الأمر ما يقصد إليه القرآن الكريم وما يقصد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فيلوونه عن استقامته ، ويتلمسون شبهة في عموم اللفظ فيدخلون منها بهذه المماحكات الجدلية ، التي يغرم بمثلها كل من عدم الإخلاص ، وفقد الاستقامة؛ يكابر في الحق ، ويعمد إلى شبهة في لفظ أو عبارة أو منفذ خلفي للحقيقة ومن ثم كان نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشديده عن المراء ، الذي لا يقصد به وجه الحق ، إنما يراد به الغلبة من أي طريق .
قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، عن عبادة بن عبادة ، عن جعفر ، عن القاسم ، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : » إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن . فغضب غضباً شديداً ، حتى كأنما صب على وجهه الخل . ثم قال : صلى الله عليه وسلم : « لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض . فإنه ما ضل قوم قط إلا أوتوا الجدل » . ثم تلا صلى الله عليه وسلم { ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون } . . «
وهناك احتمال في تفسير قوله تعالى : { وقالوا : أآلهتنا خير أم هو؟ } يرشح له سياق الآيات في صدد أسطورتهم عن الملائكة . وهم أنهم عنوا أن عبادتهم للملائكة خير من عبادة النصارى لعيسى ابن مريم . بما أن الملائكة أقرب في طبيعتهم وأقرب نسباً حسب اسطورتهم من الله سبحانه وتعالى عما يصفون . ويكون التعقيب بقوله تعالى : { ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون } . . يعني الرد على ابن الزبعري كما سبق . كما يعني أن ضربهم المثل بعبادة النصارى للمسيح باطل . فعمل النصارى ليس حجة لأنه انحراف عن التوحيد . كانحرافهم هم . فلا مجال للمفاضلة بين انحراف وانحراف . فكله ضلال . وقد أشار إلى هذا الوجه بعض المفسرين أيضاً . وهو قريب .
ومن ثم جاء التعقيب بعد هذا :
{ إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل } . .
فليس إلهاً يعبد كما انحرف فريق من النصارى فعبدوه .

إنما هو عبد أنعم الله عليه . ولا جريرة له في عبادتهم إياه . فإنما أنعم الله عليه ليكون مثلاً لبني إسرائيل ينظرون إليه ويتأسون به . فنسوا المثل ، وضلوا السبيل
واستطرد إلى أسطورتهم حول الملائكة ، يبين لهم أن الملائكة خلق من خلق الله مثلهم . ولو شاء الله لجعل الملائكة يخلفونهم في هذه الأرض ، أو لحول بعض الناس إلى ملائكة يخلفونهم في الأرض :
{ ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون } . .
فمرد الأمر إلى مشيئة الله في الخلق . وما يشاؤه من الخلق يكون . وليس أحد من خلقه يمت إليه بنسب ، ولا يتصل به سبحانه إلا صلة المخلوق بالخالق ، والعبد بالرب ، والعابد بالمعبود .
ثم يعود إلى تقرير شىء عن عيسى عليه السلام . يذكرهم بأمر الساعة التي يكذبون بها أو يشكون فيها :
{ وإنه لعلم الساعة . فلا تمترن بها . واتبعون . هذا صراط مستقيم . ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين } . .
وقد وردت أحاديث شتى عن نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض قبيل الساعة وهو ما تشير إليه الآية : { وإنه لعلم للساعة } بمعنى أنه يُعلم بقرب مجيئها ، والقراءة الثانية { وإنه لَعَلَم للساعة } بمعنى أمارة وعلامة . وكلاهما قريب من قريب .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها » .
وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة . فينزل عيسى ابن مريم ، فيقول أميرهم : تعال : صل لنا . فيقول : لا . إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله تعالى لهذه الأمة » .
وهو غيب من الغيب الذي حدثنا عنه الصادق الأمين وأشار إليه القرآن الكريم ، ولا قول فيه لبشر إلا ما جاء من هذين المصدرين الثابتين إلى يوم الدين .
{ فلا تمترن بها . واتبعون . هذا صراط مستقيم } . .
وكانوا يشكون في الساعة ، فالقرآن يدعوهم إلى اليقين . وكانوا يشردون عن الهدى ، والقرآن يدعوهم على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اتباعه فإنه يسير بهم في الطريق المستقيم ، القاصد الواصل الذي لا يضل سالكوه .
ويبين لهم أن انحرافهم وشردوهم أثر من اتباع الشيطان . والرسول أولى أن يتبعوه :
{ ولا يصدنكم الشيطان . إنه لكم عدو مبين } . .
والقرآن لا يفتأ يذكر البشر بالمعركة الخالدة بينهم وبين الشيطان منذ أبيهم آدم ، ومنذ المعركة الأولى في الجنة . وأغفل الغافلين من يعلم أن له عدواً يقف له بالمرصاد ، عن عمد وقصد ، وسابق إنذار وإصرار؛ ثم لا يأخذ حذره؛ ثم يزيد فيصبح تابعاً لهذا العدو الصريح
وقد أقام الإسلام الإنسان في هذه المعركة الدائمة بينه وبين الشيطان طوال حياته على هذه الأرض؛ ورصد له من الغنيمة إذا هو انتصر ما لا يخطر على قلب بشر ، ورصد له من الخسران إذا هو اندحر ما لا يخطر كذلك على قلب بشر .

وبذلك حول طاقة القتال فيه إلى هذه المعركة الدائبة؛ التي تجعل من الإنسان إنساناً ، وتجعل له طابعه الخاص بين أنواع الخلائق المتنوعة الطبائع والطباع والتي تجعل أكبر هدف للإنسان على الأرض أن ينتصر على عدوه الشيطان؛ فينتصر على الشر والخبث والرجس؛ ويثبت في الأرض قوائم الخير والنصح والطهر .
وبعد هذه اللفتة يعود إلى بيان حقيقة عيسى عليه السلام وحقيقة ما جاء به؛ وكيف اختلف قومه من قبله ثم اختلفوا كذلك من بعده :
{ ولما جاء عيسى بالبينات قال : قد جئتكم بالحكمة ، ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه ، فاتقوا الله وأطيعون . إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه ، هذا صراط مستقيم . فاختلف الأحزاب من بينهم ، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم } . .
فعيسى جاء قومه بالبينات الواضحات سواء من الخوارق التي أجراها الله على يديه ، أو من الكلمات والتوجيهات إلى الطريق القويم . وقال لقومه : { قد جئتكم بالحكمة } . ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ، وأمن الزلل والشطط أمنه للتفريط والتقصير؛ واطمأن إلى خطواته في الطريق على اتزان وعلى نور . وجاء ليبين لهم بعض الذي يختلفون فيه . وقد اختلفوا في كثير من شريعة موسى عليه السلام وانقسموا فرقاً وشيعاً . ودعاهم إلى تقوى الله وإلى طاعته فيما جاءهم به من عند الله . وجهر بكلمة التوحيد خالصة لا مواربة فيها ولا لبس ولا غموض : { إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه } . . ولم يقل : إنه إله ، ولم يقل : إنه ابن الله . ولم يشر من قريب أو بعيد إلى صلة له بربه غير صلة العبودية من جانبه والربوبية من جانب الله رب الجميع . وقال لهم : إن هذا صراط مستقيم لا التواء فيه ولا اعوجاج ، ولا زلل فيه ولا ضلال . ولكن الذين جاءوا من بعده اختلفوا أحزاباً كما كان الذين من قبله مختلفين أحزاباً . اختلفوا ظالمين لا حجة لهم ولا شبهة : { فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم } . .
لقد كانت رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل؛ وكانوا ينتظرونه ليخلصهم مما كانوا فيه من الذل تحت حكم الرومان؛ وقد طال انتظارهم له ، فلما جاءهم نكروه وشاقوه ، وهموا أن يصلبوه
ولقد جاء المسيح فوجدهم شيعاً ونحلا كثيرة ، أهمها أربع فرق أو طوائف .
طائفة الصدوقيين نسبة إلى « صدوق » وإليه وإلى أسرته ولاية الكهانة من عهد داود وسليمان .

