كتاب : في ظلال القرآن
المؤلف : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي

فهم كانوا يقولون : إن الله يشاء هذا ، ولا يشاء هذا . . افتراء على الله . . كما أن ناساً اليوم يدعون أنفسهم « مسلمين » يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون : شريعة الله
والله يجبههم هنا بالافتراء ، ثم يسألهم ماذا تظنون بربكم يوم القيامة وأنتم تفترون عليه :
{ وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة؟ } . .
وصيغة الغائب تشمل جنس الذين يفترون على الله الكذب وتنتظمهم جميعاً . . فما ظنهم يا ترى؟ ما الذي يتصورون أن يكون في شأنهم يوم القيامة وهو سؤال تذوب أمامه حتى الجبلات الصلدة الجاسية
{ إن الله لذو فضل على الناس ، ولكن أكثرهم لا يشكرون } . .
والله ذو فضل على الناس برزقه هذا المادي الذي أودعه هذا الكون من أجلهم؛ وأودع فيهم القدرة على معرفة مصادره؛ والنواميس التي تحكم هذه المصادر ، وأقدرهم كذلك على التنويع في أشكاله ، والتحليل والتركيب في مادته لتنويع هذه الأشكال . . وكله في الكون وفيهم من رزق الله . .
والله ذو فضل على الناس بعد ذلك بزرقه وفضله ورحمته التي أنزلها في منهجه هدى للناس وشفاء لما في الصدور؛ ليهدي الناس إلى منهج الحياة السليم القويم؛ الذي يزاولون به خير ما في إنسانيتهم من قوى وطاقات؛ ومشاعر واتجاهات؛ والذي ينسقون به بين خير الدنيا وخير الآخرة؛ كما ينسقون به بين فطرتهم وفطرة الكون الذي يعيشون فيه ويتعاملون معه .
ولكن أكثر الناس لا يشكرون على هذا الرزق وذاك . . فإذا هم يحيدون عن منهج الله وشرعه؛ وإذا هم يشركون به غيره . . ثم يشقون في النهاية بهذا كله . . يشقون لأنهم لا ينتفعون بهذا الذي هو شفاء لما في الصدور
وإنه لتعبير عجيب عن حقيقة عميقة . . إن هذا القرآن شفاء لما في الصدور بكل معنى من معاني الشفاء . . إنه يدب في القلوب فعلاً دبيب الشفاء في الجسم المعلول يدب فيها بإيقاعه ذي السلطان الخفي العجيب . ويدب فيها بتوجيهاته التي توقظ أجهزة التلقي الفطرية ، فتهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب . ويدب فيها بتنظيماته وتشريعاته التي تضمن أقل احتكاك ممكن بين المجموعات البشرية في الحياة اليومية . ويدب فيها بإيحاءاته المطمئنة التي تسكب الطمأنينة في القلوب إلى الله ، وإلى العدل في الجزاء ، وإلى غلبة الخير ، وإلى حسن المصير . .
وإنها لعبارة تثير حشداً وراء حشد من المعاني والدلائل ، تعجز عنها لغة البشر ويوحي بها هذا التعبير العجيب
لا يشكرون . . والله هو المطلع على السرائر ، المحيط بكل مضمر وظاهر ، الذي لا يغيب عن علمه ولا يبعد عن متناوله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء . . هذه هي اللمسة الجديدة للمشاعر والضمائر في السياق ، ليخرج منها إلى طمأنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه بأنهم في رعايته وولايته ، لا يضرهم المكذبون ، الذين يتخذون مع الله شركاء وهم واهمون :
{ وما تكون في شأن ، وما تتلو منه من قرآن ، ولا تعملون من عمل ، إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه؛ وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين .

ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الذين آمنوا وكانوا يتقون . لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، لا تبديل لكلمات الله ، ذلك هو الفوز العظيم ، ولا يحزنك قولهم ، إن العزة لله جميعاً ، هو السميع العليم ، ألا أن لله من في السماوات ومن في الأرض ، وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ، إن يتبعون إلا الظن ، وإن هم إلا يخرصون . هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً ، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } . .
إن الشعور بالله على النحو الذي تصوره الآية الأولى من هذا السياق :
{ وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ، ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه . . . } شعور مطمئن ومخيف معاً ، مؤنس ومرهب معاً . . وكيف بهذا المخلوق البشري وهو مشغول بشأن من شؤونه يحس أن الله معه ، شاهد أمره وحاضر شأنه . الله بكل عظمته ، وبكل هيبته ، وبكل جبروته ، وبكل قوته . الله خالق هذا الكون وهو عليه هين . ومدبر هذا الكون ما جل منه وما هان . . الله مع هذا المخلوق البشري . الذرة التائهة في الفضاء لولا عناية الله تمسك بها وترعاها إنه شعور رهيب . ولكنه كذلك شعور مؤنس مطمئن . إن هذه الذرة التائهة ليست متروكة بلا رعاية ولا معونة ولا ولاية . . إن الله معها :
{ وما تكون في شأن ، وما تتلو منه من قرآن ، ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه . . }
إنه ليس شمول العلم وحده ، ولكن شمول الرعاية ، ثم شمول الرقابة . .
{ وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين } . .
ويسبح الخيال مع الذرات السابحة في الأرض أو في السماء - ومعها علم الله - ومع ما هو أصغر من الذرة وأكبر محصوراً في علم الله . . ويرتعش الوجدان إشفاقاً ورهبة ، ويخشع القلب إجلالاً وتقوى ، حتى يطامن الإيمان من الروعة والرهبة ، ويهدهد القلب الواجف بأنس القرب من الله .
وفي ظل هذا الأنس ، وفي طمأنينة هذا القرب . . يأتي الإعلان الجاهر :
{ ألا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الذين آمنوا وكانوا يتقون . لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة . لا تبديل لكلمات الله . ذلك هو الفوز العظيم } . .
وكيف يخاف أولياء الله أو يحزنون والله معهم هكذا في كل شأن وفي كل عمل وفي كل حركة أو سكون؟ وهم أولياء الله ، المؤمنون به الأتقياء المراقبون له في السر والعلن :
{ الذين آمنوا وكانوا يتقون } .

.
كيف يخافون وكيف يحزنون ، وهم على اتصال بالله لأنهم أولياؤه؟ وعلام يحزنون ومم يخافون ، والبشرى لهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة؟ إنه الوعد الحق الذي لا يتبدل - لا تبديل لكلمات الله- :
{ ذلك هو الفوز العظيم } . .
إن أولياء الله الذين يتحدث عنهم السياق هم المؤمنون حق الإيمان المتقون حق التقوى . والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل . والعمل هو تنفيذ ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه . . هكذا يجب أن نفهم معنى الولاية لله . لا كما يفهمه العوام ، من أنهم المهبولون المخبولون الذين يدعونهم بالأولياء
وفي ظل هذه الرعاية والحماية لأولياء الله يخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أولى الأولياء ، بما يطمئنه تجاه المكذبين والمفترين ، وكانوا في ذلك الوقت هم أصحاب القوة والجاه :
{ ولا يحزنك قولهم . إن العزة لله جميعاً . هو السميع العليم } . .
ويفرد الله بالعزة هنا ، ولا يضيفها إلى الرسول والمؤمنين - كما في الموضع الآخر - لأن السياق سياق حماية لله لأوليائه . فيفرده بالعزة جميعاً - وهي أصلاً لله وحده ، والرسول والمؤمنون يستمدونها منه - ليجرد منها الناس جميعاً ، ومشركو قريش العتاة داخلون في الناس . أما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو في الحماية الإلهية التي أضفاها على أوليائه . فلا يحزن لما يقولون . والله معه وهو السميع العليم . الذي يسمع قولهم ويعلم كيدهم ويحمي أولياءه مما يقال ومما يكاد . وفي ملك يده كل من في السماوات وكل من في الأرض من إنس وجن وملائكة ، ومن عصاة وتقاة ، فكل ذي قوة من خلقه داخل في سلطانه وملكه :
{ ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض } . .
وهذه حكمة ذكر « من » هنا لا « ما » لأن المقصود إثبات أن الأقوياء كالضعفاء كلهم في ملك يده سواء . فالسياق جار فيها مجراه .
{ وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء } . .
فهؤلاء الشركاء الموهومون ليسوا في حقيقتهم شركاء لله في شيء؛ وعبادهم ليسوا على يقين مما يزعمون لهم من شركة :
{ إن يتبعون إلا الظن . وإن هم إلا يخرصون . } . .
ثم لفتة إلى بعض مجالي القدرة في المشاهد الكونية التي يغفل عنها الناس بالتكرار :
{ هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً . إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } . .
والمالك للحركة وللسكون ، الذي يجعل الليل ليسكن فيه الناس ، ويجعل النهار مبصراً يقود الناس فيتحركون ويبصرهم فيبصرون . . ممسك بمقاليد الحركة والسكون ، قادر على الناس ، قادر على حماية أوليائه من الناس . ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في مقدمة أوليائه .

ومن معه من المؤمنين . .
{ إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } . .
يسمعون فيتدبرون ما يسمعون .
والمنهج القرآني يستخدم المشاهدة الكونية كثيراً في معرض الحديث عن قضية الألوهية والعبودية . ذلك أن هذا الكون بوجوده وبمشاهده شاهد ناطق للفطرة لا تملك لمنطقه رداً . كذلك يخاطب الناس بما في علاقتهم بهذا الكون من تناسق . وهم يجدون هذا في حياتهم فعلاً .
فهذا الليل الذي يسكنون فيه ، وهذا النهار الذي يبصرون به ، هما ظاهرتان كونيتان شديدتا الاتصال بحياتهم . وتناسق هذه الظواهر الكونية مع حياة الناس يحسونه هم - ولو لم يتعمقوا في البحث و « العلم » . ذلك أن فطرتهم الداخلية تفهم عن هذا الكون لغته الخفية
وهكذا لم يكن البشر في عماية عن لغة الكون حتى جاءتهم « العلوم الحديثة » لقد كانوا يفهمون هذه اللغة بكينونتهم كلها . ومن ثم خاطبهم بها العليم الخبير منذ تلك القرون . وهي لغة متجددة بتجدد المعرفة ، وكلما ارتقى الناس في المعرفة كانوا أقدر على فهمها ، متى تفتحت قلوبهم بالإيمان ونظرت بنور الله في هذه الآفاق
والافتراء على الله بالشركاء يكون بنسبة ولد لله - سبحانه - وقد كان مشركو العرب يزعمون أن الملائكة بنات الله .
وختام هذا الدرس جولة مع هذا النوع من الشرك والافتراء تبدأ بالحجة في الدنيا وتنتهي بالعذاب في الآخرة على طريقة القرآن :
{ قالوا : اتخذ الله ولداً ، سبحانه هو الغني ، له ما في السماوات وما في الأرض ، إن عندكم من سلطان بهذا ، أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ قل : إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون . متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ، ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون } . .
وعقيدة أن لله - سبحانه - ولداً ، عقيدة ساذجة ، منشؤها قصور في التصور ، يعجز عن إدراك الفارق الهائل بين الطبيعة الإلهية الأزلية الباقية ، والطبيعة البشرية المخلوقة الفانية؛ والقصور كذلك عن إدراك حكمة السنة التي جرت بتوالد أبناء الفناء ، وهو التكملة الطبيعية لما فيهم من نقص وقصور لا يكونان لله .
فالبشر يموتون ، والحياة باقية إلى أجل معلوم ، فإلى أن ينقضي هذا الأجل فحكمة الخالق تقتضي امتداد البشر ، والولد وسيلة لهذا الامتداد .
والبشر يهرمون ويشيخون فيضعفون . والولد تعويض عن القوة الشائخة بقوة فتية ، تؤدي دورها في عمارة الأرض - كما شاء الله - وتعين الضعفاء والشيوخ على بقية الحياة .
والبشر يكافحون فيما يحيط بهم ، ويكافحون أعداؤهم من الحيوان والناس . فهم في حاجة إلى التساند ، والولد أقرب من يكون إلى العون في هذه الأحوال .
والبشر يستكثرون من المال الذي يجلبونه لأنفسهم بالجهد الذي يبذلونه ، والولد يعين على الجهد الذي يجلب المال . .
وهكذا إلى سائر ما اقتضته حكمة الخالق لعمارة هذه الأرض ، حتى ينقضي الأجل ، ويقضي الله أمراً كان مفعولاً .

وليس شيء من ذلك كله متعلقاً بالذات الإلهية ، فلا الحاجة إلى الامتداد ، ولا الحاجة إلى العون عند الشيخوخة ، ولا الحاجة إلى النصير ، ولا الحاجة إلى المال . ولا الحاجة إلى شيء ما مما يخطر أو لا يخطر على البال متعلقة بذات الله تعالى . .
ومن ثم تنتفي حكمة الولد ، لأن الطبيعة الإلهية لا يتعلق بها غرض خارج عن ذاته ، يتحقق بالولد . وما قضت حكمة الله أن يتولد البشر إلا لأن طبيعتهم قاصرة تحتاج إلى هذا النوع من التكملة . فهي تقتضي الولد اقتضاء . وليست المسألة جزافاً .
ومن ثم كان الرد على فرية : { قالوا اتخذ الله ولداً } . . هو :
{ سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض } .
{ سبحانه . . } تنزيها لذاته العلية عن مستوى هذا الظن أو الفهم أو التصوّر . { هو الغني } . . بكل معاني الغنى ، عن الحاجات التي أسلفنا وعن سواها مما يخطر ومما لا يخطر على البال . مما يقتضي وجود الولد . والمقتضيات هي التي تسمح بوجود المقتضيات ، فلا يوجد شيء عبثاً بلا حاجة ولا حكمة ولا غاية . { له ما في السماوات وما في الأرض } . فكل شيء ملكه . ولا حاجة به - سبحانه - لأن يملك شيئاً بمساعدة الولد . فالولد إذن عبث . تعالى الله سبحانه عن العبث
ولا يدخل القرآن الكريم في جدل نظري حول الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسوتية ، مما جد عند المتكلمين ، وفي الفلسفات الأخرى . لأنه يلمس الموضوعات في واقعها القريب إلى الفطرة . ويتعامل مع الموضوع ذاته لا مع فروض جدلية قد تترك الموضوع الحاصر نهائياً وتصبح غرضاً في ذاتها
فيكتفي هنا بهذه اللمسة التي تمس واقعهم ، وحاجتهم إلى الولد ، وتصورهم لهذه الحاجة ، وانتفاء وجودها بالقياس إلى الله الغني الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض ، ليبلغ من نفوسهم موضع الاقتناع أو موضع الإفحام ، بلا جدل نظري يضعف أثر اللمسة النفسية التي تستجيب لها الفطرة في يسر وهوادة .
ثم يجبههم بالواقع ، وهو أنهم لا يملكون برهاناً على ما يدعون . ويسمي البرهان سلطاناً ، لأن البرهان قوة ، وصاحب البرهان قوي ذو سلطان :
{ إن عندكم من سلطان بهذا } . .
ما عندكم من حجة ولا برهان على ما تقولون .
{ أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ } . .
وقول الإنسان ما لا يعلم منقصة لا تليق . فكيف إذا كان هذا القول بلا علم على الله - سبحانه - إنه جريمة إذن أكبر من كل جريمة . فهو أولاً ينافي ما يستحقه الله من عباده من تنزيه وتعظيم ، لأنه وصف له بمقتضيات الحدوث والعجز والنقص والقصور . تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً . ولأنه ضلال في تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق ، ينشأ عنه ضلال في تصور كل علاقات الحياة والناس والمعاملات . فكلها فرع من تصور هذه العلاقة .

وكل ما ابتدعه الكهنة لأنفهسم في الوثنيات من سلطان؛ وكل ابتدعته الكنيسة لها من سلطان ، إنما نشأ عن تصور العلاقة بين الله تعالى وبناته الملائكة : أو بين الله تعالى وعيسى بن مريم من صلة الأبوة والبنوة ، وحكاية الخطيئة ، ومنها نشأت مسألة الاعتراف ، ومسألة قيام كنيسة المسيح بتوصيل الناس بأبي المسيح ( بزعمهم ) . . إلى نهاية السلسلة التي متى بدأت الحلقة الأولى فيها بفساد تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق فسدت الحلقات التالية كلها في كل ضروب الحياة .
فليست المسألة مجرد فساد في التصور الاعتقادي ، ولكنه مسألة الحياة برمتها . وكل ما وقع بين الكنيسة وبين العلم والعقل من عداء ، انتهى إلى تخلص المجتمع من سلطان الكنيسة بتخلصه من سلطان الدين نفسه إنما نشأ من هذه الحلقة . حلقة فساد تصور العلاقة بين الله وخلقه . وجر في ذيوله شراً كثيراً تعاني البشرية كلها ويلاته في التيارات المادية وما وراءها من بلايا وأرزاء .
ومن ثم كان حرص العقيدة الإسلامية على تجلية هذه العلاقة تجلية كاملة لا لبس فيها ولا إبهام . . الله خالق أزلي باق ، لا يحتاج إلى الولد . والعلاقة بينه وبين الناس جميعاً هي علاقة الخالق بخلقه دون استثناء . وللكون والحياة والأحياء سنن ماضية لا تتخلف ولا تحابي . فمن اتبع هذه السنن أفلح وفاز ، ومن حاد عنها ضل وخسر . . الناس في هذا كلهم سواء . وكلهم مرجعهم إلى الله . وليس هنالك من شفعاء ولا شركاء . وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً . ولكل نفس ما عملت . ولا يظلم ربك أحداً .
عقيدة بسيطة واضحة ، لا تدع مجالاً لتأويل فاسد ، ولا تنحني أو تنحرف بالقلب في دروب ومنحنيات ، وفي في سحب وضباب
ومن ثم يقف الجميع سواء أمام الله وكلهم مخاطب بالشريعة ، وكلهم مكلف بها ، وكلهم حفيظ عليها ، وبذلك تستقيم العلاقات بين الناس بعضهم وبعض ، نتيجة استقامة العلاقة بينهم وبين الله .
{ قل : إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } . .
لا يفلحون أي فلاح . لا يفلحون في شِعب ولا طريق . لا يفلحون في الدنيا ولا في الأخرى . والفلاح الحقيقي هو الذي ينشأ من مسايرة سنن الله الصحيحة ، المؤدية إلى الخير وارتقاء البشر وصلاح المجتمع ، وتنمية الحياة ، ودفعها إلى الإمام . وليس هو مجرد الإنتاج المادي مع تحطم القيم الإنسانية ، ومع انتكاس البشر إلى مدارج الحيوانية . فذلك فلاح ظاهري موقوت ، منحرف عن خط الرقي الذي يصل بالبشرية إلى أقصى ما تطيقه طبيعتها من الاكتمال .
{ متاع في الدنيا . ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون } . .
مجرد متاع واط . وهو متاع قصير الأمد . وهو متاع مقطوع لأنه لا يتصل بالمتاع اللائق بالبشرية في الدار الآخرة . إنما يعقبه { العذاب الشديد } ثمرة للانحراف عن سنن الله الكونية المؤدية إلى المتاع العالي اللائق ببني الإنسان .

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)

سبقت الإشارة في هذه السورة إلى القرون الخالية ، وما كان من عاقبة تكذيبهم لرسلهم ، واستخلاف من بعدهم لاختبارهم : { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات ، وما كانوا ليؤمنوا ، كذلك نجزي القوم المجرمين ، ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } كما سبقت الإشارة بأن لكل أمة رسولاً فإذا جاءهم رسولهم قضي بينهم بالقسط : { ولكل أمة رسول ، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون } .
فالآن يأخذ السياق في جولة تفصيلية لهاتين الإشارتين ، فيسوق طرفاً من قصة نوح مع قومه ، وطرفاً من قصة موسى مع فرعون وملئه ، تتحقق فيهما عاقبة التكذيب ، والقضاء في أمر الأمة بعد مجيء رسولها ، وإبلاغها رسالته ، وتحذيرها عاقبة المخالفة .
كذلك تجيء إشارة عابرة لقصة يونس الذي آمنت قريته بعد أن كاد يحل بها العذاب ، فرفع عنها ونجت منه بالإيمان . . وهي لمسة من ناحية أخرى تزين الإيمان للمكذبين ، لعلهم يتقون العذاب الذي ينذرون . ولا تكون عاقبتهم كعاقبة قوم نوح وقوم موسى المهلكين .
وقد انتهى الدرس الماضي بتكليف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن عاقبة الذين يفترون على الله الكذب وينسبون إليه شركاء : { قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ، متاع في الدنيا ، ثم إلينا مرجعهم ، ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون } وذلك بعد تطمين الرسول : { ولا يحزنك قولهم . إن العزة لله جميعاً } وبأن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
واستمر السياق بتكليف جديد : أن يقص عليهم - صلى الله عليه وسلم - نبأ نوح فيما يختص بتحديه لقومه ثم ما كان من نجاته ومن آمنوا معه واستخلافهم في الأرض ، وهلاك المكذبين وهم أقوى وأكثر عدداً .
والمناسبة ظاهرة لإيراد هذا القصص بالنسبة لسياق السورة ، وبالنسبة لهذه المعاني القريبة قبلها . والقصص في القرآن يجيء في السياق ليؤدي وظيفة فيه؛ ويتكرر في المواضع المختلفة بأساليب تتفق مع مواضعه من السياق ، والحلقات التي تعرض منه في موضع تفي بحاجة ذلك الموضع ، وقد يعرض غيرها من القصة الواحدة في موضع آخر ، لأن هذا الموضع تناسبه حلقة أخرى من القصة . وسنرى فيما يعرض من قصتي نوح وموسى ويونس هنا وفي طريقة العرض مناسبة ذلك لموقف المشركين في مكة من النبي - صلى الله عليه وسلم - والقلة المؤمنة معه ، واعتزاز هذه القلة المؤمنة بإيمانها في وجه الكثرة والقوة والسلطان . كما سنجد المناسبة بين القصص والتعقيبات التي تتخلله وتتلوه .
{ واتل عليهم نبأ نوح ، إذ قال لقومه : يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت ، فأجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ، ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون .

فإن توليتم فما سألتكم من أجر . إن أجري إلا على الله ، وأمرت أن أكون من المسلمين . فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك ، وجعلناهم خلائف ، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ، فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } . .
إن الحلقة التي تعرض هنا من قصة نوح ، هي الحلقة الأخيرة : حلقة التحدي الأخير ، بعد الإنذار الطويل والتذكير الطويل والتكذيب الطويل . ولا يذكر في هذه الحلقة موضوع السفينة ولا من ركب فيها ولا الطوفان ، ولا التفصيلات في تلك الحلقة ، لأن الهدف هو إبراز التحدي والاستعانة بالله وحده ، ونجاة الرسول ومن معه وهم قلة ، وهلاك المكذبين له وهم كثرة وقوة . لذلك يختصر السياق هنا تفصيلات القصة إلى حلقة واحدة . ويختصر تفصيلات الحلقة الواحدة إلى نتائجها الأخيرة ، لأن هذا هو مقتضى السياق في هذا الموضع .
{ واتل عليهم نبأ نوح ، إذ قال لقومه : يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة . ثم اقضوا إلي ولا تنظرون } . .
إن كان الأمر قد بلغ منكم مبلغ الضيق ، فلم تعودوا تتحملون بقائي فيكم ودعوتي لكم؛ وتذكيري لكم بآيات الله . فأنتم وما تريدون . وأنا ماض في طريقي لا أعتمد إلا على الله :
{ فعلى الله توكلت } . .
عليه وحده فهو حسبي دون النصراء والأولياء .
{ فأجمعوا أمركم وشركاءكم } . .
وتدبروا مصادر أمركم وموارده ، وخذوا أهبتكم متضامنين :
{ ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } . .
بل ليكن الموقف واضحاً في نفوسكم ، وما تعتزمونه مقرراً لا لبس فيه ولا غموض ، ولا تردد فيه ولا رجعة .
{ ثم اقضوا إلي } . .
فنفذوا ما اعتزمتم بشأني وما دبرتم ، بعد الروية ووزن الأمور كلها والتصميم الذي لا تردد فيه . .
{ ولا تنظرون } . .
ولا تمهلوني للأهبة والاستعداد ، فكل استعدادي ، هو اعتمادي على الله وحده دون سواه .
إنه التحدي الصريح المثير ، الذي لا يقوله القائل إلا وهو مالئ يديه من قوته ، واثق كل الوثوق من عدته ، حتى ليغري خصومه بنفسه ، ويحرضهم بمثيرات القول على أن يهاجموه فماذا كان وراء نوح من القوة والعدة؟ وماذا كان معه من قوى الأرض جميعاً؟
كان معه الإيمان . . القوة التي تتصاغر أمامها القوى ، وتتضاءل أمامها الكثرة ، ويعجز أمامها التدبير . وكان وراءه الله الذي لا يدع أولياءه لأولياء الشيطان
إنه الإيمان بالله وحده ذلك الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المسيطرة على هذا الكون بما فيه ومن فيه . فليس هذا التحدي غروراً ، وليس كذلك تهوراً ، وليس انتحاراً . إنما هو تحدي القوة الحقيقية الكبرى للقوى الهزيلة الفانية التي تتضاءل وتتصاغر أمام أصحاب الإيمان .
وأصحاب الدعوة إلى الله لهم أسوة حسنة في رسل الله . . وإنه لينبغي لهم أن تمتلئ قلوبهم بالثقة حتى تفيض . وإن لهم أن يتوكلوا على الله وحده في وجه الطاغوت أياً كان
ولن يضرهم الطاغوت إلاَّ أذى - ابتلاء من الله لا عجزاً منه سبحانه عن نصرة أوليائه ، ولا تركاً لهم ليسلمهم إلى أعدائه .

ولكنه الابتلاء الذي يمحص القلوب والصفوف . ثم تعود الكرة للمؤمنين . ويحق وعد الله لهم بالنصر والتمكين .
والله سبحانه يقص قصة عبده نوح وهو يتحدى قوى الطاغوت في زمانه هذا التحدي الواضح الصريح . فلنمض مع القصة لنرى نهايتها عن قريب .
{ فإن توليتم فما سألتكم من أجر . إن أجري إلا على الله . وأمرت أن أكون من المسلمين } . .
فإن أعرضتم عني وابتعدتم ، فأنتم وشأنكم ، فما كنت أسألكم أجراً على الهداية ، فينقص أجري بتوليكم :
{ إن أجري إلا على الله } . .
ولن يزحزحني هذا عن عقيدتي ، فقد أمرت أن أسلم نفسي كلها لله :
{ وأمرت أن أكون من المسلمين } . .
وأنا عندما أمرت به . . من المسلمين . .
فماذا كان؟
{ فكذبوه . فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف . وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا } . .
هكذا باختصار . نجاته هو ومن معه في الفلك - وهم المؤمنون . واستخلافهم في الأرض على قلتهم . وإغراق المكذبين على قوتهم وكثرتهم :
{ فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } . .
لينظر من ينظر { عاقبة المنذرين } المكذبين وليتعظ من يتعظ بعاقبة المؤمنين الناجين .
ويعجل السياق بإعلان نجاة نوح ومن معه ، لأن نوحاً والقلة المؤمنة كانوا يواجهون خطر التحدي للكثرة الكافرة . فلم تكن النتيجة مجرد هلاك هذه الكثرة ، بل كان قبلها نجاة القلة من جميع الأخطار؛ واستخلافها في الأرض ، تعيد تعميرها وتجديد الحياة فيها ، وتأدية الدور الرئيسي فترة من الزمان .
هذه سنة الله في الأرض . وهذا وعده لأوليائه فيها . . فإذا طال الطريق على العصبة المؤمنة مرة ، فيجب أن تعلم أن هذا هو الطريق ، وأن تستيقن أن العاقبة والاستخلاف للمؤمنين ، وألا تستعجل وعد الله حتى يجيء وهي ماضية في الطريق . . والله لا يخدع أولياءه - سبحانه - ولا يعجز عن نصرهم بقوته ، ولا يسلمهم كذلك لأعدائه . . ولكنه يعلمهم ويدربهم ويزودهم - في الابتلاء - بزاد الطريق . .
وفي اختصار وإجمال يشير السياق إلى الرسل بعد نوح ، وما جاءوا به من البينات والخوارق وكيف تلقاها المكذبون الضالون :
{ ثم بعثنا من بعده رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات ، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ، كذلك نطبع على قلوب المعتدين } . .
فهؤلاء الرسل جاءوا قومهم بالبينات . والنص يقول : إنهم ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل . . وهذا يحتمل أنهم بعد مجيء الآيات ظلوا يكذبون كما كانوا قبلها يكذبون . فلم تحولهم الآيات عن عنادهم . كما يحتمل أن المكذبين جماعة واحدة على اختلاف أجيالهم ، لأنهم ذوو طبيعة واحدة . فهؤلاء ما كان يمكن أن يؤمنوا بما كذب به أسلاف لهم ، أو بما كذبوا هم به في أشخاص هؤلاء الأسلاف فهم منهم ، طبيعتهم واحدة ، وموقفهم تجاه البينات واحد .

لا يفتحون لها قلوبهم ، ولا يتدبرونها بعقولهم . وهم معتدون متجاوزون حد الاعتدال والاستقامة على طريق الهدى ، ذلك أنهم يعطلون مداركهم التي أعطاها الله لهم ليتدبروا بها ويتبينوا . وبمثل هذا التعطيل ، تغلق قلوبهم وتوصد منافذها :
{ كذلك نطبع على قلوب المعتدين } . .
حسب سنة الله القديمة في أن القلب الذي يغلقه صاحبه ينطبع على هذا ويجمد ويتحجر ، فلا يعود صالحاً للتلقي والاستقبال . . لا أن الله يغلق هذه القلوب ليمنعها ابتداء من الاهتداء . فإنما هي السنة تتحقق مقتضياتها في جميع الأحوال .
فأما قصة موسى فيبدؤها السياق هنا من مرحلة التكذيب والتحدي ، وينهيها عند غرق فرعون وجنوده ، على نطاق أوسع مما في قصة نوح ، ملماً بالمواقف ذات الشبة بموقف المشركين في مكة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وموقف القلة المؤمنة التي معه .
وهذه الحلقة المعروضة هنا من قصة موسى ، مقسمة إلى خمسة مواقف ، يليها تعقيب يتضمن العبرة من عرضها في هذه السورة على النحو الذي عرضت به . . وهذه المواقف الخمسة تتتابع في السياق على هذا النحو :
{ ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا ، فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين . فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا : إن هذا لسحر مبين . قال موسى : أتقولون للحق لما جاءكم ، أسحر هذا؟ ولا يفلح الساحرون . قالوا : أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ، وتكون لكما الكبرياء في الأرض؟ وما نحن لكما بمؤمنين } . .
والآيات التي بعث بها موسى إلى فرعون وملئه هي الآيات التسع المذكورة في سورة الأعراف . ولكنها لا تذكر هنا ولا تفصل لأن السياق لا يقتضيها ، والإجمال في هذا الموضع يغني . والمهم هو تلقي فرعون وملئه لآيات الله :
{ فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين } . .
{ فلما جاءهم الحق من عندنا } . .
بهذا التحديد . . { من عندنا } . . ليصور شناعة الجريمة فيما قالوه عن هذا الحق الصادر من عند الله :
{ قالوا : إن هذا لسحر مبين } . .
بهذا التوكيد المتبجح الذي لا يستند مع هذا إلى دليل . . { إن هذا لسحر مبين } . . كأنها جملة واحدة يتعارف عليها المكذبون في جميع العصور فهكذا قال مشركو قريش ، كما حكي عنهم في مطلع السورة ، على تباعد الزمان والمكان ، وعلى بعد ما بين معجزات موسى ومعجزة القرآن
{ قال موسى : أتقولون للحق لما جاءكم . أسحر هذا؟ ولا يفلح الساحرون } . .
وقد حذف من استنكار موسى الأول ما دل عليه الثاني . فكأنه قال لهم : أتقولون للحق لما جاءكم : هذا سحر؟ أسحر هذا؟ وفي السؤال الأول استنكار لوصف الحق بالسحر ، وفي السؤال الثاني تعجيب من أن يقول أحد عن هذا إنه سحر . فالسحر لا يستهدف هداية الناس ، ولا يتضمن عقيدة ، وليس له فكرة معينة عن الألوهية وعلاقة الخلق بالخالق؛ ولا يتضمن منهاجاً تنظيمياً للحياة . فما يختلط السحر بهذا ولا يلتبس . وما كان الساحرون ليؤدوا عملاً يستهدف مثل هذه الأغراض ، ويحقق مثل هذا الاتجاه؛ وما كانوا ليفلحوا وكل عملهم تخييل وتزييف .

وهنا يكشف الملأ عن حقيقة الدوافع التي تصدهم عن التسليم بآيات الله :
{ قالوا : أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ، وتكون لكما الكبرياء في الأرض؟ وما نحن لكما بمؤمنين } . .
وإذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة ، التي يقوم عليها نظامهم السياسي والاقتصادي . وهو الخوف على السلطان في الأرض ، هذا السلطان الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة .
إنها العلة القديمة الجديدة ، التي تدفع بالطغاة إلى مقاومة الدعوات ، وانتحال شتى المعاذير ، ورمي الدعاة بأشنع التهم ، والفجور في مقاومة الدعوات والدعاة . . إنها هي { الكبرياء في الأرض } وما تقوم عليه من معتقدات باطلة يحرص المتجبرون على بقائها متحجرة في قلوب الجماهير ، بكل ما فيها من زيف ، وبكل ما فيها من فساد ، وبكل ما فيها من أوهام وخرافات . لأن تفتح القلوب للعقيدة الصحيحة ، واستنارة العقول بالنور الجديد ، خطر على القيم الموروثة ، وخطر على مكانة الطغاة ورهبتهم في قلوب الجماهير ، وخطر على القواعد التي تقوم عليها هذه الرهبة وتستند . إنها الخوف على السلطان القائم على الأوهام والأصنام وعلى تعبيد الناس لأرباب من دون الله . . ودعوة الإسلام - على أيدي الرسل جميعاً - إنما تستهدف تقرير ربوبية الله وحده للعالمين؛ وتنحية الأرباب الزائفة التي تغتصب حقوق الألوهية وخصائصها ، وتزاولها في حياة الناس . وما كانت هذه الأرباب المستخفة للجماهير لتدع كلمة الحق والهدى تصل إلى هذه الجماهير . ما كانت لتدع الإعلان العام الذي يحمله الإسلام بروبية الله وحده للعالمين وتحرير رقاب البشر من العبودية للعباد . . ما كانت لتدع هذا الإعلان العام يصل إلى الجماهير؛ وهي تعلم أنه إعلان بالثورة على ربوبيتهم ، والانقلاب على سلطانهم ، والانقضاض على ملكهم ، والانطلاق إلى فضاء الحرية الكريمة اللائقة بالإنسان
إنها هي هي العلة القديمة الجديدة كلما قام من يدعو إلى الله رب العالمين
وما كان رجال من أذكياء قريش مثلاً ليخطئوا إدراك في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من صدق وسمو ، وما في عقيدة الشرك من تهافت وفساد . ولكنهم كانوا يخشون على مكانتهم الموروثة ، القائمة على ما في تلك العقيدة من خرافات وتقاليد . كما خشي الملأ من قوم فرعون على سلطانهم في الأرض ، فقالوا متبجحين :
{ وما نحن لك بمؤمنين }
وتعلق فرعون وملؤه بحكاية السحر ، وأرادوا - في أغلب الظن - أن يغرقوا الجماهير بها ، بأن يعقدوا حلقة للسحرة يتحدون بها موسى وما معه من آيات تشبه السحر في ظاهرها ، ليخرجوا منها في النهاية بأن موسى ليس إلا ساحراً ماهراً . وبذلك ينتهي الخطر الذي يخشونه على معقتداتهم الموروثة ، وعلى سلطانهم في الأرض ، وهو الأساس . . ونرجح أن هذه كانت الدوافع الحقيقية لمهرجان السحرة ، بعدما أفصح القوم عن شعورهم بالخطر الحقيقي الذي يتوقعونه :
{ وقال فرعون : ائتوني بكل ساحر عليم .

فلما جاء السحرة قال لهم موسى : ألقوا ما أنتم ملقون . فلما ألقوا قال موسى : ما جئتم به السحر ، إن الله سيبطله ، إن الله لا يصلح عمل المفسدين ، ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون } . .
ونلاحظ هنا اختصاراً في موقف المباراة ، لأن نهايته هي المقصودة . وفي قولة موسى : { ما جئتم به السحر } . .
رد على تهمة السحر التي وجهت إليه . فالسحر هو هذا الذي يصنعه هؤلاء ، لأنه ليس أكثر من تخييل وسحر للأنظار لا هدف له إلا اللعب بالعقول ، لا تصحبه دعوة ، ولا تقوم عليه حركة . فهذا هو السحر لا آيات الله التي جاءهم بها حقاً من عند الله . . وفي قوله :
{ إن الله سيبطله } . .
تتجلى ثقة المؤمن الواثق بربه ، المطمئن إلى أن ربه لا يرضى أن ينجح السحر وهو عمل غير صالح :
{ إن الله لا يصلح عمل المفسدين } . .
الذين يضللون الناس بالسحر ، أو الملأ الذين جاءوا بالسحرة بنية الفساد والإبقاء على الضلال :
{ ويحق الله الحق بكلماته } . .
كلماته التكوينية { كن فيكون } . .
وهي تعبير عن توجه المشيئة . أو كلماته التي هي آياته وبيناته :
{ ولو كره المجرمون } . .
فإن كراهتهم لا تعطل مشيئة الله ، ولا تقف دون آياته .
وقد كان . . وبطل السحر وعلا الحق . . ولكن السياق يختصر المشاهد هنا؛ لأنها ليست مقصودة في هذا المجال .
ويسدل الستار هنا ليرفع على موسى ومن آمن معه وهم قليل من شباب القوم لا من شيوخهم . وهذا إحدى عبر القصة المقصودة .
{ فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ، على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم . وإن فرعون لعال في الأرض . وإنه لمن المسرفين . وقال موسى : يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين . فقالوا : على الله توكلنا ، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين . وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً ، واجعلوا بيوتكم قبلة ، وأقيموا الصلاة ، وبشر المؤمنين } .
ويفيد هذا النص أن الذين أظهروا إيمانهم وانضمامهم لموسى بن بني إسرائيل كانوا هم الفتيان الصغار ، لا مجموعة الشعب الإسرائيلي . وأن هؤلاء الفتيان كان يخشى من فتنتهم وردهم عن اتباع موسى ، خوفاً من فرعون وتأثير كبار قومهم ذوي المصالح عند أصحاب السلطان ، والأذلاء الذين يلوذون بكل صاحب سلطة وبخاصة من إسرائيل . وقد كان فرعون ذا سلطة ضخمة وجبروت ، كما كان مسرفاً في الطغيان ، لا يقف عند حد ، ولا يتحرج من إجراء قاس .
وهنا لا بد من إيمان يرجح المخاوف ، ويطمئن القلوب ، ويثبتها على الحق الذي تنحاز إليه :
{ وقال موسى : يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } . .
فالتوكل على الله دلالة الإيمان ومقتضاه . وعنصر القوة الذي يضاف إلى رصيد القلة الضعيفة أمام الجبروت الطاغي فإذا هي أقوى وأثبت .

