كتاب : معجم الأدباء
المؤلف : ياقوت الحموي

الجزء الأول
خطبة الكتاب
الفصل الأول
في فضل الأدب وأهله، وذم الجهل وحمله
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كفى بالعلم شرفاً أنه يدعيه من لا يحسنه ويفرح إذا نسب إليه من ليس من أهله، وكفى بالجهل خمولاً، أنه يتبرأ منه من هو فيه ويغضب إذا نسب إليه.
فنظم بعض المحدثين ذلك، فقال:
كفَى شَرَفاً لِلْعِلْمِ دَعْوَاهُ جَاهِلٌ ... وَيَفْرَحُ أَنْ يُدْعَى إِلْيهِ وَيُنْسَبُ
وَيَكْفِي خُمُولاً بِالْجَهالَةِ أَنَّنِي ... أُرَاعُ مَتَى أُنْسَبْ إلَيْهَا وَأَغْضَبُ
وقال رضي الله عنه: قيمة كل إنسان ما يحسن، فنظمه شاعر وقال:
لاَ يَكُونُ الْفَصِيحُ مِثْلَ الْعَيَيِّ ... لاَ وَلاَ ذُو الذَّكَاءِ مِثْلَ الْغَبِيِّ
قِيمَةُ الْمَرْءِ قَدْرُ مَا يُحْسِنُ الْمَرْ ... ءُ قَضَاءٌ مِنَ الإمَامِ عَليِّ
وقال كرم الله وجهه: كل شيء يعز إذا نزر، ما خلا العلم، فإنه يعز إذا غزر.
ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قوم يسيئون الرمي، فقرعهم، فقالوا: إنا قوم " متعلمين " ، فأعرض مغضباً، وقال: والله لخطؤكم في لسانكم، أشد علي من خطئكم في رميكم.
سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " رحم الله امرأ أصلح من لسانه " .
وروي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قرأ: " ونادوا يا مال ليقض علينا ربك أنكر عليه ابن عباس. فقال علي: هذا من الترخيم في النداء فقال. ابن عباس: ما أشغل أهل النار في النار عن الترخيم في النداء؟ فقال علي: صدقت.
فهذا يدل على تحقق الصحابة من النحو، وعلمهم به.
استأذن رجل على إبراهيم النخعي فقال: " أبا " عمران في الدار، فلم يجبه. فقال: أبي عمران في الدار، فناداه: قل الثالثة وادخل.
وكان الحسن بن أبي الحسن يعثر لسانه بشيء من اللحن فيقول: استغفر الله. فقيل له فيه: فقال: من أخطأ فيها فقد كذب على العرب، ومن كذب فقد عمل سوءاً، وقال الله تعالى: " ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً " .
وذكر أبو حيان في كتاب محاضرات العلماء: حدثنا القاضي أبو حامد أحمد بن بشر قال: كان الفراء يوماً عند محمد ابن الحسن، فتذاكرا في الفقه والنحو، ففضل الفراء النحو على الفقه، وفضل محمد بن الحسن الفقه على النحو، حتى قال الفراء: قل رجل أنعم النظر في العربية، وأراد علماً غيره، إلا سهل عليه، فقال محمد بن الحسن: يا أبا زكريا، قد أنعمت النظر في العربية، وأسألك عن باب من الفقه. فقال: هات على بركة الله تعالى، فقال له: ما تقول في رجل صلى فسها في صلاته، وسجد سجدتي السهو، فسها فيهما، فتفكر الفراء ساعة، ثم قال: لا شيء عليه. فقال له محمد: لِمَ؟ قال: لأن التصغير عندنا ليس له تصغير، وإنما سجدتا السهو تمام الصلاة، وليس للتمام تمام. فقال محمد بن الحسن: ما ظننت أن آدمياً يلد مثلك.
وحكي عن بعض الفقهاء أنه كان يقول: حب من الناس حب من الله، وما صلح دين إلا بحياء، ولا حياء إلا بعقل، وما صلح حياء، ولا دين، ولا عقل، إلا بأدب.
وأنشد أبو الفضل الرياشي:
طَلَبْتُ يَوْماً مَثَلاً سَائِراً ... فَكُنْتُ فِي الشِّعْرِ لَهُ نَاظِمَا
لاَ خَيْرَ فِي الْمَرْءِ إذَا مَا غَدَا ... لا طالب العلم ولا عالما
وفي الخبر: " ارحموا ثلاثة، عزيز قوم ذل. وغني قوم افتقر، وعالماً يلعب الجهال بعلمه " .
فنظمه شاعر فقال:
إنِّي مِنَ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ حَقْهُمْ ... أَنْ يُرْحَمُوا لِحَوَادِثِ الأَزْمَانِ
مثرٍ أقل وعالم مستجهل، وعزيز قوم ذل للحدثان.
ويقال: فقدان الأديب الطبع، كفقدان ذي النجدة السلاح، ولا محصول لأحدهما دون الآخر. وقال:
نِعْمَ عَوْنُ الْفَتَى إِذَا طَلَبَ الْعِلْ ... مَ وَرَامَ الآدَابَ صِحَّةُ طَبْعِ
فَإذا الطَّبْعُ فَاتَهُ بَطَلَ السَّعْ ... يُ وَصَارَ الْعَنَاءُ فِي غَيْرِ نَفْعٍ
ومما يقارب ذلك قول بعضهم:
مَنْ كَانَ ذَا عَقْلٍ وَلَمْ يَكُ ذَا غِنىً ... يَكُونُ كَذِي رِجْلٍ وَلَيْسَ لَهُ نَعْلُ

وَمَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَلَمْ يَكُ ذَا حِجىًيَكُونُ كَذِي نَعْلٍ وَلَيْسَ لَهُ رِجْلُ
وقال آخر:
أَرَى الْعِلْمَ نُوراً وَالتَّأَدُّبَ حِلْيَةًفَخُذْ مِنْهُمَا فِي رَغْبَةٍ بِنَصِيبِ
وَلَيْسَ يَتِمُّ الْعِلْمُ فِي النَّاسِ لِلْفَتَىإذَا لَمْ يَكُنْ فِي عِلْمِهِ بِأَدِيبِ
وأنشد أبو حاتم سهل بن يحيى السجستاني:
إِنَّ الْجَوَاهِرَ دُرَّهَا وَنُضَارَهَا ... هُنَّ الْفِدَاءُ لِجَوْهَرِ الآدَابِ
فَإِذَا اكْتَنَزْتَ أَوِ ادَّخَرْتَ ذَخِيرَةً ... تَسْمُو بِزِينَتِهَا عَلَى الأَصْحَابِ
فَعَلَيْكَ بِالأَدَبِ الْمُزَيِّنِ أَهْلَهُ ... كَيْمَا تَفُوزَ بِبَهْجَةٍ وَثَوَابِ
فَلَرُبَّ ذِي مَالٍ تَرَاهُ مُبَعَّداً ... كَالْكَلْبِ يَنْبَحُ مِن وَرَاءِ حِجَابِ
وَتَرَى الأَدِيبَ وَإِنْ دَهَتْهُ خَصَاصَةٌ ... لاَ يُسْتَخَفُّ بِهِ لَدَى الأَتْرَابِ
وَقَالَ آخَرُ:
مَا وَهَبَ اللهُ لامْرِئ هِبَةً ... أَحْسَنَ مِنْ عَقْلِهِ وَمِنْ أَدَبِهْ
هُمَا جَمَالُ الْفَتَى فَإنْ فُقِدَا ... فَفَقْدُهُ لِلْحَيَاةِ أَجْمَلُ بِهْ
وحدث أبو صالح الهروي قال: كان عبد الله بن المبارك يقول: أنفقت في الحديث أربعين ألفاً، وفي الأدب ستين ألفاً، وليت ما أنفقته في الحديث أنفقته في الأدب، قيل له: كيف؟ قال: لأن النصارى كفروا بتشديدة واحدة خففوها، قال تعالى: يا عيسى إني ولَّدتك من عذراء بتول. فقالت النصارى: ولدتك.
شاعر:
ولَمْ أَرَ عَقْلاً صَحَّ إلاَّ بِشيمَةٍ ... وَلَمْ أَرَ عِلْماً صَحَّ إلاَّ عَلَى أَدَبْ
وقال آخر:
لِكُلِّ شَيْءٍ حَسَنٍ زِينَةٌ ... وَزِينَةُ الْعَالِمِ حُسْنُ الأَدَبْ
قَدْ يَشْرُفُ الْمَرءُ بِآدَابِهِ ... فِينَا وَإِنْ كَانَ وَضِيعَ النَّسَبْ
وقال آخر:
مَنْ كَانَ مُفْتَخِراً بِالْمَالِ وَالنَّسَبِفَإِنَّمَا فَخْرُنَا بِالْعِلْمِ وَالأَدَبِ
لاَ خَيْرَ فِي رَجُلٍ حُرٍّ بِلاَ أدَبٍلاَ، لاَ، وَإِنْ كَانَ مَنْسُوباً إلَى العَرَبِ
قالوا: والفرق بين الأديب والعالم، أن الأديب من يأخذ من كل شيء أحسنه فيألفه. والعالم من يقصد بفن من العلم فيعتمله. ولذلك قال علي كرم الله وجهه: العلم أكثر من أن يحصى، فخذوا من كل شيء أحسنه. شاعر:
ذَخَائِرُ الْمَالِ لاَ تَبْقَى عَلَى أَحَدٍوَالْعِلْمُ تَذْخَرُهُ يَبْقَى عَلَى الأَبَدِ
وَالْمَرْءُ يَبْلُغُ بِالآدَابِ مَنْزِلَةًيَذِلُّ فِيهَا لَهُ ذُو الْمَالِ وَالْعُقَدِ
وحدث سفيان قال: سمعت الخليل بن أحمد يقول: إذا أردت أن تعلم العلم لنفسك، فاجمع من كل شيء شيئاً، وإذا أردت أن تكون رأساً في العلم، فعليك بطريق واحد، ولذلك قال الشعبي: ما غلبني إلا ذو فن.
شاعر:
لاَ فَقْرَ أَكْبَرُ مِنْ فَقْرٍ بِلاَ أَدَبٍلَيْسَ الْيَسَارُ بِجَمْعِ الْمَالِ وَالنَّشَبِ
مَا الْمَالُ إلاَّ جُزَازَاتٌ مُلَفَّقَةٌ ... فِيهَا عُيُونٌ مِنَ الأَشْعَارِ وَالْخُطَبِ
ويقال: من أراد السيادة، فعليه بأربع: العلم، والأدب، والعفة، والأمانة.
شاعر:
كمْ مِنْ خَسِيسٍ وَضِيعِ الْقَدْرِ لَيْسَ لَهُفِي الْعِزِّ أَصْلٌ وَلاَ يُنْمَى إلى حَسَبِ
قد صار بالأدب المحمود ذا شرف ... عال وذا حسب محض وذا نسب
وقال بزرجمهر: من كثر أدبه كثر شرفه وإن كان وضيعاً، وبعد صوته وإن كان خاملاً، وساد وإن كان غريباً، وكثرت الحاجة إليه وإن كان فقيراً.
ويقال: عليكم بالأدب، فإنه صاحب في السفر، ومؤنس في الحضر، وجليس في الوحدة، وجمال في المحافل، وسبب إلى طلب الحاجة.
ويقال: مروءتان ظاهرتان: الفصاحة والرياش.
وكلم شبيب بن شيبة رجلاً من قريش، فلم يحمد أدبه، فقال له يا ابن أخي: الأدب الصالح خير لك من الشرف المضاعف، وقال:
وكم من ماجد أضحى عديماً ... له حسن، وليس له بيان
وما حسن الرجال لهم بزين ... إذا لم يسعد الحسن اللسان

وقال أبو نواس: ما استكثر أحد من شيء إلا مله وثقل عليه، إلا الأدب، فإنه كلما استكثر منه، كان أشهى له، وأخف عليه.
وقال: الشره في الطعام دناءة، وفي الأدب مروءة.
ويقال: الأديب نسيب الأديب: قال أبو تمام:
إن يكد مطرف الإخاء فإننا ... نسري ونغدو في إخاء تالد
أو نفترق نسباً يؤلف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا ... عذب تحدر من غمام واحد
وقال ابن السكيت: خذ من الأدب ما يعلق بالقلوب، وتشتهيه الآذان وخذ من النحو ما تقيم به الكلام، ودع الغوامض، وخذ من الشعر ما يشتمل على لطيف المعاني، واستكثر من أخبار الناس، وأقاويلهم وأحاديثهم، ولا تولعن بالغث منها.
وقال أبو عمرو بن العلاء: قيل لمنذر بن واصل: كيف شهوتك للأدب؟ فقال: أسمع بالحرف منه لم أسمعه، فتود أعضائي أن لها أسماعاً تتنعم مثل ما تنعمت الأذان، قيل: وكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها، وليس لها غيره، قيل: وكيف حرصك عليه؟ قال: حرص الجموع المنوع على بلوغ لذته في المال.
قال الأصمعي: قال لي أعرابي: ما حرفتك؟ قلت: الأدب، قال: نعم الشيء، فعليك به، فإنه ينزل المملوك في حد الملوك.
وقال أرسطاطاليس: ليت شعري: أي شيء فات من أدرك الأدب، وأي شيء أدرك من فاته الأدب؟؟.
وقال البحتري:
رأيت القعود على الاقتصاد ... قنوعاً به ذلة في العباد
وعز بذي أدب أن يضيق ... بعيشته وسع هذي البلاد
إذا ما الأديب ارتضى بالخمول ... فما الحظ في الأدب المستفاد
وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا العربية، فإنها تثبت العقل، وتزيد في المروءة.
وقال عبد الملك: ما الناس إلى شيء من العلوم أحوج منهم إلى إقامة ألسنتهم، التي بها يتحاورون الكلام، ويتهادون الحكم، ويستخرجون غوامض العلم من مخابئها، ويجمعون ما تفرق منها، إن الكلام قاض يجمع بين الخصوم، وضياء يجلو الظلام، وحاجة الناس إلى مواده، كحاجتهم إلى مواد الأغذية.
وقال الزهري: ما أحدث الناس مروءة أحب إلي من تعلم النحو.
وقال شاعر يصف النحو:
اقتبس النحو فنعم المقتبس ... والنحو زين وجمال ملتمس
صاحبه مكرم حيث جلس ... من فاته فقد تعمى وانتكس
كأن ما فيه من العي خرس ... شتان ما بين الحمار والفرس
وقال آخر:
لولا كم كان يلفى كل ذي خطل ... للنحو مدعياً بين النحارير
لم لا أشد على من لا يقوم بها ... من وقعة السمر والبيض المآثير
قرع رجل على الحسن البصري الباب وقال: يا أبو سعيد، فلم يجبه، فقال: أبي سعيد، فقال الحسن: قل الثالثة وادخل. (وقد مر مثل هذا) وحدث النضر بن شميل، قال: أخبرنا الخليل ابن أحمد، قال: سمعت أيوب السجستاني يحدث بحديث فلحن فيه، فقال: أستغفر الله: يعني أنه عد اللحن ذنباً.
وكا ابن سيرين يسمع الحديث ملحوناً، فيحدث به على لحنه، وبلغ ذلك الأعمش، فقال: إن كان ابن سيرين يلحن فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن، فقومه. قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب أولاده على اللحن، ولا يضربهم على الخطأ. ووجد في كتاب عامل له لحناً، فأحضره وضربه درة واحدة. ودخل أعرابي السوق فسمعهم يلحنون فقال: العجب، يلحنون ويربحون؟؟ وكان معاوية بن بجير عامل البصرة لا يلحن، فمات بجير بالبصرة، ومعاوية بفارس خليفة أبيه، فقال الفيج الذي جاء بنعيه: مات بجيراً، فقال له: لحنت لا أم لك. فقال أخوه عبد الله بن بجير:
ألم تر أن خير بني بجير ... معاوية المحقق ما ظننتنا
أتاه مخبر ينعى بجيراً ... علانية فقال له لحنتا
وقال الجاحظ: عيوب المنطق التصحيف، وسوء التأويل، والخطأ في الترجمة، فالتصحيف يكون من وجوه من التخفيف، والتثقيل، ومن قبل الإعراب، ومن تشابه صور الحروف. وسوء التأويل: من الأسماء المتواطئة أي أنك تجد اسماً لمعان، فتتأول على غير المراد. وكذلك سوء الترجمة.

واعلم أن مذاكرة العلم عون على أدائه، وزيادة في الفهم، ولابد للعالم من جهل، أي أن يجهل كثيراً مما يسأل عنه، إما لأنه ما سمعه أو نسيه. وقد قال بعض الفرس: ليس يحسن الأشياء كلها إنسان، ولكن يحسن كل إنسان شيئاً. ومن الأدب قول القائل:
إذا ما روى الراوي حديثاً فلا تقل ... سمعنا بهذا قبل أن يتمما
ولكن تسمع للحديث موهماً ... بأنك لم تسمعه فيما تقدما
وقال الأصمعي: من حق من يقبسك علماً أن ترويه عنه.
قال أبو عمرو بن العلاء: إنما سمي النحوي نحوياً، لأنه يحرف الكلام إلى وجوه الإعراب.
واللحن مخالفة الإعراب، واللحن على جهة أخرى أن يكلم الرجل صاحبه بالكلام يعرفانه بينهما، ولا يعرفه سواهما، وأنشد ابن الكلبي لمالك ابن أسماء:
منطق صائب، وتلحن أحيا ... ناً وخير الحديث ما كان لحاً
أمغط مني على بصرى بالسح ... ب أم أنت أكمل الناس حسنا
وحديث ألذه هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا
وقد روى أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان لحناً أي فطناً، وفي حديث أبي الزناد أن رجلاً قرأ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرشدوا صاحبكم. وحدث أبو العيناء عن وهب ابن جرير أنه قال لفتى من باهلة يا بني: اطلب النحو فإنك لن تعلم منه باباً إلا تدرعت من الجمال سربالاً، وفي حديث سعيد بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن " . وعن ابن شهاب أنه قال: ما أحدث الناس مروءة أعجب إلي من تعلم الفصاحة. وحدث يحيى بن عتيق قال سألت الحسن: فقلت يا أبا سعيد الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته، قال حسن: يا بني فتعلمها فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها. وعن سعيد بن سلم قال: دخلت على الرشيد فبهرني هيبة وجمالاً فلما لحن خف في عيني، وعن الشعبي، قال حلي الرجال العربية، وحلي النساء الشحم.
وحدث التاريخي بإسناد رفعه إلى سلمة بن قتيبة قال: كنت عند ابن هبيرة الأكبر، قال: فجرى الحديث حتى ذكر العربية فقال: والله ما استوى رجلان دينهما واحد، وحسبهما واحد، ومروءتهما واحدة، أحدهما يلحن والآخر لا يلحن إن أفضلهما في الدنيا والآخرة الذي لا يلحن. قال: فقلت أصلح الله الأمير، هذا أفضل في الدنيا لفضل فصاحته وعربيته، أرأيت الآخرة ما باله فضل فيها، قال: إنه يقرأ كتاب الله على ما أنزله الله، والذي يلحن يحمله لحنه على أن يدخل في كتاب الله ما ليس فيه، ويخرج منه ما هو فيه، قال: قلت صدق الأمير وبر.
وحدّث عن أبي ثوابة عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه، قال: تكلم أبو جعفر المنصور في مجلس فيه أعرابي فلحن فصر الأعرابي أذنيه، فلحن مرة أخرى أعظم من الأولى، فقال الأعرابي: أف لهذا، ما هذا؟. ثم تكلم فلحن الثالثة، فقال الأعرابي: أشهد لقد وليت هذا الأمر بقضاء وقدر، وحدث بإسناد رفعه إلى الواقدي قال: صلى رجل من آل الزبير، خلف أبي جعفر المنصور وقرأ، " ألهاكم التكاثر " . فلحن في موضعين قال: فلما سلم التفت الزبيري إلى رجل كان إلى جانبه فقال: ما كان أهون هذا القرشي على أهله. وقال بعض الشعراء:
النحو يبسط من لسان الألكن ... والمرء نعظمه إذا لم يلحن
وإذا طلبت من العلوم أجلها ... فأجلها عندي مقيم الألسن
وقال آخر:
إما تريني وأثوابي مقاربة ... نيست بخز ولا من حر كتان
فإن في المجد هماتي وفي لغتي ... علوية ولساني غير لحان
وحدث قال: قدم طاهر بن الحسين، والعباس بن محمد ابن موسى على الكوفة، فزاره طساسيج من سوادها. فوجه العباس كاتبه إليه، فلما دخل على طاهر. قال له: أخيك أبي موسى يقرأ عليك السلام، قال. وما أنت منه؟ قال كاتبه الذي يطعمه الخبز قال نعم، علي بعيسى بن عبد الرحمن، قال. فجاء، وكان عيسى كاتب طاهر، فقال. اكتب وأنت قائم بصرف العباس بن محمد بن موسى عن الكوفة، إذ لم يتخذ كاتباً يحسن الأداء عنه.

