كتاب :شذرات الذهب في أخبار من ذهب
المؤلف:عبد الحي بن أحمد بن محمد العكري الحنبلي

الفقيه المالكي ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة وتفقه على أبي طالب صالح ابن بنت معافى وأبي طاهر بن عوف وأكثر إلى الغاية عن السلفي والموجودين ورحل سنة أربع وسبعين فكتب عن الموجودين وسكن في أواخر عمره بمصر ودرس بالصاحبية وصنف التصانيف الحسان توفي في غرة شعبان
وفيها الخطيب المالقي أبو بكر عبد الله بن الحسن بن أحمد الأنصاري القرطبي الحافظ المالكي كان إمام من الثقات قاله ابن ناصر الدين
وفيها أبو المظفر مهذب الدين محمد بن علي بن نصر بن البل الدوري الواعظ الحنبلي ولد سنة ست عشرة أو سبع عشرة وخمسمائة بالدور وهي دور الوزير ابن هبيرة بدجيل ونشأ بها ثم قدم بغداد واستوطنها وسمع بها من ابن ناصر الحافظ وابن الطلاية والوزير ابن جهير وابن الزاغوني وأبي الوقت وجماعة كثيرة وقال الشعر وفتح عليه في الوعظ حتى صار يضاهي ابن الجوزي ويزاحمه في أماكنه ولما اعتقل ابن الجوزي بواسط خلا للدوري الجو فكان يعظ مكانه قال ابن نقطة سمعت منه وكان شيخا صالحا متعبدا وقال المنذري حدث وعمر وعجز عن الحركة ولزم بيته إلى أن مات وهو ابن أربع أو خمس وتسعين سنة وكان شيخا صالحا متعبدا والبل بفتح الباء الموحدة وتشديد اللام انتهى وقال ابن رجب توفي يوم الثلاثاء ثاني عشر شعبان وكان له ولد اسمه محمد يكنى أبا عبد الله كانت له معرفة جيدة بالحساب وأنواعه والمساحة والفرائص وقسمة التركات واقرأ ذلك مدة وسمع من ابن البطي وغيره وشهد عند ابن الشهرزوري توفي شابا في حياة أبيه يوم الإثنين رابع عشرى شوال سنة ثمان وتسعين وخمسمائة
وفيها أبو بكر بن الحلاوي عماد الدين محمد بن مغالي بن غنيمة البغدادي المأموني المقري الفقيه الحنبلي الزاهد سمع من أبي الفتح بن الكروخي وابن ناصر وأبي بكر بن الزاغوني وغيرهم وتفقه على أبي الفتح بن المنى وبرع في

المذهب حتى قال الذهبي هو شيخ الحنابلة في زمنه ببغداد وعليه تفقه الشيخ المجد جد شيخنا ابن تيمية وقال ابن القادسي كانت له اليد الباسطة في المذهب والفتيا وكان ملازما لزاويته في المسجد قليل المخالطة إلا لمن عساه يكون من أهل الدين ما ألم بباب لأحد من أرباب الدنيا وما قبل أحد هدية وكان أحد الأبدال الذين يحفظ الله بهم الأرض ومن عليها وقال الناصح بن الحنبلي كان زاهدا عالما فاضلا مشتغلا بالكسب من الخياطة ومشتغلا بالعلم يقري القرآن احتسابا وقال ابن رجب له تصانيف منها المنير في الأصول وعليه تفقه مجد الدين بن تيمية ويحيى بن الصيرفي وسمع منه هو وابن القطيعي وتوفي ليلة الجمعة ثامن عشرى رمضان ودفن بباب حرب
وفيها أبو الحسن علي بن أبي بكر بن علي الهروي الأصل الموصلي المولد السايح المشهور نزيل حلب طاف البلاد وأكثر من الزيارات قال ابن خلكان لم يترك برا ولا بحرا ولا سهلا ولا جبلا من الأماكن التي يمكن قصدها ورؤيتها إلا رآها ولما سار ذكره بذلك واشتهر به ضرب به المثل فيه وله مصنفات منها كتاب الإشارات في الزيارات وكتاب الخطب الهروية وغير ذلك وتوفي في العشر الأوسط من رمضان في مدرسته انتهى ملخصا

سنة اثنتي عشرة وستمائة

فيها أخذت أنطاكية من الفرنج أخذها كيكاووس ملك الروم
وفيها ثارت الكرج وبدعوا بأذربيجان وقتلوا وسبوا وأسروا نحو مائة ألف وفيها توفي ابن الدبيقي أبو العباس أحمد بن يحيى بن بركة البزار ببغداد وله بضع وثمانون سنة روى عن قاضي المارستان وابن زريق القزاز وجماعة وهو ضعيف ألحق اسمه في أماكن توفي في ربيع الآخر
وفيها سليمان بن محمد بن علي الموصلي الفقيه أبو الفضل الصوفي ولد سنة

ثمان وعشرين وخمسمائة وسمع من إسمعيل بن السمرقندي ويحيى بن الطراح وطائفة وتوفي في ربيع الأول وفيها أبو محمد بن حوط الله الحافظ عبد الله بن سليمان بن داود بن حوط الله الأنصاري الأندلسي ولد سنة تسع وأربعين وخمسمائة وسمع من أبي الحسين بن هذيل وابن حبيش وخلق كثير وكان موصوفا بالأتقان حافظا لا سيما الرجال صنف كتابا في تسمية شيوخ البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ولم يتمه وكان إماما في العربية والترسل والشعر ولي قضاء أشبيلية وقرطبة وأدب أولاد المنصور صاحب المغرب بمراكش توفي في ربيع الأول وفيها عبد الله بن أبي بكر بن أحمد بن أحمد بن طليب أبو علي الحربي روى عن عبد الله بن أحمد بن يوسف توفي في ذي الحجة وفيها ابن منينا أبو محمد عبد العزيز بن معالي بن غنيمة البغدادي الأشنائي آخر من حدث بالعراق عن قاضي المارستان وسمع من جماعة توفي في ذي الحجة عن سبع وثمانين سنة وفيها الحافظ أبو محمد عبد القادر الرهاوي الحنبلي كان مملوكا لبعض أهل الموصل فأعتقه وحبب إليه فن الحديث فسمع الكثير وصنف وجمع وله الأربعون المتباينة الإسناد والبلاد وهو أمر ما سبقه إليه أحد ولا يرجوه بعده محدث لخراب البلاد سمع بأصبهان من مسعود الثقفي وبهمذان من أبي العلاء الحافظ وأبي زرعة المقدسي وبهراة من عبد الجليل ابن أبي سعد وبمرو ونيسابور وسجستان وبغداد ودمشق ومصر قاله في العبر وقال ابن خليل كان حافظا ثبتا كثير التصنيف ختم به الحديث وقال أبو شامة كان صالحا مهيبا زاهدا خشن العيش ورعا ناسكا وقال ابن رجب هو محدث الجزيرة ولد في جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وخمسمائة بالرها ثم أصابه سباء لما فتح زنكي الرها سنة تسع وثلاثين فاشتراه بنو فهم الحرانيون وأعتقوه وقال الدبيثي كان صالحا كثير السماع ثقة كتب الناس

عنه كثيرا وأجاز لنا مرارا وقال ابن النجار كان حافظا متقنا فاضلا عالما ورعا متدينا زاهدا عابدا صدوقا ثقة نبيلا على طريقة السلف الصالح لقيته بحران وكتبت عنه جزءا واحدا انتخبته من عوالي مسموعاته في رحلتي الأولى وقال ابن رجب سمع منه خلق كثير من الحفاظ والأئمة منهم أبو عمرو ابن الصلاح وحدث عنه ابن نقطة وأبو عبد الله البرزالي والضياء وابن خليل وابن عبد الدايم وأبو عبد الله بن حمدان الفقيه وهو خاتمة أصحابه توفي رحمه الله يوم السبت ثاني جمادى الأولى بحران وفيها أبو محمد عبد المنعم بن محمد بن الحسين بن سليمان الباجسري ثم البغدادي الفقيه الحنبلي ولد سنة تسع وأربعين وخمسمائة بباجسرا وقدم بغداد في صباه فسمع من شهدة وغيرها وقرأ الفقه على أبي الفتح بن المنى ولازمه حتى برع وقرأ الأصول الخلاف والجدل على محمد التوقاني الشافعي وصحب ابن الصقال وصار معيدا لمدرسته ثم درس بمسجد شيخه ابن المنى بالمأمونية مدة وكان يؤم بمسجد الاجرة وشهد عند قاضي القضاة ابن الشهرزوري وكان فقيها فاضلا حافظا للمذهب حسن الكلام في مسائل الخلاف متدينا حسن الطريقة ذكر ذلك ابن النجار وقال سمع معنا أخيرا من مشايخنا فأكثر وكان حسن الأخلاق متوددا روى عنه أبو عبد الله بن الدبيثي وابن الساعي بالإجازة وقال أنشدني هذين البيتين
( إذا أفادك إنسان بفائدة ** من العلوم فأدمن شكره أبدا )
( وقل فلان جزاه الله صالحة ** افادنيها والق الكبر والحسدا )
توفي رحمه الله يوم الإثنين ثامن عشر جمادى الأولى ودفن بباب حرب
وفيها أبو الفتح عبد الوهاب بن بزغش بالباء الموحدة المضمومة وبالزاي والغين والشين المعجمات العيبي بكسر العين المهملة وفتح الياء آخر الحروف وكسر الموحدة نسب لذلك لأن أباه كان يحمل العيب التي فيها كتب

الرسائل المقري البغدادي الحنبلي ختن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي ولد سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة تقديرا وقرأ القرآن بالروايات الكثيرة على سعد الله بن الدجاجي وغيره وسمع الحديث الكثير من أبي الوقت وخلق كثير وعنى بالحديث وحصل الأصول وتفقه في المذهب قال ابن النجار كان حسن المعرفة بالقراءات حسن الأداء طيب النغمة ضابطا له معرفة بالوعظ يحسن الكلام في مسائل الخلاف كتبنا عنه وكان صدوقا حسن الطريقة متدينا فقيرا صبورا وزمن في آخر عمره وانقطع في بيته مدة وقال ابن نقطة ثقة لكنه أخرج أحاديث مما قرب سنده ولا يعرف الرجال فربما سقط من الإسناد رجلان أو أكثر وهو لا يدري وقال القادسي حدث وسمع منه جماعة وتوفي ليلة الخميس خامس ذي القعدة وصلى عليه من الغد محي الدين ابن الجوزي ودفن بباب حرب وفيها أبو الحسن بن الصباغ القدوة العارف علي بن حميد العصيدي صحب الشيخ عبد الرحيم القناوي وتخرج به وكان والده صباغا وكان يعيب عليه عدم معاونته له وانقطاعه إلى أهل التصوف فأخذ يوما الثياب التي عند والده جميعها وطرحها في زير واحد فصاح عليه والده وقال أتلفت ثياب الناس وأخرجها فإذا كل ثوب على اللون الذي أراد صاحبه فحينئذ اشتهر أمره وصحبه خلائق قال ابن الأهدل وكان لا يصحب إلا من رآه مكتوبا في اللوح المحفوظ من أصحابه وسأله إنسان الصحبة والخدمة له فقال له ما بقي عندنا وظيفة نحتاجك لها إلا أن تجيء كل يوم بحزمة من الحلفا فقال نعم فكان يأخذ المحش فيأتي كل يوم بحزمة ثم مل وترك فرأى القيامة قامت وأشرف على الوقوع في النار وإذا حزمة الحلفاء تحته مارة به على النار وهو فوقها حتى أخرجته فجاء إلى الشيخ فلما رآه قال ما قلنا لك ما عندنا خدمة تصلح سوى الحلفاء فاستغفر وعاد إلى

الخدمة وله مناقب كثيرة انتهى وقال في العبر انتفع به خلق كثير توفي في نصف شعبان ودفن برباطه بفناء من الصعيد رحمه الله انتهى
وفيها أبو عبد الله بن البنا الشيخ أبو النجيب نور الدين محمد بن أبي المعالي عبد الله بن موهوب بن جامع البغداد الصوفي صحب الشيخ أبا النجيب السهروردي وسمع من ابن ناصر وابن الزاغوني وطائفة وكتب سماعاته وحدث بالعراق والحجاز ومصر والشام واستقر بالسميساطية إلى أن توفي في ذي القعدة عن ست وسبعين سنة وفيها ابن الجلاجلي كمال الدين أبو الفتوح محمد بن علي بن المبارك البغدادي التاجر الكبير سمع من هبة الله بن أبي شريك الحاسب وغيره وتوفي ببيت المقدس في رمضان
وفيها الوجيه بن الدهان أبو بكر المبارك بن المبارك بن أبي الأزهر الواسطي الضرير النحوي ولد سنة اثنتين وثلاثين وخسمائة وسمع ببغداد من أبي زرعة ولزم الكمال عبد الرحمن الأنباري وأبا محمد بن الخشاب وبرع في العربية ودرس النحو بالنظامية وكان حنبليا فتحول حنفيا وقيل تحول أيضا شافعيا وفيه أبيات سائرة توفي في شعبان ببغداد
وفيها موسى بن سعد أبو القسم الهاشمي البغداوي ابن الصيقل سمع من إسمعيل بن السمرقندي وأبي الفضل الأرموي وكان صدرا معظما ولي نقابة الكوفة توفي في جمادى الأولى وفيها يحيى بن ياقوت البغدادي المجاور بمكة روى عن إسماعيل بن السمرقندي وعبد الجبار بن أحمد بن توبة وجماعة وتوفي في جمادى الآخرة رحمه الله

سنة ثلاث عشرة وستمائة

قال ابن الأثير فيها وقع بالبصرة برد قيل أن أصغره كالنارنجة وأكبره ما يستحي الإنسان أن يذكره وفيها توفي أبو إسحق إبراهيم بن

علي بن الحسين البغدادي أخو الفخر إسمعيل غلام ابن المنى سمع الحديث وتفقه في مذهب الحنابلة على أخيه وتكلم في مسائل الخلاف وكان فقيها صالحا توفي ثاني عشر ربيع الأول ودفن عند أخيه بمقبرة الإمام أحمد
وفيها إسمعيل بن عمر بن بكر المقدسي أبو إسحق وأبو القسم وأبو الفضل ويلقب محب الدين الحنبلي سمع بدمشق من أبي اليمن الكندي وغيره وبمصر من البوصيري والحافظ عبد الغني وببغداد من ابن الأخضر وطبقته وبأصبهان من أبي عبد الله محمد بن مكي وغيره وكانت رحلته مع الضياء بعد الستمائة وعنى بالحديث ووصفه جماعة بالحافظ وتفقه وحدث وتوفي في ثامن عشر شوال وفيها الشيخ شرف الدين أبو الحسن أحمد بن عبيد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي ولد سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وسمع من أبي الفرج ابن كليب وغيره وحدث وكان فقيها فاضلا دينا عاملا جمع الله له بين حسن الخلق والخلق والأمانة والمروءة وقضاء حوائج الإخوان والكرم والإحسان إلى الضعفاء والمرضى وقضاء حوائجهم والتهجد وكان يقول الحق ولا يحابي أحدا توفي ليلة رابع عشر ذي القعدة ودفن من الغد بسفح قاسيون ورؤيت له منامات حسنة جدا ورثاه غير واحد ولما توفي هؤلاء الثلاثة الأحبار المقدسيون المحب والعز والشرف في مدة متقاربة رثاهم شيخ الإسلام موفق الدين بقوله
( مات المحب ومات العز والشرف ** أئمة سادة ما منهم خلف )
( كانوا أئمة علم يستضاء بهم ** لهفي على فقدهم لو ينفع اللهف )
( ما ودعوني غداة البين إذ رحلوا ** بل أودعوا قلبي الأحزان وانصرفوا )
وهي طويلة وفيها العلامة تاج الدين الكندي أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن البغدادي المقرىء النحوي اللغوي شيخ الحنفية والقراء والنحاة بالشام ومسند العصر ولد سنة عشرين وخمسمائة وأكمل القراءات العشرة

وله عشرة أعوام وهذا ما لا نعلمه تهيأ لأحد سواه اعتنى به سبط الخياط فأقرأه وحرص عليه وجهزه إلى أبي القسم هبة الله بن الطبر فقرأ عليه ست روايات وإلى أبي منصور ابن خيرون وأبي بكر خطيب الموصل وأبي الفضل بن المهتدي بالله فقرأ عليهم بالروايات الكثيرة وسمع من ابن الطبر وقاضي المارستان وأبي منصور القزاز وخلق وأتقن العربية على جماعة وقال الشعر الجيد ونال الجاه الوافر فإن الملك المعظم كان مديما للإشتغال عليه وكان ينزل إليه من القلعة توفي في سادس شوال ونزل الناس بموته درجة في القراءات وفي الحديث لأنه آخر من سمع من القاضي أبي بكر والقاضي أبو بكر آخر من سمع من أبي محمد الجوهري والجوهري آخر من روى عن القطيعي والقطيعي آخر من روى عن الكريمي وجماعة قاله في العبر قلت ومن شعره
( تمنيت في عشر الشبيبة أنني ** أعمر والإعمار لا شك أرزاق )
( فلما أتاني ما تمنيت ساءني ** من العمر ما قد كنت أهوى وأشتاق )
( وها أنا في إحدى وتسعين حجة ** لها في ارعاد مخوف وابراق )
( يقولون ترياق لمثلك نافع ** ومالي إلا رحمة الله ترياق )
وفيها عبد الرحمن بن علي الزهري الأشبيلي أبو محمد مسند الأندلس في زمانه روى صحيح البخاري سماعا من أبي الحسن شريح وعاش بعد ما سمعه ثمانين سنة وهذا شيء لا نعلمه وقع لأحد بالأندلس غيره توفي في آخر هذا العام وفيها الملك الظاهر غازي صاحب حلب ولد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ولد بمصر سنة ثمان وستين وخمسمائة وحدث عن عبد الله بن بري وجماعة وكان بديع الحسن كامل الملاحة ذا غور ودهاء ورأي ومصادقة لملوك النواحي فيوهمهم أنه لولا هو لقصدهم عمه العادل ويوهم عمه أنه لولا هو لاتفق عليه الملوك وشاقوه وكان سمحا جوادا تزوج بابنتي عمه قال ابن خلكان كان ملكا مهيبا حازما متيقظا كثير الإطلاع على

أحوال رعيته وأخبار الملوك عالي الهمة حسن التدبير روالسياسة باسط العدل محبا للعلماء مجيزا للشعراء أعطاه والده مملكة حلب في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة بعد أن كانت لعمه الملك العادل فنزل عنها وتعوض غيرها ويحكي عن سرعة إدراكه أشياء حسنة منها أنه جلس يوما لعرض العسكر وديواني الجيش بين يديه فكان كلما حضر واحد من الأجناد سأله الديواني عن اسمه لينزلوه حتى حضر واحد فسألوه فقبل الأرض فلم يفطن أحد من أرباب الديوان لما أراد فعاود وسأله فقال الملك الظاهر اسمه غازي وكان كذلك وتأدب الجندي أن يذكر اسمه لما كان موافقا اسم السلطان وعرف هو مقصوده وله من هذا الجنس شيء كثير وتوفي بقلعة حلب ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الآخرة ودفن بالقعلة ثم بنى الطواشي شهاب الدين أتابك ولده الملك العزيز مدرسة تحت القلعة وعمر فيها تربة ونقله إليها والعجب أنه دخل حلب مالكا لها في الشهر بيعنه واليوم سنة اثنتين وثمانين انتهى ملخصا وكانت وفاته بالإسهال وتسلطن بعده ولده الملك العزيز وله ثلاثة أعوام
وفيها الجاجرمي مؤلف الكفاية في الفقه الإمام معين الدين أبو حامد محمد بن إبراهيم الفقيه الشافعي قال ابن خلكان كان إماما فاضلا متقنا مبرزا سكن نيسابور ودرس بها وصنف في الفقه كتاب الكفاية وهو في غاية الإيجاز مع اشتماله على كثير المسائل التي تقع في الفتاوي وهو في مجلد واحد وله كتاب إيضاح الوجيز أحسن فيه وهو في مجلدين وله طريقة مشهورة في الخلاف والفوائد المشهورة منسوبة إليه واشتغل عليه الناس وانتفعوا به وبكتبه من بعده خصوصا القواعد فإن الناس أكبوا على الإشتغال بها وتوفي بكرة نهار الجمعة عاشر رجب بنيسابور والجاجرمي بفتح الجيمين وسكون الراء نسبة إلى جاجرم بلدة بين نيسابور وجرجان خرج منها جماعة من العلماء انتهى وفيها العز محمد بن الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد

المقدسي الحافظ ابن الحافظ أبو الفتح ولد سنة ست وستين وخمسمائة ورحل إلى بغداد وهو مراهق فسمع من ابن شامل وطبقته وسمع بدمشق من أبي الفهم عبد الرحمن بن أبي العجايز وطائفة وكتب الكثير وعنى بالحديث وارتحل إلى أصبهان وغيرها وكان موصوفا بحسن القراءة وجودة الحفظ والفهم قال الضياء كان حافظا فقيها حنبليا ذا فنون ثم وصفه بالديانة المتينة والمروءة التامة وقال أبو شامة صحب الملك المعظم عيسى وسمع بقراءته الكثير وكان حافظا دينا زاهدا ورعا وقال الذهبي روى عنه ابنا تقي الدين أحمد وعز الدين عبد الرحمن والحافظ ضياء الدين والشهاب القوصي والشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر وابن البخاري وآخرون توفي رحمه الله ليلة الإثنين تاسع عشر شوال ودفن بسفح قاسيون قال الحافظ الضياء قال بعضهم كنا نقرأ عنده ليلة مات فرأيت على بطنه نورا مثل السراج

سنة أربع عشرة وستمائة

فيها توفي أبو الخطاب بن واجب أحمد بن محمد بن عمر القيسي البلنسي الإمام المالكي ولد سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وأكثر عن جده أبي حفص بن واجب وابن هذيل وابن قزمان صاحب ابن الطلاع وطائفة وأجاز له أبو بكر بن العربي قال الأبار هو حامل راية الرواية بشرق الأندلس وكان متقنا ضابطا نحويا عالي الإسناد ورعا قانتا له عناية كاملة بصناعة الحديث ولي القضاء ببلنسية وشاطبة غير مرة ومعظم روايتي عنه انتهى
وفيها الشيخ العماد أبو إسحق إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي أخو الحافظ عبد الغني ولد بجماعيل سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وهاجر سنة إحدى وخمسين مع أقاربه وسمع من عبد الواحد بن هلال وجماعة وببغداد من شهدة وصالح بن الرحلة وبالموصل من خطيبها وحفظ

الخرقي والغريب للعزيزي وألقى الدروس وناظر واشتغل وقرأ القراءات على أبي الحسن البطايحي وكان متصديا لإقراء القرآن والفقه ورعا تقيا متواضعا سمحا مفضالا صواما قواما صاحب أحوال وكرامات موصوفا بطول الصلاة قال الشيخ الموفق ما فارقته إلا أن يسافر فما عرفته أنه عصى الله معصية وقال الحافظ الضياء كان عالما بالقرآن والنحو والفرائض وغير ذلك من العلوم وصنف كتاب الفروق في المسائل الفقهية وكان من كثرة اشتغاله وأشغاله لا يتفرغ للتصنيف والكتابة وكان يشغل بالجبل إذا كان الشيخ موفق الدين في المدينة فلإذا صعد الموفق نزل هو فأشغل بالمدينة وكان يشغل بجامع دمشق من الفجر إلى العشاء لا يخرج إلا لما لا بد له منه يقرىء القرآن والعلم فإذا لم يبق له من يشتغل عليه اشتغل بالصلاة وكان داعية إلى السنة وتعلم العلم والدين وما علم أنه أدخل نفسه في شيء من أمر الدنيا ولا تعرض له ولا نافس فيها وكان يجترز في الفتاوى احترازا كثيرا وكان كثير الورع والصدق سمعته يقول لرجل كيف ولدك فقال يقبل يدك فقال لا تكذب وكان كثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خرج مرة إلى قوم من الفساق فكسر ما معهم فضربوه ونالوا منه حتى غشي عليه فأراد للوالي ضرب الذين نالوا منه فقال إن تابوا ولزموا الصلاة فلا تؤذيهم وهم في حل من قبلي فتابوا ورجعوا عما كانوا عليه وسمعت الإمام أبا إبراهيم محاسن بن عبد الملك التنوخي يقول كان الشيخ العماد جوهرة العصر وكان كثير التواضع يذم نفسه ويقول إيش يجيء مني وكان يكثر في دعائه من قول اللهم اجعل عملنا صالحا واجعله لوجهك الكريم خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا اللهم خلصني من مظالم نفسي ومظالم كل شيء قبل الموت ولا تمتني ولأحد على مظلمة يطلبني بها بعد الموت ولا بد من الموت فاجعله على توبة نصوح بعد الإخلاص من مظالم نفسي ومظالم العباد قتلا في سبيلك على سنتك وسنة رسولك شهادة

يغبطني بها الأولون والآخرون واجعل النقلة إلى روح وريحان في جنات النعيم ولا تجعلها إلى نزول من حميم وتصلية جحيم قال الضياء توفي رحمه الله ليلة الخميس وقت عشاء الآخرة وكان صلى تلك الليلة المغرب بالجامع ثم مضى إلى البيت وكان صائما فأفطر على شيء يسير ولما جاءه الموت جعل يقول يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث واستقبل القبلة وتشهد ومات وقال سبط ابن الجوزي غسل وقت السحر وأخرجت جنازته إلى جامع دمشق فما وسع الناس الجامع وصلى عليه الموفق بحلقة الحنابلة بعد جهد جهيد وكان يوما لم ير في الإسلام مثله كان أول الناس عند مغارة الدم ورأس الجبل إلى الكهف وآخرهم بباب الفراديس وما وصل إلى الجبل إلى آخر النهار قال وتأملت الناس من أعلى قاسيون إلى الكهف إلى قريب الميظور لو رمى الإنسان عليهم إبرة لما ضاعت فلما كان في الليل نمت وأنا متفكر في جنازته وذكرت أبيات سفيان الثوري التي أنشدها في المنام
( نظرت إلى ربي كفاحا فقال لي ** هنيئا رضائي عنك يا ابن سعيد )
( فقد كنت قواما إذا أقبل الدجى ** بعبرة مشتاق وقلب عميد )
( فدونك فاختر أي قصر تريده ** وزرني فإني منك غير بعيد )
وقلت أرجو أن العماد يرى ربه كما رآه سفيان عند نزل حفرته ونمت فرأيت العماد في النوم وعليه حلة خضراء وعمامة خضراء وهو في مكان متسع كأنه روضة وهو يرقى في درج مرتفعة فقلت يا عماد الدين كيف بت فإني والله مفكر فيك فنظر إلي وتبسم على عادته وقال
( رأيت إلهي حين أنزلت حفرتي ** وفارقت أصحابي وأهلي وجيرتي )
( فقال جزيت الخير عني فإنني ** رضيت فها عفوي لديك ورحمتي )
( دأبت زمانا تأمل الفوز والرضى ** فوقيت نيراني ولقيت جنتي )
قال فانتبهت مرعوبا وكتبت الأبيات وتوفي رحمه الله ورضي عنه فجأة

في سابع عشر ذي القعدة وفيها عبد الله بن عبد الجبار العثماني أبو محمد الإسكندراني التاجر المحدث سمع من السلفي فأكثر وتوفي في ذي الحجة عن سبعين سنة وفيها ابن الحرستاني قاضي القضاة جمال الدين أبو القسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الأنصاري الخزرجي الدمشقي الشافعي ولد سنة عشرين وخمسمائة وسمع سنة خمس وعشرين من عبد الكريم بن حمزة وجمال الإسلام وطاهر بن سهل الإسفرائيني والكبار ودرس وأفتى وبرع في المذهب وانتهى إليه علو الإسناد وكان صالحا عابدا من قضاة العدل قال ابن شهبة تفرد بالروايات عن أكثر شيوخه ورحل إلى حلب وتفقه بها على المحدث الفقيه أبي الحسن المراري وناب في القضاء عن ابن أبي عصرون ثم ولي قضاء الشام في آخر عمره سنة اثنتي عشرة ودرس بالعزيزية وكان يجلس للحكم بالمجاهدية وكان إماما عارفا بالمذهب ورعا صالحا محمود الأحكام حسن السيرة كبير القدر وقال أبو شامة حدثني الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه لم ير أفقه منه وعليه كان ابتداء اشتغاله ثم صحب فخر الدين بن عساكر فسألته عنهما فرجح ابن الحرستاني وقال أنه كان يحفظ كتاب الوسيط للغزالي قال ولما طلب للقضاء امتنع من الولاية حتى ألحوا عليه فيها وكان صارما عادلا على طريقة السلف في لباسه وعفته بقي في القضاء سنتين وسبعة أشهر وقال سبط ابن الجوزي كان زاهدا عفيفا عابدا ورعا نزها لا تأخذه في الله لومة لائم اتفق أهل دمشق على أنه ما فاتته صلاة بجامع دمشق في جماعة إلا إذا كان مريضا توفي في رابع ذي الحجة وهو ابن خمس وتسعين سنة
وفيها علي بن محمد بن علي الموصلي أبو الحسن أخو سليمان سمع من الحسين سبط الخياط وأبي البد رالكرخي وجماعة وتوفي في جمادى الآخرة
وفيها ابن جبير الكناني الإمام الرئيس محمد بن أحمد بن جبير البلنسي نزيل شاطبة ولد سنة أربعين وخمسمائة وسمع من أبيه وعلي بن أبي العيش

المقري وأجاز له أبو الوليد بن الدباغ وحج فحدث في طريقه قال الأبار عني بالآداب فبلغ فيها الغاية وتقدم في صناعة النظم والنثر ونال بذلك دنيا عريضة ثم زهد ورحل مرتين إلى المشرق وفي الثالثة توفي بالإسكندرية في شعبان وفيها أبو عبدالله بن سعادة الشاطبي المعمر محمد بن عبد العزيز بن سعادة أخذ قراءة نافع عن أبي عبد الله بن غلام الفرس والقراءات عن ابن هذيل وأبي بكر محمد بن أحمد بن عمران وسمع من ابن النعمة وابن عاشر وأبي عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة أكثر عنه الأبار وكان مولده سنة ست عشرة وخمسمائة أو قبل ذلك وتوفي بشاطبة في شوال
وفيها الشجاع محمود الدماغ كانت له ثروة عظيمة وقف مدرسة للشافعية والحنفية داخل باب الفرج تعرف بالدماغية

سنة خمس عشرة وستمائة

فيها جاءت رسل جنكزخان ملك التتار محمود الخوارزمي وعلي البخاري بتقدمة مستظرفة إلى خوارزم شاه وتطلب منه المسالمة والهدنة فاستمال خوارزم شاه محمودا الخوارزمي وقال أنت منا وإلينا وأعطاه معضدة جوهر وقدر معه أن يكون عينا للمسلمين ثم قال له أصدقني أيملك جنكزخان طمعاج الصين قال نعم قال فما ترى قال الهدنة فأجاب وسر جنكزخان بإجابته واستقر الحال إلى أن جاء من بلاده تجار إلى ما وراء النهر وعليها خال خوارزم شاه فقبض عليهم وأخذ أموالهم شرها منه ثم كاتب خوارزم شاه يقول أنهم تتار في زي التجار وقصدهم يجسوا البلاد ثم جاءت رسل جنكزخان إلى خوارزم شاه تقول إن كان ما فعله خالك بأمره فسلمه إلينا وإن كان بأمرك فالعذر قبيح وستشاهد ما تعرفني به فندم خوارزم شاه وتجلد وأمر بالرسل فقتلوا ليقضي الله أمرا كان مفعولا فيا لها من حركة عظيمة الشؤم أجرت بكل قطرة بحرا من الدماء


وفيها توفي محدث بغداد أبو العباس البندنيجي بفتح الباء الموحدة والمهملة وسكون النون الأولى وكسر الثانية ثم تحتية وجيم نسبة إلى بندنيجين بلفظ المثنى بلد قرب بغداد أحمد بن أحمد بن أحمد بن كر بن غالب البغدادي الأزجي الحافظ المحدث المعدل الحنبلي ولد في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وتلقن القرآن من أبي حكيم النهرواني وقرأ بالروايات على أبي الحسن البطايحي وغيره وسمع الحديث الكثير من أبي بكر بن الزاغوني وأبي الوقت وخلق قال الدبيثي كان وافر السماع كثير الشيوخ حسن الأصول حدث بالكثير وسمع منه جماعة وقال ابن ناصر الدين هو محدث بغداد كان حافظا مكثرا لكنه غير عمدة رماه ابن الأخضر وكذبه وقبله غيره وقال ابن رجب في طبقاته توفي معه في ثالث عشرى رمضان أبو محمد عبد الكافي بن بدر بن حسان الأنصاري الشامي الأصل المصري النجار الحنبلي وكان صالحا كثير الصيام والتعبد سمع من البوصيري والأرتاحي وعبد الغني الحافظ وربيعة بن نزار وغيرهم وعلق عنه المنذري شيئا توفي وله نحو الستين سنة انتهى أي ودفن الأول بباب حرب من بغداد والثاني بالمقطم من مصر وفيها الشمس العطار أبو القاسم أحمد بن عبد الله بن عبد الصمد السلمي البغدادي الصيدلاني نزيل دمشق ولد سنة ست وأربعين وخمسمائة وسمع الناس منه صحيح البخاري غير مرة وكان ثقة توفي في شعبان وفيها صاحب الموصل السلطان الملك القاهر عز الدين أبو الفتح مسعود بن السلطان نور الدين أرسلان شاه بن مسعود الأتابكي ولد سنة تسعين وخمسمائة وتملك بعد أبيه وله سبع عشرة سنة وكان موصوفا بالملاحة والعدل والسماحة قيل أنه سم ومات في ربيع الآخر وله خمس وعشرون سنة وعظم الرعية فقده وولي بعده بعهد منه ولده نور الدين أرسلان شاه ويسمى أيضا عليا وله عشر سنين فمات

في أواخر السنة أيضا وفيها زينب الشعرية الحرة أم المؤبد بنت أبي القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن أحمد بن سهل الجرجاني ثم النيسابوري الشعري الصوفي ولدت سنة أربع وعشرين وسمعت من ابن الفراوي عبد الله لا من أبيه ومن زاهر الشحامي وعبد المنعم بن القشيري وطائفة توفيت في جمادى الآخرة وانقطع بموتها إسناد عال وفيها أبو القاسم الدامغاني قاضي القضاة عبد الله بن الحسين بن أحمد بن علي بن قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني الفقيه الحنفي العلامة عماد الدين سمع من تجنى الوهبانية وولي القضاء بالعراق سنة ثلاث وستمائة إلى أن عزل سنة إحدى عشرة وتوفي في ذي القعدة وفيها القاضي شرف الدين بن الزكي القرشي أبو طالب عبد الله بن زين القضاة عبد الرحمن بن سلطان بن يحيى بن علي الدمشقي الشافعي قال ابن شهبة ناب في القضاء عن ابن عمه القاضي محي الدين بن الزكي وعن أبيه زكي الدين الطاهر ودرس بالرواحية فكان أول من درس بها ودرس بالشامية البرانية وقال ابن كثير أنه أول من درس بها أيضا وقال سبط ابن الجوزي كان فقيها نزها لطيفا عفيفا وقال الشهاب القوصي كان ممن زاده الله بسطة في العلم والجسم توفي في شعبان وفيها الشهاب فتيان بن علي بن فتيان بن ثمال الأسدي الحنفي الدمشقي المعروف بالشاغوري قال ابن خلكان كان فاضلا شاعرا ماهرا خدم الملوك ومدحهم وعلم أولادهم وله ديوان شعر فيه مقاطيع حسان وأقام مدة بالزبداني وله فيها أشعار لطيفة فمن ذلك قوله في جهة الزبداني وهي أرض فيحاء جميلة المنظر تتراكم عليها الثلوج في زمن الشتاء وتنبت أنواع الأزهار في أيام الربيع ولقد أحسن فيها كل الإحسان وهي
( قد أجمد الخمر كانون بكل قدح ** وأخمد الجمر في الكانون حين قدح )
( يا جنة الزبداني أنت مسفرة ** عن كل حسن إذا وجه الزمان كلح )


( فالثلج قطن عليه السحب مندفة ** والجو يحلجه والقوس قوس قزح )
وله وقد دخل إلى حمام ماؤها شديد الحرارة وكان قد شاخ
( أرى ماء حمامكم كالحميم ** نكابد منه عناء وبوسا )
( وعهدي بكم تسمطون الجدى ** فما بالكم تسمطون التيوسا )
وله
( علام تحركي والحظ ساكن ** وما نهنهت في طلب ولكن )
( أرى نذلا تقدمه المساوي ** على حر تؤخره المحاسن )
توفي بدمشق ودفن بمقابر باب الصغير وفيها صاحب الروم الملك الغالب عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان السلجوقي سلطان قونية وأقصرا وملطية وأخو السلطان علاء الدين كعاد كان ظلوما غشوما سفاكا للدماء قيل إنه مات فجأة مخمورا فأخرجوا أخاه علاء الدين وملكوه بعده وذلك في شوال قاله في العبر وفيها ركن الدين أبو حامد محمد بن العميد الفقيه الحنفي السمرقندي مصنف الطريقة العميدية المشهورة كان إماما في الخلاف وشرح الإرشاد وصنف كتاب النفائس وكان حسن الأخلاق كثير التواضع توفي في جمادى الآخرة ببخارى
وفيها شهاب الدين عبد الرحمن بن عمر بن أبي نصر بن علي بن عبد الدايم ابن الغزالي البغدادي الحنبلي الواعظ أبو محمد ولد في جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة وسمع الكثير بإفادة أبيه وبنفسه من الحافظ ابن ناصر وسعد بن البنا وأبي بكر بن الزاغوني وأبي الوقت وغيرهم وعنى بهذا الشأن وله في الخط طريقة حسنة معروفة ووعط مدة ومال إلى مدح الحلاج وتعظيمه ولقد أخطأ في ذلك قال ابن النجار سمعت بقراءته كثيرا وسمعت منه وكان سريع القراءة والكتابة إلا أنه قليل المعرفة بأسماء المحدثين وحدث وسمع منه جماعة وأجاز المنذري وغيره وروى عنه ابن الصيرفي وتوفي الثلاثا

نصف شعبان ودفن بباب حرب
وفيها السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر محمد بن الأمير نجم الدين أيوب بن شادي ولد ببعلبك حال ولاية أبيه عليها ونشأ في خدمة نور الدين مع أبيه وكان أخوه صلاح الدين يستشيره ويعتمد على رأيه وعقله ودهائه ولم يكن أحد يتقدم عليه عنده ثم تنقلت به الأحوال واستولى على الممالك وسلطن ابنه الكامل على الديار المصرية وابنه المعظم على الشام وابنه الأشرف على الجزيرة وابنه الأوحد على خلاط وابن ابنه المسعود على اليمن وكان ملكا جليلا سعيدا طويل العمر عميق الفكر بعيد الغور جماعا للمال ذا حلم وسؤدد وبر كثير وكان يضرب المثل بكثرة أكله وله نصيب من صوم وصلاة ولم يكن محببا إلى الرعية لمجيئه بعد الدولتين النورية والصلاحية وقد حدث عن السلفي وخلف سبعة عشر ابنا تسلطن منهم الكامل والمعظم والأشرف والصالح وشهاب الدين غازي صاحب ميافارقين وتوفي في سابع جمادى الآخرة وله بضع وسبعون سنة

سنة ست عشرة وستمائة

فيها تحركت التتار وهم نوع من الترك مساكنهم جبال ضمعاج من نحو الصين يسجدون للشمس عند طلوعها ولا يحرمون شيئا ولا يحصون كثرة فخارت قوى السلطان خوارزم شاه وتقهقر بين أيديهم ببلاد ما وراء النهر وانجفل الناس بخوارزم شاه وأمرت أمه بقتل من كان محبوسا من الملوك بخوارزم وكانوا بضعة عشر نفسا ثم سارت بالخزائن إلى قلعة إيلال بمازندران ووصل خوارزم شاه إلى همذان في نحو عشرين ألفا وتقوضت أيامه
وفي أول العام خرب الملك المعظم سور بيت المقدس خوفا وعجزا من الفرنج أن تملكه فشرعوا في هدم السور في أول يوم من المحرم وضج الناس وخرج النساء المخدرات والبنات والشيوخ والعجايز والشباب إلى

الصخرة والأقصى فقطعوا شعورهم وخرجوا هاربين وتركوا أموالهم وما شكوا أن الفرنج يصبحوهم فهرب بعضهم إلى مصر وبعضهم إلى الكرك وبعضهم إلى دمشق ومات خلق من الجوع والعطش ونهبت الأموال التي كانت لهم بالقدس وأبيع القنطار الزيت بعشرة دراهم والرطل النحاس بنصف درهم وذم الناس الملك المعظم فقال بعضهم
( في رجب حلل الحميا ** وأخرب القدس في المحرم )
( واستخدم القبط والنصارى ** وبعد ذا وزر المكرم )
وقال مجد الدين قاضي الطور
( مررت على القدس الشريف مسلما ** على ما تبقى من ربوع وانجم )
( ففاضت دموع العين مني صبابة ** على ما مضى من عصره المتقدم )
( وقد رام علج أن يعفى رسومه ** وشمر عن كفي لئيم مذمم )
( فقلت له شلت يمينك خلها ** لمعتبر أو سائل أو مسلم )
( فلو كان يفدى بالنفوس فديته ** بنفسي وهذا الظن في كل مسلم )
وفي شعبان أخذت الفرنج دمياط بعد ما حصر أهلها ووقع فيهم الوباء وعجز الكامل عن نصرهم فطلبوا من الفرنج الأمان وأن يخرجوا منها بأهلهم وأموالهم في القساقسة وحلفوا لهم على ذلك ففتحوا لهم الأبواب فدخلوا وغدروا بأهلها ووضعوا فيهم السيف قتلا وأسرا وباتوا في الجامع يفجرون بالنساء ويفتضون البنات وأخذوا المنبر والمصحف وبعثوا بهما إلى الجزاير وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن محمد بن سيدهم الأنصاري الدمشقي المعروف بابن الهراس سمع من نصر الله المصيصي وغيره وتوفي في شعبان وفيها أبو البشاير إسحق بن هبة الله بن صالح قاضي خلاط كان فقيها شافعيا عالما حسن الكلام في الوعظ والتذكير من محاسن القضاة يرجع إلى دين قدم اربل وتوفي بها ومن شعره