وقد ذكر لهم موسى الإيمان والإسلام . وجعل التوكل على الله مقتضى هذا وذاك . . مقتضى الاعتقاد في الله ، ومقتضى إسلام النفس له خالصة والعمل بما يريد .
واستجاب المؤمنون لهتاف الإيمان على لسان نبيهم :
{ فقالوا : على الله توكلنا } . .
ومن ثم توجهوا إلى الله بالدعاء :
{ ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين } . .
والدعاء بألا يجعلهم الله فتنة للقوم الظالمين مقصود به ألا يمكن القوم الظالمين منهم ، فيظن القوم أن تمكنهم من المؤمنين بالله دليل على أن عقيدتهم هم أصح ولذلك انتصروا وهزم المؤمنون ويكون هذا استدراجاً لهم من الله وفتنة ليلجوا في ضلالهم . فالمؤمنون يدعون الله أن يعصمهم من تسلط الظالمين عليهم ولو لاستدراج الظالمين . والآية الثانية أصرح في النتيجة المطلوبة :
{ ونجنا برحمتك من القوم الكافرين } . .
ودعاؤهم الله ألا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين ، وأن ينجيهم برحمته من القوم الكافرين ، لا ينافي الاتكال على الله والتقوِّي به . بل هو أدل على التوجه بالاتكال والاعتماد إلى الله . والمؤمن لا يتمنى البلاء ، ولكن يثبت عند اللقاء .
وعقب هذا التميز ، وفي فترة الانتظار بعد الجولة الأولى ، وإيمان من آمن بموسى ، أوحى الله إليه وإلى هارون أن يتخذا لبني إسرائيل بيوتاً خاصة بهم ، وذلك لفرزهم وتنظيمهم استعداداً للرحيل من مصر في الوقت المختار؛ وكلفهم تطهير بيوتهم ، وتزكية نفوسهم ، والاستبشار بنصر الله :
{ وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً ، واجعلوا بيوتكم قبلة ، وأقيموا الصلاة ، وبشر المؤمنين } . .
وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية . وهما معاً ضروريتان للأفراد والجماعات ، وبخاصة قبيل المعارك والمشقات . ولقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية ، ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة ، وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئاً كثيراً في ساعة الشدة .
وهذه التجربة التي يعرضها الله على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة ، ليست خاصة ببني إسرائيل ، فهي تجربة إيمانية خالصة . وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي ، وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت ، وفسد الناس ، وأنتنت البيئة - وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة - وهنا يرشدهم الله إلى أمور :
* اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها - ما أمكن في ذلك - وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها ، لتطهرها وتزكيها ، وتدربها وتنظمها ، حتى يأتي وعد الله لها .
* اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد . تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي؛ وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح؛ وتزاول بالعبادة ذاتها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور .
واتجه موسى - عليه السلام - إلى ربه ، وقد يئس من فرعون وملئه أن يكون فيهم خير ، وأن تكون قد بقيت فيهم بقية ، وأن يرجى لهم صلاح .

اتجه إليه يدعو على فرعون وملئه ، الذين يملكون المال والزينة ، تضعف إزاءهما قلوب الكثيرين ، فتنتهي إلى التهاوي أمام الجاه والمال ، وإلى الضلال . . اتجه موسى إلى ربه يدعوه أن يدمر هذه الأموال ، وأن يشد على قلوب أهلها فلا يؤمنوا إلا حيث لا ينفعهم إيمان . فاستجاب الله الدعاء :
{ وقال موسى : ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا . ربنا ليضلوا عن سبيلك . ربنا اطمس على أموالهم ، واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم . قال : قد أجيبت دعوتكما ، فاستقيما ، ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون } . .
{ ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا } . .
ينشأ عنها إضلال الناس عن سبيلك ، إما بالإغراء الذي يحدثه مظهر النعمة في نفوس الآخرين . وإما بالقوة التي يمنحها المال لأصحابه فيجعلهم قادرين على إذلال الآخرين أو إغوائهم . ووجود النعمة في أيدي المفسدين لا شك يزعزع كثيراً من القلوب التي لا يبلغ من يقينها بالله أن تدرك أن هذه النعمة ابتلاء واختبار ، وأنها كذلك ليست شيئاً ذا قيمة إلى جانب فضل الله في الدنيا والآخرة . وموسى يتحدث هنا عن الواقع المشهود في عامة الناس . ويطلب لوقف هذا الإضلال ، ولتجريد القوة الباغية المضلة من وسائل البغي والإغراء ، أن يطمس الله على هذه الأموال بتدميرها والذهاب بها ، بحيث لا ينتفع بها أصحابها . أما دعاؤه بأن يشد الله على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ، فهو دعاء من يئس من صلاح هذه القلوب ، ومن أن يكون لها توبة أو إنابة . دعاء بأن يزيدها الله قسوة واستغلاقاً حتى يأتيهم العذاب ، وعندئذ لن يقبل منهم الإيمان؛ لأن الإيمان عند حلول العذاب لا يقبل ، ولا يدل على توبة حقيقية باختيار الإنسان .
{ قال : قد أجيبت دعوتكما } . .
كتبت لها الإجابة وقضي الأمر .
{ فاستقيما } . .
في طريقكما وعلى هداكما حتى يأتي الأجل :
{ ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون } . .
فيخبطوا على غير علم ، ويترددوا في الخطط والتدبيرات ، ويقلقوا على المصير ، ولا يعرفوا إن كانوا يسيرون في الطريق الهادي أم هم ضلوا السبيل .
والمشهد التالي هو مشهد التنفيذ .
{ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ، فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً ، حتى إذا أدركه الغرق قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين . آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين؟ فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ، وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون } . .
إنه الموقف الحاسم والمشهد الأخير في قصة التحدي والتكذيب . والسياق يعرضه مختصراً مجملاً ، لأن الغرض من سياقة هذه الحلقة من القصة في هذه السورة هو بيان هذه الخاتمة . بيان رعاية الله وحمايته لأوليائه ، وإنزال العذاب والهلاك بأعدائه ، الذين يغفلون عن آياته الكونية وآياته مع رسله حتى تأخذهم الآية التي لا ينفع بعدها ندم ولا توبة .

وهو مصداق ما سبق في السورة من وعيد للمكذبين في قوله تعالى : { ولكل أمة رسول ، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون . ويقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ قل : لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله لكل أمة أجل ، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قل : أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ، ماذا يستعجل منه المجرمون؟ أثم إذا ما وقع آمنتم به؟ آلآن وقد كنتم به تستعجلون؟ } فهنا يأتي القصص لصدق ذلك الوعيد :
{ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } . .
بقيادتنا وهدايتنا ورعايتنا . ولهذا الإسناد في هذا الموضع دلالته . .
{ فأتبعهم فرعون وجنوده } . .
لا اهتداء وإيماناً ، ولا دفاعاً مشروعاً . ولكن :
{ بغياً وعدواً } . .
وتجاوزاً للحد وطغياناً . .
ومن مشهد البغي والعدو مباشرة إلى مشهد الغرق في ومضة :
{ حتى إذا أدركه الغرق } . .
وعاين الموت ، ولم يعد يملك نجاة . .
{ قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين } . .
لقد سقطت عن فرعون الباغي العادي المتجبر الطاغي . . كل أرديته التي تنفخ فيه فتظهره لقومه ولنفسه قوة هائلة مخيفة ، ولقد تضاءل وتصاغر واستخذى . فهو لا يكتفي بأن يعلن إيمانه بأن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل . فيزيد في استسلام . .
{ وأنا من المسلمين } . .
المسلِّمينّ
{ آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين؟ } . .
آلآن حيث لا اختيار ولا فرار؟ آلآن وقد سبق العصيان والاستكبار؟ آلآن؟
{ فاليوم ننجيك ببدنك } . .
لا تأكله الأسماك ، ولا يذهب منكراً مع التيار لا يعرف للناس . ذلك ليدرك من وراءك من الجماهير كيف كان مصيرك :
{ لتكون لمن خلفك آية } . .
يتعظون بها ويعتبرون ، ويرون عاقبة التصدي لقوة الله ووعيده بالتكذيب :
{ وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون } . .
لا يوجهون إليها قلوبهم وعقولهم ، ولا يتدبرونها في الآفاق وفي أنفسهم .
ويسدل الستار على المشهد النهائي في المأساة . مأساة البغي والفساد والتحدي والعصيان . . ويعقب السياق بلمحة سريعة عن مآل بني إسرائيل بعدها ، تستغرق ما حدث في أجيال :
{ ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ، ورزقناهم من الطيبات ، فما اختلفوا حتى جاءهم العلم . إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } . .
والمبوأ : مكان الإقامة الأمين . وإضافته إلى الصدق تزيده أماناً وثباتاً واستقراراً كثبات الصدق الذي لا يضطرب ولا يتزعزع اضطراب الكذب وتزعزع الافتراء . ولقد طاب المقام فترة لبني إسرائيل بعد تجارب طويلة ، لا يذكرها السياق هنا لأنها ليست من مقاصده ، وتمتعوا بطيبات من الرزق حلال ، حتى فسقوا عن أمر الله فحرمت عليهم . والسياق لا يذكر هنا إلا اختلافهم بعد وفاق . اختلافهم في دينهم ودنياهم ، لا على جهل ولكن بعد أن جاءهم العلم ، وبسبب هذا العلم ، واستخدامه في التأويلات الباطلة .

ولما كان المقام هنا مقام نصرة الإيمان وخذلان الطغيان ، فإن السياق لا يطيل في عرض ما وقع بعد ذلك من بني إسرائيل ، ولا يفصل خلافهم بعدما جاءهم العلم . ولكن يطوي هذه الصفحة ، ويكلها بما فيها لله في يوم القيامة :
{ إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } . .
فيبقى للقصة جلالها ، ويظل للمشهد الأخير تأثيره . .
وهكذا ندرك لماذا يساق القصص القرآني ، وكيف يساق في كل موضع من مواضعه . فليس هو مجرد حكايات تروى ، ولكنه لمسات وإيحاءات مقدرة تقديراً .
بعد ذلك يجيء التعقيب على هذه الخاتمة لقصة موسى وقصة نوح من قبلها ، يبدأ خطاباً إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - تثبيتاً بما حدث للرسل قبله ، وبياناً لعلة تكذيب قومه له ، أن ليس ما ينقصهم هو الآيات والبينات ، إنما هي سنة الله في المكذبين من قبلهم ، وسنة الله في خلق الإنسان باستعداداته للخير والشر والهدى والضلال . . وفي الطريق يلم إلمامة سريعة بقصة يونس وإيمان قومه به بعد أن كاد العذاب ينزل بهم ، فرد عنهم . لعل فيها حافزاً للمكذبين قبل فوات الأوان . . وينتهي بالخلاصة المستفادة من ذلك القصص كله . أن سنة الله التي مضت في الأولين ماضيه في الآخرين : عذاب وهلاك للمكذبين . ونجاة وخلاص للرسل ومن معهم من المؤمنين . حقاً كتبه الله على نفسه . وجعله سنة ماضية لا تتخلف ولا تحيد :
{ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك . لقد جاءك الحق من ربك ، فلا تكونن من الممترين . ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين . إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ، فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها ، إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ، ومتعناهم إلى حين . ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً . أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ، ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون . قل : انظروا ماذا في السماوات والأرض ، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ، فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم؟ قل : فانتظروا إني معكم من المنتظرين . ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا ، كذلك حقا علينا ننج المؤمنين } . .
لقد كان آخر الحديث عن بني إسرائيل ، وهم من أهل الكتاب ، وهم يعرفون قصة نوح مع قومه وقصة موسى مع فرعون ، يقرأونها في كتابهم . فهنا يتوجه الخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إن كان في شك مما أنزل إليه ، من هذا القصص أو غيره ، فليسأل الذين يقرأون الكتاب من قبله .

فلديهم عنه علم ، مما يقرأون :
{ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك . لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين } .
ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في شك مما أنزل الله إليه . أو كما روي عنه - عليه الصلاة والسلام - « لا أشك ولا أسأل » ففيم إذن هذا القول له أن يسأل إن كان في شك . والتعقيب عليه : { لقد جاءك الحق من ربك } وفي هذا ما يكفيه لليقين؟
ولكن هذا التوجيه يشي بما كان وراءه من شدة الموقف وتأزمه في مكة بعد حادث الإسراء ، وقد ارتد بعض من أسلموا لعدم تصديقه . وبعد موت خديجة وأبي طالب ، واشتداد الأذى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه؛ وبعد تجمد الدعوة تقريباً في مكة بسبب موقف قريش العنيد . . وكل هذه ملابسات تلقي ظلالها على قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسري عنه ربه بهذا التوكيد ، بعد ذلك القصص الموحى . .
ثم إنه تعريض بالشاكين الممترين المكذبين :
{ ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين } .
وهذا التعريض يترك الفرصة لمن يريد منهم أن يرجع ليرجع؛ لأنه إذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مأذوناً في أن يسأل إن كان في شك ، ثم هو لا يسأل ولا يشك ، فهو إذن على يقين مما جاء به أنه الحق . وفي هذا إيحاء للآخرين ألا يترددوا ، وألا يكونوا { من الممترين } . .
ثم إنه المنهج الذي يضعه الله لهذه الأمة فيما لا تستوثق منه . . أن تسأل أهل الذكر . . ولو كان من أخص خصائص العقيدة؛ لأن المسلم مكلف أن يستيقن من عقيدته وشريعته ، وألا يعتمد على التقليد دون تثبت ويقين .
ثم أيكون هناك تعارض بين إباحة هذا السؤال عند الشك وبين قوله : { فلا تكونن من الممترين } ؟ . . ليس هنالك تعارض ، لأن المنهي عنه هو الشك والبقاء على الشك؛ بحيث يصبح صفة دائمة . . { من الممترين } . . ولا يتحرك صاحبها للوصول إلى يقين . وهي حالة رديئة لا تنتهي إلى معرفة ، ولا تحفز إلى استفادة ، ولا تئول إلى يقين .
وبعد فإذا كان ما جاء إلى الرسول هو الحق الذي لا مرية فيه ، فما تعليل إصرار قوم على التكذيب ولجاجهم فيه؟ تعليله أن كلمة الله وسنته قد اقتضت أن من لا يأخذ بأسباب الهدى لا يهتدي ، ومن لا يفتح بصيرته على النور لا يراه ، ومن يعطل مداركه لا ينتفع بوظيفتها ، فتكون نهايته إلى الضلال ، مهما تكن الآيات والبينات ، لأنه لا يفيد شيئاً من الآيات والبينات . وعندئذ تكون كلمة الله وسنته قد حقت عليهم وتحققت فيهم :
{ إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } .

.
فلا ينفعهم الإيمان حينئذ لأنه لم يجئ عن اختيار . ولم تعد هنالك فرصة لتحقيق مدلوله في الحياة . ومنذ هنيهة كان أمامنا مشهد يصدق هذا . مشهد فرعون حين أدركه الغرق يقول : { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين } . . فيقال له : { آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين؟ } .
وعند هذا الموقف الذي تظهر فيه حتمية سنن الله العامة ، وانتهاؤها إلى نهايتها المرسومة ، متى تعرض الإنسان لها باختياره ، تفتح نافذة مضيئة بآخر شعاع من أشعة الأمل في النجاة . ذلك أن يعود المكذبون عن تكذيبهم قبيل وقوع العذاب :
{ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } . .
وهو تحضيض ينسحب على الماضي ، فيفيد أن مدلوله لم يقع . . { فلولا كانت قرية آمنت } من هذه القرى التي مر ذكرها . ولكن القرى لم تؤمن . إنما آمنت منهم قلة ، فكانت الصفة الغالبة هي صفة عدم الإيمان . . ذلك فيما عدا قرية واحدة - والقرية : القوم ، والتسمية هكذا إيذان بأن الرسالات كانت في قرى الحضر ولم تكن في محلات البدو - ولا يفصل السياق هنا قصة يونس وقومه ، إنما يشير إلى خاتمتها هذه الإشارة؛ لأن الخاتمة وحدها هي المقصودة هنا . فلا نزيدها نحن تفصيلاً . وحسبنا أن ندرك أن قوم يونس كان عذاب مخز يتهددهم ، فلما آمنوا في اللحظة الأخيرة قبل وقوعه كشف عنهم العذاب ، وتركوا يتمتعون بالحياة إلى أجل . ولو لم يؤمنوا لحل العذاب بهم وفاقاً لسنة الله المترتبة آثارها على تصرفات خلقه . . حسبنا هذا لندرك أمرين هامين :
أولهما : الإهابة بالمكذبين أن يتعلقوا بخيوط النجاة الأخيرة ، فلعلهم ناجون كما نجا قوم يونس من عذاب الخزي في الحياة الدنيا . وهو الغرض المباشر من سياقة القصة هذا المساق . .
وثانيهما : أن سنة الله لم تتعطل ولم تقف بكشف هذا العذاب ، وترك قوم يونس يتمتعون فترة أخرى . بل مضت ونفذت . لأن مقتضى سنة الله كان أن يحل العذاب بهم لو أصروا على تكذيبهم حتى يجيء . فلما عدلوا قبل مجيئه جرت السنة بإنجائهم نتيجة لهذا العدول . فلا جبرية إذن في تصرفات الناس ، ولكن الجبرية في ترتيب آثارها عليها .
ومن ثم ترد القاعدة الكلية في الكفر والإيمان :
{ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً . أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ، ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون } . .
ولو شاء ربك لخلق هذا الجنس البشري خلقة أخرى ، فجعله لا يعرف إلا طريقاً واحداً هو طريق الإيمان كالملائكة مثلاً . أو لجعل له استعداداً واحداً يقود جميع أفراده إلى الإيمان .
ولو شاء كذلك لأجبر الناس جميعاً وقهرهم عليه ، حتى لا تكون لهم إرادة في اختياره .

ولكن حكمة الخالق التي قد ندرك بعض مراميها وقد لا ندرك ، دون أن ينفي عدم إدراكنا لها وجودها . هذه الحكمة اقتضت خلقة هذا الكائن البشري باستعداد للخير وللشر وللهدى والضلال . ومنحته القدرة على اختيار هذا الطريق أو ذاك . وقدرت أنه إذا أحسن استخدام مواهبه اللدنية من حواس ومشاعر ومدارك ، ووجهها إلى إدراك دلائل الهدى في الكون والنفس وما يجيء به الرسل من آيات وبينات ، فإنه يؤمن ويهتدي بهذا الإيمان إلى طريق الخلاص . وعلى العكس حين يعطل مواهبه ويغلق مداركه ويسترها عن دلائل الإيمان يقسو قلبه ، ويستغلق عقله ، وينتهي بذلك إلى التكذيب أو الجحود ، فإلى ما قدره الله للمكذبين الجاحدين من جزاء . .
فالإيمان إذن متروك للاختيار . لا يكره الرسول عليه أحداً . لأنه لا مجال للإكراه في مشاعر القلب وتوجهات الضمير :
{ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟ } . .
وهو سؤال للأنكار ، فإن هذا الإكراه لا يكون :
{ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله } :
وفق سنته الماضية التي بيناها . فلا تصل إلى الإيمان وقد سارت في الطريق الآخر الذي لا يؤدي إليه . لا أنها تريد الإيمان وتسلك طريقه ثم تمنع عنه ، فهذا ليس المقصود بالنص . بل المقصود أنها لا تصل إلى الإيمان إلا إذا سارت وفق إذان الله وسنته في الوصول إليه من طريقه المرسوم بالسنة العامة . وعندئذ يهديها الله ويقع لها الإيمان بإذنه . فلا شيء يتم وقوعه إلا بقدر خاص به . إنما الناس يسيرون في الطريق . فيقدر الله لهم عاقبة الطريق ، ويوقعها بالفعل جزاء ما جاهدوا في الله ليهتدوا . .
ويدل على هذا عقب الآية :
{ ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون } . .
فالذين عطلوا عقولهم عن التدبر ، يجعل الرجس عليهم . والرجس أبشع الدنس الروحي ، فهؤلاء ينالهم ذلك الرجس بسبب تعطيلهم لمداركهم عن التعقل والتدبر ، وانتهاؤهم بهذا إلى التكذيب والكفران .
ويزيد الأمر إيضاحاً بأن الآيات والنذر لا تغني عن الذين لا يؤمنون؛ لأنهم لا يتدبرونها وهي معروضة أمامهم في السماوات والأرض :
{ قل : انظروا ماذا في السماوات والأرض . وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } . .
وسواء كان عقب الآية استفهاماً أو تقريراً . فمؤداه واحد . فإن ما في السماوات والأرض حافل بالآيات؛ ولكن الآيات والنذر لا تفيد الذين لا يؤمنون ، لأنهم من قبل لم يلقوا بالا إليها ، ولم يتدبروها . .
وقبل أن نمضي إلى نهاية الشوط نقف لحظة أمام قوله تعالى :
{ قل : انظروا ماذا في السماوات والأرض . وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } . .
إن المخاطبين بهذا القرآن أول مرة ، لم يكن لديهم من المعرفة العلمية بما في السماوات والأرض إلا القليل . ولكن الحقيقة الواقعة التي أشرنا إليها مراراً ، هي أن بين الفطرة البشرية وبين هذا الكون الذي نعيش فيه لغة خفية غنية وأن هذه الفطرة تسمع لهذا الكون - حين تتفتح وتستيقظ - وتسمع منه الكثير
والمنهج القرآني في تكوين التصور الإسلامي في الإدراك البشري يتكئ على ما في السماوات والأرض ، ويستلهم هذا الكون؛ ويوجه إليه النظر والسمع والقلب والعقل .

. وذلك دون أن يخل بطبيعة التناسق والتوازن فيه؛ ودون أن يجعل من هذا الكون إلهاً يؤثر في الإنسان أثر الله كما يجدف بذلك الماديون المطموسون ، ويسمون ذلك التجديف مذهباً « علمياً » يقيمون عليه نظاماً اجتماعياً يسمونه : « الاشتراكية العلمية » والعلم الصحيح من ذلك التجديف كله بريء
والنظر إلى ما في السماوات والأرض يمد القلب والعقل بزاد من المشاعر والتأملات؛ وزاد من الاستجابات والتأثرات؛ وزاد من سعة الشعور بالوجود؛ وزاد من التعاطف مع هذا الوجود . . وذلك كله في الطريق إلى امتلاء الكينونة البشرية بالإيقاعات الكونية الموحية بوجود الله ، وبجلال الله ، وبتدبير الله ، وبسلطان الله ، وبحكمة الله ، وعلم الله . . .
ويمضي الزمن ، وتنمو معارف الإنسان العلمية عن هذا الكون ، فإن كان هذا الإنسان مهتدياً بنور الله إلى جوار هذه المعارف العلمية ، زادته هذه المعارف من الزاد الذي تحصله الكينونة البشرية من التأمل في هذا الكون ، والأنس به ، والتعرف عليه ، والتجاوب معه ، والاشتراك معه في تسبيحه بحمد الله : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم } ولا يفقه تسبيح كل شيء بحمد الله إلا الموصول قلبه بالله . . وأَما إن كانت هذه المعارف العلمية غير مصحوبة ببشاشة الإيمان ونوره ، فإنها تقود الأشقياء إلى مزيد من الشقوة ، حين تقودهم إلى مزيد من البعد عن الله؛ والحرمان من بشاشة الإيمان ونوره ورفرفته وريّاه
{ وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون }
وماذا تجدي الآيات والنذر إذا استغلقت القلوب ، وتجمدت العقول ، وتعطلت أجهزة الاستقبال والتلقي في الفطرة؛ واحتجب الكائن الإنساني بجملته عن هذا الوجود ، فلم يسمع إيقاعات حمده وتسبيحه؟
« إن المنهج القرآني في التعريف بحقيقة الألوهية يجعل الكون والحياة معرضاً رائعاً تتجلى فيه هذه الحقيقة . . تتجلى فيه بآثارها الفاعلة ، وتملأ بوجودها وحضورها جوانب الكينونة الإنسانية المدركة . . إن هذا المنهج لا يجعل » وجود الله « سبحانه قضية يجادل عنها . فالوجود الإلهي يفعم القلب البشري - من خلال الرؤية القرآنية والمشاهدة الواقعية على السواء - بحيث لا يبقى هنالك مجال للجدل حوله . إنما يتجه المنهج القرآني مباشرة إلى الحديث عن آثار هذا الوجود في الكون كله؛ وإلى الحديث عن مقتضياته كذلك في الضمير البشري والحياة البشرية .
» والمنهج القرآني في اتباعه لهذه الخطة إنما يعتمد على حقيقة أساسية في التكوين البشري . فالله هو الذي خلق وهو أعلم بمن خلق : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } والفطرة البشرية بها حاجة ذاتية إلى التدين ، وإلى الاعتقاد بإله .

بل إنها حين تصح وتستقيم تجد في أعماقها اتجاهاً إلى إله واحد ، وإحساساً قوياً بوجود هذا الإله الواحد . ووظيفة العقيدة الصحيحة ليست هي إنشاء هذا الشعور بالحاجة إلى إله والتوجه إليه ، فهذا مركوز في الفطرة . ولكن وظيفتها هي تصحيح تصور الإنسان لإلهه ، وتعريفه بالإله الحق الذي لا إله غيره . تعريفه بحقيقته وصفاته ، لا تعريفه بوجوده وإثباته . ثم تعريفه بمقتضيات الألوهية في حياته - وهي الربوبية والقوامة والحاكمية - والشك في حقيقة الوجود الإلهي أو إنكاره هو بذاته دليل قاطع على اختلال بين في الكينونة البشرية ، وعلى تعطل أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية فيها . وهذا التعطل لا يعالج - إذن - بالجدل . وليس هذا هو طريق العلاج
« إن هذا الكون ، كون مؤمن مسلم ، يعرف بارئه ويخضع له ، ويسبح بحمده كل شيء فيه وكل حي - عدا بعض الأناسي - و » الإنسان « يعيش في هذا الكون الذي تتجاوب جنباته بأصداء الإيمان والإسلام ، وأصداء التسبيح والسجود . وذرات كيانه ذاته وخلاياه تشارك في هذه الأصداء؛ وتخضع في حركتها الطبيعية الفطرية للنواميس التي قدرها الله . فالكائن الذي لا تستشعر فطرته هذه الأصداء كلها؛ ولا تحس إيقاع النواميس الإلهية فيها هي ذاتها ، ولا تلتقط أجهزته الفطرية تلك الموجات الكونية ، كائن معطلة فيه أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية . ومن ثم لا يكون هنالك سبيل إلى قلبه وعقله بالجدل ، إنما يكون السبيل إلى علاجه هو محاولة تنبيه أجهزة الاستقبال والاستجابة فيه ، واستجاشة كوامن الفطرة في كيانه ، لعلها تتحرك ، وتأخذ في العمل من جديد » .
ولفت الحس والقلب والعقل للنظر إلى ما في السماوات والأرض ، وسيلة من وسائل المنهج القرآني لاستحياء القلب الإنساني؛ لعله ينبض ويتحرك ، ويتلقى ويستجيب .
ولكن أولئك المكذبين من الجاهليين العرب - وأمثالهم - لا يتدبرون ولا يستجيبون . . فماذا ينتظرون؟
إن سنة الله لا تتخلف ، وعاقبة المكذبين معروفة ، وليس لهم أن يتوقعوا من سنة الله أن تتخلف . وقد يُنظرهم الله فلا يأخذهم بعذاب الاستئصال ، ولكن الذين يصرون على التكذيب لا بد لهم من النكال :
{ فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم؟ } . . { قل : فانتظروا إني معكم من المنتظرين } . . وهو التهديد الذي ينهي الجدل ، ولكنه يخلع القلوب .
ويختم هذا المقطع من السياق بالنتيجة الأخيرة لكل رسالة ولكل تكذيب ، وبالعبرة الأخيرة من ذلك القصص وذلك التعقيب :
{ ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا . كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين } . .
إنها الكلمة التي كتبها الله على نفسه : أن تبقى البذرة المؤمنة وتنبت وتنجو بعد كل إيذاء وكل خطر ، وبعد كل تكذيب وكل تعذيب . .
هكذا كان - والقصص المروي في السورة شاهد - وهكذا يكون . . فليطمئن المؤمنون . . .

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)

هذة خاتمة السورة ، وخاتمة المطاف لتلك الجولات في شتى الآفاق ، تلك الجولات التي نحس أننا عائدون منها بعد سياحات طويلة في آفاق الكون ، وجوانب النفس ، وعوالم الفكر والشعور والتأملات . عائدون منها في مثل الإجهاد من طول التطواف ، وضخامة الجني ، وامتلاء الوطاب
هذه خاتمة السورة التي تضمنت تلك الجولات حول العقيدة في مسائلها الرئيسية الكبيرة : توحيد الربوبية والقوامة والحاكمية ، ونفي الشركاء والشفعاء ، ورجعة الأمر كله إلى الله ، وسننه المقدرة التي لا يملك أحد تحويلها ولا تبديلها . والوحي وصدقه ، والحق الخالص الذي جاء به . والبعث واليوم الآخر والقسط في الجزاء . . .
هذه القواعد الرئيسية للعقيدة التي دار حولها سياق السورة كله ، وسيقت القصص لإيضاحها ، وضربت الأمثال لبيانها . .
ها هي ذي كلها تلخص في هذه الخاتمة ، ويكلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعلنها للناس إعلاناً عاماً ، وأن يلقي إليهم بالكلمة الأخيرة الحاسمة : أنه ماض في خطته ، مستقيم على طريقته ، حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين .
{ قل : يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ، ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ، وأمرت أن أكون من المؤمنين } . .
قل : يا أيها الناس جميعاً ، وإن كان الذين يتلقون الخطاب إذ ذاك هم مشركي قريش ، إن كنتم في شك من أن ديني الذي أدعوكم إليه هو الحق ، فإن هذا لا يحولني عن يقيني ، ولا يجعلني أعبد آلهتكم التي تعبدونها من دون الله . .
{ ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم } . .
أعبد الله الذي يملك آجالكم وأعماركم . وإبراز هذه الصفة لله هنا له قيمته وله دلالته ، فهو تذكير لهم بقهر الله فوقهم ، وانتهاء آجالهم إليه ، فهو أولى بالعبادة من تلك الآلهة التي لا تحيي ولا تميت . .
{ وأمرت أن أكون من المؤمنين } . .
فأنا عند الأمر لا أتعداه .
{ وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين } . .
وهنا يتحول السياق من الحكاية إلى الأمر المباشر ، كأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتلقاه في مشهد حاضر للجميع . وهذا أقوى وأعمق تأثيراً . { أقم وجهك للدين حنيفاً } متوجهاً إليه خالصاً له ، موقوفاً عليه { ولا تكونن من المشركين } زيادة في توكيد معنى الاستقامة للدين ، ولمعنى أن يكون من المؤمنين ، عن طريق النهي المباشر عن الشرك بعد الأمر المباشر بالإيمان .
{ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك . فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين } . .
لا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك من هؤلاء الشركاء والشفعاء ، الذين يدعوهم المشركون لجلب النفع ودفع الضر . فإن فعلت فإنك إذن من هؤلاء المشركين فميزان الله لا يحابي وعدله لا يلين .

.
{ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يردك بخير فلا راد لفضله ، يصيب به من يشاء من عباده ، وهو الغفور الرحيم } . .
فالضر نتيجة لازمة لسنة الله الجارية حين يتعرض الإنسان لأسبابه ، والخير كذلك . .
فإن مسك الله بضر عن طريق جريان سنته فلن يكشفه عنك إنسان ، إنما يكشف باتباع سنته ، وترك الأسباب المؤدية إلى الضر إن كانت معلومة ، أو الالتجاء إلى الله ليهديك إلى تركها إن كانت مجهولة . وإن أراد بك الخير ثمرة لعملك وفق سنته فلن يرد هذا الفضل عنك أحد من خلقه . فهذا الفضل يصيب من عباده من يتصلون بأسبابه وفق مشيئته العامة وسنته الماضية . { وهو الغفور الرحيم } الذي يغفر ما مضى متى وقعت التوبة ، ويرحم عباده فيكفر عنهم سيئاتهم بتوبتهم وعملهم الصالح وعودتهم إلى الصراط المستقيم .
هذه خلاصة العقيدة كلها ، مما تضمنته السورة ، يكلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعلنهما للناس ، ويوجه إليه الخطاب بها كأنما على مشهد منهم . وهم هم المقصودون بها . إنما هو أسلوب من التوجيه الموحي المؤثر على النفوس ، ويقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها في وجه القوة والكثرة؛ ووجه الرواسب الجاهلية ، ووجه التاريخ الموغل بالمشركين في الشرك . . يعلنها في قوة وفي صراحة وهو في عدد قليل من المؤمنين في مكة ، والقوة الظاهرة كلها للمشركين . .
ولكنها الدعوة وتكاليفها ، والحق وما ينبغي له من قوة ومن يقين .
ومن ثم يكون الإعلان الأخير للناس :
{ قل : يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها ، وما أنا عليكم بوكيل } . .
فهو الإعلان الأخير ، والكلمة الفاصلة ، والمفاصلة الكاملة ، ولكل أن يختار لنفسه . فهذا هو الحق قد جاءهم من ربهم .
{ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها } . .
وليس الرسول موكلاً بالناس يسوقهم إلى الهدى سوقاً ، إنما هو مبلغ ، وهم موكولون إلى إرادتهم وإلى اختيارهم وإلى تبعاتهم ، وإلى قدر الله بهم في النهاية .
والختام خطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - باتباع ما أمر به ، والصبر على ما يلقاه حتى يحكم الله بما قدره وقضاه :
{ واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين } . .
وهو الختام المناسب الذي يلتقي مع مطلع السورة ، ويتناسق مع محتوياتها بجملتها على طريقة القرآن في التصوير والتنسيق . .

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)

هذا الدرس الأول من السورة يمثل المقدمة التي يتوسط القصص بينها وبين التعقيب وهي تتضمن عرض الحقائق الأساسية في العقيدة الإسلامية : توحيد الدينونة لله الواحد بلا منازع ، وعبادة الله وحده بلا شريك؛ والإعتقاد في البعث والقيامة للحساب والجزاء على ما كان من الناس من عمل وكسب في دار العمل والإبتلاء . . مع تعريف الناس بربهم الحق؛ وصفاته المؤثرة في وجودهم وفي وجود الكون من حولهم؛ وبيان حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، ومقتضاهما في حياة البشرية . وتوكيد الدينونة لله في الآخرة كالدينونة له سبحانه في الحياة الدنيا .
كذلك تتضمن هذه المقدمة بياناً لطبيعة الرسالة وطبيعة الرسول؛ كما تتضمن تسلية وترويحاً للرسول صلى الله عليه وسلم في وجه العناد والتكذيب ، والتحدي والمكابرة ، التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواجهها في الفترة العصيبة في حياة الدعوة بمكة ، كما أسلفنا في التعريف بالسورة . مع تحدي المشركين بهذا القرآن الذي يكذبون به ، أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات كما يزعمون أن هذا القرآن مفترى وتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه بهذا التحدي من الله وبذلك العجز من المشركين
ومع هذا التحدي تهديد قاصم للمكذبين بما ينتظرهم في الآخرة من العذاب الذي يستعجلون به ويكذبون . وهم الذين لا يطيقون أن تنزع منهم رحمة الله في الدنيا ، ولا يصبرون على ابتلائه فيها وهو أيسر من عذاب الآخرة
ثم يجسم هذا التهديد في مشهد من مشاهد القيامة؛ يتمثل فيه موقف المكذبين بهذا القرآن من أحزاب المشركين؛ ويتبين فيه عجزهم وعجز أوليائهم عن إنقاذهم من العذاب الأليم ، المصحوب بالخزي والتشهير والتنديد والتأنيب . وفي الصفحة المقابلة من المشهد . . الذين آمنوا وعملوا الصالحات وما ينتظرهم من الثواب والنعيم والتكريم . . ومشهد مصور للفريقين على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير : { مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ، هل يستويان مثلاً؟ افلا تذكرون؟ } . .
{ الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . ألا تعبدوا إلا الله ، إنني لكم منه نذير وبشير ، وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ، ويؤت كل ذي فضل فضله ، وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير . إلى الله مرجعكم . وهو على كل شيء قدير } . .
إنها جملة الحقائق الإعتقادية الأساسية :
* إثبات الوحي والرسالة .
* العبودية لله وحده بلا شريك .
* جزاء الله في الدنيا والآخرة لمن يهتدون بهداه ويتبعون منهجه للحياة .
* جزاء الله في الآخرة للمكذبين ، وعودة الجميع إلى الله عصاة وطائعين .

* قدرته المطلقة وسلطانه غير المحدود .
{ ألف . لام . راء } : مبتدأ ، خبره : { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } . . وهذا الكتاب المؤلف من مثل هذه الأحرف هو الذي يكذبون به . وهم عن شيء من مثله عاجزون
{ كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } . .
أحكمت آياته ، فجاءت قوية البناء ، دقيقة الدلالة ، كل كلمة فيها وكل عبارة مقصودة ، وكل معنى فيها وكل توجيه مطلوب ، وكل إيماءة وكل إشارة ذات هدف معلوم . متناسقة لا اختلاف بينها ولا تضارب ، ومنسقة ذات نظام واحد . ثم فصلت . فهي مقسمة وفق أغراضها ، مبوبة وفق موضوعاتها ، وكل منها له حيز بمقدار ما يقتضيه .
أما من أحكمها ، ومن فصلها على هذا النحو الدقيق؟ فهو الله سبحانه ، وليس هو الرسول :
{ من لدن حكيم خبير } . .
يحكم الكتاب عن حكمة ، ويفصله عن خبرة . . هكذا جاءت من لدنه ، على النحو الذي أنزل على الرسول ، لا تغيير فيها ولا تبديل .
وماذا تضمنت؟
إنه يذكر أمهات العقيدة وأصولها :
{ أن لا تعبدوا إلا الله } . . فهو توحيد الدينونة والعبودية والاتباع والطاعة .
{ إنني لكم منه نذير وبشير } . . فهي الرسالة ، وما تضمنته من نذارة وبشارة .
{ وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } . . فهي العودة إلى الله من الشرك والمعصية ، إلى التوحيد والدينونة .
{ يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله } . . . فهو الجزاء للتائبين المستغفرين .
{ وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } . . فهو الوعيد للمتولين .
{ إلى الله مرجعكم } . . فهي الرجعة إلى الله في الدنيا والآخرة .
{ وهو على كل شيء قدير } . . فهي القدرة المطلقة والسلطان الشامل .
هذا هو الكتاب . أو هو آيات الكتاب . فهذه هي القضايا الهامة التي جاء ليقررها ويقيم عليها بناءه كله بعد تقريرها .
وما كان لدين أن يقوم في الأرض ، وأن يقيم نظاماً للبشر ، قبل أن يقرر هذه القواعد .
فتوحيد الدينونة لله وحده هو مفرق الطريق بين الفوضى والنظام في عالم العقيدة؛ وبين تحرير البشرية من عقال الوهم والخرافة والسلطان الزائف ، أو استعبادها للأرباب المتفرقة ونزواتهم ، وللوسطاء عند الله من خلقه وللملوك والرؤساء والحكام الذين يغتصبون أخص خصائص الألوهية وهي الربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية فيعبّدون الناس لربوبيتهم الزائفة المغتصبة .
وما من نظام اجتماعي او سياسي أو اقتصادي أو أخلاقي أو دولي ، يمكن أن يقوم على أسس واضحة فاصلة ثابتة ، لا تخضع للهوى والتأويلات المغرضة ، إلا حين تستقر عقيدة التوحيد هكذا بسيطة دقيقة .
وما يمكن أن يتحرر البشر من الذل والخوف والقلق؛ ويستمتعوا بالكرامة الحقيقية التي أكرمهم بها الله ، إلا حين يتفرد الله سبحانه بالربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية ، ويتجرد منها العبيد في كل صورة من الصور .