وحدث فيما أسنده إلى الضحاك بن زمل السكسكي، وكان من أصحاب المنصور قال: كنا مع سليمان بن عبد الملك بدابق، إذ قام إليه السحاح الأزدي الموصلي، فقال يا أمير المؤمنين: إن أبينا هلك وترك مال كثير، فوثب أخانا على مال أبانا فأخذه، فقال سليمان: فلا رحم الله أباك ولا نيح عظام أخيك، ولا بارك الله لك فيما ورثت، أخرجوا هذا اللحان عني. فأخذ بيده بعض الشاكرية وقال: قم فقد آذيت أمير المؤمنين، فقال: وهذا العاض بظر أمه اسحبوا برجله. وحدث قال: قال رجل للحسن يا أبا سعيد: ما تقول في رجل مات وترك أبيه وأخيه؟ فقال الحسن ترك أباه وأخاه!! فقال له فما لأباه وأخاه.؟ فقال له الحسن إنما هو فما لأبيه وأخيه قال: يقول الرجل للحسن يا أبا سعيد. ما أشد خلافك علي، قال: أنت أشد خلافاً علي، أدعوك إلى الصواب، وتدعوني إلى الخطأ؟ وحدث فيما رفعه إلى عبد الله بن المبارك قال: بعث الحجاج إلى والي البصرة أن اختر لي عشرة ممن عندك، فاختار رجالاً منهم كثير بن أبي كثير، قال: وكان رجلاً عربياً، قال كثير: فقلت في نفسي لا أفلت من الحجاج إلا باللحن، قال: فلما أدخلنا عليه، دعاني فقال: ما اسمك؟ قلت كثير، قال ابن من؟ فقلت إن قلتها بالواو، لم آمن أن يتجاوزها، قال: أنا ابن أبا كثير فقال: عليك لعنة الله، وعلى من بعث بك، جيئوا في قفاه، قال فأخرجت. وحدث فيما أسنده إلى الأصمعي، قال: سمعت مولى لعمر بن الخطاب يقول: أخذ عبد الملك ابن مروان رجلاً كان يرى رأى الخوارج رأي شبيب، فقال له: ألست القائل؟:
ومنا سويد والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
قال: إنما قلت أمير المؤمنين، أي يا أمير المؤمنين، فأمر بتخلية سبيله. قال التاريخي: حدثنا أبو بكر الدولابي، حدثنا أبو مسهر قال: سألت سعيد بن عبد العزيز التنوخي عن الحديث إذا سمعته ملحوناً، فقال: اللحن يفسد الحديث، وذلك أنه يغير معناه، ولم يلق أحد من العلماء إلا مقوم اللسان، قال: وقد كان عمر بن عبد العزيز أشد الناس في اللحن على ولده وخاصته ورعيته، وربما أدب عليه. قال: وقال نافع مولى ابن عمر: كان ابن عمر يضرب ولده على اللحن، كما يضربهم على تعليم القرآن. وحدث فيما أسنده إلى شريك عن جابر قال: قلت للشعبي. أسمع الحديث بغير إعراب فأعربه؟ قال نعم، لا بأس به، قال: قال حماد ابن سلمة: مثل الذي يكتب الحديث ولا يعرف النحو، مثل الحمار عليه مخلاته ولا شعير فيها. وروى عن الشعبي أنه قال: لأن أقرأ وأسقط أحب إلي من أقرأ وألحن، وقال محمد بن الليث: النحو في الأدب، كالملح في الطعام، فكما لا يطيب الطعام إلا بالملح، لا يصلح الأدب إلا بالنحو، وروي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: تعلموا العلم شهراً، والأدب شهرين. وقال رجل لبنيه: يا بني أصلحوا من ألسنتكم، فإن الرجل تنوبه النائبة، يحتاج أن يتجمل فيها، فيستعير من أخيه دابة ومن صديقه ثوباً، ولا يجد من يعيره لساناً: لما قال الفرزدق.
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول
قال بعض الحاضرين: أعز وأطول من ماذا؟ فتفكر الفرزدق، فوافق ذلك قول المؤذن في الآذان، الله أكبر، فرفع الفرزدق رأسه فقال: يا فلان أكبر من ماذا؟ وقال الخطفي جد جرير:
عجبت لإزراء العيي بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالقول أعلما
وفي الصمت ستر للعيي وإنما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما
وحدث عن الأصمعي أنه قال: أخوف ما أخاف على طالب العلم، إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " لأنه لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه، ولحنت فقد كذبت عليه.

فصل ثان
في فضيلة علم الأخبار

قال أبو الحسن علي بن الحسين قالوا: لولا تقييد العلماء خواطرهم بالأخبار، وكتبهم للآثار، لبطل أول العلم، وضاع آخره، إذ كان كل علم من الأخبار يستخرج، وكل حكمة منها تستنبط، والفقر منها تشتار، والفصاحة منها تستفاد، وأصحاب القياس عليها يبنون، وأهل المقالات بها يحتجون، ومعرفة الناس منها تؤخذ، وأمثال الحكماء فيها توجد، ومكارم الأخلاق ومعاليها منها تقتبس، وآداب سياسة الملك والحزم منها تلتمس، فكل غريبة بها تعرف، وكل عجيبة منها تستطرف، وهو علم يستمتع بسماعه العالم، ويستعذب موقعه الأحمق، والعاقل يأنس مكانه، وينزع إليه الخاصي والعامي، ويميل إلى روايته العربي والعجمي، " وبعد " فإنه يوصل به إلى كلام، ويتزين به في كل مقام، ويتجمل به في كل مشهد ويحتاج إليه في كل محفل، ففضيلة علم الأخبار تتيه على كل علم، وشرف منزلته صحيحة في كل فهم، فلا يصبر على علمه، ويتقن ما فيه من إيراده وإصداره، إلا إنسان قد تجرد للعلم وفهم معناه، وذاق ثمرته، واستشعر من عزه، ونال من سروره. وقديماً قيل: إن علم النسب والأخبار من علوم الملوك، وذوي الأخطار، ولا تسمو إليه إلا النفوس الشريفة، ولا يأباه إلا العقول السخيفة، وقد قالت الحكماء: الكتاب نعم الجليس والذخر، إن شئت ألهتك بوادره، وأضحكتك نوادره، وإن شئت أشجتك مواعظه، وإن شئت تعجبت من غرائب فوائده، وهو يجمع لك الأول والآخر، والناقص والوافر، والغائب والحاضر، والشكل وخلافه، والجنس وضده، وهو ميت ينطق عن الموتى، ويترجم عن الأحياء، وهو مؤنس ينشط بنشاطك، وينام بنومك، ولا ينطق إلا بما تهوى، ولا يعلم جار ولا خليط أنصف، ولا رفيق أطوع، ولا معلم أخضع، ولا صاحب أظهر كفاية، ولا أقل جناية، ولا أبدأ نفعاً، ولا أحمد أخلاقاً، ولا أدوم سروراً، ولا أسلم غيبة، ولا أحسن مواتاة، ولا أعجل مكافأة، ولا أخف مؤة منه، إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وأكثر علمك، وتعرف منه في شهر، ما لا تعرف من أفواه الرجال في دهر، يغنيك عن كد الطالب، وعن الخضوع إلى من أنت أثبت منه أصلاً، وأرسخ منه فرعاً، وهو المعلم الذي لا يجفوك، وإن قطعت عنه المادة، لم يقطع عنك الفائدة، وكان عبيد الله ابن محمد ابن عائشة القرشي يقول: الأخبار تصلح للدين والدنيا. قلنا: الدنيا قد عرفنا فما للآخرة؟ قال: فيها العبر، يعتبرها الرجل. وقال الله تعالى مخبراً عن قصة يوسف وإخوته. " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب " . وقال تعالى: " ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين " . وقال عز وجل: " كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق " . ولذلك قال بعضهم لولده: عليك بالأخبار، فإنها لا تعدم كلمة على هدى، وأخرى تنهى عن ردى، وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أجموا هذه القلوب والتمسوا لها طرائف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان. وكان أبو زيد الأنصاري لا يعدو النحو، فقال له خلف الأحمر. قد ألححت على النحو لم تعده، ولقلما ينبل متفرد به، فعليك بالأخبار والأشعار. وقال ابن المقفع في كتابه في الأدب، " ثم انظر الأخبار الرائعة فتحفظ منها، فإن من شأن الإنسان الحرص على الأخبار، ولاسيما ما يرتاح له الناس، وأكثر الناس من يحدث بما يسمع، ولا يبالي ممن سمع، وذلك مفسدة للصدق، ومزراة بالرأي، فإن استطعت ألا تخبر بشيء إلا وأنت به مصدق، وألا يكون تصديقك إلا ببرهان فافعل " .
قال الأخفش علي بن سليمان: أنشدني أبو سعيد السكري:
وذكرني حلو الزمان وطيبه ... مجالس قوم يملئون المجالسا
حديثاً وأشعاراً وفقهاً وحكمة ... وبراً ومعروفاً وإلفاً مؤانسا

وقال ابن عتاب: يكون الرجل نحوياً عروضياً حسن الكتاب، جيد الحساب، حافظاً للقرآن راوية للشعر، وهو راض بأن يعلم أولادنا بستين درهماً. ولو أن رجلاً كان حسن البيان حسن التخريج للمعاني ليس عنده غير ذلك لم يرض بألف درهم. لأن النحوي ليس عنده إمتاع كالنجار الذي يدعى ليغلق باباً، فلو كان أحذق الناس، ثم فرغ من تغليق ذلك الباب، قيل له انصرف، وصاحب الإمتاع يراد في الحالات كلها. وقال معاوية: ليس ينبغي (للقرشي وللرجل) أن يستغرق شيئاً من العلم إلا علم الأخبار، فأما غير ذلك فالنتف والشذر. وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج، انظر لي رجلاً عالماً بالحلال والحرام، عارفاً بأشعار العرب وأخبارها، أستأنس به وأصيب عنده معرفة، فوجهه إلى من قبلك. فوجه إليه الشعبي، وكان أجمع أهل زمانه، قال الشعبي: فلم ألق والياً ولا سوقة إلا وهو يحتاج إلي، ولا أحتاج إليه ما خلا عبد الملك، ما أنشدته شعراً، ولا حدثته حديثاً، إلا وهو يزيدني فيه، وكنت ربما حدثته وفي يده اللقمة فأمسكها، فأقول: يا أمير المؤمنين أسغ طعامك، فإن الحديث من ورائه، فيقول: ما تحدثني به أوقع بقلبي من كل لذة، وأحلى من كل فائدة. وكتب عبد الملك إلى الحجاج: أت عندي كقدح ابن مقبل، فلم يدر الحجاج ما عنى، فسأل قتيبة بن مسلم، وكان راوية عالماً عن ذلك، فقال: قد مدحك، فإن ابن مقبل نعت قدحه فقال:
مفدى مؤدى باليدين ملعن ... خليع قداح فائز متمنح
خروج من الغمى إذا صك صكة ... بدا والعيون المستكفة تلمح
قال: فكانت في نفس الحجاج حتى ولاه خراسان، وقال محمد بن عبد الملك الزيات في رجل خلو من الأدب:
يا أيها العائبي ولم تر بي ... عيباً ألا تتهي وتزدجر؟
هل لك وتر لدي تطلبه ... أم لست مما أتيت تعتذر؟
إن كان قسم الإله فضلني ... وأنت صلد ما فيك معتصر
فالحمد والشكر والثناء له ... وللحسود التراب والحجر
اقرأ لنا سورة تخوفنا ... فإن خير المواعظ السور
أو ارو فقهاً تحيي القلوب به ... جاء به عن نبينا أثر
أو هات ما الحكم في فرائضنا؟ ... ما يستحق الإناث والذكر؟
أو ارو عن فارس لنا مثلاً ... فإن أمثال فارس عبر
أو من أحاديث جاهليتنا ... فإنها عبرة ومعتبر
أو هات كيف الإعراب في الرفع والخف ... ض وكيف التصريف والصدر؟
أو ارو شعراً أو صف لا عرضاً ... يتلى صحيح منه ومنكسر
إذا جهلت الآداب مرتقياً ... عنها وخلت العمى هو البصر
ولم تعوض من ذاك ميسرة ... عليك منها لبهجة أثر
فغن صوتاً تلهي الفؤاد به ... وكل ما قد جهلت مغتفر
تعيش فينا ولا تلائمنا ... فاذهب ودعنا حتام تنتظر؟
تغلي علينا الأشعار أنى؟ وما ... عندك نفع يرجى ولا ضرر
همك في مرتع ومغتبق ... كما يعيش الحمير والبقر

باب الألف
آدم بن أحمد بن أسد الهروي
أبو سعد النحوي اللغوي، حاذق مناظر، ذكره الحافظ أبو سعد السمعاني، فقال: هو من أهل هراة سكن بلخ، كان أديباً فاضلاً عالماً بأصول اللغة صائباً، حسن السيرة، قدم بغداد حاجاً سنة عشرين وخمسمائة، ومات في الخامس والعشرين من شوال من سنة ست وثلاثين وخمسمائة، ولما ورد بغداد اجتمع إليه أهل العلم، وقرءوا عليه الحديث والأدب، وجرى بينه وبين الشيخ أبي منصور موهوب ابن أحمد بن الخضر الجواليقي ببغداد مناظرة في شيء اختلفا فيه، فقال له الهروي: أنت لا تحسن أن تنسب نفسك فإن الجواليقي نسبة إلى الجمع، والنسبة إلى الجمع بلفظه لا تصح قال: وهذا الذي ذكره الهروي نوع مغالطة، فإن لفظ الجمع إذا سمي به جاز أن ينسب إليه بلفظه، كمدائني ومعافري وأنماري وما أشبه ذلك.

قال مؤلف هذا الكتاب: وهذا الاعتذار ليس بالقوي، لأن الجواليق ليس باسم رجل فيصح ما ذكره، وإنما هو نسبة إلى بائع ذلك والله أعلم. فإن كان اسم رجل أو قبيلة أو موضع نسب إليه صح ما ذكره. وقال الحافظ الإمام السمعاني: سمعت أبا القاسم الطريفي يقول: سمعت أبا سعد الهروي المؤدب يقول: سئل سفيان الثوري عن التقوى فأنشد:
إني وجدت فلا تظنوا غيره ... هذا التورع عند ذاك الدرهم
فإذا قدرت عليه ثم تركته ... فاعلم بأن هناك تقوى المسلم
وكان الرشيد محمد بن عبد الجليل الملقب بالوطواط كاتب الإنشاء لخوارزم شاه من تلاميذ الشيخ أبي سعد آدم بن أحمد الهروي، وانتقل الرشيد من بلخ إلى خوارزم، وأقام بها في خدمة خوارزم شاه أشهراً، وكان يكاتب الشيخ أبا سعد ويخضع له، ويقر بفضله..فمما كتب إليه، رسالة نسختها.
كتابي وفي الأحشاء وجد على وجد ... إلى الصدر مولانا الأجل أبي سعد
أشم طويل الباع أصبح رافعاً ... إلى قمة الأفلاك ألوية المجد
سراة بني الإسلام عقد جواهر ... وفيهم أبو سعد كواسطة العقد
سقى الله أيامنا بالعقيق ودهورنا باللوى، وأعوامنا بالخليصاء، وشهورنا بالحمى، فإن هذه المغاني لألفاظ المسرات كالمعاني، فيها أثمار أطايب الأماني، من أشجار وصال الغواني لا بل سقى مواقفنا ببلخ في المدرسة النظامية واجتماعنا في المجالس الأجلية الإمامية
مجالس مولانا أبي سعد الذي ... به سعد الأيام والدين والدنيا
همام حوى يوم الفخار بنانه ... على رغم آناف العدا قصب العليا
الإمام أبو سعد، وما أدراك ما الإمام أبو سعد، سعد كله، خير قوله وفعله، صاحب جيوش الفصاحة، ومالك رقاب البلاغة، وناظم عقد المحامد، وجامع شمل المكارم، وناشر أردية الفضل والكرم، وعامر أبنية الأدب والحكم:
لله در إمام كله أدب ... بفضله يتحلى العجم والعرب
الله يعلم أني وإن شط المزار، وشحطت الديار، لا أقطع أكثر أوقاتي، ولا أزجي أغلب ساعاتي، إلا في مدح معاليه، وشرح أياديه لو أنفقت جميع عمري في ذلك وسلكت طول دهري تلك المسالك:
لما كنت أقضي بعض واجب حقه ... ولا كنت أحصي من صنائعه عشراً
وكيف لا أبالغ في ثنائه، ولا أواظب على دعائه، وهو الذي رفع قدري، وشرح للآداب صدري، وسقاني كؤوس العلم وأحشائي صادية، وكساني حلل الفضل وعوراتي بادية، اغترفت من بحاره واقتطفت ما اقتطفت من ثماره:
وأنت الذي عرفتني طرق العلا ... وأنت الذي هديتني كل مقصد
وأنت الذي بلغتني كل رتبة ... مشيت إليها فوق أعناق حسدي
عبد مجلسه الشريف أخي عمر أيده الله ورد من خراسان ذاكراً لما يجري على لسانه الكريم في المجالس والمحافل، بين أيدي الأكابر والأماثل، من مدحي وثنائي، وتقريظي وإطرائي، فما استبدعت ذلك من خصائص كرمه، ولا استغربته من لطائف شيمه، وكانت كلماته حاملة إياي على هذا التصديع، لمجلسه الرفيع، ورأيه في سحب ذيل العفو على هذا التجاسر وتبليغ تحيتي إلى القارئين عليه، والمختلفين إليه من أبناء جنسي، وشركاء درسي يقتضي الشرف والسلام.