( قال الهلال وعندي في مجالستي ** بدر بوجه على شمس الضحى سادا )
( ليس الهلال بمحبوب لذي أرب ** وإن حببناه أحيانا وأعيادا )
( هذا يزيد حياتي في مجالستي ** وذاك ينقص عمري كلما زادا )
وفيها ابن ملاعب زين الدين أبو البركات داود بن أحمد بن محمد ابن منصور بن ثابت بن ملاعب الأزجي وكيل القضاة روى عن الأرموي وابن ناصر وطائفة توفي في جمادى الآخرة بدمشق وفيها ريحان ابن تبكان بن موسك الحربي الضرير مات في صفر وله بضع وتسعون سنة روى عن أحمد بن الطلاية والمبارك بن أحمد الكندي وفيها ست الشام الخاتون أخت الملك العادل بنت أيوب كانت عاقلة كثيرة البر والصدقة بابها ملجأ للقاصدين وهي أم حسام الدين وتزوجها محمد بن شيركوه صاحب حمص وبنت لها مدرسة وتربة بالعونية على الشرف الشمالي من دمشق وأوقفت دارها قبيل موتها مدرسة وهي التي إلى جانب المارستان النوري وأوقفت عليها أوقافا كثيرة وتوفيت في ذي القعدة ودفنت بتربتها بالعونية وكان كافور الحسامي خادمها وكان لها نيف وثلاثون محرما من الملوك سوى أولادهم فأخوتها صلاح الدين والعادل وسيف الإسلام وولده وفيها أبو منصور ابن الرزاز سعيد بن محمد بن العلامة المفتي سعيد بن محمد بن عمر البغدادي روى البخاري عن أبي الوقت وحضر أبا الفضل الأرموي
وفيها العلامة أبو البقاء محب الدين عبد الله بن الحسين بن أبي البقا العكبري الأزجي الضرير الحنبلي النحوي الفرضي صاحب التصانيف قرأ القراءات على ابن عساكر البطايحي وتأدب على ابن الخشاب وتفقه على أبي يعلى الصغير وروى عن ابن البطي وطائفة وحاز قصب السبق في العربية وتخرج به خلق ذهب بصره في صغره بالجدري وكان دينا ثقة قاله في العبر وقال ناصح الدين بن الحنبلي كان إماما في علوم القرآن إماما في الفقه إماما

في اللغة إماما في النحو إماما في العروض إماما في الفرائض إماما في الحساب إماما في معرفة المذهب إماما في المسائل النظريات وله في هذه الأنواع من العلوم مصنفات مشهورة قال وكان معيدا للشيخ أبي الفرج بن الجوزي وكان متدينا قرأت عليه كتاب الفصيح لثعلب من حفظي وقال ابن أبي الجيش كان يفتي في تسعة علوم وكان أوحد زمانه في النحو واللغة والحساب والفرائض والجبر والمقابلة والفقه وإعراب القرآن والقراءات الشاذة وله في كل هذه العلوم تصانيف كبار وصغار ومتوسطات وذكر أنه قرأ عليه كثيرا وقال ابن البخاري قرأت عليه كثيرا من مصنفاته وصحبته مدة وكان حسن الأخلاق متواضعا كثير المحفوظ محبا للإشتغال والإشغال ليلا ونهارا ما تمضي عليه ساعة بلا اشتغال أو إشغال حتى أن زوجته تقرأ له بالليل كتب الأدب وغيرها وقال غيره كان إذا أراد أن يصنف كتابا أحضرت له عدة مصنفات في ذلك الفن وقرئت عليه فإذا حصله في خاطره أملاه وقال ابن رجب من تصانيفه تفسير القرآن وإعراب القرآن في مجلدين وإعراب الشواذ ومتشابه القرآن وإعراب الحديث وكتاب التعليق في مسائل الخلاف في الفقه وشرح الهداية لأبي الخطاب في الفقه وكتاب المرام في نهاية الأحكام في المذهب وكتاب مذاهب الفقهاء وكتاب الناهض في علم الفرائض وكتاب بلغة الرايض في علم الفرايض والمنقح من الخطل في علم الجدل والاعتراض على دليل التلازم والاستيعاب في أنواع الحساب واللباب في البناء والإعراب وشرح الإيضاح وشرح اللمع وشرح خطب ابن نباتة وشرح المقامات الحريرية وشرح الحماسة وشرح ديوان المتنبي وغير ذلك ومن شعره
( صاد قلبي على العقيق غزال ** ذو نفار وصاله ما ينال )
( فاتر الطرف تحسب الجفن منه ** ناعسا والنعاس منه مزال )


توفي ليلة الأحد ثامن ربيع الآخر ودفن بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب رحمه الله تعالى وفيها ابن شاس العلامة جمال الدين أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاس بن نزار الجذامي السعدي المصري شيخ المالكية وصاحب كتاب الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة كان من كبار الأئمة العاملين حج في أواخر عمره ورجع فامتنع من الفتيا إلى أن مات مجاهدا في سبيل الله في حدود رجب
وفيها عبد الرحمن بن محمد بن علي بن يعيش الصدر أبو الفرج الأنباري أخو ابن الحسن علي روى عن عبد الوهاب الأنماطي وغيره وعمر تسعين سنة توفي في شعبان وفيها أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن مسعود ابن الناقد البغدادي المقرىء الصالح قرأ القراءات على أبي الكرم الشهرزوري وغيره وسمع من أبي سعد البغدادي والأرموي توفي في شوال
وفيها الافتخار الهاشمي أبو هاشم عبد المطلب بن الفضل العباسي البلخي ثم الحلبي الحنفي إمام المذهب بحلب سمع بما وراء النهر من القاضي عمر بن علي المحمودي وأبي شجاع البسطامي وجماعة وبرع في المذهب وناظر وصنف وشرح الجامع الكبير وتخرج به الأصحاب وعاش ثمانين سنة توفي في جمادى الآخرة وفيها عثمان بن مقبل بن قاسم الياسري ثم البغدادي الفقيه الحنبلي الواعظ أبو عمر جمال الدين من أهل الباسرية من قرى بغداد على نهر عيسى قدم بغداد وسمع بها من ابن الخشاب وشهدة وطبقتهما ومن دونهما وتفقه على أبي الفتح بن المنى ووعظ ولازم الوعظ ذكره ابن أبي الجيش في شيوخه وقال له تصانيف وقد حدث وسمع منه جماعة وقال ابن الحنبلي مات ضاحي نهار الحادي والعشرين من ذي الحجة ودفن بباب حرب
وفيها عماد الدين أبو القاسم علي بن القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم ابن عساكر ولد سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وسمع من أبيه وعبد الرحمن

ابن الخرقي وإسماعيل الخبزوي ورحل إلى خراسان فكان آخر من رحل إليها من المحدثين وأكثر عن المؤيد الطوسي ونحوه وكان صدوقا ذكيا فهما حافظا مجدا في الطلب إلا أنه كان يتشيع وقد خرجت عليه الحرامية في قفوله من خراسان فجرحوه وأدركه الموت ببغداد في جمادى الأولى قاله في العبر وفيها صاحب سنجار الملك المنصور قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن اقسنقر تملك سنجار مدة وحاصره الملك العادل أياما ثم رحل عنه بأمر الخليفة توفي في صفر وتملك بعده ولده عماد الدين شاهنشاه أشهرا ومات قبله أخوه عمر وتملك بعده مديدة ثم سلم سنجار إلى الأشرف ثم مات وفيها أبو الحسن علي بن أبي زيد بن محمد بن علي النحوي المعروف بالفصيحي الاستراباذي أخذ النحو عن عبد القاهر صاحب الجبل الصقري وتبحر فيه حتى صار أعرف أهل زمانه وقدم بغداد واستوطنها ودرس النحو بالمدرسة النظامية مدة وانتفع به خلق كثير ومن جملة من أخذ عنه ملك النجاة الحسن بن صافي وروى عنه أبو طاهر السلفي قال جالسته ببغداد وسألته عن أحرف في العربية وقال أنشدني لبعض النحاة
( النحو شؤم كله فاعلموا ** يذهب بالخير من البيت )
( خير من النحو وأصحابه ** ثريدة تعمل بالزيت )
توفي يوم الأربعاء ثالث عشر ذي الحجة ببغداد قال ابن خلكان ولم أعرف أنسبه بالفصيحي إلى كتاب الفصيح لثعلب أم لشيء آخر
وفيها أبو عبد الله نصير الدين محمد بن عبد الله بن الحسين السامري الفقيه الفرضي الحنبلي ويعرف بابن سنينه بسين مهملة مضمومة ونونين مفتوحتين بينهما ياء تحتية ساكنة قال ابن النجار ولد سنة خمس وثلاثين وخمسمائة

بسامرا وسمع من ابن البطي وأبي حكيم النهرواني وغيرهما ببغداد وتفقه على أبي حكيم ولازمه وبرع في الفقه والفرائض وصنف فيهما تصانيف مشهورة منها كتاب المستوعب في الفقه وكتاب الفروق وكتاب البيان في الفرائض وولى القضاء بسامرا وأعمالها مدة ثم ولى القضاء والحسبة ببغداد ثم عزل عن القضاء وبقي على الحسبة ثم عزل عنها وولى إشراف ديوان الزمام وعزل أيضا ولقب في أيام ولايته معظم الدين ولما عزل لزم بيته مدة ثم أذن له بالعود إلى بلده فعاد إليها ثم رجع إلى بغداد في آخر عمره وبها توفي قال ابن النجار كان شيخا جليلا فاضلا نبيلا حسن المعرفة بالمذهب والخلاف له مصنفات فيها حسنة وما أظنه روى شيئا من الحديث وذكر ابن الساعي المؤرخ أنه كتب عنه وأجاز للشيخ عبد الرحيم بن الدجاج توفي ليلة الثلاثاء سابع عشرى رجب ودفن بمقبرة باب حرب وفي كتابيه المستوعب والفروق فوائد جليلة ومسائل غريبة وفيها أبو الحسين تاج الدين يحيى بن علي بن الجراح بن الحسين بن محمد بن داود كتب في ديوان الإنشاء بالديار المصرية مدة طويلة وكان خطه في غاية الجودة وكان فاضلا أديبا متقنا له فطرة حسنة وجيد شعر رائق ورسائل أنيقة سمع الحديث بثغر الإسكندرية على السلفي وسمع الناس عليه وله لغز في الدملج الذي تلبسه النساء وهو ما شيء قلبه حجر ووجهه قمر أن نبذته صبر واعتزل البشر وأن أجعته رضى بالنوى وانطوى على الخوى وإن أشبعته قبل قدمك وصحب خدمك وإن علقته ضاع وإن أدخلته السوق أبى أن يباع وإن أظهرته جمل المتاع وأحسن الأمتاع وإن شددت ثانيه وحذفت منه القافية كدر الحياة وأوجب التخفيف في الصلاة وأحدث وقت العصر الضجر ووقت الفجر الخدر وجمع بين حسن العقبى وقبح الأثر وإن فصلته دعا لك وإن ما إن ركبته هالك وربما بلغك آمالك وكثر مالك وأحسن بعون المساكين مالك والسلام وكانت ولادته خامس

عشر شوال سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وتوفي خامس شعبان بدمياط

سنة سبع عشرة وستمائة

في رجبها كانت وقعة البرلس بين الكامل والفرنج وكان نصرا عزيزا قتل من الملاعين عشرة آلاف وانهزموا إلى دمياط
وفيها أخذت التتار خراسان وقتلوا أهلها وكانوا أخذوا بخارى وسمرقند وقتلوا وما أبقوا ثم عبروا نهر جيحون وأبادوا ما هناك قتلا وسبيا وتخريبا إلى حدود العراق بعد أن هزموا جيوش خوارزم شاه ومزقوهم ثم عطفوا إلى قزوين فاستباحوها ثم سارت فرقة كبيرة إلى أذربيجان فاستباحوها وحاصروا تبريز وبها ابن البهلوان فبذل لهم أموالا وتحفا فرحلوا عنه ليشتوا على الساحل فوصلوا إلى مرغان وحاربوا الكزج وهزموهم في ذي القعدة من هذه السنة ثم ساروا إلى مراغة فأخذوا بالسيف ثم كروا نحو اربل فاجتمع لحربهم عسكر العراق والموصل مع صاحب اربل فهابوهم وعرجوا إلى همذان فحاربهم أهلها أشد محاربة في العام المقبل وأخذوها بالسيف وأحرقوها ثم نزلوا على سلفان وأخذوها بالسيف وقتلوا بلا استثناء ثم حاربوا الكزج أيضا وقتلوا منهم نحو ثلاثين ألفا ثم سلكوا طرقا وعرة في جبال دربند سروان وانبثوا في تلك الأراضي وبها اللان واللكز وطوائف من الترك وفيهم قليل مسلمون فاجتمعوا والتقوا وكانت الدبرة على اللان ثم بيتوا القفجاق وقتلوا وسبوا وأقاموا بتلك الديار ووصلوا إلى سوادق وهي مدينة القفجاق فملكوها وأقاموا هناك إلى سنة عشرين وستمائة ولما تمكن الطاغية جنكزخان وعتا وتمرد وأباد الأمم وأذل العرب والعجم قسم عساكره وجهز كل فرقة إلى ناحية من الأرض ثم عادت إليه أكثر عساكره إلى سمرقند فلا يقال كم أباد هؤلاء من بلد وإنما يقال كم بقي وكان خوارزم شاه محمد بطلا

مقداما هجاما وعسكره أوباشا ليس لهم ديوان ولا إقطاع بل يعيشون من النهب والغارات وهم تركي كافر أو مسلم جاهل لم يعرفوا تعبتة العسكر في المصاف ولم يدمنوا إلا على المهاجمة ولا لهم زرديات ولا عدد جيدة ثم أنه كان يقتل بعض القبيلة ويستخدم باقيها ولم يكن فيه شيء من المدارة ولا التؤدة لا لجنده ولا لعدوه وتحرش بالتتار وهم بغضبون على من يرضيهم فكيف بمن يغضبهم ويؤذيهم فخرجوا عليه وهم بنواب وأولو كلمة مجتمعة وقلب واحد ورئيس مطاع فلم يمكن أن يقف مثل خوارزم شاه بين أيديهم ولكل أجل كتاب فطووا الأرض وكلت أسلحتهم وتكلكلت أيديهم مما قتلوا من النساء والأطفال فضلا عن الرجال فإنا لله وإنا إليه راجعون قال ابن الأثير والتتار نوع من الترك يسجدون للشمس عند شروقها ويأكلون لحم بني آدم والدواب لا غير ويأتي المرأة غير واحد فإذا جاءت بولد لا يعرف من أبوه ومساكنهم جبال طغماج من نحو الصين ملكوا الدنيا في سنة واحدة دوابهم التي تحمل أثقالهم تحفر الأرض وتأكل شروش العشب ولا تعرف الشعير وفيها توفي قاضي القضاة زكي الدين بن قاضي القضاة محي الدين محمد بن الزكي القرشي الدمشقي ولي قبل ابن الحرستاني ثم بعده وكان ذا هيبة وحشمة وسطوة وكان الملك المعظم يكرهه فاتفق أن زكى الدين طلب جابي العزيزية بالحساب فأساء الأدب بين يديه فأمر بضربه بين يديه فوجد المعظم سبيلا إلى أذيته فبعث إليه بخلعة أمير قباء وكالوته وألزمه بلبسهما في مجلس حكمه ففعل ثم قام فدخل ولزم بيته ثم مات كمدا يقال أنه رمى قطعا من كبده ومات في صفر كهلا وندم المعظم
وفيها الشيخ عبد الله اليونيني وهو أبو عثمان بن عبد العزيز بن جعفر الزاهد الكبير أسد الشام كان شيخا مهيبا طوالا حاد الحال تام الشجاعة أمارا بالمعروف نهاءا عن المنكر كثير الجهاد دائم الذكر عظيم الشأن منقطع

القرين صاحب مجاهدات وكرامات كان الأمجد صاحب بعلبك يزوره فكان يهينه ويقول يا أميجد أنت تظلم وتفعل وهو يعتذر إليه وقيل كان قوسه ثمانين رطلا وما كان يبالي بالرجال قلوا أم كثروا وكان ينشد هذه الأبيات ويبكي
( شفيعي إليكم طول شوقي إليكم ** وكل كريم للشفيع قبول )
( وعذري إليكم أنني في هواكم ** أسير ومأسور الغرام ذليل )
( فإن تقبلوا عذري فأهلا ومرحبا ** وإن لم تحنوا فالمحب حمول )
( سأصبر لا عنكم ولكن عليكم ** عسى لي إلى ذاك الجناب وصول )
قاله في العبر وقال السخاوي اقتات سنة بثلاثة دراهم اشترى بدرهم دقيقا وبدرهم سمنا وبدرهم عسلا ولته وجعله ثلثمائة وستين كبة كان يفطر كل ليلة على كبة وقيل أنه عمل مرة مجاهدة تسعين يوما يفطر كل ليلة على حمصة حتى لا يواصل وكان يأكل كل عشرة أيام أكلة وعن الشيخ على الشبلي قال احتاجت زوجتي إلى مقنعة فقلت على دين خمسة دراهم فمن أين أشتري لك مقنعة فنمت فرأيت من يقول لي إذا أردت أن تنظر إلى إبراهيم الخليل فانظر إلى الشيخ عبد الله بن عبد العزيز فلما أصبحت أتيته بقاسيون فقال لي مالك يا علي اجلس وقام إلى منزله وعاد ومعه مقنعة في طرفها خمسة دراهم فأخذتها ورجعت انتهى وقال ابن شهبة في تاريخ الإسلام أصله من قرية من قرى بعلبك يقال لها يونين كان صاحب رياضات وكرامات ومجاهدات ولم يقم لأحد قط تعظيما لله تعالى ولا ادخر ولا لمس بيده دينارا ولا درهما زاهدا عفيفا ما لبس قط سوى الثوب الخام وقلنسوة من جلود الغنم تساوي نصف درهم وقال القاضي يعقوب قاضي البقاع كنت يوما بدمشق عند الجسر الأبيض في مسجد هناك وقت الحر وإذا بالشيخ عبد الله قد نزل يتوضأ وإذا بنصراني عابر على الجسر رومعه بغل عليه حمل خمر فعثر البغل على الطريق ووقع الحمل

على الطريق وليس في الطريق أحد فصعد الشيخ وصاح بي يا فقيه تعال فجئت فقال عاوني فعاونته حتى حمل الحمل على البغل وذهب النصراني فقلت في نفسي مثل الشيخ يفعل هذا ثم مشيت خلف البغل إلى العقيبة فجاء إلى دكان الخمار وحط الحمل وفتح الظروف فإذا هي قد صارت خلا فقال الخمار ويحك هذا خل فبكى وقال والله ما كانت إلا خمرا وإنما أنا أعرف العلة ثم ربط البغل في الحال وصعد إلى الجبل إلى عند الشيخ فدخل عليه وقال يا سيدي أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصار فقيرا من فقرائه ولما قدم الشيخ حمص للغزاة قدم الملك المجاهد أسد الدين حصانا من خيله فركبه الشيخ ودخل في العدو فعمل العجائب وما قامت غزاة بالشام قط إلا حضرها ولما كان يوم الجمعة في عشر ذي الحجة صلى الصبح بجامع بعلبك واغتسل قبل صلاة الجمعة وجاء داود المؤذن وكان يغسل الموتى فقال ويحك يا داود أنظر كيف تكون غدا فما فهم داود وقال يا سيدي غدا نكون في خفارتك وصعد الشيخ إلى المغارة وكان قد أمر الفقراء أن يقطعوا صخرة عند اللوزة التي كان ينام بجانبها فقطعوها فأصبح الشيخ فصلى الصبح وصعد إلى الصخرة والفقراء يتممون قطعها والسبحة في يده فطلعت الشمس وقد فرغوا منها والشيخ نايم والسبحة في يده فجاء خادم من القلعة في شغل فرآه قاعدا نائما فما تجاسر أن يوقظه فطال عليه ذلك فقال يا عبد الصمد ما أقدر أقعد أكثر من هذا فتقدم وقال يا سيدي فما تكلم فحركه فإذا هو ميت فارتفع الصياح وجاء صاحب بعلبك فرآه على تلك الحال فقال ابنوا عليه بنيانا وهو على حالته فقالوا اتباع السنة أولى وجاء داود المؤذن فغسله عند اللوزة وذلك يوم السبت وقد تجاوز الثمانين سنة وقبره يزار ببعلبك رحمه الله وفيها أبو المظفر بن السمعاني فخر الدين عبد الرحيم بن الحافظ أبي سعيد عبد الكريم بن الحافظ أبي بكر محمد بن الإمام أبي المظفر منصور

ابن محمد التميمي المروزي الشافعي الفقيه المحدث مسند خراسان ولد سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وروى كتبا كبارا منها البخاري ومسند الحافظ أبي عوانة وسنن أبي داود وجامع الترمذي وتاريخ الفسوي ومسند الهيثم بن كليب سمع من وجيه الشحامي وأبي الأسعد القشيري وخلق رحله أبوه إليهم بمرو ونيسابور وهراة وبخارا وسمرقند ثم خرج له أبوه معجما في ثمانية عشر جزءا وكان مفتيا عارفا بالمذهب وروى الكثير ورحل الناس إليه وسمع منه الحافظ أبو بكر الحازمي ومات قبله بدهر وحدث عنه الأئمة ابن الصلاح والضياء المقدسي والزكي البرزالي والمحب بن النجار وخرج لنفسه أربعين حديثا وانتهت إليه رياسة الشافعية ببلده وختم به البيت السمعاني عدم في دخول التتار ومر في آخر العام وفيها قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم ابن عيسى العلوي الحسيني صاحب مكة أبو عزيز عاش أكثر من ثمانين سنة
وفيها خوارزم شاه محمد بن تكش السلطان الكبير علاء الدين كان ملكا جليلا أصيلا عالي الهمة واسع الممالك كثير الحروب ذا ظلم وجبروت وغور ودهاء تسلطن بعد والده علاء الدين تكش فدانت له الملوك وذلت له الأمم وأباد أمة الخطا واستولى على بلادهم إلى أن قهر بخروج التتار الطغماجية عسكر جنكزخان واندفع قدامهم فأتاه أمر الله من حيث لا يحتسب فما وصل إلى الري إلا وطلائعهم على رأسه فانهزم إلى قلعة برجين وقد مسه النصب فأدركوه وما تركوه يبلع ريقه فتحامل إلى همذان ثم إلى مازندران وقعقعة سلاحهم قد ملأت مسامعه فنزل ببحيرة هناك ثم مرض بالإسهال وطلب الدواء فأعوزه ومات فقيل أنه حمل إلى دهستان في البحر وأما ابنه جلال الدين فتقاذفت به البلاد وألقته بالهند ثم رمته الهند إلى كرمان وقيل بلغ عدد جيشه ثلثمائة ألف وقيل أكثر من ذلك وفيها أبو عبد الله شهاب الدين محمد بن أبي المكارم الفضل بن بختيار بن أبي نصر اليعقوبي الخطيب الواعظ الحنبلي ويعرف

بالحجة ذكر أن مولده في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة بيعقوبا وسمع ببغداد من ابن الجوزي وطبقته ومن أبي الوقت والشيخ عبد القادر وولى الخطابة ببلده يعقوبا وحدث بها وباربل وغيرهما وحدث بأحاديث فيها وهم فعرف الخطأ فيها فترك روايتها وصنف كتاب غريب الحديث وشرح العبادات الخمس لأبي الخطاب وقرأه على أبي الفتح بن المنى سنة إحدى وثمانين وكتب له عليه قرأه على مصنفه الشيخ الأجل العالم الفقيه بهاء الدين حجة الإسلام قراءة عالم بما فيه من غرائب الفوائد وعجائب الفرائد توفي في جمادى الأولى بدقوقا ودفن بها وفيها صدر الدين شيخ الشيوخ أبو الحسن محمد بن شيخ الشيوخ عماد الدين عمر بن علي الجويني برع في مذهب الشافعي وسمع من يحيى الثقفي ودرس وأفتى وزوجه شيخه القطب النيسابوري بابنته فأولدها الأخوة الأمراء الأربعة ثم ولي بمصر تدريس الشافعي ومشهد الحسين وبعثه الكامل رسولا يستنجد بالخليفة وجيشه على الفرنج فأدركه الموت بالموصل أجاز له أبو الوقت وجماعة وكان كبير القدر
وفيها الشيخ الكبير الشهير كبير الشان ظاهر البرهان المبارك على أهل زمانه محمد بن أبي بكر الحكمي اليمني نفع الله به نشأ في السلوك في بلده المصبرا بفتح الميم وسكون الصاد المهملة وكسر الباء الموحدة وقبل الألف راء بلدة من نواحي رحبان وبها قبر والده ثم انتقل إلى ذوال ثم إلى سهام وصحب بها الفقيه العالم الصالح المصلح محمد بن حسين البجلي وأخذ خرقة التصوف القادرية عن الشيخ على الحداد وسكن مع البجلي في عواجة حتى مات هناك ومات البجلي بعده سنة إحدى وعشرين وستمائة وقبراهما متلاصقان وإلى جانبهما علي بن الحسين البجلي ولهما زاوية محترمة وذكر واسع وكرامات جمة وذرية أخيار تعدد فيهم الصلحاء العلماء وبصحبتهما ومحبتهما في الله يضرب المثل قاله ابن الأهدل
وفيها صاحب حماة الملك المنصور محمد بن المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه

ابن أيوب سمع من أبي الطاهر بن عوف وجمع تاريخا على السنين في مجلدات وقد تملك حماة بعده ولده الناصر قلج أرسلان فأخذها منه الكامل وسجنه ثم أعطاها لأخيه الملك المظفر وفيها المؤيد بن محمد بن علي بن حسن رضى الدين أبو الحسن الطوسي المقري مسند خراسان ولد سنة أربع وعشرين وسمع صحيح مسلم من الفراوي وصحيح البخاري من جماعة وعدة كتب وأجزاء وانتهى إليه علو الإسناد بنيسابور ورحل إليه من الأقطار توفي ليلة الجمعة العشرين من شوال وفيها ناصر بن مهدي الوزير نصير الدين العجمي قدم من مازندران سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة فوزر للخليفة الناصر سنتين ثم قبض عليه سنة أربع وستمائة وعاش إلى هذا الوقت توفي في جمادى الأولى وفيها ابن هلالة الحافظ عبد العزيز بن الحسين كان حافظا نقادا مجودا قال ابن ناصر الدين في بديعته
( ثم فتى هلالة الطبيري ** يفوح زهر خيره الكثير )
وأثنى عليه في شرحها

سنة ثمان عشرة وستمائة

استهلت والدنيا تغلي بالتتار وتجمع إلى السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه كل عساكره والتقى تولى خان بن جنكزخان فانكسر تولى خان وأسر من التتار خلق وقتل آخرون ولله الحمد فقامت قيامة جنكزخان واشتد غضبه إذ لم ينهزم له جيش قبلها فجمع جيشه وسار بهم إلى ناحية السند فالتقاه جلال الدين في شوال من السنة فانهزم جيشه أيضا وثبت هو وطائفة ثم ولى جنكزخان منهزما وكادت الدائرة تدور عليه لولا كمين عشرة آلاف خرجوا على المسلمين فطحنت الميمنة وأسروا ولد السلطان جلال الدين فتبدد نظامه وتقهقر إلى حافة السند وأما بغداد فانزعج أهلها وقنت المسلمون وتأهب الخليفة

واستخدم وأنفق الأموال وفيها تملك التتار مراغة وخربوها وأحرقوها وقتلوا أكثر أهلها وساروا إلى بلاد الروس
وفيها سار الملك الأشرف ينجد أخاه الكامل وسار معه عسكر الشام وخرجت الفرنج من دمياط بالفارس والراجل أيام زيادة النيل فنزلوا على ترعة فبثق المسلمون عليها النيل فلم يبق لهم وصول إلى دمياط وجاء الأصطول فأخذوا مراكب الفرنج وكانوا مائة كيد وثمانمائة فارس فيهم صاحب عكا وخلق من الرجالة فلما عاينوا الخذلان تطلبوا الصلح على أن يسلموا دمياط إلى الكامل فأجابهم ثم جاءه أخواه بالعساكر في رجب فعمل سماطا عظيما وأحضر ملوك الفرنج وأنعم عليهم ووقف في خدمته المعظم والأشرف وكان يوما مشهودا وقام راجح الحلى فأنشد قصيدة منها
( ونادى لسان الكون في الأرض رافعا ** عقيرته في الخافقين ومنشدا )
( أعباد عيسى أن عيسى وحزبه ** وموسى جميعا ينصران محمدا )
وأشار إلى الأخوة الثلاثة وفيها توفي الشيخ الزاهد القدوة نجم الدين أبو الجناب الخيوقي أحمد بن عمر بن محمد الصوفي المحدث شيخ خوارزم ويقال له الكبرى رحل الأقطار راكبا وماشيا وأدرك من المشايخ ما لا يحصى كثرة ولبس خرقة التصوف النهر جورية من الشيخ إسماعيل القصري والسهروردية للتبرك من الشيخ أبي ناصر عمار بن ياسر وسبق أقرانه في صغره إلى فهم المشكلات والغوامض فلقبوه الطامة الكبرى ثم كثر استعماله فحذفوا الطامة وأبقوا الكبرى وخيوق المنسوب إليها من قرى خوارزم سمع بهمذان من الحافظ أبي العلاء وبالإسكندرية من السلفي وعنى بمذهب الشافعي والتفسير وله تفسير في اثنتي عشرة مجلدة واجتمع به الإمام فخر الدين الرازي فاعترف بفضله قال عمر بن الحاجب طاف البلاد وسمع بها الحديث واستوطن خوارزم وصار شيخ تلك الناحية وكان صاحب حديث

وسنة ملجأ للغرباء عظيم الجاه لا يخاف في الله لومة لائم وقال ابن الأهدل استشهد رضي الله عنه بخوارزم في فتنة التتار وذلك أن سلطانها لما قد جمع الشيخ أصحابه وكانوا نحو ستين فقال لهم ارتحلوا إلى بلادكم فإنه قد خرجت نار من المشرق تحرق إلى قرب المغرب وهي فتنة عظيمة ما وقع في هذه الأمة مثلها فقال له بعضهم لو دعوت برفعها فقال هذا قضاء محكم لا ينفع فيه الدعاء فقالوا له تخرج معنا فقال إني أقتل ههنا فخرج أصحابه فلما دخل الكفار البلد نادى الشيخ وأصحابه الباقون الصلاة جامعة ثم قال قوموا نقاتل في سبيل الله ودخل البيت ولبس خرقة شيخه وحمل على العدو فرماهم بالحجارة ورموه بالنبل وجعل يدور ويرقص حتى أصابه سهم في صدره فنزعه ورمى به نحو السماء وفار الدم وهو يقول إن أردت فاقتلني بالوصال أو بالفراق ثم مات ودفن في رباطه رحمه الله تعالى وفيها عبد الرحيم بن النفيس ابن هبة الله بن وهبان بن رومي بن سلمان بن محمد بن سلمان بن صالح بن محمد ابن وهبان السلمي الحديثي ثم البغدادي أبو نصر الفقيه الحنبلي المحدث ولد في عاشر ربيع الأول سنة سبعين وخمسمائة ببغداد وسمع الكثير من أبي الفتح بن شاتيل وخلق وبالغ في الطلب وارتحل فيه إلى الشام والجزيرة ومصر والعراق وخراسان وما وراء النهر وخوارزم وتفقه في المذهب وتكلم في مسائل الخلاف وحدث ببغداد ودمشق وغيرهما قال ابن النجار كان مليح الخط صحيح النقل والضبط حافظا متقنا ثقة صدوقا له النظم والنثر الجيد كان من أكمل الناس ظرفا ولطفا وحسن خلق وطيب عشرة وتواضع وكمال مروءة ومسارعة إلى قضاء حوائج الإخوان ومن شعره
( سلوا فؤادي هل صفا شربه ** منذ نأيتم عنه أوراقا )
( وهل يسليه إذا غبتم ** أن أودع التسليم أوراقا )

قتل شهيدا في فتنة التتار بخراسان وفيها أبو القسم عبد الغني بن قاسم بن عبد الرزاق بن عياش الهلباوي المقدسي الأصل المصري الفقيه الحنبلي الزاهد سمع بمصر من البوصيري وغيره وتفقه في المذهب وانقطع إلى الحافظ عبد الغني ولازمه وكتب عنه كثيرا من مصنفاته وغيرها ذكر ذلك المنذري وقال سمع معنا من جماعة من شيوخنا وصحب جماعة من المشايخ وكان صالحا مقبلا على مصالح نفسه منفردا قانعا باليسير يظهر التجمل مع ما هو عليه من الفقر وحدث وتوفي ليلة ثامن عشر صفر ودفن من الغد بسفح المقطم وفيها عبد المعز بن محمد بن أبي الفضل بن أحمد أبو روح الهروي البزاز ثم الصوفي مسند العصر ولد سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة وسمع من تميم الجرجاني وزاهر الشحامي وطبقتهما وله مشيخة في جزء روى شيئا كثيرا واستشهد في دخول التتار هراة في ربيع الأول وهو آخر من كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أنفس ثقات قاله في العبر وفيها أبو محمد عبد العزيز بن عبد الملك الشيباني الدمشقي الحافظ تكلم فيه ابن النجار بعدم تحريره في الحديث وفقد بنيسابور لما دخلتها التتار بالسيف قال ابن ناصر الدين
( مثاله المفقود ذا الشيباني ** عبد العزيز اللين المباني )
أي الضعيف وفيها أبو الحسن علي بن ثابت بن طالب بن الطالباني البغدادي الأزجي الفقيه الحنبلي الواعظ موفق الدين سمع ببغداد من صالح ابن الرحلة وشهدة وسمع بالموصل من خطيبها أبي الفضل وتفقه ببغداد على ابن المنى واشتغل بالموصل بالخلاف علي ابن يونس الشافعي وأقام بحران مدة عند الخطيب ابن تيمية ثم جرى بينه وبينه نكد فقدم دمشق ثم رجع وأقام برأس العين من أرض الجزيرة ووعظ هناك وانتفع به قال ابن نقطة سمعت منه وسماعه صحيح وقال المنذري له اختيارات في المذهب
وفيها القسم بن المفتى أبي سعد عبد الله بن عمر أبو بكر بن الصفار

النيسابوري الشافعي الفقيه روى عن جده العلامة عمر بن أحمد الصفار ووجيه الشحامي وأبي الأسعد القشيري وطائفة وكان مولده سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة استشهد في دخول التتار نيسابور في صفر
وفيها الشهاب محمد بن خلف بن راجح بن بلال بن هلال بن عيسى بن موسى بن الفتح بن زريق المقدسي ثم الدمشقي الإمام أبو عبد الله الحنبلي الفقيه المناظر ولد سنة خمسين وخمسمائة بجماعيل ثم قدم دمشق وسمع بها من أبي المكارم بن هلال وقدم مصر فسمع بها بالإسكندرية من السلفي وأكثر عنه وقدم بغداد فسمع من ابن الخشاب وشهدة وطبقتهم وتفقه بها في المذهب والخلاف على ابن المنى حتى برع وكان بحاثا مناظرا مفحما للخصوم ذا حظ من صلاح وأوراد وسلامة صدر أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر قال المنذري لقيته بدمشق وسمعت منه وكان كثير المحفوظات متحريا في العبادات حسن الأخلاق وقال أبو المظفر سبط ابن الجوزي كان زاهدا عابدا ورعا فاضلا في فنون العلوم وحفظ المقامات الحريرية في خمسين ليلة فتشوش خاطره وكان يغسل باطن عينيه حتى قل نظره وكان سليم الصدر من الإبدال ما خالف أحدا قط رأيته يوما وقد خرج من جامع الجبل فقال له إنسان ما تروح إلى بعلبك فقال بلى فمشى من ساعته إلى بعلبك بالقبقاب وقال أبو شامة كنت أراه يوم الجمعة قبل الزوال يجلس في درج المنبر السفلي بجامع الجبل وبيده كتاب من كتب الحديث وأخبار الصالحين يقرؤه على الناس إلى أن يؤذن المؤذن للجمعة وتوفي يوم الأحد سلخ صفر ودفن بسفح قاسيون
وفيها أبو عبد الله محمد بن عمر بن عبد الغالب العثماني المحدث الدمشقي دين صالح ورع روى عن أحمد بن حمزة بن الموازيني وابن كليب وطبقتهم توفي بالمدينة النبوية في الحرم كهلا وفيها أبو نصر موسى بن الشيخ عبد القادر الجيلي روى عن أبيه وابن ناصر وسعيد بن البنا وأبي الوقت

وسكن دمشق وكان عريا من العلم توفي في أول جمادى الآخرة عن ثمانين سنة قاله في العبر وفيها أبو الفتوح برهان الدين نصر بن محمد بن علي بن أبي الفرج أحمد بن الحصري الهمذاني البغدادي الحنبلي المقري المحدث الحافظ الزاهد الأديب نزيل مكة ولد في شهر رمضان سنة ست وثلاثين وخمسمائة وقرأ القرآن بالروايات على أبي بكر بن الزاغوني وأبي الكرم الشهرزوري وابن السمين وابن الدجاجي وجماعة وسمع الحديث الكثير من أبي الوقت وغيره وخلق كثير منهم الشيخ عبد القادر وعنى بهذا الشأن ثم خرج من بغداد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة فاستوطنها وأم بها بالحنابلة وكان شيخا صالحا متعبدا قال ابن الدبيثي كان ذا معرفة بهذا الشأن ونعم الشيخ كان عبادة وثقة قال ابن النجار هو خاتمة أصحابه كان حافظا حجة نبيلا جم الفضائل كثير المحفوظ من أعلام الدين وأئمة المسلمين حدث بالكثير ببغداد ومكة وسمع منه خلق كثير من الأئمة الحفاظ منهم الدبيثي وابن نقطة وابن النجار والضياء والبرزالي وابن خليل وقال ابن الحنبلي مات بالمهجم من أرض اليمن في شهر ربيع الآخر وكان خروجه إلى اليمن بأهله لقحط وقع بمكة وكان ذا عائلة فنزح بهم إلى اليمن في نحو سنة ثمان عشرة أي هذه السنة وفيها هبة الله بن الخضر بن هبة الله بن أحمد بن طاووس السديد أبو محمد الدمشقي سمعه أبوه من نصر الله المصيصي وابن البن وكان كثير التلاوة وتوفي في جمادى الأولى وفيها أبو الدر ياقوت المستعصمي بن عبد الله الموصلي الكاتب المجيد المشهور الملقب أمين الدين المعروف بالملكي نسبة إلى السلطان ملكشاه سكن الموصل وأخذ النحو عن ابن الدهان وكان ملازما قراءة ديوان المتنبي والمقامات وكتب بخطه الكثير وانتشر خطه في الآفاق وكان خطه في نهاية الحسن ولم يؤد أحد طريقة ابن البواب مثله مع فضل غزير ونباهة وكان مغري بنقل صحاح الجوهري وكتب منها نسخا كثيرة كل نسخة في مجلد وكتب عليه خلق كثير

وانتفعوا به وكانت له سمعة كثيرة في زمنه مات في هذه السنة وقد أسن وتغير خطه كثيرا وفيها سالم بن سعادة الحمصي الشاعر مات بحلب ومن شعره
( وروض أريض من شقيق ونرجس ** لنوريهما من تحت قضب الزبرجد )
( خدود عقيق تحت خالات عنبر ** وأجفان در حول أحداق عسجد )
وفيها جلال الدين الحسن الصباح صاحب الالموت ودردكوه وهو مقدم الإسمعيلية وكان قد أظهر شريعة الإسلام من الأذان وغيره وولى بعده ولده الأكبر

سنة تسع عشرة وستمائة

فيها توفي أبو طالب أحمد بن عبد الله بن الحسين بن حديد الكناني الإسكندراني المالكي روى عن السلفي وجماعة وهو من بيت قضاء وحشمة توفي في جمادى الآخرة وفيها ابن الأنماطي الحافظ تقي الدين أبو الطاهر إسمعيل ابن عبد الله بن عبد المحسن المصري الشافعي قال عمر بن الحاجب كان إماما ثقة حافظا مبرزا واسع الرواية وعنده فقه وأدب ومعرفة بالشعر وأخبار الناس قال وسألت الحافظ الضيا عنه فقال حافظ ثقة مفيد إلا أنه كان كثير الدعابة مع المرد وقال ابن البخاري ولد سنة سبعين وخمسمائة واشتغل من صباه وتفقه وأقرأ الأدب وسمع الكثير وقدم دمشق سنة ثلاث وتسعين ثم حج سنة إحدى وستمائة وقدم مع الركب وكانت له همة وافرة وجد واجتهاد ومعرفة كاملة وحفظ وفصاحة وفقه وسرعة فهم واقتدار على النظم والنثر وكان معدوم النظير لي وقته قال الضياء بات صحيحا فأصبح لا يقدر على الكلام أياما واتصل به ذلك حتى مات في رجب وفيها ثابت بن مشرف أبو سعد الأزجي البناء المعمار روى عن ابن ناصر والكروخي وطبقتهما فأكثر وحدث بدمشق

وحلب وتوفي في ذي الحجة وفيها الشيخ علي بن إدريس اليعقوبي الزاهد صاحب الشيخ عبد القادر الكيلاني سيد زاهد عابد رباني متأله بعيد الصيت توفي في ذي القعدة وفيها أبو الفضائل شهاب الدين عبد الكريم بن نجم بن عبد الوهاب بن عبد الواحد الشيرازي الدمشقي بن الحنبلي الفقيه الحنبلي أخو ناصح الدين عبد الرحمن الآتي ذكره إن شاء الله تعالى وهو أصغر من الناصح بتسع سنين سمع ببغداد من نصر الله القزاز وأجاز له الحافظ أبو موسى المديني وغيره وتفقه وبرع وأفتى وناظر ودرس بمدرسة جده بدمشق وهي الحنبلية جوار الرواحية سكن بني الأسطواني قال أبو شامة هو أخو البهاء والناصح وهو أصغرهم وكان أبرعهم في الفقه والمناظرة والمحاكمات بصيرا بما يجري عند القضاة في الدعاوي والبينات وقال ابن الساعي في تاريخه كان فقيها فاضلا خيرا عارفا بالمذهب والخلاف وقال غيره كان ذا قوة وشهامة وانتزع مسجد الوزير من يد العلم السخاوي وبقي للحنابلة توفي سابع ربيع الأول ودفن بسفح قاسيون وفيها العلامة كمال الدين علي بن محمد بن يوسف بن النبيه الكاتب الشاعر صاحب ديوان رسائل الملك الأشرف موسى بن العادل وله ديوان شعر مشهور كله ملح فمن شعره
( بدر تم له من الشعر هاله ** من رآه من المحبين هاله )
( قصر الليل حين زار ولا غر ** وغزال غارت عليه الغزالة )
( يا نسيم الصبا عساك تحملت ** لنا من سكان نجد رساله )
( كل معسولة المراشف بيضاء ** حمتها سمر القنا العساله )
وله
( أمانا أيها القمر المطل ** فمن جفنيك أسياف سل )
( يزيد جمال وجهك كل يوم ** ولي جسد يذوب ويضمحل )
( يميل بطرفه التركي عني ** صدقتم إني ضيق العين بخل )