وما كان الخلاف على مدار التاريخ بين الجاهلية والإسلام؛ ولا كانت المعركة بين الحق والطاغوت ، على ألوهية الله سبحانه للكون؛ وتصريف أموره في عالم الأسباب والنواميس الكونية : إنما كان الخلاف وكانت المعركة على من يكون هو رب الناس ، الذي يحكمهم بشرعه ، ويصرفهم بأمره ، ويدينهم بطاعته؟
لقد كان الطواغيت المجرمون في الأرض يغتصبون هذا الحق ويزاولونه في حياة الناس ، ويذلونهم بهذا الإغتصاب لسلطان الله ، ويجعلونهم عبيداً لهم من دون الله . وكانت الرسالات والرسل والدعوات الإسلامية تجاهد دائماً لانتزاع هذا السلطان المغتصب من أيدي الطواغيت ورده إلى صاحبه الشرعي . . الله سبحانه . .
والله سبحانه غني عن العالمين . لا ينقص في ملكه شيئاً عصيان العصاة وطغيان الطغاة . ولا يزيد في ملكه شيئاً طاعة الطائعين وعبادة العابدين . . ولكن البشر هم أنفسهم الذين يذلون ويصغرون ويسفلون حين يدينون لغير الله من عباده؛ وهم الذين يعزون ويكرمون ويستعلون حين يدينون لله وحده ، ويتحررون من العبودية للعبيد . . ولما كان الله سبحانه يريد لعباده العزه والكرامة والإستعلاء فقد أرسل رسله ليردوا الناس إلى عبادة الله وحده . وليخرجوهم من عبادة العبيد . . لخيرهم هم أنفسهم . . والله غني عن العالمين .
إن الحياة البشرية لا تبلغ مستوى الكرامة الذي يريده الله للإنسان إلا بأن يعزم البشر أن يدينوا لله وحده ، وأن يخلعوا من رقابهم نير الدينونة لغير الله . ذلك النير المذل لكرامة الإنسان في أية صورة قد كان
والدينونة لله وحده تتمثل في ربوبيته للناس وحده . والربوبية تعني القوامة على البشر ، وتصريف حياتهم بشرع وأمر من عند الله ، لا من عند أحد سواه .
وهذا ما يقرر مطلع هذه السورة الكريمة أنه موضوع كتاب الله وفحواه :
{ كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير : ألا تعبدوا إلا الله } . .
وهذا هو معنى العبادة كما يعرفه العرب في لغتهم التي نزل بها كتاب الله الكريم .
والإقرار بالرسالة أساس للتصديق بهذه القضايا التي جاءت الرسالة لتقريرها . وكل شك في أن هذا من عند الله ، كفيل بتحطيم احترامها الملزم في عالم الضمير . والذين يظنون أنها من عند محمد مهما أقروا بعظمة محمد لا يمكن أن تنال من نفوسهم الإحترام الملزم ، الذي يتحرجون معه أن يتفلتوا منها في الكبير أو الصغير . . إن الشعور بأن هذه العقيدة من عند الله هو الذي يطارد ضمائر العصاة حتى يثوبوا في النهاية إلى الله ، وهو الذي يمسك بضمائر الطائعين ، فلا تتلجلج ولا تتردد ولا تحيد .
كما أن الإقرار بالرسالة هو الذي يجعل هناك ضابطاً لما يريده الله من البشر . كي يتلقى البشر في كل ما يتعلق بالدينونة لله من مصدر واحد ، هو هذا المصدر .

وكي لا يقوم كل يوم طاغوت مفتر يقول للناس قولاً ، ويشرع للناس شرعاً ، ثم يزعم أنه شرع الله وأمره بينما هو يفتريه من عند نفسه
وفي كل جاهلية كان يقوم من يشرع الشرائع ، ومن يقرر القيم والتقاليد والعادات . . ثم يقول : هذا من عند الله
وما يحسم هذه الفوضى وهذا الإحتيال على الناس باسم الله ، إلا أن يكون هناك مصدر واحد هو الرسول لقول الله .
والإستغفار من الشرك والمعصية هو دليل حساسية القلب وانتفاضه ، وشعوره بالإثم ورغبته في التوبة . والتوبة بعد ذلك هي الإقلاع الفعلي عن الذنب ، والأخذ في مقابله في أعمال الطاعة . ولا توبة بغير هذين الدليلين ، فهما الترجمة العملية للتوبة ، وبهما يتحقق وجودها الفعلي ، الذي ترجى معه المغفرة والقبول . . فإذا زعم زاعم أنه تاب من الشرك ودخل في الإسلام ، بينما هو لا يدين لله وحده ، ولا يتلقى منه وحده عن طريق نبيه؛ فلا قيمة لهذا الزعم الذي يكذبه واقع الدينونة لغير الله . .
والبشرى للتائبين والوعيد للمتولين هما قوام الرسالة ، وقوام التبليغ . وهما عنصرا الترغيب والترهيب ، اللذان علم الله من طبيعة البشر أنهما الحافز القوي العميق . .
والإعتقاد باليوم الآخر ضروري لاكتمال الشعور بأن وراء الحياة حكمة ، وأن الخير الذي تدعو إليه الرسالات هو غاية الحياة؛ ومن ثم لا بد أن يلقى جزاءه؛ فإن لم يلقه في هذه الحياة الدنيا فجزاؤه مضمون في العالم الآخر ، الذي تصل فيه الحياة البشرية إلى الكمال المقدر لها . أما الذين يزيغون عن نهج الله وحكمته في الحياة فهؤلاء يرتكسون و ينتكسون إلى درك العذاب . . وفي هذا ضمان للفطرة السليمة ألا تنحرف . فإن غلبتها شهوة أو استبد بها ضعف عادت تائبة ، ولم تلج في العصيان . ومن ثم تصلح هذه الأرض لحياة البشر . وتمضي الحياة على سنتها في طريق الخير . فالإعتقاد باليوم الآخر ليس طريقاً للثواب في الآخرة فحسب كما يعتقد بعض الناس إنما هو الحافز على الخير في الحياة الدنيا . والحافز على إصلاحها وإنمائها . على أن يراعى في هذا النماء أنه ليس هدفاً في ذاته ، إنما هو وسيلة لتحقيق حياة لائقة بالإنسان الذي نفخ الله فيه من روحه ، وكرمه على كثير من خلقه ، ورفعه عن درك الحيوان؛ لتكون أهداف حياته أعلى من ضرورات الحيوان؛ ولتكون دوافعه وغاياته أرفع من دوافع الحيوان وغاياته .
ومن ثم كان مضمون الرسالة أو مضمون آيات الكتاب المحكمة المفصلة ، بعد توحيد الدينونة لله ، وإثبات الرسالة من عنده . . الدعوة إلى الإستغفار من الشرك والتوبة . . وهما بدء الطريق للعمل الصالح . والعمل الصالح ليس مجرد طيبة في النفس وشعائر مفروضة تقام . إنما هو الإصلاح في الأرض بكل معاني الإصلاح ، من بناء وعمارة ونشاط ونماء وإنتاج .

والجزاء المشروط :
{ يمتعكم متاعا حسناً إلى أجل مسمى ، ويؤت كل ذي فضل فضله } . .
والمتاع الحسن قد يكون بالنوع كما يكون بالكم في هذه الحياة الدنيا . أما في الآخرة فهو بالنوع والكم وبما لم يخطر على قلب بشر . فلننظر في المتاع الحسن في هذه الحياة .
إننا نشاهد كثيراً من الطيبين الصالحين ، المستغفرين التائبين ، العاملين في الحياة . . مضيقاً عليهم في الرزق . فأين إذن هو المتاع الحسن؟
وهو سؤال نعتقد أنه يتحرك على ألسنة الكثيرين
ولا بد لإدراك المعنى الكبير الذي يتضمنه النص القرآني أن ننظر إلى الحياة من زاوية أوسع ، وننظر إليها في محيطها الشامل العام ، ولا نقتصر منها على مظهر عابر .
إنه ما من جماعة يسود فيها نظام صالح ، قائم على الإيمان بالله ، والدينونة له وحده ، وإفراده بالربوبية والقوامة ، وقائم على العمل الطيب المنتج في الحياة . . إلا كان لها التقدم والرخاء والحياة الطيبة بصفة عامة كجماعة؛ وإلا ساد فيها العدل بين الجهد والجزاء والرضى والطمأنينة بالقياس إلى الأفراد بصفة خاصة . فإذا شاهدنا في جماعة ما أن الطيبين العاملين المنتجين مضيق عليهم في الرزق والمتاع الطيب ، فذلك شاهد على أن هذه الجماعة لا يسودها النظام المستمد من الإيمان بالله ، القائم على العدل بين الجهد والجزاء .
على أن الأفراد الطيبين الصالحين المنتجين في هذه الجماعة يمتعون متاعاً حسناً ، حتى لو ضيق عليهم في الرزق ، وحتى لو كانت الجماعة تطاردهم وتؤذيهم ، كما كان المشركون يؤذون القلة المؤمنة ، وكما تؤذي الجاهليات القلة الداعية إلى الله . وليس هذا خيالاً وليس ادعاء . فطمأنينة القلب إلى العاقبة ، والإتصال بالله ، والرجاء في نصره وفي إحسانه وفضله . . عوض عن كثير؛ ومتاع حسن للإنسان الذي يرتفع درجة عن الحس المادي الغليظ .
ولا نقول هذا لندعو المظلومين الذين لا يجدون جزاء عادلاً على جهدهم إلى الرضى بالأوضاع المنافية للعدالة . فالإسلام لا يرضى بهذا ، والإيمان لا يسكت على مثل تلك الأوضاع . والجماعة المؤمنة مطالبة بإزالتها وكذلك الأفراد ، ليتحقق المتاع الحسن للطيبين العاملين المنتجين . إنما نقوله لأنه حق يحس به المؤمنون المتصلون بالله ، المضيق عليهم في الرزق ، وهم مع هذا يعملون ويجاهدون لتحقيق الأوضاع التي تكفل المتاع الحسن لعباد الله المستغفرين التائبين بهدى الله .
{ ويؤت كل ذي فضل فضله } . .
خصصها بعض المفسرين بجزاء الآخرة . وأرى أنها عامة في الدنيا والآخرة ، على النحو الذي فسرنا به المتاع الحسن في الدنيا؛ وهو متحقق في جميع الأحوال . وذو الفضل يلقى جزاءه في اللحظة التي يبذل فيها الفضل . يجده رضى نفسياً وارتياحاً شعورياً ، واتصالاً بالله وهو يبذل الفضل عملاً أو مالاً متجهاً به إلى الله . أما جزاء الله له بعد ذلك فهو فضل من الله وسماحة فوق الجزاء .

{ وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } . .
هو عذاب يوم القيامة . لا عذاب يوم بدر كما يقول بعض المفسرين . فاليوم الكبير حين يطلق هكذا ينصرف إلى اليوم الموعود . ويقوي هذا ما بعده :
{ إلى الله مرجعكم } .
وإن كان المرجع إلى الله في الدنيا والآخرة وفي كل لحظة وفي كل حالة . ولكن جرى التعبير القرآني على أن المرجع هو الرجعة بعد الحياة الدنيا . .
{ وهو على كل شيء قدير } . .
وهذه كذلك تقوّي هذا المعنى ، لأن التلويح بالقدرة على كل شيء ، مناسب للبعث الذي كانوا يستبعدونه ويستصعبونه
وبعد إعلان خلاصة الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . . يمضي السياق يعرض كيف يتلقى فريق منهم تلك الآيات ، عندما يقدمها لهم النذير البشير ، ويصور الوضع الحسي الذي يتخذونه والحركة المادية المصاحبة له وهي إحناء رؤوسهم وثني صدورهم للتخفي . ويكشف عن العبث في تلك المحاولة وعلم الله يتابعهم في أخفى أوضاعهم؛ وكل دابة في الأرض مثلهم يشملها العلم اللطيف الدقيق :
{ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه . ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ، إنه عليم بذات الصدور . وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها . كل في كتاب مبين } . .
والآيتان الكريمتان تستحضران مشهداً فريداً ترجف له القلوب حين تتدبره وتتصوره
ويا لها من رهبة غامرة ، وروعة باهرة ، حين يتصور القلب البشري حضور الله سبحانه وإحاطة علمه وقهره؛ بينما أولئك العبيد الضعاف يحاولون الإستخفاء منه وهم يواجهون آياته يتلوها رسوله :
{ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه . ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون . إنه عليم بذات الصدور } . .
ولعل نص الآية إنما يصور حالة واقعة كانت تصدر من المشركين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعهم كلام الله؛ فيثنون صدورهم ويطأطئون رؤوسهم إستخفاء من الله الذي كانوا يحسون في أعماقهم أنه قائل هذا الكلام . . وذلك كما ظهر منهم في بعض الأحيان
ولا يكمل السياق الآية حتى يبين عبث هذه الحركة ، والله ، الذي أنزل هذه الآيات ، معهم حين يستخفون وحين يبرزون . ويصور هذا المعنى على الطريقة القرآنية في صورة مرهوبة ، وهم في موضع خفي دقيق من أوضاعهم . حين يأوون إلى فراشهم ، ويخلون إلى أنفسهم ، والليل لهم ساتر ، وأغطيتهم لهم ساتر . ومع ذلك فالله معهم من وراء هذه الأستار حاضر ناظر قاهر . يعلم في هذه الخلوه ما يسرون وما يعلنون :
{ ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون } . .
والله يعلم ما هو أخفى . وليست أغطيتهم بساتر دون علمه . ولكن الإنسان يحس عادة في مثل هذه الخلوة أنه وحيد لا يراه أحد .

فالتعبير هكذا يلمس وجدانه ويوقظه ، ويهزه هزة عميقة إلى هذه الحقيقة التي قد يسهو عنها ، فيخيل إليه أن ليس هناك من عين تراه
{ إنه عليم بذات الصدور } . .
عليم بالأسرار المصاحبة للصدور ، التي لا تفارقها ، والتي تلزمها كما يلزم الصاحب صاحبه ، أو المالك ملكه . . فهي لشدة خفائها سميت ذات الصدور . ومع ذلك فالله بها عليم . . وإذن فما من شيء يخفى عليه ، وما من حركة لهم أو سكنة تذهب أو تضيع .
{ وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها؛ كل في كتاب مبين } . .
وهذه صورة أخرى من صور العلم الشامل المرهوب . . هذه الدواب وكل ما تحرك على الأرض فهو دابة من إنسان وحيوان وزاحفة وهامة . ما من دابة من هذه الدواب التي تملأ وجه البسيطة ، وتكمن في باطنها ، وتخفى في دروبها ومساربها . ما من دابة من هذه الدواب التي لا يحيط بها حصر ولا يكاد يلم بها إحصاء . . إلا وعند الله علمها . وعليه رزقها ، وهو يعلم أين تستقر وأين تكمن . من أين تجيء وأين تذهب . . وكل منها . كل من أفرادها مقيد في هذا العلم الدقيق .
إنها صورة مفصلة للعلم الإلهي في حالة تعلقه بالمخلوقات ، يرتجف لها كيان الإنسان حين يحاول تصورها بخياله الإنساني فلا يطيق .
ويزيد على مجرد العلم ، تقدير الرزق لكل فرد من أفراد هذا الحشد الذي يعجز عن تصوره الخيال . وهذه درجة أخرى ، الخيال البشري عنها أعجز إلا بإلهام من الله . .
وقد أوجب الله سبحانه على نفسه مختاراً أن يرزق هذا الحشد الهائل الذي يدب على هذه الأرض . فأودع هذه الأرض القدرة على تلبية حاجات هذه المخلوقات جميعاً ، وأودع هذه المخلوقات القدرة على الحصول على رزقها من هذا المودع في الأرض في صورة من صوره . ساذجاً خامة ، أو منتجاً بالزرع ، أو مصنوعاً ، أو مركباً . . إلى أخر الصور المتجددة لإنتاج الرزق وإعداده . حتى إن بعضها ليتناول رزقه دماً حياً مهضوماً ممثلاً كالبعوضة والبرغوث
وهذه هي الصورة اللائقة بحكمة الله ورحمته في خلق الكون على الصورة التي خلقه بها؛ وخلق هذه المخلوقات بالإستعدادات والمقدرات التي أوتيتها . وبخاصة الإنسان . الذي استخلف في الأرض ، وأوتي القدرة على التحليل والتركيب ، وعلى الإنتاج والإنماء ، وعلى تعديل وجه الأرض ، وعلى تطوير أوضاع الحياة؛ بينما هو يسعى لتحصيل الرزق ، الذي لا يخلقه هو خلقاً ، وإنما ينشئه مما هو مذخور في هذا الكون من قوى وطاقات أودعها الله؛ بمساعدة النواميس الكونية الإلهية التي تجعل هذا الكون يعطي مدخراته وأقواته لكافة الأحياء
وليس المقصود ان هناك رزقاً فردياً مقدراً لا يأتي بالسعي ، ولا يتأخر بالقعود ، ولا يضيع بالسلبية والكسل ، كما يعتقد بعض الناس وإلا فأين الأسباب التي أمر الله بالأخذ بها ، وجعلها جزءاً من نواميسه؟ وأين حكمة الله في إعطاء المخلوقات هذه المقدرات والطاقات؟ وكيف تترقى الحياة في مدارج الكمال المقدر لها في علم الله ، وقد استخلف عليها الإنسان ليؤدي دوره في هذا المجال؟
إن لكل مخلوق رزقاً .

هذا حق . وهذا الرزق مذخور في هذا الكون . مقدر من الله من سننه التي ترتب النتاج على الجهد . فلا يقعدن أحد عن السعي وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة . ولكن السماء والأرض تزخران بالأرزاق الكافية لجميع المخلوقات . حين تطلبها هذه المخلوقات حسب سنة الله التي لا تحابي أحداً ، ولا تتخلف أو تحيد .
إنما هو كسب طيب وكسب خبيث ، وكلاهما يحصل من عمل وجهد . إلا أنه يختلف في النوع والوصف . وتختلف عاقبة المتاع بهذا وذاك .
ولا ننسى المقابلة بين ذكر الدواب ورزقها هنا؛ وبين المتاع الحسن الذي ذكر في التبليغ الأول . والسياق القرآني المحكم المتناسق لا تفوته هذه اللفتات الأسلوبية والموضوعية ، التي تشارك في رسم الجو في السياق .
وهاتان الآيتان الكريمتان هما بدء تعريف الناس بربهم الحق الذي عليهم أن يدينوا له وحده . أي أن يعبدوه وحده . فهو العالم المحيط علمه بكل خلقه ، وهو الرازق الذي لا يترك أحداً من رزقه . وهذه المعرفة ضرورية لعقد الصلة بين البشر وخالقهم؛ ولتعبيد البشر للخالق الرازق العليم المحيط .
ثم يمضي السياق في تعريف البشر بربهم ، وإطلاعهم على آثار قدرته وحكمته . في خلق السماوات والأرض بنظام خاص في أطوار أو آماد محكمة؛ لحكمة كذلك خاصة . يبرز منها السياق هنا ما يناسب البعث والحساب و العمل والجزاء :
{ وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، وكان عرشه على الماء ، ليبلوكم أيكم أحسن عملاً . ولئن قلت : إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا : إن هذا إلا سحر مبين } . .
وخلق السماوات والأرض في ستة أيام تحدثنا عنه في سورة يونس . . وهو يساق هنا للربط بين النظام الذي يقوم عليه الكون والنظام الذي تقوم عليه حياة الناس .
{ ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } .
والجديد هنا في خلق السماوات والأرض هو الجملة المعترضة : { وكان عرشه على الماء } وما تفيده من أنه عند خلق السماوات والأرض أي إبرازهما إلى الوجود في شكلهما الذي إنتهيا إليه كان هناك الماء؛ وكان عرش الله سبحانه على الماء . .
أما كيف كان هذا الماء ، وأين كان ، وفي أية حالة من حالاته كان . وأما كيف كان عرش الله على هذا الماء . . فزيادات لم يتعرض لها النص ، وليس لمفسر يدرك حدوده أن يزيد شيئاً على مدلول النص ، في هذا الغيب الذي ليس لنا من مصدر لعلمه إلا هذا النص وفي حدوده .

وليس لنا أن نتلمس للنصوص القرآنية مصداقاً من النظريات التي تسمى « العلمية » حتى ولو كان ظاهر النص يتفق مع النظرية وينطبق فالنظريات « العلمية » قابلة دائماً للإنقلاب رأساً على عقب ، كلما اهتدى العلماء إلى فرض جديد ، وامتحنوه فوجدوه أقرب إلى تفسير الظواهر الكونية من الفرض القديم الذي قامت عليه النظرية الأولى . والنص القرآني صادق بذاته ، اهتدى العلم إلى الحقيقة التي يقررها أم لم يهتد . وفرق بين الحقيقة العلمية والنظرية العلمية . فالحقيقة العلمية قابلة للتجربة وإن كانت دائماً احتمالية وليست قطعية أما النظرية العلمية فهي قائمة على فرض يفسر ظاهرة كونية أو عدة ظواهر ، وهي قابلة للتغيير والتبديل والانقلاب . . ومن ثم لا يحمل القرآن عليها ولا تحمل هي على القرآن ، فلها طريق غير طريق القرآن . ومجال غير مجال القرآن .
وتلمسُّ موافقات من النظريات « العلمية » للنصوص القرآنية هو هزيمة لجدية الإيمان بهذا القرآن واليقين بصحة ما فيه ، وأنه من لدن حكيم خبير . هزيمة ناشئة من الفتنة « بالعلم » وإعطائه أكثر من مجاله الطبيعي الذي لا يصدق ولا يوثق به إلا في دائرته . فلينتبه إلى دبيب الهزيمة في نفسه من يحسب أنه بتطبيق القرآن على « العلم » يخدم القرآن ويخدم العقيدة ، ويثبت الإيمان إن الإيمان الذي ينتظر كلمة العلم البشري المتقلبة ليثبت لهو إيمان يحتاج إلى إعادة النظر فيه إن القرآن هو الأصل والنظريات العلمية توافقه أو تخالفه سواء . أما الحقائق العلمية التجريبية فمجالها غير مجال القرآن . وقد تركها القرآن للعقل البشري يعمل فيها بكامل حريته ، ويصل إلى النتائج التي يصل إليها بتجاربه ، ووكل نفسه بتربية هذا العقل على الصحة والإستقامة والسلامة ، وتحريره من الوهم والأسطورة والخرافة . كما عمل على إقامة نظام للحياة يكفل لهذا العقل أن يستقيم ، وأن يتحرر ، وأن يعيش في سلام ونشاط . . ثم تركه بعد ذلك يعمل في دائرته الخاصة . ويصل إلى الحقائق الجزئية الواقعية بتجاربه . ولم يتعرض لذكر شيء من الحقائق العلمية إلا نادراً . مثل أن الماء أصل الحياة والعنصر المشترك في جميع الأحياء . ومثل أن جميع الأحياء أزواج حتى النبات الذي يلقح من نفسه فهو يحتوي على خلايا التذكير والتأنيث . . . وأمثال هذه الحقائق . التي صرحت بها النصوص القرآنية .
ونعود من هذا الإستطراد إلى النص القرآني نتملاه في مجاله الأصيل . مجال بناء العقيدة وتصريف الحياة :
{ وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } . .
خلق السماوات والأرض في ستة أيام . . وهنا فقرات كثيرة محذوفة يشير إليها ما بعدها فيغني عنها . . خلقها في هذا الأمد ، لتكون صالحة ومجهزة لحياة هذا الجنس البشري ، وخلقكم وسخر لكم الأرض وما يفيدكم من السماوات .

. وهو سبحانه مسيطر على الكون كله . . { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } . . والسياق يظهر كأن خلق السماوات والأرض في ستة أيام مع سيطرة الله سبحانه على مقاليده كان من أجل ابتلاء الإنسان . ليعظم هذا الإبتلاء ويشعر الناس بأهميتهم وبجدية ابتلائهم .
وكما جهز الخالق هذه الأرض وهذه السماوات بما يصلح لحياة هذا الجنس ، جهز هذا الجنس كذلك باستعدادات وطاقات؛ وبنى فطرته على ذات القانون الذي يحكم الكون؛ وترك له جانباً إختيارياً في حياته ، يملك معه أن يتجه إلى الهدى فيعينه الله عليه ويهديه ، أو أن يتجه إلى الضلال فيمد الله له فيه ، وترك الناس يعملون ، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً . يبلوهم لا للعلم فهو يعلم . ولكن يبلوهم ليظهر المكنون من أفعالهم ، فيتلقوا جزاءهم عليها كما اقتضت إرادة الله وعدله .
ومن ثم يبدو التكذيب بالبعث والحساب والجزاء عجيباً غريباً في هذا الجو . بعدما يذكر أن الإبتلاء مرتبط بتكوين السماوات والأرض . أصيل في نظام الكون وسنن الوجود .
ويبدو المكذبون به غير معقولين وغير مدركين للحقائق الكبيرة في تكوين هذا الوجود ، وهم يعجبون لهذه الحقائق وبها يفاجأون :
{ ولئن قلت : إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا : إن هذا إلا سحر مبين } . .
فما أعجبها قولة ، وما أغربها ، وما أكذبها في ظل هذا البيان الذي تقدمها
شأنهم في التكذيب بالبعث ، وجهلهم بارتباطه بناموس الكون ، هو شأنهم في مسألة العذاب الدنيوي ، فهم يستعجلونه ويتساءلون عن سبب تأخيره ، إذا ما اقتضت الحكمة الأزلية أن يتأخر عنهم فترة من الوقت :
{ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن : ما يحبسه؟ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون } .
لقد كانت القرون الأولى تهلك بعذاب من عند الله يستأصلها ، بعد أن يأتيهم رسولهم بالخوارق التي يطلبونها ثم يمضون هم في التكذيب . ذلك أنها كانت رسالات مؤقتة لأمة من الناس ، ولجيل واحد من هذه الأمة . والمعجزة كذلك لا يشهدها إلا هذا الجيل ، ولا تبقى لتشاهدها أجيال أخرى لعلها تؤمن بها أكثر مما آمن الجيل الذي شهدها أول مرة .
فأما الرسالة المحمدية فقد كانت خاتمة الرسالات ، ولجميع الأقوام وجميع الأجيال ، وكانت المعجزة التي صاحبتها معجزة غير مادية ، فهي قابلة للبقاء ، قابلة لأن تتدبرها أجيال وأجيال ، وتؤمن بها أجيال وأجيال ، ومن ثم اقتضت الحكمة ألا تؤخذ هذه الأمة بعذاب الإستئصال . وأن يقع العذاب على أفراد منها في وقت معلوم . . وكذلك كان الحال في الأمم الكتابية قبلها من اليهود والنصارى ، فلم يعم فيهم عذاب الإستئصال .
ولكن المشركين في جهلهم بنواميس الله الخالصة بخلق الإنسان على هذا النحو من القدرة على الإختيار والإتجاه؛ وخلق السماوات والأرض على نحو يسمح له بالعمل والنشاط والبلاء ينكرون البعث .

وفي جهلهم بسنن الله في الرسالات والمعجزات والعذاب يتساءلون إذا ما أخر عنهم إلى أمة من السنوات أو الأيام أي مجموعة منها ما يحبسه؟ وما يؤخره؟ فلا يدركون حكمة الله ولا رحمته . وهو يوم يأتيهم لا يصرف عنهم ، بل يحيط بهم ، جزاء لاستهزائهم الذي يدل عليه سؤالهم واستهتارهم :
{ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } .
إن عذاب الله لا تستعجله نفس مؤمنة ولا نفس جادة . وإذا ما أبطأ فهي حكمة ورحمة . ليؤمن من يتهيأ للإيمان .
وفي فترة التأجيل التي صرف الله العذاب فيها عن مشركي قريش ، كم آمن منهم من رجال حسن إسلامهم وأبلوا أحسن البلاء . وكم ولد لكفارهم من ذرية نشأت فيما بعد في الإسلام . . وهذه وتلك بعض الحكم الظاهرة والله يعلم ما بطن . ولكن البشر القاصرين العجولين لا يعلمون . .
وبمناسبة استعجال العذاب يجول السياق جولة في نفس هذا المخلوق الإنساني العجيب ، الذي لا يثبت ولا يستقيم إلا بالإيمان :
{ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ، ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن : ذهب السيئات عني ، إنه لفرح فخور . إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ، أولئك لهم مغفرة وأجر كبير } . .
إنها صورة صادقة لهذا الإنسان العجول القاصر ، الذي يعيش في لحظته الحاضرة ، ويطغى عليه ما يلابسه؛ فلا يتذكر ما مضى ولا يفكر فيما يلي . فهو يؤوس من الخير ، كفور بالنعمة بمجرد أن تنزع منه . مع أنها كانت هبة من الله له . وهو فرح بطر بمجرد أن يجاوز الشدة إلى الرخاء . لا يحتمل في الشدة ويصبر ويؤمل في رحمة الله ويرجو فرجه؛ ولا يقتصد في فرحه وفخره بالنعمة أو يحسب لزوالها حساباً . .
{ إلا الذين صبروا } . .
صبروا على النعمة كما صبروا على الشدة ، فإن كثيراً من الناس يصبرون على الشدة تجلداً وإباء أن يظهر عليهم الضعف والخور ، ولكن القلة هي التي تصبر على النعمة فلا تغتر ولا تبطر . .
{ وعملوا الصالحات } . .
في الحالين . في الشدة بالاحتمال والصبر ، وفي النعمة بالشكر والبر .
{ أولئك لهم مغفرة وأجر كبير } . .
بما صبروا على الضراء وبما شكروا في السراء .
إن الإيمان الجاد المتمثل في العمل الصالح هو الذي يعصم النفس البشرية من اليأس الكافر في الشدة؛ كما يعصمها من البطر الفاجر في الرخاء . وهو الذي يقيم القلب البشري على سواء في البأساء والنعماء؛ ويربطه بالله في حاليه ، فلا يتهافت تحت مطارق البأساء . ولا يتنفج ويتعالى عندما تغمره النعماء . . وكلا حالي المؤمن خير . وليس ذلك إلا للمؤمن كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أولئك الجاهلون بحكمة الخلق وبسنن الكون وهم أفراد من هذا الإنسان القاصر الغافل اليؤوس الكفور الفرح الفخور الذين لا يدركون حكمة إرسال الرسل من البشر فيطلبون أن يكون ملكاً أو أن يصاحبه ملك؛ ولا يقدرون قيمة الرسالة فيطلبون أن يكون للرسول كنز . . أولئك المكذبون المعاندون الذين يلجون في التكذيب والعناد . . ما تراك صانعاً معهم أيها الرسول؟
{ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا : لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك . إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل } . .
ولعل هنا تحمل معنى الإستفهام . وهو ليس استفهاماً خالصاً ، إنما يتلبس به أن المتوقع من النفس البشرية أن تضيق صدراً بهذا الجهل ، وبهذا التعنت ، وبهذه الإقتراحات السخيفة التي تكشف عن بعد كامل عن إدراك طبيعة الرسالة ووظيفتها . فهل سيضيق صدرك يا محمد وهل سيحملك هذا الضيق على أن تترك بعض ما أنزل إليك فلا تبلغه لهم ، كي لا يقابلوه بما اعتادوا أن يقابلوا به نظائره فيما أخبرتهم من قبل؟
كلا . لن تترك بعض ما يوحى إليك ولن يضيق به صدرك من قولهم هذا :
{ إنما أنت نذير } . .
فواجبك كله أن تنذرهم وأبرز صفة النذير هنا لأن المقام يستوجبها مع أمثال هؤلاء فأد واجبك :
{ والله على كل شيء وكيل } . .
فهو الموكل بهم ، يصرفهم كيف يشاء وفق سنته ، ويحاسبهم بعد ذلك على ما يكسبون . ولست أنت موكلاً بكفرهم أو إيمانهم . إنما أنت نذير .
وهذه الآية تشي بجو تلك الفترة الحرجة في تاريخ الدعوة؛ وما كان يعتور صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الضيق . كما تشي بثقل المواجهة للجاهلية المتمردة المعاندة ، في الوقت الذي هلك فيه العشير والنصير؛ وغمرت الوحشة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغشى الكرب على قلوب المؤمنين القلائل في هذه الجاهلية المحيطة . .
ومن بين كلمات الآية نحس جواً مكروباً تتنزل فيه هذه الكلمات الربانية بالبشاشة ، وتسكب فيه الطمأنينة ، وتريح الأعصاب والقلوب
وقولة أخرى يقولونها . وقد قالوها مراراً : إن هذا القرآن مفترى . فتحدّهم إذن أن يفتروا عشر سور كسوره ، وليستعينوا بمن يشاءون في هذا الإفتراء :
{ أم يقولون افتراه؟ قل : فأتوا بعشر سور مثله مفتريات . وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } . .
ولقد سبق أن تحداهم بسورة واحدة في سورة يونس ، فما التحدي بعد ذلك بعشر سور؟
قال المفسرون القدامى : إن التحدي كان على الترتيب : بالقرآن كله ، ثم بعشر سور ، ثم بسورة واحدة . ولكن هذا الترتيب ليس عليه دليل . بل الظاهر أن سورة يونس سابقة والتحدي فيها بسورة واحدة ، وسورة هود لاحقة والتحدي فيها بعشر سور .

وحقيقة إن ترتيب الآيات في النزول ليس من الضروري أن يتبع ترتيب السور . فقد كانت تنزل الآية فتلحق بسورة سابقة أو لاحقة في النزول . إلا أن هذا يحتاج إلى ما يثبته . وليس في أسباب النزول ما يثبت أن آية يونس كانت بعد آية هود . والترتيب التحكمي في مثل هذا لا يجوز .
ولقد حاول السيد رشيد رضا في تفسير المنار أن يجد لهذا العدد { عشر سور } علة ، فأجهد نفسه طويلاً رحمة الله عليه ليقول : إن المقصود بالتحدي هنا هو القصص القرآني ، وأنه بالإستقراء يظهر أن السور التي كان قد نزل بها قصص مطول إلى وقت نزول سورة هود كانت عشراً . فتحداهم بعشر . . لأن تحديهم بسورة واحدة فيه يعجزهم أكثر من تحديهم بعشر نظراً لتفرق القصص وتعدد أساليبه ، واحتياج المتحدي إلى عشر سور كالتي ورد فيها ليتمكن من المحاكاة إن كان سيحاكى . . إلخ .
ونحسب والله أعلم أن المسألة أيسر من كل هذا التعقيد . وأن التحدي كان يلاحظ حالة القائلين وظروف القول ، لأن القرآن كان يواجه حالات واقعة محددة مواجهة واقعة محددة . فيقول مرة : ائتوا بمثل هذا القرآن . أو ائتوا بسورة ، أو بعشر سور . دون ترتيب زمني . لأن الغرض كان هو التحدي في ذاته بالنسبة لأي شيء من هذا القرآن . كله أو بعضه أو سورة منه على السواء . فالتحدي كان بنوع هذا القرآن لا بمقداره . والعجز كان عن النوع لا عن المقدار . وعندئذ يستوي الكل والبعض والسورة . ولا يلزم ترتيب ، إنما هو مقتضى الحالة التي يكون عليها المخاطبون ، ونوع ما يقولون عن هذا القرآن في هذه الحالة . فهو الذي يجعل من المناسب أن يقال سورة أو عشر سور أو هذا القرآن . ونحن اليوم لا نملك تحديد الملابسات التي لم يذكرها لنا القرآن .
{ وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } . .
ادعوا شركاءكم وفصحاءكم وبلغاءكم وشعراءكم وجنكم وإنسكم . وأتوا بعشر سور فقط مفتريات ، إن كنتم صادقين في أن هذا القرآن مفترى من دون الله
{ فإن لم يستجيبوا لكم } . .
ولم يقدروا على افتراء عشر سور ، لأنهم عاجزون عن أن يقدموا لكم عوناً في هذه المهمة المتعذرة وعجزتم أنتم بطبيعة الحال ، لأنكم لم تدعوهم لتستعينوا بهم إلا بعد عجزكم
{ فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } . .
فهو وحده القادر على أن ينزله ، وعلم الله وحده هو الكفيل بأن ينزله على هذا النحو الذي نزل به ، متضمناً ما تضمنه من دلائل العلم الشامل بسنن الكون وأحوال البشر ، وماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ، وما يصلح لهم في نفوسهم وفي معاشهم . .
{ وأن لا إله إلا هو } . .
فهذا مستفاد كذلك من عجز آلهتكم عن تلبيتكم في تأليف عشر سور كالتي أنزلها الله .

فلا بد أن يكون هناك إله واحد هو القادر على تنزيل هذا القرآن .
ويعقب على هذا التقرير الذي لا مفر من الإقرار به بسؤال لا يحتمل إلا جواباً واحداً عند غير المكابرين المتعنتين . سؤال :
{ فهل أنتم مسلمون؟ } .
بعد هذا التحدي والعجز ودلالته التي لا سبيل إلى مواجهتها بغير التسليم؟ .
ولكنهم ظلوا بعدها يكابرون
لقد كان الحق واضحاً ولكنهم كانوا يخافون على ما يتمتعون به في هذه الحياة الدنيا من منافع وسلطان ، وتعبيد للناس كي لا يستجيبوا لداعي الحرية والكرامة والعدل والعزة . . داعي لا إله إلا الله . . لهذا يعقب السياق بما يناسب حالهم ويصور لهم عاقبة أمرهم فيقول :
{ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون . أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها ، وباطل ما كانوا يعملون } . .
إن للجهد في هذه الأرض ثمرته . سواء تطلع صاحبه إلى أفق أعلى أو توجه به الى منافعه القريبة وذاته المحدودة . فمن كان يريد الحياة الدنيا و زينتها فعمل لها وحدها ، فإنه يلقى نتيجة عمله في هذه الدنيا؛ ويتمتع بها كما يريد في أجل محدود ولكن ليس له في الآخرة إلا النار ، لأنه لم يقدم للآخرة شيئاً ، ولم يحسب لها حساباً ، فكل عمل الدنيا يلقاه في الدنيا . ولكنه باطل في الآخرة لا يقام له فيها وزن وحابط ( من حبطت الناقة إذا انتفخ بطنها من المرض ) وهي صورة مناسبة للعمل المنتفخ المتورم في الدنيا وهو مؤد إلى الهلاك
ونحن نشهد في هذه الأرض أفراداً اليوم وشعوباً وأمماً تعمل لهذه الدنيا ، وتنال جزاءها فيها . ولدنياها زينة ، ولدنياها انتفاخ فلا يجوز أن نعجب ولا أن نسأل : لماذا؟ لأن هذه هي سنة الله في هذه الأرض : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون } .
ولكن التسليم بهذه السنة ونتائجها لا يجوز أن ينسينا أن هؤلاء كان يمكن أن يعملوا نفس ما عملوه ونفوسهم تتطلع للآخرة وتراقب الله في الكسب والمتاع فينالوا زينة الحياة الدنيا لا يبخسون منها شيئاً ، وينالوا كذلك متاع الحياة الأخرى .
إن العمل للحياة الأخرى لا يقف في سبيل العمل للحياة الدنيا . بل إنه هو هو مع الإتجاه إلى الله فيه . ومراقبة الله في العمل لا تقلل من مقداره ولا تنقص من آثاره؛ بل تزيد وتبارك الجهد والثمر ، وتجعل الكسب طيباً والمتاع به طيباً ، ثم تضيف إلى متاع الدنيا متاع الآخرة . إلا أن يكون الغرض من متاع الدنيا هو الشهوات الحرام . وهذه مردية لا في الأخرى فحسب ، بل كذلك في الدنيا ولو بعد حين .