وحسب الشريعة لا بد أن يرجع نسبه إلى هارون أخي موسى . فقد كانت ذريته هي القائمة على الهيكل . وكانوا بحكم وظيفتهم واحترافهم متشددين في شكليات العبادة وطقوسها ، ينكرون « البدع » في الوقت الذي يترخصون في حياتهم الشخصية ويستمتعون بملاذ الحياة؛ ولا يعترفون بأن هناك قيامة
وطائفة الفريسيين ، وكانوا على شقاق مع الصدوقيين . ينكرون عليهم تشددهم في الطقوس والشكليات ، وجحدهم للبعث والحساب . والسمة الغالبة على الفريسيين هي الزهد والتصوف وإن كان في بعضهم اعتزاز وتعال بالعلم والمعرفة . وكان المسيح عليه السلام ينكر عليهم هذه الخيلاء وشقشقة اللسان
وطائفة السامريين ، وكانوا خليطاً من اليهود والأشوريين ، وتدين بالكتب الخمسة في العهد القديم المعروفة بالكتب الموسوية ، وتنفي ما عداها مما أضيف إلى هذه الكتب في العهود المتأخرة ، مما يعتقد غيرهم بقداسته .
وطائفة الآسين أو الأسينيين . وكانوا متأثرين ببعض المذاهب الفلسفية ، وكانوا يعيشون في عزلة عن بقية طوائف اليهود ، ويأخذون أنفسهم بالشدة والتقشف ، كما يأخذون جماعتهم بالشدة في التنظيم .
وهناك غير هذه الطوائف نحل شتى فردية ، وبلبلة في الاعتقد والتقاليد بين بني إسرائيل ، الراضخين لضغط الإمبراطورية الرومانية المستذلين المكبوتين ، الذين ينتظرون الخلاص على يد المخلص المنتظر من الجميع .
فلما أن جاء المسيح عليه السلام بالتوحيد الذي أعلنه : { إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه } . وجاء معه بشريعة التسامح والتهذيب الروحي والعناية بالقلب البشري قبل الشكليات والطقوس ، حاربه المحترفون الذين يقومون على مجرد الأشكال والطقوس .
ومما يؤثر عنه عليه السلام في هذا قوله عن هؤلاء : « إنهم يحزمون الأوقار ، ويسومون الناس أن يحملوها على عواتقهم ، ولا يمدون إليها إصبعاً يزحزحونها ، وإنما يعملون عملهم كله لينظر الناس إليهم يعرضون عصائبهم ، ويطيلون أهداب ثيابهم ، ويستأثرون بالمتكأ الأول في الولائم ، والمجالس الأولى في المجامع ، ويبتغون التحيات في الأسواق . وأن يقال لهم : سيدي . سيدي . حيث يذهبون » . .
أو يخاطب هؤلاء فيقول : « أيها القادة العميان الذين يحاسبون على البعوضة ويبتلعون الجمل . . إنكم تنقون ظاهر الكأس والصحفة ، وهما في الباطن مترعان بالرجس والدعارة . . ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون . إنكم كالقبور المبيضة . خارجها طلاء جميل وداخلها عظام نخرة » . .
وإن الإنسان وهو يقرأ هذه الكلمات المأثورة عن المسيح عليه السلام وغيرها في بابها ليكاد يتصور رجال الدين المحترفين في زماننا هذا . فهو طابع واحد مكرر . لهؤلاء الرسميين المحترفين من رجال الدين ، الذين يراهم الناس في كل حين
ثم ذهب المسيح عليه السلام إلى ربه ، فاختلف أتباعه من بعده . اختلفوا شيعاً وأحزاباً . بعضها يؤلهه . وبعضها ينسب لله سبحانه بنوته . وبعضها يجعل الله ثالث ثلاثة أحدها المسيح ابن مريم . وضاعت كلمة التوحيد الخالصة التي جاء بها عيسى عليه السلام .

وضاعت دعوته الناس ليلجأوا إلى ربهم ويعبدوه مخلصين له الدين .
{ فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم } . .
ثم جاء مشركو العرب يحاجون رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام بما فعلته الأحزاب المختلفة من بعده ، وما أحدثته حوله من أساطير
وحين يصل السياق إلى الحديث عن الظالمين ، يدمج المختلفين من الأحزاب بعد عيسى عليه السلام مع المحاجين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بفعل هذه الأحزاب؛ ويصور حالهم يوم القيامة في مشهد رائع طويل ، يحتوي كذلك صفحة المتقين المكرمين في جنات النعيم :
{ هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون؟ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } .
{ يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون . الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسملين . ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون . يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، وأنتم فيها خالدون . وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون . لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون . }
{ إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون . لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون . وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين . ونادوا : يا مالك ليقض علينا ربك . قال : إنكم ماكثون . .
يبدأ المشهد بوقوع الساعة فجأة وهم غافلون عنها ، لا يشعرون بمقدمها :
{ هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون }
هذه المفاجأة تحدث حدثاً غريباً ، يقلب كل ما كانوا يألفونه في الحياة الدنيا :
{ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } . .
وإن عداء الأخلاء لينبع من معين ودادهم . . لقد كانوا في الحياة الدنيا يجتمعون على الشر ، ويملي بعضهم لبعض في الضلال . فاليوم يتلاومون . واليوم يلقي بعضهم على بعض تبعة الضلال وعاقبة الشر . واليوم ينقلبون إلى خصوم يتلاحون ، من حيث كانوا أخلاء يتناجون { إلا المتقين } . . فهؤلاء مودتهم باقية فقد كان اجتماعهم على الهدى ، وتناصحهم على الخير ، وعاقبتهم إلى النجاة . .
وبينما الأخلاء يتلاحون ويختصمون ، يتجاوب الوجود كله بالنداء العلوي الكريم للمتقين :
{ يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون . الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين . ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون } . .
أي تسرون سروراً يشيع في أعطافكم وقسماتكم فيبدو عليكم الحبور .
ثم نشهد بعين الخيال فإذا صحاف من ذهب وأكواب يطاف بها عليهم . وإذا لهم في الجنة ما تشتهيه الأنفس . وفوق شهوة النفوس التذاذ العيون ، كمالاً وجمالاً في التكريم :
{ يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب . وفيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين } . .
ومع هذا النعيم . ما هو أكبر منه وأفضل . التكريم بالخطاب من العلي الكريم :
{ وأنتم فيها خالدون . وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون . لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون . . }
فما بال المجرمين الذين تركناهم منذ هنيهة يتلاحون ويختصمون؟
{ إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون } .

.
وهو عذاب دائم ، وفي درجة شديدة عصيبة . لا يفتر لحظة ، ولا يبرد هنيهة . ولا تلوح لهم فيه بارقة من أمل في الخلاص ، ولا كوة من رجاء بعيد . فهم فيه يائسون قانطون :
{ لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون } . .
كذلك فعلوا بأنفسهم ، وأوردوها هذا المورد الموبق ، ظالمين غير مظلومين :
{ وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين } . .
ثم تتناوح في الجو صيحة من بعيد . صيحة تحمل كل معاني اليأس والكرب والضيق :
{ ونادوا : يا مالك . ليقض علينا ربك } . .
إنها صيحة متناوحة من بعد سحيق . من هناك من وراء الأبواب الموصدة في الجحيم . إنها صيحة أولئك المجرمين الظالمين . إنهم لا يصيحون في طلب النجاة ولا في طلب الغوث . فهم مبلسون يائسون . إنما يصيحون في طلب الهلاك . الهلاك السريع الذي يريح . . وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا . . وإن هذا النداء ليلقي ظلاً كثيفاً للكرب والضيق . وإننا لنكاد نرى من وراء صرخة الاستغاثة نفوساً أطار صوابها العذاب ، وأجساماً تجاوز الألم بها حد الطاقة ، فانبعثت منها تلك الصيحة المريرة : { يا مالك . ليقض علينا ربك }
ولكن الجواب يجيء في تيئيس وتخذيل ، وبلا رعاية ولا اهتمام :
{ قال : إنكم ماكثون }
فلا خلاص ولا رجاء ولا موت ولا قضاء . . إنكم ماكثون
وفي ظل هذا المشهد الكامد المكروب يخاطب هؤلاء الكارهين للحق ، المعرضين عن الهدى ، الصائرين إلى هذا المصير؛ ويعجب من أمرهم على رؤوس الأشهاد ، في أنسب جو للتحذير والتعجيب .
{ لقد جئناكم بالحق ، ولكن أكثركم للحق كارهون . أم أبرموا أمراً؟ فإنا مبرمون . أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم؟ بلى ورسلنا لديهم يكتبون } . .
وكراهة الحق هي التي كانت تحول بينهم وبين اتباعه ، لا عدم إدراك أنه الحق ، ولا الشك في صدق الرسول الكريم؛ فما عهدوا عيله كذباً قط على الناس ، فكيف يكذب على الله ويدعي عليه ما يدعيه؟
والذين يحاربون الحق لا يجهلون في الغالب أنه الحق ، ولكنهم يكرهونه ، لأنه يصادم أهواءهم ، ويقف في طريق شهواتهم ، وهم أضعف من أن يغالبوا أهواءهم وشهواتهم؛ ولكنهم أجرأ على الحق وعلى دعاته فمن ضعفهم تجاه الأهواء والشهوات يستمدون القوة على الحق والاجتراء على الدعاة
لهذا يهددهم صاحب القوة والجبروت ، العليم بما يسرون وما يمكرون :
{ أم أبرموا أمراً؟ فإنا مبرمون . أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم؟ بلى ورسلنا لديهم يكتبون } . .
فإصرارهم على الباطل في وجه الحق يقابله أمر اله الجازم وإرادته بتمكين هذا الحق وتثبيته . وتدبيرهم ومكرهم في الظلام يقابله علم الله بالسر والنجوى . والعاقبة معروفة حين يقف الخلق الضعاف القاصرون ، أمام الخالق العزيز العليم .
ويتركهم بعد هذا التهديد المرهوب ، ويوجه رسوله الكريم ، إلى قول يقوله لهم . ثم يدعهم من بعده لمصيرهم الذي شهدوا صورته منذ قليل :
{ قل : إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين .

سبحان رب السماوات والأرض . رب العرش عما يصفون . فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون } . .
لقد كانوا يعبدون الملائكة بزعم أنهم بنات الله . ولو كان لله ولد لكان أحق أحد بعبادته ، وبمعرفة ذلك ، نبي الله ورسوله ، فهو منه قريب ، وهو أسرع إلى طاعة الله وعبادته ، وتوقير ولده إن كان له ولد كما يزعمون ولكنه لا يعبد إلا الله . فهذا في ذاته دليل على أن ما يزعمونه من بنوة أحد لله لا أصل له ، ولا سند ولا دليل تنزه الله وتعالى عن ذلك الزعم الغريب
{ سبحان رب السماوات والأرض . رب العرش . عما يصفون } . .
وحين يتأمل الإنسان هذه السماوات والأرض ، ونظامها ، وتناسقها ، ومدى ما يكمن وراء هذا النظام من عظمة وعلو . ومن سيطرة واستعلاء . يشير إلى هذا كله قوله : { رب العرش } . . يصغر في نفسه كل وهم وكل زعم من ذلك القبيل . ويدرك بفطرته أن صانع هذا كله لا يستقيم في الفطرة أن يكون له شبه أي شبه بالخلق . الذين يلدون وينسلون ومن ثم يبدو مثل ذلك القول لهواً ولعباً؛ وخوضاً وتقحماً؛ لا يستحق شىء منه المناقشة والجدل؛ إنما يستحق الإهمال أو التحذير :
{ فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون } . .
والذي شهدوا صورة منه يوم يكون
ثم يمضي بعد الإعراض عنهم وإهمالهم في تمجيد الخالق وتوحيده بما يليق بربوبيته للسماوات والأرض والعرش العظيم :
{ وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله . وهو الحكيم العليم . وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما ، وعنده علم الساعة ، وإليه ترجعون . ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } . .
وهو تقرير الألوهية الواحدة في السماء وفي الأرض ، والتفرد بهذه الصفة لا يشاركه فيها مشارك . مع الحكمة فيما يفعل . والعلم المطلق بهذا الملك العريض .
ثم تمجيد لله وتعظيم في لفظ { تبارك } أي تعاظم الله وتسامى عما يزعمون ويتصورون . وهو { رب السماوات والأرض وما بينهما } . وهو الذي يعلم وحده علم الساعة وإليه المرجع والمآب .
ويومذاك لا أحد ممن يدعونهم أولاداً أو شركاء يملك أن يشفع لأحد منهم كما كانوا يزعمون أنهم يتخذونهم شفعاء عند الله . فإنه لا شفاعة إلا لمن شهد بالحق ، وآمن به . ومن يشهد بالحق لا يشفع في من جحده وعاداه
ثم يواجههم بمنطق فطرتهم ، وبما لا يجادلون فيه ولا يشكون ، وهو أن الله خالقهم . فكيف حينئذ يشركون معه أحداً في عبادته ، أو يتوقعون من أحد شفاعة عنده لمن أشرك به :
{ ولئن سألتهم من خلقهم؟ ليقولن الله . فأنى يؤفكون } ؟
وكيف يصرفون عن الحق الذي تشهد به فطرتهم ويحيدون عن مقتضاه المنطقي المحتوم؟
وفي ختام السورة يعظم من أمر اتجاه الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ، يشكو إليه كفرهم وعدم إيمانهم .