( أيا ملك القلوب فتكت فيها ** وفتكك في الرعية لا يحل )
( قليل الوصل يقنعها فإن لم ** يصبها وابل منه فطل )
وله
( لماك والخد النضر ** ماء الحياة والخضر )
( أخذتني يا تاركي ** أخذ عزيز مقتدر )
( أحلت سلواني على ** ضامن قلب منكسر )
( ونمت عن ذي أرق ** إذا غفا النجم سهر )
( قد أضحت الترك بهذا ** العربي تفتخر )
( ولي عهد البدر إن ** غاب فإني منتظر )
( في خلقه وخلقه ** ما في الغزال والنمر )
( ترعاه أحداق الورى ** فحيث ما سار تسر )
وفيها أبو العباس الخضر بن نصر الأربلي الفقيه الشافعي تفنن في العلوم مع الزهد والورع وهو أول من درس باربل وله تصانيف حسان في التفسير والفقه وله كتاب ذكر فيه ستا وعشرين خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم كلها مسندة وانتفع به خلق كثير قاله ابن الأهدل
وفيها الحافظ محمد بن عبد الواحد بن إبراهيم بن مفرج الغافقي الملاحي الأندلسي الغرناطي المالكي أبو القسم كان إماما حافظا مكثرا من الأثبات قاله ابن ناصر الدين
وفيها أبو القسم نصر بن عقيل بن نصر الأربلي ولد باربل سنة أربع وثلاثين وخمسمائة وتفقه بها على عمه أبي العباس الخضر المتوفى في هذا العام أيضا ثم توجه إلى بغداد سنة ستمائة فآذاه بتوليتها مظفر الدين واستولى على أملاكه فتوجه إلى الموصل سنة ست وستمائة فأقبل عليه صاحبها الأتابك نور الدين أرسلان شاه بن مسعود وأحسن إليه ورتب له كفايته ولم يزل مكرما

إلى أن مات بها في رابع عشر ربيع الآخر ذكره التفليسي
وفيها الشيخ يونس بن يوسف بن مساعد الشيباني المخارقي القنيي نسبة إلى القنية قرية من نواحي ماردين وهذا شيخ الطائفة اليونسية أولى الشطح وقلة العقل وكثرة الجهل أبعد الله شرهم وكان رحمه الله صاحب حال وكشف يحكي عنه كرامات قاله في العبر وقال ابن خلكان سألت رجلا من أصحابه عنه فقال كنا مسافرين والشيخ يونس معنا فنزلنا في الطريق بين سنجار وعانة وهي مخوفة فلم يقدر أحد منا ينام من شدة الخوف ونام الشيخ يونس فلما انتبه قلنا له كيف قدرت تنام فقال والله ما نمت حتى جاء إسمعيل بن إبراهيم عليهما السلام وتدرك القفل ورحلنا سالمين ببركة الشيخ يونس ومن شعره مواليا
( أنا حميت الحمى وأنا سكنت فيه ** وأنا رميت الخلايق في بحار التيه )
( من كان يبغي العطا مني أنا أعطيه ** أنا فتى ما أداني من به تشبيه )
وله
( إذا صوت سندانا فصبرا على الذي ** ينالك من مكروه دق المطارق )
( لعل الليالي أن تعيدك ضاربا ** فتضرب أعناق العدا بالبوارق )
توفي بقريته القنية وقد ناهز التسعين وقبره مشهور هناك

سنة عشرين وستمائة

فيها كانت الملحمة الكبرى بين التتار وبين القفجاق والروس وثبت الجمعان أياما ثم انتصرت التتار وغلوا أولئك بالسيف وفيها توفي الشيخ أبو علي الحسن بن زهرة الحسيني النقيب رأس الشيعة بحلب وعزهم وجاههم وعالمهم كان عارفا بالقراءات والعربية والأخبار والفقه على رأي القوم وكان متعينا للوزارة ونفذ رسولا إلى العراق وغيرها واندكت الشيعة

بموته وفيها الحسن بن يحيى بن أبي الرداد المصري ويسمى أيضا محمدا كان آخر من روى بنفس مصر عن ابن رفاعة توفي في ذي القعدة
وفيها الشيخ موفق الدين المقدسي أحد الأئمة الأعلام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي صاحب التصانيف ولد بجماعيل سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وهاجر مع أخيه الشيخ أبي عمر سنة إحدى وخمسين وحفظ القرآن وتفقه ثم ارتحل إلى بغداد فأدرك الشيخ عبد القادر فسمع منه ومن هبة الله الدقاق وابن البطي وطبقتهم وتفقه على ابن المنى حتى فاق على الأقران وحاز قصب السبق وانتهى إليه معرفة المذهب وأصوله وكان مع تبحره في العلوم ويقينه ورعا زاهدا تقيا ربانيا عليه هيبة ووقار وفيه حلم وتؤدة وأوقاته مستغرقة للعمل والعمل وكان يفحم الخصوم بالحجج والبراهين ولا يتحرج ولا ينزعج وخصمه يصيح ويحترق قال الحافظ الضياء كان تام القامة أبيض مشرق الوجه أدعج العينين كأن النور يخرج من وجهه لحسنه واسع الجبين طويل اللحية قائم الأنف مقرون الحاجبين لطيف البدن نحيف الجسم إلى أن قال رأيت الإمام أحمد في النوم فقال ما قصر صاحبكم الموفق في شرح الخرقي وسمعت أبا عمر بن الصلاح المفتي يقول ما رأيت مثل الشيخ الموفق وسمعت شيخنا أبا بكر بن غنيمة المفتي ببغداد يقول ما أعرف أحدا في زماننا أدرك درجة الاجتهاد إلا الشيخ الموفق قلت جمع له الضياء ترجمة في جزءين ثم قال توفي في يوم عيد الفطر قاله جميعه في العبر وذكر الناصح بن الحنبلي أنه حج سنة أربع وسبعين وخمسمائة ورجع مع وفد العراق إلى بغداد وأقام بها واشتغلنا جميعا على الشيخ أبي الفتح ثم رجع إلى دمشق واشتغل بتصنيف كتاب المغنى في شرح الخرقي فبلغ الأمل في إتمامه وهو كتاب بليغ في المذهب عشر مجلدات تعب عليه وأجاد فيه وجمل به المذهب وقرأه عليه جماعة وانتفع بعلمه طائفة كثيرة

قال ونشأ على سمت أبيه وأخيه في الخير والعبادة وغلب عليه الاشتغال بالفقه والعلم وقال سبط ابن الجوزي كان إماما في فنون كثيرة ولم يكن في زمانه بعد أخيه أبي عمرو العماد أزهد ولا أورع منه وكان كثير الحياء عفوفا عن الدنيا وأهلها هينا لينا متواضعا محبا للمساكين حسن الأخلاق جوادا سخيا من رآه كأنما رأى بعض الصحابة وكأن النور يخرج من وجهه كثير العبادة يقرأ كل يوم وليلة سبعا من القرآن ولا يصلي ركعتي السنة إلا في بيته اتباعا للسنة وكان يحضر مجالسي دائما بجامع دمشق وقاسيون وقال أبو شامة كان شيخ الحنابلة موفق الدين إماما من أئمة المسلمين وعلما من أعلام الدين في العلم والعمل وصنف كتبا حسانا في الفقه وغيره عارفا بمعاني الأخبار والآثار سمعت عليه أشياء وجاءه مرة الملك العزيز بن الملك العادل يزوره فصادفه يصلي فجلس بالقرب منه إلى أن فرغ من صلاته ثم اجتمع به ولم يتجوز في صلاته ومن أطرف ما حكى عنه أنه كان يجعل في عمامته ورقة مصرورة فيها رمل يرمل به ما يكتبه للناس من الفتاوى والإجازات وغيرها فاتفق ليلة أن خطفت عمامته فقال لخاطفها يا أخي خذ من العمامة الورقة المصرورة بما فيها ورد العمامة أغطي بها رأسي وأنت في أوسع الحل مما في الورقة فظن الخاطف أنها فضة ورآها ثقيلة فأخذها ورد العمامة وكانت صغيرة عتيقة فرأى أخذ الورقة خيرا منها بدرجات فخلص الشيخ عمامته بهذا الوجه اللطيف وقال أبو العباس بن تيمية ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من الشيخ الموفق رحمه الله وقال الضياء كان رحمه الله تعالى إماما في القرآن إماما في التفسر إماما في علم الحديث ومشكلاته إماما في الفقه بل أوحد زمانه فيه إماما في علم الخلاف أوحد زمانه في الفرائض إماما في أصول الفقه إماما في النحو إماما في الحساب إماما في النجوم السيارة والمنازل قال ولما قدم بغداد قال له الشيخ أبو الفتح بن المنى أسكن هنا فإن بغداد مفتقرة

إليك وأنت تخرج من بغداد ولا تخلف فيها مثلك وكان العماد يعظم الموفق تعظيما كثيرا ويدعو له ويقعد بين يديه كما يقعد المتعلم من العالم وقال ابن غنيمة ما أعرف أحدا في زماننا أدرك درجة الإجتهاد إلا الموفق وقال أبو عمرو بن الصلاح ما رأيت مثل الشيخ الموفق وقال الشيخ عبد الله اليونيني ما أعتقد أن شخصا ممن رأيته حصل له من الكمال في العلوم والصفات الحميدة التي يحصل بها الكمال سواه فإنه رحمه الله كان إماما كاملا في صورته ومعناه من الحسن والإحسان والحلم والسؤدد والعلوم المختلفة والأخلاق الحميدة والأمور التي ما رأيتها كملت في غيره وقد رأيت من كرم أخلاقه وحسن عشرته ووفور حلمه وكثرة علمه وغزير فطنته وكمال مروءته وكثرة حيائه ودوام بشره وعزوف نفسه عن الدنيا وأهلها والمناصب وأربابها ما قد عجز عنه كبار الأولياء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما أنعم الله تعالى على عبد نعمة أفضل من أن يلهمه ذكره فقد ثبت بهذا أن الهام الذكر أفضل الكرامات وأفضل الذكر ما يتعدى نفعه إلى العباد وهو تعليم العلم والسنة وأعظم من ذلك وأحسن ما كان جبلة وطبعا كالحلم والكرم والفضل والعقل والحياء وكان قد جبله الله على خلق شريف وأفرغ عليه المكام إفراغا وأسبغ عليه النعم فلطف به في كل حال وقال ابن رجب كان كثير المتابعة للمنقول في باب الأصول وغيره لا يرى إطلاق ما لم يؤثر من العبارات ويأمر بالإقرار والإمرار لما جاء في الكتاب والسنة من الصفات من غير تغيير ولا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تأويل ولا تعطيل ومن تصانيفه في أصول الدين البرهان في مسئلة القرآن وجواب مسئلة وردت من صرخد في القرآن جزء والاعتقاد جزء ومسئلة العلو جزءان وذم التأويل جزء وكتاب القدر جزءان ومنهاج القاصدين في فضائل الخلفاء الراشدين ورسالة إلى الشيخ فخر الدين بن تيمية في عدم تخليد أهل البدع في النار ومسئلة في

تحريم النظر في كتب أهل الكلام ومن تصانيفه في الحديث مختصر العلل للخلال مجلد ضخم ومشيخة شيوخه أجزاء كثيرة ومن تصانيفه في الفقه المغنى في عشر مجلدات والكافي أربع مجلدات والمقنع مجلد ومختصر الهداية مجلد والعمدة مجلد صغير ومناسك الحج جزء وذم الوسواس جزء وفتاوى ومسائل منثورة ورسائل شيء كثير والروضة في أصول الفقه مجلد وله في اللغة والأنساب ونحو ذلك مصنفات وله كتاب التوابين وكتاب المتحابين في الله وكتاب الرقة والبكاء وغير ذلك وانتفع بتصانيفه المسلمون عموما وأهل المذهب خصوصا وانتشرت واشتهرت بحسن قصده وإخلاصه ولا سيما كتابه المغنى فإنه عظم النفع به حتى قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل المجلى والمجلى وكتاب المغنى للشيخ موفق الدين بن قدامة في جودتهما وتحقيق ما فيهما ونقل عنه أيضا أنه قال ما طابت نفسي بالفتيا حتى صار عندي نسخة المغنى مع أنه كان يسامي الشيخ في زمانه وقال سبط ابن الجوزي أنشدني الموفق لنفسه
( أبعد بياض الشعر أعمر مسكنا ** سوى القبر أني إن فعلت لأحمق )
( يخبرني شيبي بأني ميت ** وشيكا وينعاني إلي فيصدق )
( يخرق عمري كل يوم وليلة ** فهل مستطيع رفو ما يتخرق )
( كأني بجسمي فوق نعشي ممددا ** فمن ساكت أو معول يتحرق )
( إذا سئلوا عني أجابوا وأعولوا ** وأدمعهم تنهل هذا الموفق )
( وغيبت في صدع من الأرض ضيق ** وأودعت لحدا فوقه الصخر مطبق )
( ويحثو على الترب أوثق صاحب ** ويسلمني للقبر من هو مشفق )
( فيا رب كن لي مؤنسا يوم وحشتي ** فإني لما أنزلته لمصدق )
( وما ضرني أني إلى الله صائر ** ومن هو من أهل أبر وأرفق )
ومن شعره أيضا


( لا تجلسن بباب من ** يأبى عليك دخول داره )
( وتقول حاجاتي إليه ** يعوقها أن لم أداره )
( اتركه واقصد ربها ** تقضي ورب الدار كاره )
وتفقه على الشيخ موفق الدين خلق كثير منهم ابن أخيه الشيخ شمس الدين عبد الرحمن وروى عنه جماعة من الحفاظ وغيرهم منهم ابن الدبيثي والضياء وابن خليل والمنذري وعبد العزيز بن طاهر بن ثابت الخياط المقرىء وتوفي رحمه الله تعالى بمنزله بدمشق يوم السبت يوم عيد الفطر وصلى عليه من الغد وحمل إلى سفح قاسيون فدفن به وكان جمع عظيم لم ير مثله قال محمد بن عبد الرحمن العلوي كنا بجبل بني هلال فرأينا على قاسيون ليلة العيد ضوءا عظيما فظننا أن دمشق قد احترقت وخرج أهل القرية ينظرون إليه فوصل الخبر بوفاة الموفق وسميت تربته بالورضة لأنه رؤي بعض الموتى المدفونون هناك في سرور عظيم فسئل عن ذلك فقال كنا في عذاب فلما دفن عندنا الموفق صارت تربتنا روضة من رياض الجنة وقال سبط ابن الجوزي كان له أولاد محمد ويحيى وعيسى ماتوا كلهم في حياته وله بنات ولم يعقب من ولد الموفق سوى عيسى خلف ولدين صالحين وماتا وانقطع عقبه
وفيها أبو أحمد عبد الحميد بن مري بن ماضي المقدسي الفقيه الحنبلي نزيل بغداد سمع الكثير من ابن كليب وطبقته وحدث عنه بنسخة ابن عرفة سمعها منه الحافظ الضياء وتفقه في المذهب وكان حسن الأخلاق صالحا خيرا متوددا توفي ليلة الثلاثاء ثالث جمادى الآخرة ودفن بباب حرب قال ابن النجار أظنه جاوز الخمسين بيسير وفيها فخر الدين أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الإمام المفتي الدمشقي الشافعي شيخ الشافعية بالشام ولد سنة خمسين وخمسمائة وسمع من عميه الصاين والحافظ أبي القسم وحسان الزيات وطاثفة وبرع في المذهب على القطب النيسابوري وتزوج بابنته ودرس

بالجاروخية ثم بالصلاحية بالقدس ثم بالتقوية بدمشق وكان يقيم بالقدس أشهرا وبدمشق أشهرا وكان لا يمل أحد من رؤيته لحسن سمته واقتصاده في لباسه ولطفه ونور وجهه وكثرة ذكره لله تعالى قال ابن شهبة كان لا يخلو لسانه من ذكر الله تعالى وأريد على أن يلي القضاء فامتنع وجهز أهله للسفر إلى ناحية حلب وأشار بتولية ابن الحرستاني وقال أبو المظفر كان زاهدا عابدا ورعا منقطعا إلى العلم والعبادة حسن الأخلاق قليل الرغبة في الدنيا وقال عمر بن الحاجب صنف في الفقه والحديث مصنفات وتفقه عليه جماعة منهم عز الدين بن عبد السلام وكان إماما زاهدا ثقة كثير التهجد غزير الدمعة حسن الأخلاق كثير التواضع قليل التعصب سلك طريق أهل اليقين وكان يطرح التكلف وعرضت عليه مناصب ولايات دينية فأباها توفي في رجب ودفن بطرف مقابر رالصوفية الشرقي يقابل قبر ابن الصلاح جوار تربة شيخه القطب وفيها الأمير مبارز الدين سنقر الصلاحي كان مقيما بحلب ثم انتقل إلى ماردين فخاف منه الأشرف وشكا حاله للمعظم فخدعه ووعده بأن يوليه مهما اختار وجهز إليه ابنه فحضر إلى الشام فالتقاه المعظم ولم ينصفه وتفرق عنه أصحابه فمرض من شدة غبنه ونزل في دار شبل الدولة بالصالحية ومات غبنا فقام شبل الدولة بأمره أحسن قيام واشترى له تربة على رأس زقاق الخانقاه عند المصنع ودفنه بها وكان المبارز محببا إلى الناس ولم يكن في زمنه أكرم منه
وفيها محمد بن قتلمش السمرقندي كان حاجبا للخليفة وبرع في علم الأدب وكان مغرى بالنرد والقمار ومن شعره
( لا والذي سخر قلبي لها ** عبدا كما سخر لي قلبها )
( ما فرحي في حبه غير أن ** يتيح لي عن هجرها قلبها )
ومنه أيضا
( ومقرطق وجدي عليه كردفه ** وتجلدي والصبر عنه كخصره )


( نادمته في ليلة من شعره ** أجلو محاسنه بشمعة ثغره )
وفيها صاحب المغرب السلطان المستنصر بالله أبو يعقوب يوسف بن محمد بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن القيسي لم يكن في آل عبد المؤمن أحسن منه ولا أفصح ولا أشغف باللذات ولي الأمر عشر سنين بعد أبيه ومات ولم يعقب

سنة إحدى وعشرين وستمائة

فيها استولى لولو على الموصل وخنق ابن أستاذه محمود بن القاهر وزعم أنه مات
وفيها عادت التتار من بلاد القفجاق ووصلوا إلى الري وكان من سلم من أهلها قد تراجعوا إليها فما شعروا إلا بالتتار قد أحاطوا بهم فقتلوا وسبوا ثم ساروا إلى قم وقاشان فأبادوهما ثم عطفوا إلى همذان فقتلوا وفظعوا ثم ساروا إلى توريز فوقع بينهم وبين الخوارزمية مصاف
وفيها توفي أبو العباس أحمد بن أبي الفتح يوسف بن محمد الأزجي المشتري مسند وقته سمع من الأرموي وابن الطلاية وابن ناصر وطائفة وتفرد بأشياء توفي في شعبان وفيها أحمد بن محمد القادسي الضرير الحنبلي كان خشن العيش طلب المصتضيء بالله من يصلي به التراويح فأحضروه فقالوا ما مذهبك قال حنبلي فقالوا ما يمكن أن يصلي بدار الخلافة حنبلي فقال القادسي أنا حنبلي وما أريد أن أصلي بكم فسمعه الخليفة فقال صل على مذهبك وكان ملازما لابن الجوزي وبه انتفع وفيها أبو سليمان ابن حوط الله وهو داود بن سليمان بن داود الأنصاري نزيل مالقة رحل وروى عن ابن بشكوال فأكثر وعن عبد الحق بن بويه وأبي عبدالله بن زرقون وولى قضاء بلنسية وغيرها وعاش تسعا وستين سنة
وفيها أبو طالب بن عبد السميع عبد الرحمن بن محمد بن عبد السميع

ابن أبي تمام الواسطي المقرىء المعدل قرأ القراءات على عبد العزيز السماني وغيره وسمع ببغداد من هبة الله بن الشبلي وطائقة وصنف أشياء حسنة وعنى بالحديث والعلم توفي في المحرم عن ثلاث وثمانين سنة
وفيها ابن الحباب القاضي الأسعد أبو البركات عبد القوي بن عبد العزيز بن الحسين التميمي السعدي الأغلبي المصري المالكي الأخباري المعدل راوي السيرة عن ابن رفاعة كان ذا فضل ونبل وسؤدد وعلم ووقار وحلم وكان جمالا لبلده توفي في شوال وله خمس وثمانون سنة
وفيها عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي سلطان المغرب أبو محمد ولي الأمر في العام الماضي فلم يدار أمراء البربر فخلعوه وخنقوه في شعبان وكانت ولايته تسعة أشهر وفي أيامه استولى على مملكة الأندلس ابن أخيه عبد الله بن يعقوب الملقب بالعادل والتقى الافرنج فهزموا جيشه ثم طلب مراكش بأسوأ حال فقبضوا عليه وتملك الأندلس بعده أخوه إدريس مديدة فخرج عليه محمد بن هود الجذامي ودعا إلى آل العباس فمال الناس إليه فهرب إدريس بعسكره إلى مراكش فالتقاه صاحبها يومئذ يحيى بن محمد بن يوسف فهزم يحيى وفيها علي بن عبد الرشيد أبو الحسن الهمذاني قاضي همذان ثم قاضي الجانب الغربي ببغداد ثم قاضي تستر حضر على أبي الوقت وسمع من أبي الخير الباغياني وقرأ القراءات على جده لأمه أبي العلاء العطار توفي في صفر
وفيها الشيخ على الفرنثي الزاهد صاحب الزاوية والأصحاب بسفح قاسيون وكان صاحب حال وكشف وعبادة وصدق وهو الذي حكى عنه أنه قال أربعة يتصرفون في قبورهم كتصرف الأحياء الشيخ عبد القادر ومعروف الكرخي وعقيل المنبجي وحياة بن قيس الحراني توفي في جمادى الآخرة
وفيها ابن اليتيم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد الأنصاري الأندلسي خطيب

المرية رحل في طلب الحديث وسمع من أبي الحسن بن العمة وابن هذيل والكبار بالأسكندرية من السلفى وببغداد من شهدة وبدمشق من الحافظ ابن عساكر ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة وتوفي في ربيع الأول
وفيها ابن اللبودي شمس الدين محمد بن عبدان الدمشقي الطبيب قال ابن أبي أصيبعة كان علامة وقته وأفضل أهل زمانه في العلوم الحكمية وكان له ذكاء مفرط وحرص بالغ توفي في ذي القعدة ودفن بتربته بطريق المزة
وفيها ابن زرقون أبو الحسين محمد بن أبي عبد الله محمد بن سعيد الأنصاري الأشبيلي شيخ المالكية كان من كبار المتعصبين للمذهب فأوذي من جهة بني عبد المؤمن لما أبطلوا القياس وألزموا الناس بالأثر والظاهر وقد صنف كتاب المعلى في الرد على المحلى لابن حزم توفي في شوال وله ثلاث وثمانون سنة
وفيها محمد بن هبة الله بن مكرم أبو جعفر البغدادي الصوفي توفي في المحرم ببغداد وله أربع وثمانون سنة روى عن أبي الفضل الأرموي وأبي الوقت وجماعة وفيها الغاراري محمد بن يخلفتن بن أحمد البربري التلمساني الفقيه المالكي الأديب الشاعر ولي قضاء قرطبة وفيها الفخر الموصلي أبو المعالي محمد بن أبي الفرج أبي المعالي الموصلي ثم البغدادي الشافعي المقرىء صاحب يحيى بن سعدون ومعيد النظامية كان بصيرا بعلل القراءات قال ابن النجار كان فقيها فاضلا نحويا حسن الكلام في مسائل الخلاف له معرفة تامة بوجوه القراءات وعللها وطرقها وله في ذلك مصنفات وكان كيسا متواضعا متوددا حسن العشرة وقدم بغداد سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة فتفقه بها وتوفي بها في سادس رمضان رحمه الله

سنة اثنتين وعشرين وستمائة

فيها جاء جلال الدين بن خوارزم شاه فبذل السيف في دقوقا وفعل ما لا تفعله

الكفرة وأحرق دقوقا وعزم على هجم بغداد فانزعج الخليفة الناصر وحصن بغداد وأقام المجانيق وأنفق ألف ألف دينار ففجأ ابن خوارزم شاه أن الكرج قد خرجوا على بلاده فساق إليهم والتقاهم قال أبو شامة فظفر بهم وقتل منهم سبعين ألفا ثم أخذ تفليس بالسيف وقتل بها ثلاثين ألفا في آخر العام وكان قد أخذ تبريز بالأمان وتزوج بابنة السلطان طغربك السلجوقي ثم جهز جيشا فافتتحوا كنجة وأخذ أيضا مراغة وكانت الكزج قد ملكوا عليهم امرأة وتطلبوا لها من ينكحها لينوب عنها في الملك فأرسل سلطان الروم إليها يخطبها لابنه فامتنعوا وقالوا لا يحكم علينا مسلم فقال إن ابني يتنصر ويتزوجها فأجابوه فتنصر ابنه وأقام معها وأمر ونهى نعوذ بالله من الخذلان وكان الزوج يسمع عنها القبائح ويسكت وكانت تعشق مملوكا لها ورآها يوما في الفراش مع المملوك فأنكر ذلك فقالت إن رضيت وإلا أنت أخبر ثم نقلته إلى قلعة وحجرت عليه ثم سمعت بشابين مليحين فأحضرت أحدهما وتزوجت به وأحضرت آخر بديع الحسن من أهل كنجة فطلبت منه أن يتنصر للتزوج به وفي سلخ رمضان توفي الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله الحسن بن المستنجد بالله يوسف بن المقتفى الهاشمي العباسي بويع بالخلافة في أول ذي القعدة سنة خمس وسبعين وخمسمائة وله ثلاث وعشرون سنة وكان أبيض تركي الوجه أقنى الأنف خفيف العارضين رقيق المحاسن فيه شهامة وإقدام وله عقل ودهاء وهو أطول بني العباس خلافة كما أن الناصر لدين الله الأموي صاحب الأندلس أطول بني أمية دولة وكما أن المستنصر بالله العبيدي أطول العبيديين دولة وكما أن السلطان سنجر بن ملكشاه أطول بني سلجوق دولة قال الموفق عبد اللطيف كان يشق الدروب والأسواق أكثر الليل والناس يتهيبون لقاءه أظهر الفتوة والبندق والحمام المناسيب في أيامه وتفنن الأعيان والأمراء في

ذلك ودخل فيه الملوك وقال الذهبي وكان مستقلا بالأمور بالعراق متمكنا من الخلافة يتولى الأمور بنفسه ما زال في عز وجلالة واستظهار وسعادة أصابه فالج في آخر أيامه وتوفي في سلخ رمضان وله سبعون سنة إلا أشهرا وولى بعده ولده الظاهر وقال ابن النجار دانت السلاطين للناصر ودخل تحت طاعته من كان من المخالفين وذلت له العتاة والطغاة وانقهرت لسيفه الجبابرة وفتح البلاد العديدة وملك من الممالك ما لم يملكه أحد ممن تقدمه من السلاطين والخلفاء والملوك وخطب له ببلاد الأندلس وبلاد الصين وكان أسد بني العباس نتصدع لهيبته الجبال وكان حسن الخلق لطيف الخلق كامل الظرف فصيح اللسان بليغ البيان له التوقيعات المسددة والكلمات المؤيدة كانت أيامه غرة في وجه الدهر ودرة في تاج الفخر وقال الموفق عبد اللطيف أحيا هيبة الخلافة وكانت قد ماتت بموت المعتصم ثم ماتت بموته وكان الملوك والأكابر بمصر والشام إذا جرى ذكره في خلواتهم خفضوا أصواتهم هيبة وإجلالا وقال ابن واصل كان مع ذلك رديء السيرة في الرعية مائلا إلى الظلم والعسف وكان يفعل أفعالا متضادة وكان يتشيع ويميل إلى مذهب الإمامية بخلاف آبائه حتى أن ابن الجوزي سئل بحضرته من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أفضلهم بعده من كانت ابنته تحته فكنى بفضل الصديق ولم يقدر أن يصرح وقال الذهبي أجاز الناصر لجماعة من الأعيان فحدثوا عنه منهم ابن سكينة وابن الأخضر وابن النجار وابن الدامغاني وآخرون وقال سبط ابن الجوزي وغيره قل بصر الناصر في آخر عمره وقيل ذهب بالكلية ولم يشعر بذلك أحد من الرعية حتى الوزير وأهل الدار وكان له جارية قد علمها الخط بنفسه فكانت تكتب مثل خطه فتكتب على التواقيع وقال شمس الدين الجزري كان الماء الذي يشربه الناصر تأتي به الدواب من فوق بغداد سبعة فراسخ ويغلى سبع غلوات كل يوم

غلوة ثم يحبس في الأوعية سبعة أيام ثم يشرب منه ومع هذا ما مات حتى سقى المرقد مرات وشق ذكره وأخرج منه الحصى ثم مات منه ومن لطائفه أن خادما له اسمه يمن كتب إليه ورقة فيها عتب فوقع فيها بمن يمن يمن ثمن يمن ثمن ثمن وفيها ابن يونس صاحب شرح التنبيه الإمام شرف الدين أحمد بن العلامة ذي الفنون كمال الدين موسى بن الشيخ المفتي رضي الدين يونس الموصلي الشافعي توفي في ربيع الآخر عن سبع وأربعين سنة قال ابن خلكان كان كثير المحفوظات غزير المادة نسج على منوال أبيه في التفنن وما سمعت أحدا يلقى الدروس مثله ولقد كان من محاسن الوجود وما أذكره إلا وتصغر الدنيا في عيني وقال الذهبي عاش بعده أبوه سبع عشرة سنة
وفيها إبراهيم بن عبد الرحمن القطيعي المواقيتي أبو إسحق الخياط روى الصحيح غير مرة عن أبي الوقت وتوفي في شعبان وكان ثقة فاضلا مؤقتا
وفيها أبو إسحق بن البرني إبراهيم بن مظفر بن إبراهيم الواعظ شيخ دار الحديث المهاجرية بالموصل روى عن ابن البطي وجماعة وكان عالما متفننا
وفيها أبو العباس أحمد بن أبي المكارم بن شكر بن نعمة بن علي بن أبي الفتح بن حسن بن قدامة بن أيوب بن عبد الله بن رافع المقدسي الخطيب الحنبلي خطيب قرية مردا من عمل نابلس قال الحافظ الضياء سافر إلى بغداد في طلب العلم واشتغل وحصل في مدة يسيرة ما لم يحصله غيره في مدة طويلة وسمع الحديث ببغداد وبجبل قاسيون وسمعت شيخنا الإمام عماد الدين إبراهيم بن عبد الواحد غير مرة يغبطه بما هو عليه من كثرة الخير ثم ذكر له كرامات من تكثير الطعام في وقت احتيج فيه إلى تكثيره ومن المعافاة من الصرع بما يكتبه وقال المنذري توفي بمردا وفيها أحمد بن علي بن أحمد الموصلي الفقيه الحنبلي الزاهد أبو العباس المعروف بالوتارة ويقال ابن الوتارة قال المنذري سمع على علو سنه من المتأخرين وقال الناصح

ابن الحنبلي كان يعرف مسائل الهداية لأبي الخطاب ويأكل من كسب يده ولباسه الثوب الخام وانتفع به جماعة وصارت له حرمة قوية بالموصل واحترام من جانب صاحبها ومن بعده وتوفي بالموصل رابع عشر ذي الحجة وفيها أبو الفضل جعفر بن شمس الخلافة محمد بن مختار الأفضلي المصري مجد الملك الشاعر الأديب الكبير قال ابن خلكان كان فاضلا حسن الخط وكتب كثيرا وخطه مرغوب فيه لحسنه وضبطه وله ديوان جمع فيه أشياء لطيفة دلت على جودة اختياره وله ديوان شعر أجاد فيه نقلت من خطه لنفسه
( هي شدة يأتي السرور عقيبها ** وأسى يبشر بالسرور العاجل )
( وإذا نظرت فإن بؤسا دائما ** للمرء خير من نعيم زائل )
وتوفي في الثاني عشر من المحرم ودفن بالموضع المعروف بالكوم الأحمر ظاهر مصر رحمه الله والأفضلي بفتح الهمزة وسكون الفاء وفتح الضاد المعجمة وبعدها لام نسبة إلى الأفضل أمير الجيوش بمصر وتوفي والده في ذي الحجة سنة عشرين وستمائة وفيها أبو عبد الله الحسين بن عمر بن باز المحدث الموصلي رحل وسمع من شهدة وطبقتها وكتب الكثير وولى مشيخة دار الحديث بالموصل التي بناها صاحب اربل توفي في ربيع الآخر
وفيها ابن شكر الصاحب الوزير صفي الدين أبو محمد عبد الله بن الحسين بن عبد الخالق الشيبي الدميري المالكي ولد سنة ثمان وأربعين وخمسمائة وسمع الحديث وتفقه وساد قال أبو شامة كان خليقا بالوزارة لم يبق له مثله وقال الذهبي كان يبالغ في إقامة النواميس مع التواضع للعلماء ويتعانى الحشمة الضخمة والصدقات والصلات ولقد تمكن من العادل تمكنا لا مزيد عليه ثم غضب عليه ونفاه فلما مات عاد ابن شكر إلى مصر ووزر للكامل ثم عمى في الآخر توفي في شعبان وفيها ابن البنا راوي جامع الترمذي

عن الكروخي أبو الحسن علي بن أبي الكرم نصر بن المبارك العراقي ثم المكي الجلال حدث بمصر والإسكندرية وقوص وأماكن وتوفي بمكة في صفر أو في ربع الأول وفيها زين الدين قاضي القضاة بالديار المصرية أبو الحسن علي بن العلامة يوسف بن عبد الله بن بندار الدمشقي ثم البغدادي الشافعي عاش اثنتين وسبعين سنة وتوفي في جمادى الآخرة وروى عن أبي زرعة وغيره وفيها الملك الأفضل نور الدين علي بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ولد سنة خمس وستين وخمسمائة بالقاهرة وسمع من عبد الله بن بري وجماعة وله شعر وترسل وجودة وكتابة تسلطن بدمشق ثم حارب أخاه العزيز صاحب مصر على الملك ثم زال سلطانه وتملك سميساط وأقام بهامدة وكان فيه عدل وحلم وكرم وإنما أدركته حرفة الأدب توفي فجأة في صفر وكان فيه تشيع قاله في العبر زاد ابن خلكان ونقل إلى حلب ودفن بتربته بظاهر حلب بالقرب من مشهد الهروي
وفيها عمر بن بدر الموصلي الحنفي ضياء الدين حدث عن ابن كليب وجماعة وتوفي بدمشق في شوالها عن بضع وستين سنة
وفيها الفخر الفارسي أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الفيروزابادي الشافعي الصوفي روى الكثير عن السلفي وصنف التصانيف في التصوف والمحبة وفيها أشياء منكرة توفي في أثناء ذي الحجة وقد نيف على التسعين قاله في العبر وقال اليافعي هو صاحب العلوم الربانية النافعة وقد نقم عليه الذهبي وقال ابن شهبة في طبقاته سمع من السلفي وابن عساكر وغيرهما وكان صوفيا محققا فاضلا بارعا فصيحا بليغا له مصنفات كثيرة منها كتاب مطية النقل وعطية العقل في الأصول والكلام وغير ذلك من المصنفات وبنى زاوية بالقرافة بمعبد ذي النون المصري ودفن بها وفيها القزويني مجد الدين أبو المجد محمد بن الحسين بن أبي المكارم الصوفي الفقيه ولد سنة أربع وخمسين وخمسمائة

بقزوين وسمع شرح السنة ومعالم التنزيل من حفدة العطاردي وسمع من جماعة وحدث بالعراق والشام والحجاز ومصر وأذربيجان والجزيرة وبعد صيته توفي بالموصل في شعبان وفيها الفخر بن تيمية أبو عبد الله محمد بن أبي القسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني الفقيه الحنبلي المقري الواعظ فخر الدين شيخ حران وخطيبها ولد في أواخر شعبان سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة بحران وقرأ القرآن على والده وله نحو عشر سنين وكان والده زاهدا يعد من الابدال وشرع في الاشتغال بالعلم من صغره وتردد إلى فتيان بن مباح وابن عبدوس وغيرهما ثم ارتحل إلى بغداد وسمع بها الحديث من المبارك بن خضر وابن البطي وابن الدجاجي وخلق وتفقه ببغداد على أبي الفتح بن المنى وابن بكروس وغيرهما ولازم ابن الجوزي وسمع منه كثيرا من مصنفاته وقرأ عليه زاد المسير في تفسير قراءة بحث وفهم وجد في الاشتغال والبحث ثم أخذ في التدريس والوعظ والتصنيف والقاء التفسير بكرة كل يوم بجامع حران واظب على ذلك حتى فسر القرآن العظيم خمس مرات قال ابن خلكان ذكره محاسن بن سلامة الحراني في تاريخ حران وابن المستوفى في تاريخ اربل فقال له القبول التام عند الخاص والعام وكان بارعا في التفسير القرآن وجميع العلوم له فيها يد بيضاء وقال ابن نقطة ثقة فاضل صحيح السماع مكثر سمعت منه بحران وقال ابن النجار سمعت منه ببغداد وحران وكان شيخا فاضلا حسن الأخلاق صدوقا متدينا وقال ابن رجب كان صالحا تذكر له كرامات وخوارق وله تصانيف كثيرة منها التفسير الكبير في أكثر من ثلاثين مجلدا وهو تفسير حسن ومنها ثلاث مصنفات في المذهب وله ديوان خط مشهور والموضح في الفرائض ومصنفات في الوعظ وغير ذلك وبينه وبين الموفق كلام ورسائل في مسئلة خلود أهل البدع المحكوم بكفرهم في النار كان يقول بخلودهم والموفق لا يطلق عليهم الخلود

وله شعر حسن توفي رحمه الله يوم الخميس عاشر صفر بحران كذا ذكره ولده عبد الغني وقال مات الوالد في الصلاة فإني ذكرته بصلاة العصر وأخذته إلى صدري فكبر وجعل يحرك حاجبه وشفتيه بالصلاة حتى شخص بصره رحمه الله وقد ذكر ولده له مناقب صالحة رؤيت له بعد وفاته وهي كثيرة جدا جمعها في جزء وفيها أبو محمد عبد الله بن علي بن أحمد بن الزيتوني البوازيجي بفتح الموحدة والواو وزاي وتحتية وجيم نسبة إلى بوازيج بلد قرب تكريت سمع من ابن الفاخر وابن بندار وابن الرحبي وغيرهم قال ابن الساعي كان حنبليا خيرا محسنا صالحا صاحب سند ورواية أنشدني
( ضيق العذر في الضراعة أنا ** لو قنعنا بقسمنا لكفانا )
( ما لنا نعبد العباد إذا كان ** إلى الله فقرنا وغنانا )
وفيها محمد بن علي بن مكي بن ورخزا البغدادي الفقيه الحنبلي المعدل أبو عبد الله تفقه على ابن المنى وأفتى وناظر وشهد عند الريحاني ورتب مشرفا على وكلاء الخليفة الناصر وكان فقيها فاضلا خيرا دينا ثقة خبيرا بالمذهب قاله ابن رجب وقال ابن الساعي أنشدني
( يجمع المرء ثم يترك ما يجمع ** من كسبه لغير شكور )
( ليس يحظى إلا بذكر جميل ** أو بعلم من بعده مأثور )
توفي يوم الجمعة العشرين من جمادى الأولى ودفن بمقبرة باب حرب
وفيها عمرو بن رافع بن علوان الزرعي قال ناصح الدين بن الحنبلي قدم من زرع في عشر الستين وهو ابن نيف وعشرين سنة ونزل عندنا في المدرسة هو ورفيقه واشتغلوا على والدي فحفظوا القرآن وسمعوا درسه وحفظوا كتاب الإيضاح وكان هذا الفقيه الحنبلي عمرو يحفظ كثيرا وسريعا وعمل

الفرائض فأسرع في معرفتها ورحل إلى حران وأقام بها مديدة يشتغل ثم رجع إلى دمشق ثم إلى زرع وأقام بها يفتي ثم أضر في آخر عمره ومات بزرع رحمه الله وفيها الزكي بن راحة هبة الله بن محمد الأنصاري التاجر المعدل واقف المدرسة الرواحية بدمشق وأخرى بحلب توفي في رجب بدمشق وفيها أبو السعادات أسعد بن يحيى بن موسى بن منصور السلمي السنجاري الشافعي الشاعر المنعوت بالبها كان فقيها وتكلم في الخلاف إلا أنه غلب عليه الشعر وأجاد فيه واشتهر به وخدم به الملوك وأخذ جوائزهم وطاف البلاد ومدح الأكابر قال ابن خلكان وشعره كثير يوجد بأيدي الناس ولم أدر هل دون شعره أم لا ثم وجدت له في خزانة التربة الأشرفية بدمشق ديوانا في مجلد كبير ومن شعره من جملة قصيدة مدح بها كمال الدين بن الشهرزوري
( وهواك ما خطر السلو بباله ** ولأنت أعلم في الغرام بحاله )
( ومتى وشى واش إليه فإنه ** سال هواك فذاك من عذاله )
( أو ليس للكلف المعنى شاهد ** من حاله يغنيك عن تسآله )
( جددت ثوب سقامه وهتكت ستر ** غرامه وصرمت حبل وصاله )
( أفذلة سبقت له أم خلة ** مألوفة من تيهه ودلاله )
( يا للعجابة من أسير دأبه ** يفدي الطليق بنفسه وبماله )
( بأبي وأمي بابلى لحاظه ** لا يتقي بالدرع حد نباله )
( ريان من ماء الشبيبة والصبا ** شرقت معاطفه بطيب دلاله )
( تسري النواظر في مراكب حسنه ** فتكاد تغرق في بحار جماله )
( فكفاه عين كماله في نفسه ** وكفى كمال الدين عين كماله )
( كتب العذار على صحيفة خده ** نونا وأعجمها بنقطة خاله )
( فسواد طرته كليل صدوده ** وبياض غرته كيوم وصاله )