وهي ظاهرة في حياة الأمم وفي حياة الأفراد . وعبر التاريخ شاهدة على مصير كل أمة اتبعت الشهوات على مدار القرون .
بعد ذلك يلتفت السياق إلى موقف المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاءه من الحق؛ وإلى هذا القرآن الذي يشهد له بأنه على بينة من ربه ، وأنه مرسل من عنده؛ كما يشهد له كتاب موسى من قبله . يلتفت السياق إلى هذا الحشد من الأدلة المحيطة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبدعوته ورسالته . ذلك ليثبت بهذه الإلتفاته قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه . ثم ليوعد الذين يكفرون به من أحزاب المشركين بالنار؛ وليعرضهم في مشهد من مشاهد العذاب يوم القيامة يجلله الخزي والعار جزاء العتو والإستكبار؛ وليقرر أن هؤلاء المتبجحين بالباطل ، المعاندين في الحق أعجز من أن يفلتوا من عذاب الله؛ وأعجز من أن يجدوا لهم من دون الله أولياء . . { لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون } . . وليعقد بينهم وبين المؤمنين موازنة في صورة حسية مشهودة؛ تصور الفارق البعيد بين الفريقين في طبيعتهما ، وفي موقفهما وحالهما في الدنيا وفي الآخرة سواء :
{ أفمن كان على بينة من ربه ، ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة؟ أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } .
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً؛ أولئك يعرضون على ربهم؛ ويقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين . الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ، وهم بالآخرة هم كافرون . أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ، وما كان لهم من دون الله من أوليآء ، يضاعف لهم العذاب . ما كانوا يستطيعون السمع ، وما كانوا يبصرون . أولئك الذين خسروا أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون . لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون } . .
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } .
مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون؟ } . .
إن طول هذه الجملة ، وتنوع الإشارات والإيحاءات فيها ، وتنوع اللفتات والإيقاعات أيضاً . . إن هذا كله يشي بما كانت تواجهه القلة المؤمنة ، في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الدعوة؛ ويصور لنا حاجة الموقف إلى هذه المعركة التقريرية الإيحائية؛ كما يصور لنا طبيعة هذا القرآن الحركية؛ وهو يواجه ذلك الواقع ويجاهده جهاداً كبيراً .
إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة؛ ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها . والذين يتلمسون معاني القرآن ودلالالته وهم قاعدون .

يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئاً في هذه القعدة الباردة الساكنة؛ بعيداً عن المعركة وبعيداً عن الحركة . . إن حقيقة هذا القرآن لا تتكشف للقاعدين أبداً ، وإن سره لا يتجلى لمن يؤثرون السلامة والراحة مع العبودية لغير الله ، والدينونة للطاغوت من دون الله
{ أفمن كان على بينة من ربه ، ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة؟ أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } . .
وردت روايات شتى فيما هو المقصود بقوله تعالى : { أفمن كان على بينة من ربه } . . وفي قوله تعالى : { ويتلوه شاهد منه } . وفي عائد هذه الضمائر في : { ربه } وفي { يتلوه } وفي { منه } . . وأرجحها كما يبدو لي هو أن المقصود بقوله تعالى : { أفمن كان على بينة من ربه } هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالتبعية له كل من يؤمن بما جاء به وأن المقصود بقوله تعالى : { ويتلوه شاهد منه } أي ويتبعه شاهد من ربه على نبوته ورسالته . وهو هذا القرآن الذي يشهد بذاته أنه وحي من الله لا يقدر عليه بشر . { ومن قبله } أي من قبل هذا الشاهد وهو القرآن؛ { كتاب موسى } يشهد كذلك بصدق النبي صلى الله عليه وسلم سواء بما تضمنه من البشارة به؛ أو بموافقة أصله لما جاء به محمد من بعده .
والذي يرجح هذا عندي هو وحده التعبير القرآني في السورة في تصوير ما بين الرسل الكرام وربهم ، من بينة يجدونها في أنفسهم ، يستيقنون معها أن الله هو الذي يوحي إليهم ، ويجدون بها ربهم في قلوبهم وجوداً مستيقناً واضحاً لا يخالجهم معه شك ولا ريبة . فنوح عليه السلام يقول لقومه : { يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟ } وصالح عليه السلام يقول الكلمة ذاتها : { قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير } وشعيب عليه السلام يقولها كذلك : { قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً } فهو تعبير موحد عن حال واحدة للرسل الكرام مع ربهم ، تصور حقيقة ما يجدونه في أنفسهم من رؤية قلبية مستيقنة لحقيقة الألوهية في نفوسهم؛ ولصدق اتصال ربهم بهم عن طريق الوحي أيضاً . . وهذا التوحيد في التعبير عن الحال الواحدة مقصود قصداً في سياق السورة كما أسلفنا في التعريف بها لإثبات أن شأن النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه ومع الوحي الذي تنزل عليه شأن سائر الرسل الكرام قبله؛ مما يبطل دعاوى المشركين المفتراة عليه صلى الله عليه وسلم وكذلك لتثبيته هو والقلة المؤمنة معه على الحق الذي معهم؛ فهو الحق الواحد الذي جاء به الرسل جميعاً ، والذي أسلم عليه المسلمون من أتباع الرسل جميعاً .

ويكون المعنى الكلي للآية : أفهذا النبي الذي تتضافر الأدلة والشواهد على صدقة وصحة إيمانه ويقينه . . حيث يجد في نفسه بينة واضحة مستيقنة من ربه . وحيث يتبعه أو يتبع يقينه هذا شاهد من ربه هو هذا القرآن الدال بخصائصه على مصدره الرباني . وحيث يقوم على تصديقه شاهد آخر قبله ، هو كتاب موسى الذي جاء إماماً لقيادة بني إسرائيل ورحمة من الله تنزلت عليهم . وهو يصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تضمنه من التبشير به ، كما يصدقه بما فيه من مطابقة للأصول الإعتقادية التي يقوم عليها دين الله كله . .
يقول : أفمن كان هذا شأنه يكون موضعاً للتكذيب والكفر والعناد كما تفعل الأحزاب التي تناوئه من شتى فئات المشركين؟ إنه لأمر مستنكر إذن في مواجهة هذه الشواهد المتضافرة من شتى الجهات . .
ثم يعرض مواقف الذين يؤمنون بهذا القرآن والذين يكفرون به من الأحزاب ، وما ينتظر هؤلاء من جزاء في الآخرة . ويعرج على تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم والذين يؤمنون بما معه من الحق؛ فلا يقلقهم شأن المكذبين الكافرين ، وهم كثرة الناس في ذلك الحين :
{ أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } . .
وقد وجد بعض المفسرين إشكالاً في قوله تعالى : { أولئك يؤمنون به } إذا كان المقصود بقوله تعالى : { أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه } هو شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أسلفنا . . فإن { أولئك } تعني جماعة يؤمنون بهذا الوحي وبتلك البينة . . ولا إشكال هناك . فالضمير في قوله تعالى { أولئك يؤمنون به } يعود على { شاهد } وهو القرآن . وكذلك الضمير في قوله تعالى { ومن قبله } فإنه يعود على القرآن كما أسلفنا . . فلا إشكال في أن يقول : { أولئك يؤمنون به } أي بهذا الشاهد أي بهذا القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من آمن بما أنزل إليه ، ثم تبعه المؤمنون : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون . كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله . . . } كما جاء في آية البقرة . . والآية هنا تشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدمج معه المؤمنين الذين آمنوا بما آمن به هو وبلغهم إياه . . وهو أمر مألوف في التعبير القرآني ، ولا إشكال فيه .

{ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } . .
وهو موعد لا يخلف ، والله سبحانه هو الذي قدره ودبره
{ فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } . .
وما شك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أوحي إليه ، ولا امترى وهو على بينة من ربه ولكن هذا التوجيه الرباني عقب حشد هذه الدلائل والشواهد يشي بما كان يخالج نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضيق وتعب ووحشة من جراء تجمد الدعوة وكثرة المعاندين ، تحتاج كلها إلى التسرية عنه بهذا التوجيه والتثبيت . كذلك ما كان يخالج قلوب القلة المسلمة من ضيق وكرب يحتاج إلى برد اليقين يتنزل عليهم من ربهم الرحيم .
وما أحوج طلائع البعث الإسلامي؛ وهي تواجه مثل تلك الحال في كل مكان؛ ويتآزر عليها الصد والإعراض ، والسخرية والإستهزاء ، والتعذيب والإيذاء؛ والمطاردة بكل صورها المادية والمعنوية؛ وتتضافر عليها كل قوى الجاهلية في الأرض من محلية وعالمية؛ وتسلط عليها أبشع ألوان الحرب وأنكدها؛ ثم تدق الطبول وتنصب الرايات لمن يحاربونها هذه الحرب ومن يطاردونها هذه المطاردة . .
ما أحوج هذه الطلائع إلى تدبر هذه الآية بكل فقرة فيها ، وبكل إشارة ، وبكل لمحة فيها وكل إيماءة ما أحوجها إلى اليقين الذي يحمله التوكيد الرباني الحكيم :
{ فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } . .
وما أحوجها إلى أن تجد في نفسها ظلالاً لما كان يجده الرسل الكرام صلوات الله عليهم وسلامه من بينة من ربهم ، ومن رحمة لا يخطئونها ولا يشكون فيها لحظة؛ ومن التزام بالمضي في الطريق مهما تكن عقبات الطريق :
{ قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير } . .
إن هذه الطلائع تتصدى لمثل ما كان يتصدى له ذلك الرهط الكريم من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً وتجد من الجاهلية مثلما كانوا يجدون . . لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البشرية كلها بهذا الدين؛ فواجهته بجاهليتها التي صارت إليها بعد الإسلام الذي جاءها به من قبل إبراهيم وإسماعيل ويعقوب والأسباط ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان ويحيى وعيسى ، وسائر النبيين
إنها الجاهلية التي تعترف بوجود الله سبحانه أولا تعترف . ولكنها تقيم للناس أرباباً في الأرض يحكمونهم بغير ما أنزل الله؛ ويشرعون لهم من القيم والتقاليد والأوضاع ما يجعل دينونتهم لهذه الأرباب لا لله . . ثم هي الدعوة الإسلامية للناس كافة أن ينحوا هذه الأرباب الأرضية عن حياتهم وأوضاعهم ومجتمعاتهم وقيمهم وشرائعهم ، وأن يعودوا إلى الله وحده يتخذونه رباً لا أرباب معه؛ ويدينون له وحده .

فلا يتبعون إلا شرعه ونهجه ، ولا يطيعون إلا أمره ونهيه . . ثم هي بعد هذه وتلك المعركة القاسية بين الشرك والتوحيد ، وبين الجاهلية والإسلام . وبين طلائع البعث الإسلامي وهذه الطواغيت في أرجاء الأرض والأصنام
ومن ثم لا بد لهذه الطلائع من أن تجد نفسها وموقفها كله في هذا القرآن في مثل هذا الأوان . . وهذا بعض ما نعنيه حين نقول : « إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة . ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها ، وإن الذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئاً في هذه القعدة الباردة الساكنة ، بعيداً عن المعركة ، وبعيداً عن الحركة . . . » .
ثم يمضي السياق يواجه الذين يكفرون به؛ ويزعمون أنه مفترى من دون الله ، ويكذبون على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك في مشهد من مشاهد القيامة يعرض فيه الذين يفترون على الله الكذب . سواء بقولهم : إن الله لم ينزل هذا الكتاب ، أو بادعائهم شركاء لله . أو بدعواهم في الربوبية الأرضية وهي من خصائص الألوهية . . يجمل النص هنا الإشارة لتشمل كل ما يوصف بأنه كذب على الله .
هؤلاء يعرضون في مشهد يوم القيامة للتشهير بهم وفضيحتهم على رؤوس الأشهاد . وفي الجانب الآخر المؤمنون المطمئنون إلى ربهم وما ينتظرهم من نعيم . ويضرب للفريقين مثلاً : الأعمى والأصم والبصير والسميع :
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا؟أولئك يعرضون على ربهم ، ويقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم . ألا لعنة الله على الظالمين . الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ، وهم بالآخرة هم كافرون . أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ، وما كان لهم من دون الله من أولياء ، يضاعف لهم العذاب ، ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون . أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ، لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع . هل يستويان مثلا؟ أفلا تذكرون؟ } .
إن افتراء الكذب في ذاته جريمة نكراء ، وظلم للحقيقة ولمن يفتري عليه الكذب . فما بال حين يكون هذا الإفتراء على الله؟
{ أولئك يعرضون على ربهم ، ويقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم } .
إنه التشهير والتشنيع . بالإشارة : { هؤلاء } . . { هؤلاء الذين كذبوا } . . وعلى من؟ { على ربهم } لا على أحد آخر إن جو الفضيحة هو الذي يرتسم في هذا المشهد ، تعقبها اللعنة المناسبة لشناعة الجريمة :
{ ألا لعنة الله على الظالمين } .

.
يقولها الأشهاد كذلك . والأشهاد هم الملائكة والرسل والمؤمنون ، أو هم الناس أجمعون . فهو الخزي والتشهير إذن في ساحة العرض الحاشدة أو هو قرار الله سبحانه في شأنهم إلى جانب ذلك الخزي والتشهير على رؤوس الأشهاد :
{ ألا لعنة الله على الظالمين } . .
والظالمون هم المشركون . وهم الذين يفترون الكذب على ربهم ليصدوا عن سبيل الله .
{ ويبغونها عوجاً } . .
فلا يريدون الإستقامة ولا الخطة المستقيمة ، إنما يريدونها عوجاً والتواء وانحرافاً . يريدون الطريق أو يريدون الحياة أو يريدون الأمور . . كلها بمعنى . . { وهم بالآخرة هم كافرون } ويكرر { هم } مرتين للتوكيد وتثبيت الجريمة وإبرازها في مقام التشهير .
والذين يشركون بالله سبحانه وهم الظالمون إنما يريدون الحياة كلها عوجاً حين يعدلون عن استقامة الإسلام . وما تنتج الدينونة لغير الله سبحانه إلا العوج في كل جانب من جوانب النفس ، وفي كل جانب من جوانب الحياة .
إن عبودية الناس لغير الله سبحانه تنشئ في نفوسهم الذلة وقد أراد الله أن يقيمها على الكرامة . وتنشئ في الحياة الظلم والبغي وقد أراد الله أن يقيمها على القسط والعدل . وتحول جهود الناس إلى عبث في تأليه الأرباب الأرضية والطبل حولها والزمر ، والنفخ فيها دائماً لتكبر حتى تملأ مكان الرب الحقيقي . ولما كانت هذه الأرباب في ذاتها صغيرة هزيلة لا يمكن أن تملأ فراغ الرب الحقيقي ، فإن عبادها المساكين يظلون في نصب دائب ، وهمٍّ مقعد مقيم ينفخون فيها ليل ونهار ، ويسلطون عليها الأضواء والأنظار ، ويضربون حولها بالدفوف والمزامير والترانيم والتسابيح ، حتى يستحيل الجهد البشري كله من الإنتاج المثمر للحياة إلى هذا الكد البائس النكد وإلى هذا الهم المقعد المقيم . . فهل وراء ذلك عوج وهل وراء ذلك التواء؟
{ أولئك } . .
البعداء المبعدون الملعونون .
{ لم يكونوا معجزين في الأرض } . .
فلم يكن أمرهم معجزاً لله ، ولو شاء لأخذهم بالعذاب في الدنيا . .
{ وما كان لهم من دون الله من أولياء } . .
ينصرونهم أو يمنعونهم من الله . إنما تركهم لعذاب الآخرة ، ليستوفوا عذاب الدنيا وعذاب الآخرة :
{ يضاعف لهم العذاب } . .
فقد عاشوا معطلي المدارك مغلقي البصائر؛ كأن لم يكن لهم سمع ولا بصر :
{ وما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } . .
{ أولئك الذين خسروا أنفسهم } . .
وهي أفدح الخسارة ، فالذي يخسر نفسه لا يفيد شيئاً مما كسب غيرها وأولئك خسروا أنفسهم فأضاعوها في الدنيا ، لم يحسوا بكرامتهم الآدمية التي تتمثل في الإرتفاع عن الدينونة لغير الله من العبيد . كما تتمثل في الإرتفاع عن الحياة الدنيا والتطلع مع المتاع بها إلى ما هو أرقى وأسمى . وذلك حين كفروا بالآخرة ، وحين كذبوا على ربهم غير متوقعين لقاءه .

وخسروا أنفسهم في الآخرة بهذا الخزي الذي ينالهم ، وبهذا العذاب الذي ينتظرهم . .
{ وضل عنهم ما كانوا يفترون } . .
غاب عنهم فلم يهتد إليهم ولم يجتمع عليهم ما كانوا يفترونه من الكذب على الله . فقد تبدد وذهب وضاع .
{ لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون } . .
الذين لا تعدل خسارتهم خسارة . وقد أضاعوا أنفسهم دنيا وأخرى .
وفي الجانب الآخر أهل الإيمان والعمل الصالح ، المطمئنون إلى ربهم الواثقون به الساكنون إليه لا يشكون ولا يقلقون :
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات . وأخبتوا إلى ربهم ، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } . .
والإخبات الطمأنينة والإستقرار والثقة والتسليم . . وهي تصور حال المؤمن مع ربه ، وركونه إليه واطمئنانه لكل ما يأتي به ، وهدوء نفسه وسكون قلبه ، وأمنه واستقراره ورضاه :
{ مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع . هل يستويان مثلاً؟ } . .
صورة حسية تتجسم فيها حالة الفريقين . والفريق الأول كالأعمى لا يرى وكالأصم لا يسمع والذي يعطل حواسه وجوارحه عن الغاية الكبرى منها ، وهي أن تكون أدوات موصلة للقلب والعقل ، ليدرك ويتدبر فكأنما هو محروم من تلك الجوارح والحواس والفريق الثاني كالبصير يرى وكالسميع يسمع ، فيهديه بصره وسمعه .
{ هل يستويان مثلاً؟ } . .
سؤال بعد الصورة المجسمة لا يحتاج إلى إجابة لأنها إجابة مقررة .
{ أفلا تذكّرون } .
فالقضية في وضعها هذا لا تحتاج إلى أكثر من التذكر . فهي بديهية لا تقتضي التفكير . .
وتلك وظيفة التصوير الذي يغلب في الأسلوب القرآني في التعبير . . أن ينقل القضايا التي تحتاج لجدل فكري إلى بديهيات مقررة لا تحتاج إلى أكثر من توجيه النظر والتذكير . .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)

القصص في هذه السورة هو قوامها؛ ولكنه لم يجئ فيها مستقلاً ، إنما جاء مصداقاً للحقائق الكبرى التي جاءت السورة لتقريرها . والتي أجملها السياق في مطلع السورة : { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ، ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير ، وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ، إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير } وقد تضمن مطلع السورة جولات متعددة حول هذه الحقائق . جولات في ملكوت السماوات والأرض ، وفي جنبات النفس ، وفي ساحة الحشر . . ثم أخذ في هذه الجولة الجديدة في جنبات الأرض وأطواء التاريخ مع قصص الماضين . . يستعرض حركة العقيدة الإسلامية في مواجهة الجاهلية على مدار القرون .
والقصص هنا مفصل بعض الشيء وبخاصة قصة نوح والطوفان وهو يتضمن الجدل حول حقائق العقيدة التي وردت فى مطلع السورة ، والتي يجيء كل رسول لتقريرها ، وكأنما المكذبون هم المكذبون ، وكأنما طبيعتهم واحدة ، وعقليتهم واحدة على مدار التاريخ .
ويتبع القصص في هذه السورة خط سير التاريخ ، فيبدأ بنوح ، ثم هود ، ثم صالح ، ويلم بإبراهيم في الطريق إلى لوط ، ثم شعيب ، ثم إشارة إلى موسى . . ويشير إلى الخط التاريخي ، لأنه يذكر التالين بمصير السالفين على التوالي بهذا الترتيب :
ونبدأ بقصة نوح مع قومه . أول هذا القصص في السياق . وأوله في التاريخ :
{ ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه . إني لكم نذير مبين . ألا تعبدوا إلا الله ، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } . .
إنها تكاد تكون الألفاظ ذاتها التي أرسل بها محمد صلى الله عليه وسلم والتي تضمنها الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . وهذه المقاربة في ألفاظ التعبير عن المعنى الرئيسي الواحد مقصودة في السياق لتقرير وحدة الرسالة ووحدة العقيدة ، حتى لتتوحد ألفاظ التعبير عن معانيها . وذلك مع تقدير أن المحكي هنا هو معنى ما قاله نوح عليه السلام لا ألفاظه . وهو الأرجح . فنحن لا ندري بأية لغة كان نوح يعبر .
{ ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه : إني لكم نذير مبين } . .
ولم يقل قال : إني . . . لأن التعبير القرآني يحيي المشهد فكأنما هو واقعة حاضرة لا حكاية ماضية . وكأنما هو يقول لهم الآن ونحن نشهد ونسمع . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى أنه يلخص وظيفة الرسالة كلها ويترجمها إلى حقيقة واحدة :
{ إني لكم نذير مبين } . .
وهو أقوى في تحديد هدف الرسالة وإبرازه في وجدان السامعين .
ومرة أخرى يبلور مضمون الرسالة في حقيقة جديدة :
{ ألا تعبدوا إلا الله } . .
فهذا هو قوام الرسالة ، و قوام الإنذار .

ولماذا؟
{ إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } . .
فيتم الإبلاغ ويتم الإنذار ، في هذه الكلمات القصار . .
واليوم ليس أليماً . إنما هو مؤلم . والأليم إسم مفعول أصله : مألوم إنما هم المألومون في ذلك اليوم . ولكن التعبير يختار هذه الصيغة هنا ، لتصوير اليوم ذاته بأنه محمل بالألم ، شاعر به ، فما بال من فيه؟
{ فقال الملأ الذين كفروا من قومه : ما نراك إلا بشراً مثلنا ، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ، وما نرى لكم علينا من فضل ، بل نظنكم كاذبين } . .
ذلك رد العلية المتكبرين . . الملأ . . كبار القوم المتصدرين . . وهو يكاد يكون رد الملأ من قريش : ما نراك إلا بشراً مثلنا ، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل ، بل نظنكم كاذبين .
الشبهات ذاتها ، والاتهامات ذاتها ، والكبرياء ذاتها ، والاستقبال الغبي الجاهل المتعافي
إنها الشبهة التي وقرت في نفوس جهال البشر : أن الجنس البشري أصغر من حمل رسالة الله؛ فإن تكن رسالة فليحملها ملك أو مخلوق آخر . وهي شبهة جاهلة ، مصدرها عدم الثقة بهذا المخلوق الذي استخلفه الله في أرضه ، وهي وظيفة خطيرة ضخمة ، لا بد أن يكون الخالق قد أودع في هذا الإنسان ما يكافئها من الإستعداد والطاقة ، وأودع في جنسه القدرة على أن يكون من بينه أفراد مهيأون لحمل الرسالة ، باختيار الله لهم ، وهو أعلم بما أودع في كيانهم الخاص من خصائص هذا الجنس في عمومه .
وشبهة أخرى جاهلة كذلك . هي أنه إذا كان الله يختار رسولاً ، فلم لا يكون من بين هؤلاء الملأ الكبراء في قومهم ، المتسلطين العالين؟ وهو جهل بالقيم الحقيقية لهذا المخلوق الإنساني ، والتي من أجلها استحق الخلافة في الأرض بعمومه ، واستحق حمل رسالة الله بخصوصيته في المختارين من صفوفه . وهذه القيم لا علاقة لها بمال أو جاه أو استطالة في الأرض ، إنما هي في صميم النفس ، واستعدادها للاتصال بالملأ الأعلى ، بما فيها من صفاء وتفتح وقدرة على التلقي ، واحتمال للأمانة وصبر على أدائها ومقدرة على إبلاغها . . إلى آخر صفات النبوة الكريمة . . وهي صفات لا علاقة لها بمال أو جاه أو استعلاء
ولكن الملأ من قوم نوح ، كالملأ من قوم كل نبي تعميهم مكانتهم الدنيوية عن رؤية هذه الخصائص العلوية ، فلا يدركون مبرراً لاختصاص الرسل بالرسالة . وهي في زعمهم لا تكون لبشر . فإن كانت فهي لأمثالهم من الوجهاء العالين في الأرض
{ وما نراك إلا بشراً مثلنا } . .
هذه واحدة . . أما الأخرى فأدهى :
{ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا ، بادي الرأي }
وهم يسمون الفقراء من الناس « أراذل » . . كما ينظر الكبراء دائماً إلى الآخرين الذين لم يؤتوا المال والسلطان وأولئك هم أتباع الرسل السابقون غالباً؛ لأنهم بفطرتهم أقرب إلىلإستجابة للدعوة التي تحرر الناس من العبودية للكبراء ، وتصل القلوب بإله واحد قاهر عال على الأعلياء .

ولأن فطرتهم لم يفسدها البطر والترف . ولم تعوقها المصالح عن الإستجابة؛ ولأنهم لا يخافون من العقيدة في الله أن تضيع عليهم مكانة مسروقة لغفلة الجماهير واستعبادها للخرافات الوثنية في شتى صورها . وأول صور الوثنية الدينونة والعبودية والطاعة والاتباع للأشخاص الزائلة بدلاً من الإتجاه بهذا كله لله وحده دون شريك . فرسالات التوحيد هي حركات التحرير الحقيقية للبشر في كل طور وفي كل أرض . ومن ثم كان يقاومها الطغاة دائماً ، ويصدون عنها الجماهير؛ ويحاولون تشويهها واتهام الدعاة إليها بشر التهم للتشويش والتنفير .
{ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي } . .
أي دون ترو ولا تفكير . . وهذه تهمة كذلك توجه دائماً من الملأ العالين لجموع المؤمنين . . أنها لا تتروى ولا تفكر في اتباع الدعوات . ومن ثم فهي متهمة في اتباعها واندفاعها ، ولا يليق بالكبراء أن ينهجوا نهجها ، ولا أن يسلكوا طريقها . فإذا كان الأراذل يؤمنون ، فما يليق إذن بالكبراء أن يؤمنوا إيمان الأراذل؛ ولا أن يدعوا الأراذل يؤمنون
{ وما نرى لكم علينا من فضل } . .
يدمجون الداعي بمن تبعوه من الأراذل ما نرى لكم علينا من فضل يجعلكم أقرب إلى الهدى ، أو أعرف بالصواب . فلو كان ما معكم خيراً وصواباً لاهتدينا إليه ، ولم تسبقونا أنتم إليه وهم يقيسون الأمور ذلك القياس الخاطئ الذي تحدثنا عنه . قياس الفضل بالمال ، والفهم بالجاه ، والمعرفة بالسلطان . . فذو المال أفضل . وذو الجاه أفهم . وذو السلطان أعرف هذه المفاهيم وتلك القيم التي تسود دائماً حين تغيب عقيدة التوحيد عن المجتمع ، أو تضعف آثارها ، فترتد البشرية إلى عهود الجاهلية ، وإلى تقاليد الوثنية في صورة من صورها الكثيرة وإن بدت في ثوب من الحضارة المادية قشيب . وهي انتكاسة للبشرية من غير شك ، لأنها تصغر من القيم التي بها صار الإنسان إنساناً ، واستحق الخلافة في الأرض ، وتلقى الرسالة من السماء؛ وترجع به إلى قيم أقرب إلى الحيوانية العضلية الفيزيقية
{ بل نظنكم كاذبين } . . .
وهي التهمة الأخيرة يقذفون بها في وجه الرسول وأتباعه . ولكنهم على طريقة طبقتهم . . « الأرستقراطية » . . يلقونها في أسلوب التحفظ اللائق « بالأرستقراط » { بل نظنكم } لأن اليقين الجازم في القول والإتجاه من طبيعة الجماهير المندفعة بادي الرأي التي يترفع عنها السادة المفكرون المتحفظون
إنه النموذج المتكرر من عهد نوح ، لهذه الطبقة المليئة الجيوب الفارغة القلوب ، المتعاظمة المدعية المنتفخة الأوداج والأمخاخ
ويتلقى نوح عليه السلام الإتهام والإعراض والاستكبار ، في سماحة النبي وفي استعلائه وفي ثقته بالحق الذي جاء به ، واطمئنانه إلى ربه الذي أرسله؛ وفي وضوح طريقه أمامه واستقامة منهجه في شعوره .

فلا يشتم كما شتموا ، ولا يتهم كما اتهموا ، ولا يدعي كما ادعوا ، ولا يحاول أن يخلع على نفسه مظهراً غير حقيقته ولا على رسالته شيئاً غير طبيعتها . .
{ قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ، وآتاني رحمة من عنده فعميّت عليكم . أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟ ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله ، وما أن بطارد الذين آمنوا ، إنهم ملاقو ربهم ، ولكني أراكم قوماً تجهلون . ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون؟ ولا أقول لكم : عندي خزائن الله ، ولا أعلم الغيب ، ولا أقول : إني ملك ، ولا أقول للذين تزدري أعينكم : لن يؤتيهم الله خيراً . الله أعلم بما في أنفسهم ، إني إذن لمن الظالمين } . .
{ يا قوم } . . في سماحة ومودة بندائهم ونسبتهم إليه ، ونسبة نفسه إليهم . إنكم تعترضون فتقولون : { ما نراك إلا بشراً مثلنا } . . فما يكون رأيكم إن كنت على اتصال بربي ، بيِّن في نفسي مستيقن في شعوري . وهي خاصية لم توهبوها . وإن كان الله آتاني رحمة من عنده باختياري للرسالة ، أو آتاني من الخصائص ما أستحق به حمل الرسالة وهذه رحمة ولا شك عظيمة ما رأيكم إن كانت هذه وتلك فخفيت عليكم خفاء عماية ، لأنكم غير متهيئين لإدراكها ، وغير مفتوحي البصائر لرؤيتها . { أنلزمكموها؟ } إنه ما كان لي وما أنا بمستطيع أن ألزمكم الإذعان لها والإيمان بها { وأنتم لها كارهون }
وهكذا يتلطف نوح في توجيه أنظارهم ولمس وجدانهم وإثارة حساسيتهم لإدراك القيم الخفية عليهم ، والخصائص التي يغفلون عنها في أمر الرسالة والإختيار لها : ويبصرهم بأن الأمر ليس موكولاً إلى الظواهر السطحية التي يقيسون بها . وفي الوقت ذاته يقرر لهم المبدأ العظيم القويم . مبدأ الإختيار في العقيدة ، والإقتناع بالنظر والتدبر ، لا بالقهر والسلطان والإستعلاء
{ ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً ، إن أجري إلا على الله ، وما أنا بطارد الذين آمنوا ، إنهم ملاقو ربهم ، ولكني أراكم قوماً تجهلون } .
يا قوم إن الذين تدعونهم أراذل قد دعوتهم فآمنوا ، وليس لي عند الناس إلا أن يؤمنوا . إنني لا أطلب مالاً على الدعوة ، حتى أكون حفياً بالأثرياء غير حفي بالفقراء؛ فالناس كلهم عندي سواء . . ومن يستغن عن مال الناس يتساو عنده الفقراء والأغنياء . .
{ إن أجري إلا على الله } . .
عليه وحده دون سواه .
{ وما أنا بطارد الذين آمنوا } . .
ونفهم من هذا الرد أنهم طلبوا أو لوحوا له بطردهم من حوله ، حتى يفكروا هم في الإيمان به ، لأنهم يستنكفون أن يلتقوا عنده بالأراذل ، أو أن يكونوا وإياهم على طريق واحد لست بطاردهم ، فهذا لا يكون مني . لقد آمنوا وأمرهم بعد ذلك إلى الله لا لي :
{ إنهم ملاقو ربهم } . . { ولكني أراكم قوماً تجهلون } . .
تجهلون القيم الحقيقية التي يقدر بها الناس في ميزان الله .

وتجهلون أن مرد الناس كلهم إلى الله .
{ ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم . أفلا تذكرون؟ } . .
فهناك الله . رب الفقراء والأغنياء . ورب الضعفاء والأقوياء . هناك الله يقوِّم الناس بقيم أخرى . ويزنهم بميزان واحد . هو الإيمان . فهؤلاء المؤمنون في حماية الله ورعايته .
{ ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم؟ } . .
من يعصمني من الله إن أنا أخللت بموازينه ، وبغيت على المؤمنين من عباده وهم أكرم عليه وأقررت القيم الأرضية الزائفة التي أرسلني الله لأعدِّلها لا لأتبعها؟
{ أفلا تذكّرون؟ } . .
وقد أنساكم ما أنتم فيه ميزان الفطرة السليمة القويمة؟
ثم يقدم لهم شخصه ورسالته مجردين عن كل زخرف وكل طلاء وكل قيمة من تلك القيم العرضية الزائفة . يقدمها لهم في معرض التذكير ، ليقرر لهم القيم الحقيقية ، ويزدري أمامهم القيم الظاهرية ، بتخليه عنها ، وتجرده منها . فمن شاء الرسالة كما هي ، بقيمها ، بدون زخرف ، بدون ادعاء ، فليتقدم إليها مجردة خالصة لله :
{ ولا أقول لكم عندي خزائن الله . . }
فأدعي الثراء أو القدرة على الإثراء . . .
{ ولا أعلم الغيب } . .
فأدعي قدرة ليست للبشر أو صلة بالله غير صلة الرسالة . .
{ ولا أقول : إني ملك } . .
فأدعي صفة أعلى من صفة الإنسانية في ظنكم لأرتفع في أعينكم ، وأفضل نفسي بذاتي عليكم .
{ ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً } . .
إرضاء لكبريائكم ، أو مسايرة لتقديركم الأرضي وقيمكم العرضية .
{ الله أعلم بما في أنفسهم } . .
فليس لي إلا ظاهرهم ، وظاهرهم يدعو إلى التكريم ، وإلى الرجاء في أن يؤتيهم الله خيراً . .
{ إني إذن لمن الظالمين } . .
إن إدعيت أية دعوى من هذه الدعاوي . الظالمين للحق وقد جئت أبلغه؛ والظالمين لنفسي فأعرضها لغضب الله؛ والظالمين للناس فأنزلهم غير ما أنزلهم الله .
وهكذا ينفي نوح عليه السلام عن نفسه وعن رسالته كل قيمة زائفة وكل هالة مصطنعة يتطلبها الملأ من قومه في الرسول والرسالة . ويتقدم إليهم بها مجردة إلا من حقيقتها العظيمة التي لا تحتاج إلى مزيد من تلك الأعراض السطحية . ويردهم في نصاعة الحق وقوته ، مع سماحة القول ووده إلى الحقيقة المجردة ليواجهوها ، ويتخذوا لأنفسهم خطة على هداها . بلا ملق ولا زيف ولا محاولة استرضاء على حساب الرسالة وحقيقتها البسيطة . فيعطي أصحاب الدعوة في أجيالها جميعاً نموذجاً للداعية ودرساً في مواجهة أصحاب السلطان بالحق المجرد ، دون استرضاء لتصوراتهم ، ودون ممالأة لهم ، مع المودة التي لا تنحني معها الرؤوس
وعند هذا الحد كان الملأ من قوم نوح قد يئسوا من مناهضة الحجة بالحجة؛ فإذا هم على عادة طبقتهم قد أخذتهم العزة بالإثم ، واستكبروا أن تغلبهم الحجة ، وأن يذعنوا للبرهان العقلي والفطري . وإذا هم يتركون الجدل إلى التحدي :
{ قالوا : يا نوح قد جادلتنا ، فأكثرت جدالنا ، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } .

.
إنه العجز يلبس ثوب القدرة ، والضعف يرتدي رداء القوة؛ والخوف من غلبة الحق يأخذ شكل الإستهانة والتحدي :
{ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } . .
وأنزل بنا العذاب الأليم الذي أنذرتنا به فلسنا نصدقك ، ولسنا نبالي وعيدك .
أما نوح فلا يخرجه هذا التكذيب والتحدي عن سمت النبي الكريم ، ولا يقعده عن بيان الحق لهم ، وإرشادهم إلى الحقيقة التي غفلوا عنها وجهلوها في طلبهم منه أن يأتيهم بما أوعدهم ، وردهم إلى هذه الحقيقة وهي أنه ليس سوى رسول ، وليس عليه إلا البلاغ ، أما العذاب فمن أمر الله ، وهو الذي يدبر الأمر كله ، ويقدر المصلحة في تعجيل العذاب أو تأجيله ، وسنته هي التي تنفذ . . وما يملك هو أن يردها أو يحولها . . إنه رسول . وعليه أن يكشف عن الحق حتى اللحظة الأخيرة ، فلا يقعده عن إبلاغه وبيانه أن القوم يكذبونه ويتحدونه :
{ قال : إنما يأتيكم به الله إن شاء ، وما أنتم بمعجزين . ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ، هو ربكم وإليه ترجعون } . .
فإذا كانت سنة الله تقتضي أن تهلكوا بغوايتكم ، فإن هذه السنة ستمضي فيكم ، مهما بذلت لكم من النصح . لا لأن الله سيصدكم عن الانتفاع بهذا النصح ، ولكن لأن تصرفكم بأنفسكم يجعل سنة الله تقتضي أن تضلوا ، وما أنتم بمعجزين لله عن أن ينالكم ما يقدر لكم ، فأنتم دائماً في قبضته ، وهو المدبر والمقدر لأمركم كله؛ ولا مفر لكم من لقائه وحسابه وجزائه :
{ هو ربكم وإليه ترجعون } . .
وعند هذا المقطع من قصة نوح ، يلتفت السياق لفتة عجيبة ، إلى استقبال مشركي قريش لمثل هذه القصة ، التي تشبه أن تكون قصتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم ودعواهم أن محمداً يفتري هذا القصص . فيرد هذا القول قبل أن يمضي في استكمال قصة نوح :
{ أم يقولون افتراه؟ قل : إن افتريته فعليّ إجرامي ، وأنا بريء مما تجرمون } . .
فالافتراء إجرام ، قل لهم : إن كنت فعلته فعليَّ تبعته . وأنا أعرف أنه إجرام فمستبعد أن أرتكبه ، وأنا بريء مما تجرمون من تهمة الافتراء إلى جوار غيرها من الشرك والتكذيب .
وهذا الاعتراض لا يخالف سياق القصة في القرآن ، لأنها إنما جاءت لتأدية غرض من هذا في السياق .
ثم يمضي السياق في قصة نوح؛ يعرض مشهداً ثانياً . مشهد نوح يتلقى وحي ربه وأمره :
{ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن . فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ، واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ، ولا تخاطبني في الذين ظلموا ، إنهم مغرقون } . .
فقد انتهى الإنذار ، وانتهت الدعوة ، وانتهى الجدل
{ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } .

.
فالقلوب المستعدة للإيمان قد آمنت ، أما البقية فليس فيها استعداد ولا اتجاه . هكذا أوحى الله إلى نوح ، وهو أعلم بعباده ، وأعلم بالممكن والممتنع ، فلم يبق مجال للمضي في دعوة لا تفيد . ولا عليك مما كانوا يفعلونه من كفر وتكذيب وتحد واستهزاء :
{ فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } . .
أي لا تحس بالبؤس والقلق ، ولا تحفل ولا تهتم بهذا الذي كان منهم ، لا على نفسك فما هم بضاريك بشيء ، ولا عليهم فإنهم لا خير فيهم .
دع أمرهم فقد انتهى . .
{ واصنع الفلك بأعيننا ووحينا } .
برعايتنا وتعليمنا .
{ ولا تخاطبني في الذين ظلموا ، إنهم مغرقون } . .
فقد تقرر مصيرهم وانتهى الأمر فيهم . فلا تخاطبني فيهم . . لا دعاء بهدايتهم ، ولا دعاء عليهم وقد ورد في موضع آخر أنه حين يئس منهم دعا عليهم ، والمفهوم أن اليأس كان بعد هذا الوحي فمتى انتهى القضاء امتنع الدعاء . .
والمشهد الثالث من مشاهد القصة : مشهد نوح يصنع الفلك ، وقد اعتزل القوم وترك دعوتهم وجدالهم :
{ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه : قال : إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون . فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم } . .
والتعبير بالمضارع . فعل الحاضر . . هو الذي يعطي المشهد حيويته وجدته . فنحن نراه ماثلاً لخيالنا من وراء هذا التعبير . يصنع الفلك . ونرى الجماعات من قومه المتكبرين يمرون به فيسخرون . يسخرون من الرجل الذي كان يقول لهم : إنه رسول ويدعوهم ، ويجادلهم فيطيل جدالهم؛ ثم إذا هو ينقلب نجاراً يصنع مركباً . . إنهم يسخرون لأنهم لا يرون إلا ظاهر الامر ، ولا يعلمون ما وراءه من وحي وأمر . شأنهم دائماً في إدراك الظواهر والعجز عن إدراك ما وراءها من حكمة وتقدير . فأما نوح فهو واثق عارف وهو يخبرهم في اعتزاز وثقة وطمأنينة واستعلاء أنه يبادلهم سخرية بسخرية :
{ قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } . .
نسخر منكم لأنكم لا تدركون ما وراء هذا العمل من تدبير الله وما ينتظركم من مصير :
{ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يوم مقيم } . .
أنحن أم أنتم : يوم ينكشف المستور ، عن المحذور
ثم مشهد التعبئة عندما حلت اللحظة المرتقبة :
{ حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ، قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين ، وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن ، وما آمن معه إلا قليل . وقال : اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها ، إن ربي لغفور رحيم } .
وتتفرق الأقوال حول فوران التنور ، ويذهب الخيال ببعضها بعيداً ، وتبدو رائحة الإسرائيليات فيها وفي قصة الطوفان كلها واضحة . أما نحن فلا نضرب في متاهة بغير دليل ، في هذا الغيب الذي لا نعلم منه إلا ما يقدمه لنا النص ، وفي حدود مدلوله بلا زيادة .
وأقصى ما نملك أن نقوله : إن فوران التنور والتنور الموقد قد يكون بعين فارت فيه ، أو بفوارة بركانية .

وأن هذا الفوران ربما كان علامة من الله لنوح ، أو كان مصاحباً مجرد مصاحبة لمجيء الأمر ، وبدءاً لنفاذ هذا الأمر بفوران الأرض بالماء . وسح الوابل من السماء .
لما حدث هذا { قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين . . . } كأن نظام العملية كان يقتضي أن يؤمر نوح بمراحلها واحدة واحدة في حينها . فقد أمر أولاً بصنع الفلك فصنعه ، ولم يذكر لنا السياق الغرض من صنعه ، ولم يذكر أنه أطلع نوحاً على هذا الغرض كذلك . { حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور } . . أمر بالمرحلة التالية . .
{ قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين ، وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن } . .
ومرة أخرى تتفرق الأقوال حول { من كل زوجين اثنين } وتشيع في الجو رائحة الإسرائيليات قوية . أما نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا ويشتط حول النص : { احمل فيها من كل زوجين اثنين } . . مما يملك نوح أن يمسك وأن يستصحب من الأحياء . وما وراء ذلك خبط عشواء . .
{ وأهلك إلا من سبق عليه القول } . .
أي من استحق عذاب الله حسب سنته .
{ ومن آمن } . .
من غير أهلك .
{ وما آمن معه إلا قليل } . .
{ وقال : اركبوا فيها باسم الله مجريها ومرساها } . .
فنفذ الأمر وحشر من حشر وما حشر .
{ وقال : اركبوا فيها باسم الله مجريها ومرساها } . . وهذا تعبير عن تسليمها للمشيئة في جريانها ورسوها ، فهي في رعاية الله وحماه . . وماذا يملك البشر من أمر الفلك في اللجة الطاغية بله الطوفان؟
ثم يأتي المشهد الهائل المرهوب : مشهد الطوفان :
{ وهي تجري بهم في موج كالجبال ، ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ، قال . سآوي إلى جبل يعصمني من الماء . قال : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم . وحال بينهما الموج فكان من المغرقين } . .
إن الهول هنا هولان . هول في الطبيعة الصامته ، وهول في النفس البشرية يلتقيان :
{ وهي تجري بهم في موج كالجبال } . .
وفي هذه اللحظة الرهيبة الحاسمة يبصر نوح ، فإذا أحد أبنائه في معزل عنهم وليس معهم ، وتستيقظ في كيانه الأبوة الملهوفة ، ويروح يهتف بالولد الشارد :
{ يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين } . .
ولكن البنوة العاقة لا تحفل بالأبوة الملهوفة ، والفتوة المغرورة لا تقدر مدى الهول الشامل :
{ قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء } . .
ثم ها هي ذي الأبوة المدركة لحقيقة الهول وحقيقة الأمر ترسل النداء الأخير :
{ قال : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } .
لا جبال ولا مخابئ ولا حامٍ ولا واقٍ . إلا من رحم الله .
وفي لحظة تتغير صفحة المشهد . فها هو ذا الموج الغامر يبتلع كل شيء :
{ وحال بينهما الموج فكان من المغرقين } .

.
وإننا بعد آلاف السنين ، لنمسك أنفاسنا ونحن نتابع السياق والهول يأخذنا كأننا نشهد المشهد . وهي تجري بهم في موج كالجبال ، ونوح الوالد الملهوف يبعث بالنداء . وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة الدعاء ، والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة وينتهي كل شيء ، وكأن لم يكن دعاء ولا جواب
وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية بين الوالد والمولود كما يقاس بمداه في الطبيعة ، والموج يطغى على الذرى بعد الوديان . وإنهما لمتكافئان ، في الطبيعة الصامته وفي نفس الإنسان . وتلك سمة بارزة في تصوير القرآن .
وتهدأ العاصفة ، ويخيم السكون ، ويقضى الأمر ، ويتمشى الاستقرار كذلك في الألفاظ وفي إيقاعها في النفس والأذن :
{ وقيل : يا أرض ابلعي ماءك ، ويا سماء أقلعي وغيض الماء ، وقضي الأمر ، واستوت على الجوديّ ، وقيل بعداً للقوم الظالمين } . .
ويوجه الخطاب إلى الأرض وإلى السماء بصيغة العاقل ، فتستجيب كلتاهما للأمر الفاصل فتبلع الأرض ، وتكف السماء :
{ وقيل : يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي } .
{ وغيض الماء } . .
ابتلعته الأرض في جوفها وغار من سطحها .
{ وقضي الأمر } . .
ونفذ القضاء
{ واستوت على الجودي } . .
ورست رسو استقرار على جبل الجودي . .
{ وقيل بعداً للقوم الظالمين } . .
وهي جملة مختصرة حاسمة معبرة عن جوها أعمق تعبير . . { قيل } على صيغة المجهول فلا يذكر من قال ، من قبيل لف موضوعهم ومواراته :
{ وقيل بعداً للقوم الظالمين } . .
بعداً لهم من الحياة فقد ذهبوا ، وبعداً لهم من رحمة الله فقد لعنوا ، وبعداً لهم من الذاكرة فقد انتهوا . . وما عادوا يستحقون ذكراً ولا ذكرى
والآن وقد هدأت العاصفة ، وسكن الهول ، واستوت على الجودي . الآن تستيقظ في نفس نوح لهفة الوالد المفجوع :
{ ونادى نوح ربه ، فقال : رب إن ابني من أهلي ، وإن وعدك الحق ، وأنت أحكم الحاكمين } .
رب إن ابني من أهلي ، وإن وعدك الحق ، وأنت أحكم الحاكمين . فلا تقضي إلا عن حكمة وتدبير . .
قالها يستنجز ربه وعده في نجاة أهله ، ويستنجزه حكمته في الوعد والقضاء . .
وجاءه الرد بالحقيقة التي غفل عنها . فالأهل عند الله وفي دينه وميزانه ليسوا قرابة الدم ، إنما هم قرابة العقيدة . وهذا الولد لم يكن مؤمناً ، فليس إذن من أهله وهو النبي المؤمن . . جاءه الرد هكذا في قوة وتقرير وتوكيد؛ وفيما يشبه التقريع والتأنيب والتهديد :
{ قال : يا نوح إنه ليس من أهلك ، إنه عمل غير صالح ، فلا تسألن ما ليس لك به علم . إني أعظك أن تكون من الجاهلين } . .
إنها الحقيقة الكبيرة في هذا الدين . حقيقة العروة التي ترجع إليها الخيوط جميعاً . عروة العقيدة التي تربط بين الفرد والفرد ما لا يربطه النسب والقرابة :
{ إنه ليس من أهلك . إنه عمل غير صالح } . .
فهو مُنبتٌّ منك وأنت منبت منه ، ولو كان ابنك من صلبك ، فالعروة الأولى مقطوعة ، فلا رابطة بعد ذلك ولا وشيجة .

ولأن نوحاً دعا دعاء من يستنجز وعداً لا يراه قد تحقق . . كان الرد عليه يحمل رائحة التأنيب والتهديد :
{ فلا تسألن ما ليس لك به علم . إني أعظك أن تكون من الجاهلين } . .
إني أعظك خشية أن تكون من الجاهلين بحقيقة الوشائج والروابط ، أو حقيقة وعد الله وتأويله ، فوعد الله قد أُول وتحقق ، ونجا أهلك الذين هم أهلك على التحقيق .
ويرتجف نوح ارتجافة العبد المؤمن يخشى أن يكون قد زل في حق ربه ، فيلجأ إليه ، يعوذ به ، ويطلب غفرانه ورحمته :
{ قال : رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ، وإلا تغفرلي وترحمني أكن من الخاسرين } . .
وأدركت رحمة الله نوحاً ، تطمئن قلبه ، وتباركه هو والصالح من نسله ، فأما الآخرون فيمسهم عذاب أليم :
{ قيل؛ يا نوح اهبط بسلام منا ، وبركات عليك وعلى أمم ممن معك . وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم } . .
وكانت خاتمة المطاف : النجاة والبشرى له ولمن يؤمن من ذريته؛ والوعيد والتهديد لمن يريدون منهم متاع الحياة الدنيا ثم يمسهم العذاب الأليم . . ذات البشرى وذات الوعيد ، اللذان مرا في مقدمة السورة . فجاء القصص ليترجمهما في الواقع المشهود . .
ومن ثم يجيء التعقيب :
{ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ، فاصبر إن العاقبة للمتقين } .
فيحقق هذا التعقيب من أهداف القصص القرآني في هذه السورة :
حقيقة الوحي التي ينكرها المشركون . فهذا القصص غيب من الغيب ، ما كان يعلمه النبي ، وما كان معلوماً لقومه ، ولا متداولاً في محيطه . إنما هو الوحي من لدن حكيم خبير .
وحقيقة وحدة العقيدة من لدن نوح أبي البشر الثاني . فهي هي . والتعبير عنها يكاد يكون هو التعبير .
وحقيقة تكرارالإعتراضات والإتهامات من المكذبين على الرغم من الآيات والعبر والبينات التي لا تمنع جيلاً أن يرددها وقد بدت باطلة في جيل .
وحقيقة تحقق البشرى والوعيد ، كما يبشر النبي وينذر ، وهذا شاهد من التاريخ .
وحقيقة السنن الجارية التي لا تتخلف ولا تحابي ولا تحيد : { والعاقبة للمتقين } . . فهم الناجون وهم المستخلفون .
وحقيقة الرابطة التي تربط بين فرد وفرد وبين جيل وجيل . . إنها العقيدة الواحدة التي تربط المؤمنين كلهم في إله واحد يلتقون في الدينونة له بلا منازع ولا شريك .
وبعد . . أكان الطوفان عاماً في الأرض؟ أم إنه كان في تخوم الأرض التي بعث فيها نوح؟ وأين كانت هذه الأرض؟ وأين تخومها في العالم القديم وفي العالم الحديث؟ اسئلة لا جواب عليها إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً؛ وإلا الإسرائيليات التي لا تستند إلى دليل صحيح . . وليس لها بعد ذلك قيمة في تحقيق أهداف القصص القرآني في كثير ولا قليل .

ولكن هذا لا يمنع من القول بأن ظاهر النصوص القرآنية يلهم أن قوم نوح كانوا هم مجموع البشرية في ذلك الزمان . وأن الأرض التي يسكنونها كانت هي الأرض المعمورة في ذلك الحين . وأن الطوفان قد عم هذه الرقعة ، وقضى على جميع الخلائق التي تقطنها فيما عدا ركب السفينة الناجين .
وهذا حسبنا في إدراك طبيعة ذلك الحادث الكوني الذي جاءنا خبره من المصدر الوحيد الوثيق عن ذلك العهد السحيق ، الذي لا يعرف « التاريخ » عنه شيئاً . وإلا فيومها أين كان « التاريخ »؟ إن التاريخ مولود حدثٌ لم يسجل من أحداث البشرية إلا القليل وكل ما سجله قابل للخطأ والصواب ، والصدق والكذب ، والتجريح والتعديل وما ينبغي قط أن يستفتى ذات يوم في شأن جاءنا به الخبر الصادق . ومجرد استفتائه في مثل هذا الشأن قلب للأوضاع ، وانتكاسه لا تصيب عقلاً قد استقرت فيه حقيقة هذا الدين
ولقد حفلت أساطير شتى الشعوب وذكرياتها الغامضة بذكر طوفان أصاب أرضها في تاريخ قديم مجهول ، بسبب معصية ذلك الجيل الذي شهد ذلك الحادث الكبير . . وأساطير بني إسرائيل المدونة فيما يسمونه « العهد القديم » تحوي كذلك ذكرى طوفان نوح . . ولكن هذا كله شيء لا ينبغي أن يذكر في معرض الحديث القرآني عن الطوفان؛ ولا ينبغي أن يخلط الخبر الصادق الوثيق بمثل هذه الروايات الغامضة وهذه الأساطير المجهولة المصدر والأسانيد . وإن كان لوجود هذه الأخبار الغامضة عن الطوفان عند شعوب شتى دلالته في أن الطوفان قد كان في أرض هذه الأقوام؛ أو على الأقل قد رحلت ذكرياته مع ذراري الناجين حين تفرقوا في الأرض بعد ذلك وعمروا الأرض من جديد . .
وينبغي أن نذكر أن ما يسمى « بالكتاب المقدس » سواء في ذلك « العهد القديم » المحتوي على كتب اليهود أو « العهد الجديد » المحتوي على أناجيل النصارى ليس هو الذي نزل من عند الله . فالتوراة التي أنزلها الله على موسى قد حرقت نسخها الأصلية على يد البابليين عند سبي اليهود . ولم تعد كتابتها إلا بعد قرون عديدة قبيل ميلاد المسيح بنحو خمسة قرون وقد كتبها عزرا وقد يكون هو عزير وجمع فيها بقايا من التوراة . أما سائرها فهو مجرد تأليف وكذلك الأناجيل فهي جميعاً لا تحوي إلا ما حفظته ذاكرة تلامذة المسيح وتلامذتهم بعد نحو قرن من وفاة المسيح عليه السلام ثم خلطت به حكايات كثيرة وأساطير . . ومن ثم لايجوز أن يطلب عند تلك الكتب جميعها يقين في أمر من الأمور
ونخلص من هذه القضية العرضية إلى عبرة هذا الحادث الكوني العظيم . . وهي في الحقيقة عبر شتى ، لا عبرة واحدة .

وسنحاول أن نلم بشيء منها في الصفحات التالية ، قبل أن ننتقل من قصة نوح إلى قصة هود :
إن قوم نوح - عليه السلام هؤلاء الذين شهدنا مدى جاهليتهم ، ومدى إصرارهم على باطلهم ، ومدى استنكارهم لدعوة الإسلام الخالص التي حملها نوح عليه السلام إليهم ، وخلاصتها : التوحيد الخالص الذي يفرد الله سبحانه بالدينونة والعبودية؛ ولا يجعل لأحد معه صفة الربوبية . .
إن قوم نوح هؤلاء . . هم ذرية آدم . . وآدم كما نعلم من قصته في سورة الأعراف من قبل وفي سورة البقرة كذلك قد هبط إلى الأرض ليقوم بمهمة الخلافة فيها وهي المهمة التي خلقها الله لها وزوده بالكفايات والإستعدادات اللازمة لها بعد أن علمه ربه كيف يتوب من الزلة التي زلها ، وكيف تلقى من ربه كلمات فتاب عليه بها . وكيف أخذ عليه ربه العهد والميثاق هو وزوجه وبنوه أن { يتبع } ما يأتيه من هدى الله ، ولا يتبع الشيطان وهو عدوه وعدو بنيه إلى يوم الدين .
وإذن فقد هبط آدم إلى الأرض مسلماً لله متبعاً هداه . . وما من شك أنه علم بنيه الإسلام جيلاً بعد جيل؛ وأن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية في الأرض؛ حيث لم تكن معها عقيدة أخرى فإذا نحن رأينا قوم نوح وهم من ذرية آدم بعد أجيال لا يعلم عددها إلا الله قد صاروا إلى هذه الجاهلية التي وصفتها القصة في هذه السورة فلنا أن نجزم أن هذه الجاهلية طارئة على البشرية بوثنيتها وأساطيرها وخرافاتها وأصنامها وتصوراتها وتقاليدها جميعاً . وأنها انحرفت عن الإسلام إليها بفعل الشيطان المسلط على بني آدم؛ وبفعل الثغرات الطبيعية في النفس البشرية . تلك الثغرات التي ينفذ منها عدو الله وعدو الناس ، كلما تراخوا عن الاستمساك بهدى الله ، واتباعه وحده ، وعدم اتباع غيره معه في كبيرة ولا صغيرة . . ولقد خلق الله الإنسان ومنحه قدراً من الاختيار هو مناط الابتلاء وبهذا القدر يملك أن يستمسك بهدى الله وحده فلا يكون لعدوه من سلطان عليه ، كما يملك أن ينحرف ولو قيد شعرة عن هدى الله إلى تعاليم غيره؛ فيجتاله الشيطان حتى يقذف به بعد أشواط - إلى مثل تلك الجاهلية الكالحة التي انتهت إليها ذراري آدم النبي المسلم بعد تلك الأجيال التي لا يعلمها إلا الله .
وهذه الحقيقة . . حقيقة أن أول عقيدة عرفت في الأرض هي الإسلام القائم على توحيد الدينونة والربوبية والقوامة لله وحده . . تقودنا إلى رفض كل ما يخبط فيه من يسمونهم « علماء الأديان المقارنة » وغيرهم من التطوريين الذين يتحدثون عن التوحيد بوصفه طوراً متاخراً من أطوار العقيدة .

سبقته أطوار شتى من التعدد والتثنيه للآلهة . ومن تأليه القوى الطبيعية وتأليه الأرواح ، وتأليه الشموس والكواكب . . إلى آخر ما تخبط فيه هذه « البحوث » التي تقوم ابتداء على منهج موجه بعوامل تاريخية ونفسية وسياسية معينة؛ يهدف إلى تحطيم قاعدة الأديان السماوية والوحي الإلهي والرسالات من عند الله وإثبات أن الأديان من صنع البشر؛ وأنها من ثم تطورت بتطور الفكر البشري على مدار الزمان
وينزلق بعض من يكتبون عن الإسلام مدافعين؛ فيتابعون تلك النظريات التي يقررها الباحثون في تاريخ الأديان وفق ذلك المنهج الموجه من حيث لا يشعرون وبينما هم يدافعون عن الإسلام متحمسين يحطمون أصل الإعتقاد الإسلامي الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم . حين يقرر أن آدم عليه السلام هبط إلى الأرض بعقيدة الإسلام . وأن نوحاً عليه السلام واجه ذراري آدم الذين اجتالهم الشيطان عن الإسلام إلى الجاهلية الوثنية بذلك الإسلام نفسه . . القائم على التوحيد المطلق . . وأن الدورة تجددت بعد نوح فخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية؛ وأن الرسل جميعاً أرسلوا بعد ذلك بالإسلام . . القائم على التوحيد المطلق . . وإنه لم يكن قط تطور في العقيدة السماوية في أصل الإعتقاد إنما كان الترقي والتركيب والتوسع في الشرائع المصاحبة للعقيدة الواحدة وأن ملاحظة ذلك التطور في العقائد الجاهلية لا يدل على أن الناس صاروا إلى التوحيد بناء على تطور في أصل العقيدة . إنما يدل على أن عقيدة التوحيد على يد كل رسول كانت تترك رواسب في الأجيال التالية حتى بعد انجراف الأجيال عنها ترقي عقائدهم الجاهلية ذاتها؛ حتى تصير أقرب إلى أصل التوحيد الرباني . أما عقيدة التوحيد في أصلها فهي أقدم في تاريخ البشرية من العقائد الوثنية جميعاً وقد وجدت هكذا كاملة منذ وجدت ، لأنها ليست نابعة من أفكار البشرومعلوماتها المترقية؛ إنما هي آتية لهم من عند الله سبحانه . فهي حق منذ اللحظة الأولى ، وهي كاملة منذ اللحظة الأولى . .
هذا ما يقرره القرآن الكريم؛ ويقوم عليه التصور الإسلامي . فلا مجال إذن لباحث مسلم وبخاصة إذا كان يدافع عن الإسلام أن يعدل عن هذا الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم ، إلى شيء مما تخبط فيه نظريات علم الأديان المقارنة . تلك النظريات النابعة من منهج موجه كما أسلفنا
ومع أننا هنا في ظلال القرآن لا نناقش الأخطاء والمزالق في الكتابات التي تكتب عن الإسلام إذ أن مجال هذه المناقشة بحث آخر مستقل . . ولكننا بنموذج واحد ، نعرضه في مواجهة المنهج القرآني والتقريرات القرآنية في هذه القضية . .
كتب الأستاذ العقاد في كتابه : « الله » في فصل أصل العقيدة :
.

. « ترقى الإنسان في العقائد . كما ترقى في العلوم والصناعات .
فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى ، وكذلك كانت علومه وصناعاته . فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الديانات والعبادات ، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى .
وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات . لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلباً وأطول طريقاً من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى .
وقد جهل الناس شأن الشمس الساطعة ، وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان ، ولبثوا إلى زمن قريب يقولون بدورانها حول الأرض ، ويفسرون حركاتها وعوارضها كما يفسر الألغاز والأحلام . ولم يخطر لأحد أن ينكر وجود الشمس لأن العقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام . ولعلها لا تزال .
فالرجوع إلى أصل الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين ، ولا على أنها تبحث عن محال . وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة شاملة في عصر واحد؛ وأن الناس يستعدون لعرفانها عصراً بعد عصر ، وطوراً بعد طور . واسلوباً بعد أسلوب ، كما يستعدون لعرفان الحقائق الصغرى ، بل على نحو أصعب وأعجب من استعدادهم لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل ويتناولها الحس والعيان .
وقد أسفر علم المقابلة بين الأديان عن كثير من الضلالات والأساطير التي آمن بها الإنسان الأول ، ولا تزال لها بقية شائعة بين القبائل البدائية ، أو بين أمم الحضارة العريقة . ولم يكن من المنظور أن يسفر هذا العلم عن شيء غير ذلك ، ولا أن تكون الديانات الأولى على غير ما كانت عليه من الضلالة والجهالة . فهذه هي وحدها النتيجة المعقولة التي لا يترقب العقل نتيجة غيرها . وليس في هذه النتيجة جديد يستغربه العلماء ، أو يبنون عليه جديداً في الحكم على جوهر الدين . فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الأديان البدائية ليثبت أن الأولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء ، إنما يبحث عن محال . . . » .
كذلك كتب في فصل : « أطوار العقيدة الإلهية » في الكتاب نفسه :
« يعرف علماء المقابلة بين الأديان ثلاث أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية فى اعتقادها بالآلهة والأرباب :
وهى دور التعدد Polytheism
ودور التمييز والترجيح Henotheism
ودور الوحدانيةMonotheism
» ففى دور التعدد كانت القبائل الأولى تتخذ لها أرباباً تعد بالعشرات ، وقد تتجاوز العشرات إلى المئات . ويوشك فى هذا الدور أن يكون لكل أسرة كبيرة رب تعبده ، أو تعويذة تنوب عن الرب فى الحضور ، وتقبل الصلوات والقرابين .
« وفى الدور الثانى وهو دور التمييز والترجيح تبقى الأرباب على كثرتها ، ويأخذ رب منها فى البروز والرجحان على سائرها .

إما لأنه رب القبيلة الكبرى التى تدين لها القبائل الأخرى بالزعامة ، وتعتمد عليها فى شؤون الدفاع والمعاش ، وإما لأنه يحقق لعباده جميعاً مطلباً أعظم وألزم من سائر المطالب التى تحققها الأرباب المختلفة ، كأن يكون رب المطر والإقليم فى حاجة إليه ، أو رب الزوابع والرياح وهى موضع رجاء أو خشية يعلو على موضع الرجاء والخشية عند الأرباب القائمة على تسيير غيرها من العناصر الطبيعة .
« وفي الدور الثالث تتوحد الأمة ، فتتجمع إلى عبادة واحدة تؤلف بينها مع تعدد الأرباب في كل إقليم من الأقاليم المتفرقة . ويحدث في هذا الدور أن تفرض الأمة عبادتها على غيرها كما تفرض عليها سيادة تاجها وصاحب عرشها ، ويحدث أيضاً أن ترضى من إله الأمة المغلوبة بالخضوع لإلها ، مع بقائه وبقاء عبادته كبقاء التابع للمتبوع ، والحاشية للملك المطاع .
» ولا تصل الأمة إلى هذه الوحدانية الناقصة إلاّ بعد أطوار من الحضارة تشيع فيها المعرفة ، ويتعذّر فيها على العقل قبول الخرافات التي كانت سائغة في عقول الهمج وقبائل الجاهلية ، فتصف الله بما هو أقرب إلى الكمال والقداسة من صفات الآلهة المتعددة في أطوارها السابقة ، وتقترن العبادة بالتفكير في أسرار الكون وعلاقتها بإرادة الله وحكمته العالية ، وكثيراً ما يتفرد الإله الأكبر في هذه الأمم بالربوبية الحقة ، وتنزل الأرباب الأخرى إلى مرتبة الملائكة أو الأرباب المطرودين من الحظيرة السماوية . . « الخ .
وواضح سواء من رأي الكاتب نفسه أو مما نقله ملخصاً من آراء علماء الدين المقارن ان البشر هم الذين ينشئون عقائدهم بأنفسهم؛ ومن ثم تظهر فيها أطوارهم العقلية والعلمية والحضارية والسياسية . وأن التطور من التعدد إلى التثنية إلى التوحيد تطور زمني مطرد على الإجمال . .
وهذا واضح من الجملة الأولى في تقديم المؤلف لكتابه : » موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية ، منذ أن اتخذ الإنسان رباً ، إلى أن عرف الله الأحد ، واهتدى إلى نزاهة التوحيد « . .
والذي لا شك فيه أن الله سبحانه يقرر في كتابه الكريم ، تقريراً واضحاً جازماً ، شيئاً آخر غير ما يقرره صاحب كتاب : » الله « متأثراً فيه بمنهج علماء الأديان المقارنة . . وأن الذي يقرره الله سبحانه أن آدم وهو أول البشر عرف حقيقة التوحيد كاملة ، وعرف نزاهة التوحيد غير مشوبة بشائبة من التعدد والتثنية ، وعرف الدينونة لله وحده باتباع ما يتلقى منه وحده . وأنه عرّف بنيه بهذه العقيدة ، فكانت هنالك أجيال في أقدم تاريخ البشرية لا تعرف إلا الإسلام ديناً ، وإلا التوحيد عقيدة . . وأنه لما طال الأمد على الأجيال المتتابعة من ذرية آدم انحرفت عن التوحيد . . ربما إلى التثنية وربما إلى التعدد . . ودانت لشتى الأرباب الزائفة . . . حتى جاءها نوح عليه السلام بالتوحيد من جديد . وأن الذين بقوا على الجاهلية أغرقهم الطوفان جميعاً؛ ولم ينج إلا المسلمون الموحدون الذين يعرفون » نزاهة التوحيد « وينكرون التعدد والتثنية وسائر الأرباب والعبادات الجاهلية ولنا أن نجزم أن أجيالاً من ذراري هؤلاء الناجين عاشت كذلك بالإسلام القائم على التوحيد المطلق .

قبل أن يطول عليهم الأمد ، ويعودوا إلى الإنحراف عن التوحيد من جديد . . وأنه هكذا كان شأن كل رسول : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } والذي لا شك فيه أن هذا شيء ، والذي يقرره علماء الأديان المقارنة ويتابعهم فيه مؤلف كتاب : « الله » شيء آخر . وبينهما تقابل تام في منهج النظر وفي النتائج التي ينتهي إليها . . وآراء الباحثين في تاريخ الأديان ليست سوى نظريات يعارض بعضها بعضاً ، فهي ليست الكلمة النهاية حتى في مباحث البشر الفانين
وما من شك أنه حين يقرر الله سبحانه أمراً يبينه في كتابه الكريم هذا البيان القاطع ، ويقرر غيره أمراً آخر مغايراً له تمام المغايرة ، فإن قول الله يكون أولى بالاتباع . بخاصة ممن يدافعون عن الإسلام؛ ويكتبون ما يكتبون بقصد دفع الشبهات عنه وعن أصل الدين جملة . . وأن هذا الدين لا يخدم بنقض قاعدته الإعتقادية في أن الدين جاء وحيا من عند الله ، ولم يبتدعه البشر من عند أنفسهم؛ و أنه جاء بالتوحيد منذ أقدم العصور ولم يجىء بغير التوحيد في أية فترة من فترات التاريخ ، ولا في أية رسالة . كما أنه لا يخدم بترك تقريراته إلى تقريرات علماء الأديان المقارنة وبخاصة حين يعلم أن هؤلاء إنما يعملون وفق منهج موجه لتدمير القاعدة الأساسية لدين الله كله؛ وهي أنه وحي من الله ، وليس من وحي الفكر البشري المترقي المتطور وليس وقفاً على ترقي العقل البشري في العلم المادي والخبرة التجريبية
ولعل هذه اللمحة المختصرة التي لا نملك الاستطراد فيها في كتاب الظلال تكشف لنا عن مدى الخطورة في تلقي مفهوماتنا الإسلامية في أي جانب من جوانبها عن مصدر غير إسلامي . كما تكشف لنا عن مدى تغلغل مناهج الفكر الغربية ومقرراتها في أذهان الذين يعيشون على هذه المناهج والمقررات ويستقون منها . حتى وهم يتصدون لرد الافتراءات عن الإسلام من أعدائه . . { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } ونقف وقفة أخرى مع قصة نوح . . نقف مع نوح وابنه الذي ليس من أهله
إنها وقفة على مَعلم واضح بارز في طبيعة هذه العقيدة وفي خطها الحركي أيضاً . . وقفة على مفرق الطريق تكشف معالم الطريق . .
{ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون . واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ، ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون . . . }
{ حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن ، وما آمن معه إلا قليل .

. . }
{ وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل : يا بني اركب معنا ، ولا تكن مع الكافرين . قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ، قال : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين . . }
{ ونادى نوح ربه ، فقال : رب إن ابني من أهلي ، وإن وعدك الحق ، وأنت أحكم الحاكمين . قال : يا نوح إنه ليس من أهلك ، إنه عمل غير صالح ، فلا تسألن ما ليس لك به علم ، إني أعظك أن تكون من الجاهلين . قال : رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ، وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين }
. . إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين ، وتتعلق بآفاق وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم .
إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب؛ وليست وشيجة الأرض والوطن ، وليست وشيجة القوم والعشيرة ، وليست وشيجة اللون واللغة ، وليست وشيجة الجنس والعنصر ، وليست وشيجة الحرفة والطبقة . . إن هذه الوشائج جميعها قد توجد ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد؛ كما قال الله سبحانه وتعالى لعبده نوح عليه السلام وهو يقول : { رب إن ابني من أهلي } . . { يا نوح إنه ليس من أهلك } ثم بين له لماذا يكون ابنه . . ليس من أهله . . { إنه عمل غير صالح } . . إن وشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما يا نوح : { فلا تسألن ما ليس لك به علم } فأنت تحسب أنه من أهلك ، ولكن هذا الحسبان خاطئ . أما المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك ، ولو كان هو ابنك من صلبك
وهذا هو الْمَعْلَم الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط ، وبين نظرات الجاهلية المتفرقة . . . إن الجاهليات تجعل الرابطة آنا هي الدم والنسب؛ وآناً هي الأرض والوطن ، وآناً هي القوم والعشيرة ، وآناً هي اللون واللغة ، وآناً هي الجنس والعنصر ، وآناً هي الحرفة والطبقة تجعلها آناً هي المصالح المشتركة ، أو التاريخ المشترك . أو المصير المشترك . . وكلها تصورات جاهلية على تفرقها أو تجمعها تخالف مخالفة أصيلة عميقة عن أصل التصور الإسلامي
والمنهج الرباني القويم ممثلاً في هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم وفي توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم وهي من هذا القرآن وعلى نسقه واتجاهه قد أخذ الأمة المسلمة بالتربية على ذلك الأصل الكبير . . والْمَعْلَم الواضح البارز في مفرق الطريق . .
وهذا المثل الذي يضربه في هذه السورة من نوح وابنه فما يكون بين الولد والوالد ، ضرب أمثاله لشتى الوشائج والروابط الجاهلية الأخرى ، ليقرر من وراء هذه الأمثال حقيقة الوشيجة الوحيدة التي يعتبرها .

.
* ضرب لها المثل فيما يكون بين الولد والوالد وذلك فيما كان بين إبراهيم عليه السلام وأبيه وقومه كذلك :
{ واذكر في الكتاب إبراهيم ، إنه كان صديقاً نبياً . إذ قال لأبيه : يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً؟ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك ، فاتبعني أهدك صراطاً سوياً . يا أبت لا تعبد الشيطان ، إن الشيطان كان للرحمن عصياً . يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً . . قال : أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟ لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً . قال سلام عليك سأستغفر لك ربي ، إنه كان بي حفياً ، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي ، عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً . فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبياً؛ ووهبنا لهم من رحمتنا ، وجعلنا لهم لسان صدق عليا } [ مريم : 41 50 ] .
* وضرب لها المثل فيما كان بين إبراهيم وذريته كما علمه الله سبحانه ولقنه ، وهو يعطيه عهده وميثاقه . ويبشره ببقاء ذكره وامتداد الرسالة في عقبه :
{ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ، فأتمهن ، قال : إني جاعلك للناس إماما ، قال : ومن ذريتي؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين . . } { وإذ قال إبراهيم : رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر . قال : ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } [ البقرة : 124 126 ]
* وضرب لها المثل فيما يكون بين الزوج وزوجه ، وذلك فيما كان بين نوح وامرأته ، و لوط وامرأته . وفي الجانب الآخر ما كان بين امرأة فرعون و فرعون :
{ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط ، كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين ، فخانتاهما ، فلم يغنيا عنهما من الله شيئا ، وقيل : ادخلا النار مع الداخلين } { وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون ، إذ قالت : رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ، ونجني من فرعون وعمله ، ونجني من القوم الظالمين } [ التحريم : 10 11 ]
* وضربَ لها المثل فيما يكون بين المؤمنين وأهلهم وقومهم ووطنهم وأرضهم وديارهم وأموالهم ، ومصالحهم وماضيهم ومصيرهم . وذلك فيما كان بين إبراهيم والمؤمنين به مع قومهم . وما كان من الفتية أصحاب الكهف مع أهلهم وقومهم ودورهم وأرضهم . . .
{ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ، إذ قالوا لقومهم : إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده . . . } [ الممتحنة : 4 ] .
{ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً؟ إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا : ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشداً ، فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً ، ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً ، نحن نقص عليك نبأهم بالحق ، إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ، وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا : ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذن شططاً . هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة . لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً؟ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً }

[ الكهف : 9 16 ] .
وبهذه الأمثلة التي ضربها الله للأمة المسلمة من سيرة الرهط الكريم من الأنبياء والمؤمنين . الذين سبقوها في موكب الإيمان الضارب في شعاب الزمان ، وضحت معالم الطريق لهذه الأمة؛ وقام هذا المَعْلَم البارز أمامها عن حقيقة الوشيجة التي يجب أن يقوم عليها المجتمع المسلم ، ولا يقوم على سواها . وطالبها ربها بالإستقامة على الطريق في حسم ووضوح يتمثلان في مواقف كثيرة ، وفي توجيهات من القرآن كثيرة . . هذه نماذج منها . .
{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، أولئك حزب الله ، ألا إن حزب الله هم المفلحون } [ المجادلة : 22 ] { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ، وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم ، إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي ، تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } [ الممتحنة : 1 ]
{ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم ، والله بما تعملون بصير ، قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه . . . الخ } [ الممتحنة : 3 4 ] { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } [ التوبة : 23 ] .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [ المائدة : 51 ] .
وهكذا تقررت تلك القاعدة الأصيلة الحاسمة في علاقات المجتمع الإسلامي؛ وفي طبيعة بنائه وتكوينه العضوي الذي يتميز به عن سائر المجتمعات الجاهلية قديماً وحديثاً إلى آخر الزمان . ولم يعد هناك مجال للجمع بين « الإسلام » وبين إقامة المجتمع على أية قاعدة أخرى غير القاعدة التي اختارها الله للأمة المختارة .

والذين يدعون صفة الإسلام ، ثم يقيمون مجتمعاتهم على قاعدة أو أكثر من تلك العلاقات الجاهلية التي أحل الإسلام محلها قاعدة العقيدة ، إما أنهم لا يعرفون الإسلام؛ وإما أنهم يرفضونه . والإسلام في كلتا الحالتين لا يعترف لهم بتلك الصفة التي يدعونها لأنفسهم وهم لا يطبقونها ، بل يختارون غيرها من مقومات الجاهلية فعلاً
وندع هذه القاعدة وقد صارت واضحة تماماً لننظر في جوانب من حكمة الله في إقامة المجتمع الإسلامي على هذه القاعدة . .
* إن العقيدة تمثل أعلى خصائص « الإنسان » التي تفرقه من عالم البهيمة؛ لأنها تتعلق بالعنصر الزائد في تركيبه وكينونته عن تركيب البهيمة وكينونتها وهو العنصر الروحي الذي به صار هذا المخلوق إنساناً في هذه الصورة وحتى أشد الملحدين إلحاداً وأكثر الماديين مادية ، قد انتبهوا أخيراً إلى أن العقيدة خاصة من خواص الإنسان تفرقه فرقاً أساسياً عن الحيوان .
ومن ثم ينبغي أن تكون العقيدة في المجتمع الإنساني الذي يبلغ ذروة الحضارة الإنسانية هي آصرة التجمع . لأنها العنصر الذي يتعلق بأخص خصائص الإنسان المميزة له عن البهائم . ولا تكون آصرة التجمع عنصراً يتعلق بشيء يشترك فيه الإنسان مع البهائم من مثل الأرض والمرعى والمصالح والحدود التي تمثل خواص الحظيرة ، وسياج الحظيرة ولا تكون كذلك هي الدم والنسب والعشيرة والقوم والجنس والعنصر واللون واللغة . . فكلها مما يشترك فيه الإنسان مع البهيمة . وليس هناك إلا شؤون العقل و القلب التي يختص بها الإنسان دون البهيمة
* كذلك تتعلق العقيدة بعنصر آخر يتميز به الإنسان عن البهائم . . هو عنصر الاختيار والإرادة ، فكل فرد على حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ سن الرشد؛ وبذلك يقرر نوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه مختاراً؛ ونوع المنهج الاعتقادي والاجتماعي والسياسي والإقتصادي والخلقي الذي يريد بكامل حريته أن يتمذهب به ويعيش . .
ولكن هذا الفرد لا يملك أن يقرر دمه ونسبه ولونه وقومه وجنسه . كما لا يملك أن يقرر الأرض التي يحب أن يولد فيها ، ولغة الأم التي يريد أن ينشأ عليها . . إلى آخر تلك المقومات التي تقام عليها مجتمعات الجاهلية . . إن هذه الأمور كلها يقضى فيها قبل مجيئه إلى هذه الأرض ، ولا يؤخذ له فيها مشورة ولا رأي؛ إنما هي تفرض عليه فرضاً سواء أحب أم كره فإذا تعلق مصيره في الدنيا والآخرة معاً أو حتى في الدنيا وحدها بمثل هذه المقومات التي تفرض عليه فرضاً لم يكن مختاراً ولا مريداً؛ وبذلك تسلب إنسانيته مقوماً من أخص مقوماتها؛ وتهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم الإنسان؛ بل من قواعد تركيبه وتكوينه الإنساني المميز له من سائر الخلائق
ومن أجل المحافظة على خصائص الإنسان الذاتية ، والمحافظة على الكرامة التي وهبها الله له متمشية مع تلك الخصائص؛ يجعل الإسلام العقيدة التي يملك كل فرد اختيارها بشخصه منذ أن يبلغ سن الرشد هي الآصرة التي يقوم عليها التجمع الإنساني في المجتمع الإسلامي؛ والتي يتقرر على أساسها مصير كل فرد بإرادته الذاتية .