أبان بن تغلب بن رياح الجريري
أبو سعيد البكري، مولى بني جرير بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكاشة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. ذكره أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي. في مصنفي الإمامية، ومات أبان في سنة إحدى وأربعين ومائة.
قال أبو جعفر: هو ثقة جليل القدر، عظيم المنزلة في أصحابنا، لقي أبا محمد علي بن الحسين، وأبا جعفر، وأبا عبد الله عليهم السلام، وروى عنهم، وكانت له عندهم حظوة وقدم، قال له أبو جعفر: اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس، فإني أحب أن أرى في شيعتي مثلك. وقال أبو عبد الله لما أتاه نعيه: أما والله لقد أوجع قلبي موت أبان.

قال: وكان قارئاً فقيهاً لغوياً نبيهاً ثبتاً وسمع من العرب وحكى عنهم، وصنف كتاب الغريب في القرآن، وذكر شواهده من الشعر، فجاء فيما بعد عبد الرحمن بن محمد الأزدي الكوفي، فجمع من كتاب أبان ومحمد بن السائب الكلبي وابن روق عطية بن الحارث فجعله كتاباً، فيما اختلفوا فيه وما اتفقوا عليه، فتارةً يجيء كتاب أبان مفرداً، وتارة يجيء مشتركاً، على ما عمله عبد الرحمن، ولأبان أيضاً كتاب الفضائل.
.

أبان بن عثمان بن يحيى بن زكريا
اللؤلؤي يعرف بالأحمر البجلي، أبو عبد الله مولاهم ذكره أبو جعفر الطوسي في كتاب أخبار مصنفي الإمامية، وقال أصله الكوفة، وكان يسكنها تارة، والبصرة أخرى، وقد أخذ عنه من أهل البصرة أبو عبيدة معمر بن المثنى، وأبو عبد الله محمد بن المثنى، وأبو عبد الله محمد بن سلام الجمحي، وأكثروا الحكاية عنه في أخبار الشعراء والنسب والأيام: روى عن أبي عبد الله، وأبي الحسن موسى بن جعفر، وما عرف من مصنفاته إلا كتاب جمع فيه المبدأ والمبعث، والمغازي، والوفاة، والسقيفة والردة.
إبراهيم بن أحمد بن محمد توزون
الطبري النحوي، أحد أهل الفضل والأدب، سكن بغداد، وصحب أبا عمرو الزاهد، وكتب عنه كتاب الياقوتة، وعلى النسخة التي بخطه الاعتماد من كتاب أبي عمرو كما ذكرناه في ترجمة أبي عمرو، ولقي أكابر العلماء من هذه الطبقة، وكان صحيح النقل، جيد الخط والضبط.
ذكر أبو القاسم بن الثلاج: أنه حدثه عن إبراهيم بن عبد الوهاب الأبزاري الطبري صاحب أبي حاتم السجستاني: لا أعرف له تصنيفاً غير جمعه لشعر أبي نواس، فإنها رواية مشهورة بأيدي الناس.
وقال أبو القاسم التنوخي: حدثني أبو الحسن الطبري، غلام الزاهد غلام ثعلب، وكان منقطعاً إلى بني حمدان، وقرأت بخطه قصيدة شبل بن عروة الضبعي، وقد قرأها على أبي عمر الزاهد، وتناولها من أبي محمد عبد الله بن جعفر ابن درستويه. وقد قرأ عليه إلى: " سيباً من حر سئل " ، ثم قال: بلغت بقراءتي إلى ههنا، وقال لي ابن درستويه: قد دفعت إليك كتابي بخطي، من يدي إلى يدك، وقد أجزت لك القصيدة فاروها عني، فإن هذا ينوب عن السماع والقراءة، فقبلت ذلك منه.
وكتب إبراهيم بن محمد الطبري الروياني بخطه: والاعتماد عليه أولى، ولكن الخطيب قال: إبراهيم بن أحمد ابن محمد المعروف ببيروز، فإن كان نسب نفسه إلى جده فذاك، والله أعلم.
إبراهيم بن أحمد بن الليث
الأزدي اللغوي الكاتب، لا أعرف من حاله إلا ما قاله السلفي. أنشدني أبو القاسم الحسن بن الفتح الهمذاني قال: أبو المظفر إبراهيم بن أحمد ابن الليث الأزدي اللغوي الكاتب قدم علينا همذان، وقد حضر مجلسه الأدباء والنحاة لمحله من الأدب:
وقد أغدو وصاحبتي محوص ... على عذراء ناء بها الرهيص
كأن ثني النحوص على ذراها ... حوائم ما لها عنه محيص
إبراهيم بن إسحاق الحربي
نقلت من كتاب أبي بكر الخطيب قال: إبراهيم بن إسحاق بن بشير بن عبد الله بن ديسم، أبو إسحاق الحربي، ولد سنة ثمان وتسعين ومائة، ومات ببغداد سنة خمس وثمانين ومائتين في ذي الحجة، ودفن في بيته في شارع باب الأنبار، وكان الجمع كثيراً جداً.
وكان قد سمع أبا نعيم الفضل بن دكين، وعفان ابن مسلم، وعبيد الله بن محمد بن عائشة، وأحمد بن حنبل، وعثمان بن أبي شيبة، وعبيد الله القواريري، وخلقاً من أمثالهم، روى عنه موسى بن هرون الحافظ، ويحيى بن صاعد، وأبو بكر بن أبي داود والحسين المحاملي، ومحمد بن مخلد، وأبو بكر الأنباري النحوي، وأبو عمر الزاهد صاحبه، وخلق كثير غيرهم. وكان إماماً في العلم، رأساً في الزهد، عارفاً بالفقه، بصيراً بالأحكام حافظاً للحديث، مميزاً لعلله، قيماً بالأدب، جماعاً للغة، وصنف كتباً كثيرة، منها: كتاب غريب الحديث.

وأصله من مرو، وكان يقول: أمي تغلبية، وأخوالي نصارى أكثرهم. وقيل: لم سميت إبراهيم الحربي؟ فقال: صحبت قوماً من الحربية فسموني الحربي بذلك. وحدث أحمد بن عبد الله بن خالد بن ماهان المعروف بابن أسد، قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: أجمع عقلاء الأمة أنه من لم يجر مع القدر، لم يهنأ بعيشه، كان يكون قميصي أنظف قميص، وإزاري أوسخ إزار، ما حدثت نفسي أنهما يستويان قط، وفرد عقبى مقطوع، وفرد عقبي الآخر صحيح، أمشي بهما، وأدور بغداد كلها، هذا الجانب، وذاك الجانب، لا أحدث نفسي أني أصلحهما، وما شكوت إلى أمي، ولا إلى أختي، ولا إلى امرأتي، ولا إلى بناتي قط حمى وجدتها. الرجل هو الذي يدخل غمه على نفسه، ولا يغم عياله.
كان بي شقيقة خمساً وأربعين سنة، ما أخبرت بها أحداً قط، ولي عشر سنين أبصر بفرد عين، ما أخبرت به أحداً، وأفنيت من عمري ثلاثين سنة برغيف في اليوم والليلة، إن جاءتني امرأتي أو إحدى بناتي أكلته، وإلا بقيت جائعاً عطشان إلى الليلة الأخرى، والآن آكل نصف رغيف وأربع عشرة تمرة إن كان برنياً، أو نيفاً وعشرين إن كان دقلاً، ومرضت ابنتي فمضت امرأتي فأقامت عندها شهراً، فقام إفطاري في هذا الشهر بدرهم ودانقين ونصف، ودخلت الحمام واشتريت لهم صابوناً بدانقين، فقام بقية شهر رمضان كله بدرهم وأربعة دوانيق ونصف، ولا تزوجت ولا زوجت قط، ولا أكلت من شيء واحد في يوم مرتين.
وحدث أحمد بن سليمان القطيعي قال: أضقت إضاقة شديدة، فمضيت إلى إبراهيم الحربي لأبثه ما أنا فيه، فقال لي: لا يضق صدرك، فإن الله من وراء المعونة، وإني أضقت مرة حتى انتهى أمري في الإضاقة إلى عدم عيالي القوت، فقالت لي الزوجة: هب أني وإياك نصبر، فكيف تصنع بهاتين الصبيتين؟ فهات شيئاً من كتبك نبيعه أو نرهنه، فضنت بذلك وقلت: اقترضي لهما شيئاً، وأنظريني بقية اليوم والليلة، وكان لي بيت في دهليز داري فيه كتبي فكنت أجلس فيه للنسخ والنظر، فلما كان في تلك الليلة، إذا داق يدق الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: رجل من الجيران، فقلت ادخل فقال أطف السراج حتى أدخل، فكببت على السراج شيئاً وقلت ادخل فدخل وترك إلى جابي شيئاً وانصرف فكشفت عن السراج، فنظرت فإذا منديل له قيمة، وفيه أنواع من الطعام، وكاغد فيه خمسمائة درهم، فدعوت الزوجة وقلت: نبهي الصبيا حتى يأكلوا، ولما كان من الغد قضينا ديناً كان عليا من تلك الدراهم.
وكان مجيء الحاج من خراسان، فجلست على بابي من غد تلك الليلة، وإذا جمال يقود جملين عليهما حملان ورقاً، وهو يسأل عن منزل إبراهيم الحربي، فانتهى إلي فقلت: أنا إبراهيم الحربي، فحط الحملين وقال: هذان الحملان أنفدهما لك رجل من أهل خراسان، فقلت من هو؟ فقال قد استحلفني ألا أقول لك من هو؟.
وحدث أبو عثمان الرازي قال: جاء رجل من أصحاب المعتضد إلى إبراهيم الحربي بعشرة آلاف درهم من عند المعتضد يسأله عن أمير المؤمنين أن يفرق ذلك، فرده وانصرف الرسول، ثم عاد فقال: إن أمير المؤمنين يسألك أن تفرقه في جيرانك، فقال له: عافاك الله، هذا مال لم نشغل أنفسنا بجمعه، فلا نشغلها بتفرقته، قل لأمير المؤمنين: إن تركتنا، وإلا تحولنا من جوارك.
وحدث أبو القاسم الجيلي قال: اعتل إبراهيم بن إسحاق الحربي علة حتى أشرف على الموت، فدخلت عليه يوماً فقال: يا أبا القاسم، أنا في أمر عظيم مع ابنتي، ثم قال لها قومي واخرجي إلى عمك، فخرجت وألقت على وجهها خمارها، فقال إبراهيم: هذا عمك كلميه، فقالت لي يا عم: نحن في أمر عظيم، لا في الدنيا ولا في الآخرة، الشهر والدهر ما لنا طعام إلا كسر يابسة وملح، وربما عدمنا الملح، وبالأمس قد وجه إلينا المعتضد مع بدر بألف دينار فلم يأخذها، ووجه إليه فلان وفلان، فلم يأخذ منها شيئاً وهو عليل، فالتفت الحربي إليها وتبسم وقال: يا بنية، خفت الفقر؟ فقالت نعم، فقال لها: انظري إلى تلك الراوية، فنظرت فإذا كتب، فقال لها: هناك اثنا عشر ألف جزء، لغة وغريب، كتبته بخطي، إذا مت فوجهي في كل يوم بجزء تبيعينه بدرهم، فمن كان عنده اثنا عشر ألف درهم فليس هو فقيراً.
وحدث أبو عمر الزاهد وابن المنادى: سمعت ثعلباً يقول: ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس لغة أو نحو خمسين سنة.

وحدث أبو بكر الشافعي قال: قال إبراهيم الحربي: ما أخذت على علم قط أجراً إلا مرة واحدة، فإني وقفت على بقال فوزنت له قيراطاً إلا فلساً، فسألني عن مسألة فأجبته، فقال للغلام: أعط بقيراط ولا تنقصه شيئاً فزادني فلساً. وحدث إبراهيم الحربي، وقد سألوه عن حديث عباس البقال فقال: خرجت إلى الكبش ووزنت لعباس البقال دانقاً إلا فلساً فقال لي يا أبا إسحاق: حدثني حديثاً في السخاء، فلعل الله يشرح صدري فأعمل شيئاً، قال قلت له نعم: روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه كان ماراً في بعض حيطان المدينة، فرأى أسود بيده رغيف يأكل لقمة، ويطعم الكلب لقمة، إلى أن شاطره الرغيف، فقال له الحسن: ما حملك على أن شاطرته؟ فلم تغابنه فيه بشيء، فقال: استحت عيناي من عينيه أن أغابنه، فقال له الحسن: أقسمت عليك لا برحت حتى أعود إليك، فمر فاشترى الغلام والحائط، وجاء إلى الغلام فقال: يا غلام، قد اشتريتك، فقام قائماً، فقال: السمع والطاعة لله ولرسوله ولك يا مولاي، قال: وقد اشتريت الحائط، وأنت حر لوجه الله تعالى، والحائط هبة مني إليك، فقال الغلام: يا مولاي، قد وهبت الحائط للذي وهبتني له: قال إبراهيم: فقال عباس البقال: حسن والله يا أبا إسحاق. يا غلام: لأبي إسحاق دانق إلا فلساً، أعطه بدانق ما يريد ولا تقصه شيئاً فقلت: والله لا أخذت إلا بدانق إلا فلساً.
وحدث عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: كان أبي يقول لي: امض إلى إبراهيم الحربي يلق عليك الفرائض، قال: ولما مات سعد بن أحمد بن حنبل، جاء إبراهيم الحربي إلى عبد الله، فقام إليه عبد الله، فقال: تقوم إلي؟ فقال: لم لا أقوم إليك؟ والله لو رآك أبي لقام إليك، قال والله لو رأى ابن عيينة أباك لقام إليه، وقال إبراهيم الحربي: إن في كتاب غريب الحديث الذي صنفه أبو عبيد ثلاثة وخمسين حديثاً ليس لها أصل، وقد أعلمت علتها في كتاب الشروي، منها: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم وفي يدها مناجذ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس السراويلات المخرفجة، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم أهل قاهة، وقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أمرت بهذا البيت فسفروا، عن النبي أنه قال للنساء: إذا جعتن خجلتن، وإذا شبعتن دقعتن. وحدث أبو العباس بن مسروق قال: قال لي إبراهيم الحربي: لا تحدث فتسخن عينك، كما سخنت عيني، قلت له فما أعمل؟ قال تطأطيء رأسك وتسكت، قلت له فأنت لم تحدث؟ قال: ليس وجهي من خشب. وحدث محمد بن عبد الله الكاتب قال: كنت يوماً عند المبرد فأنشدنا:
جسمي معي غير أن الروح عندكم ... فالجسم في غربة والروح في وطن
فليعجب الناس مني أن لي بدناً ... لا روح فيه ولي روح بلا بدن
ثم قال: ما أظن أن الشعراء قالوا أحسن من هذا. قلت: ولا قول الأخرق؟ قال هيه قلت الذي يقول:
فارقتكم وحييت بعدكم ... ما هكذا كان الذي يجب
فالآن ألقى الناس معتذراً ... من أن أعيش وأنتم غيب
قال ولا هذا: قلت ولا قول خالد الكاتب؟
روحان لي روح تضمنها ... بلد وأخرى حازها بلد
وأظن غائبتي كشاهدتي ... بمكانها تجد الذي أجد
قال ولا هذا. قلت: أنت إذا هويت شيئاً ملت إليه ولم تعدل إلى غيره، قال: لا ولكنه الحق، فأنيت ثعلباً فأخبرته فقال ثعلب: ألا أنشدته:
غابوا فصار الجسم من بعدهم ... ما تنظر العين له فيا
بأي وجه أتلقاهم ... إذا رأوني بعدهم حياً؟
يا خجلتي منهم ومن قولهم ... ما ضرك الفقد لنا شيا
قال: وأتيت إبراهيم الحربي فأخبرته فقال: ألا أنشدته:
يا حيائي ممن أحب إذا ما ... قلت بعد الفراق إني حييت
لو صدقت الهوى حبيباً على الصح ... ة لما نأى لكنت أموت
قال: فرجعت إلى المبرد فقال: أستغفر الله إلا هذي البيتين، يعني بيتي إبراهيم.
قال: وأنشد رجل إبراهيم قول الشاعر:
أنكرت ذلي فأي شيء ... أحسن من ذلة المحب
أليس شوقي وفيض دمعي ... وضعف جسمي شهود حبي؟
فقال إبراهيم: هؤلاء شهود ثقات. قال: وأنشد بعضهم لإبراهيم الحربي:
إثنان إذا عدا ... فخير لهما الموت

فقير ما له زهد ... وأعمى ما له صوت
وروى عن إبراهيم الحربي أنه قال: ما أنشدت شيئاً من الشعر قط إلا قرأت بعده " قل هو الله أحد، ثلاث مرات " .
وحدث الطوماري قال: دخلت على إبراهيم الحربي وهو مريض، وقد كان يحمل ماؤه إلى الطبيب، وكان يجيء إليه ويعالجه، وردت الجارية الماء وقالت: مات الطبيب، فقال:
إذا مات المعالج من سقام ... فيوشك للمعالج أن يموتا
ودخل عليه قوم يعودونه فقالوا: كيف نجدك يا أبا إسحاق؟ قال أجدني كما قال:
دب في السقام سفلاً وعلواً ... وأراني أذوب عضواً فعضوا
بليت جدتي بطاعة نفسي ... وتذكرت طاعة الله نضوا
قال أبو الحسن الدار قطني: إبراهيم الحربي ثقة، وكان إماماً يقاس بأحمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه، وهو إمام مصنف عالم بكل شيء، بارع في كل علم صدوق، وذكر وفاته كما تقدم، هذا آخر ما نقلته من تاريخ الخطيب. نقلت من خط الإمام الحافظ أبي نصر عبد الرحيم بن وهبان صديقنا ومفيدنا، قال: نقلت من خط أبي بكر محمد بن منصور السمعاني، سمعت أبا المعالي ثابت بن بندار البقال يقول: حكى لنا البرقاني " رحمه الله " قال: كان إسماعيل بن إسحاق القاضي يشتهي رؤية إبراهيم الحربي، وكان إبراهيم لا يدخل عليه، يقول: لا أدخل داراً عليها بواب، فأخبر إسماعيل بذلك، فقال: أنا أدع بابي كباب الجامع فجاء إبراهيم إليه، فلما دخل عليه خلع نعليه، فأخذ أبو عمر محمد بن يوسف القاضي نعليه ولفهما في منديل دبيقي وجعله في كمه وجرى بينهما علم كثير، فلما قام إبراهيم التمس نعليه فأخرج أبو عمر النعل من كمه، فقال له إبراهيم: غفر الله لك كما أكرمت العلم، فلما مات أبو عمر القاضي رئي في المنام، فقيل له ما فعل الله بك؟ فقال أجيبت في دعوة إبراهيم الحربي، رحمه الله.
وحدثني صديقا الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمود بن النجار حرسه الله قال: حدثني أبو بكر أحمد ابن سعيد بن أحمد الصباغ الأصبهاني بها قال:

حدثنا أحمد بن عمر بن الفضل الحافظ الأصبهاني، ويعرف بجنك إملاء، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد المقري، يعني أبا علي الحداد قال: أظنه عن أبي نعيم، أنه كان يحضر في مجلس إبراهيم الحربي جماعة من الشبان للقراءة عليه، ففقد أحدهم أياماً، فسأل عنه من حضر، فقالوا: هو مشغول، فسكت، ثم سألهم مرة أخرى في يوم آخر، فأجابوه بمثل ذلك، وكان الشاب قد ابتلي بمحبة شخص شغله عن حضور مجلسه، وعظموا إبراهيم الحربي أن يخبروه بجلية الحال، فلما تكرر السؤال عنه، وهم لا يزيدونه على أنه مشغول، قال لهم: يا قوم، إن كان مريضاً فقوموا بنا لعيادته، أو مديوناً اجتهدنا في مساعدته، أو محبوساً سعينا في خلاصه، فخبروني عن جلية حاله، فقالوا: نجلك عن ذلك، فقال لابد أن تخبروني، فقالوا إنه قد ابتلي بعشق صبي، فوجم إبراهيم ساعة ثم قال: هذا الصبي الذي ابتلي بعشقه مليح أو قبيح؟ فعجب القوم من سؤاله عن مثل ذلك مع جلالته في أنفسهم، وقالوا: أيها الشيخ، مثلك يسأل عن مثل هذا؟ فقال: إنه بلغني أن الإنسان إذا ابتلي بمحبة صورة قبيحة كان بلاء يجب الاستعاذة من مثله، وإن كان مليحاً كان ابتلاء يجب الصبر عليه، واحتمال المشقة فيه، قال فعجبنا مما أتى به، قلت: هذه الحكاية مع الإسناد، حدثنيه مفاوضة بحلب، ولم يكن أصله معه فكتبته بالمعنى، واللفظ يزيد وينقص. ومن مصنفات إبراهيم الحربي. كتاب سجود القرآن، كتاب مناسك الحج، كتاب الهدايا والسنة فيها، كتاب الحمام وآدابه. والذي خرج من تفسيره لغريب الحديث، مسند أبي بكر رضي الله عنه، مسند عمر رضي الله عنه، مسند عثمان رضي الله عنه، مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه، مسند الزبير رضي الله عنه مسند طلحة رضي الله عنه مسند سعد ابن أبي وقاص، مسند عبد الرحمن بن عوف، مسند العباس رضي الله عنه مسند شيبة بن عثمان رضي الله عنه مسند عبد الله بن جعفر مسند المسور بن مخرمة رضي الله عنه، مسند المطلب ابن ربيعة، مسند السائب، مسند خالد ابن الوليد، مسند أبي عبيدة بن الجراح، مسند ما روى عن معاوية، مسند ما روي عن عاصم بن عمر، مسند صفوان بن أمية، مسند جبلة بن هبيرة، مسند عمرو ابن العاص، مسند عمران بن الحصين، مسند حكيم بن حزام، مسند عبد الله بن زمعة، مسند عبد الرحمن بن سمرة، مسند عبد الله بن عمرو، مسند عبد الله بن عمر.