وله أيضا من جملة قصيدة
( ومهفهف حلو الشمائل فاتر ** الالحاظ فيه طاعة وعقوق )
( وقف الرحيق على مراشف ثغره ** فجرى به من خده راووق )
( سدت محاسنه على عشاقه ** سبل السلو فما إليه طريق )
وله من جملة قصيدة أخرى
( هبت نسيمات الصبا سحرة ** ففاح منها العنبر الأشهب )
( فقلت إن مرت بوادي الغضا ** من أين هذا النفس الطيب )
وله أشياء حسنة وكانت ولادته سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة وتوفي في أوائل هذه السنة انتهى ملخصا وفيها الوزير صفي الدين أبو عبد الله محمد بن شكر له بدمشق آثار حسنة منها عمارة المصلى بميدان الحصى وتبليط جامع بني أمية وعمارة مسجد الفوارة وتجديد جامع حرستا وجامع المزة وغير ذلك
وفيها أبو الحسن علي بن الجارود الأديب الفاضل الشاعر فمن شعره
( أحكم فإنك في الجمال أمير ** واعدل فقلبي في يديك أسير )
( واكفف لحاظك أيها الرشأ الذي ** يسطو على أسد الشرى ويجور )
( يا عاذلي خفض عليك فإنني ** مذخط لام عذاره معذور )
وفيها أبو الدر ياقوت بن عبد الله الرومي الملقب مهذب الدين الشاعر المشهور مولى أبي منصور التاجر الحلبي قال ابن خلكان اشتغل بالعلم وأكثر من الأدب واستعمل قريحته في النظم فجاد فيه ولما تميز ومهر سمى نفسه عبد الرحمن وكان مقيما في المدرسة النظامية ببغداد وعده ابن الدبيثي في جملة من اسمه عبد الرحمن وذكر انه نشأ ببغداد وحفظ القرآن الكريم وقرأ شيئا من الأدب وكتب خطا حسنا وقال الشعر وأكثر منه في الغزل والتصابي وذكر المحبة وراق شعره ومن شعره


( ألست من الولدان أحلى شمائلا ** فكيف سكنت القلب وهو جهنم )
وقال ابن النجار في تاريخ بغداد وجد أبو الدر المذكور في داره ميتا يوم الأربعاء ثامن عشر جمادى الأولى من السنة وكان قد خرج من النظامية فسكن في دار بدرب دينار الصغير فلم يعلم متى مات وقد ناهز الستين والله أعلم وقال ابن خلكان أيضا الرومي بضم الراء وسكون الواو بعدها ميم نسبة إلى بلاد الروم وهو إقليم مشهور متسع كثير البلاد وههنا نكتة غريبة يحتاج إليها ويكثر السؤال عنها وهي أن أهل الروم يقال لهم بنو الأصفر واستعمله الشعراء في أشعارهم فمن ذلك قول عدي بن زيد العبادي من جملة قصيدته المشهورة
( وبنو الأصفر الكرام ملوك الروم ** لم يبق منهم مذكور )
ولقد تتبعت ذلك كثيرا فلم أجد فيه أحدا شفى الغليل حتى ظفرت بكتاب قديم نقلت منه ما صورته عن العباس عن أبيه قال انحرق ملك الروم في الزمان الأول فبقيت امرأة فتنافسوا في الملك حتى وقع بينهم شر فاصطلحوا أن يملكوا أول من يشرف عليهم فجلسوا مجلسا لذلك وأقبل رجل معه عبد حبشي يريد الروم فأبق العبد منه فأشرف عليهم فقالوا انظروا في أي شيء وقعتم فزوجوه تلك المرأة فولدت غلاما فسموه الأصفر فخاصمهم المولى فقال صدق أنا عبده فأرضوه وأعطوه حتى رضي فبسبب ذلك قيل للروم بنو الأصفر لصفرة لون الولد لكونه مولدا بين الحبشي والمرأة البيضاء والله أعلم انتهى وفيها أبو المكارم يعيش بن مالك بن هبة الله بن ريحان الأنباري ثم البغدادي الفقيه الحنبلي الزاهد ولد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة تقريبا وسمع من ابن الدجاجي وصدقة بن الحسين وأبي زرعة المقدسي وآخرين قال المنذري كان من فضلاء الفقهاء متدينا معتزلا عن الناس ولنا منه إجازة وتوفي ليلة الخميس خامس عشر ذي الحجة ودفن من الغد بباب حرب

سنة ثلاث وعشرين وستمائة

فيها وقع برد وزنوا بردة فكانت مائة رطل بالبغدادي
وفيها توفي الشمس البخاري أحمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسمعيل بن منصور السعدي المقدسي ثم الدمشقي المعروف بالبخاري شمس الدين أبو العباس أخو الحافظ ضياء الدين محمد ووالد الفخر على مسند عصره ولد في العشر الأواخر من شوال سنة أربع وستين وخمسمائة بالجبل وسمع بدمشق من أبي المعالي بن صابر وغيره وببغداد من ابن الجوزي وطبقته وبنيسابور وواسط من جماعة وتفقه في مذهب الإمام أحمد وبرع في المذهب وأقام مدة يشتغل بالخلاف على الرضى النيسابوري ولهذا عرف بالبخاري ثم رجع إلى الشام وسكن حمص مدة قال المنذرصي وهو أول من ولي القضاء بها وقال ابن الدبيثي كان إماما عالما مفتيا مناظرا ذا سمت ووقار وكان كثير المحفوظ حجة صدوقا كثير الاحتمال تام المروءة لم يكن في المقادسة أفصح منه واتفقت الألسنة على شكره وشهرته وفضله وما كان عليه يغني عن الإطناب في ذكره وروى عنه الضياء الحافظ وغيره وأجاز للمنذري وقال أنه توفي ليلة الخميس خامس جمادى الآخرة ودفن من الغد إلى جانب خاله الشيخ موفق الدين
وفيها أحمد بن محمود بن أحمد بن ناصر البغدادي الحريمي الحذاء أبو العباس ابن أبي البركات ولد سنة ثلاث وأربعين تقديرا وسمع ما أفاده والده من ابن البطي وابن بندار وابن الدجاجي وغيرهم وتفقه في مذهب الإمام أحمد على والده وحدث وأجاز للمنذري قال ابن الساعي توفي يوم الأربعاء حادي عشر جمادى الأولى ودفن بمقبرة باب حرب وفيها أحمد بن ناصر بن أحمد بن محمد بن ناصر الإسكاف الفقيه أبو العباس بن أبي البركات الفقيه الحنبلي

الحربي قرأ طرفا من الفقه على والده وسمع الحديث من ابن البطي ويحيى بن ثابت بن بندار وابن الدجاجي وغيرهم وكتب عنه ابن النجار وقال كان شيخا حسنا فهما متيقظا توفي يوم الأحد حادي عشرى جمادى الأولى ودفن بباب حرب وفيها ابن الأستاذ أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الحلبي المحدث الصالح والد قاضي حلب ولد سنة أربع وثلاثين وخمسمائة وسمع من طائفة وحج من بغداد فسمع بها من أحمد بن محمد العباسي وكان له عناية متوسطة بالحديث توفي في عاشر جمادى الآخرة
وفيها الإمام الرافعي أبو القسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الفضل بن الحسين بن الحسن الإمام العلامة إمام الدين الشافعي صاحب الشرح المشهور الكبير على المحرر وصاحب الوجيز انتهت إليه معرفة المذهب ودقائقه وكان مع براعته في العلم صالحا زاهدا ذا أحوال وكرامات ونسك وتواضع قال ابن قاضي شهبة إليه يرجع عامة الفقهاء من أصحابنا في هذه الأعصار في غالب الأقاليم والأمصار ولقد برز فيه على كثير ممن تقدمه وحاز قصب السبق فلا يدرك شأوه إلا من وضع يديه حيث وضع قدمه تفقه على والده وغيره وسمع الحديث من جماعة وقال ابن الصلاح أظن أني لم أر في بلاد العجم مثله كان ذا فنون حسن السيرة جميل الأمر صنف شرح الوجيز في بضعة عشر مجلدا لم يشرح الوجيز بمثله وقال النووي أنه كان من الصالحين المتمكنين وكانت له كرامات ظاهرة وقال أبو عبد الله محمد بن محمد الإسفراييني هو شيخنا إمام الدين وناصر السنة صدقا كان أوحد عصره في العلوم الدينية أصولا وفروعا ومجتهد زمانه في المذهب وفريد وقته في التفسير ولتسميع الحديث صنف شرحا لمسند الشافعي وأسمعه وصنف شرحا للوجيز ثم صنف أوجز منه وقيل أنه لم يجد زيتا للمطالعة في قرية بات بها فتألم فأضاء له عرق كرمة فجلس يطالع ويكتب عليه ومن شعره


( أقيما على باب الرحيم أقيما ** ولا تنيا في ذكره فتهيما )
( هو الرب من يقرع على الصدق بابه ** يجده رءوفا بالعباد رحيما )
وقال ابن خلكان توفي في هذه السنة بقزوين وعمره نحو ست وستين سنة ومن تصانيفه العزيز في شرح الوجيز الذي يقول فيه النووي بعد وصفه واعلم أنه لم يصنف في مذهب الشافعي رضي الله عنه ما يحصل لك مجموع ما ذكرته أكمل من كتاب الرافعي ذي التحقيقات بل اعتقادي واعتقاد كل مصنف أنه لم يوجد مثله في الكتب السابقات ولا المتأخرات فيما ذكرته من المقاصد المهمات والرافعي منسوب إلى رافعان بلدة من بلاد قزوين قاله النووي وقال الأسنوي وسمعت قاضي القضاة جلال الدين القزويني يقول أن رافعان بالعجمي مثل الرافعي بالعربي فإن الألف والنون في آخر الاسم عند العجم كياء النسبة في آخره عند العرب فرافعان نسبة إلى رافع قال ثم أنه ليس بنواحي قزوين بلدة يقال لها رافعان ولا رافع بل هو منسوب إلى جدله يقال له رافع أي وهو رافع بن خديج وحكى ابن كثير قولا أنه منسوب إلى رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفيها علي بن النفيس بن بوريدان أبو الحسن البغدادي ولد سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة وسمع من أبي الوقت ومحمود فورجه وجماعة وتوفي في ذي القعدة وفيها شبل الدولة كافور الحسامي طواشي حسام الدين محمد ولد ست الشام وخادم ست الشام له فوق جسر ثورا من صالحية دمشق المدرسة والتربة والخانقاه وأوقف عليها الأوقاف ونقل لها الكتب الكثيرة وفتح للناس طريقا من الجبل إلى دمشق قريبة على عين الكرش وبنى المصنع الذي على رأس الزقاق والخانقاه للصوفية إلى جانب مدرسته ومصنعا آخر عند مدرسته وكان دينا وافر الحشمة روى عن الخشوعي ودفن بتربته إلى جانب مدرسته وفيها الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد بن

الناصر لدين الله أحمد بن المستضىء بأمر الله الحسن بن المستنجد بالله يوسف ابن المقتفى العباسي ولد سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وبويع بالخلافة بعد أبيه في العام الماضي وكانت خلافته تسعة أشهر ونصفا وكان دينا خيرا متواضعا حتى بالغ ابن الأثير وقال أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنة العمرين وقال أبو شامة كان أبيض مشربا بحمرة حلو الشمائل شديد القوي قيل له الا تنفسح قال لقد لقس الزرع فقيل يبارك الله في عمرك فقال من فتح بعد العصر إيش يكسب ثم إنه أحسن إلى الناس وفرق الأموال أبطل المكوس وأزال المظالم وقال الذهبي توفي في ثالث عشر رجب وبويع بعده ابنه المستنصر بالله وفيها أحمد بن عبد المنعم الحكيم البغدادي كان حسن المعرفة بالأدب والطلب ومن شعره
( إذا لم أجد لي في الزمان مؤانسا ** جعلت كتابي مؤنسي وجليسي )
( وأغلقت بابي دون من كان ذا غنى ** وأمليت من مال القناعة كيسي )
وفيها ابن أبي لقمة أبو المحاسن محمد بن السيد بن فارس الأنصاري الدمشقي الصفار المعمر ولد سنة تسع وعشرين وخمسمائة وسمع من هبة الله بن طاووس والفقيه نصر الله المصيصي وجماعة تفرد بالرواية عنهم وأجاز له من بغداد سنة أربعين علي بن الصباغ وطبقته وكان دينا كثير التلاوة والذكر توفي في ثالث ربيع الأول وفيها ابن البيع أبو المحاسن محمد بن هبة الله بن عبد العزيز الدينوري الزهري سمع من عمه أبي بكر محمد بن أبي حامد ومحمد بن طراد الزينبي وجماعة انفرد بالرواية عنهم وكان شيخا جليلا نبيلا رضيا توفي في شوال وفيها أبو القسم العتابي المبارك بن علي بن أبي الجود الوراق آخر أصحاب ابن الطلاية كان رجلا صالحا توفي في المحرم قال الذهبي حدثنا عنه الأبرقوهي وفيها أبو العز موفق الدين مظفر بن إبراهيم بن جماعة بن علي بن شامي بن أحمد بن ناهض بن عبد الرزاق

العيلاني بالعين المهملة نسبة إلى قيس عيلان الحنبلي الأديب الشاعر العروضي الضرير المصري ولد لخمس ليال بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة بمصر وسمع الحديث من أبي القسم بن البستي وابن الصابوني وأبي طاهر السلفي والبوصيري وغيرهم ولقي جماعة من الأدباء وقال الشعر الجيد وبرع في علم العروض وصنف فيه تصنيفا مشهورا دل على حذقه ومدح جماعة كثيرة من الملوك والشعراء والوزراء وغيرهم وحدث بتصنيفه وبشيء من شعره قال المنذري سمعت منه وكان بقية فضلاء طبقته وذكر ابن خلكان أنه قال دخلت يوما على القاضي هبة الله بن سناء الملك الشاعر فقال لي يا أديب صنفت نصف بيت ولي أيام أفكر في تمامه قلت وما هو قال
( بياض عذارى من سواد عذاره ** قلت قد حصل تمامه وأنشدت )
( كما جل نارى فيه من جلناره ** فاستحسنه وعمل عليه ومن )
نظمه الأبيات المشهورة السائرة الرائقة الفائقة
( قالوا عشقت وأنت أعمى ** ظبيا كحيل الطرف المى )
( وحلاه ما عاينتها ** فنقول قد شغفتك دهما )
( وخياله بك في المنام ** فما أطاف ولا ألما )
( من أين أرسل للفؤاد ** وأنت لم تنظره سهما )
( ومتى رأيت جماله ** حتى كساك هواه سقما )
( وبأي جارحة وصلت ** لوصفه نثرا ونظما )
( والعين داعية الهوى ** وبه يتم إذا تنمى )
( فأجبت أني موسوي ** العشق انصاتا وفهما )
( أهوى بجارحة السماع ** ولا أرى ذات المسمى )
وقال ابن خلكان وأخبرني أحد أصحابه أن شخصا قال له رأيت في بعض تآليف أبي العلاء المعري ما صورته أصلحك الله وأبقاك لقد كان من الواجب أن تأتينا اليوم إلى منزلنا الخالي لكي نحدث عهدا بك يا زين

الاخلاء فما مثلك من ضيع عهدا وغفل وسأله من أي الأبحر هذا وهل هو بيت واحد أم أكثر فإن كان أكثر فهل أبياته على روى واحد أم هي مختلفة الروى قال فأفكر ساعة ثم أجابه بجواب حسن فلما قال لي المخبر ذلك قلت له اصبر علي حتى أنظر ولا تقل ما قاله ثم أفكرت فيه فوجدته يخرج من بحر الرجز وهذا المجزوء منه وتشتمل هذه الكلمات على أربعة أبيات على روى اللام وهي على صورة يسوغ استعمالها عند العروضيين ومن لم يكن من العروضيين ومن لم يكن له بهذا الفن معرفة فإنه ينكرها لأجل قطع الموصول منها ولا بد من الإتيان بها لتنظر صورة ذلك وهي
( أصلحك الله وأبقاك ** لقد كان من ال )
( واجب أن تأتينا اليوم ** إلى منزلنا ال )
( خالي لكي نحدث عهدا ** بك يا زين الاخل )
( لاء فما مثلك من ** ضيع عهدا وغفل )
وهذا إنما يذكره أهل هذا الشأن للمعاياة لا أنه من الأشعار المستعملة فلما استخرجته عرضته على ذلك الشخص فقال هكذا قاله مظفر الأعمى وكانت ولادة مظفر الدين المذكور لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة بمصر وتوفي بها سحرة يوم السبت من المحرم انتهى ملخصا أي ودفن بسفح المقطم وفيها الجمال المصري قاضي القضاة أبو الوليد يونس بن بدران بن فيروز بن صاعد بن محمد بن علي الشيبي الشافعي ولد في حدود الخمسين وخمسمائة وسمع من السلفي وولى الوكالة السلطانية بالشام ودرس بالأمينية ثم ولى القضاء ودرس بالعادلية واختصر الام للشافعي ولم يكن بذاك المحمود في الولاية توفي في ربيع الآخر ودفن بداره بقرب القلبجية وقد تكلم في نسبه

سنة أربع وعشرين وستمائة

فيها جاء الخبر إلى السلطان جلال الدين وهو بتوريز أن التتار قد قصدوا أصبهان وبها أهله فسار إليها وتأهب للملتقى فلما التقى الجمعان خذله أخوه غياث الدين وولى وتبعه جهان بهلوان فكسرت ميمنته ميسرة التتار ثم حملت ميسرته على ميمنة التتار فطحنتها أيضا وتباشر الناس بالنصر ثم كرت التتار مع كمينها وحملوا حملة واحدة كالسيل وقد أقبل الليل فزالت الأقدام وقتلت الأمراء واشتد القتال وتداعى بنيان جيش جلال الدين وثبت هو في طائفة يسيرة واحتيط به فانهزم على حمية وطعن طعنة لولا الأجل لتلف وتمزق جيشه وكانت ملحمة لم يسمع بمثلها في الملاحم في انهزام كلا الفرقين وذلك في رمضان قاله في العبر وفيها في رمضان قبل المصاف بأيام اتفق موت جنكزخان طاغية التتار وسلطانهم الأعظم الذي خرب البلاد وأباد الأمم وهو الذي جيش الجيوش وخرج بهم من بادية الصين فدانت له المغول وعقدوا له عليهم وأطاعوه ولا طاعة الأبرار للملك القهار واسمه قبل الملك تمر حين ومات على الكفر وكان من دهاة العالم وأفراد الدهر وعقلاء الترك وهو جد ابني العم بركة وهولاكو
وفيها توفي قاضي حران أبو بكر عبد الله بن نصر بن محمد بن أبي بكر الفقيه الحنبلي المقري رحل إلى بغداد وتفقه بها وسمع الحديث من شهدة وابن شاتيل وطبقتهما ورحل إلى واسط وقرأ بها القراءات بالروايات قال ابن حمدان الفقيه سمعت عليه أشياء قال وكان مشهورا بالديانة والصيانة متوحدا في فنه وفي فنون القراءة وجودة أدائها وصنف في القراءات وعاش خمسا وسبعين سنة وفيها عبد الله بن الحافظ أبي العلاء الحسن بن أحمد الهمذاني سمع أباه ونصر بن المظفر وعلي بن محمد المشكاني راوي

تاريخ البخاري وجماعة توفي في شعبان وفيها البهاء عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسمعيل بن منصور المقدسي الفقيه الحنبلي الزاهد بهاء الدين أبو محمد ابن عم البخاري ولد سنة خمس وقيل ست وخمسين وخمسمائة وسمع بدمشق من ابن أبي الصقر وغيره ورحل إلى بغداد وسمع بها من شهدة وعبد الحق اليوسفي وطبقتهما وسمع بحران من أحمد بن أبي الوفاء الفقيه ويقال أنه تفقه ببغداد على ابن المنى وبالشام على الشيخ موفق الدين ولازمه وصنف التصانيف منها شرح عمدة الشيخ موفق الدين وهو في مجلد نص في أوله أن الماء لا ينجس حتى يتغير مطلقا ويقال أنه شرح المقنع أيضا قال سبط ابن الجوزي كان يؤم بمسجد الحنابلة بنابلس والشام ثم انتقل إلى دمشق قال وكان صالحا ورعا زاهدا غازيا مجاهدا جوادا سمحا وقال المنذري كان فيه تواضع وحسن خلق وأقبل في آخر عمره على الحديث إقبالا كليا وكتب منه الكثير وحدث بنابلس والشام توفي رحمه الله في سابع ذي الحجة ودفن من يومه بسفح قاسيون وفيها قاضي القضاة ابن السكري عماد الدين عبد الرحمن بن عبد العلي بن على المصري الشافعي تفقه علي الشهاب الطوسي وبرع في المذهب وأفتى وولي القضاء بالقاهرة وخطابتها وحدث وأفتى ودرس وله حواش على الوسيط مفيدة ومصنف في مسئلة الدور وعزل قبل موته من القضاء بسبب أنه طلب منه قرض شيء من مال الأيتام فامتنع ويحكى عنه أنه عزل الشيخ عبد الرحمن النويري لحكمه بالمكاشفات فقال النويري عزلته وعزلت ذريته فعزل عبد ذلك وفيها حجة الدين الحقيقي أبو طالب عبد المحسن بن أبي العميد الأبهري الشافعي الصوفي ولد سنة ست وخمسين وخمسمائة وتفقه بهمذان وعلق التعليقة على الفخر البوقاني وسمع بأصبهان من الترك وجماعة وببغداد من ابن شاتيل وبدمشق ومصر وكان كثير الأسفار والعبادة والتهجد صاحب أوراد وصدق وعزم جاور مدة

بمكة وتوفي في صفر
وفيها الملك المعظم سلطان الشام شرف الدين عيسى بن العادل الحنفي الفقيه الأديب ولد بالقاهرة سنة ست وسبعين وخمسمائة وحفظ القرآن وبرع في الفقه وشرح الجامع الكبير في عدة مجلدات بإعانة غيره ولازم الاشتغال زمانا وسمع المسند لابن حنبل وله شعر كثير وكان عديم الالتفات إلى النواميس وأبهة الملوك ويركب وحده مرارا ثم تتلاحق به مماليكه وكان فيه خير وشر كثير سامحه الله تعالى قال ابن الأهدل كان حنفيا شديد التعصب لمذهبه ولم يكن في بني أيوب حنفي سواه وتبعه أولاده وكان قد شرط لمن حفظ المفصل للزمخشري مائة دينار وخلعة فحفظه جماعة لهذا السبب وكان من النجباء الأذكياء انتهى وقال غيره ومن شعره وقد مرض بالحمى
( زارت ممحضة الذنوب وودعت ** تبا لها من زائر ومودع )
( باتت معانقتي كأني حبها ** ومقيلها ومبيتها في أضلعي )
( قالت وقد عزمت على ترحالها ** ماذا تريد فقلت أن لا ترجعي )
وله
( هجم الشتاء ونحن بالبيداء ** فدفعت شرته بصوت غناء )
( وجمعت قافات يزول بجمعها ** هم الشتاء ولوعة البرحاء )
( قدح وقانون وقاني قهوة ** مع قينة في قبة زرقاء )
ومرض ابن عنين فكتب إليه
( أنظر إلي بعين مولى لم يزل ** يولي الندى وتلاف قبل تلافي )
( أنا كالذي أحتاج ما تحتاجه ** فاغنم ثوابي والثناء الوافي )
فجاء إليه فعاده ومعه صرة فيها ثلاثمائة دينار وقال هذه الصلة وأنا العائد وهذه لو وقعت لاكابر النحاة لاستحسنت منه فكيف هذا الملك توفى رحمه الله في سلخ ذي القعدة وقال ابن خلكان توفي يوم الجمعة مستهل

ذي الحجة بدمشق ودفن في قلعتها ثم نقل إلى الصالحية ودفن في مدرسته هناك بها قبور جماعة من إخوته وأهل بيته تعرف بالمعظمية انتهى
وفيها الفتح بن عبد الله بن محمد بن علي بن هبة الله بن عبد السلام عميد الدين أبو الفرج البغدادي الكاتب ولد في أول سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وسمع من جده أبي الفتح وأبي الفضل الأرموي ومحمد بن أحمد الطرائفي وطائفة وتفرد بالرواية عنهم ورحل الناس إليه توفي في الرابع والعشرين من المحرم وهو من بيت حديث وأمانة

سنة خمس وعشرين وستمائة

فيها توفى اللبلي بالباء الموحدة نسبة إلى لبلة بلد بالأندلس المحدث الرحال محب الدين أحمد بن تميم بن هشام الأندلسي طوف وسمع من ابن طبرزد والمؤيد الطوسي وطبقتهما وكان من وجوه أهل لبلة توفى في رجب بدمشق كهلا وفيها ابن طاووس أبو المعالي أحمد بن الخضر ابن هبة الله بن أحمد الصوفي أخو هبة الله سمع من حمزة بن كروس وكان عريا من الفضيلة توفي في رمضان قاله في العبر وفيها أحمد بن شرويه بن شهر دار الديلمي أبو مسلم الهمداني روى عن جده ونصر بن المظفر البرمكي وأبو الوقت وطائفة وتوفى في شعبان وفيها أبو منصور ابن البراح أحمد بن يحيى بن أحمد البغدادي الصوفي راوي سنن النسائي عن أبي زرعة وسمع أيضا من ابن البطي وكان صالحا عابدا توفى في المحرم
وفيها ابن بقي قاضي الجماعة أبو القسم أحمد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أحمد الأموي مولاهم البغوي القرطبي سمع جده أبا الحسن ومحمد بن عبد الحق الخزرجي وأجاز له شريح وجماعة وكان ظاهري المذهب مسند أهل المغرب وعالمهم ورئيسهم ولى القضاء بمراكش مضافا إلى الغاية العليا وغير ذلك توفى

في نصف رمضان وقد تجاوز ثمانيا وثمانين سنة وآخر من روى عنه عبد الله بن هرون الطائي وفيها داود بن رستم بن محمد بن أبي سعيد الحراني الحنبلي ببغداد ودفن بباب حرب سمع من نصر القزاز وغيره وصفه المنذري بأنه رفيقه وذكره ابن النجار وأنه ناطح الستين وفيها أبو علي الجواليقي الحسن بن إسحق بن العلامة أبي منصور موهوب بن أحمد البغدادي روى عن ابن ناصر وعن أبي بكر بن الزاغوني وجماعة وكان ذا دين ووقار
وفيها النفيس بن البن أبو محمد الحسن بن علي بن أبي القسم الحسين بن الحسن الأسدي الدمشقي تفرد عن جده بحديث كثير وكان ثقة حسن السمت والديانة توفى في شعبان وفيها القاضي الإمام جمال الدين عبد الرحيم بن شيث القرشي جمع الله له بين الفضل والمروءة والكرم والفتوة كان كثير الصدقات وكان القاضي الفاضل يحتاج إليه في علم الرسائل كتب إليه أبو المظفر كتابا يتشوق إليه فأجابه
( وافى كتابك وهو الروض مبتسما ** عن ثغر در طغى من بحرك الطامي )
( وكان عندي كالماء الزلال وقد ** تناولته يمين الحائم الظامي )
( لله نفحة فضل منه رحت بها ** نشوان أسحب أذيالي وأكمامي )
تولى الوزارة للملك المعظم بالشام ونشأ بقوص ومات بدمشق ودفن بتربته بقاسيون وفيها ابن عفيجة أبو منصور محمد بن عبد الله بن المبارك البندنيجي ثم البغدادي البيع أجاز له في سنة بضع وثلاثين وخمسمائة أبو منصور ابن خيرون وأبو محمد سبط الخياط وطائفة سمع من ابن ناصر توفي في ذي الحجة وفيها محمد بن النفيس بن محمد بن إسمعيل بن عطاء أبو الفتح البغدادي الصوفي سمع الصحيح من أبي الوقت وتوفي في القعدة
وفيها أبو محمد عبد المحسن بن عبد الكريم بن ظافر بن رافع

الحصري المصري الحنبلي الفقيه ولد في أوائل سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة بمصر وسمع بها من أبي إسحق إبراهيم بن هبة الله وجماعة كثيرة ورحل إلى دمشق فتفقه بها على الشيخ موفق الدين وانقطع إليه مدة وتخرج به وسمع منه ومن أبي الفتوح البكري وغيرهما وسمع بحران من الحافظ عبد القادر الرهاوي وحدث بحمص وبمصر وكتب بخطه وحصل كسبا وتوجه إلى الحج فغرق وذهب جميع ما معه وعاد إلى مصر مجردا من جميع ما كان معه ولم يزل على سداد وأمر جميل إلى أن توفي في ثالث جمادى الآخرة بمصر ودفن بسفح المقطم قاله ابن رجب

سنة ست وعشرين وستمائة

فيها سلم الكامل القدس الشريف لملك الفرنج بعد أن كاتبه الانبرور ملكهم في العام الماضي يقول أنا عتيقك وتعلم أني أكبر مغول الفرنج وأنت كاتبتني بالمجيء وقد علم البابا والملوك باهتمامي فإن رجعت خائبا انكسرت حرمتي وهذه القدس هي أصل دين النصرانية وأنتم قد خربتموها وليس لها دخل طائل فإن رأيت أن تنعم علي بقبضة البلد ليرتفع رأسي بين الملوك وأنا التزم بحمل دخلها لك فلان له وسلمه إياها في هذا العام فإنا لله وإنا إليه راجعون ثم اتبع فعله هذا بحصار دمشق وأذية الرعية وجرت بين عسكره وعسكر الناصر وقعات وقتل جماعة في غير سبيل الله وأحرقت الخانات ودام الحصار أشهرا ثم وقع الصلح في شعبان ورضى الناصر بالكرك ونابلس فقط ثم سلم دمشق إلى أخيه الأشرف بعد شهر وأعطاه الأشرف حران والرقة والرها وغير ذلك وفيها توفى أبو القسم بن صصرى مسند الشام شمس الدين الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن محمد التغلبي الدمشقي الشافعي ولد سنة بضع وثلاثين وسمع من جده لأبيه وجده لأمه عبد الواحد

ابن هلال وأبي القسم بن البن وخلق كثير وأجاز له علي بن الصباغ وأبو عبد الله بن السلال وطبقتهما ومشيخته في سبعة عشر جزءا توفى في الثالث والعشرين من المحرم وفيها أمة الله بنت أحمد بن عبد الله بن علي بن الأبنوسي روت الكثير عن أبيها وتفردت عنه وتوفيت في المحرم أيضا وتلقب بشرف النساء وكانت صالحة خيرة وفيها ابن البابرايا موفق الدين أبو المعالي عبد الرحمن بن علي بن أحمد بن علي بن محمد البغدادي الواعظ الفقيه الحنبلي المعدل ثم الحاكم أبو محمد ويقال أبو الفضل ويقال أبو المعالي سمع من عبد الحق اليوسفي وابن شاتيل ونصر الله القزاز وابن المنى وابن الجوزي وغيرهم وتفقه على ابن المنى وبرع وناظر وقرأ الوعظ على ابن الجوزي ووعظ قال ابن النجار كان حسن الأخلاق فاضلا مناظرا وله يد في الوعظ وقال ابن رجب وقد حدث وسمع منه غير واحد منهم ابن النجار وأجاز للمنذري ولابن أبي الجيش وقال عنه كان من العجم وتوفي ليلة الإثنين الخامس والعشرين من جمادى الآخرة فجأة ودفن بمقبرة الإمام أحمد رحمه الله
وفيها بهاء الدين أبو العباس أحمد بن نجم بن عبد الوهاب بن الحنبلي الدمشقي أخو الشهاب والناصح وكان أكبر الأخوة ولد سنة تسع وأربعين وخمسمائة وسمع من أبي الفضل بن الشهرزوري وحدث عن الحيص بيص الشاعر وأجاز للمنذري وتوفي في حادي عشرى ذي القعدة بدمشق ودفن بالجبل
وفيها الحاجب علي حسام الدين نائب خلاط للملك الأشرف كان شهما مقداما موصوفا بالشجاعة والسياسة والحشمة والبر والمعروف قبض عليه الأشرف على يد مملوكه عز الدين أيبك فلم يمهل الله أيبك ونازله خوارزم شاه وأخذ خلاط وأخذ أيبك وجماعة وفيها أبو الحسن محمد بن محمد بن أبي حرب بن النرسي الكاتب الشاعر روى عن أبي محمد بن المادح وهبة الله الشبلي وله ديوان شعر توفى في جمادى الآخرة


وفيها الملك المسعود أفسيس بن الكامل وأفسيس بلغة اليمن موت كان جبارا عنيدا حج مرة فكان يرمى بالبندق وكان غلمانه يدخلون الحرم ويضربون الناس بالسيوف ويقولون مهلا فإن الملك نائم سكران ونادى مرة في بلاد اليمن من أراد السفر من التجار إلى الديار المصرية والشامية صحبة السلطان فليتجهز فجاء التجار من السند والهند بأموال الدنيا والجواهر ولما تكاملت المراكب بزبيد قال اكتبوا لي بضائعكم لأحميها من الزكاة فكتبوها له فصار يكتب لكل تاجر برأس ماله إلى بعض بلاد اليمن ويستولي على ماله فاستغاثوا وقالوا فينا من له عن أهله سنين فلم يلتفت إليهم فقالوا خذ مالنا وأطلقنا فلم يلتفت إليهم أيضا فعبأ ثقله في خمسمائة مركب ومعه ألف خادم ومائة قنطار عنبر وعود ومسك ومائة ألف ثوب ومائة صندوق أموال وجواهر وركب الطريق إلى مكة فمرض مرضا مزمنا فوصل إلى مكة وقد أفلج ويبست يداه ورجلاه ورأى في نفسه العبر ثم مات فدفنوه في المعلى وضرب الهوى بعض المراكب فجرعت إلى زبيد فأخذها أصحابها
وفيها نجم الدين يعقوب بن صابر المنجنيقي كان فاضلا أديبا شاعرا برع على أهل صناعته في علم المنجنيق ومن شعره
( وكنت سمعت أن النجم عند ** استراق السمع يقذف بالرجوم )
( فلما إن علوت وصرت نجما ** رجمت بكل شيطان رجيم )
وله
( كلفت بعسلم المنجنيق ورميه ** لهدم الصياصي وافتتاح المرابط )
( وعدت إلى نظم القريض لشقوتي ** فلم أخل في الحالين من قصد خابط )
وله في الصوفية
( قد لبسوا الصوف لترك الصفا ** مشايخ العصر لشرب العصير )
( وقصروا للعشق أثوابهم ** شر طويل تحت ذيل قصير )


وفيها أبو نصر المهذب بن علي بن قنيدة الأزجي الخياط المقرىء روى عن أبي الوقت وجماعة وتوفى في شوال وفيها أبو الدر ياقوت بن عبد الله الرومي الجنس الحموي المولد البغدادي الدار الملقب شهاب الدين أخذ من بلاده صغيرا وابتاعه ببغداد رجل تاجر يعرف بعسكر الحموي وجعله في الكتاب لينتفع به في ضبط تجايره وكان مولاه عسكر لا يحسن الخط ولا يعلم سوى التجارة فشغله مولاه بالأسفار في متاجره فكان يتردد إلى نعمان والشام وجرت بينه وبين مولاة نبوة أوجبت عتقه والبعد عنه فاشتغل بالنسخ بالأجرة وحصلت له بالمطالعة فوائد ثم إن مولاه بعد مديدة ألوى عليه وأعطاه شيئا وسفره إلى كيش ولما عاد كان مولاه قد مات فحصل شيئا مما كان في يده وأعطاه أولاد مولاه وزوجته وأرضاهم به وبقي بيده بقية جعلها رأس ماله وسافر بها وجعل بعض تجارته كتبا وكان متعصبا على علي رضي الله عنه وكان قد اطلع على شيء من كتب الخوارج فعلق في ذهنه منها طرف قوي وتوجه إلى دمشق في سنة ثلاث عشرة وستمائة وقعد في بعض أسواقها وناظر بعض من يتعصب لعلي رضي الله عنه وجرى بينهما كلام أدى إلى ذكر علي رضي الله عنه بما لا يسوغ فثار عليه الناس ثورة كادوا يقتلونه فسلم منهم وخرج من دمشق منهزما بعد أن بلغت القصة إلى والي البلد فطلبه فلم يقدر عليه ووصل إلى حلب خائفا يترقب وخرج منها إلى الموصل ثم انتقل إلى اربل وسلك منها إلى خراسان ووصل إلى خوارزم فصادف خروج التتار فانهزم بنفسه كبعثة يوم الحشر من رمسه وقاسى في طريقه من الضائقة والتعب ما يكل اللسان عن شرحه ووصل إلى الموصل وقد تقطعت به الأسباب ثم انتقل إلى سنجار وارتحل إلى حلب وأقام بظاهرها في الخان إلى أن مات وكان قد تتبع التواريخ وصنف كتابا سماه ارشاد الالباء إلى معرفة الأدباء يدخل في أربع مجلدات وهو في نهاية الحسن والامتاع وكتاب معجم

البلدان ومعجم الأدباء ومعجم الشعراء والمشترك وضعا المختلف صقعا وهو من الكتب النافعة والمبدأ والمال في التاريخ والدويل ومجموع كلام أبي علي الفارسي وعنوان كتاب الأغاني والمقتضب في النسب يذكر فيه انساب العرب وأخبار المتنبي وكانت له همة عالية في تحصيل المعارف قال ابن خلكان وكانت ولادته في سنة أربع وسبعين وخمسمائة ببلاد الروم وتوفي يوم الأحد العشرين من رمضان في الخان بظاهر مدينة حلب وقد كان أوقف كتبه على مسجد الزيدي بدرب دينار ببغداد وسلمها إلى الشيخ عز الدين بن الأثير صاحب التاريخ الكبير ولما تميز ياقوت واشتهر سمى نفسه يعقوب ولقد سمعت الناس عقيب موته يثنون عليه ويذكرون فضله وأدبه ولم يقدر لي الاجتماع به انتهى ملخصا ومن شعره في غلام تركي رمدت عينه فجعل عليها وقاية سوداء
( ومولد للترك تحسب وجهه ** بدرا يضيء سناه بالإشراق )
( أرخى على عينيه فضل وقاية ** ليرد فتنتها عن العشاق )
( تالله لو أن السوابغ دونها ** نفدت فهل لوقاءة من واق )
وفيها يوسف بن أبي بكر السكاكي صاحب المفتاح أخذ عن شيخ الإسلام محمود بن صاعد الحارثي وعن سديد بن محمد الحناطي وكان حنفيا إماما كبيرا عالما بارعا متبحرا في النحو والتصريف وعلم المعاني والبيان والعروض والشعر أخذ عنه علم الكلام مختار بن محمود الزاهد صاحب القنية قاله ابن كمال باشا في طبقاته

سنة سبع وعشرين وستمائة

فيها خاف أهل الشام وغيرها من الخوارزمية وعرفوا أنهم أن ملكوا بهم عملوا بهم كل نحس فاصطلح الأشرف وصاحب الروم علاء الدين

واتفقوا على حرب جلال الدين وساروا فالتقوه في رمضان فكسروه واستباحوا عسكره ولله الحمد وهرب جلال الدين بأسوأ حال ووصل إلى خلاط في سبعة أنفس وقد تمزق جيشه وقتلت أبطاله فأخذ حريمه وما خف حمله وهرب إلى أذربيجان ثم أرسل إلى الملك الأشرف في الصلح وذلك وأمنت خلاط وشرعوا في إصلاحها قال الموفق عبد اللطيف هزم الله خوارزمية بأيسر مؤونة بأمر ما كان في الحساب فسبحان من هدم ذاك الجبل الراسي في لمحة ناظر
وفيها توفى أبو العباس أحمد بن فهد بن الحسين بن فهد العلثي الفقيه الحنبلي سمع من أبي شاكر السقلاطوني وشهدة وغيرهما وتفقه على ابن المنى وكان حسن الكلام في مسائل الخلاف وفيه صلاح وديانة وكان زيه زي العوام في ملبسه وحدث وسمع منه جماعة وتوفى ليلة الثلاثاء ثاني عشر شعبان وفيها زين الأمناء أبو البركات الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر الدمشقي الشافعي روى عن أبي العشاير محمد بن خليل وعبد الرحمن الداراني والفلكي وطائفة وكان صالحا خيرا من سروات الناس حسن السمت تفقه على جمال الأئمة علي بن الماسح وولى نظر الخزانة والأوقاف ثم تزهد عاش ثلاثا وثماينن سنة وتوفى في صفر وفيها أبو الذخر خلف بن محمد بن خلف الكنري البغدادي الحنبلي ولد بكنر من قرى بغداد سنة خمس وأربعين وخمسمائة وحفظ بها القرآن وتفقه في المذهب ثم سافر إلى الموصل واستوطنها وسمع بها من الخطيب أبي الفضل الطوسي ويحيى الثقفي وغيرهما وحدث وأقرأ القرآن وكتب عنه الناس وكان متدينا صالحا حسن الطريقة توفي في المحرم بالموصل
وفيها راجح بن إسمعيل الحلى الأديب شرف الدين صدر نبيل مدح الملوك بمصر والشام والجزيرة وسار شعره توفي في شعبان
وفيها أبو الخير موفق الدين سلامة بن صدقة بن سلامة بن الصولي الحراني

الفقيه الحنبلي الفرضي سمع ببغداد من أبي السعادات القزاز وغيره وتفقه بها قال ابن حمدان كان من أهل الفتوى مشهورا بعلم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة سمعت عليه كثيرا من الطبقات لابن سعد وقرأت عليه ما صنفه في الحساب والجبر والمقابلة وأجوبته في الفتوى غالبا نعم أولا وقال ابن رجب قال المنذري لنا منه إجازة وقال الصولي بفتح الصاد المهملة الإسكاف هكذا تقوله أهل بلده ورأيت على مقدمة من تصنيفه في الفرائض ابن الصولية ولم تضبط الصاد بشيء توفي في المحرم بحران وفيها أبو بكر عبد الله بن معالي بن أحمد بن الرياني المقرىء الفقيه الحنبلي تفقه على أبي الفتح ابن المنى وغيره وسمع منه ومن شهدة وغيرهما وحدث قال ابن نقطة سمعت منه أحاديث وهو شيخ حسن وقال ابن النجار كان صالحا حسن الطريقة وشهد عند القضاة وحدث باليسير وتوفي يوم الجمعة خامس جمادى الأولى ودفن بمقبرة الإمام أحمد وهو منسوب إلى الريان بفتح الراء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وبعد الألف نون محلة بشرقي بغداد وفيها سليمان بن أحمد بن أبي عطاف المقدسي الحنبلي نزيل حران تفقه بها وحدث عن أبي الفتح ابن أبي الوفا الفقيه وتوفي بها في ثاني عشر جمادى الأولى
وفيها أبو محمد عبد السلام بن عبد الرحمن بن الشيخ العارف معدن الحكم والمعارف أبي الحكم بن برجان اللخمي المغربي ثم الاشبيلي حامل لواء اللغة بالأندلس أخذ عن أبي إسحق بن ملكوب وتوفي في جمادى الأولى قاله ابن الأهدل وفيها أبو محمد عبد الرحمن بن عتيق بن عبد العزيز بن صيلا الحربي المؤدب روى عن أبي الوقت وغيره وتوفي في ربيع الأول
وفيها عبد السلام بن عبد الرحمن بن الأمين علي بن علي بن سكينة علاء الدين الصوفي البغدادي سمع أبا الوقت ومحمد بن أحمد البرمكي وجماعة كثيرة