وينفي أن تكون تلك العوامل الاضطرارية ، التي لا يد له فيها ، ولا يملك كذلك تغييرها باختياره ، هي آصرة التجمع التي تقرر مصيره طول حياته .
* ومن شأن قيام المجتمع على آصرة العقيدة وعدم قيامه على العوامل الاضطرارية الأخرى أن ينشئ مجتمعاً إنسانياً عالمياً مفتوحاً؛ يجيء إليه الأفراد من شتى الأجناس والألوان واللغات والأقوام والدماء والأنساب والديار والأوطان بكامل حريتهم واختيارهم الذاتي؛ لا يصدهم عنه صاد ، ولا يقوم في وجوههم حاجز ، ولا تقف دونه حدود مصطنعة ، خارجة عن خصائص الإنسان العليا . وأن تصب في هذا المجتمع كل الطاقات والخواص البشرية ، وتجتمع في صعيد واحد ، لتنشىء « حضارة إنسانية » تنتفع بكل خصائص الأجناس البشرية؛ و لا تغلق دون كفاية واحدة ، بسبب من اللون أو العنصر أو النسب والأرض . . .
« ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية؛ ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها ، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة ، والحدود الإقليمية السخيفة ولإبراز » خصائص الإنسان « في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها ، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان . . كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعاً مفتوحاً لجميع الأجناس والألوان واللغات ، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها ، وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت ، وأنشأت مركباً عضوياً فائقاً في فترة تعد نسبياً قصيرة . وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة ، تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة ، على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان . »
« لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق : العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونيسي والإفريقي . . . إلى آخر الأقوام والأجناس . . . وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية . ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوماً ما » عربية « إنما كانت دائماً » إسلامية « ولم تكن يوماً ما » قومية « إنما كانت دائماً » إسلامية « و لم تكن يوماً ما » قومية « إنما كانت دائماً » عقيدية « .
» ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة ، وبآصرة الحب . وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة . فبذلوا جميعاً أقصى كفاياتهم ، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم ، وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية فى بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعاً على قدم المساواة ، وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد ، وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق .

وهذا ما لم يجتمع قط لأى تجمع آخر على مدار التاريخ
« لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلاً . فقد جمعت بالفعل أجناساً متعددة ، ولغات متعددة ، وألواناً متعددة ، وأمزجة متعددة . ولكن هذا كله لم يقم على » آصرة إنسانية « ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة . . لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية؛ وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني بصفة عامة وعبودية سائر الأجناس الأخرى . ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي؛ ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي . »
« كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى . . تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلاً . . ولكنه كان كالتجمع الروماني ، الذي هو وريثه تجمعاً قومياً استغلالياً ، يقوم على أساس سيادة القومية الانجليزية ، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية . . ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها . . الإمبراطورية الإسبانية والبرتغالية في وقت ما ، والإمبراطورية الفرنسية . . كلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعاً من نوع آخر ، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون . ولكنها لم تقمه على قاعدة » إنسانية « عامة ، إنما أقامته على القاعدة » الطبقية « . فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم . . هذا تجمع قاعدة طبقة » الأشراف « وذلك تجمع على قاعدة طبقة » الصعاليك « ( البروليتريا ) ؛ والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى وما كان لمثل هذا التجمع الصغير البغيض أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني . . فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها . باعتبار أن » المطالب الأساسية « للإنسان هي » الطعام والمسكن والجنس « وهي مطالب الحيوان الأولية وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام »
« لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني . . وما يزال متفرداً . . والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر ، يقوم على أية قاعدة أخرى ، من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة . . إلى آخر هذا النتن السخيف ، هم أعداء » الإنسان « حقاً هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله؛ ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع باقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق » .
* ويحسن أن نذكر أن أعداء هذا الدين ، الذين يعرفون مواضع القوة في طبيعته وحركته؛ وهم الذين يقول الله تعالى فيهم :

{ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } لم يفتهم أن يدركوا أن التجمع على أساس العقيدة سر من أسرار قوة هذا الدين ، وقوة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على هذا الأساس . . ولما كانوا بصدد هدم ذلك المجتمع أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه؛ وشفاء ما في صدورهم من هذا الدين وأهله؛ ولاستغلالهم كذالك و استغلال مقدراتهم وديارهم وأموالهم . . لما كانوا بصدد تلك المعركة مع هذا المجتمع لم يفتهم أن يوهنوا من القاعدة التي يقوم عليها؛ وأن يقيموا لأهله المجتمعين على إله واحد ، أصناماً تعبد من دون الله ، اسمها تارة « الوطن » واسمها تارة « القوم » واسمها تارة « الجنس » . وظهرت هذه الأصنام على مراحل التاريخ تارة باسم « الشعوبية » وتارة باسم « الجنسية الطورانية » وتارة باسم « القومية العربية » وتارة بأسماء شتى ، تحملها جبهات شتى ، تتصارع فيما بينها في داخل المجتمع الإسلامي الواحد القائم على أساس العقيدة ، المنظم بأحكام الشريعة . . إلى أن وهنت القاعدة الأساسية تحت المطارق المتوالية ، وتحت الإيحاءات الخبيثة المسمومة؛ وإلى أن أصبحت تلك « الأصنام » مقدسات يعتبر المنكر لها خارجاً على دين قومه أو خائناً لمصالح بلده
وأخبث المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القاعدة الصلبة التي كان يقوم عليها التجمع الإسلامي الفريد في التاريخ . . كان هو المعسكر اليهودي الخبيث ، الذي جرب سلاح « القومية » في تحطيم التجمع المسيحي ، و تحويله إلى قوميات سياسية ذات كنائس قومية . . وبذلك حطموا الحصار المسيحي حول الجنس اليهودي؛ ثم ثنوا بتحطيم الحصار الإسلامي حول ذلك الجنس الكنود
وكذلك فعل الصليبيون مع المجتمع الإسلامي بعد جهد قرون كثيرة في إثارة النعرات الجنسية والقومية والوطنية بين الأجناس الملتحمة في المجتمع الإسلامي . . ومن ثم استطاعوا أن يرضوا أحقادهم الصليبية القديمة على هذا الدين وأهله . كما استطاعوا أن يمزقوهم ويروضوهم على الإستعمار الأوروبي الصليبي . وما يزالون . . حتى يأذن الله بتحطيم تلك الأصنام الخبيثة الملعونة؛ ليقوم التجمع الإسلامي من جديد ، على أساسه المتين الفريد . .
* وأخيراً فإن الناس ما كانوا ليخرجوا من الجاهلية الوثنية بكلياتهم حتى تكون العقيدة وحدها هي قاعدة تجمعهم . ذلك أن الدينونة لله وحده لا تتم تمامها إلا بقيام هذه القاعدة في تصورهم وفي تجمعهم .
يجب أن تكون هناك قداسة واحدة لمقدس واحد ، وألا تتعدد « المقدسات » ويجب ان يكون هناك شعار واحد ، وألا تتعدد « الشعارات » ويجب أن تكون هناك قبلة واحدة يتجه إليها الناس بكلياتهم وألا تتعدد القبلات والمتجهات . .
إن الوثنية ليست صورة واحدة هي وثنية الأصنام الحجرية والآلهة الأسطورية إن الوثنية يمكن أن تتمثل في صور شتى؛ كما أن الأصنام يمكن أن تتخذ صوراً متعددة؛ وآلهة الأساطير يمكن أن تتمثل مرة أخرى في المقدسات والمعبودات من دون الله أياً كانت أسماؤها .

وأياً كانت مراسمها .
وما كان الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية والأرباب الأسطورية ، ثم يرضى لهم بعد ذلك أصنام الجنسيات والقوميات والأوطان . . وما إليها . . يتقاتل الناس تحت راياتها وشعاراتها . وهو يدعوهم إلى الله وحده ، وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه
لذلك قسم الإسلام الناس إلى أمتين اثنتين على مدار التاريخ البشري . . أمة المسلمين من أتباع الرسل كل في زمانه حتى يأتي الرسول الأخير إلى الناس كافة وأمة غير المسلمين من عبدة الطواغيت والأصنام في شتى الصور والأشكال على مدار القرون . .
وعندما أراد الله أن يعرف المسلمين بأمتهم التي تجمعهم على مدار القرون ، عرفها لهم في صورة أتباع الرسل كل في زمانه وقال لهم في نهاية استعراض أجيال هذه الأمة : { إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } ولم يقل للعرب : إن أمتكم هي الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها سواء ولا قال لليهود : إن أمتكم هي بنو إسرائيل أو العبرانيون في جاهليتهم وإسلامهم سواء ولا قال لسلمان الفارسي : إن أمتك هي فارس ولا لصهيب الرومي : إن أمتك هي الرومان ولا لبلال الحبشي : إن أمتك هي الحبشة إنما قال للمسلمين من العرب والفرس والروم والحبش : إن أمتكم هي المسلمون الذين أسلموا حقاً على أيام موسى وهارون ، وإبراهيم ، ولوط ، ونوح ، وداود وسليمان ، وأيوب ، وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون ، وزكريا ويحيى ، ومريم . . كما جاء في سورة الأنبياء : [ آيات 48 91 ] .
هذه هي أمة « المسلمين » في تعريف الله سبحانه . . فمن شاء له طريقاً غير طريق الله فليسلكه . ولكن ليقل : إنه ليس من المسلمين أما نحن الذين اسلمنا لله ، فلا نعرف لنا أمة إلا الأمة التي عرفها لنا الله . والله يقص الحق وهو خير الفاصلين . .
وحسبنا هذا القدر مع إلهامات قصة نوح في هذه القضية الأساسية في هذا الدين .
ثم نقف الوقفة الأخيرة مع قصة نوح لنرى قيمة الحفنة المسلمة في ميزان الله سبحانه :
إن حفنة من المسلمين من أتباع نوح عليه السلام ، تذكر بعض الروايات انهم اثنا عشر ، هم كانوا حصيلة دعوة نوح في ألف سنة إلا خمسين عاماً كما يقرر المصدر الوحيد المستيقن الصحيح في هذا الشأن . .
إن هذه الحفنة وهي ثمرة ذلك العمر الطويل والجهد الطويل قد استحقت أن يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون؛ وأن يجري لها ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء وكل حي في المعمور وقتها من الأرض
وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هي وارثة الأرض بعد ذلك ، وبذرة العمران فيها والإستخلاف من جديد . .
. . وهذا أمر خطير . .
إن طلائع البعث الإسلامي التي تواجه الجاهلية الشاملة في الأرض كلها؛ والتي تعاني الغربة في هذه الجاهلية والوحشة؛ كما تعاني من الأذى والمطاردة والتعذيب والتنكيل .

. إن هذه الطلائع ينبغي أن تقف طويلاً أمام هذا الأمر الخطير ، وأمام دلالته التي تستحق التدبر والتفكير
إن وجود البذرة المسلمة في الأرض شيء عظيم في ميزان الله تعالى . . شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر الجاهلية وأرضها وعمرانها ومنشآتها وقواها ومدخراتها جميعاً؛ كما يستحق منه سبحانه ان يكلأ هذه البذرة ويرعاها حتى تسلم وتنجو وترث الأرض وتعمرها من جديد
لقد كان نوح عليه السلام يصنع الفلك بأعين الله ووحيه ، كما قال تعالى : { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } . .
وعندما لجأ نوح إلى ربه والقوم يطاردونه ويزجرونه ويفترونه عليه كما قال الله تعالى في سورة القمر :
{ كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر . فدعا ربه أني مغلوب فانتصر } عندما لجأ نوح إلى ربه يعلن أنه { مغلوب } ويدعو ربه أن « ينتصر » هو وقد غُلب رسوله . . عندئذ أطلق الله القوى الكونية الهائلة لتكون في خدمة عبده المغلوب :
{ ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر . وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر } وبينما كانت تلك القوى الهائلة تزاول عملها على هذا المستوى الكوني الرائع الموهوب . . كان الله سبحانه بذاته العلية مع عبده المغلوب :
{ وحملناه على ذات ألواح ودسر . تجري بأعيننا . . جزاء لمن كان كفر . . } هذه هي الصورة الهائلة التي يجب أن تقف طلائع البعث الإسلامي في كل مكان وفي كل زمان أمامها حين تطاردها الجاهلية؛ وحين « تغلبها » الجاهليه
إنها تستحق أن يسخر الله لها القوى الكونية الهائلة . . وليس من الضروري أن تكون هي الطوفان . فما الطوفان إلا صورة من صور تلك القوى { وما يعلم جنود ربك إلا هو } وإنه ليس عليها إلا أن تثبت وتستمر في طريقها؛ وإلا أن تعرف مصدر قوتها وتلجأ إليه؛ وإلا أن تصبر حتى يأتي الله بأمره ، وإلا أن تثق أن وليها القدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء . وأنه لن يترك أولياءه إلى أعدائه ، إلا فترة الإعداد والابتلاء؛ وأنها متى اجتازت هذه الفترة فإن الله سيصنع لها وسيصنع بها في الأرض ما يشاء .
وهذه هي عبرة الحادث الكوني العظيم . .
إنه لا ينبغي لأحد يواجه الجاهلية بالإسلام أن يظن أن الله تاركه للجاهلية وهو يدعو إلى إفراد الله سبحانه بالربوبية . كما أنه لا ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى الجاهلية فيظن أن الله تاركه لهذه القوى و هو عبده الذي يستنصر به فيدعوه : { أني مغلوب فانتصر } إن القوى في حقيقتها ليست متكافئة و لا متقاربة . . إن الجاهلية تملك قواها . . و لكن الداعي إلى الله يستند إلى قوة الله .

و الله يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية - حينما يشاء و كيفما يشاء وأيسر هذه القوى يدمر على الجاهلية من حيث لا تحتسب
وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده الله . . ولقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً؛ قبل أن يأتي الأجل الذي قدره الله . ولم تكن حصيلة هذه الفترة الطويلة إلا اثني عشر مسلماً . . ولكن هذه الحفنة من البشر كانت في ميزان الله تساوي تسخير تلك القوى الهائلة ، والتدمير على البشرية الضالة جميعاً ، وتوريث الأرض لتلك الحفنة الطيبة تعمرها من جديد وتستخلف فيها . .
إن عصر الخوارق لم يمض فالخوارق تتم في كل لحظة وفق مشيئة الله الطليقة ولكن الله يستبدل بأنماط من الخوارق أنماطاَ أخرى ، تلائم واقع كل فترة ومقتضياتها . وقد تدِق بعض الخوارق على بعض العقول فلا تدركها؛ ولكن الموصولين بالله يرون يد الله دائماً ، ويلابسون آثارها المبدعة .
والذين يسلكون السبيل إلى الله ليس عليهم إلا أن يؤدوا واجبهم كاملاً ، بكل ما في طاقتهم من جهد؛ ثم يدَعوا الأمور لله في طمأنينة وثقة . وعندما يُغلبون عليهم أن يلجأوا إلى الناصر المعين وأن يجأروا إليه كما جأر عبده الصالح نوح : { فدعا ربه أني مغلوب ، فانتصر } ثم ينتظروا فرج الله القريب . وانتظار الفرج من الله عبادة؛ فهم على هذا الانتظار مأجورون .
ومرة أخرى نجد أن هذا القرآن لا يكشف عن أسراره إلا للذين يخوضون به المعركة ويجاهدون به جهاداً كبيراً . . إن هؤلاء وحدهم هم الذين يعيشون في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن؛ ومن ثم يتذوقونه ويدركونه؛ لأنهم يجدون أنفسهم مخاطبين خطاباً مباشراً به ، كما خوطبت به الجماعة المسلمة الأولى ، فتذوقته وأدركته وتحركت به . .
. . والحمد لله في الأولى والآخرة . .

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)

مضى قوم نوح في التاريخ ، الأكثرون المكذبون طواهم الطوفان وطواهم التاريخ؛ واستبعدوا من الحياة ومن رحمة الله سواء ، والناجون استخلفوا في الأرض تحقيقاً لسنة الله ووعده : { إن العاقبة للمتقين } ولقد كان وعد الله لنوح : { يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم } فلما دارت عجلة الزمن ومضت خطوات التاريخ جاء وعد الله . وإذا عاد من نسل نوح الذين تفرقوا في البلاد ومن بعدهم ثمود ممن حقت عليهم كلمة الله : { وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم } لقد عادت الجاهلية مرة أخرى كما عادت من قبل بعد أجيال لا يعلمها إلا الله من المسلمين من ذرية آدم . . فلا بد أن أجيالاً من ذرية آدم بعد استخلافه في الأرض قد ولدت مسلمة وعاشت بالإسلام الذي كان عليه أبواهم . حتى اجتالتهم الشياطين عن دينهم ، وانحرفت بهم إلى الجاهلية التي واجهها نوح عليه السلام ثم جاء نوح فنجا معه من نجا من المسلمين ، وأهلك الباقون ولم يعد على الأرض من الكافرين ديار كما دعا نوح ربه . ولا بد أن أجيالاً كثيرة من ذرية نوح عاشت بالإسلام بعده . . حتى اجتالتهم الشياطين مرة أخرى فانحرفوا كذلك إلى الجاهلية . وكانت عاد وكانت ثمود بعدها من أمم الجاهلية . .
فأما عاد فكانوا قبيلة تسكن الأحقاف ( والحقف كثيب الرمل المائل ) في جنوب الجزيرة العربية ، وأما ثمود فكانت قبيلة تسكن مدائن الحِجر في شمال الجزيرة بين تبوك والمدينة وبلغت كل منهما في زمانها أقصى القوة والمنعة والرزق والمتاع . . ولكن هؤلاء وهؤلاء كانوا ممن حقت عليهم كلمة الله ، بما عتوا عن أمر الله ، واختاروا الوثنية على التوحيد ، والدينونة للعبيد على الدينونة لله ، وكذبوا الرسل شر تكذيب . وفي قصصهم هنا مصداق ما في مطلع السورة من حقائق وقضايا كقصة نوح .
{ وإلى عاد أخاهم هوداً قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، إن أنتم إلا مفترون . يا قوم لا أسألكم عليه أجراً . إن أجري إلا على الذي فطرني . أفلا تعقلون؟ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، يرسل السماء عليكم مدراراً ، ويزدكم قوة إلى قوتكم ، ولا تتولوا مجرمين } . .
وكان هود من عاد . فهو أخوهم . واحد منهم ، تجمعه كانت آصرة القربى العامة بين أفراد القبيلة الواحدة . وتبرز هذه الآصرة هنا في السياق ، لأن من شأنها أن تقوم الثقة والتعاطف والتناصح بين الأخ وإخوته ، وليبدو موقف القوم من أخيهم ونبيهم شاذاً ومستقبحاً ثم لتقوم المفاصلة في النهاية بين القوم وأخيهم على أساس إفتراق العقيدة . ويبرز بذلك معنى إنقطاع الوشائج كلها حين تنقطع وشيجة العقيدة .

لتتفرد هذه الوشيجة وتبرز في علاقات المجتمع الإسلامي ، ثم لكي تتبين طبيعة هذا الدين وخطه الحركي . . فالدعوة به تبدأ والرسول وقومه من أمة واحدة تجمع بينه وبينها أواصر القربى والدم والنسب والعشيرة والأرض . . . ثم تنتهي بالإفتراق وتكوين أمتين مختلفتين من القوم الواحد . . أمة مسلمة وأمة مشركة . . وبينهما فُرقة ومفاصلة . . وعلى أساس هذه المفاصلة يتم وعد الله بنصر المؤمنين وإهلاك المشركين . ولا يجيء وعد الله بهذا ولا يتحقق إلا بعد أن تتم المفاصلة ، وتتم المفارقة ، وتتميز الصفوف ، وينخلع النبي والمؤمنون معه من قومهم ، ومن سابق روابطهم ووشائجهم معهم ، ويخلعوا ولاءهم لقومهم ولقيادتهم السابقة ، ويعطوا ولاءهم كله لله ربهم ولقيادتهم المسلمة التي دعتهم إلى الله وإلى الدينونة له وحده وخلع الدينونة للعباد . . وعندئذٍ فقط لا قبله يتنزل عليهم نصر الله . .
{ وإلى عاد أخاهم هودا } . .
أرسلناه إليهم كما أرسلنا نوحاً إلى قومه في القصة السابقة .
{ قال : يا قوم } . .
بهذا التودد ، والتذكير بالأواصر التي تجمعهم ، لعل ذلك يستشير مشاعرهم ويحقق اطمئنانهم إليه فيما يقول . فالرائد لا يكذب أهله ، والناصح لا يغش قومه .
{ قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } . .
القولة الواحدة التي جاء بها كل رسول وكانوا قد انحرفوا كما أسلفنا عن عبادة الله الواحد التي هبط بها المؤمنون مع نوح من السفينة . ولعل أول خطوة في هذا الإنحراف كانت هي تعظيم ذكرى الفئة المؤمنة القليلة التي حملت في السفينة مع نوح ثم تطور هذا التعظيم جيلاً بعد جيل فإذا أرواحهم المقدسة تتمثل في أشجار وأحجار نافعة؛ ثم تتطور هذه الأشياء فإذا هي معبودات ، وإذا وراءها كهنة وسدنة يعبّدون الناس للعباد منهم باسم هذه المعبودات المدعاة في صورة من صور الجاهلية الكثيرة . ذلك أن الإنحراف خطوة واحدة عن نهج التوحيد المطلق . الذي لا يتجه بشعور التقديس لغير الله وحده ولا يدين بالعبودية إلا لله وحده . . الإنحراف خطوة واحدة لا بد أن تتبعه مع الزمان خطوات وانحرافات لا يعلم مداها إلا الله .
على أية حال لقد كان قوم هود مشركين لا يدينون لله وحده بالعبودية ، فإذا هو يدعوهم تلك الدعوة التي جاء بها كل رسول :
{ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } . . { إن أنتم إلا مفترون } . .
مفترون فيما تعبدونه من دون الله ، وفيما تدعونه من شركاء لله .
ويبادر هود ليوضح لقومه أنها دعوة خالصة ونصيحة ممحضة ، فليس له من ورائها هدف . وما يطلب على النصح والهداية أجراً . إنما أجره على الله الذي خلقه فهو به كفيل :
{ يا قوم لا أسألكم عليه أجراً . إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون؟ } .
مما يشعر أن قوله : { لا أسألكم عليه أجراً } كان بناء على اتهام له أو تلميح بأنه يبتغي أجراً أو كسب مال من وراء الدعوة التي يدعوها .

وكان التعقيب : { أفلا تعقلون؟ } للتعجيب من أمرهم وهم يتصورون أن رسولاً من عند الله يطلب رزقاً من البشر ، والله الذي أرسله هو الرزاق الذي يقوِّت هؤلاء الفقراء
ثم يوجههم إلى الإستغفار والتوبة . ويكرر السياق التعبير ذاته الذي ورد في أول السورة على لسان خاتم الأنبياء ، ويعدهم هود ويحذرهم ما وعدهم محمد وحذرهم بعد ذلك بالآف السنين :
{ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، يرسل السماء عليكم مدراراً ، ويزدكم قوة إلى قوتكم . ولا تتولوا مجرمين } . .
استغفروا ربكم مما أنتم فيه ، وتوبوا إليه فابدأوا طريقاً جديداً يحقق النية ويترجمها إلى عمل يصدق النية . .
{ يرسل السماء عليكم مدراراً } . .
وكانوا في حاجة إلى المطر يسقون به زروعهم ودوابهم في الصحراء ، ويحتفظون به بالخصب الناشئ من هطول الأمطار في تلك البقاع .
{ ويزدكم قوة إلى قوتكم } . .
هذه القوة التي عرفتم بها . .
{ ولا تتولوا مجرمين } . .
مرتكبين لجريمة التولي والتكذيب .
وننظر في هذا الوعد . وهو يتعلق بإدرار المطر ومضاعفة القوة . وهي أمور تجري فيها سنة الله وفق قوانين ثابتة في نظام هذا الوجود ، من صنع الله ومشيئته بطبيعة الحال . فما علاقة الإستغفار بها وما علاقة التوبة؟
فأما زيادة القوة فالأمر فيها قريب ميسور ، بل واقع مشهود ، فإن نظافة القلب والعمل الصالح في الأرض يزيدان التائبين العاملين قوة . يزيدانهم صحة في الجسم بالإعتدال والاقتصار على الطيبات من الرزق وراحة الضمير وهدوء الأعصاب والإطمئنان إلى الله والثقة برحمته في كل آن؛ ويزيدانهم صحة في المجتمع بسيادة شريعة الله الصالحة التي تطلق الناس أحراراً كراماً لا يدينون لغير الله على قدم المساواة بينهم أمام قهار واحد تعنو له الجباه . . كما تطلقان طاقات الناس ليعملوا وينتجوا ويؤدوا تكاليف الخلافة في الأرض؛ غير مشغولين ولا مسخرين بمراسم التأليه للأرباب الأرضية وإطلاق البخور حولها ودق الطبول ، والنفخ فيها ليل نهار لتملأ فراغ الإله الحق في فطرة البشر
والملحوظ دائماً أن الأرباب الأرضية تحتاج ويحتاج معها سدنتها وعبادها أن يخلعوا عليها بعض صفات الألوهية من القدرة والعلم والإحاطة والقهر والرحمة . . أحياناً . . كل ذلك ليدين لها الناس فالربوبية تحتاج إلى ألوهية معها تخضع بها العباد وهذا كله يحتاج إلى كد ناصب من السدنة والعبَّاد وإلى جهد ينفقه من يدينون لله وحده في عمارة الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها ، بدلاً من أن ينفقه عبَّاد الأرباب الأرضية في الطبل والزمر والتراتيل والتسابيح لهذه الأرباب المفتراة
ولقد تتوافر القوة لمن لا يحكّمون شريعة الله في قلوبهم ولا في مجتمعهم ، ولكنها قوة إلى حين . تنتهي الأمور إلى نهايتها الطبيعية وفق سنة الله ، وتتحطم هذه القوة التي لم تستند إلى أساس ركين . إنما استندت إلى جانب واحد من السنن الكونية كالعمل والنظام ووفرة الإنتاج .

وهذه وحدها لا تدوم . لأن فساد الحياة الشعورية والاجتماعية يقضي عليها بعد حين .
فأما إرسال المطر مدراراً . فالظاهر للبشر أنه يجري وفق سنن طبيعية ثابتة في النظام الكوني . ولكن جريان السنن الطبيعية لا يمنع أن يكون المطر محيياً في مكان وزمان ، ومدمراً في مكان وزمان؛ وأن يكون من قدر الله أن تكون الحياة مع المطر لقوم ، وأن يكون الدمار معه لقوم ، وان ينفذ الله تبشيره بالخير ووعيده بالشر عن طريق توجيه العوامل الطبيعية؛ فهو خالق هذه العوامل ، وجاعل الأسباب لتحقيق سنته على كل حال . ثم تبقى وراء ذلك مشيئة الله الطليقة التي تصرف الأسباب والظواهر بغير ما اعتاد الناس من ظواهر النواميس وذلك لتحقيق قدر الله كيفما شاء . حيث شاء . بالحق الذي يحكم كل شيء في السماوات والأرض غير مقيد بما عهده الناس في الغالب .
تلك كانت دعوة هود ويبدوا أنها لم تكن مصحوبة بمعجزة خارقة . ربما لأن الطوفان كان قريباً منهم ، وكان في ذاكرة القوم وعلى لسانهم ، وقد ذكرهم به في سورة أخرى فأما قومه فظنوا به الظنون . .
{ قالوا . يا هود ما جئتنا ببينة ، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ، وما نحن لك بمؤمنين . إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء . . } .
إلى هذا الحد بلغ الإنحراف في نفوسهم ، إلى حد أن يظنوا أن هوداً يهذي ، لأن أحد آلهتهم المفتراة قد مسه بسوء ، فأصيب بالهذيان
{ يا هود ما جئتنا ببينة } . . .
والتوحيد لا يحتاج إلى بينة ، إنما يحتاج إلى التوجية والتذكير ، وإلى استجاشة منطق الفطرة ، واستنباء الضمير .
{ وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك } . .
أي لمجرد أنك تقول بلا بينة ولا دليل
{ وما نحن لك بمؤمنين } . .
أي مستجيبين لك ومصدقين . . وما نعلل دعوتك إلا بأنك تهذي وقد أصابك أحد آلهتنا بسوء
وهنا لم يبق لهود إلا التحدي . وإلا التوجه إلى الله وحده والإعتماد عليه . وإلا الوعيد والإنذار الأخير للمكذبين . وإلا المفاصلة بينه وبين قومه ونفض يده من أمرهم إن أصروا على التكذيب :
{ قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون . إني توكلت على الله ربي وربكم ، ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم . فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ، ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ } . .
إنها انتفاضة التبرؤ من القوم وقد كان منهم وكان أخاهم وانتفاضة الخوف من البقاء فيهم وقد اتخذوا غير طريق الله طريقاً . وانتفاضة المفاصلة بين حزبين لا يلتقيان على وشيجة وقد انبتت بينهما وشيجة العقيدة .
وهو يشهد الله على براءته من قومه الضالين وانعزاله عنهم وانفصاله منهم .

ويشهدهم هم أنفسهم على هذه البراءة منهم في وجوههم؛ كي لا تبقى في أنفسهم شبهة من نفوره وخوفه أن يكون منهم
وذلك كله مع عزة الإيمان واستعلائه . ومع ثقة الإيمان واطمئنانه
وإن الإنسان ليدهش لرجل فرد يواجه قوماً غلاظاً شداداً حمقى . يبلغ بهم الجهل أن يعتقدوا أن هذه المعبودات الزائفة تمس رجلاً فيهذي؛ ويروا في الدعوة إلى الله الواحد هذياناً من أثر المس يدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثقين بآلهتهم المفتراة هذه الثقة ، فيسفه عقيدتهم ويقرعهم عليها ويؤنبهم؛ ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي . لا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم ، ولا يدعهم يتريثون فيفثأ غضبهم .
إن الإنسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ شداد . ولكن الدهشة تزول عندما يتدبر العوامل والأسباب . .
إنه الإيمان . والثقة . والاطمئنان . . الإيمان بالله ، والثقة بوعده ، والإطمئنان إلى نصره . . الإيمان الذي يخالط القلب فإذا وعد الله بالنصر حقيقة ملموسة في هذا القلب لا يشك فيها لحظة . لأنها ملء يديه ، وملء قلبه الذي بين جنبيه ، وليست وعداً للمستقبل في ضمير الغيب ، إنما هي حاضر واقع تتملاه العين والقلب .
{ قال : إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه } . إني أشهد الله على براءتي مما تشركون من دونه . واشهدوا أنتم شهادة تبرئني وتكون حجة عليكم : أنني عالنتكم بالبراءة مما تشركون من دون الله . ثم تجتمعوا أنتم وهذه الآلهة التي تزعمون أن أحدها مسني بسوء . تجمعوا أنتم وهي جميعاً ثم كيدوني بلا ريث ولا تمهل ، فما أباليكم جميعاً ، ولا أخشاكم شيئاً :
{ إني توكلت على الله ربي وربكم } . .
ومهما أنكرتم وكذبتم . فهذه الحقيقة قائمة . حقيقة ربوبية الله لي ولكم . فالله الواحد هو ربي وربكم ، لأنه رب الجميع بلا تعدد ولا مشاركة . .
{ ما من دابة إلا هو أخذ بناصيتها } . .
وهي صورة محسوسة للقهر والقدرة تصور القدرة آخذة بناصية كل دابة على هذه الأرض ، بما فيها الدواب من الناس . والناصية أعلى الجبهة . فهو القهر والغلبة والهيمنة ، في صورة حسية تناسب الموقف ، وتناسب غلظة القوم وشدتهم ، وتناسب صلابة أجسامهم وبنيتهم ، وتناسب غلظ حسهم ومشاعرهم . . وإلى جانبها تقرير استقامة السنة الإلهية في اتجاهها الذي لا يحيد :
{ إن ربي على صراط مستقيم } . .
فهي القوة والاستقامة والتصميم .
وفي هذه الكلمات القوية الحاسمة ندرك سر ذلك الإستعلاء وسر ذلك التحدي . . إنها ترسم صورة الحقيقة التي يجدها نبي الله هود عليه السلام في نفسه من ربه . . إنه يجد هذه الحقيقة واضحة . . إن ربه ورب الخلائق قوي قاهر : { ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها } . . وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها ويقهرها بقوته قهراً . فما خوفه من هذه الدواب وما احتفاله بها؛ وهي لا تسلط عليه إن سلطت إلا بإذن ربه؟ وما بقاؤه فيها وقد اختلف طريقها عن طريقه؟
إن هذه الحقيقة التي يجدها صاحب الدعوة في نفسه ، لا تدع في قلبه مجالاً للشك في عاقبة أمره؛ ولا مجالاً للتردد عن المضي في طريقه .

إنها حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب الصفوة المؤمنة ابداً .
وعند هذا الحد من التحدي بقوة الله ، وإبراز هذه القوة في صورتها القاهرة الحاسمة ، يأخذ هود في الإنذار والوعيد :
{ فإن تولوا فقد ابلغتكم ما أرسلت به إليكم } . .
فأديت واجبي لله ، ونفضت يدي من أمركم لتواجهوا قوة الله سبحانه :
{ ويستخلف ربي قوماً غيركم } . .
يليقون بتلقي دعوته ويستقيمون على هدايته بعد إهلاككم ببغيكم وظلمكم وانحرافكم .
{ ولا تضرونه شيئاً } . .
فما لكم به من قوة ، وذهابكم لا يترك في كونه فراغاً ولا نقصاً . .
{ إن ربي على كل شيء حفيظ } . .
يحفظ دينه وأولياءه وسننه من الأذى والضياع ، ويقوم عليكم فلا تفلتون ولا تعجزونه هرباً وكانت هي الكلمة الفاصلة . وانتهى الجدل والكلام . ليحق الوعيد والإنذار :
{ ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا . ونجيناهم من عذاب غليظ } .
لما جاء أمرنا بتحقيق الوعيد ، وإهلاك قوم هود ، نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة مباشرة منا ، خلصتهم من العذاب العام النازل بالقوم ، واستثنتهم من أن يصيبهم بسوء . وكانت نجاتهم من عذاب غليظ حل بالمكذبين . ووصف العذاب بأنه غليظ بهذا التصوير المجسم ، يتناسق مع الجو ، ومع القوم الغلاظ العتاة .
والآن وقد هلكت عاد . يشار إلى مصرعها إشارة البعد ، ويسجل علهيا ما اقترفت من ذنب ، وتشيع باللعنة والطرد ، في تقرير وتكرار وتوكيد :
{ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد . وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة . ألا إن عاداً كفروا ربهم . ألا بعداً لعاد قوم هود } . .
{ وتلك عاد } . . بهذا البعد . وقد كان ذكرهم منذ لحظة في السياق ، وكان مصرعهم معروفاً على الأنظار . . ولكنهم انتهوا وبعدوا عن الأنظار والأفكار . .
{ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله } . .
وهم عصوا رسولاً واحداً . ولكن أليست هي رسالة واحدة جاء بها الرسل جميعاً؟ فمن لم يسلم لرسول بها فقد عصى الرسل جميعاً . ولا ننسى أن هذا الجمع في الآيات وفي الرسل مقصود من ناحية أسلوبية أخرى لتضخيم جريمتهم وإبراز شناعتها . فهم جحدوا آيات ، وهم عصوا رسلاً . فما أضخم الذنب وما أشنع الجريمة
{ واتبعوا أمر كل جبار عنيد } . .
امر كل متسلط عليهم ، معاند لا يسلم بحق ، وهم مسؤولون أن يتحرروا من سلطان المتسلطين ، ويفكروا بأنفسهم لأنفسهم . ولا يكونوا ذيولاً فيهدروا آدميتهم .
وهكذا يتبين أن القضية بين هود وعاد كانت قضية ربوبية الله وحده لهم والدينونة لله وحده من دون العباد . . كانت هي قضية الحاكمية والاتباع .

. كانت هي قضية : من الرب الذي يدينون له ويتبعون أمره؟ يتجلى هذا في قول الله تعالى :
{ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله ، واتبعوا أمر كل جبار عنيد } . .
فهي المعصية لأمر الرسل والاتباع لأمر الجبارين والإسلام هو طاعة أمر الرسل لأنه أمر الله ومعصية أمر الجبارين . وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية والإسلام وبين الكفر والإيمان . . في كل رسالة وعلى يد كل رسول .
وهكذا يتبين أن دعوة التوحيد تصر أول ما تصر على التحرر من الدينونة لغير الله؛ والتمرد على سلطان الأرباب الطغاة؛ وتعد إلغاء الشخصية والتنازل عن الحرية ، واتباع الجبارين المتكبرين جريمة شرك وكفر يستحق عليها الخانعون الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة . لقد خلق الله الناس ليكونوا أحراراً لا يدينون بالعبودية لأحد من خلقه ، ولا ينزلون عن حريتهم هذه لطاغية ولا رئيس ولا زعيم . فهذا مناط تكريمهم . فإن لم يصونوه فلا كرامة لهم عند الله ولا نجاة . وما يمكن لجماعة من البشر أن تدعي الكرامة ، وتدعي الإنسانية ، وهي تدين لغير الله من عباده . والذين يقبلون الدينونة لربوبية العبيد وحاكميتهم ليسوا بمعذورين أن يكونوا على أمرهم مغلوبين . فهم كثرة والمتجبرون قلة . ولو أرادوا التحرر لضحوا في سبيله بعض ما يضحونه مرغمين للأرباب المتسلطين من ضرائب الذل في النفس والعرض والمال .
لقد هلكت عاد لأنهم اتبعوا امر كل جبار عنيد . . هلكلوا مشيعين باللعنة في الدنيا وفي الآخرة :
{ وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة } . .
ثم لا يتركهم قبل أن يسجل عليهم حالهم وسبب ما أصابهم في إعلان عام وتنبيه عال :
{ ألا إن عاداً كفروا ربهم } . .
ثم يدعو عليهم بالطرد والبعد البعيد :
{ ألا بعداً لعاد قوم هود } . .
بهذا التحديد والإيضاح والتوكيد . كأنما يحدد عنوانهم للعنة المرسلة عليهم حتى تقصدهم قصداً :
{ ألا بعداً لعاد قوم هود }
ونقف وقفات قصيرة أمام ما تلهمه قصة هود مع قومه في سياق هذه السورة ، قبل ان ننتقل منها إلى قصة صالح . ذلك أن استعراض خط سير الدعوة الإسلامية على هذا النحو إنما يجيء في القرآن الكريم لرسم معالم الطريق في خط الحركة بهذه العقيدة على مدار القرون . . ليس فقط في ماضيها التاريخي ، ولكن في مستقبلها إلى آخر الزمان . وليس فقط للجماعة المسلمة الأولى التي تلقت هذا القرآن أول مرة . وتحركت به في وجه الجاهلية يومذاك؛ ولكن كذلك لكل جماعة مسلمة تواجه به الجاهلية إلى آخر الزمان . . وهذا ما يجعل هذا القرآن كتاب الدعوة الإسلامية الخالد؛ ودليلها في الحركة في كل حين .
ولقد أشرنا إشارات سريعة إلى اللمسات القرآنية التي سنعيد الحديث عنها كلها تقريباً . . ولكنها مرت في مجال تفسير النصوص القرآنية مروراً عابراً لمتابعة السياق . وهي تحتاج إلى وقفات امامها أطول في حدود الإجمال :
* نقف أمام الدعوة الواحدة الخالدة على لسان كل رسول وفي كل رسالة .