إبراهيم بن إسحاق الأديب
اللغوي أبو إسحاق الضرير البارع، سمع الحديث بالبصرة والأهواز وببغداد، بعد الأربعين والثلاثمائة، وكان من الشعراء المجودين، طاف بعض الدنيا، ثم استوطن نيسابور، إلى أن مات بها في سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، (وكان من الشعراء المجودين)، وممن تعلم الفقه والكلام قال ذلك كله الحاكم. ولقيه وروى عنه شيئاً.
إبراهيم بن إسماعيل بن أحمد بن عبد الله
الطرابلسي، يعرف بابن الأجدابي، وأجدابية من نواحي أفريقية. له أدب، وحفظ، ولغة، وتصانيف، ومن مشاهيرها: كتاب كفاية المتحفظ، صغير الحجم، كثير النفع، وكتاب الأنواء.
إبراهيم بن السري بن سهل
أبو إسحاق النحوي قال الخطيب: كان من أهل الدين والفضل، حسن الاعتقاد، جميل المذهب، وله مصنفات حسان في الأدب، مات في جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة.
وحكى ابن مهذب في تاريخه. حدثني الشيخ أبو العلاء المعري أنه سمع عنه ببغداد، أنه لما حضرته الوفاة سئل عن سنه، فعقد لهم سبعين، وآخر ما سمع منه: اللهم احشرني على مذهب أحمد بن حنبل: وأبو إسحاق هو أستاذ أبي علي الفارسي.

قال الخطيب بإسناده، قال أبو محمد عبد الله بن درستويه النحوي: حدثني الزجاج قال: كنت أخرط الزجاج فاشتهيت النحو، فلزمت المبردلتعلمه، وكان لا يعلم مجاناً ولا يعلم بأجرة إلا على قدرها، فقال لي: أي شيء صناعتك؟ قلت: أخرط الزجاج، وكسبي في كل يوم درهم ودانقان أو درهم ونصف، وأريد أن تبالغ في تعليمي، وأنا أعطيك كل يوم درهماً، وأشرط لك أن أعطيك إياه أبداً، إلى أن يفرق الموت بيننا، استغنيت عن التعليم أو احتجت إليه، قال: فلزمته، وكنت أخدمه في أموره مع ذلك وأعطيه الدرهم، فينصحني في العلم، حتى استقللت، فجاء كتاب بعض بني مارقة من الصراة يلتمسون معلماً نحوياً لأولادهم، فقلت له أسمني لهم، فأسماني، فخرجت فكنت أعلمهم وأنفذ إليه في كل شهر ثلاثين درهماً، وأزيده بعد ذلك بما أقدر عليه، ومضت مدة على ذلك، فطلب منه عبيد الله بن سليمان مؤدباً لابنه القاسم، فقال له: لا أعرف لك إلا رجلاً بالصراة مع بني مارقة، قال: فكتب إليهم عبيد الله فاستنزلهم عني، فنزلوا له، فأحضرني وأسلم القاسم إلي، فكان ذلك سبب غنائي، وكنت أعطي المبرد ذلك الدرهم في كل يوم إلى أن مات، ولا أخليه من التفقد بحسب طاقتي، قال فكنت أقول للقاسم بن عبيد الله: إن بلغك الله مبلغ أبيك ووليت الوزارة ماذا تصنع بي؟ فيقول: ماذا أحببت؟ فأقول له: تعطينني عشرين ألف دينار، وكانت غاية أمنيتي، فما مضت سنون حتى ولي القاسم الوزارة، وأنا على ملازمتي له، وصرت نديمه، فدعتني نفسي إلى إذكاره بالوعد، ثم هبته، فلما كان في اليوم الثالث من وزارته قال لي: يا أبا إسحاق، لم أرك أذكرتني بالنذر، فقلت: عولت على رعاية الوزير أيده الله، وأنه لا يحتاج إلى إذكار بنذر عليه في أمر خادم واجب الحق، فقال لي: إنه المعتضد، ولولاه ما تعاظمني دفع ذلك إليك في مكان واحد، ولكني أخاف أن يصير لي معه حديث، فاسمح بأخذه متفرقاً، فقلت يا سيدي أفعل، فقال: اجلس للناس وخذ رقاعهم في الحوائج الكبار واستجعل عليها، ولا تمتنع عن مسألتي شيئاً تخاطب فيه، صحيحاً كان أو محالاً، إلى أن يحصل لك مال النذر، قال: ففعلت ذلك، وكنت أعرض عليه كل يوم رقاعاً، فيوقع لي فيها، وربما قال لي: كم ضمن لك على هذا؟ فأقول كذا وكذا، فيقول لي غبنت، هذا يساوي كذا وكذا إرجع فاستزد، فأراجع القوم، فلا أزال أماكسهم ويزيدوني، حتى أبلغ الحد الذي رسمه، قال وعرضت عليه شيئاً عظيماً، فحصلت عندي عشرون ألف دينار، وأكثر منها في مديدة، فقال لي بعد شهور يا أبا إسحاق، حصل مال النذر؟ فقلت لا، فسكت، وكنت أعرض عليه فيسألني في كل شهر ونحوه حصل المال؟ فأقول لا، خوفاً من انقطاع الكسب إلى أن حصل لي ضعف ذلك المال.
وسألني يوماً فاستحييت من الكذب المتصل، فقلت قد حصل ذلك ببركة الوزير، فقال فرجت والله عني، فقد كنت مشغول القلب إلى أن يحصل لك، قال ثم أخذ الدواة فوقع إلى خزانه بثلاثة آلاف دينار صلة فأخذتها، وامتنعت أن أعرض عليه شيئاً، ولم أدر كيف أقع منه؟ فلما كان من الغد جئته وجلست على رسمي فأومأ إلى أن هات ما معك، يستدعي مني الرقاع على الرسم، فقلت ما أخذت من أحد رقعة، لأن النذر وقع الوفاء به، ولم أدر كيف أقع من الوزير؟ فقال يا سبحان الله! أتراني أقطع عنك شيئاً قد صار لك عادة؟ وعلم به الناس، وصارت لك به منزلة عندهم وجاه، وغدو ورواح إلى بابك، ولا يعلم سبب انقطاعه، فيظن ذلك لضعف جاهك عندي، أو تغير رتبتك عندي، اعرض علي رسمك، وخذ بلا حساب، فقبلت يده، وباكرته من غد بالرقاع، فكنت أعرض عليه كل يوم شيئاً إلى أن مات وقد تأثلت حالي هذه.
وحدث أبو علي الفارسي النحوي قال: دخلت مع شيخنا أبي إسحاق الزجاج على القاسم بن عبيد الله الوزير، فورد عليه خادم وساره بشيء استبشر له، ثم تقدم إلى شيخنا أبي إسحاق بالمكوث إلى أن يعود، ثم نهض فلم يكن بأسرع من أن عاد وفي وجهه أثر الوجوم، فسأله شيخنا عن ذلك، لأنس كان بينه وبينه، فقال له: كانت تختلف إلينا جارية لإحدى المغنيات، فسمتها أن تبيعني إياها فامتنعت من ذلك، ثم أشار عليها أحد من ينصحها أن تهديها إلي، رجاء أن أضاعف لها ثمنها، فلما وردت أعلمني الخادم بذلك، فنهضت مستبشراً لأفتضها، فوجدتها قد حاضت، فكان مني ما ترى، فأخذ شيخنا الدواة من بين يديه وكتب:

فارس ماض بحربته ... حاذق بالطعن في الظلم
رام أن يدمي فريسته ... فاتقته من دم بدم
قال: وجرى بين الزجاج وبين المعروف بمسيند، وكان من أهل العلم تنمر، فاتصل ونسجه إبليس وألحمه، حتى خرج إبراهيم بن السري إلى حد الشتم، فكتب إليه مسيند:
أبي الزجاج إلا شتم عرضي ... لينفعه فأثمه وضره
وأقسم صادقاً ما كان حر ... ليطلق لفظة في شتم حره
ولو أني كررت لفر مني ... ولكن للمنون علي كره
فأصبح قد وقاه الله شري ... ليوم لا وقاه الله شره
فلما اتصل هذا الشعر بالزجاج قصده راجلاً حتى اعتذر إليه وسأله الصفح. كل هذا من تاريخ الخطيب إبراهيم.
أنبأنا يزيد بن الحسن الكندي عن أبي منصور الجواليقي عن المبارك الصيرفي، عن علي بن أحمد بن الدهان، عن عبد السلام بن حسن البصري، قال: كتب إلينا أبو الحسن علي بن محمد الشمشاطي من الموصل قال: قال أبو إسحاق بن السري الزجاج رحمه الله، دخلت على أبي العباس ثعلب رحمه الله، في أيام أبي العباس محمد بن يزيد المبرد وقد أملى شيئاً من المقتضب، فسلمت عليه وعنده أبو موسى الحامض، وكان يحسدني شديداً، ويجاهرني بالعداوة، وكنت ألين له وأحتمله لموضع الشيخوخة، فقال لي أبو العباس: قد حمل إلي بعض ما أملاه هذا الخلدي، فرأيته لا يطوع لسانه بعبارة، فقلت له إنه لا يشك في حسن عبارته اثنان، ولكن سوء رأيك فيه يعيبه عندك، فقال: ما رأيته إلا ألكن متغلقاً، فقال أبو موسى: والله إن صاحبكم ألكن يعني سيبويه، فأحفظني ذلك، ثم قال: بلغني عن الفراء أنه قال: دخلت البصرة فلقيت يونس وأصحابه، فسمعتهم يذكرونه بالحفظ والدراية وحسن الفطنة، فأتيته فإذا هو أعجم لا يفصح، سمعته يقول لجارية له: هات ذيك الماء من ذاك الجرة، فخرجت من عنده ولم أعد إليه، فقلت له: هذا لا يصح عن الفراء، وأنت غير مأمون في هذه الحكاية، ولا يعرف أصحاب سيبويه من هذا شيئاً، وكيف تقول هذا لمن يقول في أول كتابه: هذا باب علم ما الكلم من العربية؟ وهذا يعجز عن إدراك فهمه كثير من الفصحاء، فضلاً عن النطق به: فقال ثعلب: قد وجدت في كتابه نحواً من هذا، قلت: ما هو؟ قال يقول في كتابه في غير نسخة: حاشا حرف يخفض ما بعده كما تخفض حتى، وفيها معنى الاستثناء، فقلت له: هذا كذا في كتابه، وهو صحيح، ذهب في التذكير إلى الحرف، وفي التأنيث إلى الكلمة، قال: والأجود أن يحمل الكلام على وجه واحد، قلت: كل جيد، قال الله تعالى: " ومن يقنت منكن لله ورسوله ويعمل صالحاً " . وقرئ وتعمل صالحاً. وقال عز وجل: " ومنهم من يستمعون إليك " ذهب إلى المعنى، ثم قال: " ومنهم من ينظر إليك " ذهب إلى اللفظ، وليس لقائل أن يقول: لو حمل الكلام على وجه واحد في الاثنين كان أجود، لأن كلا جيد، فأما نحن فلا نذكر حدود الفراء، لأن صوابه فيه أكثر من أن يعد، ولكن هذا أنت: عملت كتاب الفصيح للمبتدئ المتعلم، وهو عشرون ورقة، أخطأت في عشرة مواضع منه قال لي اذكرها، قلت له نعم، قلت وهو عرق النسا، ولا يقال عرق النسا، كما لا يقال عرق الأبهر، ولا عرق الأكحل.
قال امرؤ القيس:
فأنشب أظفاره في النسا ... فقلت هبلت ألا تنتصر
وقلت: حلمت في النوم أحلم حلماً، ليس بمصدر، وإنما هو اسم، قال الله تعالى: " والذين لم يبلغوا الحلم منكم " وإذا كان للشيء مصدر واسم، لم يوضع الاسم موضع المصدر، ألا ترى أنك تقول: حسبت الشيء أحسبه حسباً وحساباً، والحسب المصدر، والحساب الاسم، ولو قلت ما بلغ الحسب إليك ورفعت الحسب إليك لم يجز، وأنت تريد ورفعت الحساب إليك، وقلت: رجل عزب، وامرأة عزبة، وهذا خطأ، إنما يقال رجل عزب، وامرأة عزب، لأنه مصدر وصف به فلا يجمع ولا يثنى، ولا يؤنث، كما يقال رجل خصم وامرأة خصم، وقد أتيت بباب من هذا النوع في الكتاب، وأفردت هذا منه، قال الشاعر:
يا من يدل عزباً على عزب

وقالت كسرى بكسر الكاف وهذا خطأ، إنما هو كسرى، والدليل على ذلك أنا وإياكم لا نختلف في النسب إلى كسرى، يقال كسروي بفتح الكاف، وليس هذا مما يغير بالنسب لبعده منها، ألاترى أنك لو نسبت إلى معزى لقلت معزوي، وإلى درهم قلت درهمي ولا يقال معزوي ولا درهمي، وقلت: وعدت الرجل خيراً وشراً، فإذا لم تذكر الشر قلت أوعدته بكذا، نقضاً لما أصلت، لأنك قلت بكذا، وقولك بكذا كناية عن الشر، والصواب أن تقول إذا لم تذكر الشر قلت أوعدته، وقلت: وهم المطوعة، وإنما هم المطوعة، بتشديد الطاء كما قال الله تعالى: " يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات " فقال ما قلت إلا المطوعة، فقلت: هكذا قرأته عليك، وقرأه غيري وأنا حاضر أسمع مراراً. وقلت هو لرشدة وزنية، كما هو لغية، والباب فيها واحد، لأنه إنما يريد المرة الواحدة، ومصادر الثلاثي إذا أردت المرة الواحدة لم تختلف، تقول ضربته ضربة، وجلست جلسة وركبت ركبة، لا اختلاف في ذلك بين أحد من النحويين، وإنما تكسر من ذلك ما كان هيئة حال، فتصفها بالحسن والقبح وغيرهما، فتقول: هو حسن الجلسة والسيرة والركبة، وليس هذا من ذلك. وقلت: أسنمة للبلدة، ورواه الأصمعي بضم الهمزة أسنمة، فقال: ما روى ابن الأعرابي وأصحابنا إلا أسنمة، فقلت قد علمت أنت أن الأصمعي أضبط لما يحكى، وأوثق فيما يروى، وقلت: إذا عز أخوك فهن، والكلام فهن، وهو من هان يهين إذا لان، ومنه قيل هين لين، لأن هن من هان يهون من الهوان، والعرب لا تأمر بذلك، ولا معنى لهذا الكلام يصح لو قالته العرب، ومعنى عز ليس من العزة التي هي المنعة والقدرة، وإنما هو من قولك عز الشيء إذا اشتد، ومعنى الكلام: إذا صعب أخوك واشتد فذل من الذل له، ولا معنى للذل ههنا، كما تقول إذا صعب أخوك فلن له، قال فما قرئ عليه كتاب الفصيح بعد ذلك علمي، ثم بلغني أنه سئم ذلك، فأنكر كتاب الفصيح أن يكون له.
قال المؤلف: وهذه المآخذ التي أخذها الزجاج على ثعلب لم يسلم إليه العلماء باللغة فيها، وقد ألفوا تآليف في الانتصار لثعلب يضيق هذا المختصر عن ذكرها.
وحدث الزجاج قال: أنشدنا أبو العباس المبرد:
في انقباض وحشمة فإذا ... رأيت أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها ... وجئت ما جئت غير محتشم
قال عبيد الله الفقير: وهذان البيتان يرويان لمحمد بن كناسة، وقد رواهما آخرون لأبي نواس، قال الزجاج: فقلت له: أليس يقول الأصمعي الحشمة الغضب؟ والحشمة الاستحياء، لأن الغضب والاستحياء جميعاً نقصان في النفس، وانحطاط عن الكمال، فلذلك كان مخرجهما واحداً، قال: فقلت له: أليس الحياء محموداً، والغضب مذموماً؟؟ وقد روي أن الحياء شعبة من الإيمان، وقد قيل: إذا لم تستح فافعل ما تشاء، فقال: الحياء محمود في الدين، وفي اجتناب المحارم، وفي الإفضال، وأما في ترك الحقوق، والنكوص عن الخصوم عند الحجاج، فهو نقصان في النفس.
قال أبو العباس: وسمعت المازني يقول: معنى قولهم إذا لم تستح فاصنع ما شئت أي إذا صنعت ما لا تستحي من مثله فاصنع ما شئت، وليس على ما يذهب إليه العوام، وهذا تأويل حسن.