فيبرزه ويقسم به :
{ وقيله . يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } . .
وهو تعبير خاص ذو دلالة وإيحاء بمدى عمق هذا القول ، ومدى الاستماع له ، والعناية به ، والرعاية من الله سبحانه والاحتفال .
ويجيب عليه في رعاية بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصفح والإعراض ، وعدم الاحتفال والمبالاة . والشعور بالطمأنينة . ومواجهة الأمر بالسلام في القلب والسماحة والرضاء . وذلك مع التحذير الملفوف للمعرضين المعاندين ، مما ينتظرهم يوم ينكشف المستور :
{ فاصفح عنهم ، وقل سلام . فسوف يعلمون } . .
لقد كانت قريش تقول : إنها من ذرية إبراهيم وهذا حق وإنها على ملة إبراهيم وهذا ما ليس بحق فقد أعلن إبراهيم كلمة التوحيد قوية واضحة ، لا لبس فيها ولا غموض؛ ومن أجلها هجر أباه وقومه بعد ما تعرض للقتل والتحريق؛ وعليها قامت شريعته ، وبها أوصى ذريته . فلم يكن للشرك فيها ظل ولا خيط رفيع
وفي هذا الشوط من السورة يردهم إلى هذه الحقيقة التاريخية ، ليعرضوا عليها دعواهم التي يدعون . . ثم يحكي اعتراضهم على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } . . ويناقش قولتهم هذه ، وما تنطوي عليه من خطأ في تقدير القيم الأصيلة التي أقام الله عليها الحياة ، والقيم الزائفة التي تخايل لهم وتصدهم عن الحق والهدى . . وعقب تقرير الحقيقة في هذه القضية يطلعهم على عاقبة المعرضين عن ذكر الله بعد أن يطلعهم على علة هذا العمى وهو من وسوسة الشيطان . . ويلتفت في نهاية هذا الدرس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسليه ويؤسيه عن إعراضهم وعماهم ، فما هو بهادي العمي أو مسمع الصم؛ وسيلقون جزاءهم سواء شهد انتقام الله منهم ، أو أخره الله عنهم . ويوجهه إلى الاستمساك بما أوحى إليه فإنه الحق ، الذي جاء به الرسل أجمعون . فكلهم جاءوا بكلمة التوحيد : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا : أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟ } . .
ثم يعرض من قصة موسى عليه السلام حلقة تمثل هذا الواقع من العرب مع رسولهم . وكأنما هي نسخة مكررة تحوي ذات الاعتراضات التي يعترضونها ، وتحكي اعتزاز فرعون وملئه بذات القيم التي يعتز بها المشركون . .
{ وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه : إنني براء مما تعبدون ، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين . وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } . .
إن دعوة التوحيد التي يتنكرون لها هي دعوة أبيهم إبراهيم . الدعوة التي واجه بها أباه وقومه مخالفاً بها عقيدتهم الباطلة ، غير منساق وراء عبادتهم الموروثة ، ولا مستمسك بها لمجرد أنه وجد أباه وقومه عليها؛ بل لم يجاملهم في إعلان تبرئه المطلق منه في لفظ واضح صريح ، يحكيه القرآن الكريم بقوله :
{ إنني براء مما تعبدون ، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } .

.
ويبدو من حديث إبراهيم عليه السلام وتبرئه مما يعبدون إلا الذي فطره أنهم لم يكونوا يكفرون ويجحدون وجود الله أصلاً؛ إنما كانوا يشركون به ويعبدون معه سواه ، فتبرأ من كل ما يعبدون ، واستثنى الله؛ ووصفه بصفته التي تستحق العبادة ابتداء ، وهو أنه فطره وأنشأه ، فهو الحقيق بالعبادة بحكم أنه الموجد . وقرر يقينه بهداية ربه له ، بحكم أنه هو الذي فطره؛ فقد فطره ليهديه؛ وهو أعلم كيف يهديه .
قال إبراهيم هذه الكلمة التي تقوم بها الحياة . كلمة التوحيد التي يشهد بها الوجود . قالها :
{ وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } . .
ولقد كان لإبراهيم عليه السلام أكبر قسط في إقرار هذه الكلمة في الأرض ، وإبلاغها إلى الأجيال من بعده ، عن طريق ذريته وعقبه . ولقد قام بها من بنيه رسل ، كان منهم ثلاثة من أولي العزم : موسى وعيسى ومحمد خاتم الرسل عليهم صلوات الله وسلامه واليوم بعد عشرات القرون يقوم في الأرض أكثر من ألف مليون ، من أتباع الديانات الكبرى يدينون بكلمة التوحيد لأبيهم إبراهيم ، الذي جعل هذه الكلمة باقية في عقبه ، يضل منهم عنها من يضل ، ولكنها هي باقية لا تضيع ، ثابتة لا تتزعزع ، واضحة لا يتلبس بها الباطل { لعلهم يرجعون } . . يرجعون إلى الذي فطرهم فيعرفوه ويعبدوه . ويرجعون إلى الحق الواحد فيدركوه ويلزموه .
ولقد عرفت البشرية كلمة التوحيد قبل إبراهيم . ولكن هذه الكلمة لم تستقر في الأرض إلا من بعد إبراهيم . عرفتها على لسان نوح وهود وصالح وربما إدريس ، وغيره من الرسل الذين لم يتصل لهم عقب يقوم على هذه الكلمة ، ويعيش بها ، ولها . فلما عرفتها على لسان إبراهيم ظلت متصلة في أعقابه؛ وقام عليها من بعده رسل متصلون لا ينقطعون ، حتى كان ابنه الأخير من نسل إسماعيل ، وأشبه أبنائه به : محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل ، وقائل كلمة التوحيد في صورتها الأخيرة الكاملة الشاملة ، التي تجعل الحياة كلها تدور حول هذه الكلمة ، وتجعل لها أثراً في كل نشاط للإنسان وكل تصور .
فهذه هي قصة التوحيد منذ أبيهم إبراهيم الذي ينتسبون إليه؛ وهذه هي كلمة التوحيد التي جعلها إبراهيم باقية في عقبه . هذه هي تأتي إلى هذا الجيل على لسان واحد من عقب إبراهيم فكيف يستقبلها من ينتسبون إلى إبراهيم ، وملة إبراهيم؟
لقد بعد بهم العهد؛ ومتعهم الله جيلاً بعد جيل ، حتى طال عليهم العمر ، ونسوا ملة إبراهيم ، وأصبحت كلمة التوحيد فيهم غريبة منكرة ، واستقبلوا صاحبها أسوأ استقبال وقاسوا الرسالة السماوية بالمقاييس الأرضية ، فاختل في أيديهم كل ميزان :
{ بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين .

ولما جاءهم الحق قالوا : هذا سحر وإنا به كافرون . وقالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ، ورحمة ربك خير مما يجمعون . ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون ، وزخرفاً ، وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا؛ والآخرة عند ربك للمتقين } . .
يُضْرب السياق عن حديث إبراهيم ، ويلتفت إلى القوم الحاضرين :
{ بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين } . .
وكأنه بهذا الإضراب يقول : لندع حديث إبراهيم ، فما لهم به صلة ولا مناسبة؛ ولننظر في شأن هؤلاء وهو لا يتصل بشأن إبراهيم . . إن هؤلاء وآباءهم من قبلهم ، قد هيأت لهم المتاع ومددت لهم في الأجل ، حتى جاءهم الحق في هذا القرآن ، وجاءهم رسول مبين ، يعرض عليهم هذا الحق في وضوح وتبيين :
{ ولما جاءهم الحق قالوا : هذا سحر ، وإنا به كافرون } . .
ولا يختلط الحق بالسحر . فهو واضح بين ، وإنما هي دعوى ، كانوا هم أول من يعرف بطلانها . فما كان كبراء قريش ليغيب عنهم أنه الحق؛ ولكنهم كانوا يخدعون الجماهير من خلفهم ، فيقولون : إنه سحر ، ويعلنون كفرهم به على سبيل التوكيد ، يقولون : { وإنا به كافرون } ليلقوا في روع الجماهير أنهم واثقون مما يقولون؛ فيتبعوهم عن طريق الإيحاء والانقياد . شأن الملأ من كل قوم ، في التغرير بالجماهير ، خيفة أن يفلتوا من نفوذهم ، ويهتدوا إلى كلمة التوحيد التي يسقط معها كل كبير ، ولا يعبد ويتقى إلا الله العلي الكبير
ثم يحكي القرآن تخليطهم في القيم والموازين؛ وهم يعترضون على اختيار الله لمحمد صلى الله عليه وسلم ليحمل إليهم الحق والنور :
{ وقالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } . .
يقصدون بالقريتين مكة والطائف . ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذؤابة قريش ، ثم من ذؤابة بني هاشم . وهم في العلية من العرب . كما كان شخصه صلى الله عليه وسلم معروفاً بسمو الخلق في بيئته قبل بعثته . ولكنه لم يكن زعيم قبيلة ، ولا رئيس عشيرة ، في بيئته تعتز بمثل هذه القيم القبلية . وهذا ما قصد إليه المعترضون بقولهم : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم }
والله أعلم حيث يجعل رسالته . ولقد اختار لها من يعلم أنه لها أهل . ولعله سبحانه لم يشأ أن يجعل لهذه الرسالة سنداً من خارج طبيعتها ، ولا قوة من خارج حقيقتها؛ فاختار رجلاً ميزته الكبرى . . الخلق . . وهو من طبيعة هذه الدعوة . . وسمته البارزة . . التجرد . . وهو من حقيقة هذه الدعوة .