. ودعوة توحيد العبادة والعبودية لله ، المتمثلة فيما يحكيه القرآن الكريم عن كل رسول : { قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } . . ولقد كنا دائماً نفسر « العبادة » لله وحده بأنها « الدينونة الشاملة » لله وحده . في كل شأن من شؤون الدنيا والآخرة . ذلك أن هذا هو المدلول الذي تعطيه اللفظة في أصلها اللغوي . . فإن « عبد » معناها : دان وخضع وذلل . وطريق معبد طريق مذلل ممهد . وعبّده جعله عبداً أي خاضعاً مذللاً . . ولم يكن العربي الذي خوطب بهذا القرآن اول مرة يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية . بل إنه يوم خوطب به أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية إنما كان يفهم منه عندما يخاطب به ان المطلوب منه هو الدينونة لله وحده في أمره كله؛ وخلع الدينونة لغير الله من عنقه في كل أمره . . ولقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم « العبادة » نصاً بأنها هي « الاتباع » وليست هي الشعائر التعبدية . وهو يقول لعدي ابن حاتم عن اليهود والنصارى واتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً : « بلى . إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال . فاتبعوهم . فذلك عبادتهم إياهم » . إنما أطلقت لفظة « العبادة » على « الشعائر التعبدية » باعتبارها صورة من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون . . صورة لا تستغرق مدلول « العبادة » بل إنها تجيء بالتبعية لا بالأصالة فلما بهت مدلول « الدين » ومدلول « العبادة » في نفوس الناس صاروا يفهمون أن عبادة غير الله التي يخرج بها الناس من الإسلام إلى الجاهلية هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير الله ، كتقديمها للأصنام والأوثان مثلاً وأنه متى تجنب الإنسان هذه الصورة فقد بعد عن الشرك والجاهلية وأصبح « مسلماً » لا يجوز تكفيره وتمتع بكل ما يتمتع به المسلم في المجتمع المسلم من صيانة دمه وعرضه وماله . . . إلى أخر حقوق المسلم على المسلم
وهذا وهم باطل ، وانحسار وانكماش ، بل تبديل وتغيير في مدلول لفظ « العبادة » التي يدخل بها المسلم في الإسلام أو يخرج منه وهذا المدلول هو الدينونة الكاملة لله في كل شأن ورفض الدينونة لغير الله في كل شأن . وهو المدلول الذي تفيده اللفظة في أصل اللغة؛ والذي نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نصاً وهو يفسر قول الله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } وليس بعد تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصطلح من المصطلحات قول لقائل .

هذه الحقيقة هي التي قررناها كثيراً في هذه الظلال وفي غيرها في كل ما وفقنا الله لكتابته حول هذا الدين وطبيعته ومنهجه الحركي . فالآن نجد في قصة هود كما تعرضها هذه السورة لمحة تحدد موضوع القضية ومحور المعركة التي كانت بين هود وقومه؛ وبين الإسلام الذي جاء به والجاهلية التي كانوا عليها؛ وتحدد ما الذي كان يعنيه وهو يقول لهم : « يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره » . .
إنه لم يكن يعني : يا قوم لا تتقدموا بالشعائر التعبدية لغير الله كما يتصور الذين انحسر مدلول « العبادة » في مفهوماتهم ، وانزوى داخل إطار الشعائر التعبدية إنما كان يعني الدينونة لله وحده في منهج الحياة كلها؛ ونبذ الدينونة والطاعة لأحد من الطواغيت في شؤون الحياة كلها . . والفعلة التي من أجلها استحق قوم هود الهلاك واللعنة في الدنيا والآخرة لم تكن هي مجرد تقديم الشعائر التعبدية لغير الله . . فهذه صورة واحدة من صور الشرك الكثيرة التي جاء هود ليخرجهم منها إلى عبادة الله وحده أي الدينونة له وحده إنما كانت الفعلة النكراء التي استحقوا من أجلها ذلك الجزاء هي : جحودهم بآيات ربهم ، وعصيان رسله . واتباع أمر الجبارين من عبيده : { وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم ، وعصوا رسله ، واتبعوا أمر كل جبار عنيد } . كما يقول عنهم أصدق القائلين الله رب العالمين . .
وجحودهم بآيات ربهم إنما يتجلى في عصيان الرسل ، واتباع الجبارين . . فهو أمر واحد لا أمور متعددة . . ومتى عصى قوم أوامر الله المتمثلة في شرائعه المبلغة لهم من رسله بألا يدينوا لغير الله . ودانوا للطواغيت بدلاً من الدينونة لله؛ فقد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله؛ وخرجوا بذلك من الإسلام إلى الشرك وقد تبين لنا من قبل أن الإسلام هو الأصل الذي بدأت به حياة البشر على الأرض؛ فهو الذي نزل به آدم من الجنة واستخلف في هذه الأرض؛ وهو الذي نزل به نوح من السفينة واستخلف في هذه الأرض . إنما كان الناس يخرجون من الإسلام إلى الجاهلية ، حتى تأتي إليهم الدعوة لتردهم من الجاهلية إلى الإسلام . . وهكذا إلى يومنا هذا . .
والواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات؛ وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدارالزمان إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد . وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن؛ وفي منهج حياتهم كله للدنيا والآخرة سواء .
إن توحيد الألوهية ، وتوحيد الربوبية ، وتوحيد القوامه ، وتوحيد الحاكمية ، وتوحيد مصدر الشريعة ، وتوحيد منهج الحياة ، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونه الشاملة .

. . إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من اجله كل هؤلاء الرسل ، و أن تبذل في سبيله كل هذه الجهود؛ و أن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات و الآلام على مدار الزمان . . لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه ، فالله سبحانه غني عن العالمين . ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة « بالإنسان » إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتاثيره في الحياة البشرية في كل جانب من جوانبها . ( وهذا ما نرجو أن نزيده بياناً إن شاء الله في نهاية قصص الرسل في ختام السورة ) . .
* ونقف أمام الحقيقة التي كشف عنها هود لقومه وهو يقول لهم : { ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم ، ولا تتولوا مجرمين } . . . وهي ذات الحقيقة التي ذكرت في مقدمة السورة بصدد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه بمضمون الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . وذلك في قوله تعالى : { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } إنها حقيقة العلاقة بين القيم الإيمانية والقيم الواقعية في الحياة البشرية ، وحقيقة اتصال طبيعة الكون ونواميسه الكلية بالحق الذي يحتويه هذا الدين . . . وهي حقيقة في حاجة إلى جلاء وتثبيت؛ وبخاصة في نفوس الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا؛ والذين لم تصقل أرواحهم وتشف حتى ترى هذه العلاقة أو على الأقل تستشعرها . .
إن الحق الذي نزل به هذا الدين غير منفصل عن الحق المتمثل في ألوهية الله سبحانه والحق الذي خلقت به السماوات والأرض ، المتجلي في طبيعة هذا الكون ونواميسه الأزلية . . والقرآن الكريم كثيراً ما يربط بين الحق المتمثل في ألوهية الله سبحانه والحق الذي قامت به السماوات والأرض؛ والحق المتمثل في الدينونة لله وحده . . والحق المتمثل في دينونة الناس لله يوم الحساب بصفة خاصة ، والحق في الجزاء على الخير والشر في الدنيا والآخرة . . وذلك في مثل هذه النصوص :
{ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين . لو أردنآ أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا . . إن كنا فاعلين . . . بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ، ولكم الويل مما تصفون ، وله من في السماوات والأرض ، ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون . يسبحون الليل والنهار لا يفترون . أم اتخذوا آلهة من الأرض هم يُنشرون ، لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون . لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . أم اتخذوا من دونه آلهة قل : هاتوا برهانكم . هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ، بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون . وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }

[ الأنبياء : 16 25 ]
{ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة ، لنبين لكم ، ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ، ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ، ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً ، وترى الأرض هامدة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج . . ذلك بأن الله هو الحق ، وأنه يحيي الموتى ، وأنه على كل شيء قدير ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور } [ الحج : 5 7 ] .
{ وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم ، وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم . ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم . الملك يومئذ ، لله يحكم بينهم ، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين . والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً ، وإن الله لهو خير الرازقين ، ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم حليم . ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله ، إن الله لعفو غفور ، ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وأن الله سميع بصير . ذلك بأن الله هو الحق ، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ، وأن الله هو العلي الكبير . ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة؟ إن الله لطيف خبير . له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد . ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، إن الله بالناس لرؤوف رحيم . وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ، إن الإنسان لكفور . لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه ، فلا ينازعنك في الأمر ، وادع إلى ربك ، إنك لعلى هدى مستقيم . . . } [ الحج : 54 - 67 ] .
وهكذا نجد في هذه النصوص وأمثالها في القرآن الكريم العلاقة الواضحة بين كون الله سبحانه هو الحق ، وبين خلقه لهذا الكون وتدبيره بنواميسه ومشيئته بالحق ، وبين الظواهر الكونية التي تتم بالحق . وبين تنزيل هذا الكتاب بالحق ، وبين الحكم بين الناس في الدنيا والآخرة بالحق .

. فكله حق واحد موصول ينشأ عنه جريان قدر الله بما يشاء ، وتسليط القوى الكونية بالخير والشر على من يشاء؛ وفق ما يكون من الناس من الخير والشر في دار الابتلاء . ومن هنا كان ذلك الربط بين الاستغفار والتوبة ، وبين المتاع الحسن وإرسال السماء مدراراً . . . فكل أولئك موصول بمصدر واحد هو الحق المتمثل في ذات الله سبحانه وفي قضائه وقدره ، وفي تدبيره وتصريفه ، وفي حسابه وجزائه ، في الخير وفي الشر سواء . .
ومن هذا الارتباط يتجلى أن القيم الإيمانية ليست منفصلة عن القيم العملية في حياة الناس . فكلتاهما تؤثر في هذه الحياة . سواء عن طريق قدر الله الغيبي المتعلق بعالم الأسباب من وراء علم البشر وسعيهم . أو عن طريق الآثار العملية المشهودة التي يمكن للبشر رؤيتها وضبطها كذلك . وهي الآثار التي ينشئها في حياتهم الإيمان أو عدم الإيمان ، من النتائج المحسوسة المدركة .
وقد أسلفنا الإشارة إلى بعض هذه الآثار العملية الواقعية حين قلنا مرة : إن سيادة المنهج الإلهي في مجتمع معناه أن يجد كل عامل جزاءه العادل في هذا المجتمع ، وان يجد كل فرد الأمن والسكينة والاستقرار الاجتماعي فضلاً على الأمن والسكينة والاستقرار القلبي بالإيمان ومن شأن هذا كله أن يمتع الناس متاعاً حسناً في هذه الدنيا قبل أن يلقوا جزاءهم الأخير في الآخرة . . وحين قلنا مرة : إن الدينونة لله وحده في مجتمع من شأنها أن تصون جهود الناس وطاقاتهم من أن تنفق في الطبل والزمر والنفخ والتراتيل والتسابيح والترانيم والتهاويل التي تطلق حول الأرباب المزيفة ، لتخلع عليها شيئاً من خصائص الألوهية حتى تخضع لها الرقاب ومن شأن هذا أن يوفر هذه الجهود والطاقات للبناء في الأرض والعمارة والنهوض بتكاليف الخلافة فيكون الخير الوفير للناس . فضلاً على الكرامة والحرية والمساواة التي يتمتع بها الناس في ظل الدينونة لله وحده دون العباد . . وليست هذه إلا نماذج من ثمار الإيمان حين تتحقق حقيقته في حياة الناس . . ( وسيرد عنها بعض التفصيل في نهاية استعراض قصص الرسل في ختام السورة إن شاء الله ) .
* ونقف أمام تلك المواجهة الأخيرة من هود لقومه؛ وأمام تلك المفاصلة التي قذف بها في وجوههم في حسم كامل ، وفي تحد سافر ، وفي استعلاء بالحق الذي معه ، وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة :
{ قال : إني أشهد الله ، واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ، فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون . إني توكلت على الله ربي وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ، إن ربي على صراط مستقيم . فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ، ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً ، إن ربي على كل شيء حفيظ } . .
إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلاً أمام هذا المشهد الباهر .

. رجل واحد ، لم يؤمن معه إلا قليل ، يواجه أعتى أهل الأرض وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم ، كما جاء عنهم في قول الله تعالى فيهم حكاية عما واجههم به أخوهم هود في السورة الأخرى :
{ كذبت عاد المرسلين . إذ قال لهم أخوهم هود : ألا تتقون؟ إني لكم رسول أمين ، فاتقوا الله وأطيعون . وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين . أتبنون بكل ريع آية تعبثون؟ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . وإذا بطشتم بطشتم جبارين . فاتقوا الله وأطيعون . واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون . أمدكم بأنعام وبنين . وجنات وعيون . إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم . قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين . إن هذا إلا خلق الأولين . وما نحن بمعذبين } [ الشعراء : 123 138 ]
فهؤلاء العتاة الجبارون الذين يبطشون بلا رحمة؛ والذين أبطرتهم النعمة؛ والذين يقيمون المصانع يرجون من ورائها الامتداد والخلود . . هؤلاء هم الذين واجههم هود عليه السلام هذه المواجهة . في شجاعة المؤمن واستعلائه وثقته واطمئنانه؛ وفاصلهم هذه المفاصلة الحاسمة الكاملة وهم قومه وتحداهم أن يكيدوه بلا إمهال . وأن يفعلوا ما في وسعهم فلا يباليهم بحال
لقد وقف هود عليه السلام هذه الوقفة الباهرة ، بعدما بذل لقومه من النصح ما يملك؛ وبعد أن تودد إليهم وهو يدعوهم غاية التودد . . ثم تبين له عنادهم وإصرارهم على محادة الله وعلى الاستهتار بالوعيد والجرأة على الله . .
لقد وقف هود عليه السلام هذه الوقفة الباهرة لأنه يجد حقيقة ربه في نفسه ، فيوقن أن أولئك الجبارين العتاة المتمتعين المتبطرين إنما هم من الدواب وهو مستيقن أنه ما من دابة إلا وربه آخذ بناصيتها؛ ففيم يحفل إذن هؤلاء الدواب؟ وأن ربه هو الذي استخلفهم في الأرض ، وأعطاهم من نعمة ومال وقوة وبنين وقدرة على التصنيع والتعدين للابتلاء لا لمطلق العطاء . وأن ربه يملك أن يذهب بهم ويستخلف غيرهم إذا شاء ، ولا يضرونه شيئاً ، ولا يردون له قضاء . . ففيم إذن يهوله شيء مما هم فيه ، وربه هو الذي يعطي ويسلب حين يشاء كيف يشاء؟ . .
إن أصحاب الدعوة إلى الله لا بد أن يجدوا حقيقة ربهم في نفوسهم على هذا النحو حتى يملكوا أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم . . أمام القوة المادية . وقوة الصناعة . وقوة المال . وقوة العلم البشري . وقوة الأنظمة والأجهزة والتجارب والخبرات . . وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية كل دابة؛ وأن الناس كل الناس إن هم إلا دواب من الدواب
وذات يوم لا بد أن يقف أصحاب الدعوة من قومهم موقف المفاصلة الكاملة؛ فإذا القوم الواحد أمتان مختلفتان .

. أمة تدين لله وحده وترفض الدينونة لسواه . وأمة تتخذ من دون الله أرباباً ، وتحاد الله
ويوم تتم هذه المفاصلة يتحقق وعد الله بالنصر لأوليائه ، والتدمير على أعدائه في صورة من الصور التي قد تخطر وقد لا تخطر على البال ففي تاريخ الدعوة إلى الله على مدار التاريخ لم يفصل الله بين أوليائه وأعدائه إلا بعد أن فاصل أولياؤه أعداءه على أساس العقيدة فاختاروا الله وحده . . وكانوا هم حزب الله الذين لا يعتمدون على غيره والذين لا يجدون لهم ناصراً سواه .
وحسبنا هذه الوقفات مع إلهامات قصة هود وعاد . لنتابع بعدها سياق السورة مع قصة صالح وثمود .
{ وإلى ثمود أخاهم صالحا . قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها . فاستغفروه ثم توبوا إليه ، إن ربي قريب مجيب } . .
إنها الكلمة التي لا تتغير :
{ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } . .
وإنه كذلك المنهج الذي لا يتبدل :
{ فاستغفروه ثم توبوا إليه } . .
ثم هو التعريف بحقيقة الألوهية كما يجدها في نفسه الرسول :
{ إن ربي قريب مجيب } . .
وذكرهم صالح بنشأتهم من الأرض . نشأة جنسهم ، ونشأة أفرادهم من غذاء الأرض أو من عناصرها التي تتألف منها عناصر تكوينهم الجسدي . ومع أنهم من هذه الأرض . من عناصرها . فقد استخلفهم الله فيها ليعمروها . استخلفهم بجنسهم واستخلفهم بأشخاصهم بعد الذاهبين من قبلهم .
ثم هم بعد ذلك يشركون معه آلهة اخرى . .
{ فاستغفروه ثم توبوا إليه } . .
واطمئنوا إلى استجابته وقبوله :
{ إن ربي قريب مجيب } . .
والإضافة في { ربي } ولفظ { قريب } ولفظ { مجيب } واجتماعها وتجاورها . . ترسم صورة لحقيقة الألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة ، وتخلع على الجو أنساً واتصالاً ومودة ، تنتقل من قلب النبي الصالح إلى قلوب مستمعيه لو كانت لهم قلوب
ولكن قلوب القوم كانت قد بلغت من الفساد والاستغلاق والانطماس درجة لا تستشعر معها جمال تلك الصورة ولا جلالها ، ولا تحس بشاشة هذا القول الرفيق ، ولا وضاءة هذا الجو الطليق . . وإذا بهم يفاجأون ، حتى ليظنون بأخيهم صالح الظنون
{ قالوا : يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب } . .
لقد كان لنا رجاء فيك . كنت مرجواً فينا لعلمك أو لعقلك أو لصدقك أو لحسن تدبيرك ، أو لهذا جميعه . ولكن هذا الرجاء قد خاب . .
{ أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا } . .
إنها للقاصمة فكل شيء يا صالح إلا هذا وما كنا لنتوقع أن تقولها فيا لخيبة الرجاء فيك ثم إننا لفي شك مما تدعونا إليه . شك يجعلنا نرتاب فيك وفيما تقول :
{ إننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب } . .
وهكذا يعجب القوم مما لا عجب فيه؛ بل يستنكرون ما هو واجب وحق ، ويدهشون لأن يدعوهم أخوهم صالح إلى عبادة الله وحده .

لماذا؟ لا لحجة ولا لبرهان ولا لتفكير . ولكن لأن آباءهم يعبدون هذه الآلهة
وهكذا يبلغ التحجر بالناس أن يعجبوا من الحق البين . وأن يعللوا العقائد بفعل الآباء
وهكذا يتبين مرة وثانية وثالثة أن عقيدة التوحيد هي في صميمها دعوة للتحرر الشامل الكامل الصحيح . ودعوة إلى إطلاق العقل البشري من عقال التقليد ، ومن أوهاق الوهم والخرافة التي لا تستند إلى دليل .
وتذكرنا قولة ثمود لصالح :
{ قد كنت فينا مرجواً قبل هذا } . .
تذكرنا بما كان لقريش من ثقة بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وأمانته . فلما أن دعاهم إلى ربوبية الله وحده تنكروا له كما تنكر قوم صالح ، وقالوا : ساحر . وقالوا : مفتر . ونسوا شهادتهم له وثقتهم فيه
إنها طبيعة واحدة ، ورواية واحدة تتكرر على مدى العصور والدهور . .
ويقول صالح كما قال جده نوح :
{ قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ، فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير } . .
يا قوم : ماذا ترون إن كنت أجد في نفسي حقيقة ربي واضحة بينة ، تجعلني على يقين من أن هذا هو الطريق؟ وآتاني منه رحمة فاختارني لرسالته وأمدني بالخصائص التي تؤهلني لها . فمن ينصرني من الله إن أنا عصيته فقصرت في إبلاغكم دعوته ، احتفاظاً برجائكم فيّ؟ أفنافعي هذا الرجاء وناصري من الله؟ كلا :
{ فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير } . .
ما تزيدونني إلا خسارة على خسارة . . غضب الله وحرماني شرف الرسالة وخزي الدنيا وعذاب الآخرة . وهي خسارة بعد خسارة . ولا شيء إلا التخسير والتثقيل والتشديد
{ ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية ، فذروها تأكل في أرض الله ، ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب }
ولا يذكر السياق صفة لهذه الناقة التي اشار إليها صالح لتكون آية لهم وعلامة . ولكن في إضافتها لله : { هذه ناقة الله } وفي تخصيصها لهم : { لكم آية } ما يشير إلى أنها كانت ذات صفة خاصة مميزة ، يعلمون بها أنها آية لهم من الله . ونكتفي بهذا دون الخوض في ذلك الخضم من الأساطير والإسرائيليات التي تفرقت بها أقوال المفسرين حول ناقة صالح فيما مضى وفيما سيجيء
{ هذه ناقة الله لكم آية . فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء } . .
وإلا فسيعاجلكم العذاب . يدل على هذه المعالجة فاء الترتيب في العبارة . ولفظ قريب :
{ فيأخذكم عذاب قريب } . .
يأخذكم أخذاً . وهي حركة أشد من المس أو الوقوع .
{ فعقروها . . فقال : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام . ذلك وعد غير مكذوب } . .
ودل عقرهم للناقة ، أي ضربهم لها بالسيف في قوائمها وقتلها على هذا النحو . دل على فساد قلوبهم واستهتارهم .

والسياق هنا لا يطيل بين إعطائهم الناقة وعقرهم إياها ، لأنها لم تحدث في نفوسهم تجاه الدعوة تغييراً يذكر . ثم ليتابع السياق عجلة العذاب . فهو يعبر هنا بفاء التعقيب في كل الخطوات :
{ فعقروها . فقال : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام } . .
فهي آخر ما بقي لكم من متاع هذه الدنيا ومن أيام هذه الحياة :
{ ذلك وعد غير مكذوب } . .
فهو وعد صادق لن يحيد
وبالفاء التعقيبية يعبر كذلك . فالعذاب لم يتأخر :
{ فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ ، إن ربك هو القوي العزيز ، وأخذ الذين ظلموا الصيحة ، فأصبحوا في ديارهم جاثمين } . .
فلما جاء موعد تحقيق الأمر وهو الإنذار أو الإهلاك نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا . . خاصة ومباشرة . . نجيناه من الموت ومن خزي ذلك اليوم ، فقد كانت ميتة ثمود ميتة مخزية ، وكان مشهدهم جاثمين في دورهم بعد الصاعقة المدوية التي تركتهم موتى على هيئتهم مشهداً مخزياً .
{ إن ربك هو القوي العزيز } . .
يأخذ العتاة أخذاً ولا يعز عليه أمر ، ولا يهون من يتولاه ويرعاه .
ثم يعرض السياق مشهدهم ، معجّباً منهم ، ومن سرعة زوالهم :
{ كأن لم يغنوا فيها } . .
كان لم يقيموا ويتمتعوا . . وإنه لمشهد مؤثر ، وإنها للمسة مثيرة ، والمشهد معروض ، وما بين الحياة والموت بعد أن يكون إلا لمحة كومضة العين ، وإذا الحياة كلها شريط سريع . كأن لم يغنوا فيها . .
ثم الخاتمة المعهودة في هذه السورة : تسجيل الذنب ، وتشييع اللعنة ، وانطواء الصفحة من الواقع ومن الذكرى :
{ ألا إن ثمود كفروا ربهم . ألا بعداً لثمود } . .
ومرة أخرى نجدنا أمام حلقة من حلقات الرسالة على مدار التاريخ . . الدعوة فيها هي الدعوة . وحقيقة الإسلام فيها هي حقيقته . . عبادة الله وحده بلا شريك ، والدينونة لله وحده بلا منازع . . ومرة اخرى نجد الجاهلية التي تعقب الإسلام ، ونجد الشرك الذي يعقب التوحيد فثمود كعاد هم من ذراري المسلمين الذين نجوا في السفينة مع نوح ولكنهم انحرفوا فصاروا إلى الجاهلية ، حتى جاءهم صالح ليردهم إلى الإسلام من جديد . .
ثم نجد أن القوم يواجهون الآية الخارقة التي طلبوها ، لا بالإيمان والتصديق ، ولكن بالجحود وعقر الناقة
ولقد كان مشركوا العرب يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم خارقة كالخوارق السابقة كي يؤمنوا . فها هم أولاء قوم صالح قد جاءتهم الخارقة التي طلبوا . فما أغنت معهم شيئاً إن الإيمان لا يحتاج إلى الخوارق . إنه دعوة بسيطة تتدبرها القلوب والعقول . ولكن الجاهلية هي التي تطمس على القلوب والعقول :
ومرة أخرى نجد حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة . قلوب الرسل الكرام . نجدها في قولة صالح التي يحكيها عنه القرآن الكريم : { قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ، وآتاني منه رحمة ، فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير } . . .

. وذلك بعد أن يصف لهم ربه كما يجده في قلبه : { إن ربي قريب مجيب } . .
وما تتجلى حقيقة الألوهية قط في كمالها وجلالها وروائها وجمالها كما تتجلى في قلوب تلك الصفوة المختارة من عباده . فهذه القلوب هي المعرض الصافي الرائق الذي تتجلى فيه هذه الحقيقة على هذا النحو الفريد العجيب
ثم نقف من القصة أمام الجاهلية التي ترى في الرشد ضلالاً؛ وفي الحق عجيبة لا تكاد تتصورها فصالح الذي كان مرجواً في قومه ، لصلاحه ولرجاحة عقله وخلقه ، يقف منه قومه موقف اليائس منه ، المفجوع فيه لماذا؟ لأنه دعاهم إلى الدينونة لله وحده . على غير ما ورثوا عن آبائهم من الدينونة لغيره
إن القلب البشري حين ينحرف شعرة واحدة عن العقيدة الصحيحة ، لا يقف عند حد في ضلاله وشروده . حتى إن الحق البسيط الفطري المنطقي ليبدو عنده عجيبة العجائب التي يعجز عن تصورها؛ بينما هو يستسيغ الانحراف الذي لا يستند إلى منطق فطري أو منطق عقلي على الإطلاق
إن صالحاً يناديهم : { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها . . } . . فهو يناديهم بما في نشأتهم ووجودهم في الأرض من دليل فطري منطقي لا يملكون له رداً . . وهم ما كانوا يزعمون أنهم هم أنشأوا أنفسهم ، ولا أنهم هم كفلوا لأنفسهم البقاء ، ولا أعطوا أنفسهم هذه الأرزاق التي يستمتعون بها في الأرض . .
وظاهر أنهم لم يكونوا يجحدون أن الله سبحانه هو الذي أنشأهم من الأرض ، وهو الذي أقدرهم على عمارتها . ولكنهم ما كانوا يُتبعون هذا الاعتراف بألوهية الله سبحانه وإنشائه لهم واستخلافهم في الأرض ، بما ينبغي أن يتبعه من الدينونة لله وحده بلا شريك ، واتباع أمره وحده بلا منازع . . وهو ما يدعوهم إليه صالح بقوله : { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } . .
لقد كانت القضية هي ذاتها . . قضية الربوبية لا قضية الألوهية . قضية الدينونة والحاكمية قضية الاتباع والطاعة . . إنها القضية الدائمة التي تدور عليها معركة الإسلام مع الجاهلية

وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

يلم السياق في مروره التاريخي بالمستخلفين من عهد نوح ، وبالأمم التي بوركت والأمم التي كتب عليها العذاب . . يلم بطرف من قصة إبراهيم ، تتحقق فيه البركات ، في الطريق إلى قصة قوم لوط الذين مسهم العذاب الأليم . وفي قصتي إبراهيم ولوط هنا يتحقق وعد الله بطرفيه لنوح : { قيل : يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك . وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم } وقد كانت البركات في إبراهيم وعقبه من ولديه : إسحاق وأبنائه أنبياء بني إسرائيل . وإسماعيل ومن نسله خاتم الأنبياء المرسلين .
{ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى } . .
ولا يفصح السياق عن هذه البشرى إلا في موعدها المناسب بحضور امرأة إبراهيم والرسل : الملائكة . وهم هنا مجهولون ، فلا ندخل مع المفسرين في تعريفهم وتحديد من هم بلا دليل .
{ قالوا : سلاماً . قال : سلام } . .
وكان ابراهيم قد هاجر من أرض الكلدانيين مسقط رأسه في العراق ، وعبر الأردن ، وسكن في أرض كنعان في البادية وعلى عادة البدو في إكرام الأضياف راح إبراهيم يحضر لهم الطعام وقد ظنهم ضيوفاً :
{ فما لبث إن جاء بعجل حنيذ } . .
أي سمين مشوي على حجارة الرضف المحماة .
ولكن الملائكة لا ياكون طعام أهل الأرض :
{ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه } . .
أي لا تمتد إليه .
{ نكرهم وأوجس منهم خيفة } . .
فالذي لا يأكل الطعام يريب ، ويشعر بأنه ينوي خيانة أو غدراً بحسب تقاليد أهل البدو . . وأهل الريف عندنا يتحرجون من خيانة الطعام ، أي من خيانة من أكلوا معه طعاماً فإذا امتنعوا عن طعام أحد فمعنى هذا أنهم ينوون به شراً ، أو أنهم لا يثقون في نياته لهم . . وعند هذا كشفوا له عن حقيقتهم :
{ قالوا : لا تخف ، إنا أرسلنا إلى قوم لوط } . .
وإبراهيم يدرك ما وراء إرسال الملائكة إلى قوم لوط ولكن حدث في هذه اللحظة ما غير مجرى الحديث :
{ وامرأته قائمة فضحكت } . .
وربما كان ضحكها ابتهاجاً بهلاك القوم الملوثين :
{ فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } . .
وكانت عقيماً لم تلد وقد أصبحت عجوزاً . ففاجأتها البشرى بإسحاق . وهي بشرى مضاعفة بأن سيكون لإسحاق عقب من بعده هو يعقوب . والمرأة وبخاصة العقيم يهتز كيانها كله لمثل هذه البشرى ، والمفاجأة بها تهزها وتربكها :
{ قالت : يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً؟ إن هذا لشيء عجيب } . .
وهو عجيب حقاً . فالمرأة ينقطع طمثها عادة في سن معينة فلا تحمل . ولكن لا شيء بالقياس إلى قدرة الله عجيب :
{ قالوا : أتعجبين من أمر الله؟ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت . إنه حميد مجيد } . .
ولا عجب من أمر الله . فالعادة حين تجري بأمر لا يكون معنى هذا أنها سنة لا تتبدل .

وعندما يشاء الله لحكمة يريدها وهي هنا رحمته بأهل هذا البيت وبركاته الموعودة للمؤمنين فيه يقع ما يخالف العادة ، مع وقوعه وفق السنة الإلهية التي لا نعلم حدودها ، ولا نحكم عليها بما تجري به العادة في أمد هوعلى كل حال محدود ، ونحن لا نستقرئ جميع الحوادث في الوجود .
والذين يقيدون مشيئة الله بما يعرفونه هم من نواميسه لا يعرفون حقيقة الألوهية كما يقررها الله سبحانه في كتابه وقوله الفصل وليس للعقل البشري قول في ذلك القول وحتى الذين يقيدون مشيئة الله بما يقرر الله سبحانه أنه ناموسه لا يدركون حقيقة الألوهية كذلك فمشيئة الله سبحانه طليقة وراء ما قرره الله سبحانه من نواميس . ولا تتقيد هذه المشيئة بالنواميس .
نعم إن الله يجري هذا الكون وفق النواميس التي قدرها له . . ولكن هذا شيء والقول بتقيد إرادته بهذه النواميس بعد وجودها شيء آخر إن الناموس يجري وينفذ بقدر من الله في كل مرة ينفذ فيها . فهو لا يجري ولا ينفذ آلياً . فإذا قدر الله في مرة أن يجري الناموس بصورة أخرى غير التي جرى بها في مرات سابقة كان ما قدره الله ولم يقف الناموس في وجه القدر الجديد . . ذلك أن الناموس الذي تندرج تحته كل النواميس هو طلاقة المشيئة بلا قيد على الإطلاق ، وتحقق الناموس في كل مرة يتحقق فيها بقدر خاص طليق .
وإلى هنا كان إبراهيم عليه السلام قد اطمأن إلى رسل ربه ، وسكن قلبه بالبشرى التي حملوها إليه . ولكن هذا لم ينسه لوطاً وقومه وهو ابن أخيه النازح معه من مسقط رأسه والساكن قريباً منه وما ينتظرهم من وراء إرسال الملائكة من هلاك واستئصال . وطبيعة إبراهيم الرحيمة الودود لا تجعله يطيق هلاك القوم واستئصالهم جميعاً :
{ فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجآءته البشرى يجادلنا في قوم لوط . إن أبراهيم لحليم أواه منيب } .
والحليم الذي يحتمل أسباب الغضب فيصبر ويتأنى ولا يثور . والأوّاه الذي يتضرع في الدعاء من التقوى . والمنيب الذي يعود سريعاً إلى ربه . . وهذه الصفات كلها قد دعت إبراهيم أن يجادل الملائكة في مصير قوم لوط وإن كنا لا نعلم كيف كان هذا الجدال لأن النص القرآني لم يفصله ، فجاءه الرد بأن أمر الله فيهم قد قضي وأنه لم يعد للجدال مجال :
{ يا أبراهيم أعرض عن هذا ، إنه قد جاء أمر ربك ، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود } . .
ويسكت السياق . وقد سكت ولا شك إبراهيم . . ويسدل الستار على مشهد إبراهيم وزوجه ليرفع هناك على مشهد حافل بالحركة والانفعال مع لوط . وقوم لوط في مدن الأردن : عمورية وسدوم .
{ ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً ، وقال : هذا يوم عصيب } .

لقد كان يعرف قومه . ويعرف ما أصاب فطرتهم من انحراف وشذوذ عجيبين . إذ يتركون النساء إلى الرجال ، مخالفين الفطرة التي تهتدي إلى حكمة خلق الأحياء جميعاً أزواجاً ، كي تمتد الحياة بالنسل ما شاء لها الله . والتي تجد اللذة الحقيقية في تلبية نداء الحكمة الأزلية ، لا عن تفكير وتدبير ، ولكن عن اهتداء واستقامة . والبشرية تعرف حالات مرضية فردية شاذة ، ولكن ظاهرة قوم لوط عجيبة . وهي تشير إلى أن المرض النفسي يعدي كالمرض الجسدي . وأنه يمكن أن يروج مرض نفسي كهذا نتيجة لاختلال المقاييس في بيئة من البيئات ، وانتشار المثل السيئ ، عن طريق إيحاء البيئة المريضة . على الرغم من مصادمته للفطرة ، التي يحكمها الناموس الذي يحكم الحياة . الناموس الذي يقتضي أن تجد لذتها فيما يلبي حاجة الحياة لا فيما يصادمها ويعدمها . والشذوذ الجنسي يصادم الحياة ويعدمها ، لأنه يذهب ببذور الحياة في تربة خبيثة لم تعد لاستقبالها وإحيائها . بدلاً من الذهاب بها إلى التربة المستعدة لتلقيها وإنمائها . ومن أجل هذا تنفر الفطرة السليمة نفوراً فطرياً لا أخلاقياً فحسب من عمل قوم لوط . لأن هذه الفطرة محكومة بقانون الله في الحياة . الذي يجعل اللذة الطبيعية السليمة فيما يساعد على إنماء الحياة لا فيما يصدمها ويعطلها .
ولقد نجد أحياناً لذة في الموت في سبيل غاية أسمى من الحياة الدنيا ولكنها ليست لذة حسية إنما هي معنوية اعتبارية . على أن هذه ليست مصادفة للحياة ، إنما هي إنماء لها وارتفاع بها من طريق آخر . وليست في شيء من ذلك العمل الشاذ الذي يعدم الحياة وخلاياها . .
سيئ لوط بأضيافه . وهو يعلم ما ينتظرهم من قومه ، ويدرك الفضيحة التي ستناله في أضيافه :
{ وقال : هذا يوم عصيب }
وبدأ اليوم العصيب
{ وجاءه قومه يهرعون إليه } . . أي يسرعون في حالة تشبه الحمى .
{ ومن قبل كانوا يعملون السيئات } . .
وكان هذا ما ساء الرجل بضيوفه ، وما ضيق بهم ذرعه ، وما دعاه إلى توقع يوم عصيب
ورأى لوط ما يشبه الحمى في أجساد قومه المندفعين إلى داره ، يهددونه في ضيفه وكرامته . فحاول أن يوقظ فيهم الفطرة السليمة ، ويوجههم إلى الجنس الآخر الذي خلقه الله للرجال ، وعنده منه في داره بناته ، فهن حاضرات ، حاضرات اللحظة إذا شاء الرجال المحمومون تم الزواج على الفور ، وسكنت الفورة المحمومة والشهوة المجنونة
{ قال : يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم . فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي . أليس منكم رجل رشيد؟ } . .
{ هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } . .
أطهر بكل معاني الطهر . النفسي والحسي . فهن يلبين الفطرة النظيفة ، ويثرن مشاعر كذلك نظيفة . نظافة فطرية ونظافة أخلاقية ودينية . ثم هن أطهر حسياً . حيث أعدت القدرة الخالقة للحياة الناشئة مكمناً كذلك طاهراً نظيفاً .
{ فاتقوا الله } .