قال حمزة بن الحسن الأصبهاني في كتاب الموازنة: كان الزجاج يزعم أن كل لفظتين اتفقتا ببعض الحروف وإن نقص حروف إحداهما عن حروف الأخرى فإن إحداهما مشتقة من الأخرى، فيقول الرجل مشتق من الرجل، والثور إنما يسمى ثوراً لأنه يثير الأرض، والثوب إنما سمي ثوباً لأنه ثاب لباساً بعد أن كان غزلاً، حسيبه الله، كذا قال، قال: وزعم أن القرنان إنما سمى قرناناً لأنه مطيق لفجور امرأته، كالثور القرنان أي المطيق لحمل قرنه، وفي القرآن " وما كنا له مقرنين " أي مطيقين قال: وحكى يحيى بن علي بن يحيى المنجم، أنه سأله بحضرة عبد الله بن أحمد بن حمدون النديم، من أي شيء اشتق الجرجير؟ قال لأن الريح تجرجره، قال وما معنى تجرجره؟ قال تجرره، قال ومن هذا قيل للحبل الجرير، لأنه يجر على الأرض، قال: والجرة لم سميت جرة؟ قال: لأنها تجر على الأرض، فقال لو جرت على الأرض لانكسرت، قال: فالمجرة لم سميت مجرة؟ قال لأن الله جرها في السماء جراً، قال: فالجرجور الذي هو اسم المائة من الإبل لم سميت به؟ قال: لأنها تجر بالأزمة وتقاد، قال: فالفصيل المجر، الذي يشق طرف لسانه، لئلا يرتضع أمه، ما قولك فيه؟ قال لأنهم جروا لسانه حتى قطعوه، قال فإن جروا أذنيه فقطعوه تسميه مجراً؟ قال لا يجوز ذلك، فقال يحيى بن علي: قد نقضت العلة التي أتيت بها على نفسك، ومن لم يدر أن هذا مناقضة فلا حس له، قال حمزة: وشهدت ابن العلاف الشاعر وعنده من يحكي عن كتاب الزجاج أشياء من شنيع الاشتقاق الذي فيه، ثم قال إني حضرته وقد سئل عن اشتقاق القصة، قال لأنها تقصع الجوع أي تكسره، قال ابن العلاف يلزمه أن يقول: الخضض مشتق من الخضيض. والعصفر مشتق من العصفور، والدب مشتق من الدب، والعذب من الشراب مشتق من العذاب، والخريف من الخروف، والعقل مشتق من العاقول، والحلم مشتق من الحلمة، والإقليم مشتق من القلم، والخنفساء من الفساء، والخنثى من الأنثى، والمخنث من المؤنث، ضرط إبليس على ذا من أدب.
وقال ابن بشران: كان أبو إسحاق الزجاج ينزل بالجانب الغربي من بغداد، في الموضع المعروف بالدويرة، وأنشدت له:
قعودي لا يرد الرزق عني ... ولا يدنيه إن لم يقض شي
قعدت فقد أتاني في قعودي ... وسرت فعافني والسير لي
فلما أن رأيت القصد أدنى ... إلى رشدي وأن الحرص غي
تركت لمدلج دلج الليالي ... ولي ظل أعيش به وفي

حدث أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي البصري قال: لما مات أبو العباس أحمد بن يحيى بكى أبو إسحاق الزجاج، فقلت ما بكاؤك؟ فقال لي: أين يذهب بك؟ أليس كان يقال: أحمد بن يحيى جالس وإبراهيم الزجاج اليوم؟ فقال الزجاج ونفطويه وابن الأنباري: مات الناقد، ونفقت البهارج. وحدث المرزباني في كتاب المقتبس، ولم يذكر من خبره غير هذه القصة، وذكرها ابن النديم في فهرسته، قالا جميعاً: كان السبب في اتصال أبي إسحاق الزجاج بالمعتضد، أن بعض الندماء وصف للمعتضد كتاب جامع النطق الذي عمله محبرة النديم، قال محمد بن إسحاق خاصة، واسم محبرة محمد بن يحيى بن أبي عباد، ويكنى أبا جعفر، واسم أبي عباد جابر بن زيد بن الصباح العسكري، وكان حسن الأدب، ونادم المعتضد، وجعل كتابه جداول، رجع الكلام إلى اتفاقهما، فأمر المعتضد القاسم بن عبيد الله أن يطلب من يفسر تلك الجداول، فبعث إلى ثعلب وعرضه عليه فلم يتوجه إلى حساب الجداول، وقال لست أعرف هذا، وإن أردتم كتاب العين فموجود، ولا رواية له فكتب ابن عبيد الله إلى المبرد أن يفسرها، فأجابهم: إنه كتاب طويل، يحتاج إلى تعب وشغل، وإنه قد كبر وضعف عن ذلك، وإن دفعتموه إلى صاحبي إبراهيم بن السري رجوت أن يفي بذلك، فتغافل القاسم عن مذاكرة المعتضد بالزجاج حتى ألح عليه المعتضد، فأخبره بقول ثعلب والمبرد وأنه أحال على الزجاج، فتقدم إليه بالتقدم إلى الزجاج بذلك، ففعل القاسم، فقال الزجاج: أنا أعمل ذلك على غير نسخة، ولا نظر في جدول، فأمره بعمل الثنائي، فاستعار الزجاج كتب اللغة من ثعلب والسكري وغيرهما، لأنه كان ضعيف العلم باللغة، ففسر الثنائي كله، وكتبه بخط الترمذي الصغير أبي الحسن، وجلده، وحمله إلى الوزير، وحمله الوزير إلى المعتضد، واستحسنه وأمر له بثلاثمائة دينار، وتقدم إليه بتفسيره كله، ولم يخرج مما عمله الزجاج نسخة إلى أحد، إلا إلى خزانة المعتضد ووزيره.
وقال ابن النديم: ثم ظهر في كتاب السلطان هذا التفسير منقطعاً، ورأيناه في طلحي لطيف، وصار للزجاج بهذا السبب منزلة عظيمة، وجعل له رزق في الندماء، ورزق في الفقهاء، ورزق في العلماء، نحو ثلاثمائة دينار، قال ابن النديم: وللزجاج من الكتب: كتاب ما فسره من جامع النطق، كتاب معاني القرآن، " قرأت على ظهر كتاب المعاني: ابتدأ أبو إسحاق بإملاء كتابه الموسوم بمعاني القرآن في صفر سنة خمس وثمانين ومائتين وأتمه في شهر ربيع الأول، سنة إحدى وثلثمائة " ، كتاب الاشتقاق، كتاب القوافي، كتاب العروض، كتاب الفرق، كتاب خلق الإنسان، كتاب خلق الفرس، كتاب مختصر النحو، كتاب فعلت وأفعلت، كتاب ما ينصرف وما لا ينصرف، كتاب شرح أبيات سيبويه، كتاب النوادر.

إبراهيم بن سعدان بن حمزة
الشيباني المؤدب، ذكره المرزباني في كتابه وقال: كان أبو الحسن العنزي كثير الرواية عنه، يروى عنه الأخبار، ومستحسن الأشعار. وكان لسعدان بن المبارك النحوي ابن يسمى إبراهيم، روى عن أبيه النقائض، ورواها عنه أبو سعيد السكري، ولست أعلم أهو الذي نسبه العنزي إليه أم غيره؟ لأن العنزي نسبه إلى سعدان بن حمزة الشيباني، والله أعلم. كل هذا كلام المرزباني.
وكان إبراهيم بن سعدان النحوي فيما رواه أحمد بن أبي طاهر، يؤدب المؤيد، وكان ذا منزلة عنده. وحدث المرزباني فيما رفعه إلى أبي إسحاق الطلي أحمد بن محمد بن حسان في جمال إبراهيم بن سعدان:
ألا أيها العير المصرف لونه ... بلونين في قر الشتاء وفي الصيف
هلم وقاك الله من كل آفة ... إلى مجد مولاك الشفيق على الضيف
وحدث المرزباني عن عبد الله بن يحيى العسكري، عن أبي إسحاق الطلي قال: أخبرنا إبراهيم بن سعدان، قال: حرفان فيهما أربع وعشرون نقطة لا يعرف مثلهما حكاهما أبو الحسن الجبائي، تتقتقت أي صعدت في الجبل، وتبشبشت من البشاشة، وحرف في القرآن هجاؤه عشرة أحرف متصلة، ليس في القرآن مثله في سورة النور: " ليستخلفنهم في الأرض " .

وحدث المرزباني عن الصولي عن أبي العيناء قال: قال لي المتوكل: بلغني أنك رافضي، فقلت يا أمير المؤمنين وكيف أكون رافضياً وبلدي البصرة، ومنشئي مسجد جامعها، وأستاذي الأصمعي، وجيراني باهلة؟ وليس يخلو الناس من طلب دين أو دنيا، فإن أرادوا ديناً فقد أجمع المسلمون على تقديم من أخروا، وتأخير من قدموا، وإن أرادوا دنيا فأنت وآباؤك أمراء المؤمنين، لا دين إلا بك، ولا دنيا إلا معك، أبوك مستنزل الغيث، وفي يديك خزائن الأرض، وأنا مولاك، فقال: إن ابن سعدان زعم ذلك فيك، فقلت: ومن ابن سعدان؟ والله ما يفرق ذلك بي الإمام والمأموم، والتابع والمتبوع، إنما ذاك حامل درة، ومعلم صبية، وآخذ على كتاب الله أجرة، فقال: لا تفعل، لأنه مؤدب المؤيد، فقلت يا أمير المؤمنين: إنه لم يؤدبه حسبة، وإنما أدبه بأجرة، فإذا أعطيته حقه فقد قضيت ذمامه، فقام ابن سعدان فقال: يا أبا العيناء، لا والله ما صدق أمير المؤمنين في شيء مما حكاه عني، ثم أقبل على المتوكل فقال: أي شيء أسهل عليك يا أمير المؤمنين من أن ينقضي مجلسك على ما تحب، ثم يخرج هذا فتقطعني؟ قال: فضحك المتوكل:

إبراهيم بن سعيد بن الطيب
أبو إسحاق الرفاعي، قال أبو طاهر السلفي: وسألته يعني أبا الكرم الجوزي عن الرفاعي فقال: هو من عبيد السبي، وكان ضريراً، قدم صبياً ذا فاقة إلى واسط، فدخل الجامع إلى حلقة عبد الغفار الحصيني، فتلقن القرآن فكان معاشه من أهل الحلقة، ثم أصعد إلى بغداد، فصحب أبا سعيد السيرافي، وقرأ عليه كتاب شرح سيبويه، وسمع منه كتب اللغة والدواوين، وعاد إلى واسط وقد مات عبد الغفار، فجلس صدراً يقرئ الناس في الجامع، ونزل الزيدية من واسط، وهناك تكون الرافضة والعلويون، فنسب إلى مذهبهم، ومقت على ذلك، وجفاه الناس، وكان شاعراً حسن الشعر جيده، وحدث في كتاب أبي غالب محمد بن أحمد بن سهل النحوي، أنشدني أبو إسحاق الرفاعي لنفسه.
وأحبة ما كنت أحسب أنني ... أبلي ببينتهم فبنت وبانوا
نأت المسافة فالتذكر حظهم ... مني وحظي منهم النسيان
ومات سنة إحدى عشرة وأربعمائة سمعت أبا نعيم أحمد بن علي بن أخي سدة المقرئ الإمام يقول: رأيت جنازة أبي إسحاق الرفاعي مع غروب الشمس تخرج إلى الجبانة وخلفها رجلان، فحدثت بها شيخنا أبا الفتح بن المختار النحوي فقال: سمى لك الرجلين؟ فقلت لا، فقال كنت أنا أحدهما، وأبو غالب ابن بشران الآخر، وما صدقنا أنا نسلم خوفاً أن نقتل.
ومن عجائب ما اتفق أن هذا الرجل توفي وكان على هذا الوصف من الفضل فكانت هذه حاله، وتوفي في غد يوم وفاته رجل من حشو العامة، يعرف بدناءة كان سوادياً، فأغلق البلد لأجله، وصلى عليه الناس كافة، ولم يوصل إلى جنازته من كثرة الزحام: آخر كلام الجوزي. وذكر لي أبو عبد الله محمد بن سعيد الذهبي، وذكره في أخبار النحوين الواسطيين أنه توفي في سنة اثنتي وعشرين وأربعمائة، فذاكرته بما قاله الجوزي فقال: الرجوع إلى الحق خير من التمادي على الباطل، الذي ذكره الجوزي هو الحق، أنا وهم.
وحدث أبو غالب بن بشران قال: أنشدنا أبو إسحاق الرفاعي وما رأيت قط أعلم منه قال أنشدنا عبد الغفار ابن عبد الله، قال أنشدنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد نفطويه:
اقبل معاذير من يأتيك معتذراً ... إن بر عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من أرضاك ظاهره ... وقد أجلك من يعصيك مستترا
إبراهيم بن سفيان الزيادي
هو إبراهيم بن سفيان بن سليمان بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن زياد بن أبيه، كان نحوياً لغوياً راوية، قرأ كتاب سيبويه على سيبويه ولم يتمه، وروى عن الأصمعي وأبي عبيدة ونظرائهما، وكان شاعراً، مات سنة تسع وأربعين ومائتين، ومن شعره الذي رواه المرزباني في حجر النار الهاشمي،
دفع الرحمن عنكا ... م إن ذاك الدفع عني
وأتى فيك بمن يع ... ذلني قارع سن
إن تكن برزت في الحس ... ن فقد برز حزني
حدث المرزباني عن المبرد عن الزيادي قال: كان في جواري حق قد دعيت إليه فحضرت، وجيء بنبيذ وطنبور، فغنى مغنيهم:
قولا لمن يتعرى ... ومن يبدد شرا
تركت فتيان صدق ... يجبلون في الحسن درا

وصرت إلف خسيس ... يعيد خيرك شرا
هيهات فاتك والله ... من يغرك غرا
فقلت لمن هذا الشعر، أصلحك الله؟ قال: لي يا سيدي، وأنا جوان بن دست الباهلي سيدي، قلت ليس جوان ودست عافاك الله من أسماء العرب، قال: أي شيء عليك من ذا سيدي؟، قلت فردد الصوت، قال تريد تقمشه؟ كنك عقاب، أو كنى ما أعرفك، ما تركت على كبد ابن عمي الأصمعي الماء، وقد جئت إلي طارت فراخ برجك طارت. قال: فوثبت مما حل بي فلم أعد إليهم. وحدث قال: كان الزيادي يشبه بالأصمعي في معرفته للشعر ومعايبه، وكان فيه دعابة ومزاح، فمن شعره في ذلك:
قد خرج الهجر على الوصل ... وانقطع الحبل من الحبل
ودبق الهجر جناح الهوى ... وانفلت الوصل من البخل
فليت ذا الهجر قبيل الهوى ... فيسلم الوصل من القتل
وقال الجماز يهجو الريادي:
ليس بكذاب ولا آثم ... من قال إبراهيم ملعون
حكم رسول الله في جده ما ناله إلا الملاعين وبعد هذا كله إنه يعجبه القثاء والتين وللزيادي من التصانيف: كتاب النقط والشكل، كتاب الأمثال، كتاب تنميق الأخبار، كتاب أسماء السحاب والرياح والأمطار، كتاب شرح نكت كتاب سيبويه. وقال إبراهيم الزيادي في جارية سوداء كان يحبها:
ألا حبذا حبذا حبذا ... حبيب تحملت فيه الأذى
ويا حبذا برد أنيابه ... إذا الليل أظلم واجلوذا

إبراهيم بن سليمان بن عبد الله
ابن حبان النهمي بظن من همدان، الخزار الكوفي أبو إسحاق، أخباري، ذكره أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في كتاب مصنفي الإمامية، وقال: هو ثقة في الحديث، سكن الكوفة في بني تميم، فربما قيل التميمي، قال: ثم سكن في بني هلال، فربما قيل الهلالي ونسبه في نهم.
له من الكتب: كتاب النوادر، كتاب الخطب، كتاب الدعاء، كتاب المناسك، كتاب أخبار ذي القرنين، كتاب إرم ذات العماد، كتاب قبض روح المؤمن والكافر، كتاب الدفائن، كتاب خلق السموات، كتاب أخبار جرهم.
إبراهيم بن صالح الوراق
أبو إسحاق، تلميذ أبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، ذكره الباخرزي في كتاب دمية القصر فقال أنشدني له الأديب يعقوب بن أحمد، وهو أحسن ما قيل في معنى دود القز:
وبنات جيب ما انتفعت بعيشها ... ووأدتها فنفعني بقبور
ثم انبعثن عواطلاً فإذا لها ... قرن الكباش إلى جناح طيور
قال: ومن المعاني المثارة من دود القز قول أبي الفتح البستي:
ألم تر أن المرء طول حياته ... معنى بأمر لا يزال يعالجه؟
تراه كدود القز ينسج دائباً ... ويهلك غماً وسط ما هو ناسجه
ولأبي إسحاق يهجو ابن زكريا المتكلم الأصبهاني:
أبا أحمد يا أشبه الناس كلهم ... خلافاً وخلقاً بالرخال النواسح
لعمرك ما طالت بتلك اللحى لكم ... حياة ولكن بالعقول الكواسج
إبراهيم بن أبي عباد اليمني
وهو ابن أخي الحسن بن إسحاق، بن أبي عباد النحوي، ذكر في موضعه، وإبراهيم هذا من أعيان النحويين باليمن، وله تصنيفان في النحو مختصران، سمي أحدهما التلقين، والآخر يعرف بمختصر إبراهيم، وكان متأخراً بعد الخمسمائة.
إبراهيم بن العباس الصولي
أبو إسحاق الكاتب، هو إبراهيم بن العباس بن محمد ابن صول، مولى يزيد ابن المهلب، كنيته أبو إسحاق مات في شعبان سنة ثلاث وأربعين ومائتين بسامراً، وهو يتولى ديوان النفقات والضياع، مولده سنة ست وسبعين ومائة، وقيل سنة سبع وستين، وكان صول رجلاً تركياً، وكان هو وأخوه فيروز ملكي جرجان، وتمجسا بعد التركية، وتشبها بالفرس، فلما حضر يزيد بن المهلب بن أبي صفرة جرجان أمنهما، فأسلم صول على يده، ولم يزل معه حتى قتل يزيد يوم العقر.