. ولم يختره زعيم قبيلة ، ولا رئيس عشيرة ، ولا صاحب جاه ، ولا صاحب ثراء . كي لا تلتبس قيمة واحدة من قيم هذه الأرض بهذه الدعوة النازلة من السماء . ولكي لا تزدان هذه الدعوة بحلية من حلى هذه الأرض ليست من حقيقتها في شيء . ولكي لا يكون هناك مؤثر مصاحب لها خارج عن ذاتها المجردة . ولكي لا يدخلها طامع ولا يتنزه عنها متعفف .
ولكن القوم الذين غلب عليهم المتاع ، والذين لم يدركوا طبيعة دعوة السماء ، راحوا يعترضون ذلك الاعتراض .
{ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم }
فرد عليهم القرآن مستنكراً هذا الاعتراض على رحمة الله ، التي يختار لها من عباده من يشاء؛ وعلى خلطهم بين قيم الأرض وقيم السماء؛ مبيناً لهم عن حقيقة القيم التي يعتزون بها ، ووزنها الصحيح في ميزان الله :
{ أهم يقسمون رحمة ربك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ، ورحمة ربك خير مما يجمعون } . .
أهم يقسمون رحمة ربك؟ يا عجباً وما لهم هم ورحمة ربك؟ وهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً ، ولا يحققون لأنفسهم رزقاً حتى رزق هذه الأرض الزهيد نحن أعطيناهم إياه؛ وقسمناه بينهم وفق حكمتنا وتقديرنا لعمران هذه الأرض ونمو هذه الحياة .
{ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً } . .
ورزق المعاش في الحياة الدنيا يتبع مواهب الأفراد ، وظروف الحياة ، وعلاقات المجتمع . وتختلف نسب التوزيع بين الأفراد والجماعات وفق تلك العوامل كلها . تختلف من بيئة لبيئة ، ومن عصر لعصر ، ومن مجتمع لمجتمع ، وفق نظمه وارتباطاته وظروفه العامة كلها . ولكن السمة الباقية فيه ، والتي لم تتخلف أبداً حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة للإنتاج وللتوزيع أنه متفاوت بين الأفراد .
وتختلف أسباب التفاوت ما تختلف بين أنواع المجتمعات وألوان النظم . ولكن سمة التفاوت في مقادير الرزق لا تتخلف أبداً . ولم يقع يوماً حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة أن تساوى جميع الأفراد في هذا الرزق أبداً : { ورفعنا بعضهم فوق بعضه درجات } . .
والحكمة في هذا التفاوت الملحوظ في جميع العصور ، وجميع البيئات ، وجميع المجتمعات هي :
{ ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً } . .
ليسخر بعضهم بعضاً . . ودولاب الحياة حين يدور يسخر بعض الناس لبعض حتما . وليس التسخير هو الاستعلاء . . استعلاء طبقة على طبقة ، أو استعلاء فرد على فرد . . كلا إن هذا معنى قريب ساذج ، لا يرتفع إلى مستوى القول الإلهي الخالد . كلا إن مدلول هذا القول أبقى من كل تغير أو تطور في أوضاع الجماعة البشرية؛ وأبعد مدى من ظرف يذهب وظرف يجيء . . إن كل البشر مسخر بعضهم لبعض . ودولاب الحياة يدور بالجميع ، ويسخر بعضهم لبعض في كل وضع وفي كل ظرف .

المقدر عليه في الرزق مسخر للمبسوط له في الرزق . والعكس كذلك صحيح . فهذا مسخر ليجمع المال ، فيأكل منه ويرتزق ذاك . وكلاهما مسخر للآخر سواء بسواء . والتفاوت في الرزق هو الذي يسخر هذا لذاك ، ويسخر ذاك لهذا في دورة الحياة . . العامل مسخر للمهندس ومسخر لصاحب العمل . والمهندس مسخر للعامل ولصاحب العمل . وصاحب العمل مسخر للمهندس وللعامل على السواء . . وكلهم مسخرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات ، والتفاوت في الأعمال والأرزاق . .
وأحسب أن كثيرين من دعاة المذاهب الموجهة يتخذون من هذه الآية موضع هجوم على الإسلام ونظمه الاجتماعية والاقتصادية . وأحسب أن بعض المسلمين يقفون يجمجمون أمام هذا النص ، كأنما يدفعون عن الإسلام تهمة تقرير الفوارق في الرزق بين الناس ، وتهمة تقرير أن الناس يتفاوتون في الرزق ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا
وأحسب أنه قد آن لأهل الإسلام أن يقفوا بإسلامهم مواجهة وصراحة موقف الاستعلاء المطلق ، لا موقف الدفاع أمام اتهام تافه إن الإسلام يقرر الحقائق الخالدة المركوزة في فطرة هذا الوجود؛ الثابتة ثبات السماوات والأرض ونواميسها التي لا تختل ولا تتزعزع .
وطبيعة هذه الحياة البشرية قائمة على أساس التفاوت في مواهب الأفراد والتفاوت فيما يمكن أن يؤديه كل فرد من عمل؛ والتفاوت في مدى اتقان هذا العمل . وهذا التفاوت ضروري لتنوع الأدوار المطلوبة للخلافة في هذه الأرض . ولو كان جميع الناس نسخاً مكرورة ما أمكن أن تقوم الحياة في هذه الأرض بهذه الصورة . ولبقيت أعمال كثيرة جداً لا تجد لها مقابلاً من الكفايات ، ولا تجد من يقوم بها والذي خلق الحياة وأراد لها البقاء والنمو ، خلق الكفايات والاستعدادات متفاوتة تفاوت الأدوار المطلوب أداؤها . وعن هذا التفاوت في الأدوار يتفاوت الرزق . . هذه هي القاعدة . . أما نسبة التفاوت في الرزق فقد تختلف من مجتمع إلى مجتمع ، ومن نظام إلى نظام . ولكنها لا تنفي القاعدة الفطرية المتناسقة مع طبيعة الحياة الضرورية لنمو الحياة . ومن ثم لم يستطع أصحاب المذاهب المصطنعة المتكلفة أن يساووا بين أجر العامل وأجر المهندس ، ولا بين أجر الجندي وأجر القائد . على شدة ما حاولوا أن يحققوا مذهبهم . وهزموا أمام الناموس الإلهي الذي تقرره هذه الآية من كلام الله . وهي تكشف عن سنة ثابتة من سنن الحياة .
ذلك شأن الرزق والمعاش في هذه الحياة الدنيا . ووراء ذلك رحمة الله :
{ ورحمة ربك خير مما يجمعون } . .
والله يختار لها من يشاء ، ممن يعلم أنهم لها أهل . ولا علاقة بينها وبين عرض الحياة الدنيا؛ ولا صلة لها بقيم هذه الحياة الدنيا . فهذه القيم عند الله زهيدة زهيدة . ومن ثم يشترك فيها الأبرار والفجار ، وينالها الصالحون والطالحون . بينما يختص برحمته المختارين .
وإن قيم هذه الأرض لمن الزهادة والرخص بحيث لو شاء الله لأغدقها إغداقاً على الكافرين به .