.
قالها يلمس نفوسهم من هذا الجانب بعد ان لمسها من ناحية الفطرة .
{ ولا تخزون في ضيفي } . .
قالها كذلك يلمس نخوتهم وتقاليد البدو في إكرام الضيف إطلاقاً .
{ أليس منكم رجل رشيد؟ } . .
فالقضية قضية رشد وسفه إلى جوار أنها قضية فطرة ودين ومروءة . . ولكن هذا كله لم يلمس الفطرة المنحرفة المريضة ، ولا القلوب الميتة الآسنة ، ولا العقول المريضة المأفونة . وظلت الفورة المريضة الشاذة في اندفاعها المحموم :
{ قالوا : لقد علمت ما لنا في بناتك من حق . وإنك لتعلم ما نريد } . .
لقد علمت لو أردنا بناتك لتزوجناهن . فهذا حقنا . . { وإنك لتعلم ما نريد } . . وهي إشارة خبيثة إلى العمل الخبيث .
وأسقط في يد لوط ، وأحس ضعفه وهو غريب بين القوم ، نازح إليهم من بعيد ، لا عشيرة له تحميه ، وليس له من قوة في هذا اليوم العصيب؛ وانفرجت شفتاه عن كلمة حزينة أليمة :
{ قال : لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد } . .
قالها وهو يوجه كلامه إلى هؤلاء الفتية الذين جاء الملائكة في صورتهم وهم صغار صباح الوجوه؛ ولكنهم في نظره ليسوا بأهل بأس ولا قوة . فالتفت إليهم يتمنى أن لو كانوا أهل قوة فيجد بهم قوة . أو لو كان له ركن شديد يحتمي به من ذلك التهديد
وغاب عن لوط في كربته وشدته أنه يأوي إلى ركن شديد . ركن الله الذي لا يتخلى عن أوليائه . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية : « رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد »
وعندما ضاقت واستحكمت حلقاتها ، وبلغ الكرب أشده . . كشف الرسل للوط عن الركن الشديد الذي يأوي إليه :
{ قالوا : يا لوط ، إنا رسل ربك ، لن يصلوا إليك } . .
وأنبأوه نبأهم ، لينجو مع أهل بيته الطاهرين ، إلا امرأته فإنها كانت من القوم الفاسدين :
{ فأسر بأهلك بقطع من الليل ، ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك . إنه مصيبها ما أصابهم ، إن موعدهم الصبح . أليس الصبح بقريب؟ } . .
والسرى : سير الليل ، والقطع من الليل : بعضه ، ولا يلتفت منكم أحد . أي لا يتخلف ولا يعوق . لأن الصبح موعدهم مع الهلاك . فكل من بقي في المدينة فهو هالك مع الهالكين .
{ أليس الصبح بقريب؟ } . .
سؤال لإنعاش نفس لوط بعد ما ذاق . لتقريب الموعد وتأكيده . فهو قريب . مع مطلع الصباح . ثم يفعل الله بالقوم بقوته ما لم تكن قوة لوط التي تمناها فاعله
والمشهد الأخير . مشهد الدمار المروع ، اللائق بقوم لوط :
{ فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها ، وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود . مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد } . .
فلما جاء موعد تنفيذ الأمر { جعلنا عاليها سافلها } . . وهي صورة للتدمير الكامل الذي يقلب كل شيء ويغير المعالم ويمحوها .

وهذا القلب وجعل عاليها سافلها أشبه شيء بتلك الفطرة المقلوبة الهابطة المرتكسة من قمة الإنسان إلى درك الحيوان . بل أحط من الحيوان ، فالحيوان واقف ملتزم عند حدود فطرة الحيوان . .
{ وأمطرنا عليها حجارة من سجيل } . .
حجارة ملوثة بالطين . . وهي كذلك مناسبة وعلى قدر المقام :
{ منضود } . . متراكم بعضه يلاحق بعضاً .
هذه الحجارة . . { مسوّمة عند ربك } . . كما تسوم الماشية أي تربى وتطلق بكثرة . فكأنما هذه الحجارة مرباة ومطلقة لتنمو وتتكاثر لوقت الحاجة . . وهو تصوير عجيب يلقي ظله في الحس ، ولا يفصح عنه التفسير ، كما يفصح عنه هذا الظل الذي يلقيه . .
{ وما هي من الظالمين ببعيد } . .
فهي قريبة وتحت الطلب ، وعند الحاجة تطلق فتصيب
والصورة التي يرسمها السياق هنا لهذه النازلة التي أصابت قوم لوط هي أشبه شيء ببعض الظواهر البركانية التي تخسف فيها الأرض فتبتلع ما فوقها ويصاحب هذا حمم وحجارة ووحل . . وعند ربك للظالمين كثير
ولا نقول هذا الكلام لنقول : إنه كان بركان من تلك البراكين ، ثار في ذلك الوقت ، فوقع ما وقع . إننا لا ننفي هذا . فقد يكون هو الذي وقع فعلاً . ولكننا لا نجزم به كذلك ولا نقيد قدر الله بظاهرة واحدة مألوفة . . وقوام القول في هذه القضية وأمثالها أنه جائز أن يكون في تقدير الله وقوع انفجار بركاني في موعده في هذا الموعد ليحقق قدر الله في قوم لوط كما قدر في علمه القديم . وهذا التوقيت والتوافق شأن من شؤون ألوهيته سبحانه وربوبيته للكون وتصريفه لكل ما يجري فيه متناسقاً مع قدره بكل شيء و بكل حي فيه .
وجائز كذلك أن تكون هذه الظاهرة وقعت بقدر خاص تعلقت به مشيئة الله سبحانه لإهلاك قوم لوط على هذه الصورة التي تم بها في ذلك الحين . وفهم علاقة مشية الله بالكون على النحو الذي بيناه قريباً في التعليق على حادثة امرأة إبراهيم ، لا يبقي مجالاً لمشكلة تقوم في التصور الإنساني لمثل هذه الظواهر والأمور . .

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)

وهذا دور من أدوار الرسالة الواحدة بالعقيدة الخالدة ، ينهض به شعيب في قومه أهل مدين . . ومع الدعوة إلى عقيدة التوحيد قضية أخرى ، هي قضية الأمانة والعدالة في التعامل بين الناس ، وهي وثيقة الصلة بالعقيدة في الله ، والدينونة له وحده ، واتباع شرعه وأمره . وإن كان أهل مدين قد تلقوها بدهشة بالغة ، ولم يدركوا العلاقة بين المعاملات المالية والصلاة المعبرة عن الدينونة لله
وتجري القصة على نسق قصة هود مع عاد ، وقصة صالح مع ثمود ، وإن كانت أقرب في نهايتها وأسلوب عرضها . والتعبير عن خاتمها إلى قصة صالح ، حتى لتشترك معها في نوع العذاب وفي العبارة عن هذا العذاب .
{ وإلى مدين أخاهم شعيباً . قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . . } .
إنها الدينونة لله وحده قاعدة العقيدة الأولى . وقاعدة الحياة الأولى . وقاعدة الشريعة الأولى . وقاعدة المعاملات الأولى . . . القاعدة التي لا تقوم بغيرها عقيدة ولا عبادة ولا معاملة . .
{ ولا تنقصوا المكيال والميزان ، إني أراكم بخير ، وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ، ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين . بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين . وما أنا عليكم بحفيظ } . .
والقضية هنا هي قضية الأمانة والعدالة بعد قضية العقيدة والدينونة أو هي قضية الشريعة والمعاملات التي تنبثق من قاعدة العقيدة والدينونة . . فقد كان أهل مدين وبلادهم تقع في الطريق من الحجاز إلى الشام ينقصون المكيال والميزان ، ويبخسون الناس أشياءهم ، أي ينقصونهم قيمة أشيائهم في المعاملات . وهي رذيلة تمس نظافة القلب واليد كما تمس المروءة والشرف . كما كانوا بحكم موقع بلادهم يملكون أن يقطعوا الطريق على القوافل الذاهبة الآيبة بين شمال الجزيرة وجنوبها . ويتحكموا في طرق القوافل ويفرضوا ما يشاءون من المعاملات الجائرة التي وصفها الله في هذه السورة .
ومن ثم تبدو علاقة عقيدة التوحيد والدينونة لله وحده بالأمانة والنظافة وعدالة المعاملة وشرف الأخذ والعطاء ، ومكافحة السرقة الخفية سواء قام بها الأفراد أم قامت بها الدول . فهي بذلك ضمانة لحياة إنسانية أفضل ، وضمانة للعدل والسلام في الأرض بين الناس . وهي الضمانة الوحيدة التي تستند إلى الخوف من الله وطلب رضاه ، فتستند إلى أصل ثابت ، لا يتأرجح مع المصالح والأهواء . .
إن المعاملات والأخلاق لا بد أن تستند إلى أصل ثابت لا يتعلق بعوامل متقلبة . . هذه هي نظرة الإسلام . وهي تختلف من الجذور مع سائر النظريات الاجتماعية والأخلاقية التي ترتكن إلى تفكيرات البشر وتصوراتهم وأوضاعهم ومصالحهم الظاهرة لهم
وهي حين تستند إلى ذلك الأصل الثابت ينعدم تأثرها بالمصالح المادية القريبة؛ كما ينعدم تأثرها بالبيئة والعوامل السائدة فيها .

فلا يكون المتحكم في أخلاق الناس وقواعد تعاملهم من الناحية الأخلاقية هو كونهم يعيشون على الزراعة أو يعيشون على الرعي أو يعيشون على الصناعة . . إن هذه العوامل المتغيرة تفقد تأثيرها في التصور الأخلاقي وفي قواعد المعاملات الأخلاقية ، حين يصبح مصدر التشريع للحياة كلها هو شريعة الله؛ وحين تصبح قاعدة الأخلاق هي إرضاء الله وانتظار ثوابه وتوقي عقابه ، وكل ما يهرف به أصحاب المذاهب الوضعية من تبعية الأخلاق للعلاقات الاقتصادية وللطور الاجتماعي للأمة يصبح لغواً في ظل النظرة الأخلاقية الإسلامية
{ ولا تنقصوا المكيال والميزان . إني أراكم بخير } . .
ققد رزقكم الله رزقاً حسناً ، فلستم في حاجة إلى هذه الدناءة لتزيدوا غنى ، ولن يفقركم أو يضركم أن لا تنقصوا المكيال والميزان . . بل إن هذا الخير ليهدده ما أنتم عليه من غش في المعاملة ، أو غضب في الأخذ والعطاء .
{ و إني أخاف عليكم عذاب يوم محيط } . .
إما في الآخرة عند الله . وإما في هذه الأرض حين يؤتي هذا الغش والغضب ثمارهما المرة في حالة المجتمع وفي حركة التجارة . وحين يذوق الناس بعضهم بأس بعض ، في كل حركة من الحركات اليومية وفي كل تعامل وفي كل احتكاك .
ومرة أخرى يكرر شعيب نصحه في صورة إيجابية بعد صورة النهي السلبية :
{ ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط } . .
وإيفاء الكيل والميزان أقوى من عدم نقصهما ، لأنه أقرب إلى جانب الزيادة .
وللعبارات ظل في الحس . وظل الإيفاء غير ظل عدم النقص ، فهو أكثر سماحة ووفاء .
{ ولا تبخسوا الناس أشياءهم } . .
وهذه أعم من المكيلات والموزونات . فهو يشمل حسن تقويم أشياء الناس من كل نوع . تقويمها كيلاً أو وزناً أو سعراً أو تقديراً . وتقويمها مادياً او معنوياً . وقد تدخل في ذلك الأعمال والصفات . لأن كلمة « شيء » تطلق أحياناً ويراد بها غير المحسوسات .
وبخس الناس أشياءهم فوق أنه ظلم يشيع في نفوس الناس مشاعر سيئة من الألم أو الحقد ، أو اليأس من العدل والخير و حسن التقدير . . وكلها مشاعر تفسد جو الحياة والتعامل والروابط الاجتماعية والنفوس والضمائر ، ولا تبقى على شيء صالح في الحياة .
{ ولا تعثوا في الأرض مفسدين } . .
والعثو هو الإفساد ، فلا تفسدوا متعمدين الإفساد ، قاصدين إلى تحقيقه . ثم يوقظ وجدانهم إلى خير أبقى من ذلك الكسب الدنس الذي يحصلون عليه بنقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم في التقدير :
{ بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين } . .
فما عند الله أبقى وأفضل . . وقد دعاهم في أول حديثه إلى عبادة الله وحده أي الدينونة له بلا شريك فهو يذكرهم بها هنا ، مع ذكر الخير الباقي لهم عند الله إن آمنوا كما دعاهم ، واتبعوا نصيحته في المعاملات . وهي فرع عن ذلك الإيمان .
{ بقية الله خير لكم .

. إن كنتم مؤمنين } . .
ثم يخلي بينهم وبين الله الذي دعاهم إليه ، ويبين لهم أنه لا يملك لهم شيئاً ، كما أنه ليس موكلاً بحفظهم من الشر والعذاب . وليس موكلاً كذلك بحفظهم من الضلال ولا مسؤولاً عنهم إن هم ضلوا ، إنما عليه البلاغ وقد أداه :
{ وما أنا عليكم بحفيظ } . .
ومثل هذا الأسلوب يشعر المخاطبين بخطورة الأمر ، وبثقل التبعة ، ويقفهم وجهاً لوجه أمام العاقبة بلا وسيط ولا حفيظ .
ولكن القوم كانوا قد عتوا ومردوا على الانحراف والفساد ، وسوء الاستغلال :
{ قالوا . يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ، أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ إنك لأنت الحليم الرشيد } . .
وهو رد واضح التهكم ، بيّن السخرية في كل مقطع من مقاطعة . وإن كانت سخرية الجاهل المطموس ، والمعاند بلا معرفة ولا فقه .
{ أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ } . .
فهم لا يدركون أولا يريدون أن يدركوا أن الصلاة هي من مقتضيات العقيدة ، ومن صور العبودية والدينونة . وأن العقيدة لا تقوم بغير توحيد الله ، ونبذ ما يعبدون من دونه هم وآباؤهم ، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شرائع الله في التجارة وفي تداول الأموال وفي كل شأن من شئون الحياة والتعامل . فهي لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن الصلاة عن شرائع الحياة وعن أوضاع الحياة .
وقبل أن نمضي طويلاً في تسفيه هذا التصور السقيم لارتباط الشعائر بالعقيدة . وارتباطهما معاً بالمعاملات . . قبل أن نمضي طويلاً في تسفيه هذا التصور من أهل مدين قبل ألوف السنين ، يحسن أن نذكر أن الناس اليوم لا يفترقون في تصورهم ولا في إنكارهم لمثل هذه الدعوة عن قوم شعيب . وأن الجاهلية التي نعيش فيها اليوم ليست أفضل ولا أذكى ولا أكثر إدراكاً من الجاهلية الأولى وأن الشرك الذي كان يزاوله قوم شعيب هو ذاته الشرك الذي تزاوله اليوم البشرية بجملتها بما فيها أولئك الذين يقولون : إنهم يهود أو نصارى أو مسلمون فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر . والشريعة والتعامل . فيجعل العقيدة والشعائر لله ووفق أمره ، ويجعل الشريعة والتعامل لغير الله ، ووفق أمر غيره . . وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله . .
وإن كان لا يفوتنا أن اليهود وحدهم اليوم هم الذين يتمسكون بأن تكون أوضاعهم ومعاملاتهم وفق ما يزعمونه عقيدتهم وشريعتهم وذلك بغض النظر عما في هذه العقيدة من انحراف وما في هذه الشريعة من تحريف فلقد قامت أزمة في « الكنيست » مجلس تشريعهم في إسرائيل بسبب أن باخرة إسرائيلية تقدم لركابها من غير اليهود أطعمة غير شرعية . وأرغمت الشركة والسفينة على تقديم الطعام الشرعي وحده مهما تعرضت للخسارة فأين من يدعون أنفسهم « مسلمين » من هذا الاستمساك بالدين؟
إن بيننا اليوم ممن يقولون : إنهم مسلمون من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق ، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية .

وحاصلون على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم . يتساءلون أولا في استنكار : وما للإسلام وسلوكنا الشخصي؟ ما للإسلام والعري في الشواطئ؟ ما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟ ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل؟ ما للإسلام وتناول كأس الخمر لإصلاح المزاج؟ ما للإسلام وهذا الذي يفعله « المتحضرون »؟ . فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين : { أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا؟ } . .
وهم يتساءلون ثانياً . بل ينكرون بشدة وعنف . أن يتدخل الدين في الاقتصاد ، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد ، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد . . . فما للدين والمعاملات الربوية؟ وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي؟ لا بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الأقتصاد تفسده . وينكرون حتى على بعض أصحاب النظريات الاقتصادية الغربية النظرية الأخلاقية مثلاً ويعدونها تخليطاً من أيام زمان
فلا يذهبن بنا الترفع كثيراً على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى . ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة ، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة ، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في الله ، والسلوك الشخصي في الحياة ، والمعاملات المادية في السوق . . تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود
وما تستقيم عقيدة توحيد الله في القلب ، ثم تترك شريعة الله المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى غيرها من قوانين الأرض . فما يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد . والشرك ألوان . منه هذا اللون الذي نعيش به الآن . وهو يمثل أصل الشرك وحقيقته التي يلتقي عليها المشركون في كل زمان وفي كل مكان
ويسخر أهل مدين من شعيب كما يتوقح بالسخرية اليوم ناس على دعاة التوحيد فيقولون :
{ إنك لأنت الحليم الرشيد } . .
وهم يعنون عكس معناها . فالحلم والرشد عندهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم بلا تفكير ، وأن يفصلوا بين العبادة والتعامل في السوق وكذلك هو عند المثقفين المتحضرين اليوم الذين يعيبون على المتعصبين الرجعيين
ويتلطف شعيب تلطف صاحب الدعوة الواثق من الحق الذي معه؛ ويعرض عن تلك السخرية لا يباليها وهو يشعر بقصورهم وجهلهم . . يتلطف في إشعارهم أنه على بينة من ربه كما يجده في ضميره وقلبه؛ وأنه على ثقة مما يقول لأنه أوتي من العلم ما لم يؤتوا ، وأنه إذ يدعوهم إلى الأمانة في المعاملة سيتأثر مثلهم بنتائجها لأنه مثلهم ذو مال وذو معاملات؛ فهو لا يبغي كسباً شخصياً من وراء دعوته لهم؛ فلن ينهاهم عن شيء ثم يفعله هو لتخلو له السوق إنما هي دعوة الإصلاح العامة لهم وله وللناس . وليس فيما يدعوهم إليه خسارة عليهم كما يتوهمون :
{ قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ، ورزقني منه رزقاً حسناً؟ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب } .

.
{ يا قوم . . . } . .
في تودد وتقرب ، وتذكير بالأواصر القريبة .
{ أرأيتم إن كنت على بينة من ربي؟ } . .
أجد حقيقته في نفسي وأستيقن أنه هو يوحي إلي ويأمرني بما أبلغكم إياه . وعن هذه البينة الواضحة في نفسي ، أصدر واثقاً مستيقناً .
{ ورزقني منه رزقاً حسناً } . .
ومنه الثروة التي أتعامل مع الناس مثلكم فيها .
{ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } . .
فأنهاكم ثم أذهب من خلفكم فأفعل ما نهيتكم عنه لأحقق لنفسي نفعاً به
{ إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت } . .
الإصلاح العام للحياة والمجتمع الذي يعود صلاحه بالخير على كل فرد وكل جماعة فيه؛ وإن خيل إلى بعضهم أن اتباع العقيدة والخلق يفوت بعض الكسب الشخصي ، ويضيع بعض الفرص . فإنما يفوت الكسب الخبيث ويضيع الفرص القذرة؛ ويعوض عنهما كسباً طيباً ورزقاً حلالاً ، ومجتمعاً متضامناً متعاوناً لا حقد فيه ولا غدر ولا خصام
{ وما توفيقي إلا بالله } . .
فهو القادر على إنجاح مسعاي في الإصلاح بما يعلم من نيتي ، وبما يجزي على جهدي .
{ عليه توكلت } . .
عليه وحده لا أعتمد على غيره .
{ وإليه أنيب } . .
إليه وحده أرجع فيما يحزبني من الأمور ، وإليه وحده أتوجه بنيتي وعملي ومسعاي .
ثم يأخذ بهم في واد آخر من التذكير ، فيطل بهم على مصارع قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط : فقد يفعل هذا في مثل تلك القلوب الجاسية ما لم يفعله التوجيه العقلي اللين الذي يحتاج إلى رشد وتفكير : { ويا قوم لا يجرمنَّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح . وما قوم لوط منكم ببعيد } . .
لا يحملنكم الخلاف معي والعناد في مواجهتي على أن تلجوا في التكذيب والمخالفة ، خشية أن يصيبكم ما أصاب الأقوام قبلكم . وهؤلاء قوم لوط قريب منكم في المكان . وقريب كذلك في الزمان . فمدين كانت بين الحجاز والشام .
ثم يفتح لهم وهم في مواجهة العذاب والهلاك باب المغفرة والتوبة ، ويطمعهم في رحمة الله والقرب منه بأرق الألفاظ وأحناها :
{ واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، إن ربي رحيم ودود } . . وهكذا يطوف بهم في مجالات العظة والتذكر والخوف والطمع ، لعل قلوبهم تتفتح وتخشع وتلين .
ولكن القوم كانوا قد بلغوا من فساد القلوب ، ومن سوء تقدير القيم في الحياة ، وسوء التصور لدوافع العمل والسلوك ، ما كشف عنه تبجحهم من قبل بالسخرية والتكذيب :
{ قالوا : يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول ، وإنا لنراك فينا ضعيفاً ، ولولا رهطك لرجمناك ، وما أنت علينا بعزيز } .

.
فهم ضيقو الصدور بالحق الواضح ، لا يريدون أن يدركوه :
{ قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول } . .
وهم يقيسون القيم في الحياة بمقياس القوة المادية الظاهرة :
{ وإنا لنراك فينا ضعيفاً } . .
فلا وزن عندهم للحقيقة القوية التي يحملها ويواجههم بها .
{ ولولا رهطك لرجمناك } . .
ففي حسابهم عصبية العشيرة ، لا عصبية الاعتقاد ، وصلة الدم لا صلة القلب . ثم هم يغفلون عن غيرة الله على أوليائه فلا يضعونها في الحساب .
{ وما أنت علينا بعزيز } . .
لا عزة التقدير والكرامة ولا عزة الغلب والقهر . ولكننا نحسب حساب الأهل والعشيرة
وحين تفرغ النفوس من العقيدة القويمة والقيم الرفيعة والمثل العالية؛ فإنها تقبع على الأرض ومصالحها القريبة وقيمها الدنيا؛ فلا ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة ، ولا لحقيقة كبيرة؛ ولا تتحرج عن البطش بالداعية إلا أن تكون له عصبة تؤويه؛ وإلا أن تكون معه قوة مادية تحميه . أما حرمة العقيدة والحق والدعوة فلا وزن لها ولا ظل في تلك النفوس الفارغة الخاوية .
وعندئذ تأخذ شعيباً الغيرة على جلال ربه ووقاره؛ فيتنصل من الاعتزاز برهطه وقومه؛ ويجبههم بسوء التقدير لحقيقة القوى في هذا الوجود ، وبسوء الأدب مع الله المحيط بما يعلمون . ويلقي كلمته الفاصلة الأخيرة . ويفاصل قومه على أساس العقيدة ، ويخلي بينهم وبين الله ، وينذرهم العذاب الذي ينتظر أمثالهم ، ويدعهم لمصيرهم الذي يختارون :
{ قال : يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهرياً؟ إن ربي بما تعملون محيط . ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل ، سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب } . .
{ أرهطي أعز عليكم من الله؟ } . .
أجماعة من البشر مهما يكونوا من القوة والمنعة فهم ناس ، وهم ضعاف ، وهم عباد من عباد الله . . أهؤلاء أعز عليكم من الله؟ . . أهؤلاء أشد قوة ورهبة في نفوسكم من الله؟
{ واتخذتموه وراءكم ظهرياً } . .
وهي صورة حسية للترك والإعراض ، تزيد في شناعة فعلتهم ، وهم يتركون الله ويعرضون عنه ، وهم من خلقه ، وهو رازقهم وممتعهم بالخير الذي هم فيه . فهو البطر وجحود النعمة وقلة الحياء إلى جانب الكفر والتكذيب وسوء التقدير .
{ إن ربي بما تعملون محيط } . .
والإحاطة أقصى الصور الحسية للعلم بالشيء والقدرة عليه .
إنها غضبة العبد المؤمن لربه أن يستباح جلاله سبحانه ووقاره . الغضبة التي لا يقوم إلى جوارها شيء من الاعتزاز بنسبه ورهطه وعشيرته وقومه . . إن شعيباً لم ينتفخ ولم ينتفش أن يجد القوم يرهبون رهطه ، فلا تمتد إليه أيديهم بالبطش الذي يريدونه ولم يسترح ولم يطمئن إلى أن يكون رهطه هم الذين يحمونه ويمنعونه من قومه الذين افترق طريقهم عن طريقه وهذا هو الإيمان في حقيقته . . أن المؤمن لا يعتز إلا بربه؛ ولا يرضى أن تكون له عصبة تخشى ولا يُخشى ربه فعصبية المسلم ليست لرهطه وقومه ، إنما هي لربه ودينه .

وهذا هو مفرق الطريق في الحقيقة بين التصور الإسلامي والتصور الجاهلي في كل أزمانه وبيئاته
ومن هذه الغضبة لله . والتنصل من الاعتزاز أو الاحتماء بسواه ، ينبعث ذلك التحدي الذي يوجهه شعيب إلى قومه؛ وتقوم تلك المفاصلة بينه وبينهم بعد أن كان واحداً منهم ويفترق الطريقان فلا يلتقيان :
{ ويا قوم اعملوا على مكانتكم } . .
وامضوا في طريقكم وخطتكم ، فقد نفضت يديّ منكم .
{ إني عامل } . .
على طريقتي ومنهجي .
{ سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب } . .
أنا أم أنتم؟
{ وارتقبوا إني معكم رقيب } . .
للعاقبة التي تنتظرني وتنتظركم . . وفي هذا التهديد ما يوحي بثقته بالمصير . كما يوحي بالمفاصلة وافتراق الطريق . .
ويسدل الستار هنا . على هذه الكلمة الأخيرة الفاصلة وعلى هذا الافتراق والمفاصلة ، ليرفع هناك على مصرع القوم ، وعلى مشهدهم جاثمين في ديارهم ، أخذتهم الصاعقة التي أخذت قوم صالح ، فكان مصيرهم كمصيرهم ، خلت منهم الدور ، كأن لم يكن لهم فيها دور ، وكأن لم يعمروها حيناً من الدهر . مضوا مثلهم مشيعين باللعنة ، طويت صفحتهم في الوجود وصفحتهم في القلوب :
{ ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا ، وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ، كأن لم يغنوا فيها . ألا بعداً لمدين ، كما بعدت ثمود . . . } .
وطويت صفحة أخرى من الصفحات السود ، حق فيها الوعيد على من كذبوا بالوعيد .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)

وخاتمة ذلك القصص هذه الإشارة إلى قصة موسى مع فرعون ، لتسجيل نهاية فرعون وملئه ، ونهاية قومه الذين ائتمروا بأمره . وتتضمن هذه الإشارة العابرة إيماءات كثيرة إلى وقائع القصة التي لم تذكر هنا ، كما تضم مشهداً من مشاهد القيامة الحية المتحركة . وهذا وذلك إلى تقرير مبدأ رئيسي من مبادئ الإسلام . مبدأ التبعة الفردية التي لا يسقطها اتباع الرؤساء والكبراء . .
ويبدأ المشهد المعروض هنا بإرسال موسى بالآيات مزوداً بقوة من الله وسلطان ، إلى فرعون ذي السلطان وكبراء قومه .
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين . إلى فرعون وملئه } . .
ويجمل السياق خطوات القصة كلها ليصل إلى نهايتها ، فإذا هم يتبعون أمر فرعون ، ويعصون أمر الله . على ما في أمر فرعون من حماقة وجهل وشطط :
{ فاتبعوا أمر فرعون . وما أمر فرعون برشيد } . . .
ولما كانوا تبعاً لفرعون في هذا الأمر ، يمشون خلفه ، ويتبعون خطواته الضالة بلا تدبر ولا تفكر ، ودون أن يكون لهم رأي ، مستهينين بأنفسهم ، متخلين عن تكريم الله لهم بالإرادة والعقل وحرية الاتجاه واختيار الطريق . . لما كانوا كذلك فإن السياق يقرر أن فرعون سيقدمهم يوم القيامة ويكونون له تبعاً :
{ يقدم قومه يوم القيامة } . .
وبينما نحن نسمع حكاية عن الماضي ووعداً عن المستقبل ، إذا المشهد ينقلب ، وإذا المستقبل ماض قد وقع ، وإذا فرعون قد قاد قومه إلى النار وانتهى :
{ فأوردهم النار }
أوردهم كما يورد الراعي قطيع الغنم . ألم يكونوا قطيعاً يسير بدون تفكير؟ ألم يتنازلوا عن أخص خصائص الآدمية وهي حرية الإرادة والاختيار؟ فأوردهم النار . ويا بئساه من ورد لا يروي غلة ، ولا يشفي صدى ، إنما يشوي البطون والقلوب :
{ وبئس الورد المورود } .
وإذا ذلك كله . قيادة فرعون لهم ، وإيرادهم موردهم . . إذا ذلك كله حكاية تروى ، ويُعلق عليها :
{ وأُتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة } . .
ويُسخر منها ويُتهكم عليها : { بئس الرفد المرفود } . .
فهذه النار هي الرفد والعطاء والمنة التي رفد بها فرعون قومه ألم يعد السحرة عطاء جزيلاً ورفداً مرفوداً . . فها هو ذا رفده لمن اتبعه . . النار . . وبئس الورد المورود . وبئس الرفد المرفود
وذلك من بدائع التعبير والتصوير في هذا الكتاب العجيب . .

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)

هذه خاتمة السورة . تشتمل على تعليقات وتعقيبات متنوعة ، مبنية على ما سبق في سياق السورة . من المقدمة ومن القصص . وهذه التعليقات والتعقيبات شديدة الاتصال بما سبق من سياق السورة ، متكاملة معه في أداء أهدافها كذلك .
والتعقيب الأول في هذا الدرس تعقيب مباشر على القصص : { ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد . وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك - وما زادوهم غير تتبيب . وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة . إن أخذه أليم شديد } . .
والتعقيب الثاني يتخذ مما نزل بالقرى من عذاب موحياً بالخوف من عذاب الآخرة الذي يعرض في مشهد شاخص من مشاهد يوم القيامة : { إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة . ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود . وما نؤخره إلا لأجل معدود . يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد . فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق . خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك - إن ربك فعال لما يريد . وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض - إلا ما شاء ربك - عطاء غير مجذوذ } . .
يليه تعقيب آخر مستمد من عاقبة القرى ومن مشهد القيامة لتقرير أن المشركين الذين يواجههم محمد صلى الله عليه وسلم شأنهم شأن من قبلهم في الحالين . وإذا كان عذاب الاستئصال لا يقع عليهم في الأرض ، فذلك لكلمة سبقت من ربك إلى أجل كما أجل العذاب لقوم موسى مع اختلافهم فيما جاءهم من كتاب . ولكن هؤلاء وهؤلاء سيوفون أعمالهم على وجه التأكيد . فاستقم أيها الرسول على طريقتك انت ومن تاب معك ، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا وأشركوا ، وأقم الصلاة واصبر ، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين : { فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء . ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل ، وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص . ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب وإن كلاًّ لمّا ليوفينهم ربك أعمالهم ، إنه بما يعملون خبير . فاستقم كمآ أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا ، إنه بما تعملون بصير . ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون . وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل ، إن الحسنات يذهبن السيئات ، ذلك ذكرى للذاكرين . واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } . .
ثم عودة إلى القرون الخالية التي لم يكن فيها إلا قليل من الذين ينهون عن الفساد في الأرض .

أما الكثرة فكانت ماضية فيما هي فيه ، فاستحقت الهلاك . وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون : { فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم ، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ، وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } . .
وكشف عن سنة الله في كون الناس مختلفين في مناهجهم واتجاهاتهم . ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة . ولكن إرادته اقتضت إعطاء البشر قدراً من الاختيار : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ، ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك . ولذلك خلقهم ، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } .
وفي النهاية يسجل السياق غرضاً من أغراض هذا القصص هو تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ، ويؤمر الرسول أن يلقي للمشركين كلمته الأخيرة ، ويكلهم إلى ما ينتظرهم من غيب الله . وأن يعبد الله ويتوكل عليه ، ويدع له أخذ الناس بما يعملون : { وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ، وجاءك في هذه الحق ، وموعظة وذكرى للمؤمنين . وقل للذين لا يؤمنون : اعملوا على مكانتكم إنا عاملون . وانتظروا إنا منتظرون . ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله ، فاعبده وتوكل عليه ، وما ربك بغافل عما تعملون } . .
{ ذلك من أنباء القرى نقصه عليك . منها قائم وحصيد . وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم؛ فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك ، وما زادوهم غير تتبيب . وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } . .
ومصارع القوم معروضة ، ومشاهدهم تزحم النفس والخيال؛ منهم الغارقون في لجة الطوفان الغامر ، ومنهم المأخوذون بالعاصفة المدمرة ، ومنهم من أخذته الصيحة ، ومنهم من خسفت به وبداره الأرض ، ومنهم من يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار . وما حل بهم من قبل في الدنيا يخايل للأنظار . . في هذا الموضع وقد بلغ السياق من القلوب والمشاعر أعماقها بتلك المصارع والمشاهد . . هنا يأتي هذا التعقيب :
{ ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد } . .
{ ذلك من أنباء القرى نقصه عليك } . . فما كان لك به من علم ، إنما هو الوحي ينبئك بهذا الغيب المطمور . وذلك بعض أغراض القصص في القرآن .
{ منها قائم } . . لا تزال آثاره تشهد بما بلغ أهله من القوة والعمران ، كبقايا عاد في الأحقاف وبقايا ثمود في الحجر . ومنها { حصيد } كالزرع المحصود . اجتث من فوق الأرض وتعرى وجهها منه ، كما حل بقوم نوح أو قوم لوط .
وما الأقوام؟ وما العمران؟ . . إن هي إلا حقول من الأناسي كحقول النبات . غرس منها يزكو وغرس منها خبيث غرس منها ينمو وغرس منها يموت
{ وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } .

.
فهم قد عطلوا مداركهم ، وتولوا عن الهدى ، وكذبوا بالآيات ، واستهزأوا بالوعيد ، فصاروا إلى ما صاروا إليه ظالمين لأنفسهم لا مظلومين .
{ فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك ، وما زادوهم غير تتبيب } . .
وهذا غرض آخر من أغراض هذا القصص . فقد افتتحت السورة بإنذار الذين يدينون لغير الله سبحانه؛ وتكرر الإنذار مع كل رسول؛ وقيل لهم : إن هذه الأرباب المفتراة لا تعصم من الله . . فها هي ذي العاقبة تصدق النذر . فلا تغني عنهم آلهتهم شيئاً ، ولا تدفع عنهم العذاب لما جاء أمر ربك ، بل ما زادهم هؤلاء الآلهة إلا خسارة ودماراً . ( ولفظ تتبيب أقوى ببنائه اللفظي وجرسه المشدد ) ذلك أنهم اعتمدوا عليهم ، فزادهم استهتاراً وتكذيباً . فزادهم الله نكالاً وتدميراً . فهذا معنى { ما زادوهم } فهم لا يملكون لهم ضراً كما أنهم لا يملكون لهم نفعاً . ولكن بسببهم كانت الخسارة المضاعفة والتدمير المضاعف والنكال الشديد . .
{ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة } . . .
كذلك الذي قصصناه عليك ، وبمثل هذا الدمار والنكال يأخذ ربك القرى حين يأخذها وهي ظالمة . . ظالمة : مشركة حين تدين لغير الله بالربوبية ، وظالمة لنفسها بالشرك والفساد في الأرض والإعراض عن دعوة التوحيد والصلاح . وقد ساد فيها الظلم وسيطر الظالمون .
{ إن أخذه أليم شديد } . .
بعد الإمهال والمتاع والابتلاء ، وبعد الإعذار بالرسل والبينات ، وبعد أن يسود الظلم في الأمة ويسيطر الظالمون . ويتبين أن دعاة المصلحين قلة منعزلة لا تأثير لها في حياة الجماعة الظالمة السادرة في الظلال . . ثم . . بعد أن تفاصل العصبة المؤمنة قومها السادرين في الظلال؛ وتعتبر نفسها أمة وحدها لها دينها ولها ربها ولها قيادتها المؤمنة ولها ولاؤها الخاص فيما بينها . وتعلن الأمة المشركة من قومها بهذا كله ، وتدعها تلاقي مصيرها الذي يقدره الله لها . وفق سنته التي لا تتخلف على مدار الزمان .
ذلك الأخذ الأليم الشديد في الدنيا علامة على عذاب الآخرة ، يراها من يخافون عذاب الآخرة ، أي الذين تفتحت بصائرهم ليدركوا أن الذي يأخذ القرى بظلمها في هذه الحياة سيأخذها بذنوبها في الآخرة ، فيخافوا هذا العذاب . . وهنا يعبر السياق بالقلب البشري من مشاهد الأرض إلى مشاهد القيامة على طريقة القرآن في وصل الرحلتين بلا فاصل في السياق :
{ إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة . ذلك يوم مجموع له الناس ، وذلك يوم مشهود . وما نؤخره إلا لأجل معدود . يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ، فمنهم شقي وسعيد . فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق . خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد . وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ } .

.
{ أن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة } . .
ففي ذلك الأخذ الأليم الشديد مشابه من عذاب الآخرة ، تذكر بهذا اليوم وتخيف . .
وإن كان لا يراها إلا الذين يخافون الآخرة فتتفتح بصائرهم بهذه التقوى التي تجلو البصائر والقلوب . .
والذين لا يخافون الآخرة تظل قلوبهم صماء لا تتفتح للآيات ، ولا تحس بحكمة الخلق والإعادة ، ولا ترى إلا واقعها القريب في هذه الدنيا ، وحتى العبر التي تمر في هذه الحياة لا تثير فيها عظة ولا فهماً .
ثم يأخذ في وصف ذلك اليوم . .
{ ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود } . .
وهنا يرتسم مشهد التجميع يشمل الخلق جميعاً ، على غير إرادة منهم ، إنما هو سوق الجميع سوقاً إلى ذلك المعرض المشهود ، والكل يحضر والكل ينتظر ما سوف يكون . .
{ يوم يأت لا تَكلم نفس إلا بإذنه } . .
فالصمت الهائل يغشى الجميع ، والرهبة الشاملة تخيم على المشهد ومن فيه . والكلام بإذن لا يجرؤ أحد على طلبه ، ولكن يؤذن لمن شاء الله فيخرج من صمته بإذنه . . ثم تبدأ عملية الفرز والتوزيع :
{ فمنهم شقي وسعيد } . .
ومن خلال التعبير نشهد : { الذين شقوا } نشهدهم في النار مكروبي الأنفاس { لهم فيها زفير وشهيق } من الحر والكتمة والضيق . ونشهد { الذين سعدوا } نشهدهم في الجنة لهم فيها عطاء دائم غير مقطوع ولا ممنوع .
هؤلاء وأولئك خالدون حيث هم { ما دامت السماوات والأرض } . وهو تعبير يلقي في الذهن صفة الدوام والاستمرار . وللتعبيرات ظلال . وظل هذا التعبير هنا هو المقصود .
وقد علق السياق هذا الاستمرار بمشيئة الله في كلتا الحالتين . وكل قرار وكل سنة معلقة بمشيئة الله في النهاية . فمشيئة الله هي التي اقتضت السنة وليست مقيدة بها ولا محصورة فيها . إنما هي طليقة تبدل هذه السنة حين يشاء الله :
{ إن ربك فعال لما يريد } . .
وزاد السياق في حالة الذين سعدوا ما يطمئنهم إلى أن مشيئة الله اقتضت أن يكون عطاؤه لهم غير مقطوع ، حتى على فرض تبديل إقامتهم في الجنة . وهو مطلق فرض يذكر لتقرير حرية المشيئة بعدما يوهم التقييد .
بعد هذا الاستطراد إلى المصير في الآخرة ، بمناسبة عرض مصائر الأقوام في الدنيا ، والمشابه بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، وتصوير ما ينتظر المكذبين هنا أو هناك ، أو هنا ثم هناك . . يعود السياق بما يستفاد من القصص ومن المشاهد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه في مكة تسرية وتثبيتاً؛ وإلى المكذبين من قومه بياناً وتحذيراً . فليس هناك شك في أن القوم يعبدون ما كان آباؤهم يعبدون - شأنهم شأن أصحاب ذلك القصص وأصحاب تلك المصائر ونصيبهم الذي يستحقونه سيوفونه . فإن كان قد أخر عنهم فقد أخر عذاب الاستئصال عن قوم موسى بعد اختلافهم في دينهم لأمر قد شاءه الله في إنظارهم .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36