وكان يزيد بن المهلب لما دعا إلى نفسه لحق به صول وغيره، فصادفه قد قتل. وذكر الصولي أن صولاً جده شهد الحرب مع يزيد بن المهلب، وأن يزيد وجد مقتولاً بلا طعنة ولا ضربة، انسدت أذناه ومنخراه، وامتلأ فمه بغبار العسكر فمات، فلا يعرف مثله قتيل غبار، قال: ومعه قتل صول وجماعة من أصحابه وغلمانه، وقيل بل انحاز إلى العباس بن الوليد في جماعة من غلمانه، فأعطاه العباس أماناً وبعض أولاد المهلب معه، فلما حصلا في يده غدر بهم، وقتلهم جميعاً، وكان يقاتل كل من بينه وبين يزيد من جيوش بني أمية، ويكتب على سهامه: صول يدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فبلغ ذلك يزيد بن عبد الملك فاغتاظ، وجعل يقول: ويلي على ابن الغلفاء، ماله وللدعاء إلى كتاب الله وسنة نبيه؟ ولعله لا يفقه صلاته.
وكان محمد بن صول من رجال الدولة العباسية ودعاتها، وكان يكنى أبا عمارة، وقتله عبد الله بن علي، لما خالف مع مقاتل بن حكيم العكي، وكان بعض أهليهم ادعوا أنهم عرب، وأن العباس بن الأحنف الشاعر خالهم.
وكان إبراهيم بن العباس وأخوه عبد الله من وجوه الكتاب، وكان عبد الله أسنهما، وأشدهما تقدماً، وكان إبراهيم آدبهما، وأحسنهما، شعراً، وكان إذا قال شعراً اختاره، وأسقط رذله، وأثبت نخبته، فمن ذلك قوله:
ولكن الجواد أبا هشام ... وفي العهد مأمون المغيب
بطئ عندما استغنيت عنه ... وطلاع عليك مع الخطوب
وهذا من نادر الشعر وجيده، ومن ذلك قوله لأخيه عبد الله:
ولكن عبد الله لما حوى الغنى ... وصار له من بين إخوانه مال
رأى خلة منهم تسد بماله ... فساهمهم حتى استوت بهم الحال
وهذا الشعر يدل على أن قبله غيره، ولولا أن يكون قبله غيره لقال ألا إن الجواد أبا هشام، وألا إن عبد الله أو يكون قصد الإيهام بمدح قد تقدم، هذه الأبيات من جملته، والله أعلم، وكان إبراهيم كاتباً، حاذقاً، بليغاً، فصيحاً، منشئاً، وإبراهيم وأخوه عبد الله من صنائع ذي الرياستين الفضل ابن سهل، اتصلا به فرفع منهما، وتنقل إبراهيم في الأعمال الجليلة، والدواوين، إلى أن مات وهو متول ديوان الضياع والنفقات بسر من رأى، سنة ثلاث وأربعين ومائتين للنصف من شعبان، وكان دعبل يقول: لو تكسب إبراهيم بالشعر لتركنا في غير شيء، وتعجب من قوله:
إن امرأ ضن بمعروفه ... عني لمبذول له عذري
ما أنا بالراغب في خيره ... إن كان لا يرغب في شكري
وكان إبراهيم صديقاً لمحمد بن عبد الملك الزيات، فولى محمد الوزارة وإبراهيم على الأهواز، فقصده ووجه إليه بأبي الجهم أحمد بن سيف وأمره بكشفه، فتحامل عليه تحاملاً شديداً، فكتب إبراهيم إلى محمد ابن عبد الملك:
وإني لأرجو بعد هذا محمداً ... لأفضل ما يرجى أخ ووزير
فأقام محمد على أمره، ولج أبو الجهم في التحامل عليه، فكتب إبراهيم إلى ابن الزيات، يشكو إليه أبا الجهم ويقول: هو كافر لا يبالي ما عمل، وهو القائل لما مات غلامه يخاطب ملك الموت:
تركت عبيد بني طاهر ... وقد ملأوا الأرض عرضاً وطولا
وأقبلت تسعى إلى واحدي ... ضراراً كأن قد قتلت الرسولا
فسوف أدين بترك الصلا ... ة وأصطبح الخمر صرفاً شمولاً
فكان محمد لعصبيته على إبراهيم وقصده له يقول: ليس هذا الشعر لأبي الجهم، وإنما إبراهيم قاله ونسبه إلى أبي الجهم.
وكتب إبراهيم إلى ابن الزيات يستعطفه: كتبت وقد بلغت المدية المحز، وعدت الأيام علي بعد عدواي بك عليها، وكان أسوأ الظن وأكثر خوفي أن تسكن في وقت حركتها، وتكف عند أذاتها، فصرت أضر علي منها، فكف الصديق عن نصرتي خوفاً منك، وبادر إلى العدو تقرباً إليك، وكتب تحت ذلك:
أخ بيني وبين الده ... ر صاحب أينا غلبا
صديقي ما استقام وإن ... نبا دهر علي نبا
وثبت على الزمان به ... فعاد به وقد وثبا
ولو عاد الزمان لنا ... لعاد به أخاً حدبا

وكتب إليه: أما والله لو آمنت ودك لقلت، ولكني أخاف منك عتباً لا تنصفني فيه، وأخشى من نفسي لائمة لا تحتملها لي، وما قدر فهو كائن، عن كل حادثة أحدوثة، وما استبدلت بحالة كنت فيها مغتبطاً حالاً أنا في مكروهها، ولكنها أشد علي من أني فزعت إلى ناصري عند ظلم لحقني، فوجدت من ظلمني أخف نية في ظلمي منه، وأحمد الله كثيراً، وكتب تحتها:
وكنت أخيب إخاء الزما ... ن فلما نبا صرت حرباً عوانا
وكنت أذم إليك الزما ... ن فأصبحت فيك أذم الزمانا
وكنت أعدك للنائبا ... ت فها أنا أطلب منك الأمانا
قال: ثم وقف الواثق على تحامله عليه، فرفع يده عنه، وأمره أن يقبل منه ما رفعه، ويرد إلى الحضرة مصوناً، فلما أحس إبراهيم بذلك، بسط لسانه في ابن الزيات، وهجاه هجاء كثيراً منه:
قدرت فلم تضرر عدواً بقدرة ... وسمت بها إخوانك الذل والرغما
وكنت ملياً بالتي قد يعافها ... من الناس من يأبى الدنية والذما
وقال أيضاً فيه:
أبا جعفر خف خفضة بعد رفعة ... وقصر قليلاً عن مدى غلوائكا
فإن كنت قد أوتيت عزاً ورفعة ... فإن رجائي في غد كرجائكا
وقال أيضاً فيه:
دعوتك في بلوى ألمت صروفها ... فأوقدت من ضغن علي سعيرها
وإني إذا أدعوك عند ملمة ... كداعية بين القبور نصيرها
ولما مات ابن الزيات قال إبراهيم: لما أتاني خبر الزيات
وأنه قد عد في الأموات ... أيقنت أن موته حياتي
ولما انحرف محمد بن عبد الملك عن إبراهيم تحاماه الناس إن تلقوه، وكان الحارث بن بشتخير الزريم المغني صديقاً له مصافياً، وهجره فيمن هجره من الإخوان، فكتب إليه:
تغير لي فيمن تغير حارث ... وكم من أخ قد غيرته الحوادث
أحارث إن شوركت فيك فطالما ... غنينا وما بيني وبينك ثالث
ومن مستحسن شعر إبراهيم بن العباس قوله:
خل النفاق لأهله ... وعليك فالتمس الطريقا
وارغب بنفسك أن ترى ... إلا عدواً أو صديقاً
ومنه:
أميل مع الصديق على ابن أمي ... وأقضي للصديق على الشقيق
وأفرق بين معروفي ومني ... وأجمع بين مالي والحقوق
فإن ألفيتني حراً مطاعاً ... فإنك واجدي عبد الصديق
وكان إبراهيم يهوى جارية لبعض المغنين بسر من رأى، يقال لها ساهر، شهر بها، وكان منزله لا يخلو منها، ثم دعيت في وليمة لبعض أهلها، فغابت عنه ثلاثة أيامن ثم جاءته ومعها جاريتان لمولاها، وقالت له: قد أهديت صاحبتي إليك، عوضاً عن مغيبي عنك، فقال:
أقبلن يحففن مثل الشمس طالعة ... قد حسن الله أولاها وأخراها
ما كنت فيهن إلا كنت واسطة ... وكن دونك يمناها ويسراها
وجلس يوماً مع إخوانه للشرب، وبعث خلفها فأبطأت عليه، وتنغص عليه وعلى جلسائه يومه، وكان عندهم عدة من القيان، ثم وافت فسرى عنه، وطلبت نفسه، وشرب وطرب، وقال:
ألم ترنا يومنا إذ نأت ... ولم تأت من بين أترابها
وقد غمرتنا دواعي السرو ... ر بإشغالها وبإلهابها
ونحن فتور إلى أن بدت ... وبدر الدجى تحت أثوابها
ولما نأت كيف كنا بها ... ولما دنت كيف صرنا بها
فتغضبت فقالت: ما القصة كما ذكرت، وقد كنتم في قصفكم مع من حضر، وإنما تجملتم لي لما حضرت، فقال:
يا من حنيني إليه ... ومن فؤادي لديه
ومن إذا غاب من بي ... نهم أسفت عليه
إذا حضرت فمن بين ... هم أصب إليه
من غاب غيرك منهم ... فإذنه في يديه
فرضيت، فأقاموا يومهم على أحسن حال، ثم طال العهد بينهما فملها، وكانت شاعرة، وكانت تهواه أيضاً، فكتبت إليه تعاتبه:
بالله يا ناقض العهود بمن ... بعدك من أهل ودنا نثق؟
واسوأتا ما استحيت لي أبدا ... إن ذكر العاشقون من عشقوا
لا غرني كاتب له أدب ... ولا ظريف مهذب لبق

كنت بذاك اللسان نختلني ... دهراً ولم أدر أنه ملق
فاعتذر إليها وراجعها، فلم تر منه ما تكره حتى فرق الموت بينهما.
وحدث علي بن الحسين الإسكافي قال: كان لإبراهيم ابن قد يفع وترعرع، وكان به معجباً، فاعتل علة لم تطل حتى مات، فرثاه مراثي كثيرة، وجزع عليه جزعاً شديداً، فمن مراثيه فيه:
كنت السواد لمقلتي ... فبكى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
وقال أيضاً فيه:
ومازلت مذ لد أعطيته ... أدافع عنه حمام الأجل
أعوذه دائباً بالقرآ ... ن وأرمي بطرفي إلى حيث حل
فأضحت يدي قصدها واحد ... إلى حيث حل فلم يرتحل
ومر إبراهيم برجل يستثقله فسلم عليه فقال لبعض من معه: إنه جرمي، فقال له: ما كان عندي إلا أنه من أهل السواد، فضحك إبراهيم وقال: إنما أردت قول الشاعر:
يسائل عن أخي جرم ... ثقيل والذي خلقه
وكتب إبراهيم شفاعة لرجل إلى بعض إخوانه: فلان ممن يزكو شكره، ويعنيني أمره، والصنيعة عنده واجدة موضعها، وسالكة طريقها،
وأفضل ما يأتيه ذو الدين والحجى ... إصابة شكر لم يضع معه أجر
ونظر إبراهيم إلى الحسن بن وهب وهو مخمور فقال له:
عيناك قد حكتا مبي ... تك كيف كنت وكيف كانا
ولرب عين قد أرت ... ك مبيت صاحبها عيانا
وقال: ورفع أحمد بن المدبر على بعض عمال إبراهيم، فحضر إبراهيم دار المتوكل فرأى هلال الشهر على وجهه، ودعا له وضحك، وقال له: إن أحمد بن المدبر رفع على عاملك كذا وكذا فاصدقني عنه، قال إبراهيم: فضاقت علي الحجة، وخفت أن أحقق قوله إن اعترفت، ثم لا أرجع منه إلى شيء فيعود على الغرم، فعدلت عن الحجة إلى الحيلة، فقلت: أنا في هذا يا أمير المؤمنين كما قلت فيك:
رد قولي وصدق الأقوالا ... وأطاع الوشاة والعذالا
أتراه يكون شهر صدود ... وعلى وجهه رأيت الهلالا؟
فقال لا يكون ذلك، واللهلا يكون ذلك أبداً، والتفت إلى الوزير وقال له: كيف تقبل في المال قول صاحبه. وكان أحمد بن يحيى ثعلب يقول: إبراهيم ابن العباس أشعر المحدثين، وما روي شعر كاتب غيره، وكان يستجيد قوله:
لنا إبل كوم يضيق بها الفضا ... ويفتر عنها أرضها وسماؤها
فمن دونها أن تستباح دماؤنا ... ومن دوننا أن ننستذم دماؤها
حمىً وقرى فالموت دون مرامها ... وأيسر خطب يوم حق فناؤها
ويقول: والله لو أن هذا لبعض الأوائل لاستجيد له: وقال إبراهيم في قينة كان يهواها:
وعلمتني كيف الهوى وجهلته ... وعلمكم صبري على ظلمكم ظلمي
وأعلم مالي عندكم فيردني ... هواي إلى جهلي فأرجع عن علمي
ومن أحسن ما قيل في قصر الليل، قول إبراهيم بن العباس:
وليلة من الليالي الزهر ... قابلت فيها بدرها ببدر
لم تك غير شفق وفجر ... حتى تولت وهي بكر الدهر
وقال أبو الغيث: كنت عند إبراهيم بن العباس وهو يكتب كتاباً، فنقطت القلم نقطة مفسدة فمسحها بكمه، فعجبت فقال: لا تعجب، المال فرع، والقلم أصل، ومن هذا السواد جاءت هذه الثياب، والأصل أحوج إلى المراعاة من الفرع، ثم فكر قليلاً وقال:
إذا ما الفكر ولد حسن لفظ ... وأسلمه الوجود إلى العيان
ووشاه فنمنمه بيان ... فصيح في المقال بلا لسان
ترى حلل البيان منشرات ... تجلى بينها حلل المعاني
وقال إبراهيم في الفضل بن سهل:
يقضي الأمور على بديهته ... وتريه فكرته عواقبها
فيظل يصدرها ويوردها ... فيعم حاضرها وغائبها
وإذا ألمت صعبة عظمت ... فيها الرزيئة كان صاحبها
المستقل بها وقد رسبت ... ولوت على الأيام جانبها
وعدلتها بالعدل فاعتدلت ... ووسعت راغبها وراهبها
وإذا الحروب علت بعثت لها ... رأيا تفل به كتائبها
رأياً إذا نبت السيوف مضى ... عزم به فشفى مضاربها

أجرى إلى فئة بدولتها ... وأقام في أخرى نوادبها
وإذا الخطوب تأثلت ورست ... هدت فواضله نوائبها
وإذا جرت بضميره يده ... أبدت له الدنيا مناقبها
قال: واجتمع هارون بن محمد بن عبد الملك بن الزيات وابن برد الخباز، في مجلس عبيد الله بن سليمان، فجعل هارون ينشد من شعر أبيه ومحاسنه، ويفضله ويقدمه، فقال له ابن برد الخباز: إن كان لأبيك مثل قول إبراهيم ابن العباس الصولي:
أسد ضار إذا هيجته ... وأب بر إذا ما قدرا
يعرف الأبعد إن أثرى ولا ... يعرف الأدنى إذا ما افتقرا
أو مثل قوله:
تلج السنون بيوتهم وترى لهم ... عن جار بيتهم ازورار مناكب
وتراهم بسيوفهم وشفارهم ... مستشرفين لراغب أو راهب
حامين أو قارين حيث لقيتهم ... نهب العفاة ونزهة للراغب
فاذكره وفاخر به، وإلا فأقلل، فخجل هارون.
قال: ودخل عليه أحمد بن المدبر بعد خلاصه من النكبة مهنئاً، وكان استعان به في أمر النكبة فقعد عنه، وبلغه أنه كان يسعى ويحرض عليه ابن الزيات، فقال:
وكنت أخي بالدهر حتى إذا نبا ... نبوت، فلما عاد عدت مع الدهر
فلا يوم إقبالي عددتك طائلاً ... ولا يوم إدباري عددتك من وتر
وما كنت إلا مثل أحلام نائم ... كلا حالتيك من وفاء ومن غدر
وله أيضاً فيه:
لو قيل لي خذ أماناً ... من أعظم الحدثان
لما أخذت أماناً ... إلا من الخلان
فأنا أستحسن قوله:
حتى متى أنا في حزن وفي غصص ... إذا تجدد حزن هون الماضي؟
وقد غضبت فما باليتم غضبي ... حتى رجعت بقلب ساخط راض
ومما كتب إبراهيم بن العباس إلى ابن الزيات:
من رأى في المنام مثل أخ لي ... كان عوني على الزمان وخلي؟
رفعت حاله فحاول حطي ... وأبى أن يعز إلا بذلي
وكتب إليه يستعطفه:
فهبني مسيئاً مثل ما قلت ظالماً ... فعفواً جميلاً كي يكون لك الفضل
فإن لم أكن بالعفو منك لسوء ما ... جنيت به أهلاً فأنت له أهل
ومن منثور كلامه: أتاني فلان في وقت أستثقل فيه لحظة الفرح وحدث الصولي عن العباس بن محمد قال: أنشدني إبراهيم بن العباس، في مجلسه في ديوان الضياع:
ربما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجة كحل العقال
ونكت بقلمه ثم قال:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعاً وعند الله منها المخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكنت أظنها لا تفرج
قال: فعجبنا من سرعة طبعه، وجودة قريحته.
وحدث الصولي عن أحمد بن يزيد المهلبي قال: حدثي أبي قال: لما قرأ إبراهيم بن العباس على المتوكل رسالته إلى أهل حمص.
أما بعد، فإن أمير المؤمنين يرى من حق الله عليه بما قوم به من أود، وعدل به من زيغ، ولم به من منتشر، استعمال ثلاث يقدم بعضهن أمام بعض، أولاهن ما يتقدم به من تنبيه وتوقيف، ثم ما يستظهر به من تحذير وتخويف، ثم التي لا يقع حسم الداء بغيرها:
أناة فإن لم تغن عقب بعدها ... وعيداً فإن لم يغن أغنت عزائمه
عجب المتوكل من حسن ذلك، وأومأ إلى عبيد الله أما تسمع؟ فقال يا أمير المؤمنين: إن إبراهيم فضيلة خبأها الله لك، واحتبسها على أيامك، وهذا أول شعر نفذ في كتاب عن خلفاء بني العباس.
وحدث عن ميمون بن هارون عن أبيه قال: قلت لإبراهيم بن العباس: إن فلاناً يحب أن يكون لك ولياً فقال لي: أنا والله أحب أن تكون الناس جميعاً إخواني، ولكني لا آخذ منهم إلا من أطيق قضاء حقه، وإلا استحالوا أعداء، وما مثلهم إلا كمثل النار، قليلها مقنع، وكثيرها محرق.
وقال الحسين بن علي الباقطائي: شاورت أبا الصقر قبل وزارته في أمر لي فعرفني الصواب فيه، فقلت له: أنت أيدك الله كما قال إبراهيم بن العباس في هذا المعنى:
أتيتك شتى الرأي لابس حيرة ... فسددتني حتى رأيت العواقبا
على حين ألقى الرأي دوني حجابه ... فجبت الخطوب واعتسفت المذاهبا

فقال: لا تبرح والله حتى أكتب البيتين، فكتبتهما له بين يديه بخطي.
وحدث أبو ذكوان قال: لما توفي المعتصم بالله، وقام ابنه الواثق خليفة بعده، كتب إليه إبراهيم بن العباس يعزيه بأبيه ويهنئه بالخلافة: إن أحق الناس بالشكر من جاء به عن الله، وأولاهم بالصبر من كان سلفه رسول الله، وأمير المؤمنين أعزه الله وآباؤه نصرهم الله أولو الكتاب الناطق عن الله بالشكر، وعترة رسوله المخصوصون بالصبر، وفي كتاب الله أعظم الشفاء وفي رسوله أحسن العزاء، وقد كان من وفاة أمير المؤمنين المعتصم بالله، ومن مشيئة الله في ولاية أمير المؤمنين الواثق بالله، ما عفا على أوله آخره، وتلافت بدأته عاقبته، فحق الله في الأولى الصبر، وفرضه في الأخرى الشكر، فإن رأى أمير المؤمنين أن يستنجز ثواب الله بصبره، ويستدعي زيادته بشكره، فعل إن شاء الله تعالى وحده: ومن كلامه: ووجد أعداء الله زخرف باطلهم، وتمويه كذبهم سراباً " بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً " وكوميض برق عرض فأسرع، ولمع فأطمع، حتى انحسرت مغاربه، وتشعبت مولية مذاهبه، وأيقن راجيه وطالبه، ألا ملاذ ولا وزر، ولا مورد ولا صدر، ولا من الحرب مفر، هنالك ظهرت عواقب الحق منجية، وخواتم الباطل مردية، سنة الله فيما أزاله وأداله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولا عن قضائه تحويلاً، وحدثني الصولي قال: حدثني يحيى ابن البحتري قال: رأيت أبي يذاكر جماعة من شعراء الشام بمعان من الشعر، فمر فيها قلة نوم العاشق وما قيل في ذلك، فأنشدوا إنشادات فيها، فقال لهم أبي: فرغ من هذا كاتب العراق، إبراهيم بن العباس، فقال:
أحسب النوم حكاكا ... إذ رأى منك جفاكا
مني الصبر ومنك ال ... هجر فابلغ بي مداكا
كذبت همة عين ... طمعت في أن تراكا
أي ما حظ لعينٍ ... أن ترى من قد رآكا؟
ليت حظي منك أن تع ... لم ما بي من هواكا
ثم قال البحتري: تصرفت هذه الأبيات في معان من الشعر أحسن في جميعها، قال فكتبتها عنه أجمعها ومما روي له الصولي.
أولى البرية طرا أن تواسيه ... عند السرور، الذي واساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وروي له، وهو في الحماسة:
لا يمنعنك خفض العيش في دعةٍ ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان
تلقى بكل بلاد إن حللت بها ... أرضاً بأرض وجيراناً بجيران
قال الصولي: حدثني جرير بن أحمد بن أبي دؤاد، قال: كان إبراهيم أصدق الناس لأبي، فعتب على ابنه أبي الوليد في شيء، فقال فيه أحسن قول ذمه فمدح أباه، وما أحسن هذا من جهة جرير:
عفت مساو تبدت منك واضحة ... على محاسن نقاها أبوك لكا
لئن تقدمت أبناء الكرام به ... فقد تقدم آباء الكرام بكا
وروي لإبراهيم في محمد بن عبد الملك:
إن كان رزقي عليك فارم به ... في ما صفا حبه على رصد
لو كنت حراً كما زعمت وقد ... كررتني بالمطال لم أعد
لكنني عدت ثم عدت فإن ... عدت إلى مثلها إذاً فعد
أعتقني سوء ما أتيت من ال ... رق فيا بردها على كبدي
فصرت عبداً للسوء فيك وما ... أحسن سوء قبلي إلى أحد
وله فيه:
وقائل لا أبداً ... إن جد أو إن هزلا
فهو إذا اضطر إلى ... قول نعم قال بلى
تعودوا منه لما ض ... من بالاً قول لا
ومما يستحسن من شعر إبراهيم ابن العباس:
إبتداء بالتجني ... وقضاء بالتظني
واشتفاء بتجني ... ك لأعدائك مني
بأبي قل لي كي أع ... لم لم أعرضت عني؟
قد تمنى ذاك أعدا ... ئي فقد نالوا التمني
وقال أبو زيد البلخي وذكر إبراهيم بن العباس فقال: كان من أبلغ الناس في الكتابة، حتى صار كلامه مثلاً. كتب كتاب فتح عجيباً أثنى على الله وحمده ثم قال في خلال ذلك: وقسم الله الفاسق أقساماً ثلاثة، روحاً معجلة إلى نار الله، وجثة منصوبة بفناء معقله وهامة منقولة إلى دار خلافته.