ذلك إلا أن تكون فتنة للناس ، تصدهم عن الإيمان بالله :
{ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون . ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون . وزخرفاً . وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا . والآخرة عند ربك للمتقين } . .
فهكذا لولا أن يفتتن الناس . والله أعلم بضعفهم وتأثير عرض الدنيا في قلوبهم لجعل لمن يكفر بالرحمن صاحب الرحمة الكبيرة العميقة بيوتاً سقفها من فضة ، وسلالمها من ذهب . بيوتاً ذات أبواب كثيرة . قصورا . فيها سرر للاتكاء ، وفيها زخرف للزينة . . رمزاً لهوان هذه الفضة والذهب والزخرف والمتاع؛ بحيث تبذل هكذا رخيصة لمن يكفر بالرحمن
{ وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } . .
متاع زائل ، لا يتجاوز حدود هذه الدنيا . ومتاع زهيد يليق بالحياة الدنيا .
{ والآخرة عند ربك للمتقين } . .
وهؤلاء هم المكرمون عند الله بتقواهم؛ فهو يدخر لهم ما هو أكرم وأبقى؛ ويؤثرهم بما هو أقوم وأغلى . ويميزهم على من يكفر بالرحمن ، ممن يبذل لهم من ذلك المتاع الرخيص ما يبذله للحيوان
وإن عرض الحياة الدنيا الذي ضرب الله له بعض الأمثال من المال والزينة والمتاع ليفتن الكثيرين . وأشد الفتنة حين يرونه في أيدي الفجار ، ويرون أيادي الأبرار منه خالية؛ أو يرون هؤلاء في عسر أو مشقة أو ابتلاء ، وأولئك في قوة وثروة وسطوة واستعلاء . والله يعلم وقع هذه الفتنة في نفوس الناس . ولكنه يكشف لهم عن زهادة هذه القيم وهوانها عليه؛ ويكشف لهم كذلك عن نفاسة ما يدخره للأبرار الأتقياء عنده . والقلب المؤمن يطمئن لاختيار الله للأبرار وللفجار .
وأولئك الذين كانوا يعترضون على اختيار الله لرجل لم يؤت شيئاً من عرض هذه الحياة الدنيا؛ ويقيسون الرجال بما يملكون من رياسة ، أو بما يملكون من مال . يرون هذه الآيات هوان هذه الأعراض وزهادتها عند الله . وأنها مبذولة لشر خلق الله وأبغضهم عند الله . فهي لا تدل على قربى منه ولا تنبئ عن رضى ، ولا تشي باختيار
وهكذا يضع القرآن الأمور في نصابها؛ ويكشف عن سنن الله في توزيع الأرزاق في الدنيا والآخرة؛ ويقرر حقيقة القيم كما هي عند الله ثابتة . وذلك في صدد الرد على المعترضين على رسالة محمد؛ واختياره . واطراح العظماء المتسلطين
وهكذا يرسي القواعد الأساسية والحقائق الكلية التي لا تضطرب ولا تتغير؛ ولا تؤثر فيها تطورات الحياة ، واختلاف النظم ، وتعدد المذاهب ، وتنوع البيئات . فهناك سنن للحياة ثابتة ، تتحرك الحياة في مجالها؛ ولكنها لا تخرج عن إطارها . والذين تشغلهم الظواهر المتغيرة عن تدبر الحقائق الثابتة ، لا يفطنون لهذا القانون الإلهي ، الذي يجمع بين الثبات والتغير ، في صلب الحياة وفي أطوار الحياة؛ ويحسبون أن التطور والتغير ، يتناول حقائق الأشياء كما يتناول أشكالها .

ويزعمون أن التطور المستمر يمتنع معه أن تكون هناك قواعد ثابتة لأمر من الأمور؛ وينكرون أن يكون هناك قانون ثابت غير قانون التطور المستمر . فهذا هو القانون الوحيد الذي يؤمنون بثباته فأما نحن أصحاب العقيدة الإسلامية فنرى في واقع الحياة مصداق ما يقرره الله من وجود الثبات والتغير متلازمين في كل زاوية من زوايا الكون ، وفي كل جانب من جوانب الحياة . وأقرب ما بين أيدينا من هذا التلازم ثبات التفاوت في الرزق بين الناس ، وتغير نسب التفاوت وأسبابه في النظم والمجتمعات . . وهذا التلازم مطرد في غير هذا المثال .
ولما بين زهادة أعراض الحياة الدنيا وهوانها على الله؛ وأن ما يعطاه الفجار منها لا يدل على كرامة لهم عند الله ، ولا يشير إلى فلاح؛ وأن الآخرة عند ربك للمتقين ، استطراد يبين مصير أولئك الذين قد ينالون تلك الأعراض ، وهم عمي عن ذكر الله ، منصرفون عن الطاعات التي تؤهلهم لرزق الآخرة المعد للمتقين :
{ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين . وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون . حتى إذا جاءنا قال : يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين . فبئس القرين . ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } . .
والعشى كلال البصر عن الرؤية ، وغالباً ما يكون عند مواجهة الضوء الساطع الذي لا تملك العين أن تحدق فيه؛ أو عند دخول الظلام وكلال العين الضعيفة عن التبين خلاله . وقد يكون ذلك لمرض خاص . والمقصود هنا هو العماية والإعراض عن تذكر الرحمن واستشعار وجوده ورقابته في الضمير .
{ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين } . .
وقد قضت مشيئة الله في خلقة الإنسان ذلك . واقتضت أنه حين يغفل قلبه عن ذكر الله يجد الشيطان طريقه إليه ، فيلزمه ، ويصبح له قرين سوء يوسوس له ، ويزين له السوء . وهذا الشرط وجوابه هنا في الآية يعبران عن هذه المشيئة الكلية الثابتة ، التي تتحقق معها النتيجة بمجرد تحقق السبب ، كما قضاه الله في علمه .
ووظيفة قرناء السوء من الشياطين أن يصدوا قرناءهم عن سبيل الله ، بينما هؤلاء يحسبون أنهم مهتدون :
{ وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون } . .
وهذا أسوأ ما يصنعه قرين بقرين . أن يصده عن السبيل الواحدة القاصدة؛ ثم لا يدعه يفيق ، أو يتبين الضلال فيثوب؛ إنما يوهمه أنه سائر في الطريق القاصد القويم حتى يصطدم بالمصير الأليم .
والتعبير بالفعل المضارع : { ليصدونهم } . . { ويحسبون } . . يصور العملية قائمة مستمرة معروضة للأنظار؛ يراها الآخرون ، ولا يراها الضالون السائرون إلى الفخ وهم لا يشعرون .
ثم تفاجئهم النهاية وهم سادرون :
{ حتى إذا جاءنا قال : يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين . فبئس القرين }
وهكذا ننتقل في ومضة من هذه الدنيا إلى الآخرة .