وتوفي في صفر وفيها أبو يحيى زكريا بن يحيى القطفتي بضمتين وسكون الفاء وفوقية مثناة نسبة إلى قطفتا محلة ببغداد ولد سنة أربع أو خمس وأربعين وخمسمائة وتفقه في مذهب أحمد وسمع من يحيى بن موهوب وحدث وتوفي في جمادى الأولى ببغداد ودفن بمقبرة معروف قاله المنذري في وفياته وفيها أبو الفتوح عبد الرحمن بن عرند الدنيسري محتسب دنيسر بلدة قرب ماردين كان فصيحا شاعرا فيه فضيلة تامة حبسه صاحب ماردين فمات في السجن ومن شعره
( تزايد في هوى أملي جنوني ** وأورث مهجتي سقما شجوني )
( وصرت أغار من نظر البرايا ** عليه ومن خيالات الظنون )
( ويعذب لي عذابي في هواه ** وهذا نص معتقدي وديني )
( فقل للأيمين عليه جهلا ** دعوني لا تلوموني دعوني )
وله
( لا والذي بيديه البرء والسقم ** مالي سوى وجنتيه في الهوى قسم )
( أحوى حوى السحر في أجفانه وعلى ** خديه من مهجات المدنفين دم )
( مزنر الخصر واشوقي إلى خصر ** في فيه يقصر عنه البارد الشيم )
( كالماء جسما ولكن قلبه حجر ** فما سباني إلا وهو لي صنم )
وفيها الصدر فخر الدين أبو بكر محمد بن عبد الوهاب الأنصاري الدمشقي المعدل من بيت أمانة وصيانة ودين كان أجمل أهل بيته وأحسنهم خلقا ولد سنة تسع وأربعين وخمسمائة وسمع من السلفي وابن عساكر وكان رئيسا سريا صاحب أخبار وتواريخ مجانا خليعا من غير ذكر فاحشة وكان متولعا بست الشام يتولى أمر ديوانها وفوضت إليه أوقافها وترك الولايات في آخر عمره وكان له تجار يسافرون في تجارته وله نظم وعنده كتب كثيرة

توفي بدمشق ودفن بالباب الصغير وفيها فخر الدين بن شافع محمد بن أحمد بن صالح بن شافع بن صالح بن حاتم الجيلي ثم البغدادي المعدل الحنبلي أبو المعالي ولد ببغداد ليلة الجمعة سادس عشرى جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة وتوفي والده وله سنة وشهور فتولاه خاله أبو بكر بن مشق وأسمعه الكثير من خلق منهم السقلاطوني وابن الرحلة وشهدة وقرأ القرآن بالروايات وتفقه في المذهب قال ابن النجار كان طيب النغمة في قراءة القرآن والحديث ويفيد الناس إلى آخر عمره وكان متدينا صالحا حسن الطريقة جميل السيرة وقورا صدوقا أمينا كتبت عنه ونعم الرجل وقال ابن نقطة ثقة مكثر حسن السمت وقال ابن الساعي ثقة صالح جميل الطريقة من بيت العدالة والرواية وقال ابن النجار توفي يوم الأحد رابع رجب ودفن عند آبائه بدكة الإمام أحمد

سنة ثمان وعشرين وستمائة

لما علمت التتار بضعف جلال الدين خوارزم شاه بادروا إلى أذربيجان فلم يقدم على لقائهم فملكوا مراغة وعاثوا وبدعوا وتفرق جنده فبيته التتار ليلة فنجا بنفسه وطمع الأكراد والفلاحون وكل أحد في جنده وتخطفوهم وانتقم الله منهم وساقت التتار إلى ماردين يسبون ويقتلون ودخلوا إلى أسعرد فقتلوا نيفا وعشرين ألفا وأخذوا من البنات ما أرادوا ووصلوا إلى أذربيجان ففعلوا كذلك واستقر ملكهم بما وراء النهر وبقيت مدن خراسان خرابا لا يجسر أحد يسكنها وفيها توفي أبو نصر بن النرسي أحمد بن الحسين بن عبد الله بن أحمد بن هبة الله البغدادي البيع روى عن أبي الوقت وجماعة وتوفي في رجب
وفيها الملك الأمجد مجد الدين أبو المظفر بهرام شاه بن فروخ شاه بن شاهنشاه

ابن أيوب بن شادي صاحب بعلبك تملكها بعد والده خمسين سنة وكان جوادا كريما شاعرا محسنا قتله مملوك له جميل بدمشق في شوال وسببه أنه سرقت له دواة من ذهب تساوي مائتي دينار فظهرت عند هذا المملوك فحبسه في خزانة في داره فلما كان ليلة الأربعاء ثامن شوال فتح الخزانة بسكين كانت معه قلع بهارزة الباب وأخذ سيف الأمجد وكان يلعب بالشطرنج فضربه حل كتفه وطعنه بالسيف في خاصرته فمات وهرب المملوك فثارت عليه المماليك وقتلوه ودفن الأمجد بتربة أبيه على الشرف الشمالي ومن شعره في مليح يقطع بانا
( من لي باهيف قال حين عتبته ** في قطع كل قضيب بان رائق )
( تحكي شمائله الرشاق إذا انثنى ** ريان بين جداول وحدائق )
( سرقت غصون البان لين معاطفي ** فقطعتها والقطع حد السارق )
ورؤى في المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال
( كنت من ذنبي على وجل ** زال عني ذلك الوجل )
( أمنت نفسي بوائقها ** عشت لما مت يا رجل )
وفيها جلدك التقوى الأمير ولي نياية الأسكندرية وسد الديار المصرية وكان أديبا شاعرا روى عن السلفي ومولاه هو صاحب حماة تقي الدين عمر توفي في شعبان وفيها الزين الكردي محمد بن عمر المقرىء أخذ القراءات عن الشاطبي وتصدر بجامع دمشق مع السخاوي وفيها المهذب الدخوار عبد الرحيم بن علي بن حامد الدمشقي شيخ الطب وواقف المدرسة التي بالصاغة العتيقة على الأطباء ولد سنة خمس وستين وخمسمائة وأخذ عن الموفق بن المطران والرضى الرحبي وأخذ الأدب عن الكندي وانتهت إليه معرفة الطب وصنف التصانيف فيه وحظي عند الملوك ولما تجاوز سن الكهولة عرض له طرف خرس حتى بقي لا يكاد يفهم كلامه واجتهد في علاج نفسه فما أفاد

بل ولد له أمراضا وكان دخله في الشهر مائة وخمسون دينارا وله أقطاع تعدل ستة آلاف وخمسمائة دينار ولما ثقل لسانه كان الجماعة يبحثون بين يديه فيكتب لهم ما أشكل عليهم في اللوح واستعمل المعاجين الحادة فعرضت له حمى قوية أضعفت قوته وزادت إلى أن سالت عينه وفيها ناصح الدين أبو محمد عبد الوهاب بن زاكي بن جميع الحراني الفقيه الحنبلي نزيل دمشق سمع بحران من عبد القادر الرهاوي قال ابن حمدان كان فاضلا في الأصلين والخلاف والعربية والنثر والنظم وغير ذلك رحل إلى بغداد وقرأت عليه الجدل الكبير لابن المنى ومنتهى السول وغير ذلك وكان كثير المروءة والأدب حسن الصحبة وذكر المنذري انه حدث بشيء من شعره قال وجميع بضم الجيم وفتح الميم وتوفي خامس ذي القعدة ودفن بسفح قاسيون وفيها الداهري أبو الفضل عبد السلام بن عبد الله بن أحمد بن بكران البغدادي الخفاف الخراز سمع من أبي بكر الزاغوني ونصر العكبري وجماعة وكان عاميا مستورا كثير الرواية توفي في ربيع الأول وفيها ابن رحال العدل نظام الدين علي بن محمد بن يحيى المصري سمع من السلفي وغيره وتوفي في شوال وفيها أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى الحميري الكتامي الفاسي القطان قاضي الجماعة كان حافظا ثقة مأمونا لكن نقمت عليه أغراض في قضائه قاله ابن ناصر الدين
وفيها القاسم بن القاسم الواسطي شاعر فاضل من نظمه
( لا ترد من خيار دهرك خيرا ** فبعيد من السراب الشراب )
( منطق كالحباب يطفو على الكاس ** ولكن تحت الحباب الحباب )
( عذبت في اللقاء ألسنة القوم ** ولكن تحت العذاب العذاب )
وله


( ديباج خدك بالعذار مطرز ** برزت محاسنه وأنت مبرز )
( وبدت على غصن الصبا لك روضة ** والغصن ينبت في الرياض ويغرز )
( وجنت على وجنات خدك حمرة ** خجل الشقيق بها وحار القرمز )
( لو كنت مدعيا ملاحة يوسف ** لقضى القياس بأن حسنك معجز )
( أو كان عطفك مثل عطفك لين ** ما كان منك تمنع وتعزز )
وفيها ابن عصية أبو الرضا محمد بن أبي الفتح المبارك بن عبد الرحمن الكندي الحربي روى عن أبي الوقت وغيره وتوفي في المحرم
وفيها ابن معطي النحوي الشيخ زين الدين أبو الحسين يحيى بن عبد المعطي بن عبد النور الزواوي نسبة إلى زواوة قبيلة كبيرة بأعمال إفريقية الفقيه الحنفي ولد سنة أربع وستين وخمسمائة واقرأ العربية مدة بمصر ودمشق وروى عن القاسم بن عساكر وغيره وهو أجل تلامذة الجزولي وانفرد بعلم العربية وصنف الألفية المشهورة وغيرها ومات في ذي القعدة بمصر وقبره قريب من تربة الإمام الشافعي

سنة تسع وعشرين وستمائة

فيها عاثت التتار لموت جلال الدين ووصلوا إلى شهرزور فأنفق المستنصر بالله في العساكر وجهزهم مع قستم الناصري فانضموا إلى صاحب اربل فتقهقرت التتار وفيها توفي السمذي بكسرتين وتشديد الميم نسبة إلى السمذ وهو الخبز الأبيض يعمل للخواص أبو القاسم أحمد بن أحمد بن أبي غالب البغدادي الكاتب روى جزء أبي الجهم عن أبي الوقت وبعضهم سماه عليا توفي في المحرم وفيها الشيخ شرف الدين إسمعيل الموصلي ابن خالة القاضي شمس الدين بن الشيرازي كان ينوب عن ابن الزكي الشافعي في القضاء وهو على مذهب أبي حنيفة وكان بيده تدريس مدرسة الطرخانية

بعث إليه الملك المعظم يقول له أفت بإباحة الأنبذة وما يعمل من الرمان وغيره فقال الشيخ شرف الدين لا أفتح على أبي حنيفة هذا الباب وأنا على مذهب محمد رضي الله عنه في تحريمها وأبو حنيفة لم تتواتر الرواية عنه في إباحتها وقد صح عن أبي حنيفة أنه لم يشربها قط فغضب المعظم وأخرجه من مدرسة طرخان وولاها لتلميذه الزين بن العتال وأقام هو في بيته تتردد الناس إليه لا يغشى أحدا من خلق الله تعالى قانعا باليسير إلى أن مات رحمه الله تعالى
وفيها أبو علي الحسين بن المبارك الزبيدي قدم بغداد وسكنها وكان خيرا عارفا بمذهب أبي حنيفة عالي الإسناد سمع أبا الوقت وغيره ومنه الأبرقوهي
وفيها أبو الربيع سلمان بن نجاح القوصي سكن دمشق وكان بارعا في الأدب من شعره
( أراك منقبضا عني بلا سبب ** وكنت بالأمس يا مولاي منبسطا )
( وما تعمدت ذنبا استحق به ** هذا الصدود لعل الذنب كان خطا )
( فإن يكن غلط مني على غرر ** قل لي لعلي أن أستدرك الغلطا )
وفيها السلطان جلال الدين خوارزم شاه منكوبري بن خوارزم شاه علاء الدين محمد بن خوارزم شاه علاء الدين تكش بن خوارزم شاه أرسلان بن خوارزم شاه آنز بن محمد الخوارزمي أحد من يضرب به المثل في الشجاعة والإقدام قال الذهبي لا أعلم في السلاطين أكثر جولانا منه في البلدان ما بين الهند إلى ما وراء النهر إلى العراق إلى فارس إلى كرمان إلى أذربيجان وأرمينية وغير ذلك وحضر مصافا وقاوم التتار في أول جدهم وحدتهم وافتتح غير مدينة وسفك الدماء وظلم وعسف وغدر ومع ذلك كان صحيح الإسلام وكان ربما قرأ في المصحف ويبكي وآل أمره إلى أن تفرق جيشه وقلوا لأنهم لم تكن لهم إقطاع بل أكثر عيشهم من نهب البلاد انتهى وقال غيره انهزم من التتار

فرآه فلاح من قرية يقال لها عين دارا راكبا على سرج مرصعا باليواقيت وعلى لجام فرسه الجواهر فشره الفلاح إلى ما كان معه فأنزله فأطعمه فلما نام ضربه بفأس قتله وأخذ ما معه ودفنه فبلغ ذلك شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين فأحضر الفلاح وعاقبه فأقر وأحضر الفرس والسلاح وكان جلال الدين سدا بين المسلمين والكفار فلما مات انفتح السد وكان يتكلم بالتركية والفارسية انتهى وفيها أبو موسى الحافظ جمال الدين عبد الله بن عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الحنبلي الحافظ ابن الحافظ ولد في شوال سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وسمع من عبد الرحمن بن الخرقي بدمشق ومن ابن كليب ببغداد ومن خليل الرازاني بأصبهان ومن الأرياحي بمصر ومن منصور الفراوي بنيسابور وكتب الكثير وعنى بهذا الشأن وجمع وأفاد وتفقه وتأدب وتميز مع الأمانة والديانة والتقوى قال الضياء اشتغل بالفقه والحديث وصار علما من الأعلام حافظا متقنا ثقة وقال عمر بن الحاجب لم يكن في عصره مثله في الحفظ والمعرفة والأمانة وكان كثير الفضل وافر العقل متواضعا مهيبا وقورا جوادا سخيا له القبول التام مع العبادة والورع والمجاهدة وقال الذهبي روى عنه الضياء وابن أبي عمر وابن النجار وجماعة كثيرون ومع هذا فقد غمزه الناصح بن الحنبلي وسبط ابن الجوزي بالميل إلى السلاطين قال ابن رجب والعجب أن هذين الرجلين كانا من أكثر الناس ميلا إلى السلاطين والملوك وتوصلا إليهم وإلى برهم بالوعظ وغيره ولقد كان أبو موسى أتقى لله تعالى وأورع وأعلم منهما وأكثر عبادة وأنفع للناس وبنى الملك الأشرف دار الحديث بالسفح على اسمه وجعله شيخها وقرر له معلوما فمات أبو موسى قبل كمالها توفي رحمه الله يوم الجمعة خامس رمضان ودفن بسفح قاسيون وفيها عبد الغفار بن شجاع المحلى الشروطي روى

عن السلفي وغيره ومات في شوال عن سبع وسبعين سنة
وفيها عبد اللطيف بن عبد الوهاب بن محمد بن الطبري سمع من أبي محمد بن المادح وهبة الله بن الشبلي وتوفي في شعبان وفيها الموفق أبو محمد عبد اللطيف بن يوسف العلامة ذو الفنون البغدادي الشافعي النحوي اللغوي الطبيب الفيلسوف صاحب التصانيف الكثيرة ولد سنة سبع وخمسين وخمسمائة وسمع من جماعة كثيرين منهم ابن البطي وأبو زرعة وتفقه على أبي القسم بن فضلان وأقام بحلب وحفظ كتبا كثيرة ومن تصانيفه شرح مقدمة ابن باب شاد في النحو وشرح المقامات وشرح بانت سعاد والجامع الكبير في المنطق والطبيعي والآلهي في عشر مجلدات والرد على اليهود والنصارى وغريب الحديث في ثلاث مجلدات واختصره وشرح أحاديث ابن ماجه المتعلقة بالطب وحدث ببلدان كثيرة قال الذهبي كان أحد الأذكياء البارعين في اللغة والآداب والطب وعلم الأوائل لكن كثرة دعاويه أزرت به ولقد بالغ القفطي في الحط عليه وظلمه وبخسه حقه سافر من حلب ليحج على العراق فأدركه الموت ببغداد في ثاني عشر المحرم انتهى كلام الذهبي وقال الدبيثي غلب عليه علم الطب والأدب وبرع فيهما ومن كلامه من لم يحتمل ألم التعلم لم يذق لذة العلم ومن لم يكدح لم يفلح وفيها الشيخ عمر بن عبد الملك الدينوري الزاهد نزيل قاسيون كان صاحب أحوال ومجاهدات واتباع وهو والد جمال الدين خطيب كفر بطنا
وفيها عمر بن كرم بن أبي الحسن أبو حفص الدينوري ثم البغدادي الحمامي ولد سنة تسع وثلاثين وخمسمائة وسمع من جده لأمه عبد الوهاب الصابوني ونصر العكبري وأبي الوقت وأجاز له الكروخي وعمر بن أحمد الصفار الفقيه وطائفة انفرد عن أبي الوقت بأجزاء وكان صالحا توفي في رجب
وفيها عيسى بن المحدث عبد العزيز بن عيسى اللخمي الشريشي ثم

الأسكندراني المقرىء سمع من السلفي وقرأ القراءات على أبي الطيب عبد المنعم ابن الخلوف ثم ادعى أنه قرأ على ابن خلف الداني وغيره فاتهم وصار من الضعفاء وفجعنا بنفسه توفي في سابع جمادى الآخرة قاله في العبر
وفيها الحافظ الرحال أبو بكر محمد بن عبد الغني بن أبي بكر بن شجاع البغدادي الحنبلي المعروف بابن نقطة ويلقب معين الدين ومحب الدين أيضا ولد في عاشر رجب سنة تسع وسبعين وخمسمائة وسمع ببغداد من يحيى بن بوش وابن سكينة وغيرهما ورحل إلى البلدان فسمع بواسط من أبي الفتح بن المنادى وباربل من عبد اللطيف بن أبي النجيب السهروردي وبأصبهان من عفيفة الفارقانية وزاهر بن أحمد وجماعات وبخراسان من منصور الفزاوي والمؤيد الطوسي وغيرهما وبدمشق من أبي اليمن الكندي وابن الحرستاني وداود بن ملاعب وغيرهم وبمصر من ابن الفخر الكاتب وغيره وبالأسكندرية من جماعة من أصحاب السلفي وبمكة من يحيى بن ياقوت وبحران من الحافظ عبد القادر وبحلب من الافتخار الهاشمي وبالموصل من جماعة وبدمنهور ودنيسر وبلاد أخر وعنى بهذا الشأن عناية تامة وبرع فيه وكتب الكثير وحصل الأصول وصنف تصانيف مفيدة ذكره عمر بن الحاجب في معجمه فقال شيخنا هذا أحد الحفاظ الموجودين في هذا الزمان طاف البلاد وسمع الكثير وصنف كتبا حسنة في معرفة علوم الحديث والأنساب وكان إماما زاهدا ورعا ثبتا حسن القراءة مليح الخط كثير الفوائد متحريا في الرواية حجة فيما يقوله ويصنفه ويجمعه من النقل ذا سمت ووقار وعفاف حسن السيرة جميل الظاهر والباطن سخي النفس مع القلة قانعا باليسير كثير الرغبة إلى الخيرات سألت الحافظ الضياء عنه فقال حافظ دين ثقة صاحب مروءة كريم النفس كثير الفائدة مشهور بالثقة حلو المنطق وسألت البرزالي عنه فقال ثقة دين مفيد انتهى وقال المنذري الحافظ أبو بكر

ابن نقطة سمعت منه وسمع مني بجيزة فسطاط ومصر وغيرهما وكان أحد المشهورين وقال ابن خلكان دخل خراسان وبلاد الجبل والجزيرة والشام ومصر ولقي المشايخ وأخذ عنهم وكتب الكثير وعلق التعاليق النافعة وذيل على الأكمال لابن ماكولا في مجلدين وله كتاب آخر لطيف في الأنساب وله كتاب التقييد بمعرفة رواة السنن والمسانيد وله غير ذلك وقال ابن رجب روى عنه المنذري والسيف بن المجد وابن الأثرى وابنه الليث بن نقطة وغيرهم وذكر ابن الأنماطي أنه سأله عن نسبته فقال جارية ربت جدتي أم أبي اسمها نقطة عرفنا باسمها توفي في سن الكهولة بكرة يوم الجمعة ثاني عشرى صفر ببغداد ودفن عند قبر أبيه وأبوه الزاهد أبو محمد عبد الغني كان من أكابر الزهاد المشهورين بالصلاح والإيثار وله أتباع ومريدون وبنت له أم الخليفة الناصر مسجدا حسنا ببغداد فانقطع فيه وكان يقصده الناس فيتكلم عليهم وزوجته بجارية من خواصها وجهزتها بنحو من عشرة آلاف دينار فما حال الحول وعندهم من ذلك شيء بل جميع ذلك تصدق به وكان يتصدق في يوم بألف دينار وأصحابه صيام لا يدخر لهم عشاء وقف عليه سائل يلح في الطلب ويصف فقره وأنه منذ كذا لم يجد شيئا فأخرج إليه الهاون وقال خذ هذا كل به في ثلاثين يوما ولا تشنع على الله عز وجل وتوفي ببغداد في رابع جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة رحمه الله وكان محمد بن نقطة ينشد
( لا تظهرن لعاذل أو عاذر ** حاليك في السراء والضراء )
( فلرحمة المتوجعين مرارة ** في القلب مثل شماتة الأعداء )

سنة ثلاثين وستمائة

فيها حاصر الملك الكامل آمد وأخذها من صاحبها الملك المسعود

مودود ضربها بالمجانيق فلما رأى المسعود الغلبة خرج وفي رقبته منديل فرسم عليه وتسلم منه البلد وطلب منه تسليم القلاع فسلم الجميع الأحصن كيفا فعذبه بأنواع العذاب وكان يبغضه وكان المسعود فاسقا يأخذ الحرم غصبا حتى وجدوا في قصره خمسمائة حرة من بنات الناس
وفيها توفي بهاء الدين التنوخي القاضي إبراهيم بن أبي اليسر شاكر بن عبد الله الشافعي الكاتب البليغ والد تقي الدين إسمعيل روى بالإجازة عن شهدة وولى قضاء المعرة في صباه خمس سنين فقال
( وليت الحكم خمسا وهي خمس ** لعمري والصبا في العنفوان )
( فكم تضع الأعادي قدر شاني ** ولا قالوا فلان قد رشاني )
توفي في المحرم وفيها إدريس بن السلطان يعقوب بن يوسف أبو العلاء المأمون بايعوه بالأندلس ثم جاء إلى مراكش وملكها وعظم سلطانه وكان بطلا شجاعا ذا هيبة شديدة وسفك للدماء قطع ذكر ابن تومرت من الخطبة ومات غازيا والله يسامحه وفيها إسمعيل بن سليمان بن إيداش أبو طاهر الحنفي ابن السلار حدث عن الصاين هبة الله وعبد الخالق بن أسد وتوفي في ذي القعدة وفيها الأوهى بفتحتين نسبة إلى أوه قرية بين زنجان وهمذان الزاهد أبو علي الحسن بن أحمد بن يوسف نزيل بيت المقدس أكثر عن السلفي وجماعة وكان عبدا صالحا قانتا لله صاحب أحوال ومجاهدات له أجزاء يحدث منها توفي في عاشر صفر
وفيها الحسن بن السيد الأمير علي بن المرتضى أبو محمد العلوي الحسيني آخر من سمع من ابن ناصر يروى عنه كتاب الذرية الطاهرة توفي في شعبان عن ست وثمانين سنة وسماعه في لخامسة من عمره قاله في العبر
وفيها صفي الدين أبو بكر عبد العزيز بن أحمد بن عمر بن سالم بن محمد بن باقا الغدل البغدادي الحنبلي التاجر ولد في رمضان سنة خمس وخمسين

وخمسمائة ببغداد وقرأ القرآن وسمع من أبي زرعة وابن بندار وابن النقور وابن عساكر علي وخلق وقرأ طرفا من الفقه علي ابن المنى واستوطن مصر إلى أن مات وشهد بها عند القضاة وحدث بالكثير إلى ليلة وفاته وكان كثير التلاوة للقرآن قال ابن النجار كان شيخا جليلا صدوقا أمينا حسن الأخلاق متواضعا وسمع منه خلق كثير من الحفاظ وغيرهم منهم ابن نقطة وابن النجار والمنذري وحدث عنه خلق كثير وتوفي سحر تاسع عشر رمضان بالقاهرة ودفن بسفح المقطم وفيها القاضي أبو المعالي أحمد بن يحيى بن قائد الأواني الحنبلي ولاه أبو صالح الجيلي قضاء دجيل وله نظم حدث ببعضه توفي باوانا في جمادى الأولى وكان ابن عم أبي عبد الله محمد بن أبي المعالي بن قائد الأواني وكان زاهدا قدوة ذا كرامات حكى عنه الشيخ شهاب الدين السهروردي وغيره حكايات قال الناصح بن الحنبلي زرته أنا ورفيق لي فقدم لنا العشاء وعنده جماعة كثيرة ولم أر إلا خبزا وخلا وبقلا فتحدث على الطعام ثم قال ضاف عيسى بن مريم أقوام فقدم لهم خبزا وخلا وقال لو كنت متكلفا لأحد شيئا لتكلفت لكم قال فعرفت أنه قد عرف حالي دخل عليه رجل من الملاحدة في رباطه وهو جالس وحده فقتله فتكا رضي الله عنه ودفن في رباطه وقتل قاتله وأحرق وفيها سالم بن محمد بن سالم العامري اليمنى قال المناوي في طبقاته كان رفيع المجد على القدر كثير التواضع سليم الصدر أثنى الأكابر على لطفه وفضله وجنى المريدون ثمار الإحسان من تربيته وعطفه وكان شريف النفس عالي الهمة صاحب كرامات انتهى وفيها الملك العزيز عثمان بن العادل أبي بكر بن أيوب شقيق المعظم وهو صاحب بانياس وتبنين وهو تين وهو الذي بنى قلعة الصبيبة بين هؤلاء البلدان وكان عاقلا ساكنا اتفق موته بالناعمة وهو بستان له ببيت لهيا

من صالحية دمشق في عشر رمضان وفيها العلامة عبيد الله بن إبراهيم جمال الدين العبادي المحبوبي المحاربي شيخ الخنفية بما وراء النهر وأحد من انتهى إليه معرفة المذهب أخذ عن أبي العلاء عمر بن أبي بكر بن محمد الزرنجري عن أبيه شمس الأئمة وبرهان الأئمة عبد العزيز بن عمر بن مازة وتفقه أيضا على قاضي خان فخر الدين حسن بن منصور الأوزجندي وتوفي ببخارى في جمادى الأولى عن أربع وثمانين سنة وفيها علي بن الجوزي أبو الحسن ولد العلامة جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن علي البغدادي الناسخ نسخ الكثير بالأجرة وكان معاشرا لعابا روى عن ابن البطي وأبي زرعة وجماعة وتوفي في رمضان وفيها ابن الأثير الإمام عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري المؤرخ الشافعي أخو مجد الدين صاحب النهاية ولد صاحب الترجمة سنة خمس وخمسين وخمسمائة واشتغل في بلاد متعددة وكان إماما نسابة مؤرخا أخباريا أديبا نبيلا محتشما وصنف التاريخ المشهور بالكامل على الحوادث والسنين في عشر مجلدات وهو من خيار التواريخ ابتدأ فيه من أول الزمان إلى سنة تسع وعشرين وستمائة واختصر الأنساب لأبي سعد السمعاني وهذبه وأفاد فيه أشياء وهو في مقدار نصف أصله وأقل وصنف كتابا حافلا في معرفة الصحابة جمع فيه بين كتاب ابن مندة وكتاب أبي نعيم وكتاب ابن عبد البر وكتاب أبي موسى وزاد وأفاد وسماه أسد الغابة في معرفة الصحابة وشرع في تاريخ الموصل قال ابن خلكان كان بيته بالموصل مجمع الفضلاء اجتمعت به بحلب فوجدته مكمل الفضائل والتواضع وكرم الأخلاق فترددت إليه وقال في العبر كان صدرا معظما كثير الفضائل وبيته مجمع الفضلاء روى عن خطيب الموصل أبي الفضل وغيره وتوفي في الخامس والعشرين من شعبان عن خمس وسبعين سنة وفيها الحافظ

ابن الحاجب الرحال عز الدين أبو الفتح عمر بن محمد بن منصور الأميني الدمشقي سمع سنة ست عشرة بدمشق ورحل إلى بغداد فأدرك الفتح بن عبد السلام وخرج لنفسه معجما في بضع وستين جزءا توفي في شعبان وقد قارب الأربعين وكان فيه دين وخير وله حفظ وذكاء وهمة عالية في طلب الحديث قل من أنجب مثله في زمانه وفيها الملك مظفر الدين صاحب اربل الملك المعظم أبو سعيد كوكبوري بن الأمير زين الدين على كوجك التركماني وكوجك بالعربي اللطيف القدر ولي مظفر الدين مملكة اربل بعد موت أبيه في سنة ثلاث وستين وله أربع عشرة سنة فتعصب عليه أتابكه مجاهد الدين قيماز وكتب محضرا أنه لا يصلح للملك لصغره وأقام أخاه يوسف ثم سكن حران مدة ثم اتصل بخدمة السلطان صلاح الدين وتمكن منه وتزوج بأخته ربيعة واقفة مدرسة الصاحبة بشرقي الصالحية وشهد معه عدة مواقف أبان فيها عن شجاعة وإقدام وكان حينئذ على إمرة حران والرها فقدم أخوه يوسف منجدا لصلاح الدين فاتفق موته على عكا فأعطى السلطان صلاح الدين لمظفر الدين اربل وشهرزور وأخذ منه حران والرها ودامت أيامه إلى هذا العام وكان من أدين الملوك وأجودهم وأكثرهم برا ومعروفا على صغر مملكته قال ابن خلكان وأما سيرته فكان له في فعل الخير عجائب ولم نسمع أن أحدا فعل في ذلك مثل ما فعله لم يكن شيء في الدنيا أحب إليه من الصدقة وكان له في كل يوم قناطير مقنطرة من الخبز يفرقها على المحاويج في عدة مواضع من البلد وإذا نزل من الركوب يكون قد اجتمع جمع كثير عند الدار فيدخلهم إليه ويدفع لكل واحد كسوة على قدر الفصل من الصيف والشتاء وغير ذلك ومع الكسوة شيء من الذهب وكان قد بنى أربع خانقات للزمني والعميان وملأها من هذين الصنفين وقرر لهم ما يحتاجون إليه كل يوم وكان يأتيهم بنفسه كل عصرية اثنين وخميس

ويدخل إلى كل واحدة في بيته ويسأله عن حاله ويتفقده بشيء من النفقة وينتقل إلى الآخر حتى يدور عليهم جميعهم وهو يباسطهم ويمزح معهم ويجبر قلوبهم وبنى دارا للنساء الأرامل ودارا للضعفاء ودار للأيتام ودارا للملاقيط ورتب بها جماعة من المراضع وكل مولود يلتقط يحمل إليهن فيرضعنه وأجرى على أهل كل دار ما يحتاجون إليه في كل يوم وكان يدخل إليهم في كل يوم ويتفقد أحوالهم ويعطيهم النفقات زيادة على المقرر لهم وكان يدخل إلى البيمارستان ويقف على مريض مريض ويسأله عن مبيته وكيفية حاله وما يشتهيه وكان له دار مضيف يدخل إليها كل قادم على البلد من فقيه وفقير وغيرهما وإذا عزم الإنسان على السفر أعطاه نفقة تليق بمثله ولم تكن له لذة بسوى السماع فإنه كان لا يتعاطى المنكر ولا يمكن من إدخاله البلد وكان إذا طرب في السماع خلع شيئا من ثيابه وأعطاه للناشد ونحوه وكان يسير في كل سنة دفعتين جماعة من أصحابه وأمنائه إلى بلاد الساحل ومعهم جملة مستكثرة من المال يفك بها أسرى المسلمين من أيدي الكفار فإذا وصلوا إليه أعطى كل واحد شيئا وإن لم يصلوا فالأمناء يعطوهم بوصية منه وكان يقيم في كل سنة سبيلا للحاج ويسير معهم جميع ما تدعو إليه حاجة المسافر في الطريق ويسير أمينا معه خمسة آلاف دينار ينفقها في الحرمين على المحاويج وأرباب الرواتب وله بمكة حرسها الله آثار جميلة وهو أول من أجرى الماء إلى جبل عرفات وغرم عليه جملة كثيرة وعمل بالجبل مصانع للماء وأما احتفاله بمولد النبي صلى الله عليه وسلم فإن الوصف يقصر عن الإحاطة كان يعمله سنة في الثامن من شهر ربيع الأول وسنة في الثاني عشر لأجل الاختلاف الذي فيه فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئا كثيرا يزيد على الوصف وزفها بجميع ما عنده من الطبول والمغاني والملاهي حتى يأتي بها الميدان ثم يشرعون في نحرها وينصبون القدور ويطبخون الألوان المختلفة فإذا

كان ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة ثم ينزل وبين يديه من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحد على بغل ومن ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على ظهر البغل فإذا كان صبيحة يوم المولد أنزل الخلع والبقج ويخلع على كل واحد من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء ويدفع لكل واحد نفقة وهدية وما يوصله إلى وطنه انتهى ما أورده ابن خلكان ملخصا وقال ابن شهبة في تاريخ الإسلام بعد كلام طويل وثناء جميل قال جماعة من أهل اربل كانت نفقته على المولد في كل سنة ثلثمائة ألف دينار وعلى الأسرى مائتي ألف دينار وعلى دار المضيف مائة ألف دينار وعلى الخانقاه مائة ألف وعلى الحرمين والسبيل وعرفات ثلاثين ألف دينار غير صدقة السر مات في رمضان بقلعة اربل وأوصى أن يحمل إلى مكة فيدفن في حرم الله تعالى وقال استجير به فحمل في تابوت إلى الكوفة ولم يتفق خروج الحاج في هذه السنة من التتار فدفن عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه انتهى وفيها ابن سلام المحدث الزكي أبو عبد الله محمد بن الحسن بن سالم بن سلام الدمشقي سمع من داود بن ملاعب وابن البن وطبقتهما وكان إماما فاضلا يقظا متقنا صالحا ناسكا على صغره كتب الكثير وحفظ علوم الحديث للحاكم مات في صفر عن إحدى وعشرين عاما وفجع به أبوه وفيها ابن عنين الصدر شرف الدين أبو المحاسن محمد بن نصر الله بن مكارم بن حسن بن عنين الأنصاري الدمشقي الأديب له ديوان مشهور وهجو مؤلم وكان بارعا في معرفة اللغة كثير الفضائل يشتعل ذكاءا ولم يكن في دينه بذاك توفي في ربيع الأول وله إحدى وثمانون سنة أتهم بالزندقة قاله في العبر وقال ابن خلكان الكوفي الأصل الدمشقي المولد الشاعر المشهور خاتمة الشعراء لم يأت بعده مثله ولا كان في أواخر عصره من يقاس به ولم يكن شعره مع جودته مقصورا على

أسلوب واحد بل تفنن فيه وكان غزير المادة من الأدب مطلعا على معظم أشعار العرب ويكفي أنه كان يستحضر كتاب الجمهرة لابن دريد في اللغة وكان مولعا بالهجاء وثلب أعراض الناس وله قصيدة طويلة جمع فيها خلقا من رؤساء دمشق سماها مقراض الأعراض أقول منها
( سلطاننا أعرج وكاتبه ** ذو عمش والوزير منحدب )
( وصاحب الأمر خلقه شرس ** وناظر الجيش داؤه عجب )
( والدولعي الخطيب منعكف ** وهو على قشر بيضة ثلب )
( ولابن باقا وعظ يغربه الناس ** وعبد اللطيف محتسب )
( وحاكم المسلمين ليس له ** في غير غرمول جرجس أرب )
( عيوب قوم لو أنها جمعت ** في فلك ما سرت به الشهب )
ثم قال ابن خلكان وكان قد نفاه السلطان صلاح الدين من دمشق بسبب وقوعه في الناس فلما خرج منها عمل
( فعلام أبعدتم أخا ثقة ** لم يجترم ذنبا ولا سرقا )
( أنفوا المؤذن من بلادكم ** إن كان ينفى كل من صدقا )
وطاف البلاد من الشام والعراق والجزيرة وأذربيجان وخراسان وغزنة وخوارزم وما وراء النهر ثم دخل الهند واليمن وملكها يومئذ سيف الإسلام طغتكين بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين وأقام بها مدة ثم رجع إلى الحجاز والديار المصرية ثم قال ولما مات السلطان صلاح الدين وملك الملك العادل دمشق كتب إلى الملك العادل قصيدته الرائية يستأذنه في الدخول إليها ويصف دمشق ويذكر ما قاساه في الغربة ولقد أحسن فيها كل الإحسان واستعطفه بها أبلغ الاستعطاف وأولها
( ماذا على طيف الأحبة لو سرى ** وعليهم لو سامحوني بالكرى )
ومنها بعد وصف محاسن دمشق قوله
( فارقتها لا عن رضا وهجرتها ** لا عن قلى ورحلت لا متخيرا )


( أسعى لرزق في البلاد مشتت ** ومن العجائب أن يكون مقترا )
( وأصون وجه مدائحي متقنعا ** وأكف ذيل مطامعي متسترا )
ومنها يشكو الغربة وما قاساه
( أشكو إليك نوى تمادى عمرها ** حتى حسبت اليوم منها أشهرا )
( لا عيشتي تصفو ولا رسم الهوى ** يعفو ولا جفني يصافحه الكرى )
( أضحى عن الأحوى المريع محولا ** وأبيت عن ورد النمير منفرا )
( ومن العجائب أن يقيل بظلكم ** كل الورى ونبذت وحدي بالعرا )
وهذه القصيدة من أحسن الشعر وهي عندي خير من قصيدة ابن عمار الأندلسي التي أولها
( أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى ** ) فلما وقف عليها الملك العادل أذن له في الدخول إلى دمشق فلما دخلها قال
( هجوت الأكابر في جلق ** ورعت الوضيع بسب الرفيع )
( وأخرجت منها ولكنني ** رجعت على رغم أنف الجميع )
وكان له في عمل الألغاز وحلها اليد الطولى ومتى كتب إليه شيء منها حله في وقتة وكتب الجواب أحسن من السؤال نظما ولم يكن له غرض في جمع شعره فلهذا لم يدونه فهو يوجد مقاطيع بأيدي الناس وقد جمع له بعض أهل دمشق ديوانا صغيرا لا يبلغ عشر ماله من النظم ومع هذا ففيه أشياء ليست له وكان من أظرف الناس وأخفهم روحا وأحسنهم مجونا وله بيت عجيب من جملة قصيدة يصف فيها توجهه إلى المشرق وهو
( أشقق قلب الشرق حتى كأنني ** أفتش في سودائه عن سنا الفجر )
وكان وافر الحرمة عند الملوك وتولى الوزارة بدمشق في آخر دولة الملك المعظم ومدة ولاية الملك الناصر بن المعظم وانفصل منها لما ملكها الملك الأشرف ولم يباشر بعدها خدمة وتوفى عشية نهار الإثنين العشرين من شهر ربيع الأول ودفن من الغد بمسجده الذي أنشأه بأرض المزة وقيل بتربة

باب الصغير انتهى ملخصا وفيها أبو محمد المعافا بن إسمعيل بن الحسين الموصلي ويعرف أيضا بابن الحدوس الشافعي كان إماما فقيها بارعا جيدا صالحا أديبا ولد بالموصل وتفقه بها على ابن مهاجر ثم على القاضي الفخر السهروردي ثم على العماد بن يونس وسمع وحدث وأفتى وصنف وناظر ومن تصانيفه كتاب الكامل في الفقه كتاب مطول وأنس المنقطعين وهو مشهور وتفسير يسمى البيان وكتاب الموجز في الذكر وكان حسن الشكل والملبس توفى بالموصل في شعبان أو في رمضان قاله الأسنوي

سنة إحدى وثلاثين وستمائة

فيها تسلطن بدر الدين لولو بالموصل وانقرض البيت الأتابكي
وفيها تكامل بناء المستنصرية ببغداد وهي على المذاهب الأربعة على يد أستاذ الدار ابن العلقمي الذي وزر ولا نظير لها في الدنيا فيما أعلم قاله الذهبي
وفيها توفي صلاح الدين أحمد بن عبد السيد بن شعبان الأربلي كان حاجبا لمظفر الدين صاحب أربل فتغير عليه واعتقله فلما خرج إلى الشام ودخل مصر فعظمت منزلته عند الكامل ثم تغير عليه واعتقله وكان ذا فضيلة تامة ونظم حسن فعمل دوبيت وأملاه لبعض القيان فغنت به فقال هذا لمن فقيل للصلاح الأربلي فأطلقه وعادت منزلته أحسن ما كانت والدوبيت
( ما أمر تجنيك على الصب خفي ** أفنيت زماني بالأسى والأسف )
( ماذاك بقدر ذنبي ولقد ** بالغت فما قصدك إلا تلفي )
وكان الكامل قد تغير على بعض أخوته وهو الفائز إبراهيم فأصلح قضيته الصلاح وكتب إلى الكامل
( وشرط صاحب مصر أن يكون كما ** قد كان يوسف في الحسنى لأخوته )
( آسوا فقابلهم بالعفو وافتقروا ** فبرهم وتولاهم برحمته )


وله
( وإذا رأيت بنيك فاعلم أنهم ** قطعوا إليك مسافة الآجال )
( وصل البنون إلى محل أبيهم ** وتجهزوا الآباء للترحال )
وفيها أبو محمد إسمعيل بن علي بن إسمعيل البغدادي الجوهري عن ثمانين سنة روى عن هبة الله الدقاق وابن البطي وطائفة وتفرد بأشياء وكان صالحا ثقة توفي في ذي القعدة قاله في العبر وفيها ابن الزبيدي سراج الدين أبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمد بن يحيى بن مسلم بن موسى بن عمران الربعي الزبيدي الاصل البغدادي البابصري الحنبلي مدرس مدرسة عون الدين بن هبيرة ولد سنة ست وأربعين وخمسمائة وروى عن أبي الوقت وأبي زرعة وأبي زيد الحموي وغيرهم وقرأ القرآن بالروايات وتفقه في المذهب وأفتى وكانت له معرفة حسنة بالأدب وصنف تصانيف منها كتاب البلغة في الفقه وله منظومات في اللغة والقراءات وكان فقيها فاضلا دينا خيرا حسن الأخلاق متواضعا وحدث ببغداد ودمشق وحلب وغيرها من البلاد وسمع منه أمم وروى عنه خلق كثير من الحفاظ وغيرهم منهم الدبيثي والضياء وآخر من حدث عنه أبو العباس الحجار الصالحي سمع منه صحيح البخاري وغيره وتوفي ثالث عشرى صفر ببغداد وفيها العلبي زكريا بن علي بن حسان بن علي أبو يحيى البغدادي الصوفي روى عن أبي الوقت وغيره وكان عاميا مات في ربيع الأول وفيها السيف الآمدي أبو الحسن على بن أبي علي بن محمد الحنبلي ثم الشافعي المتكلم العلامة صاحب التصانيف العقلية ولد بعد الخمسين بآمد وقرأ القراءات والفقه ودرس على ابن المنى وسمع من ابن شاتيل ثم تفقه للشافعي على ابن فضلان وبرع في الخلاف وحفظ طريقة أسعد الميهني وقيل أنه حفظ الوسيط للغزالي وتفنن في علم النظر والكلام والحكمة وكان من أذكياء العالم أقرأ بمصر مدة فنسبوه إلى دين