وحدث الجهشياري عن وهب بن سليمان بن وهب قال: كنت أكتب لإبراهيم بن العباس على ديوان الضياع، وكان رجلاً بليغاً، ولم يكن له في الخراج تقدم، وكان بينه وبين أحمد بن المدبر تباعد، وكان أحمد مقدماً في الكتابة، فقال أحمد بن المدبر للمتوكل: قلدت إبراهيم بن العباس ديوان الضياع وهو متخلف، آية من الآيات لا يحسن قليلاً ولا كثيراً، وطعن عليه طعناً قبيحاً، فقال المتوكل: في غد أجمع بينكما، واتصل الخبر بإبراهيم فأيقن بحاول المكروه، وعلم أنه لا يفي بأحمد بن المدبر في صناعته، وغدا إلى دار السلطان آيساً من نفسه ونعمته، وحضر أحمد فقال له المتوكل: قد حضر إبراهيم وحضرت، ومن أجلكم قعدت، فهات: اذكر ما كنت فيه أمس، فقال أحمد: أي شيء أذكر عنه؟ فإنه لا يعرف أسماء عماله في النواحي، ولا يعلم ما في دساترهم، من تقديراتهم، وكيولهم، وحمل من حمل منهم، ومن لم يحمل، ولا يعرف أسماء النواحي التي تقلدها، وقد اقتطع صاحبه بناحية كذا كذا ألفاً، واختلت ناحية كذا في العمارة، وأطال في ذكر هذه الأمور، فالتفت المتوكل إلى إبراهيم فقال: ما سكوتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، جوابي في بيتي شعر قلتهما! فإن أذن أمير المؤمنين أنشدتهما، فقال هات: فأنشده البيتين المذكورين، رد قولي وصدق الأقوالا، فقال المتوكل زه زه أحسنت، إيتوني بمن يعمل في هذا لحناً، وهاتوا ما نأكل، وجيئوا بالنساء، ودعونا من فضول ابن المدبر، واخلعوا على إبراهيم بن العباس، فخلع عليه، وانصرف إلى منزله.
قال الحسن فمكث يومه مغموماً، فقلت له: هذا يوم سرور وجذل بما جدد الله لك من الانتصار على خصمك، فقال يا بني: الحق أولى بمثل وأشبه، إني لم أدفع أحمد بحجة ولا كذب في شيء مما ذكر، ولا أنا ممن يعشره في الخراج، كما أنه لا يعشرني في البلاغة وإنما فلجت برطازةٍ ومخرقةٍ، أفلا أبكي، فضلاً عن أن أغتم من زمان يدفع ذلك كله.
وقال الجهشياري: رأيت دفتراً بخط إبراهيم بن العباس الصولي فيه شعره، قال في حبس موسى بن عبد الملك، إياه يصف غليظ ما هو فيه من الحبس وثقل الحديد والقيد، ويذكر موسى في شعره، وكان يكنى بأبي الحسن، فكناه بأبي عمران، فقال في قصيدة طويلة:
كم ترى يبقى على ذابدني؟ ... قد بلي من طول همي وفني
أنا في أسر وأسباب ردي ... وحديد فادح يكلمني
وأبو عمران موسى حنق ... حاقد يطلبني بالإحن
ليس يشفيه سوى سفك دمي ... أو يراني مدرجاً في كفني
وقد كتب أحمد بن مدبر بخطه في ظهر هذا الدفتر:
أبا إسحاق إن تكن الليالي ... عطفن عليك بالخطب الجسيم
فلم أر صرف هذا الدهر يجري ... بمكروه على غير الكريم
ولإبراهيم بن العباس من التصانيف فيما ذكره محمد ابن إسحاق النديم، كتاب ديوان رسائله، كتاب ديوان شعره، كتاب الدولة كبير، كتاب الطبيخ كتاب العطر، ومات إبراهيم بن العباس الصولي في سنة ثلاث وأربعين ومائتين في شعبان وهو يتولى ديوان الضياع والنفقات بسامراً.

إبراهيم بن عبد الله النجيرمي
أبو إسحاق النحوي اللغوي أخذ عنه أبو الحسين المهلبي، وجنادة اللغوي الهروي، وكثير من أهل العلم، وكان مقامه بمصر.
قال أبو سعد السمعاني: النجيرمي نسبة إلى نجيرم، ويقال نجارم، وهي محلة بالبصرة، قال المؤلف: لم يصب السمعاني في قوله، إلا أن يكون طائفة من أهل هذا الموضع أقاموا بموضع من محال البصرة فنسب إليهم، ونجيرم قرية كبيرة على ساحل بحر فارس، بينها وبين سيراف نحو خمسة عشر فرسخاً، رأيتها يسمونها أهلها والتجار نيرم، فيسقطون الجيم تخفيفاً، أو تخلفاً، وليس مثلها يحتمل أن يكون لأهلها محلة بالبصرة، وهم فرس من فرس الحال، أكثر أكلهم النبق والسمك حدثني بعض أهل مصر عند كوني بها في سنة اثنتي عشرة وستمائة قال: حدثت أن الفضل بن عباس دخل على كافور الأخشيدي فقال له: أدام الله أيام سيدنا الأستاذ، فخفض الأيام، فتبسم كافور إلى أبي إسحاق النجيرمي، فقال أبو إسحاق:
لا غرو أن لحن الداعي لسيدنا ... وغص من هيبة بالريق والبهر
فمثل سيدنا حالت مهابته ... بين البليغ وبين القول بالحصر

فإن يكن خفض الأيام عن دهش ... من شدة الخوف لا من قلة البصر
فقد تفاءلت في هذا لسيدنا ... والفأل نأثره عن سيد البشر
بأن أيامه خفض بلا نصب ... وأن دولته صو بلا كدر
قال: فأمر له بثلاثمائة دينار، ولابن عباس بمثلها، هكذا أخبرني المصري في خبر هذا الشعر، وأنه لأبي إسحاق النجيرمي، ووجدت في أخبار رواها أبو الجوائز الواسطي قال: حدثني أبو الحسين بن أدين النحوي، وكان شيخاً قد نيف على الثمانين، في سنة أربعمائة قال: حضرت مع والدي وأنا طفل مجلس كافور الإخشيدي، وهو غاص بأهله، فدخل رجل غريب، فسلم ودعا له، وذكر القصة، ولم يذكر الفضل بن عباس، قال: فقام رجل فأنشد ولم يذكر النجيرمي، وأنشد الشعر بعينه، وجهل الرجلين.
قرأت في كتاب من إملاء النجيرمي قال كاتبها: أنشدني أبو إسحاق وهي له:
بدلني الدهر أميراً معوزاً ... بسيد كان خضماً كوثرا
إذا شممت كفة مؤملاً ... شممت منها غمراً مقترا
بما أشم مسكها والعنبرا ... يا بدلاً كان لقاءً أعورا
وأنشدهم أيضاً لنفسه:
وإني فتى ضبر على الأين والوجى ... إذا اعتصروا للوح ماء فظاظها
إذا ضربوها ساعة بدمائها ... وحل عن الكوماء عقد شظاظها
فإنك ضحاك إلى كل صاحب ... وأنطق من قس غداة عكاظها
إذا اشتغب المولى مشاغب مغشمٍ ... فعذره فيها آخذاً بكظاظها

إبراهيم بن عبد الله الغزال اللغوي
لا أعرف من حاله شيئاً، إلا أن السلفي قال: أنشدني أبو القاسم الحسن بن الفتح بن حمزة بن الفتح الهمذاني قال: أنشدني إبراهيم بن عبد الله الغزال اللغوي لنفسه، وكان يتبخبخ بهما:
والبرق في الديجور أهطل مزنة ... أبدت نباتاً أرضها كالزرنب
فوجدت بحراً فيه نار فوقه ... غيم يرى فيه بليلٍ غيهب
إبراهيم بن عبد الرحيم العروضي
حكى عنه أبو العباس أحمد بن محمد النامي في كتاب القوافي فهو من طبقة ابن درستويه وعلي بن سليمان الأخفش.
إبراهيم بن عثمان أبو القاسم بن الوزان
القيرواني النحوي كان فقيهاً على مذهب العراقي وإماماً في النحو واللغة والعربية والعروض غير مدافع مع قلة ادعاء وخفض جناح، وكان عبد الله بن محمد المكفوف يقر له بالفضل، وانتهى من العلم إلى ما لعله لم يبلغه أحد قبله وأما في زمانه فلا يشك فيه، مات سنة ست وأربعين وثلاثمائة وكان يحفظ كتاب العين للخليل ابن أحمد، وغريب المصنف لأبي عبيد، وإصلاح المنطق لابن السكيت، وغيرها من كتب اللغة وحفظ قبل ذلك كتاب سيبويه، ثم كتب الفراء، وكان يميل إلى مذهب البصريين مع إتقانه معرفة مذاهب الكوفيين، وقال: ولو قال قائل إنه كان أعلم من المبرد وثعلب لصدقه من وقف على علمه ونفاذه، وكان مع ذلك مقصراً في صناعة الشعر وله تصانيف كثيرة في النحو واللغة
إبراهيم بن علي أبو إسحاق الفارسي
النحوي، من تلاميذ أبي علي الفارسي، وله كتاب شرح الجرمي معروف متداول بأيدي الناس، ذكره الثعالبي في البخاريين، وقال هو من الأعيان في علم اللغة والنحو، ورد بخارى في أيام السامانية، فأجل وبجل، ودرس عليه أبناء الرؤساء والكتاب بها، وأخذوا عنه، وولي التصفح في ديوان الرسائل، ولم يزل يليه إلى أن استأثر الله به، وله شعر لم يقع إلي منه إلا قوله في بعض الرؤساء بالحضرة يستهدي منه جبة خز بيضاء غير لبيس من قصيدة:
وأعن على برد الشتاء بجبة ... تذر الشتاء مقيداً مسجوناً
سوسية بيضاء يترك لونها ... ألوان حسادي شواحب جونا
عذراء لم تلبس فكفك في العلا ... تأنى عذاراها وتأبى العونا
تسبي ببهجتها عيوناً لم تزل ... تسبي قلوباً في الهوى وعيونا
مثل القلوب من العداة حرارة ... مثل الخدود من الكواعب لينا

قال أبو حيان في كتاب الوزيرين وقد ذكر ابن العميد فقال: وقد اجتاز به أبو إسحاق الفارسي، وكان من غلمان أبي سعيد السيرافي، وكان قيماً بالكتاب وفريض الشعر، وصنف وأملى، وشرح وتكلم في العروض والقوافي، والمعاني، وناقض المتنبي، وحفظ العلم والرم فما زوده درهماً، ولا تفقده برغيف بعد أن أذن له، حتى حضره وسمع كلامه، وعرف فضله، واستبان سعيه.

إبراهيم بن عقيل بن جيش بن محمد
إبن سعيد أبو إسحاق القرشي، المعروف بابن المكبري النحوي الدمشقي، مات فيما ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق في سنة أربع وسبعين وأربعمائة، ودفن بالباب الصغير.
وذكر أنه حدث عن أبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الشرابي النحوي، وروى عنه أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب وأبو محمد بن الأكفاني.
قال الخطيب وكان صدوقاً قال ابن عساكر وفي قوله نظر: قال وذكره الخطيب في كتابه الذي سماه تلخيص المتشابه، قيده كما كتبناه في أول الترجمة، قال ابن عساكر: وكان أبو إسحاق يذكر أن عنده تعليقة أبي الأسود الدؤلي، التي ألقاها إليه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وكان كثيراً ما يعد بها أصحابه، ولاسيما أصحاب الحديث، ولا يفي، إلى أن كتبها عنه بعض تلاميذه الذين يقرءون عليه، وإذا به قد ركب عليها إسناداً لا حقيقة له، اعتبر فوجد موضوعاً، مركباً بعض رجاله أقدم ممن روى عنه، ولم يكن الخطيب علم بذلك ولا وقف عليه، فلذلك وثقه، قال: وهذه التعليقة فهي في أمالي أبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي النحوي، نحواً من عشرة أسطر، فجعلها هذا الشيخ إبراهيم قريباً من عشرة أوراق، وله كتاب في النحو، رأيته قدر اللمع، وقد أجاز فيه.
إبراهيم بن الفضل الهاشمي اللغوي
قال الحاكم في تاريخ نيسابور: أبو إسحاق الأديب اللغوي، أقام بنيسابور سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، وسمعته يذكر جماعة من أبي محمد بن صاعد وأقرانه، وسمعته يقول: سمعت أبا بكر بن دريد ينشد لنفسه:
ودعته حين لا تودعه ... نفسي ولكنها تسير معه
ثم افترقنا وفي القلوب له ... ضيق مكان وفي الدموع سعه
إبراهيم بن قطن المهري القيرواني
أخو أبي الوليد عبد الملك المذكور في بابه، ذكره الزبيدي في كتابه وقال: قرأ إبراهيم النحو قبل أخيه أبي الوليد، وكان سبب طلب أبي الوليد النحو أن أخاه إبراهيم رآه يوماً وقد مد يده إلى بعض كتبه يقلبها، فأخذ أبو الوليد كتاباً منها ينظر فيه فجذبه من يده وقال له: مالك ولهذا؟ وأسمعه كلاماً، فغضب أبو الوليد لما قابله به أخوه، وأخذ في طلب العلم حتى علا عليه، وعلى أهل زمانه كلهم، واشتهر ذكره، وسما قدره، فليس أحد يجهل أمره، ولا يعرف إبراهيم إلا القليل من الناس، وكان إبراهيم يرى رأي الخوارج الإباضية:
إبراهيم بن ماهويه الفارسي
رجل أديب، لا أعرف من حاله إلا ما ذكره المسعودي، فقال: له كتاب عارض فيه المبرد في كتابه الملقب بالكامل.
إبراهيم بن محمد بن أبي حصن

الحارث بن أسماء، بن خارجة، بن حصن، بن حذيفة، بن بدر، الفزاري أبو إسحاق، كوفي الأصل نزل ثغر المصيصة حتى مات به، في عدة روايات ذكرها ابن عساكر في تاريخ دمشق، أصحها أنه مات سنة ثمان وثمانين، وقد روي أنه مات سنة ست، وقيل سنة خمس وثمانين، وكان خيِّراً، فاضلاً، ورعاً، صاحب سنة، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وله فضائل جمة، يذكر منها في هذا الكتاب ما انتخبناه من كتاب دمشسسق، وكان أبو إسحاق مع ما اشتهر من فضله كثير الغلط، وله كتاب السيرة في الأخبار والأحداث، رواه عنه أبو عمرو معوية بن عمرو الرومي، وتوفي أبو عمرو هذا ببغداد، سنة خمس عشرة وثلاثمائة. قال ابن عساكر: أبو إسحاق أحد أئمة المسلمين، وأعلام الدين، روى عن الأعمش، وسليمان البتي، وأبي إسحاق سليمان بن فيروز الشيباني، وعبد الملك بن عمير وعطاء بن السائب، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وموسى ابن عقبة، وهشام بن عروة، وحميد الطويل، وسفيان الثوري، وذكر خلقاً كثيراً، وروى عنه سفيان الثوري وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وهما أكبر منه، وذكر خلقاً رووا عنه، وحدث فيما رفعه إلى رباح ابن الفرج الدمشقي قال: سمعت أبا مسهر يقول: قدم علينا إبراهيم بن الفزاري، فاجتمع الناس يسمعون منه، فقال لي: اخرج إلى الناس فقل لهم: من يرى رأي القدرية فلا يحضر مجلسنا، ومن كان يأتي السلطان فلا يحضر مجلسنا، قال: فخرجت فأخبرت الناس، قال.
وقال عبد الرحمن النسائي: أبو إسحاق الفزاري ثقة مأمون، أحد الأئمة، وكان يكون بالشام، روى عنه ابن المبارك، وحدث الأوزاعي بحديث، فقال رجل، من حدثك يا أبا عمرو؟ فقال: حدثني الصادق المصدق أبو إسحاق إبراهيم الفزاري، وحدث فيما رفعه إلى أبي صالح محبوب بن موسى الفراء، قال: سألت ابن عيينة قلت: حديث سمعت أبا إسحاق رواه عنك، أحببت أن أسمعه منك، فغضب علي فاتهرين، وقال: لا يقنعك أن تسمعه من أبي إسحاق، والله ما رأيت أحداً أقدمه على أبي إسحاق، وقال أبو صالح أيضاً: ولقيت الفضل بن عياض فعزاني بأبي إسحاق، وقال لي: والله لربما اشتقت إلى المصيصة مالي فضل الرباط إلا لأرى أبا إسحاق.
حدث فيما رفعه إلى أبي مسلم صالح بن أحمد العجلي عن أبيه قال: أبو إسحاق الفزاري كوفي، إسمه إبراهيم بن محمد، نزل الثغر بالمصيصة، وكان ثقة، رجلاً صالحاً، صاحب سنة، وهو الذي أدب أهل الثغر، وعلمهم السنة، وكان يأمر وينهى، وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه، وكان كثير الحديث، وكان له فقه، أمر سلطاناً يوماً ونهاه فضربه مائتي سوط، وتكلم فيه، وسئل عنه يحيى بن معين فقال: ثقة ثقة. قال أبو صالح الحسين بن محمد بن موسى الفراء: سمعت علي بن بكار يقول: لقيت الرجال الذين لقيهم أبو إسحاق بن عون وغيرهم، والله ما رأيت فيهم أفقه منه. قال أبو صالح: قال عطاء الخفاف: كنت عند الأوزاعي فأراد أن يكتب إلى أبي إسحاق، فقال للكاتب: اكتب إليه: وابدأ به، فإنه والله خير مني.
قال: وكنت عند الثوري، فأراد أن يكتب إلى أبي إسحاق، فقال للكاتب: اكتب إليه فابدأ به، فإنه والله خير مني.
وحدث فيما رفعه إلى إسماعيل بن إبراهيم، قال: أخذ الرشيد زنديقاً فأمر بضرب عنقه، فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي يا أمير المؤمنين؟ قال: أريح الناس منك، قال: فأين أنت عن ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما فيها حرف نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري، وعبد الله بن المبارك؟ ينخلانها نخلاً، فيخرجانها حرفاً حرفاً؟