ويطوى شريط الحياة السادرة ، ويصل العمي ( الذين يعشون عن ذكر الرحمن ) إلى نهاية المطاف فجأة على غير انتظار . هنا يفيقون كما يفيق المخمور ، ويفتحون أعينهم بعد العشى والكلال؛ وينظر الواحد منهم إلى قرين السوء الذي زين له الضلال ، وأوهمه أنه الهدى وقاده في طريق الهلاك ، وهو يلوح له بالسلامة ينظر إليه في حنق يقول : { يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين } يا ليته لم يكن بيننا لقاء . على هذا البعد السحيق
ويعقب القرآن على حكاية قول القرين الهالك للقرين بقوله : { فبئس القرين }
ونسمع كلمة التيئيس الساحقة لهذا وذاك عند إسدال الستار على الجميع :
{ ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون }
فالعذاب كامل لا تخففه الشركة ، ولا يتقاسمه الشركاء فيهون
عندئذ ينصرف عن هؤلاء ، في مشهدهم البائس الكئيب؛ ويدعهم يتلاومون ويتشاتمون . ويتجه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسليه عن هذا المصير البائس الذي انتهى إليه فريق من البشر؛ ويعزيه عن إعراضهم عنه وكفرهم بما جاء به؛ويثبته على الحق الذي اوحى إليه؛ وهو الحق الثابت المطرد من قديم ، في رسالة كل رسول :
{ أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين؟ فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون . أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون . فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم . وإنه لذكر لك ولقومك ، وسوف تسألون . واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا : أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟ } . .
وهذا المعنى يتكرر في القرآن تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبياناً لطبيعة الهدى والضلال ، ورجعهما إلى مشيئة الله وتقديره وحده؛ وإخراجهما من نطاق وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام ووضع حدود فاصلة بين مجال القدرة الإنسانية المحدودة في أعلى درجاتها عند مرتقى النبوة ، ومجال القدرة الإلهية الطليقة؛ وتثبيت معنى التوحيد في صورة من أدق صوره ، وفي موضع من ألطف مواضعه :
{ أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين } . .
وهم ليسوا صماً ولا عمياً ، ولكنهم كالصم والعمي في الضلال ، وعدم الانتفاع بالدعاء إلى الهدى ، والإشارة إلى دلائله . ووظيفة الرسول أن يُسمع من يَسمع ، وأن يهدي من يبصر . فإذا هم عطلوا جوارحهم ، وطمسوا منافذ قلوبهم وأرواحهم . فما للرسول إلى هداهم من سبيل؛ ولا عليه من ضلالهم ، فقد قام بواجبه الذي يطيق .
والله يتولى الأمر بعد أداء الرسول لواجبه المحدود :
{ فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون . أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون } . .
والأمر لا يخرج عن هذين الحالين . فإذا ذهب الله بنبيه فسيتولى هو الانتقام من مكذبيه . وإذا قدر له الحياة حتى يتحقق ما أنذرهم به ، فالله قادر على تحقيق النذير ، وهم ليسوا له بمعجزين .

ومرد الأمر إلى مشيئة الله وقدرته في الحالين ، وهو صاحب الدعوة . وما الرسول إلا رسول .
{ فاستمسك بالذي أوحي إليك . إنك على صراط مستقيم } . .
واثبت على ما أنت فيه ، وسر في طريقك لا تحفل ما كان منهم وما يكون . سر في طريقك مطمئن القلب . { إنك على صراط مستقيم } . . لا يلتوي بك ولا ينحرف ولا يحيد .
وهذه العقيدة متصلة بحقيقة الكون الكبرى ، متناسقة مع الناموس الكلي الذي يقوم عليه هذا الوجود . فهي مستقيمة معه لا تنفرج عنه ولا تنفصل . وهي مؤدية بصاحبها إلى خالق هذا الوجود ، على استقامة تؤمن معها الرحلة في ذلك الطريق
والله سبحانه يثبت رسوله صلى الله عليه وسلم بتوكيد هذه الحقيقة . وفيها تثبيت كذلك للدعاة من بعده ، مهما لاقوا من عنت الشاردين عن الطريق
{ وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون } . .
ونص هذه الآية هنا يحتمل أحد مدلولين :
أن هذا القرآن تذكير لك ولقومك تسألون عنه يوم القيامة ، فلا حجة بعد التذكير .
أو أن هذا القرآن يرفع ذكرك وذكر قومك . وهذا ما حدث فعلاً . .
فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فإن مئات الملايين من الشفاه تصلي وتسلم عليه ، وتذكره ذكر المحب المشتاق آناء الليل وأطراف النهار منذ قرابة ألف وأربع مئة عام . ومئات الملايين من القلوب تخفق بذكره وحبه منذ ذلك التاريخ البعيد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
وأما قومه فقد جاءهم هذا القرآن والدنيا لا تحس بهم ، وإن أحست اعتبرتهم على هامش الحياة . وهو الذي جعل لهم دورهم الأكبر في تاريخ هذه البشرية . وهو الذي واجهوا به الدنيا فعرفتهم ودانت لهم طوال الفترة التي استمسكوا فيها به . فلما أن تخلوا عنه أنكرتهم الأرض ، واستصغرتهم الدنيا؛ وقذفت بهم في ذيل القافلة هناك ، بعد أن كانوا قادة الموكب المرموقين
وإنها لتبعة ضخمة تسأل عنها الأمة التي اختارها الله لدينه ، واختارها لقيادة القافلة البشرية الشاردة ، إذا هي تخلت عن الأمانة : { وسوف تسألون } . .
وهذا المدلول الأخير أوسع وأشمل . وأنا إليه أميل .
{ واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا : أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟ } . .
والتوحيد هو أساس دين الله الواحد منذ أقدم رسول . فعلام يرتكن هؤلاء الذين يجعلون من دون الرحمن آلهة يعبدون؟
والقرآن يقرر هذه الحقيقة هنا في هذه الصورة الفريدة . . صورة الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الرسل قبله عن هذه القضية : { أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟ } وحول هذا السؤال ظلال الجواب القاطع من كل رسول . وهي صورة طريفة حقاً . وهو أسلوب موح شديد التأثير في القلوب .
وهناك أبعاد الزمان والمكان بين الرسول صلى الله عليه وسلم والرسل قبله . وهناك أبعاد الموت والحياة وهي أكبر من أبعاد الزمان والمكان .

. ولكن هذه الأبعاد كلها تتلاشى هنا أمام الحقيقة الثابتة المطردة . حقيقة وحدة الرسالة المرتكزة كلها على التوحيد . وهي كفيلة أن تبرز وتثبت حيث يتلاشى الزمان والمكان والموت والحياة وسائر الظواهر المتغيرة؛ ويتلاقى عليها الأحياء والأموات على مدار الزمان متفاهمين متعارفين . . وهذه هي ظلال التعبير القرآني اللطيف العجيب . .
على أنه بالقياس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الرسل مع ربهم لا يبقى شىء بعيد وآخر قريب . فهناك دائماً تلك اللحظة اللدنية التي تزال فيها الحواجز وترتفع فيها السدود ، وتتجلى الحقيقة الكلية عارية من كل ستار . حقيقة النفس وحقيقة الوجود كله وأهل هذا الوجود . تتجلى وحدة متصلة ، وقد سقط عنها حاجز الزمان وحاجز المكان وحاجز الشكل والصورة . وهنا يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ويجاب ، بلا حاجز ولا حجاب . كما وقع في ليلة الإسراء والمعراج .
وإنه ليحسن في مثل هذه المواطن ألا نعتد كثيراً بالمألوف في حياتنا . فهذا المألوف ليس هو القانون الكلي . ونحن لا ندرك من هذا الوجود إلا بعض ظواهره وبعض آثاره ، حين نهتدي إلى طرف من قانونه . وهناك حجب من تكويننا ذاته ومن حواسنا وما نرتبه عليها من مألوفات . فأما اللحظة التي تتجرد فيها النفس من هذه العوائق والحجب فيكون لقاء الحقيقة المجردة للإنسان بالحقيقة المجردة لأي شىء آخر أمراً أيسر من لمس الأجسام للأجسام
وفي سياق تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما يعترض به المعترضون من كبراء قومه على اختياره؛ واعتزازهم بالقيم الباطلة لعرض هذه الحياة الدنيا . تجيء حلقة من قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه ، يذكر فيها اعتزاز فرعون بمثل ما يعتز به من يقولون : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } وتباهيه بما له من ملك ومن سلطان ، وتساؤله في فخر وخيلاء : { أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ أفلا تبصرون؟ } . . وانتفاخه على موسى عبد الله ورسوله وهو مجرد من الجاه الأرضي والعرض الدنيوي : { أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين؟ } . . واقتراحه الذي يشبه ما يقترحون : { فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين } . .
وكأنما هي نسخة تكرر ، أو اسطوانة تعاد
ثم يبين كيف استجابت لفرعون الجماهير المستخفة المخدوعة؛ على الرغم من الخوارق التي عرضها عليهم موسى عليه السلام وعلى الرغم مما أصابهم من ابتلاءات ، واستغاثتهم بموسى ليدعو ربه فيكشف عنهم البلاء .
ثم كيف كانت العاقبة بعدما ألزمهم الله الحجة بالتبليغ : { فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ، فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين } . .
وها هم أولاء الآخرون لا يعتبرون ولا يتذكرون
ومن خلال هذه الحلقة تتجلى وحدة الرسالة ، ووحدة المنهج ، ووحدة الطريق .