الأوائل وكتبوا محضرا بإباحة دمه فلما رأى بعضهم ذلك الإفراط وقد حمل المحضر إليه ليكتب كما كتبوا كتب
( حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ** والقوم أعداء له وخصوم )
قال ابن خلكان وضعوا خطوطهم بما يستباح به الدم فخرج مستخفيا إلى الشام فنزل حماة مدة وصنف في الأصلين والحكمة والمنطق والخلاف وكل ذلك مفيد ثم قدم دمشق في سنة اثنتين وثمانين فأقام بها مدة ثم ولاه الملك المعظم بن العادل تدريس العزيزية فلما ولى أخوه الأشرف موسى عزل عنها ونادى في المدارس من ذكر غير التفسير والحديث والفقه أو يعرض لكلام الفلاسفة نفيته فأقام السيف الآمدي خافيا في بيته إلى أن توفي في صفر ودفن بتربته بقاسيون ويحكى عن ابن عبد السلام أنه قال ما تعلمنا قواعد البحث إلا منه وأنه قال ما سمعت أحدا يلقى الدرس أحسن منه كأنه يخطب وأنه قال لو ورد على الإسلام متزندق يشكك ما تعين لمناظرته غيره وقال سبط ابن الجوزي لم يكن في زمانه من يجاريه في الأصلين وعلم الكلام ومن تصانيفه المشهورة الأحكام في أصول الأحكام مجلدين وأبكار الأفكار في أصول الدين في خمس مجلدات واختصره في مجلد قال الذهبي وله نحو من عشرين تصنيفا وقال السبكي وتصانيفه كلها حسنة منقحة
وفيها القرطبي أبو عبد الله محمد بن عمر المقرىء المالكي الرجل الصالح حج وسمع من عبد المنعم بن الفراوي وطائفة وقرأ القراءات على أبي القاسم الشاطبي وكان إماما زاهدا متقنا بارعا في عدة علوم كالفقه والقراءات والعربية طويل الباع في التفسير توفي بالمدينة المنورة في صفر قاله في العبر وفيها طغربك شهاب الدين الخادم أتابك صاحب حلب الملك العزيز ومدبر دولته كان صالحا خيرا متعبدا كثير المعروف ذا رأي وعقل وسياسة وعدل وفيها الشيخ عبد الله بن يونس

الأرموي الزاهد القدوي صاحب الزاوية بجبل قاسيون كان صالحا متواضعا مطرحا للتكلف يمشي وحده ويشتري الحاجة وله أحوال ومجاهدات وقدم في الفقر سافر الأقطار ولقي الأبدال والأبرار كان في بدايته لا يأوي إلا القفار قرأ القرآن وتفقه لأبي حنيفة وحفظ القدوري وصحب رجلا من الأولياء فدله على الطريق بعث إليه الأمجد صاحب بعلبك أربعين دينارا يقضي بها دينه وهو بالقدس فأخذها الرسول ثم أن الأمجد زاره وقال له بعثت إليك أربعين دينارا فقال الشيخ وصلت وشكره فجاء الرسول يستغفر فقال قد قلت له أنها وصلت وحكى عن نفسه غير أنه لم يصرح قال كان فقير يدور في جبل لبنان فوقع عليه حرامية الفرنج فعذبوه وربطوه وبات في أشد ما يكون فلما أصبحوا ناموا وإذا حرامية المسلمين يطلبون حرامية الفرنج فأيقظهم وقال اقعدوا جاءتكم حرامية المسلمين فدخلوا مغارة ودخل معهم ولم يرهم حرامية المسلمين فلما بعدوا قال الفرنج له هلا دللت علينا وتخلصت فقلت لهم إني صحبتكم وأكلت خبزكم وفي طريقنا أن الصحبة عزيزة فما رأيت خلاص نفسي بهلاككم فشكروه على ذلك وسألوه أن يقبل منهم شيئا من الدنيا فأبى فأطلقوه
وفيها أبو نصر عبد الرحيم بن محمد بن الحسن بن عساكر روى عن عميه الصاين والحافظ وطائفة وكان قليل الفضيلة توفي في شعبان قاله في العبر
وفيها أبو رشيد الغزال محمد بن أبي بكر محمد بن عبد الله الأصبهاني المحدث التاجر سمع من خليل الرازاني وطبقته وكان عالما ثقة توفي ببخارى في شوال
وفيها محي الدين بن فضلان قاضي القضاة أبو عبد الله محمد بن يحيى بن علي بن الفضل البغدادي الشافعي مدرس المستنصرية تفقه على والده العلامة أبي القاسم وبرع في المذهب والأصول والخلاف والنظر وولى القضاء في آخر أيام الناصر فلما استخلف الظاهر عزله بعد شهرين من خلافته قال ابن

شهبة في طبقاته رحل إلى خراسان وناظر علماءها وولى تدريس النظامية ببغداد ثم ولى قضاء القضاة ثم عزل ودرس بالمستنصرية عند كمال عمارتها في رجب سنة إحدى وثلاثين وهو أول من درس بها وتوفي بعد أشهر في شوال أي عن بضع وستين سنة وكان موصوفا بحسن المناظرة سمحا جوادا نبيلا لا يكاد يدخر شيئا وفيها المسلم بن أحمد بن علي أبو الغنائم المازني النصيبي ثم الدمشقي روى عن عبد الرحمن بن أبي الحسن الداراني والحافظ أبي القاسم بن عساكر وأخيه الصائن ودخل في المكس مدة ثم تركه وروى الكثير توفي في ربيع الأول وآخر من روى عنه فاطمة بنت سليمان قاله في العبر وفيها الأمير ركن الدين منكورس مملوك فلك الدين أخي العادل كان دينا صالحا عفيفا ملازما لجامع بني أمية وله بقاسيون مدرسة وتربة أوقف عليها شيئا كثيرا وداخل دمشق مدرسة كبيرة للشافعية وقرية جرود وقف عليهما توفي بجرود وحمل فدفن في تربته بقاسيون
وفيها أبو الفتوح الأغماتي ثم الأسكندراني ناصر بن عبد العزيز بن ناصر روى عن السلفي وتوفي في ذي القعدة وفيها الرضى الرخي بتشديد الخاء المعجمة نسبة إلى الرخ ناحية بنيسابور أبو الحجاج يوسف بن حيدرة شيخ الطب بالشام وأحد من انتهت إليه معرفة الفن قدم دمشق مع أبيه حيدرة الكحال في سنة خمس وخمسين وخمسمائة ولازم الإشتغال على المهذب ابن النقاش فنوه باسمه ونبه على علمه وصار من أطباء صلاح الدين وامتدت أيامه وصارت أطباء البلد تلامذته حتى أن من جملة أصحابه المهذب الدخوار وعاش سبعا وتسعين سنة ممتعا بالسمع والبصر توفي يوم عاشوراء قاله في العبر

سنة اثنتين وثلاثين وستمائة

فيها ضربت ببغداد دراهم وفرقت في البلد وتعاملوا بها وإنما كانوا يتعاملون

بقراضة الذهب القيراط والحبة ونحو ذلك فاستراحوا قاله في العبر
وفيها شرع الأشرف في بنائه خان الزنجاري جامعا وهو جامع التوبة بالعقيبة وكان خانا معروفا بالفجور والخواطىء والخمور وسماه جامع التوبة ووقف عليه أوقافا كثيرة وجرى في خطابته نكتة غريبة وهي أنه كان بمدرسة الشامية إمام يعرف بالجمال السبتي وكان شيخا حسنا صالحا وكان في صباه يلعب بملهاة تسمى الجفانة ثم حسنت طريقته وصار معدودا في عداد الأخيار فولاه الأشرف خطيبا فلما توفي تولى مكانه العماد الواسطي الواعظ وكان متهما بشرب الشراب وكان ملك دمشق في ذلك الوقت الملك الصالح أبو الجيش فكتب إليه الجمال عبد الرحيم بن الزويتينيه
( يا مليكا أوضح الحق لدينا وأبانه ** )
( جامع التوبة قد قلدني منه الأمانه ** )
( قال قل للملك الصالح ** أعلى الله شانه )
( يا عماد الدين يا من ** حمد الناس زمانه )
( كم إلى كم أنا في ضر وبؤس وإهانه ** )
( لي خطيب واسطي ** يعشق الشرب ديانه )
( والذي قد كان من قبل يغني بالجفانه ** )
( فكما كنت كذا صرت ** فلا أبرح حانه )
( ردني للنمط الأول ** واستبق ضمانه )
وفيها توفي أبو صادق الحسن بن صباح المخزومي المصري الكاتب عن نيف وتسعين سنة وكان آخر من حدث عن ابن رفاعة توفي سادس عشر رجب وكان أديبا دينا صالحا جليلا وفيها الملك الزاهر داود ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب كان صاحب البيرة بلد من ثغور الروم بقرب سميساط وكان فاضلا أديبا وشاعرا مجيدا يحب العلماء مقصودا

للشعراء وغيرهم وهو الثاني عشر من أولاد صلاح الدين وفيها شمس الدين صواب العادلي الخادم مقدم جيش الكامل وأحد من يضرب به المثل في الشجاعة وكان له من جملة المماليك مائة خادم فيهم جماعة أمراء توفي بحران في رمضان وكان نائبا عليها للكامل وفيها الشهاب عبد السلام بن المطهر بن أبي سعد بن أبي عصرون التميمي الدمشقي الشافعي روى عن جده وكان صدرا محتشما مضى في الرسالة إلى الخليفة وتوفي في المحرم
وفيها ابن باشوية تقي الدين علي بن المبارك بن الحسن الواسطي الفقيه الشافعي المقرىء المجود روى عن ابن شاتيل وطبقته وقرأ القراءات على أبي بكر الباقلاني وعلي بن مظفر الخطيب وسكن دمشق وقرأ بها وتوفي في شعبان عن ست وسبعين سنة وفيها سيدي ابن الفارض ناظم الديوان المشهور شرف الدين أبو القسم عمر بن علي بن مرشد الحموي الأصل المصري قال في العبر هو حجة أهل الوحدة وحامل لواء الشعراء وقال الشيخ عبد الرؤوف المناوي في طبقاته الملقب في جميع الآفاق بسلطان المحبين والعشاق المنعوت بين أهل الخلاف والوفاق بأنه سيد شعراء عصره على الإطلاق له النظم الذي يستخف أهل الحلوم والنثر الذي تغار منه النثرة بل سائر النجوم قدم أبوه من حماة إلى مصر فقطنها وصار يثبت الفروض للنساء على الرجال بين يدي الحكام ثم ولي نيابة الحكم فغلب عليه التلقيب بالفارض ثم ولد له بمصر عمر في ذي القعدة سنة ست وستين وخمسمائة فنشأ تحت كنف أبيه في عفاف وصيانة وعبادة وديانة بل زهد وقناعة وورع أسدل عليه لباسه وقناعه فلما شب وترعرع اشتغل بفقه الشافعية وأخذ الحديث عن ابن عساكر وعنه الحافظ المنذري وغيره ثم حبب إليه الخلاء وسلوك طريق الصوفية فتزهد وتجرد وصار يستأذن أباه في السياحة فيسيح في الجبل الثاني من المقطم ويأوي إلى بعض أوديته مرة وفي بعض المساجد المهجورة في خربات القرافة مرة ثم يعود إلى

والده فيقيم عنده مدة ثم يشتاق إلى التجرد ويعود إلى الجبل وهكذا حتى ألف الوحشة وألفه الوحش فصار لا ينفر منه ومع ذلك لم يفتح عليه بشيء حتى أخبره البقال أنه إنما يفتح عليه بمكة فخرج فورا في غير أشهر الحج ذاهبا إلى مكة فلم تزل الكعبة أمامه حتى دخلها وانقطع بواد بينه وبين مكة عشر ليال فصار يذهب من ذلك الوادي وصحبته أسد عظيم إلى مكة فيصلي بها الصلوات الخمس ويعود إلى محله من يومه وأنشأ غالب نظمه حالتئذ وكان الأسد يكلمه ويسأله أن يركب عليه فيأبى وأقام كذلك نحو خمسة عشر عاما ثم رجع إلى مصر فأقام بقاعة الخطابة بالجامع الأزهر وعكف عليه الأئمة وقصد بالزيارة من الخاص والعام حتى أن الملك الكامل كان ينزل لزيارته وسأله أن يعمل له قبرا عند قبره بالقبة التي بناها على ضريح الإمام الشافعي فأبى وكان جميلا نبيلا حسن الهيئة والملبس حسن الصحبة والعشرة رقيق الطبع عذب المنهل والنبع فصيح العبارة دقيق الإشارة سلس القياد بديع الإصدار والإيراد سخيا جوادا توجه يوما إلى جامع عمرو فلقيه بعض المكارية فقال اركب معي على الفتوح فمر به بعض الأمراء فأعطاه مائة دينار فدفعها للمكاري وكان أيام النيل يتردد إلى المسجد المعروف بالمشتهى في الروضة ويحب مشاهدة البحر مساء فتوجه إليه يوما فسمع قصارا يقصر ويقول
( قطع قلبي هذا المقطع ** لا هو يصفو أو يتقطع )
فصرخ وسقط مغمى عليه فصار يفيق ويردد ذلك ويضطرب ثم يغمى عليه وهكذا وكان يواصل أربعينيات فاشتهى هريسة فأحضرها ورفع لقمة إلى فيه فانشق الجدار وخرج شاب جميل فقال أف عليك فقال إن أكلتها ثم طرحها وأدب نفسه بزيادة عشر ليال ورأى المصطفى صلى الله عليه وسلم في نومه فقال إلى من تنتسب فقال يا رسول الله إلى بني سعد قبيلة حليمة فقال بل نسبك متصل بي يعني نسبة محبة وتبعية ومن خوارقه العجيبة أنه

رأى جملا لسقاء فكلف به وهام وصار يأتيه كل يوم ليراه وناهيك بديوانه الذي اعترف به الموافق والمخالف والمعادي والمحالف سيما القصيدة التائية وقد اعتنى بشرحها جمع من الأعيان كالسراج الهندي الحنفي والشمس البساطي المالكي والجلال القزويني الشافعي غير متعاقبين ولا مبالين بقول المنكرين الحساد شعره ينعت بالاتحاد وكذا شرحها الفرغاني والقاشاني والقيصري وغيرهم وعلى الخمرية وغيرها شروح عدة وقال بعض أهل الرسوخ أن الديوان كله مشروح وذكر بعض الأكابر أن بعض أهل الظاهر في عصر الحافظ ابن حجر كتب على التائية شرحا وأرسله إلى بعض عظماء صوفية الوقت ليقرضه فأقام عنده مدة ثم كتب عليه عند إرساله إليه
( سارت مشرقة وسرت مغربا ** شتان بين مشرق ومغرب )
فقيل له في ذلك فقال مولانا الشارح اعتنى بإرجاع الضمائر والمبتدى والخبر والجناس والاستعارة وما هنالك من اللغة والبديع ومراد الناظم وراء ذلك كله وقد أثنى على ديوانه حتى من كان سيء الاعتقاد ومنهم ابن أبي حجلة الذي عزره السراج الهندي بسبب الوقيعة فيه فقال هو من أرق الدواوين شعرا وأنفسها درا برا وبحرا وأسرعها للقلوب جرحا وأكثرها على الطلول نوحا إذ هو صادر عن نفثة مصدور وعاشق مهجور وقلب بحر النوى مكسور والناس يلهجون بقوافيه وما أودع من القوى فيه وكثر حتى قل من لا رأى ديوانه أو طنت بأذنه قصائده الطنانة قال الكمال الأدفوي وأحسنه القصيدة الفائية التي أولها
( قلبي يحدثني بأنك متلفي ** )
واللامية التي أولها
( هو الحب فاسلم بالحشاما الهوى سهل ** )
والكافية التي أولها
( ته دلالا فأنت أهل لذاكا ** )
قال وأما التائية فهي عند أهل العلم يعني الظاهر غير مرضية مشعرة بأمور رديئة وكان عشاقا يعشق مطلق الجمال حتى أنه عشق بعض الجمال بل زعم بعض الكبار أنه عشق برنية بدكان عطار وذكر

القوصي في الوحيد أنه كان للشيخ جوار بالبهنسا يذهب إليهن فيغنين له بالدف والشبابة وهو يرقص ويتواجد ولكل قوم مشرب ولكل مطلب وليس سماع الفساق كسماع سلطان العشاق ولم يزل على حاله راقيا في سماء كماله حتى احتضر فسأل الله أن يحضره في ذلك الهول العظيم جماعة من الأولياء فحضره جماعة منهم البرهان الجعبري فقال فيما حكاه سبط صاحب الترجمة رأى الجنة مثلت له فبكى وتغير لونه ثم قال
( إن كان منزلتي في الحب عندكم ** ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي )
قال فقلت له يا سيدي هذا مقام كريم فقال يا إبراهيم رابعة وهي امرأة تقول وعزتك ما عبدتك رغبة في جنتك بل لمحبتك وليس هذا ما قطعت عمري في السلوك إليه فسمعت قائلا يقول له فما تروم فقال
( أروم وقد طال المدى منك نظرة ** ) البيت فتهلل وجهه وقضى نحبه فقلت أنه أعطى مرامه انتهى وقد شنع عليه بذلك المنكرون فقال بعضهم لما كشف له الغطاء وتحقق أنه هو غير الله وأنه لا حلول ولا اتحاد قال ذلك وقال بعضهم قاله لما حضره ملائكة العذاب الأليم استغفر الله سبحانه هذا بهتان عظيم والحاصل أنه اختلف في شأن صاحب الترجمة وابن عربي والعفيف التلمساني والقونوي وابن هود وابن سبعين وتلميذه الششتري وابن مظفر والصفار من الكفر إلى القطبانية وكثرت التصانيف من الفريقين في هذه القضية ولا أقول كما قال بعض الإعلام سلم تسلم والسلام بل اذهب إلى ما ذهب إليه بعضهم أنه يجب اعتقادهم وتعظيمهم ويحرم النظر في كتبهم على من لم يتأهل لتنزيل ما فيها من الشطحات على قوانين الشريعة المطهرة وقد وقع لجماعة من الكبار الرجوع عن الإنكار انتهى كلام المناوي مختصرا وما أحسن قوله في التائية
( وكل أذى في الحب منك إذا بدا ** جعلت له شكري مكان شكيتي )
وله وما رأيته في دواوينه وهو معنى في غاية اللطف والرقة


( خلص الهوى لك واصطفتك مودتي ** أني أغار عليك من ملكيكا )
( ولو استطعت منعت لفظك غيرة ** أني أراه مقبلا شفتيكا )
( وأراك تخطر في شمائلك التي ** هي فتنة فأغار منك عليكا )
ورؤى في النوم فقيل له لم لا مدحت المصطفى في ديوانك فقال
( أرى كل مدح في النبي مقصرا ** وأن بالغ المثنى عليه وكثرا )
( إذا الله أثنى بالذي هو أهله ** عليه فما مقدار ما يمدح الورى )
ويقال أنه لما نظم قوله
( وعلى تفنن واصفيه بحسنه ** يفنى الزمان وفيه مالم يوصف )
فرح فرحا شديدا وقال لم يمدح صلى الله عليه وسلم بمثله وبعض الناس يقول باطن كلامه كله مدح فيه صلى الله عليه وسلم وغالب كلامه لا يصلح أن يراد به ذلك والله أعلم توفي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى عن ست وخمسين سنة إلا شهرا ودفن بالمقطم وفيها الشيخ شهاب الدين السهروردي قدوة أهل التوحيد وشيخ العارفين أبو حفص وأبو عبد الله عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد التيمي البكري الصوفي الشافعي ولد سنة تسع وثلاثين وخمسمائة بسهرورد وقدم بغداد فلحق بها هبة الله بن الشبلي فسمع منه وصحب عمه أبا النجيب وتفقه وتفنن وصنف التصانيف منها عوارف المعارف في بيان طريقة القوم وانتهت إليه تربية المريدين وتسليك العباد ومشيخة العراق قال الذهبي لم يخلف بعده مثله وقال ابن شهبة في طبقاته أخذ عن أبي القسم بن فضلان وصحب الشيخ عبد القادر وسمع الحديث من جماعة وله مشيخة في جزء لطيف روى عنه ابن الدبيثي وابن نقطة والضياء والزكي البرزالي وابن النجار وطائفة وقال ابن النجاركان شيخ وقته في علم الحقيقة وانتهت إليه الرياسة في تربية المريدين ودعاء الخلق إلى الله تعالى وبالغ في الثناء عليه وعمى في آخر عمره وأقعد ومع ذلك فما أخل بشيء من أوراده وقال ابن خلكان كان شيخ الشيوخ

ببغداد وكان له مجلس وعظ وعلى وعظه قبول كثير وله نفس مبارك حكى لي من حضر مجلسه أنه أنشد يوما على الكرسي
( لاتسقني وحدي فما عودتني ** أني أشح بها على جلاسي )
( أنت الكريم ولا يليق تكرما ** أني يصبر الندماء دون الكاس )
فتواجد الناس لذلك وقطعت شعور كثيرة وتاب جمع كبير وله تآليف حسنة منها كتاب عوارف المعارف وهو أشهرها وله شعر منه
( تصرمت وحشة الليالي ** وأقبلت دولة الوصال )
( وصار بالوصل لي حسودا ** من كان في هجركم رثى لي )
( وحقكم بعد إذ حصلتم ** بكل من فات لا أبالي )
( تقاصرت عنكم قلوب ** فياله موردا حلالي )
( علي ما للورى حرام ** وحبكم في الحشا حلالي )
( تشربت أعظمي هواكم ** فما لغير الهوى ومالي )
( فما على عادم أجاجا ** وعنده أعين الزلال )
وكان كثير الحج وربما جاور في بعض حججه وكان أرباب الطريق من مشايخ عصره يكتبون إليه صور فتاوى يسألونه عن شيء من أحوالهم سمعت بعضهم أنه كتب إليه يا سيدي أني تركت العمل أخلدت إلى البطالة وإن عملت داخلني العجب فأيهما أولى فكتب جوابه اعمل واستغفر الله من العجب وله من هذا شيء كثير وذكر في عوارف المعارف أبياتا لطيفة منها
( أشم منك نسيما لست أعرفه ** أظن لمياء جرت فيك أذيالا )
وفيه أيضا
( إن تأملتكم فكلي عيون ** أو تذكرتكم فكلي قلوب )
توفي في مستهل المحرم ببغداد رحمه الله تعالى انتهى ملخصا وفيها الشيخ غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر المقدسي النابلسي القدوة الزاهد أحد عباد

الله الأخفياء الأتقياء والسادة الأولياء ولد سنة اثنتين وستين وخمسمائة بقرية بورين من عمل نابلس وسكن القدس عام أنقذه السلطان صلاح الدين من الفرنج سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وساح بالشام ورأى الصالحين وكان مؤثرا للخمول صاحب أحوال وكرمات قال ابنه عبد الله انقطع تحت الصخرة في الأقباء السليمانية ست سنين وصحب الشيخ عبد الله الأرموي بقية عمره وعاشا جميعا مصطحبين وقد أفرد سيرة الشيخ غانم أبو عبد الله محمد بن الشيخ علاء الدين وتوفي الشيخ غانم في غرة شعبان ودفن بالحضيرة التي بها صاحبه ورفيقه الشيخ عبد الله الأرموي بسفح قاسيون
وفيها محمد بن عبد الواحد بن أبي سعيد المديني الواعظ أبو عبد الله مسند العجم ولد سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وسمع من إسماعيل الحمامي وأبي الوقت وأبي الخير الباغبان قال ابن النجار واعظ مفتي شافعي له معرفة بالحديث وقبول عند أهل بلده وفيه ضعف بلغنا أنه استشهد بأصبهان على يد التتار في أواخر رمضان انتهى وقال الذهبي وفي دخولهم إليها قتلوا أمما لا تحصى
وفيها محمد بن عماد بن محمد بن حسين الحراني الحنبلي التاجر نزيل الأسكندرية روى عن ابن رفاعة وابن البطي والسلفي وطائفة كثيرة باعتناء خاله حماد الحراني وتوفي في عشار صفر وكان ذا دين وعلم وفقه عاش تسعين سنة وروى عنه خلق كثير وفيها شعرانه وجيه الدين محمد بن أبي غالب زهير بن محمد الأصبهاني الثقة الصالح سمع الصحيح من أبي الوقت وعمر دهرا ومات شهيدا
وفيها محمد بن غسان بن غافل بن نجاد الأمير سيف الدولة الحمصي ثم الدمشقي وروى عن الفلكي وابن هلال وطائفة وتوفي في شعبان عن ثمانين سنة
وفيها أبو الوفا محمود بن إبراهيم بن سفيان بن منده العبدي الأصبهاني بقية آل منده ومسند وقته روى الكثير عن مسعود الثقفي والرستمي وأبي الخير

الباغبان وغيرهم وعدم تحت السيف رحمه الله وفيها أبو موسى الرعيني عيسى بن سليمان بن عبد الله الرعيني الأندلسي المالقي الرندي الحافظ كان حافظا متقنا أديبا نبيلا قال ابن ناصر الدين في بديعته
( ثم أبو موسى الرعين يعيسى ** خير له بضبطه النفيسا )
وفيها أبو يحيى وأبو الفضل عيسى بن سنجر بن بهرام بن جبريل بن خمارتكين بن طاشتكين الأربلي المعروف بالحاجري الملقب حسام الدين قال ابن خلكان هو جندي ومن أولاد الأجناد وله ديوان شعر تغلب عليه الرقة وفيه معان جيدة وهو مشتمل على الشعر والدوبيت والمواليا ولقد أحسن في الكل مع أنه قل من يجيد في مجموع الثلاثة وله أيضا كان وكان واتفقت له فيه مقاصد حسان وكان صاحبي وأنشدني كثيرا من شعره فمن ذلك قوله وهو معنى جيد
( ما زال يحلف لي بكل ألية ** أن لا يزال مدى الزمان مصاحبي )
( لما جفا نزل العذار بخده ** فتعجبوا لسواد وجه الكاذب )
وأنشدني لنفسه أيضا
( لك خال من فوق عرش ** شقيق قد استوى )
( بعث الصدغ مرسلا ** يأمر الناس بالهوى )
وأنشدني لنفسه أبياتا منها في صفة الخال
( لم يحو ذاك الخد خالا أسودا ** إلا لنبت شقائق النعمان )
وله وقال لي ما يعجبني فيما عملت مثل هذا الدوبيت وهو آخر شيء عملته إلى الآن وهو
( حيا وسقى الحمى سحاب هامي ** ما كان ألذ عامه من عام )
( يا علوة ما ذكرت أيامكم ** إلا وتظلمت على الأيام )
وكان لي أخ يسمى ضياء الدين عيسى وكان بينه وبين الحاجري المذكور مودة

أكيدة فكتب إليه من الموصل في صدر كتاب وكان الأخ باربل
( الله يعلم ما أبقى سوى رمق ** مني فراقك يا من قربه أمل )
( فابعث كتابك واستودعه تعزية ** فربما مت شوقا قبل ما يصل )
وكنت قد خرجت من أربل في أواخر شهر رمضان سنة ست وعشرين وستمائة وهو معتقل بقلعتها لأمر يطول شرحه بعد أن كان حبس بقلعة خفتيد كان ثم نقل منها وله في ذلك أشعار منها قوله
ومنها
( قيد أكابده وسجن ضيق ** يا رب شاب من الهموم المفرق )
( يا برق إن جئت الديار بأربل ** وعلا عليك من التداني رونق )
( بلغ تحية نازح حسراته ** أبدا بأذيال الصبا تتعلق )
( قل يا حبيب لك الفداء أسيركم ** من كل مشتاق إليكم أشوق )
( والله ما سرت الصبا نجدية ** إلا وكدت بدمع عيني أشرق )
وبلغني بعد ذلك أنه خرج من الإعتقال واتصل بخدمة الملك المعظم مظفر الدين صاحب أربل وتقدم عنده وغير لباسه وتزيا بزي الصوفية فلما توفي مظفر الدين سافر من أربل ثم عاد إليها وقد صارت في مملكة أمير المؤمنين المستنصر بالله ونائبه بها الأمير شمس الدين أبو الفضائل باتكين وكان وراءه من يقصده فاتفق أنه خرج من بيته يوما قبل الظهر فوثب عليه شخص وضربه بسكين فأخرج حشوته فكتب في تلك الحال إلى باتكين المذكور وهو يكابد الموت
( أشكوك يا ملك البسيطة حالة ** لم تبق رعبا في عضوا ساكنا )
( أن يستبح ابن اللقيطة معشر ** ممن أؤمل غير جأشك مازنا )
( ومن العجائب كيف يمشي خائفا ** من بات في حرم الخلافة آمنا )
ثم توفي بعد ذلك من يومه يوم الخميس ثاني شوال وتقدير عمره خمسون سنة

والحاجري بفتح الحاء المهملة وبعد الألف جيم مكسورة وبعدها راء نسبة إلى حاجر بليدة بالحجاز لم يبق اليوم منها سوى الآثار ولم يكن الحاجري منها بل نسب إليها لكونه استعملها في شعره كثيرا انتهى ملخصا
وفيها أبو الفتوح الوثابي محمد بن محمد بن أبي المعالي الأصبهاني يروي عن جده كتاب الذكر بسماعه من ابن طبرزد ويروي عن رجاء بن حامد المعداني راح تحت السيف في فتنة التتار وله ثمان وسبعون سنة
وفيها جامع بن إسمعيل بن غانم بن صاين الدين الأصبهاني الصوفي المعروف بباله راوي جزء لوين عن محمد بن أبي القسم الصالحاني
وفيها شمس الدين محمود بن علي بن محمود بن قرقر الدمشقي الجندي الأديب الشاعر روى عن أبي سعد بن أبي عصرون وتوفي في شوال
وفيها ابن شداد قاضي القضاة بهاء الدين أبو العز يوسف بن رافع بن تميم الأسدي الحلبي الشافعي ولد سنة تسع وثلاثين وخمسمائة وقرأ القراءات والعربية بالموصل على يحيى بن سعدون القرطبي وسمع من حفدة العطاردي وطائفة وبرع في الفقه والعلوم وساد أهل زمانه ونال رياسة الدين والدنيا وصنف التصانيف قال ابن شهبة سمع من جماعة كثيرة ببغداد وغيرها وأعاد بالنظامية في حدود سنة سبعين ثم انحدر إلى الموصل ودرس بمدرسة الكمال الشهرزوري ثم حج سنة ثلاث وثمانين وزار الشام واتصل بالسلطان صلاح الدين وحظي عنده وولاه قضاء العسكر وقضاء بيت المقدس وصنف له كتابا في فضل الجهاد ولما توفي اتصل بولده الظاهر وولاه قضاء حلب ونظر أوقافها وأجزل رزقه وعطاءه وأقطعه إقطاعا جزيلا ولم يكن له ولد ولا قرابة فكان ما يحصل له يتوفر عنده فبني به مدرسة وإلى جنبها دار حديث وبينها تربة وقصده الطلبة للدين والدينا وعظم شأن الفقهاء في زمانه لعظم قدره وارتفاع منزلته قال عمر بن الحاجب كان ثقة عارفا بأمور الدين اشتهر اسمه وسار

ذكره وكان ذا صلاح وعبادة وكان في زمانه كالقاضي أبي يوسف في زمانه دبر أمر الملك بحلب واجتمعت الألسن على مدحه وطول ابن خلكان ترجمته وهو ممن أخذ عنه توفي في رابع صفر ودفن بتربته بحلب وذلك بعد أن ظهر أثر الهرم عليه ومن تصانيفه دلائل الأحكام على التنبيه في مجلدين وكتاب الموجز الباهر في الفقه وكتاب ملجأ الحكام في الأقضية في مجلدين وسيرة صلاح الدين أجاد فيها وأفاد

سنة ثلاث وثلاثين وستمائة

في ربيعها جاءت فرقة من التتار فكسرهم عسكر أربل فما بالوا وساقوا إلى بلاد الموصل فقتلوا وسبوا فاهتم المستنصر بالله وأنفق الأموال فردوا ودخلوا الدربند وفيها أخذت الفرنج قرطبة واستباحوها فإنا لله وإنا إليه راجعون وفيها توفي الجمال أبو حمزة أحمد بن عمر بن الشيخ أبي عمر المقدسي الحنبلي روى عن نصر الله القزاز وابن شاتيل وأبي المعالي بن صابر وكان يتعانى الجندية وفيه شجاعة وإقدام توفي في ربيع الأول
وفيها القليوبي المؤخر أبو علي الحسن بن محمد بن إسمعيل عاش سبعين سنة وروى عن الأبله الشاعر وغيره فكتب الكثير وكان أديبا إخباريا
وفيها زهرة بنت محمد بن أحمد بن حاضر شيخة صالحة صوفية روت عن ابن البطي ويحيى بن ثابت وتوفيت في جمادى الأولى عن تسع وسبعين سنة
وفيها خطيب زملكا عبد الكريم بن خلف بن نبهان الأنصاري وله اثنتان وسبعون سنة روى عن أبي القاسم بن عساكر وتوفي في ذي الحجة
وفيها ابن الرماح عفيف الدين علي بن عبد الصمد بن محمد المصري المقرىء النحوي قرأ القراءات على أبي الجيوش عساكر بن علي وسمع من السلفي وتصدر للإقراء والعربية بالفاضلية وغيرها وتوفي في جمادى الأولى


وفيها ابن روزبة أبو الحسن علي بن أبي بكر بن روزبة البغدادي القلانسي العطار الصوفي حدث بالصحيح عن أبي الوقت ببغداد وحران ورأس العين وحلب ورد منها خوفا من الحصار الكائن بدمشق على الناصر داود وإلا كان عزمه المجيء إلى دمشق توفي فجأة في ربيع الآخر وقد نيف على التسعين
وفيها العلامة الحافظ ابن دحية أبو الخطاب عمر بن حسن بن محمد الحميل بن فرج بن خلف الكلبي الداني ثم السبتي الحافظ اللغوي الظاهري المذهب روى عن أبي عبد الله بن زرقون وابن بشكوال وهذه الطبقة وعنى بالحديث أتم عناية وجال في مدن الأندلس ومدن العدوة وحج في الكهولة فسمع بمصر من البوصيري وبالعراق مسند الإمام أحمد وبأصبهان معجم الطبراني من الصيدلاني وبنيسابور صحيح مسلم بعلو بعد أن كان حدث به بالغرب بالإسناد النازل للأندلسي وكان يقول أنه حفظه كله قال في العبر وليس هو بالقوي ضعفه جماعة وله تصانيف ودعاوي مدحضة وعبارة متغيرة ومبغضة وقد نفق على الكامل وجعله شيخ دار الحديث بالقاهرة انتهى وقال ابن شهبة في تاريخ الإسلام كان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء متفننا في الحديث والنحو واللغة وأيام العرب وأشعارها حصل مالا حصل غيره من العلم وكان في المحدثين مثل ابن عنين في الشعراء يثلب علماء المسلمين ويقع في أئمة الدين فترك الناس كلامه وكذبوه ولما انكشف حاله للكامل أخذ منه دار الحديث وأهانه ودخل دمشق فمال إليه الوزير ابن شكر فسأله أن يجمع بينه وبين الشيخ تاج الدين الكندي فاجتمعا وتناظرا وجرى بينهما البحث فقال له الكندي أخطأت فسفه عليه فقال الكندي أنت تكذب في نسبك إلى دحية الكلبي ودحية بإجماع المحدثين ما أعقب وقد قال فيك ابن عنين
( دحية لم يعقب فكم تنتمي ** إليه بالبهتان والإفك )
( ما صح عند الناس فيه سوى ** أنك من كلب بلا شك )

توفي في رابع عشر ربيع الأول وله سبع وثمانون سنة ودفن بالقاهرة
وفيها الأربلي فخر الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن مسلم بن سليمان الصوفي روى عن يحيى بن ثابت وأبي بكر بن النقور وجماعة كثيرة وتوفي بأربل في رمضان وروايته منتشرة عالية وفيها أبو بكر المأموني محمد بن محمد بن أبي المفاخر سعيد بن حسين العباسي النيسابوري ثم المصري الجنايزي روى عن السلفي وتوفي في ربيع الآخر وفيها نصر بن عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الكيلاني قاضي القضاة عماد الدين أبو صالح الجيلي ثم البغدادي الحنبلي أجاز له ابن البطي وسمع من شهدة وطبقتها ودرس وأفتى وناظر وبرع في المذهب وولى القضاء سنة ثلاث وعشرين وعزل بعد أشهر وكان لطيفا ظريفا متين الديانة كثير التواضع متحريا في القضاء قوي النفس في الحق عديم المحاباة والتكلف قاله في العبر وقال ابن رجب كان عظيم القدر بعيد الصيت معظما عند الخاصة والعامة ملازما طريق النسك والعبادة مع حسن سمت وكيس وتواضع ولطف وبشر وطيب ملتقى وكان محبا للعلم مكرما لأهله ولم يزل على طريقة حسنة وسيرة مرضية وكان أثريا سنيا متمسكا بالحديث عارفا به ولاه الظاهر الخليفة بن الناصر قضاء القضاة بجميع مملكته فيقال أنه لم يقبل إلا بشرط أن يورث ذوي الأرحام فقال له اعط كل ذي حق حقه واتق الله ولا تتق سواه وأرسل إليه عشرة آلاف دينار يوفى بها ديون من في سجنه من المدينين الذين لا يجدون وفاء ورد إليه النظر في جميع الوقوف العامة ووقوف المدارس الشافعية والحنفية وجامعي السلطان وابن عبد اللطيف فكان يولي ويعزل في جميع المدارس حتى النظامية ولما توفي الظاهر أقره ابنه المستنصر مديدة وكان في أيام ولايته تؤذن نوابه في مجلس الحكم ويصلي جماعة ويخرج إلى الجامع راجلا وكان يلبس القطن متحريا في القضاء قوي النفس في الحق ويتخلق

بسائر سيرة السلف ولما عزله المستنصر أنشد عند عزله
( حمدت الله عز وجل لما ** قضى لي بالخلاص من القضاء )
( وللمستنصر المنصور أشكر ** وأدعو فوق معتاد الدعاء )
ولا أعلم أحدا من أصحابنا دعي بقاضي القضاة قبله ولا استقل منهم بولاية قضاء القضاة في مصر غيره وقد صنف في الفقه كتابا سماه إرشاد المبتدين وخرج لنفسه أربعين حديثا وتفقه عليه جماعة وانتفعوا به وسمع منه الحديث خلق كثير وروى عنه جماعة منهم عبد الصمد بن أبي الجيش وتوفي سحر يوم الأحد سادس عشر شوال عن سبعين سنة ودفن بتربة الإمام أحمد رضي الله عنه انتهى ملخصا

سنة أربع وثلاثين وستمائة

فيها نزل التتار على أربل وحاصروها وأخذوها بالسيف حتى جافت المدينة بالقتلى وترجلت الملاعين بغنائم لا تحصى فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وفيها توفي الملك المحسن عين الدين أحمد بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب روى عن ابن صدقة الحراني والبوصيري وعنى بالحديث أتم عناية وكتب الكثير وكان متواضعا متزهدا كثير الأفضال على المحدثين وفيه تشيع قليل توفي بحلب في المحرم قاله في العبر
وفيها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر بن الحسين بن خلف البغدادي القطيعي الأزجي المؤرخ الحنبلي وقد سبق ذكر أبيه أسمعه أبوه من ابن الخل الفقيه وأبي بكر بن الزاغوني ونصر بن نصر العكبري وسلمان بن حامد الشحام وتفرد في وقته بالرواية عن هؤلاء وأسمعه أيضا من أبي الوقت صحيح البخاري وهو آخر من حدث عنه به ثم طلب هو بنفسه وسمع من جماعة ورحل وسمع بالموصل ودمشق وحران ثم رجع إلى بغداد ولازم

ابن الجوزي مدة وأخذ عنه وقرأ عليه كثيرا من تصانيفه ومروياته وجمع تاريخا في نحو خمسة أسفار ذيل به تاريخ ابن السمعاني سماه درة الأكليل في تتمة التذييل وفيه فوائد جمة مع أوهام وقد بالغ ابن النجار في الحط على تاريخه هذا مع أنه أخذه عنه ونقل منه في تاريخه أشياء كثيرة بل نقله كله كما قال ابن رجب وشهد عند القضاة مدة واستخدم في عدة خدم وأسن وانقطع في منزله إلى حين وفاته وكان يخضب بالسواد ثم تركه قبل موته بمدة وقد وصفه غير واحد من الحفاظ وغيرهم بالحافظ وأثنى عمر بن الحاجب على تاريخه وحدث بالكثير ببغداد والموصل وروى عنه جماعة كثيرون منهم الشيخ تقي الدين الواسطي قال ابن النجار توفي ليلة السبت لأربع خلون من ربيع الآخر ببغداد ودفن بباب حرب وفيها أبو الفضل وأبو محمد إسحق بن أحمد بن محمد بن غانم العلثي بفتح العين المهملة وسكون اللام وثاء مثلثة نسبة إلى علث قرية بين عكبرا وسامرا الزاهد القدوة ابن عم طلحة بن المظفر سمع من أبي الفتح بن شاتيل وقرأ على ابن كليب وكان فقيها حنبليا عالما أمارا بالمعروف نهاءا عن المنكر لا يخاف أحدا إلا الله ولا تأخذه في الله لومة لائم أنكر على الخليفة الناصر فمن دونه وواجه الخليفة وصدعه بالحق قال الناصح بن الحنبلي هو اليوم شيخ العراق والقائم بالإنكار على الفقهاء والفقراء وغيرهم فيما ترخصوا فيه وقال المنذري قيل أنه لم يكن في زمانه أكثر إنكارا للمنكر منه وحبس على ذلك مدة وقال ابن رجب وله رسائل كثيرة في الإنكار وحدث وسمع منه جماعة وتوفي في شهر ربيع الأول وفيها موفق الدين أحمد بن أحمد بن محمد بن صديق الحراني الحنبلي رحل إلى بغداد وتفقه بابن المنى وسمع من عبد الحق وطائفة وتوفي بدمشق في صفر وفيها الخليل بن أحمد أبو طاهر الجوسقي الصرصري الخطيب بها أي بصرصر وهي بصادين مهملتين قرية على

فرسخين من بغداد قرأ القراءات على جماعة وسمع من ابن البطي وطائفة وتوفي في ربيع الأول عن ست وثمانين سنة وقد أجاز لجماعة
وفيها أبو منصور سعيد بن محمد بن يس البغدادي السفار في التجارة حج تسعا وأربعين حجة وحدث عن ابن البطي وغيره وتوفي في صفر
وفيها أبو الربيع الكلاعي سليمان بن موسى بن سالم البلنسي الحافظ الكبير الثقة صاحب التصانيف وبقية أعلام الأثر بالأندلس ولد سنة خمس وستين وخمسمائة وسمع ابن زرقون وطبقته قال الأبار كان بصيرا بالحديث عاقلا عارفا بالجرح والتعديل ذاكرا للموالد والوفيات يتقدم أهل زمانه في ذلك خصوصا من تأخر زمانه ولا نظير لخطه في الإتقان والضبط مع الإستبحار في الأدب والبلاغة كان فردا في إنشاء الرسائل مجيدا في النظم خطيبا مفوها مدركا حسن السرد والمساق مع الشارة الأنيقة وهو كان المتكلم عن الملوك في مجالسهم والمبين لما يريدونه على المنبر في المحافل ولي خطابة بلنسية وله تصانيف في عدة فنون استشهد بكائنة ايتسه بقرب بلنسية مقبلا غير مدبر في ذي الحجة
وفيها أبو داود سليمان بن مسعود الحلبي الشاعر اللطيف من شعره
( ألا زد غراما بالحبيب وداره ** وإن لج واش فاحتمله وداره )
( وإن قدح اللوام فيك بلومهم ** زناد الهوى يوما فأورى فواره )
( عسى زورة تشفي بها منه خلسة ** فإنك لا يشفيك غير ازدياره )
( وذي هيف فيه يقوم لعاذلي ** بعذري إذا ما لام لام عذاره )
( فسبحان من أجرى الطلا من رضابه ** ومن أنبت الريحان من جلناره )
( وقد دب عنها صدغه بعقارب ** وناظره من سيفه بشفاره )
وفيها الناصح بن الحنبلي أبو الفجر عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب بن الشيخ أبي الفرج الجزري السعدي العبادي الشيرازي الأصل الدمشقي الفقيه الحنبلي المعروف بابن الحنبلي ولد بدمشق ليلة الجمعة سابع عشر شوال سنة

أربع وخمسين وخمسمائة وسمع بها من القاضي أبي الفضل الشهرزوري وجماعة ورحل إلى البلاد فأقام ببغداد مدة وسمع بها من شهدة والسقلاطوني وخلائق وسمع بأصبهان من أبي موسى المديني وهو آخر من سمع منه لأنه سمع منه في مرض موته وسمع بالموصل من الشيخ أبي أحمد الحداد الزاهد شيئا من تصانيفه ودخل بلاد أكوه واجتمع بفضلائها وصالحيها وفاوضهم وأخذ عنهم وقدم مصر مرتين وتفقه ببغداد على ابن المنى وأبي البقاء العكبري وقرأ عليه فصيح ثعلب من حفظه وأخذ عن الكمال السنجاري واشتغل بالوعظ وبرع فيه ووعظ من أوائل عمره وحصل له القبول التام وقد وعظ بكثير من البلاد التي دخلها كمصر وحلب وأربل والمدينة النبوية وبيت المقدس وكانت له حرمة عند الملوك والسلاطين خصوصا ملوك الشام بني أيوب وحضر فتح القدس مع السلطان صلاح الدين قال واجتمعت بالسلطان في القدس بعد الفتح بسنتين وسألني عن أشياء كثيرة منها الخضاب بالسواد فقلت مكروه ومنها من أربعة من الصحابة من نسل رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أبو بكر الصديق وأبوه أبو قحافة وعبد الرحمن بن أبي بكر ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر ثم أخذ السلطان يثني على والدي ويقول ما أولد إلا بعد أربعين قال وكان عارفا بسيرة والدي ودرس الناصح بمدارس منها مدرسة جده شرف الإسلام بالمسمارية ثم بنت له الصحابة ربيعة خاتون مدرسة بالجبل وهي المعروفة بالصاحبية فدرس بها سنة ثمان وعشرين وستمائة وكان يوما مشهودا وحضرت الواقفة من وراء الستر وانتهت إليه رياسة المذهب بعد الشيخ موفق الدين وكان يساميه في حياته قال الناصح وكنت قدمت من أربل سنة وفاة الشيخ الموفق فقال لي سررت بقدومك مخافة أن أموت وأنت غائب فيقع وهن في المذهب وخلف بين أصحابنا وقد وقع مرة بين الناصح والشيخ الموفق اختلاف في فتوى في السماع المحدث

فأجاب فيها الشيخ الموفق بإنكاره فكتب الناصح بعده ما مضمونه الغناء كالشعر فيه مذموم وممدوح فما قصد به ترويح النفس وتفريج الهموم وتفريغ القلوب كسماع موعظة وتحريك لتذكرة فلا بأس به وهو حسن وذكر أحاديث في تغني جويريات الأنصار وفي الغناء في الأعراس وأحاديث في الحداء وأما الشبابة فقد سمعها جماعة ممن لا يحسن القدح فيهم من مشايخ الصوفية وأهل العلم وامتنع من حضورها الأكثر وكون النبي صلى الله عليه وسلم سد أذنيه منها مشترك الدلالة لأنه لم ينه ابن عمر عن سماعها وأطال في ذلك ورد مقالة الموفق لما وقف عليه فراجعه في طبقات ابن رجب فإنه نافع مهم والله أعلم وللناصح تصانيف عدة منها كتاب أسباب الحديث في مجلدات عدة وكتاب الإستسعاد بمن لقيت من صالحي العباد في البلاد وكتاب الأنجاد في الجهاد وقال الحافظ الدبيثي في تاريخه للناصح خطب ومقامات وكتاب تاريخ الوعاظ وأشياء في الوعظ قال وكان حلو الكلام جيد الإيراد شهما مهيبا صارما وكان رئيس المذهب في زمانه بدمشق وقال أبو شامة كان واعظا متواضعا متقنا له تصانيف وقال المنذري قدم يعني الناصح مصر مرتين ووعظ ودرس وكان فاضلا وله مصنفات وهو من بيت الحديث والفقه حدث هو وأبوه وجده وجد أبيه وجد جده لقيته بدمشق وسمعت منه وقال ابن رجب سمع منه الحافظ ابن النجار وغيره وخرج له الزكي البرزالي وروى عنه وتوفي يوم السبت ثالث المحرم بدمشق ودفن من يومه بتربتهم بسفح قاسيون وفيها موفق الدين أبو عبد الله أحمد بن أحمد بن محمد بن بركة بن أحمد بن صديق بن صروف الحراني الفقيه الحنبلي ولد سنة ثلاث أو أربع وخمسين وخمسمائة بحران وسمع بها من ابن أبي حية وغيره ورحل إلى بغداد وسمع بها من ابن شاتيل وغيره وتفقه على ابن المنى وأبي البقاء العكبري وابن الجوزي ولازمه ورجع إلى حران وحدث بها

وبدمشق وسمع منه المنذري والأبرقوهي وابن حمدان وقال كان شيخا صالحا من قوم صالحين وتوفي سادس عشر صفر ودفن بسفح قاسيون وتقدم ذكره في هذه السنة مختصرا وفيها أبو العباس أحمد بن أكمل بن أحمد بن مسعود بن عبد الواحد بن مطر بن أحمد بن محمد الهاشمي العباسي البغدادي الخطيب المعدل الحنبلي ولد في ربيع الأول سنة سبعين وخمسمائة وسمع من ابن شاتيل وغيره وتفقه في المذهب وطعن فيه بعضهم وحدث هو وأبوه وجده وعمه أفضل وسمع منه ابن الساعي وغيره وتوفي في ثامن ربيع الأول ودفن عند أبيه بمقبرة الإمام أحمد وفيها ناصح الدين عبد القادر بن عبد القاهر بن عبد المنعم بن محمد بن حمد بن سلامة الحراني الفقيه الحنبلي الزاهد شيخ حران ومفتيها ولد في رجب سنة أربع وستين وخمسمائة بحران وسمع بها من ابن طبرزد وغيره وسمع بدمشق من ابن صدقة وغيره وببغداد من ابن الجوزي وجماعة وأخذ العلم بحران عن أبي الفتح بن عبدوس وغيره وقرأ الروضة على مؤلفها الموفق وأقرأ وحدث وقال المنذري لقيته بحران وسمعت منه وقال ابن حمدان قرأت عليه الخرقي والهداية وبعض العمدة وسمعت عليه أشياء كثيرة منها جامع المسانيد لابن الجوزي وكان قليل الكلام فيما لا يعنيه كثير الديانة والتحرز فميا يعنيه شريف النفس مهيبا معروفا بالفتوى في مذهب أحمد وصنف منسكا وسطا جيدا وكتاب المذهب المنضد في مذهب أحمد ضاع منه في طريق مكة وحفظ الروضة الفقهيه والهداية وغيرهما ولم يتزوج وطلب للقضاء فأبى ودرس في آخر عمره بحضوري عنده في مدرسة بني العطار التي عمرت لأجله وتوفي في الحادي عشر من ربيع الأول بحران انتهى كلام ابن حمدان
وفيها شمس الدين أبو طالب عبد الله بن إسمعيل بن علي بن الحسين البغدادي الأزجي الواعظ الحنبلي المعروف والده بالفخر غلام ابن المنى سمع أبو طالب من ابن كليب وغيره وتفقه في المذهب واشتغل بالوعظ ووعظ ببغداد ومصر

وحدث وله نظم قال المنذري سمعت منه شيئا من شعره توفي في ثاني عشرى شعبان وهو في سن الكهولة وفيها عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن عبد الله بن عثمان المقدسي الفقيه الحنبلي سمع من أسعد بن سعيد وغيره وتفقه في المذهب ودرس وحدث توفي في حادي عشر ذي القعدة وفيها أبو عمرو عثمان بن الحسن السبتي اللغوي أخو ابن دحية روى عن ابن زرقون وابن بشكوال وغيرهما وولي مشيخة الكاملية بعد أخيه وتوفي بالقاهرة
وفيها صاحب الروم السلطان علاء الدين كيقياذ بن كيخسرو بن قلج أرسلان السلجوقي كان ملكا جليلا شهما شجاعا وافر العقل متسع الممالك تزوج بابنه الملك العادل وامتدت أيامه وتوفي في سابع شوال وكان فيه عدل وخير في الجملة قاله في العبر وفيها أبو الحسن القطيعي محمد بن أحمد بن عمر البغدادي المحدث المؤرخ ولد سنة ست وأربعين وخمسمائة وسمع من ابن الزاغوني ونصر العكبري وطائفة ثم طلب بنفسه ورحل إلى خطيب الموصل وبدمشق من أبي المعالي بن صابر وأخذ الوعظ عن ابن الجوزي وهو أول شيخ ولي المستنصرية من حدث بالبخاري سماعا عن أبي الوقت ضعفه ابن النجار لعدم إتقانه وكثرة أوهامه توفي في ربيع الآخر وفيها الملك العزيز غياث الدين محمد بن الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب وسبط الملك العادل ولوه السلطنة بعد أبيه وله أربع سنين من أجل والدته الصاحبة وهي كانت الكل وكان الأتابك طغربك يسوس الأمور وكان العزيز حسن الصورة عفيفا توفي في هذه السنة ودفن بالقلعة وأقيم بعده ابنه الملك الناصر يوسف وهو طفل أيضا وفيها مرتضى بن أبي الجود حاتم بن المسلم الحارثي الحوفي أبو الحسن المقرىء قرأ القراءات وسمع الكثير من السلفي وجماعة وكان عالما عاملا كبير القدر قانعا متعففا يختم في الشهر ثلاثين ختمة توفي في شوال عن خمس وثمانين سنة قاله في

العبر وفيها أبو القسم هبة الله بن الحسن بن أحمد البغدادي المقرىء المعروف بالأشقر قرأ القراءات على محمد بن خلد الرزاز وغيره وتفقه في مذهب الإمام أحمد قال ابن الساعي كان شيخا فاضلا حسن التلاوة للقرآن مجيد الأداء به عالما بوجوه القراءات وطرقها وتعليلها وإعرابها يشار إليه بمعرفة علوم القرآن بصيرا بالنحو واللغة وكان يؤم بالخليفة الظاهر وقرأ عليه الظاهر والوزير ابن الناقد فلما ولى الظاهر الخلافة أكرمه وأجله وكذلك لما ولى ابن الناقد الوزارة وكان يقول قرأ على القرآن أرباب الدنيا والآخرة وكان لأم الخليفة الناصر فيه عقيدة فمرض فجاءته تعوده وسمع منه ابن النجار وابن الساعي وغيرهما وتوفي في صفر وقد قارب الثمانين
وفيها أبو بكر الحربي هبة الله بن عمر بن كمال الحلاج آخر من حدث عن هبة الله بن الشبلي وكمال بنت السمرقندي توفي في جمادى الأولى
وفيها ياسمين بنت سالم بن علي بن البيطار أم عبد الله الخريمية روت عن هبة الله بن الشبلي القصار وتوفيت يوم عاشوراء وفيها أبو الحرم مكي ابن عمر بن نعمة بن يوسف بن عساكر بن عسكر بن شبيب بن صالح المقدسي الأصل الفقيه الحنبلي الزاهد الرؤبي ولد في شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بمصر وسمع من والده ومن ابن بري النحوي وخلق وسمع بمكة من محمد بن الحسين الهروي الحنبلي وغيره وتفقه في المذهب بمصر قال المنذري اشتهر بمعرفة الفقه وجمع مجاميع الفقه وغيره وانتفع به جماعة وأم بالمسجد المعروف به بدرب البقالين بمصر وسمعت منه وكان يبني ويأكل من كسب يده وقال ابن رجب هو الذي جمع سيرة الحافظ عبد الغني وتوفي في العشرين من جمادى الآخرة بمصر ودفن من الغدالى جانب والده بسفح المقطم
وفيها أبو المظفر يوسف بن أحمد بن الخلال الحنبلي سمع من ابن شاتيل وتفقه في المذهب وكان فقيها صالحا فاضلا مقرئا متدينا حسن الطريقة توفي

ببغداد في العشرين من ربيع الأول

سنة خمس وثلاثين وستمائة

فيها وصلت التتار إلى دقوقا تنهب وتفسد فالتقاهم الأمير بكلك الخليفتي في سبعة آلاف والتتار في عشرة آلاف فانهزم المسلمون بعد أن قتلوا خلقا وكادوا ينتصرون وقتل بكلك وجماعة أمراء أعيان
وفيها توفي أبو محمد الأنجب بن أبي السعادات البغدادي الحمامي عن إحدى وثمانين سنة راو حجة روى عن ابن البطي وأبي المعالي بن اللحاس وطائفة وأجاز له مسعود الثقفي وجماعة توفي في تاسع عشر ربيع الآخر
وفيها أبو عبد الله أحمد بن علي بن سيدك الأواني الشاعر المجيد أشعاره رائقة مطربة منها
( سلوا من كسا جسمي نحافة خصره ** وكلفني في الحب طاعة أمره )
( يبدل نكر الوصل منه بعرفه ** لدى وعرف الهجر منه بنكره )
( فما تعرف الأرواح إلا بقربه ** ولا تصرف الأتراح إلا بذكره )
( ولا تنعم الأوقات إلا بوصله ** ولا تعظم الآفات إلا بهجره )
( فأقسم بالمحمر من ورد خده ** يمينا وبالمبيض من در ثغره )
( لقد كدت لولا ضوء صبح جبينه ** أتيه ضلالا في دجى ليل شعره )
وفيها ابن رئيس الرؤساء أبو محمد الحسين بن علي بن الحسين بن هبة الله ابن الوزير رئيس الرؤساء أبي القسم بن المسلمة البغدادي الناسخ الصوفي ولد سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وسمع من ابن البطي وأحمد بن المقرب وتوفي في رجب وفيها قاضي حلب زين الدين أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الأسدي الشافعي ابن الأستاذ روى عن يحيى الثقفي توفي في شعبان بحلب عن ثمان وخمسين سنة وكان من سروات الرؤساء


وفيها ابن اللتي مسند الوقت أبو المنجا عبد الله بن عمر بن علي بن عمر بن زيد الحريمي القزاز رجل مبارك حي ولد سنة خمس وأربعين وخمسمائة وسمع من أبي الوقت وسعيد بن البنا وطائفة وأجاز له مسعود الثقفي والأصبهانيون وكان آخر من روى حديث البغوي بعلو نشر حديثه بالشام ورجع منها في آخر سنة أربع وثلاثين فتوفي ببغداد في رابع عشر جمادى الأولى
وفيها أبو طالب عبد الله بن المظفر بن الوزير أبي القسم علي بن طراد الزينبي العباسي البغدادي روى عن ابن البطي حضورا وعن أبي بكر بن النقور ويحيى بن ثابت توفي في رمضان وفيها الرضى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار أبو محمد المقدسي الملقن اقرأ كتاب الله احتسابا أربعين عاما وختم عليه خلق كثير وروى عن يحيى الثقفي وطائفة وكان كثير العبادة والتهجد توفي في ثاني صفر وقد شاخ
وفيها صدر الدين عبد الرزاق بن الإمام أبي أحمد عبد الوهاب بن سكينة شيخ الشيوخ البغدادي حضر على ابن البطي وسمع من شهدة وترسل عن الخليفة إلى النواحي وتوفي في جمادى الأولى
وفيها أبو بكر عبد الكريم بن عبد الله بن مسلم بن أبي الحسن بن أبي الجود الفارسي الزاهد الحنبلي ابن أخي الحسن بن مسلم الزاهد المتقدم ذكره ولد سنة ثلاث وستين وخمسمائة بالفارسية قرية على نهر عيسى وقرأ القرآن وسمع الحديث من أبي الفتح البرداني وابن بوش وغيرهما وتفقه في المذهب وحدث وسمع منه ابن البخاري وعبد الصمد بن أبي الجيش وغيرهما ووصفاه بالصلاح والديانة قال ابن النجار كان شيخا صالحا متدينا ورعا منقطعا عن الناس في قريته يقصده الناس لزيارته والتبرك به وحوله جماعة من الفقراء ويضيف من يمر به وتوفي يوم الخميس لتسع خلون من صفر ودفن من يومه عند عمه الحسين بن مسلم بالفارسية وفيها الملك الكامل

سلطان الوقت ناصر الدين أبو المعالي محمد بن العادل أبي بكر محمد بن أيوب ولد سنة ست وسبعين وخمسمائة وتملك الديار المصرية تحت جناح والده عشرين سنة وبعده عشرين سنة وتملك دمشق قبل موته بشهرين وتملك حران وآمد وتلك الديار وله مواقف مشهودة وكان صحيح الإسلام معظما للسنة وأهلها محبا لمجالسة العلماء فيه عدل وكرم وحياء وله هيبة شديدة ومن عدله المخلوط بالجبروت والظلم شنق جماعة من أجناده على آمد في أكيال شعير غصبوه قاله في العبر وقال ابن خلكان كان سلطانا عظيم القدر جميل الذكر محبا للعلماء متمسكا بالسنة النبوية حسن الإعتقاد معاشرا لأرباب الفضائل حازما في أموره لا يضع الشيء إلا في موضعه من غير إسراف ولا إقتار وكان يبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من الفضلاء ويشاركهم في مباحثاتهم ويسألهم عن المواضع المشكلة من كل فن وهو معهم كواحد منهم وكان يعجبه هذان البيتان وينشدهما كثيرا وهما
( ما كنت من قبل ملك قلبي ** تصد عن مدنف حزين )
( وإنما قد طمعت لما ** حللت في موضع حصين )
وبنى بالقاهرة دار حديث ورتب لها وقفا جيدا وقد بنى على قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه قبة عظيمة ودفن أمه عنده وأجرى إليها من ماء النيل ومدده بعيد وغرم على ذلك جملة عظيمة ولما مات أخوه الملك المعظم صاحب الشام وقام ولده الملك الناصر صلاح الدين داود مقامه خرج الملك الكامل من الديار المصرية قاصدا لأخذ دمشق منه وجاء أخوه الملك الأشرف مظفر الدين موسى فاجتمعا على أخذ دمشق بعد فصول جرت يطول شرحها وملك دمشق في أول شعبان سنة ست وعشرين وستمائة وكان يوم الإثنين فلما ملكها دفعها لأخيه الملك الأشرف وأخذ موضعها من بلاد الشرق حران والرها وسروج والرقة ورأس عين وتوجه إليها بنفسه في تاسع شهر رمضان من

السنة واجتزت بحران في شوال سنة ست وعشرين والملك العادل مقيم بها بعساكر الديار المصرية وجلال الدين خوارزم شاه يوم ذاك يحاصر خلاط وكانت لأخيه الملك الأشرف ثم قال ابن خلكان خطب له بمكة شرفها الله تعالى فلما وصل الخطيب إلى الدعاء للملك الكامل قال صاحب مكة وعبيدها واليمن وزبيدها ومصر وصعيدها والشام وصناديدها والجزيرة ووليدها سلطان القبلتين ورب العلامتين وخادم الحرمين الشريفين أبو المعالي محمد الملك الكامل ناصر الدين خليل أمير المؤمنين ولقد رأيته بدمشق سنة ثلاث وثلاثين وستمائة عند رجوعه من بلاد الشرق واستنقاذه إياها من يد علاء الدين كيقياد بن سلجوق صاحب الروم وهي واقعة يطول شرحها وفي خدمته بضعة عشر ملكا منهم أخوه الملك الأشرف ولم يزل في علو شأنه وعظم سلطانه إلى أن مرض بعد أخذه دمشق ولم يركب وكان ينشد في مرضه كثيرا
( يا خليلي خبراني بصدق ** كيف طعم الكرى فإني عليل )
ولم يزل كذلك إلى أن توفي يوم الأربعاء بعد العصر ودفن بقلعة دمشق يوم الخميس الثاني والعشرين من رجب وكنت بدمشق يومئذ وحضرت الصبيحة يوم السبت في جامع دمشق لأنهم أخفوا موته إلى وقت صلاة الجمعة فلما دنت الصلاة قام بعض الدعاة على العريش الذي بين يدي المنبر وترحم على الملك الكامل ودعا لولده الملك العادل صاحب مصر وكنت حاضرا في ذلك الموضع فضج الناس ضجة واحدة وكانوا قد أحسوا بذلك لكنهم لم يتحققوا انتهى ما أورده ابن خلكان ملخصا وقال الذهبي مرض بقلعة دمشق بالسعال والإسهال نيفا وعشرين ليلة وكان في رجله نقرس فمات وقال ابن الأهدل وللكامل هفوة جرت منه عفا الله عنه وذلك أنه سلم مرة بيت المقدس إلى الفرنج اختيارا نعوذ بالله من سخط الله وموالاة أعداء الله
وفيها أبو بكر محمد بن مسعود بن مهروز البغدادي الطبيب سمعه خاله من أبي

الوقت وتفرد بالرواية بالسماع منه وتوفي في رمضان وقد جاوز التسعين
وفيها شرف الدين محمد بن نصر بن عبد الرحمن بن محمد بن محفوظ القرشي الدمشقي ابن ابن أخي الشيخ أبي البيان كان أديبا شاعرا صالحا زاهدا ولي مشيخة رباط أبي البيان وروى عن ابن عساكر وتوفي في رجب
وفيها أبو نصر بن الشيرازي القاضي شمس الدين محمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن يحيى الدمشقي الشافعي ولد سنة تسع وأربعين وخمسمائة وأجاز له أبو الوقت وطائفة وسمع من أبي يعلى بن الحيوني وطائفة كثيرة وله مشيخة في جزء ودرس وأفتى وناظر ودرس وصار من كبار أهل دمشق في العلم والرواية والرياسة والجلالة ودرس مدة بالشامية والكبرى قال ابن شهبة ولي قضاء بيت المقدس ثم ولي تدريس الشامية البرانية ثم ولي قضاء دمشق في سنة إحدى وثلاثين وستمائة وكان فقيها فاضلا خيرا دينا منصفا عليه سكينة ووقار حسن الشكل يصرف أكثر أوقاته في نشر العلم مات في جمادى الآخرة
وفيها خطيب دمشق الدولعي بفتح الدال المهملة وبعد الواو واللام عين مهملة نسبة إلى الدولعية قرية بالموصل جمال الدين محمد بن أبي الفضل بن زيد بن يس أبو عبد الله الثعلبي الشافعي ولد بالدولعية في جمادى الآخرة سنة خمس وخمسين وخمسمائة وتفقه على عمه ضياء الدين الدولعي خطيب دمشق أيضا وسمع منه ومن جماعة منهم ابن صدقة الحراني وولي الخطابة بعد عمه وطالت مدته في المنصب وولى تدريس الغزالية مدة وكان له ناموس وسمت حسن يفخم كلامه قال أبو شامة وكان المعظم قد منعه من الفتوى مدة ولم يحج لحرصه على المنصب مات في جمادى الأولى ودفن بمدرسته التي أنشأها بجيرون وفيها نجم الدين أبو المفضل مكرم بن محمد بن حمزة بن محمد المسند القرشي الدمشقي المعروف بابن أبي الصقر ولد في رجب سنة ثمان وأربعين وخمسمائة وسمع من حمزة بن الحبوني وحمزة بن كروس وحسان

الزيات والفلكي وعلي بن أحمد بن مقاتل وطائفة وتفرد وطال عمره وسافر للتجارة كثيرا وتوفي في رجب وفيها الملك مظفر الدين أبو الفتح موسى بن العادل ولدهو وأخوه الكامل في سنة واحدة وهي سنة ست وسبعين وخمسمائة وماتا أيضا في هذه السنة وكان مولده بالقاهرة وروى عن ابن طبرزد وتملك حران وخلاط وتلك الديار مدة ثم تملك دمشق تسع سنين فأحسن وعدل وخفف الجور قال الذهبي كان فيه دين وتواضع للصالحين وله ذنوب عسى الله أن يغفرها له وكان حلو الشمائل محببا إلى رعيته موصوفا بالشجاعة لم تكسر له راية قط انتهى وقال ابن شهبة في تاريخ الإسلام كان جوادا عادلا سخيا لو دفع الدنيا إلى أقل الناس لم يستكثرها عليه ميمون الطليعة ما كسرت له راية قط متعففا عن المحارم ما خلا بامرأة قط إلا زوجته أو محرمه قال أبو المظفر لما صعد إلى خلاط اجتمعت معه في منظرة فقال والله ما مددت عيني إلى حريم أحد قط لا ذكر ولا أنثى ولقد كنت يوما قاعدا ههنا فقال الخادم على الباب عجوز تستأذن من عند بنت شاه أرمن صاحب خلاط سابقا فأذنت لها فناولتني ورقة تذكر أن الحاجب عليا قد قصدها وأخذ ضيعها وقصد هلاكها وتخاف منه أن تخرج فكتبت على الورقة بإطلاق الضيعة ونهى الحاجب عنها فقالت العجوز هي تسأل الإذن بالحضور فلها سر تذكره للسلطان فقلت بسم الله فغابت ساعة ثم جاءت ومعها امرأة ما يمكن في الدنيا أحسن من قدها ولا أظرف من شكلها كأن الشمس تحت نقابها فخدمت ووقفت فقمت لها لكونها بنت شاه فسفرت عن وجهها فأضاءت منه المنظرة فقلت غطي وجهك واذكري حاجتك فقالت مات أبي واستوليتم على البلاد ولي ضيعة أعيش منها أخذها الحاجب مني وما أعيش إلا من عمل النقش وأنا ساكنة في دور الكراء قال فبكيت وأمرت لها بقماش وسكن يصلح لها وقلت بسم الله في حفظ الله ودعته فقالت العجوز ما جاءت إلا لتحظى بك الليلة

قال فأوقع الله في قلبي تغير الزمان وتملك غيري وتحتاج بني أن تقعد مثل هذه القعدة فقلت يا عجوز معاذ الله والله ما هو من شيمتي ولا خلوت بغير محارمي خذيها وانصرفي وهي العزيزة الكريمة ومهما كان لها من الحوائج فهذا الخادم تنفذ إليه فقامت وهي تبكي وتقول بالأرمنية صان الله حريمك فلما خرجت قالت لي النفس في الحلال مندوحة عن الحرام تزوجها فقلت للنفس يا خبيثة أين الحياء والكرم المروءة والله لا فعلته أبدا وقدم عليه النظام بن أبي الحديد ومعه نعل النبي صلى الله عليه وسلم فقام له قائما ونزل فأخذ النعل ووضعه على عينيه وبكى وأجرى على النظام النفقات وأراد أن يأخذ منه قطعة تكون عنده ثم رجع وقال ربما يجيء بعدي من يفعل مثل فعلي فيتسلسل الحال ويؤدي إلى استئصاله فتركه ومات النظام بعد مدة وأوصى له بالنعل فلما فتح دمشق اشترى دار قايماز النجمي وجعلها دار حديث وترك النعل بها وبنى مسجد أبي الدرداء بقلعة دمشق والمسجد الذي عند باب النصر وخان الزنجاري وهو جامع العقيبة ومسجد القصب خارج باب السلاح وجامع جراح وجامع بيت الأنبار وجامع حرستا وزاد وقف دار الحديث النورية والتربة التي بالكلاسة وكان حسن الظن بالفقراء وكان له في بستانه الذي بالنيرب أماكن مشهورة مزخرفة مثل صفة بقراط وغيرها يخلو بها وأباح لأهل دمشق الفرجة بها تطييبا لقلوب الرعية ومن شعره يخاطب الخليفة الناصر
( العبد موسى ذو الضراعة طوره ** بغداد آنس عندها نار الهدى )
( عبد أعد لدى الآله وسيلة ** دنيا ودينا أحمدا ومحمدا )
( هذا يقوم بنصره في هذه ** عند الخطوب وذاك شافعه غدا )
وتوفي يوم الخميس رابع المحرم فتسلطن بعده أخوه الصالح إسمعيل وركب ركوب السلطنة وترجل الناس بين يديه وصادر جماعة من أهل دمشق وركب

التعاسيف فجاء عسكر الكامل وحصر د مشق وقطع المياه وأحرق العقيبة وقصر حجاج ونصبوا المجانيق ووقع الصلح على أن أعطوا الصالح بعلبك وبصرى وتسلم الكامل دمشق وفيها الحكيم الفاضل سديد الدين أبو الثناء محمود بن عمر الحابولي عرف بابن دقيقة الشيباني صنف كتاب قانون الحكماء وفردوس الندماء وكتاب الغرض المطلوب في تدبير المأكول والمشروب وغير ذلك وله ديوان شعر منه فيما يتعلق بالطب
( توق الامتلاء وعد عنه ** وإدخال الطعام على الطعام )
( وإكثار الجماع فإن فيه ** لمن والاء داعية السقام )
( ولا تشرب عقيب الأكل ماء ** لتسلم من مضرات الطعام )
( ولا عند الخوى ولجوع حتى ** تلهى باليسير من الأدام )
( وخذ منه القليل ففيه نفع ** لدى العطش المبرح والأوام )
( وهضمك فأصلحنه فهو أصل ** وأسهل بالأيارج كل عام )
( وفصد العرق نكب عنه إلا ** لدى مرض بطيب الطبع حامي )
( ولا تتحركن عقيب أكل ** وصير ذاك بعد الانهضام )
( ولا تطل السكون فإن منه ** تولد كل خلط فيك خام )
( وقلل ما استطعت الماء بعد الرياضة ** واجتنب شرب المدام )
( وخل السكر واهجره مليا ** فإن السكر من فعل الطغام )
( وأحسن صون نفسك عن هواها ** تفز بالخلد في دار السلام )
وفيها شمس الدين بن سنى الدولة قاضي القضاة أبو البركات يحيى بن هبة الله بن سنى الدولة الحسن بن يحيى بن محمد بن علي بن صدقة الدمشقي الشافعي والد قاضي القضاة صدر الدين أحمد ولد سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة وتفقه على ابن أبي عصرون والقطب النيسابوري واشتغل بالخلاف وسمع من أحمد ابن الموازيني وطائفة وولي قضاء الشام قال الذهبي وحمدت سيرته وكان إماما

فاضلا مهيبا حدث بمكة وبيت المقدس وحمص وتوفي في ذي القعدة
وفيها أبو المحاسن يوسف بن إسمعيل بن علي بن أحمد بن الحسين بن إبراهيم المعروف بالشواء الملقب شهاب الدين الكوفي الأصل الحلبي المولد والمنشأ والوفاة كان أديبا فاضلا متقنا لعلم العروض والقوافي شاعرا يقع له في النظم المعاني البديعة وله ديوان شعر في أربع مجلدات وكان ملازما لحلقة الشيخ تاج الدين المعروف بابن الحراني الحلبي النحوي اللغوي وأكثر ما أخذ الأدب عنه وبصحبته انتفع قال ابن خلكان كان بيني وبين الشهاب الشواء مودة أكيدة ومؤانسة كثيرة وكان حسن المحاورة مليح الإيراد مع السكون والتأني وأول شيء أنشدني من شعره قوله
( هاتيك يا صاح ربا لعلع ** ناشدتك الله فعرج معي )
( وانزل بنا بين بيوت النقا ** فقد غدت آهلة المربع )
( حتى نطيل اليوم وقفا على الساكن ** أو عطفا على الموضع )
وأنشد لنفسه أيضا
( ومهفهف عنى الزمان بخده ** فكساه ثوبي ليله ونهاره )
( لأمهدت عذري محاسن وجهه ** إن غض مني منه غصن عذاره )
وله في غلام أرسل أحد صدغيه وعقد الآخر
( أرسل صدغا ولوى قاتلي ** صدغا فاعيا بهما واصفه )
( فخلت ذا في خده حية ** تسعى وهذا عقربا واقفه )
( ذا ألف ليست لوصل وذا ** واو ولكن ليست العاطفه )
وله في شخص لا يكتم السر
( لي صديق غدا وإن كان لا ينطق ** إلا بغيبة أو محال )
( أشبه الناس بالصدى إن تحدثه ** حديثا أعاده في الحال )
وله هو معنى لطيف


( هواك يا من له احتيال ** مالي على مثله احتيال )
( قسمة أفعاله لحيني ** ثلاثة مالها انتقال )
( وعدك مستقبل وصبري ** ماض وشوقي إليك حال )
وله في غلام ختن
( هنأت من أهواه عند ختانه ** فرحا وقلت وقد عراه وجوم )
( يفديك من ألم ألم بك أمرؤ ** يخشى عليك إذا ثناك نسيم )
( أمعذبي كيف استطعت على الأذى ** جلدا وأجزع ما يكون الريم )
( لو لم تكن هذي الطهارة سنة ** قد سنها من قبل إبراهيم )
( لفتكت جهدي بالمزين إذ غدا ** في كفه موسى وأنت كليم )
ومعظم شعره على هذا الأسلوب وكان من المغالين في التشيع وأكثر أهل حلب ما يعرفونه إلا بمحاسن الشواء والصواب ما ذكرته وتوفي يوم الجمعة تاسع عشر المحرم بحلب ودفن بظاهرها ولم أحضر الصلاة عليه لعذر عرض لي رحمه الله فلقد كان نعم الصاحب انتهى ما أورده ابن خلكان ملخصا

سنة ست وثلاثين وستمائة

فيها توفي أبو العباس القسطلاني ثم المصري الفقيه المالكي الزاهد القدوة أحمد بن علي تلميذ الشيخ أبي بعد الله القرشي سمع من عبد الله بن بري ودرس بمصر وأفتى ثم جاور بمكة مدة وتزوج عبد موت شيخه زوجته الصالحة الجليلة أم ولده قطب الدين حكى أن أهل المدينة أجدبوا فاتفق رأيهم أن يستسقوا يوما والغرباء يوما فاستسقى اهل المدينة يومهم فلم يسقوا ثم عمل هو طعاما للضعفاء واستسقى مع المجاورين فسقوا وله مؤلف جمع فيه كلام شيخه القرشي وبعض شيوخه وبعض كراماته توفي بمكة المشرفة في جمادى الآخرة وقبره يزار بها في الشعب الأيسر


وفيها صاحب ماردين ارتق بن البي الأرتقي التركماتي تملك ماردين بضعا وثلاثين سنة وكان فيه عدل ودين في الجملة قتله غلمانه بمواطأة ابن ابنه وتملك بعده ابنه نجم الدين غازي وفيها التاج أسعد بن المسلم بن مكي بن علان القيسي الدمشقي توفي في رجب عن ست وتسعين سنة روى عن ابن عساكر وأبي الفهم بن أبي العجايز وكان من كبار العدول وهو أسن من أخيه السديد وفيها أبو الخير بدل بن أبي المعمر بن إسمعيل التبريزي المحدث الحافظ الثقة الرحال ولد بعد الخمسين وخمسمائة وسمع من أبي سعد ابن أبي عصرون وجماعة ورحل فأكثر عن اللبان والصيدلاني وسمع بنيسابور ومصر والعراق وكتب وتعب وخرج وولي مشيخة دار الحديث بأربل فلما أخذتها التتار قدم حلب وبها توفي في جمادى الأولى
وفيها أبو الفضل جعفر بن علي بن هبة الله الهمذاني الأسكندراني المالكي المقرىء الأستاذ المحدث ولد سنة ست وأربعين وخمسمائة وقرأ القراءات على عبد الرحمن بن خلف صاحب ابن الفحام وأكثر عن السلفي وطائفة وكتب الكثير وحصل وتصدر للإقراء ثم رحل في آخر عمره فروى الكثير بالقاهرة ودمشق وبها توفي في صفر وقد جاوز التسعين
وفيها ابن الصفراوي جمال الدين أبو القسم عبد الرحمن بن عبد المجيد بن إسمعيل بن عثمان بن يوسف بن حفص الأسكندراني الفقيه المالكي المقرىء ولد في أول سنة أربع وأربعين وخمسمائة وقرأ القراءات على ابن خلف الله وأحمد بن جعفر الغافقي واليسع بن حزم وابن الخلوف وتفقه على أبي طالب صالح ابن بنت معافى وسمع الكثير من السلفي وغيره وانتهت إليه رياسة الإقراء والفتوى ببلده وطال عمره وبعد صيته توفي في الخامس والعشرين من ربيع الآخر وفيها أبو الفتوح وأبو الفرج وأبو عمر ضياء الدين عثمان بن نصر بن منصور بن هلال البغدادي المسعودي الفقيه الحنبلي الواعظ المعروف بابن الوتار ولد سنة خمسين وخمسمائة تقريبا وسمع من أبي الفتح

ابن المنى وغيره وتفقه عليه ووعظ وشهد عند قاضي القضاة عبد الرزاق ابن ابن الشيخ عبد القادر وأفتى وكان فاضلا فقيها إماما عالما حسن الأخلاق أجاز للمنذري وابن أبي الجيش والقسم بن عساكر والحجار وغيرهم وتوفي في سابع عشرى جمادى الأولى ببغداد وقد ناهز التسعين والمسعودي نسبة إلى المسعودة محلة شرقي بغداد وفيها عسكر بن عبد الرحيم بن عسكر بن أسامة أبو عبد الرحيم العدوي النصيبي من بيت مشيخة وحديث ودين وله أصحاب وأتباع رحل في الحديث وسمع من سليمان الموصلي وطبقته وله مجاميع حسنة توفي في المحرم وفيها الصاحب جمال الدين علي بن جرير الرقي الوزير وزر للأشرف ثم للصالح إسمعيل وتوفي في جمادى الآخرة بدمشق قاله في العبر وفيها عماد الدين بن الشيخ هو الصاحب الرئيس أبو الفتح عمر بن شيخ الشيوخ صدر الدين محمد بن عمر الجويني ثم الدمشقي الشافعي ولي تدريس الشافعي ومشهد الحسين ومشيخة الشيوخ بالديار المصرية وقام بسلطنة الجواد ثم دخل الديار المصرية فلامه صاحبها العادل أبو بكر فردوهم بخلع الجواد من السلطنة فلم يمكنه وجهز عليه من الإسمعيلية من قتله في جمادى الأولى وله خمس وخمسون سنة وفيها أبو الفضل بن السباك محمد بن محمد بن الحسن البغدادي أحد وكلاء القضاة روى عن ابن البطي وأبي المعالي اللحاس وتوفي في ربيع الآخر وفيها شرف الدين أبو المكارم محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي القسم بن صدقة قاضي القضاة الأسكندري المصري الشافعي المعروف بابن عين الدولة ولد بالأسكندرية في جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وقدم القاهرة في سنة ثلاث وسبعين واشتغل على العراقي شارح المهذب وحفظ المهذب وناب في القضاء ثم ولى قضاء القاهرة والوجه البحري سنة ثلاث عشرة وستمائة ثم جمع له العملان سنة سبع عشرة وستمائة ثم عزل عن قضاء مصر خاصة

قبل وفاته بشهر وكان ذكيا كريما متدينا ورعا قانعا باليسير من بيت رياسة تولى الأسكندرية من أعمامه وأخواله ثمانية أنفس قال المنذري وكان عارفا بالأحكام مطلعا على غوامضها وكتب الخط الجيد وله نظم ونثر وكان يحفظ من شعر المتقدمين والمتأخرين جملة وقال غيره نقل المصريون عنه كثيرا من النوادر والزوائد كان يقولها بسكون وناموس ومن شعره
( وليت القضاء وليت القضاء ** لم يك شيئا توليته )
( فأوقعني في القضاء القضاء ** وما كنت قدما تمنيته )
توفي في هذه السنة وجزم ابن قاضي شهبة أنه توفي في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وفيها الزكي البرزالي أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن أبي يداش الأشبيلي الحافظ الجوال محدث الشام ومفيده سمع بالحجاز ومصر والشام والعراق وأصبهان وخراسان والجزيرة فأكثر وجمع فأوعى وأول طلبه سنة اثنتين وستمائة وأقدم شيوخه عين الشمس الثقفية ومنصور الفراوي وأقام بمسجد فلوس بدمشق زمانا طويلا وتوجه إلى حلب فأدركه أجله بحماة في رمضان وله ستون سنة وهو والد الشيخ علم الدين البرزالي
وفيها جمال الدين بن الحصيري شيخ الحنفية أبو المحامد محمود بن أحمد بن عبد السيد البخاري روى صحيح مسلم عن أصحاب الفراوي ودرس بالنورية بدمشق خمسا وعشرين سنة وصنف الكتب الحسان منها شرح الجامع الكبير وكان من العلماء العاملين كثير الصدقة غزير الدمعة انتهت إليه رياسة أصحاب أبي حنيفة توفي في صفر بدمشق ودفن بمقابر الصوفية
وفيها العلامة الحافظ يوسف بن عمر بن صقير ويقال بالسين أيضا الواسطي كان من الحفاظ الأعيان قاله ابن ناصر الدين