كما تتبدى طبيعة الكبراء والطغاة في استقبال دعوة الحق ، واعتزازهم بالتافه الزهيد من عرض هذه الأرض؛ وطبيعة الجماهير التي يستخفها الكبراء والطغاة على مدار القرون
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه ، فقال : إني رسول رب العالمين . فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون } . .
هنا يعرض حلقة اللقاء الأول بين موسى وفرعون ، في إشارة مقتضبة تمهيداً لاستعراض النقطة الرئيسية المقصودة من القصة في هذا الموضع وهي تشابه اعتراضات فرعون وقيمه مع اعتراضات مشركي العرب وقيمهم ويلخص حقيقة رسالة موسى : { فقال : إني رسول رب العالمين } . . وهي ذات الحقيقة التي جاء بها كل رسول : أنه { رسول } وأن الذي أرسله هو { رب العالمين } . .
ويشير كذلك إشارة سريعة إلى الآيات التي عرضها موسى ، وينهي هذه الإشارة بطريقة استقبال القوم لها : { إذا هم منها يضحكون } . . شأن الجهال المتعالين
يلي ذلك إشارة إلى ما أخذ الله به فرعون وملأه من الابتلاءات المفصلة في سور أخرى :
{ وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها ، وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون . وقالوا : يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون . فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون } . .
وهكذا لم تكن الآيات التي ظهرت على يدي موسى عليه السلام مدعاة إيمان ، وهي تأخذهم متتابعة . كل آية أكبر من أختها . مما يصدق قول الله تعالى في مواضع كثيرة ، وفحواه أن الخوارق لا تهدي قلباً لم يتأهل للهدى؛ وأن الرسول لا يسمع الصم ولا يهدي العمي
والعجب هنا فيما يحكيه القرآن عن فرعون وملئه قولهم : { يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون } . . فهم أمام البلاء ، وهم يستغيثون بموسى ليرفع عنهم البلاء . ومع ذلك يقولون له : { يا أيها الساحر } ويقولون كذلك : { ادع لنا ربك بما عهد عندك } وهو يقول لهم : إنه رسول { رب العالمين } لا ربه هو وحده على جهة الاختصاص ولكن لا الخوارق ولا كلام الرسول مس قلوبهم ، ولا خالطتها بشاشة الإيمان ، على الرغم من قولهم : { إننا لمهتدون } :
{ فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون } . .
ولكن الجماهير قد تؤخذ بالخوارق المعجزة ، وقد يجد الحق سبيلاً إلى قلوبها المخدوعة . وهنا يبرز فرعون في جاهه وسلطانه ، وفي زخرفه وزينته ، يخلب عقول الجماهير الساذجة بمنطق سطحي ، ولكنه يروج بين الجماهير المستعبدة في عهود الطغيان ، المخدوعة بالأبهة والبريق :
{ ونادى فرعون في قومه : قال : يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ أفلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ، ولا يكاد يبين؟ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين؟ } .
إن ملك مصر وهذه الأنهار التي تجري من تحت فرعون ، أمر قريب مشهود للجماهير ، يبهرها وتستخفها الإشارة إليه .

فأما ملك السماوات والأرض وما بينهما ومصر لا تساوي هباءة فيه فهو أمر يحتاج إلى قلوب مؤمنة تحسه ، وتعقد الموازنة بينه وبين ملك مصر الصغير الزهيد
والجماهير المستعبدة المستغفلة يغريها البريق الخادع القريب من عيونها؛ ولا تسمو قلوبها ولا عقولها إلى تدبر ذلك الملك الكوني العريض البعيد
ومن ثم عرف فرعون كيف يلعب بأوتار هذه القلوب ويستغفلها بالبريق القريب
{ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين؟ } .
وهو يعني بالمهانة أن موسى ليس ملكاً ولا أميراً ولا صاحب سطوة ومال مشهود . أم لعله يشير بهذا إلى أنه من ذلك الشعب المستعبد المهين . شعب إسرائيل . أما قوله : { ولا يكاد يبين } فهو استغلال لما كان معروفاً عن موسى قبل خروجه من مصر من حبسة اللسان . وإلا فقد استجاب الله سؤاله حين دعاه : { رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي } وحلت عقدة لسانه فعلاً ، وعاد يبين .
وعند الجماهير الساذجة الغافلة لا بد أن يكون فرعون الذي له ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحته ، خيراً من موسى عليه السلام ومعه كلمة الحق ومقام النبوة ودعوة النجاة من العذاب الأليم
{ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب؟ } . .
هكذا . من ذلك العرض التافه الرخيص أسورة من ذهب تصدق رسالة رسول أسورة من ذهب تساوي أكثر من الآيات المعجزة التي أيد الله بها رسوله الكريم أم لعله كان يقصد من إلقاء أسورة الذهب تتويجه بالملك ، إذ كانت هذه عادتهم ، فيكون الرسول ذا ملك وذا سلطان؟
{ أو جاء معه الملائكة مقترنين } . .
وهو اعتراض آخر له بريق خادع كذلك من جانب آخر ، تؤخذ به الجماهير ، وترى أنه اعتراض وجيه وهو اعتراض مكرور ، ووجه به أكثر من رسول
{ فاستخف قومه فأطاعوه ، إنهم كانوا قوماً فاسقين } . .
واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لا غرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولاً عن كل سبل المعرفة ، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها ، ولا يعودوا يبحثون عنها؛ ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة . ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك ، ويلين قيادهم ، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين
ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق ، ولا يمسكون بحبل الله ، ولا يزنون بميزان الإيمان . فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح . ومن هنا يعلل القرآن استجابة الجماهير لفرعون فيقول :
{ فاستخف قومه فأطاعوه ، إنهم كانوا قوماً فاسقين } . .
ثم انتهت مرحلة الابتداء والإنذار والتبصير؛ وعلم الله أن القوم لا يؤمنون؛ وعمت الفتنة فأطاعت الجماهير فرعون الطاغية المتباهي في خيلاء ، وعشت عن الآيات البينات والنور؛ فحقت كلمة الله وتحقق النذير :
{ فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ، فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين } .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36