سنة سبع وثلاثين وستمائة

فيها هجم الصالح إسمعيل في صفر على دمشق فملكها وتسلم القلعة واعتقلوا الصالح أيوب بالكرك أشهرا فطلبه أخوه العادل من الناصر داود وبذل فيه مائة ألف دينار وكذا طلبه الصالح إسمعيل فامتنع الناصر ثم اتفق معه وحلفه وأخذه وسار به إلى الديار المصرية فمالت الكاملية إليه وقبضوا على العادل وتملك الصالح نجم الدين أيوب ورجع الناصر بخفي حنين
وفيها أنزل الكامل إلى تربته بجامع دمشق من قلعتها وفتح لها شبابيك إلى الجامع وفيها توفي الخيوبي بضم الخاء المعجمة وفتح الواو وتشديد الياء الأولى نسبة إلى خوي مدينة بأذربيجان من إقليم تبريز قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى المهلبي الشافعي أبو العباس ولد في شوال سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ودخل خراسان وقرأ بها الأصول على القطب المصري صاحب الإمام فخر الدين قال ابن السبكي في طبقاته الكبرى وقرأ الفقه على الرافعي وعلم الجدل على علاء الدين الطوسي وسمع الحديث من جماعة وولي قضاء القضاة بالشام وله كتاب في الأصول وكتاب فيه رموز حكمية وكتاب في النحو وكتاب في العروض وفيه يقول أبو شامة
( أحمد بن الخليل أرشده الله ** كما أرشد الخليل بن أحمد )
( ذاك مستخرج العروض وهذا ** مظهر السر منه والعود أحمد )
وقال الذهبي كان فقيها إماما مناظرا خبيرا بعلم الكلام أستاذا في الطب والحكمة دينا كثير الصلاة والصيام توفي في شعبان ودفن بسفح قاسيون وفيها الصدر علاء الدين أبو سعد ثابت بن محمد بن أبي بكر الخجندي بضم الخاء المعجمة وفتح الجيم وسكون النون ومهملة نسبة إلى خجندة مدينة بطرف سيحون ثم الأصبهاني سمع الصحيح حضورا في الرابعة من أبي الوقت وبقي إلى هذا الوقت بشيراز

وفيها أبو العباس بن الرومية أحمد بن محمد بن مفرج بن عبد الله الأموي مولاهم الأندلس الأشبيلي الزهري النباتي الحافظ كان حافظا صالحا مصنفا من الأثبات ظاهري المذهب مع ورع وكان يحترف من الصيدلة لمعرفته الجيدة بالنبات قاله ابن ناصر الدين وفيها أمين الدين أبو الغنايم سالم بن الحسن بن هبة الله الشافعي التغلبي الدمشقي رحل به أبوه وسمعه من ابن شاتيل وطبقته وسمع هو بنفسه وولى المارستان والمواريث والأيتام وتوفي في جمادى الآخرة وله ستون سنة ودفن بتربته بقاسيون وخلف ذرية صالحة أبقت ذكره وفيها الملك المجاهد أسد الدين شيركوه ابن محمد بن شيركوه بن شادي صاحب حمص توفي بها في رجب قال ابن خلكان مولده سنة تسع وستين وخمسمائة وتوفي يوم الثلاثاء تاسع رجب بحمص ودفن بتربة داخل البلد وكانت له أيضا الرحبة وتذمر وماكسين من بلد الخابور وخلف جماعة من الأولاد فقام مقامه في الملك ولده الملك المنصور ناصر الدين إبراهيم انتهى وفيها أبو القسم عبد الرحيم بن يوسف بن هبة الله بن الطفيل الدمشقي توفي بمصر في ذي الحجة وروى عن السلفي وفيها أبو محمد وأبو الفضل عفيف الدين عبد العزيز بن دنف بن أبي طالب بن دلف بن القسم البغدادي الحنبلي المقرىء الناسخ الخازن ولد سنة إحدى أو اثنتين وخمسين وخمسمائة وقرأ بالروايات الكثيرة على أبي الحرث أحمد بن سعيد العسكري وغيره وسمع الحديث من أبي علي الرحبي وغيره وكتب الكثير بخطه الحسن لنفسه وللناس وشهد عند الريحاني زمن الناصر وكان الخليفة الناصر أذن لولده الظاهر برواية مسند الإمام أحمد عنه بالإجازة وأذن لأربعة من الحنابلة بالدخول إليه للسماع عبد العزيز هذا منهم فحصل له به أنس فلما أفضت إليه الخلافة ولاه النظر في ديوان التركات الحشرية فسار فيها أحسن سيرة ورد تركات كثيرة على

الناس قال الناصح بن الحنبلي كان إماما في القراءة وفي علم الحديث سمع الكثير وكتب بخطه الكثير وهو يصوم الدهر لقيته ببغداد في المرتين وقال ابن النجار كان كثير العبادة دائم الصوم والصلاة وقراءة القرآن مذ كان شابا وإلى حين وفاته وكان مسارعا إلى قضاء حوائج الناس والسعي بنفسه إلى دور الأكابر في الشفاعات وفك العناة وإطلاق المعتقلين بصدر منشرح وقلب طيب وكان محبا لإيصال الخير إلى الناس ودفع الضر عنهم كثير الصدقة والمعروف والمواساة بماله حال فقره وقلة ذات يده وبعد يساره وسعة ذات يده وكان على قانون واحد في ملبسه لم يغيره وكان ثقة صدوقا نبيلا غزير الفضل أحسن الناس تلاوة للقرآن وأطيبهم نغمة وكذلك في قراءة الحديث وتوفي ليلة الإثنين السادس والعشرين من صفر ببغداد ودفن بجانب معروف الكرخي وفيها وجزم ابن ناصر الدين أنه في التي قبلها أبو بكر محمد بن إسمعيل بن محمد بن خلفون الأزدي الأندلس الأوبني كان حافظا متقنا للأسانيد والأخبار مصنفا وفيها ابن الكريم الكاتب شمس الدين محمد بن الحسن بن محمد بن علي البغدادي المحدث الأديب الماسح المتفنن روى عن ابن بوش وابن كليب وخلق وسكن دمشق وكتب الكثير بخطه توفي في رجب عن سبع وخمسين سنة وفيها ابن الدبيثي بضم الدال المهملة وفتح الموحدة التحتية وسكون المثناة التحتية ومثلثة نسبة إلى دبيثا قرية بواسط الحافظ المؤرخ المقرىء الحاذق أبو عبد الله محمد بن سعيد بن يحيى الواسطي الشافعي ولد سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وسمع من أبي طالب الكناني وابن شاتيل وعبد المنعم بن الفراوي وطبقتهم وقرأ القراءات على جماعة وتفقه على أبي الحسن هبة الله بن البوقي وأتقن العربية وتقدم وساد وعلق الأصول والخلاف وعنى بالحديث ورجاله وصنف كتابا في تاريخ واسط وذيلا على مذيل ابن السمعاني وأسمعهما وله معرفة بالأدب والشعر

وله شعر جيد وقد أثنى على حفظه وذهنه واستحضاره الحافظ الضياء المقدسي وابن نقطة وابن النجار وقال هو شيخي وهو آخر الحافظ المكثرين ما رأت عيناي مثله في حفظ التواريخ والسير وأيام الناس وأضر في آخر عمره وقال ابن الأهدل وأنشد لنفسه
( خبرت بني الأيام طرا فلم أجد ** صديقا صدوقا مسعدا في النوائب )
( وأصفيتهم مني الوداد فقابلوا ** صفاء ودادي بالعدا والشوائب )
( وما اخترت منهم صاحبا وارتضيته ** فأحمده في فعله والعواقب )
وقال في العبر توفي في ثامن ربيع الآخر ببغداد وفيها تقي الدين محمد بن طرخان بن أبي الحسن السلمي الدمشقي الصالحي الحنبلي ولد بقاسيون سنة إحدى وستين وخمسمائة وروى عن ابن صابر وأبي المجد البانياسي وطائفة وخرج لنفسه مشيخة وكان فقيها جليلا متوددا وسمع بمكة والمدينة واليمن وحدث وتوفي في تاسع المحرم بالجبل وفيها أبو طالب بن صابر الدمشقي محمد بن أبي المعالي عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد بن علي بن صابر السلمي الصوفي الزاهد روى عن أبيه وجماعة وصار شيخ الحديث بالعزية قال ابن النجار لم أر إنسانا كاملا غيره زاهدا عابدا ورعا كثير الصلاة والصيام توفي في سابع المحرم
وفيها ابن الهادي محتسب دمشق رشيد الدين أبو الفضل محمد بن عبد الكريم بن يحيى القيسي الدمشقي شيخ وقور مهيب عفيف سمع ابن عساكر وأبا المعالي بن صابر وتوفي في جمادى الآخرة عن سبع وثمانين سنة
وفيها الرشيد النيسابوري محمد بن أبي بكر بن علي الحنفي الفقيه سمع بمصر من أبي الجيوش عساكر والتاج المسعودي وجماعة ودرس وناظر وعاش سبعا وسبعين سنة وولي قضاء الكرك والشوبك ثم درس بالمعينية وتوفي في خامس ذي القعدة وفيها شرف الدين أبو البركات بن

المستوفى المبارك بن أحمد بن أبي البركات اللخمي الأربلي وزير أربل وفاضلها ومؤرخها ولد سنة أربع وستين وخمسمائة وسمع من عبد الوهاب ابن حبة وحنبل وابن طبرزد وخلق وكان بيته مجمع الفضلاء وله يد طولى في النثر والنظم ونفس كريمة كبيرة وهمة علية شرح ديواني أبي تمام والمتنبي في عشر مجلدات وله غير ذلك وديوان شعر منه في تفضيل البياض على السمرة
( لا تخدعنك سمرة غرارة ** ما الحسن إلا للبياض وجنسه )
( فالرمح يقتل بعضه من غيره ** والسيف يقتل كله من نفسه )
وله
( يا رب قد عظمتك جناية عينه ** وعتا بما أبداه من أنواره )
( فاشف السقام المستكن بطرفه ** واستر محاسن وجهه بعذاره )
سلم بقلعة أربل من التتار ثم سكن الموصل وبهامات في المحرم قال ابن الأهدل جمع لأربل تاريخا في أربع مجلدات وله المحصل على أبيات المفصل في مجلدين وله كتاب سر الصنعة وكتاب سماد أبا قماش جمع فيه آدابا ونوادر وأرسل دينارا إلى شاعر على يد رجل يقال له الكمال وكان الدينار مثلوما فتوهم الشاعر أن الكمال نقصه فكتب
( يا أيها المولى الوزير ومن به ** في الجود حقا تضرب الأمثال )
( أرسلت بدر التم عند كماله ** حسنا فوافى العبد وهو هلال )
( ما عابه النقصان إلا أنه ** بلغ الكمال كذلك الآجال )
فأجاز الشاعر وأحسن إليه ورثاه بعضهم فقال
( أبا البركات لو درت المنايا ** بأنك فرد عصرك لم تصبكا )
( كفى الإسلام رزءا فقد شخص ** عليه بأمين الثقلين يبكي )
انتهى وفيها ضياء الدين بن الأثير الصاحب العلامة أبو الفتح نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري الكاتب

البليغ صاحب المثل الساير انتهت إليه كتابة الإنشاء والترسل ومن جملة محفوظاته شعر أبي تمام والبحتري والمتنبي وزر بدمشق للملك الأفضل فأساء وظلم ثم هرب ثم كان معه بسميساط سنوات ثم خدم الظاهر صاحب حلب فلم يقبل عليه فتحول إلى الموصل وكتب الإنشاء لصاحبها محمود بن عز الدين مسعود ولاتابكه لولو وذهب رسولا في آخر أيامه إلى الخليفة فمات ببغداد في ربيع الآخر وكان بينه وبين أخيه عز الدين مقاطعة كلية قاله في العبر قلت ومن شعره
( ثلاث تعطي الفرح ** كأس وكوز وقدح )
( ما ذبح الذق لها ** إلا وللهم ذبح )
وقال ابن خلكان ولما كملت له الأدوات قصد جناب الملك الناصر صلاح الدين وكان يومئذ شابا فاستوزره ولده الملك الأفضل نور الدين علي وحسنت حاله عنده ولما توفي صلاح الدين واستقل ولده الأفضل بمملكة دمشق استقل ضياء الدين بالوزارة وردت إليه أمور الناس وصار الإعتماد في جميع الأحوال عليه ولما أخذت دمشق من الملك الأفضل وانتقل إلى صرخد وكان ضياء الدين قد أساء العشرة على أهلها فهموا بقتله فأخرجه الحاجب محاسن بن عجم في صندوق ولما استقر الأفضل في سميساط عاد إلى خدمته وأقام عنده مدة ثم فارقه واتصل بخدمة أخيه الملك الظاهر صاحب حلب فلم يطل مقامه عنده فخرج مغاضبا وعاد إلى الموصل فلم يستقر حاله فورد أربل فلم يستقم حاله فسافر إلى سنجار ثم عاد إلى الموصل واتخذها دار إقامته ولقد ترددت إلى الموصل من أربل أكثر من عشر مرات وهو مقيم بها وكنت أود الاجتماع به لآخذ عنه شيئا لما كان بينه وبين الوالد من المودة إلا كيدة فلم يتفق ذلك ولضياء الدين من التصانيف الدالة على غزارة فضله وتحقيق نبله كتابه الذي سماه المثل الساير في أدب الكاتب والشاعر وهو في مجلدين جمع فيه فأوعى

ولم يترك شيئا يتعلق بفن الكتابة إلا ذكره ولما فرغ من تصينفه كتبه الناس عنه ومحاسنه كثيرة وكانت ولادته بجزيرة ابن عمر انتهى ملخصا وقال ابن الأهدل كان هو وأخواه أبو السعادات وعز الدين كلهم نجباء رؤساء لكل منهم تصانيف وتوفي في ربيع الآخر وفيها أبو محمد عبد العزيز بن بركات بن إبراهيم الخشوعي الدمشقي إمام الربوة روى عن أبيه وأبي القسم ابن عساكر وتوفي في ثامن ربيع الآخر وفيها أبو الحسن الحراني علي بن أحمد بن الحسن التجيبي المرسي كان عارفا متقنا للنحو والكلام والمنطق سكن حماة وله تفسير عجيب قاله في العبر
وفيها قستمر ومقدم العساكر جمال الدين الخليفتي الناصري توفي في ذي القعدة

سنة ثمان وثلاثين وستمائة

فيها سلم الملك الصالح إسمعيل قلعة الشقيف للفرنج لغرض في نفسه فمقته المسلمون وأنكر عليه ابن عبد السلام وأبو عمرو بن الحاجب فسجنهما وعزل ابن عبد السلام من خطابة دمشق قاله في العبر
وفيها توفي أبو علي أحمد بن محمد بن محمود بن المعز الحراني ثم البغدادي الصوفي روى عن ابن البطي وأحمد بن المقرب وجماعة وتوفي في المحرم
وفيها نجم الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن خلف بن راجح المقدسي الحنبلي ثم الشافعي صاحب التصانيف روى عن ابن صدقة الحراني وجماعة وسافر إلى همذان فلزم الركن الطاووسي حتى صار معيده ثم سافر إلى بخارا وبرع في علم الخلاف وطار اسمه وبعد صيته وكان يتوقد ذكاء ومن جملة محفوظاته الجمع بين الصحيحين وكان صاحب أوراد وتهجد توفي في خامس شوال وفيها جمال الملك أبو الحسن علي بن مختار بن نصر بن طعان

العامري المحلى ثم الأسكندراني المعروف بابن الحبل روى عن السلفي وغيره وتوفي في شعبان وفيها أبو بكر محي الدين محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطائي الأندلسي العارف الكبير ابن عربي ويقال ابن العربي قال الشعراوي في كتاب نسب الخرقة كان مجموع الفضائل مطبوع الكرم والشمائل قد فض له فضله ختام كل فن وبل له وبله رياض ما شرد من العلوم وعن نظمه عقود العقول وفصوص الفصول وحسبك بقول زروق وغيره من الفحول ذاكرين بعض فضله هو أعرف بكل فن من أهله وإذا أطلق الشيخ الأكبر في عرف القوم فهو المراد ولد بمرسية سنة ستين وخمسمائة ونشأبها وانتقل إلى أشبيلية سنة ثمان وسبعين ثم ارتحل وطاف البلدان فطرق بلاد الشام والروم والمشرق ودخل بغداد وحدث بها بشيء من مصنفاته وأخذ عنه بعض الحافظ كذا ذكره ابن النجار في الذيل وقال الشيخ عبد الرؤف المناوي في طبقات الأولياء له وقال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان وهو ممن كان يحط عليه ويسيء الاعتقاد فيه كان عارفا بالآثار والسنن قوي المشاركة في العلوم أخذ الحديث عن جمع وكان يكتب الإنشاء لبعض ملوك المغرب ثم تزهد وساح ودخل الحرمين والشام وله في كل بلد دخلها مآثر انتهى وقال بعضهم برز منفردا مؤثرا للتخلي والإنعزال عن الناس ما أمكنه حتى أنه لم يكن يجتمع به إلا الأفراد ثم آثر التآليف فبرزت عنه مؤلفات لا نهاية لها تدل على سعة باعه وتبحره في العلوم الظاهرة والباطنة وأنه بلغ مبلغ الإجتهاد في الإختراع والإستنباط وتأسيس القواعد والمقاصد التي لا يدريها ولا يحيط بها إلا من طالعها بحقها غير أنه وقع له في بعض تضاعيف تلك الكتب كلمات كثيرة أشكلت ظواهرها وكانت سببا لأعراض كثيرين لم يحسنوا الظن به ولم يقولوا كما قال غيرهم من الجهابذة المحققين والعلماء العاملين والأئمة الوارثين أن ما أوهمته تلك الظواهر ليس هو المراد وإنما

المراد أمور اصطلح عليه متأخروا أهل الطريق غيرة عليها حتى لا يدعيها الكذابون فاصطلحوا على الكناية عنها بتلك الألفاظ الموهمة خلاف المراد غير مبالين بذلك لأنه لا يمكن التعبير عنها بغيرها قال المناوي وقد تفرق الناس في شأنه شيعا وسلكوا في أمره طرائق قددا فذهبت طائفة إلى أنه زنديق لا صديق وقال قوم أنه واسطة عقد الأولياء ورئيس الأصفياء وصار آخرون إلى اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه أقول منهم الشيخ جلال الدين السيوطي قال في مصنفه تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي والقول الفيصل في ابن العربي اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه فقد نقل عنه هو أنه قال نحن قوم يحرم النظر في كتبنا قال السيوطي وذلك لأن الصوفية تواضعوا على ألفاظ اصطلحوا عليها وأرادوا بها معان غير المعاني المتعارفة منها فمن حمل ألفاظهم على معانيها المتعارفة بين أهل العلم الظاهر كفر نص على ذلك الغزالي في بعض كتبه وقال أنه شبيه بالمتشابه من القرآن والسنة من حمله على ظاهره كفر وقال السيوطي أيضا في الكتاب المذكور وقد سأل بعض أكابر العلماء بعض الصوفية في عصره ما حملكم على أن اصطلحتم على هذه الألفاظ التي يستشنع ظاهرها فقال غيرة على طريقنا هذا أن يدعيه من لا يحسنه ويدخل فيه من ليس من أهله إلى أن قال وليس من طريق القوم إقراء المريدين كتب التصوف ولا يؤخذ هذا العلم من الكتب وما أحسن قول بعض العلماء لرجل قد سأله أن يقرأ عليه تائية ابن الفارض فقال له دع عنك هذا من جاع جوع القوم وسهر سهرهم رأى ما رأوا ثم قال في آخر هذا التصنيف أن الشيخ برهان الدين البقاعي قال في معجمه حكى لي الشيخ تقي الدين أبو بكر بن أبي الوفا المقدسي الشافعي قال وهو أمثل الصوفية في زماننا قال كان بعض الأصدقاء يشير علي بقراءة كتب ابن عربي وبعض يمنع من ذلك فاستشرت الشيخ يوسف الإمام الصفدي في ذلك فقال اعلم يا ولدي وفقك الله إن هذا العلم المنسوب إلى

ابن عربي ليس بمخترع له وإنما هو كان ماهرا فيه وقد ادعى أهله أنه لا تمكن معرفته إلا بالكشف فإذا فهم المريد مرماهم فلا فائدة في تفسيره لأنه إن كان المقرر والمقرر له مطلعين على ذلك فالتقرير تحصيل الحاصل وإن كان المطلع أحدهما فتقريره لا ينفع الآخر وإلا فهما يخبطان خبط عشواء فسييل العارف عدم البحث عن هذا العلم وعليه السلوك فيما يوصل إلى الكشوف عن الحقائق ومتى كشف له عن شيء علمه ثم قال استشرت الشيخ زين الدين الخافي بعد أن ذكرت له كلام الشيخ يوسف فقال كلام الشيخ يوسف حسن وأزيدك أن العبد إذا تخلق ثم تحقق ثم جذب اضمحلت ذاته وذهبت صفاته وتخلص من السوى فعند ذلك تلوح له بروق الحق بالحق فيطلع على كل شيء ويرى الله عند كل شيء فيغيب بالله عن كل شيء ولا شيئا سواه فيظن أن الله عين كل شيء وهذا أول المقامات فإذا ترقى عن هذا المقام وأشرف على مقام أعلى منه وعضده التأييد الآلهي رأى أن الأشياء كلها فيض وجوده تعالى لاعين وجوده فالناطق حينئذ بما ظنه في أول مقام أما محروم ساقط وأما نادم تائب وربك يفعل ما يشاء انتهى ولقد بالغ ابن المقري في روضته فحكم بكفر من شك في كفر طائفة ابن عربي فحكمه على طائفته بذلك دونه يشير إلى أنه إنما قصد التنفير عن كتبه وإن من لم يفهم كلامه ربما وقع في الكفر باعتقاده خلاف المراد إذ للقوم اصطلاحات أرادوا بها معاني غير المعاني المتعارفة فمن حمل ألفاظهم على معانيها المتعارفة بين أهل العلم الظاهر ربما كفر كما قاله الغزالي ثم قال المناوي وعول جمع على الوقف والتسليم قائلين الاعتقاد صبغة والانتقاد حرمان وأمام هذه الطائفة شيخ الإسلام النووي فإنه استفتى فيه فكتب { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } الآية وتبعه على ذلك كثيرون سالكين سبيل السلامة وقد حكى العارف زروق عن شيخه النوري أنه سئل عنه فقال اختلف فيه من الكفر

إلى القطبانية والتسليم واجب ومن لم يذق ما ذاقه القوم ويجاهد مجاهداتهم لا يسعه من الله الإنكار عليهم انتهى وأقول وممن صرح بذلك من المتأخرين الشيخ أحمد المقري المغربي قال في كتابه زهر الرياض في أخبار عياض والذي عند كثير من الأخيار في أهل هذه الطريقة التسليم ففيه السلامة وهي أحوط من إرسال العنان وقول يعود على صاحبه بالملامة وما وقع لابن حجر وأبي حيان في تفسيره من إطلاق اللسان في هذا الصديق وأنظاره فذلك من غلس الشيطان والذي أعتقده ولا يصح غيره أن الإمام ابن عربي ولي صالح وعالم ناصح وإنما فوق إليه سهام الملامة من لم يفهم كلامه على أنه دست في كتبه مقالات قدره يجل عنها وقد تعرض من المتأخرين ولي الله الرباني سيدي عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله به لتفسير كلام الشيخ على وجه يليق وذكر من البراهين على ولايته ما يثلج صدور أهل التحقيق فليطالع ذلك من أراده والله ولي التوفيق انتهى كلام المقري ثم قال المناوي وفريق قصد بالإنكار عليه وعلى أتباعه الانتصار لحظ نفسه لكونه وجد قرينه وعصريه يعتقده وينتصر له فحملته حمية الجاهلية على معاكسته فبالغ في خذلانه وخذلان اتباعه ومعتقديه وقد شوهد عود الخذلان والخمول على هذا الفريق وعدم الانتفاع بعلومهم وتصانيفهم على حسنها قال وممن كان يعتقده سلطان العلماء ابن عبد السلام فإنه سئل عنه أولا فقال شيخ سوء كذاب لا يحرم فرجا ثم وصفه بعد ذلك بالولاية بل بالقطبانية وتكرر ذلك منه وحكى عن اليافعي أنه كان يطعن فيه ويقول هو زنديق فقال له بعض أصحابه يوما أريد أن تريني القطب فقيل هو هذا فقيل له فأنت تطعن فيه فقال أصون ظاهر الشرع ووصفه في إرشاده بالمعرفة والتحقيق فقال اجتمع الشيخان الإمامان العارفان المحققان الربانيان السهروردي وابن عربي فأطرق كل منهما ساعة ثم افترقا من غير كلام فقيل لابن عربي ما تقول في السهروردي فقال مملوء سنة من فرقه إلى قدمه وقيل

للسهروردي ما تقول فيه قال بحر الحقائق ثم قال المناوي وأقوى ما احتج به المنكرون أنه لا يأول إلا كلام المعصوم ويرده قول النووي في بستان العارفين بعد نقله عن أبي الخير التبياني واقعة ظاهرها الإنكار قد يتوهم من يتشبه بالفقهاء ولا فقه عنده أن ينكر هذا وهذا جهالة وغباوة ومن يتوهم ذلك فهو جسارة منه على إرسال الظنون في أولياء الرحمن فليحذر العاقل من التعرض لشيء من ذلك بل حقه إذا لم يفهم حكمهم المستفادة ولطائفهم المستجادة أن يتفهمها ممن يعرفها وربما رأيت من هذا النوع مما يتوهم فيه من لا تحقيق عنده أنه مخالف ليس مخالفا بل يجب تأويل أفعال أولياء الله إلى هنا كلامه وإذا وجب تأويل أفعالهم وجب تأويل أقوالهم إذ لا فرق وكان المجد صاحب القاموس عظيم الاعتقاد في ابن عربي ويحمل كلامه على المحامل الحسنة وطرز شرحه للبخاري بكثير من كلامه انتهى وأقول ومما يشهد بذلك ما أجاب به على سؤال رفع إليه لفظه ما تقول العلماء شد الله بهم أزر الدين وألم بهم شعث المسلمين في الشيخ محي الدين بن العربي وفي كتبه المنسوبة إليه كالفتوحات والفصوص وغيرهما هل تحل قراءتها وإقراؤها للناس أم لا أفتونا مأجورين فأجاب رحمه الله رحمة واسعة اللهم أنطقنا بما فيه رضاك الذي أقوله في حال المسئول عنه وأعتقده وأدين الله سبحانه وتعالى به أنه كان شيخ الطريقة حالا وعلما وأمام الحقيقة حدا ورسما ومحيى رسوم المعارف فعلا واسما إذا تغلغل فكر المرء في طرف من بحره غرقت فيه خواطره في عباب لا تدركه الدلاء وسحاب تتقاصر عنه الأنواء وأما دعواته فإنها تخرق السبع الطباق وتفترق بركاته فتملأ الآفاق وأني أصفه وهو يقينا فوق ما وصفته وغالب ظني أني ما أنصفته
( وما على إذا ما قلت معتقدي ** دع الجهول يظن الجهل عدوانا )
( والله تالله بالله العظيم ومن ** أقامه حجة لله برهانا )


( إن الذي قلت بعض من مناقبه ** مازدت إلا لعلي زدت نقصانا )
وأما كتبه فإنها البحار الزواخر جواهرها لا يعرف لها أول من آخر ما وضع الواضعون مثلها وإنما خص الله بمعرفتها أهلها فمن خواص كتبه أنه من لازم مطالعتها والنظر فيها انحل فهمه لحل المشكلات وفهم المعضلات وهذا ما وصلت إليه طاقتي في مدحه والحمد لله رب العالمين وكذلك أجاب ابن كمال باشا بما صورته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لمن جعل من عباده العلماء المصلحين وورثة الأنبياء والمرسلين والصلاة والسلام على محمد المبعوث لإصلاح الضالين والمضلين وآله وأصحابه المجدين لإجراء الشرع المبين وبعد أيها الناس اعلموا أن الشيخ الأعظم المقتدى الأكرم قطب العارفين وإمام الموحدين محمد بن علي بن العربي الطائي الأندلسي مجتهد كامل ومرشد فاضل له مناقب عجيبة وخوارق غريبة وتلامذة كثيرة مقبولة عند العلماء والفضلاء فمن أنكره فقد أخطأ وإن أصر في إنكاره فقد ضل يجب على السلطان تأديبه وعن هذا الاعتقاد تحويله إذ السلطان مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وله مصنفات كثيرة منها فصوص حكمية وفتوحات مكية وبعض مسائلها معلوم اللفظ والمعنى وموافق للأمر الآلهي والشرع النبوي وبعضها خفي عن إدراك أهل الظاهر دون أهل الكشف والباطن فمن لم يطلع على المعنى المرام يجب عليه السكوت في هذا المقام لقوله تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } والله الهادي إلى سبيل الصواب وإليه المرجع والمآب انتهى وكلا الجوابين مكتوب في ضريح المترجم فوق رأسه والله أعلم ثم قال المناوي وأخبر الشعراوي عن بعض إخوانه أنه شاهد رجلا أتى ليلا بنار ليحرق تابوته فخسف به وغاب بالأرض فأحس أهله فحفروا فوجدوا رأسه فكلما حفروا نزل في الأرض فعجزوا وأهالوا عليه التراب قال ومن تأمل سيرة ابن عرابي وأخلاقه الحسنة وانسلاخه من حظوظ نفسه وترك العصبية

حمله ذلك على محبته واعتقاده ومما وقع له أن رجلا من دمشق فرض على نفسه أن يلعنه كل يوم عشر مرات فمات وحضر ابن عربي جنازته ثم رجع فجلس ببيته وتوجه للقبلة فلما جاء وقت الغداء أحضر إليه فلم يأكل ولم يزل على حاله إلى بعد العشاء فالتفت مسرورا وطلب العشاء وأكل فقيل له في ذلك فقال التزمت مع الله أني لا آكل ولا أشرب حتى يغفر لهذا الذي يلعنني وذكرت له سبعين ألف لا إله إلا الله فغفر له وقد أوذي الشيخ كثيرا في حياته وبعد مماته بما لم يقع نظيره لغيره وقد أخبر هو عن نفسه بذلك وذلك من غرر كراماته فقد قال في الفتوحات كنت نائما في مقام إبراهيم وإذا بقائل من الأرواح أرواح الملأ الأعلى يقول لي عن الله أدخل مقام إبراهيم أنه كان أواها حليما فعلمت أنه لا بد أن يبتليني بكلام في عرضي من قوم فأعاملهم بالحلم قال ويكون أذى كثيرا فإنه جاء بحليم بصيغة المبالغة ثم وصفه بالأواه وهو من يكثر منه التأوه لما يشاهد من جلال الله انتهى وقال الصفي بن أبي منصور جمع بن عربي بين العلوم الكسبية والعلوم الوهبية وكان غلب عليه التوحيد علما وخلقا وخلقا لا يكترث بالوجود مقبلا كان أو معرضا وقال تلميذه الصدر القونوي الرومي كان شيخنا ابن عربي متمكنا من الاجتماع بروح من شاء من الأنبياء والأولياء الماضين على ثلاثة أنحاء إن شاء الله استنزل روحانيته في هذا العالم وأدركه متجسدا في صورة مثالية شبيهة بصورته الحسية العصرية التي كانت له في حياته الدنيا وإن شاء الله أحضره في نومه وإن شاء انسلخ عن هيكله واجتمع به وهو أكثر القوم كلاما في الطريق فمن ذلك ما قال ما ظهر على العبد إلا ما استقر في باطنه فما أثر فيه سواه فمن فهم هذه الحكمة وجعلها مشهودة أراح نفسه من التعلق بغيره وعلم أنه لا يؤتي عليه بخير ولا شر إلا منه وأقام العذر لكل موجود وقال إذا ترادفت عليك الغفلات وكثرة النوم فلا تسخط ولا تلتفت لذلك فإن من نظر الأسباب مع الحق أشرك كن مع

الله بما يريد لا مع نفسك بما تريد لكن لا بد من الإستغفار وقال علامة الراسخ أن يزداد تمكنا عند سلبه لأنه مع الحق بما أحب فمن وجد اللذة في حال المعرفة دون السلب فهو مع نفسه غيبة وحضورا وقال من صدق في شيء وتعلقت همته بحصوله كان له عاجلا أو آجلا فإن لم يصل إليه في الدينا فهو له في الآخرة ومن مات قبل الفتح رفع إلى محل همته وقال العارف يعرف ببصره ما يعرفه غيره ببصيرته ويعرف ببصيرته ما لا يدركه أحد إلا نادرا ومع ذلك فلا يأمن على نفسه من نفسه فكيف يأمن على نفسه من مقدور ربه وهذا مما قطع الظهور سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وقال لا ينقص العارف قوله لتلميذه خذ هذا العلم الذي لا تجده عند غيري ونحوه مما فيه تزكية نفسه لأن قصده حث المتعلم على القبول وقال كلام العارف على صورة السامع بحسب قوة استعداده وضعفه وشبهته القائمة بباطنه وقال كل من ثقل عليك الجواب عن كلامه فلا تجبه فإن وعاءه ملآن لا يسع الجواب وقال من صح له قدم في التوحيد انتفت عنه الدعاوي من نحو رياء وإعجاب فإنه يجد جميع الصفات المحمودة لله لا له والعبد لا يعجب بعمل غيره ولا بمتاع غيره وقال من ملكته نفسه عذب بنار التدبير ومن ملكه الله عذب بنار الاختبار ومن عجز عن العجز أذاقه الله حلاوة الإيمان ولم يبق عنده حجاب وقال من أدرك من نفسه التغير والتبديل في كل نفس فهو العالم بقوله تعالى { كل يوم هو في شأن } وقال من طلب دليلا على وحدانية الله تعالى كان الحمار أعرف بالله منه وقال الجاهل لا يرى جهله لأنه في ظلمته والعالم لا يجري علمه لأنه في ضياء نوره ولا يدري شيء إلا بغيره فالمرآة تخبرك بعيوب صورتك وتصدقها مع جهلك بما أخبرت به والعالم يخبرك بعيوب نفسك مع علمك بما أخبرك به وتكذبه فماذا بعد الحق إلا الضلال وقال حسن الأدب في الظاهر آية حسنه في الباطن فإياك وسوء

الظن والسلام وقال معنى الفتح عندهم كشف حجاب النفس أو القلب أو الروح أو السر لما في الكتاب والسنة وقال وربما فهم أحدهم من اللفظ ضد ما قصده المتكلم سمع بعض علماء بغداد رجلا من شربة الخمر ينشد
( إذا العشرون من شعبان ولت ** فواصل شرب ليلك بالنهار )
( ولا تشرب بأقداح صغار ** فإن الوقت ضاق على الصغار )
فهام على وجهه في البرية حتى مات وقال كثيرا ما تهب في قلوب العارفين نفحات الهيبة فإن نطقوا بها جهلهم كمل العارفين وردها عليهم أصحاب الأدلة من أهل الظاهر وغاب عن هؤلاء أنه تعالى كما أعطى أولياءه الكرامات التي هي فرع المعجزات فلا بدع أن تنطق ألسنتهم بعبارات تعجز العلماء عن فهمها وقال من لم يقم بقلبه تصديق ما يسمعه من كلام القوم فلا يجالسهم فإن مجالستهم بغير تصديق سم قاتل وقال شدة القرب حجاب كما أن غاية البعد حجاب وإن كان الحق أقرب إلينا من حبل الوريد فأين السبعون ألف حجاب وقال لا تدخل الشبهة في المعارف والأسرار الربانية وإنما محلها العلوم النظرية وقال نهاية العارفين منقولة غير معقولة فما ثم عندهم إلا بداية وتنقضي أعمارهم وهم مع الله على أول قدم وقال كل من آمن بدليل فلا وثوق بإيمانه لأنه نظري فهو معرض للقوادح بخلاف الإيمان الضروري الذي يوجد في القلب ولا يمكن دفعه وكل علم حصل عن نظر وفكر لا يسلم من دخول الشبه عليه ولا الحيرة فيه وقال شرط الكامل الإحسان إلى أعدائه وهم لا يشعرون تخلقا بأخلاق الله فإنه دائم الاحسان إلى من سماهم أعداءه مع جهل الأعداء به وقال شرط الشيخ أن يكون عنده جميع ما يحتاجه المريد في التربية لا ظهور كرامة ولا كشف باطن المريد وقال الشفقة على الخلق أحق بالرعاية من الغيرة في الله لأن الغيرة لا أصل لها في الحقائق الثبوتية لأنها من الغيرية ولا غيرية هناك وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وجزاء سيئة سيئة مثلها فجعل القصاص

سيئة أي ان ذلك الفعل سيء مع كونه مشروعا وكل ذلك تعظيما لهذه النشأة التي تولى الحق خلقها بيده واستخلفها في الأرض وحرم على عباده السعي في إتلافها بغير إذنه وقال الصوفي من أسقط الياءات الثلاث فلا يقول لي ولا عندي ولا متاعي أي لا يضيف لنفسه شيئا وقال الدعاء مخ العبادة وبالمخ تكون القوة للأعضاء فلذا تتقوى به عبادة العابدين وقال تحفظ من لذات الأحوال فإنها سموم قاتلة وحجب مانعة وقال لا يغرنك إمهاله فإن بطشه شديد والشقي من اتعظ بنفسه لا يغرنك من خالف فجوزي بإحسان المعارف ووقف في أحسن المواقف وتجلت له المشاهد هذا كله مكر به واستدراج من حيث لا يعلم قل له إذا احتج عليك بنفسه
( سوف ترى إذا انجلى الغبار ** أفرس تحتك أم حمار )
وقال لا يصح لعبد مقام المعرفة بالله وهو يجهل حكما واحدا من شرائع الأنبياء فمن ادعى المعرفة واستشكل حكما واحدا في الشريعة المحمدية أو غيرها فهو كاذب وقال أجمعت الطائفة على أن العلم بالله عين الجهل به تعالى وقال إذ ذكر الله الذاكر ولم يخشع قلبه ولا خضع عند ذكره إياه لم يحترم الجناب الآلهي ولم يأت بما يليق به من التعظيم وأول ما تمقته جوارحه وجميع أجزاء بدنه وقال الأسماء الآلهية كلها التي عليها يتوقف وجود العالم أربعة لا غير الحي القادر المريد العالم وبهذه الأسماء ثبت كونه إلها وقال أخبرني من أثق به قال دخلت على رجل فقيه عالم متكلم فوجدته بمجلس فيه الخمر وهو يشرب ففرغ النبيذ فقيل له أنفذ إلى فلان يأتي بنبيذ فقال لا فإني ما أصررت على معصية قط ولي بين الكأسين توبة ولا أنتظره فإذا حصل بيدي أنظر هل يوفقني ربي فأتركه أو يخذلني فأشربه ثم قال أعني ابن عربي فهكذا العلماء انتهى كلام المناوي ملخصا وأقول ومن كلامه أيضا
( ما نال من جعل الشريعة جانبا ** شيئا ولو بلغ السماء مناره )


ومن شعره الرائق قوله
( حقيقتي همت بها ** وما رآها بصري )
( ولو رآها لغدا ** قتيل ذاك الحور )
( فعندما أبصرتها ** صرت بحكم النظر )
( فبت مسحورا بها ** أهيم حتى السحر )
( يا حذري من حذري ** لو كان يغني حذري )
( والله ما هيمني ** جمال ذاك الخفر )
( يا حسنها من ظبية ** ترعى بذات الخمر )
( إذا رنت أو عطفت ** تسبي عقول البشر )
( كأنما أنفاسها ** أعراف مسك عطر )
( كأنها شمس الضحى ** في النور أو كالقمر )
( إن سفرت أبرزها ** نور صباح مسفر )
( أو سدلت غيبها ** ظلام ذاك الشعر )
( يا قمر تحت دجى ** خذي فؤادي أو ذري )
( عسى لكي أبصركم ** إذ كان حظي نظري )
وكان يقول أعرف الاسم الأعظم وأعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب وكان مجتهدا مطلقا بلا ريب قال في رائيته
( لقد حرم الرحمن تقليد مالك ** وأحمد والنعمان والكل فاعذروا )
وقال أيضا في نونيته
( لست ممن يقول قال ابن حزم ** لا ولا أحمد ولا النعمان )
وهذا صريح بالاجتهاد المطلق كيف لا وقد قال عرضت أحاديثه صلى الله عليه وسلم جميعها عليه فكان يقول عن أحاديث صحت من جهة الصناعة ما قلتها وعن أحاديث ضعفت من جهتها قلتها وإذا لم يكن مجتهدا فليس لله مجتهد

إن لم تريه فهذه آثاره هذا وما نقم عليه أحد فيما أعلم بغير ما فهمه من كلامه من الحلول أو الاتحاد وما تفرع عليهما من كفر أو إلحاد وساحته النزهة منهما وشأوه أبعد شأو عنهما وكلامه بنفسه يشهد بهذا خلى افتراك فذاك خلى لاذا قال في فتوحاته المكية التي هي قرة عين السادة الصوفية في الباب الثاني والتسعين ومائتين من أعظم دليل على نفي الحلول والاتحاد الذي يتوهمه بعضهم أن تعلم عقلا أن القمر ليس فيه من نور الشمس شيء وأن الشمس ما انتقلت إليه بذاتها وإنما كان القمر محلالها فلذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حل فيه وقال أيضا فيها في الباب الثامن والسبعين كما نقله عنه الشعراني في كتابه اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر أن الله تعالى لم يوجد العالم لافتقاره إليه وإنما الأسباب في حال عدمها الامكاني لها طلبت وجودها ممن هي مفتقرة إليه بالذات وهو الله تعالى لا تعرف غيره فلما طلبت بفقرها الذاتي من الله تعالى أن يوجدها قبل الحق سؤالها لا من حاجة قامت به إليها لأنها كانت مشهودة له تعالى في حال عدمها النسبي كما هي مشهودة له في حال وجودها سواء فهو يدركها سبحانه على ما هي عليه في حقائقها حال وجودها وعدمها بإدراك واحد فلهذا لم يكن إيجاده للأشياء عن فقر بخلاف العبد فإن الحق تعالى لو أعطاه جزء كن وأراد إيجاد شيء لا يوجده إلا عن فقر إليه وحاجة فما طلب العبد إلا ما ليس عنده فقد افترق إيجاد العبد عن إيجاد الحق تعالى قال وهذه مسئلة لو ذهبت عينك جزاء لتحصيلها لكان قليلا في حقها فإنها مزلة قدم زل فيها كثير من أهل الله تعالى والتحقوا فيها بمن ذمهم الله تعالى في قوله { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } انتهى فإن قلت قد نقل بعضهم عن الشيخ أنه كان ينشد
( الكل مفتقر ما الكل مستغني ** هذا هو الحق قد قلنا ولا نكنى )

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21