وحدث فيما رفعه إلى عبد الرحمن بن مهدي قال، كان الأوزاعي والفزاري إمامين في السنة، إذا رأيت الشامي يذكر الأوزاعي والفزاري فاطمئن إليه، كان هؤلاء الأئمة في السنة، وحدث أبو علي الروزباري: كان أربعة زمانهم واحد، كان أحدهم لا يقبل من السلطان ولا من الإخوان، يوسف بن أسباط، ورث سبعين ألف درهم لم يأخذ منها شيئاً، وكان يعمل الخوص بيده، وآخر كان يقبل من الإخوان والسلطان جميعاً، أبو إسحاق الفزاري، فكان ما يأخذه من الإخوان ينفقه في المستورين الذين لا يتحركون والذي يأخذه من السلطان ينفقه في أهل طرسوس، والثالث كان يأخذ من الإخوان ولا يأخذ من السلطان، وهو عبد الله بن المبارك، يأخذ من الإخوان ويكافيء عليه، والرابع كان يأخذ من السلطان ولا يأخذ من الإخوان، وهو مخلد بن الحسين، كان يقول: السلطان لا يمن والإخوان يمنون.
وحدث ابن عساكر فيما رفعه إلى الأصمعي قال: كنت جالساً بين يدي هارون الرشيد، أنشده شعراً وأبو يوسف القاضي جالس على يساره، فدخل الفضل بن الربيع فقال: بالباب أبو إسحاق الفزاري، فقال: أدخله، فلما دخل قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له الرشيد: لا سلم الله عليك، ولا قرب دارك، ولا حيا مزارك، قال لم يا أمير المؤمنين؟ قال: أنت الذي تحرم السواد فقال يا أمير المؤمنين من أخبرك بهذا؟ لعل هذا أخبرك، وأشار إلى أبي يوسف، وذكر كلمة: والله يا أمير المؤمنين، لقد خرج إبراهيم على جدك المنصور، فخرج أخي معه وعزمت على الغزو فأتيت أبا حنيفة فذكرت له ذلك، فقال لي: مخرج أخيك أحب إلي مما عزمت عليه من الغزو، ووالله ما حرمت السواد. فقال الرشيد: فسلم الله عليك وقرب دارك، وحيا مزارك، اجلس أبا إسحاق، يا مسرور ثلاثة آلاف دينار لأبي إسحاق، فأتى بها، فوضعت في يده وانصرف بها، فلقيه ابن المبارك فقال له: من أين أقبلت؟ قال: من عند أمير المؤمنين، وقد أعطاني هذه الدنانير، وأنا عنها غني، قال فإن كان في نفسك منها شيء فتصدق بها، فما خرج من سوق الرافقة حتى تصدق بها كلها.
وفضائل أبي إسحاق كثيرة، اختصرت منها حسب ما شرطت من الإيجاز من تاريخ دمشق لابن عساكر.

إبراهيم بن محمد سعدان بن المبارك
النحوي، أحد من كتب وصحح ونظر وحقق، وروى وصدق، وقد صنف كتباً حسنة، منها كتاب الخيل لطيف، كتاب حروف القرآن، وأبوه محمد بن سعدان المكفوف أحد أعيان أهل العلم من القراء، وله باب يذكر فيه.
إبراهيم بن القاسم الكاتب
يعرف بالرقيق القيرواني، والرقيق لقب له، رجل فاضل، له تصانيف كثيرة في علم الأخبار، ومنها كتاب تاريخ إفريقية والمغرب، عدة مجلدات، وكتاب النساء كبير، وكتاب الراح والارتياح كتاب نظم السلوك في مسامرة الملوك أربع مجلدات، وذكره ابن رشيق فقال: هو شاعر سهل الكلام محكمه لطيف الطبع قويه، تلوح الكتابة على ألفاظه، قليل صنعة الشعر، غلب عليه اسم الكتابة وعلم التاريخ وتأليف الأخبار، وهو بذلك أحذق الناس، وكاتب الحضرة منذ نيف وعشرين سنة إلى الآن، ومن شعره جواباً عن أبيات كتبها إليه عمار بن جميل، وقد انقطع عن مجالس الشراب:
قريض كابتسام الرو ... ض جمشه نسيم صبا
كعقد من جمان الط ... ل منظوم وما ثقبا
ومنثور كنثر الد ... رِّ من أسلاكه انسربا
فأهدى نشر زهرته ... فتيت المسك منتهبا
إذا أثماره جنيت ... جنيت العلم والأدبا
بهزل حين ينشده ... كأنك منتش طربا
حباك به أخ يرعى ... من العهد الذي وجبا
صديق مثل صفو الما ... ء بالصهباء قد قطبا
كنزت مودة منه ... كفت أن أكنز الذهبا
إذا عد امرؤ حسباً ... فحسبي ذكره نسباً
ألذ من الحياة لد ... يَّ لكن قلبه قلبا
فهان عليه ما ألقى ... وظن تجلدي لعبا
جفوت الراح عن سبب ... وكان لجفوتي سببا
فصرت لوحدتي كلاً ... على الإخوان مجتنبا
وذاك لتوبة أمل ... ت أن أقضي بها أربا
فها أنا نائب منها ... فزرني تبصر العجبا

وكان قدم مصر في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة بهدية من نصير الدولة باديس بن زيري إلى الحاكم، فقال قصيدة يذكر فيها المناهل، ثم قال:
إذا ما ابن شهر قد لبسنا شبابه ... بدا آخر من جانب الأفق يطلع
إلى أن أقرت جيزة النيل أعيناً ... كما قر عيناً ظاعن حين يرجع
يقول فيها بعد مدح كثير ووصف جميل:
هدية مأمون السريرة ناصح ... أمين إذا خان الأمين المضيع
وما مثل باديس ظهير خلافة ... إذا اختير يوماً للظهيرة موضع
نصير لها من دولة حاتمية ... إذا ناب خطب أو تفاقم مطمع
حسام أمير المؤمنين وسهمه ... وسم زعاف في أعاديه منقع
قال: ومن مليح كلامه قوله من قصيدةٍ:
إذا ارجحنت بما تحوي مآزرها ... وخف من فوقها خصر ومنتطق
ثنى الصبا غصناً قد غازلته صباً ... على كثيب له من ديمة لثق
للشمس ما سترت عنا معاجرها ... وللغزال احورار العين والعنق
مظلومة أن يقال البدر يشبهها ... البدر يكسف أحياناً وينمحق
يجلل المتن وحف من ذوائبها ... جبينها تحت داجي ليلة فلق
كأنها روضة زهراء حالية ... بنورها يرتعي في حسنها الحدق
قال ومن أعجب ما سمعت له قوله من قصيدة يمدح محمد بن أبي العرب:
أظالمة العينين يخلطها سحر ... وإ ظلم الخدان واهتضم الخصر
أعوذ ببرد من ثناياك قد ثنى ... إليك قلوباً حشو اثنائها جمر
لقد ضمنت أن ضمانتي ... ستبري عظامي بالنحول ولا تبرو
وما أم ساجي الطرف خفاقة الحشا ... أطاع لها الحوذان والسلم النضر
إذا ما رعاها نصت الجيد نحوه ... أغن قصير الخطو في لحظه فتر
بأملح منها ناظراً ومقلداً ... ولكن عداني عن تقنصها الهجر
يقول في مديحها:
تصباه أبكار العلا ليس أنها ... منعمة هيفاء أو غادة بكر
يخال بأن العرض غير موفر ... عن الذم إلا أن يدال له الوفر
يقول فيها يصف بلاغته وكتابته:
يوشح ديباج البلاغة أحرفا ... يكاد يرى روضاً يوشحه الزهر
ويفصح لفظاً خطها من فصاحة ... ويشرق من تحبير ألفاظها الحبر
يصيب عيون المشكلات بديهة ... وتبدى له أعقاب ما غيب الفكر
ثم ذكر الممدوح فقال:
وملمومة شهباء يسعى أمامها ... شهاب عزيم من طلائعه الذعر
يزجى بنات الأعوجية شزباً ... عليها بنو الهيجا دروعهم الصبر
أسود وغىً تحت العجاجة غابها ... سريجية بيض وخطية سمر
صبحت بها دهماء قوم أرتهم ... وجوه الردى حمراً خوافقها الصفر
قال: ومثل هذه القصيدة في الجودة قصيدة طويلة يتشوق فيها إخوانه بمصر وهي:
هل الريح إن سارت مشرقة تسري ... تؤدي تحياتي إلى ساكني مصر؟
فما خرطت إلا بكيت صبابة ... وحملتها ما ضاق عن حمله صدري
تراني إذا هبت قبولاً بنشرهم ... شممت نسيم المسك في ذلك النشر
وما أنس من شيء خلا العهد دونه ... فليس بخال من ضميري ولا فكري
ليال أنسناها على غرة الصبا ... فطابت لنا إذ وافقت غرة الدهر
لعمري لئن كانت قصاراً أعدها ... فلست بمعتد سواها من العمر
أخادع دهري أن يعود بفرصة ... فيفقذ روح الوصل من راحة الهجر
وترجع أيام خلت بمعاهد ... من اللهو لا تنفك مني على ذكر
فكم لي بالأهرام أو دير نهية ... مصايد غزلان المكابد والقفر؟
إلى الجيزة الدنيا وما قد تضمنت ... جزيرتها ذات المواخير والجسر
وبالمقس فالبستان للعين منظر ... أنيق إلى شاطئ الخليج إلى القصر
وفي سردوس مستراد وملعب ... إلى دير مرحنا إلى ساحل البحر

وكم بين بستان الأمير وقصره ... إلى البركة الزهراء من زهر نضر؟
تراها كمرآة بدت في رفارف ... من السندس الموشى ينشر للتجر
وكم بت في دير القصير مواصلاً ... نهاري بليلي لا أفيق من السكر
تبادرني بالراح بكر غريرة ... إذا هتف الناقوس في غرة الفجر
مسيحية خوطية كلما انثنت ... تشكت أذى الزنار من دقة الخصر
وكم ليلة لي بالقرافة خلتها ... لما نلت من لذاتها ليلة القدر
سقى الله صوب القصر تلك مغانياً ... وإن غنيت بالنيل من سبل القطر
وله أيضاً في الغزل:
رئم إذا ما معاريض المنى خطرت ... أجله المتمنى عن أمانيه
يا إخوتي أأقاحي فيه أقبل لي؟ ... أم خط راءين من مسك على فيه؟
أم حس ذاك التراخي في تكلمه ... أم حسن ذاك التهادي في تثنيه؟؟
أم سخطه أم رضاه أم تجنبه؟؟؟ ... أم عطفه أم نواه أم تدانيه؟؟
نفسي فداؤك مالي عنك مصطبر ... يا قاتلي كل معنى من معانيه
وقال يرثي:
أهون ما ألقى وليس بهين ... بأن المنايا للفوس بمرصد
وإني وإن لم ألقك اليوم رائحاً ... لصرف رزاياها لقيتك في غد
فلا يبعدنك الله ميتاً بقفرة ... معفر خد في الثرى لم يوسد
تردى نجيعاً حين بزت ثيابه ... كأن على أعطافه فضل مجسد
مضاء سنان في سنان مذلق ... وفتك حسام في حسام مهند

إبراهيم بن محمد بن عبيد الله بن المدبر
أبو إسحاق الكاتب الأديب الفاضل، الشاعر الجواد المترسل، صاحب النظم الرائق، والنثر الفائق، تولى الولايات الجليلة، ثم وزر للمعتمد على الله، لما خرج من سر من رأى بريد مصر، ومات في سنة تسع وسبعين ومائتين وهو يتقلد للمعتضد ديوان الضياع ببغداد.
وأصلهم من ستمسيان، وكان يدعي أنه من ضبة، وأخوه أحمد من جلة الكتاب وأفاضلهم وكرامهم، وحسدته الكتاب على منزلته من السلطان، فأغروه به، حتى أخرجه إلى دمشق متولياً عليها، وناظراً في تحصيل أموالها، وقبله ابن طولون في أمرٍ قد ذكرته في كتابي التاريخ.
وإبراهيم بن المدبر هو القائل في إبراهيم بن العباس الصولي يهجوه:
عز الطويل عن الأزمة ... لا رده ربي بذمه
إن كان طال فإنه ... من أقصر الثقلين همه
هب كنت صولاً نفسه ... من كان صول ناك أمه
ومن شعره أيضاً:
يا كاشف الكرب بعد شدته ... ومنزل الغيث بعد ما قنطوا
لا تبل قلبي بشحط بينهم ... فالموت دان إذا هم شحطوا
من كتاب نظم الجمان للمنذري، قال العطوي الشاعر: أتيت إبراهيم بن المدبر، فاستأذنت عليه، فلم يأذن لي حاجبه، فأخذت ورقة وكتبت فيها:
أتيتك مشتاقاً فلم أرَ جالساً ... ولا ناظراً إلا بوجه قطوب
كأني غريم مقتض أو كأنني ... نهوض حبيب أو حضور رقيب
فسألت الحاجب حتى أوصلها إليه، فلما قرأها قال: ويحك، أدخل علي هذا الرجل، فدخلت فأكرمني، وقضى حوائجي.

قال أبو علي: سمعت أبا محمد المهلبي يتحدث وهو وزير في مجلس أنس، أن رجلاً كان ينادم بعض الكتاب الظراف، وأحسبه قال: ابن المدبر قال: كنت عنده ذات يوم، فرجع غلام له أنفذه في شيء لا أدري ما هو، فقال له رب الدار ما صنعت؟ فقال ذهبت ولم يكن، فقام يجيء، فجاء، فلم يجيء، فجئت، قال فتبينت في رب الدار تغيراً وهماً، ولم يقل للغلام شيئاً، فعجبت من ذلك، ثم أخذ بيدي وقال: قد ضيق صدري ما جاء به هذا الغلام، فقم حتى تدور في البستان الذي في دارنا ونتفرج، فلعله يخف ما بي، فقلت: والله لقد توهمت أن صدرك قد ضاق بانقلاب كلام الغلام عليك، وقد فهمته وهو ظريف، فقال: إن هذا الغلام من أحصف وأظرف غلام يكون، وذاك أنني ممتحن بعشق غلام أمرد وهو ابن نجاد في جيراننا، والغلام يساعدني عليه، وأبوه يغار عليه، ويمنعه مني، فوجهت هذا الغلام، وقلت: إن لم يك أبوه هناك، فقل له يصير إلينا، فرجع، فلما رآك عندي، قدر أني لم أطلعك على الأمر فرد هذا الجواب الظريف الذي سمعته، فقلت: أعده علي أنت لأفهمه، فقال: إنه يقول: ذهبت إلى الغلام، ولم يكن أبوه هناك، فقام الغلام يجيء، فجاء أبوه، فلم يجيء الغلام فجئت أنا، فقلت له: هذا الغلام يجب أن يكون أخاً وصديقاً لا غلاماً، وقال مخلد بن علي الشامي الحوراني يهجو ابن المدبر:
على أبوابه من كل وجه ... قصدت له أخو مر بن أد
يعني ضبة بن أد، يعني أبوابه مضببة باللؤم أو محكمة عن الخير وكان ابن المدبر ينسب إلى ضبة:
أخو لخم أعارك منه ثوباً ... هنيئاً بالقميص لك الأجد
وأخو لخم يريد جذاماً.
أبوك أراد أمك حين زفت ... فلم توجد لأمك بنت سعد
بنت سعد يريد عذرة بن سعد بن هذيم القبيلة المعروفة.
وزبد في الهجاء بغير ذال ... أحب إليك من عسل بزبد
رأيتك لا تحب الود إلا ... إذا ما كان من عصب وجلد
أراني الله عرك في الجعبي ... وعينك عين بشار بن برد
العر: الجرب. والجعبي: الأست. وعين بشار: يعني أعمى لأن بشار بن برد كان أعمى.

إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال
ابن عاصم، بن سعد، بن مسعود، بعمرو، بن عمير، ابن عوف، بن عقدة، بن غبرة، بن عوف، بن ثقيف، الثقفي، أصله كوفي، وسعد بن مسعود، هو أخو عبيد بن مسعود، صاحب يوم الجسر، في أيام عمر بن الخطاب مع الفرس، وسعد هو عم المختار بن أبي عبيد الثقفي، ولاه علي كرم الله وجهه المدائن، وهو الذي لجأ إليه الحسن يوم ساباط، وكنية إبراهيم أبو إسحاق، وكان جباراً من مشهوري الإمامية، ذكره أبو جعفر محمد بن الحسين الطوسي في مصنفي الإمامية، وذكر أنه مات في سنة ثلاث وثمانين ومائتين قال وانتقل من الكوفة إلى أصفهان، وأقام بها، وكان زيدياً أولاً، وانتقل إلى القول بالإمامية.
وله مصنفات كثيرة، منها: كتاب المغازي، كتاب السقيفة، كتاب الردة، كتاب مقتل عثمان، كتاب الشورى، كتاب بيعة أمير المؤمنين، كتاب الجمل، كتاب صفين، كتاب الحكمين، كتاب النهر، كتاب الغارات، كتاب مقتل أمير المؤمنين، كتاب رسائل أمير المؤمنين وأخباره وحروبه، غير ما تقدم، كتاب قيام الحسن بن علي رضي الله عنهما، كتاب مقتل الحسين، كتاب التوابين وعين الوردة، كتاب أخبار المختار، كتاب فدك: كتاب الحجة في فعل المكرمين، كتاب السرائر، كتاب المودة في ذوي القربى، كتاب المعرفة، كتاب الحوض والشفاعة، كتاب الجامع الكبير في الفقه، كتاب الجامع الصغير، كتاب ما نزل منن القرآن في أمير المؤمنين، كتاب فضل الكوفة، ومن نزلها من الصحابة، كتاب الإمامة كبير، كتاب الإمامة صغير، كتاب المتعتين، كتاب الجنائز، كتاب الوصية، كتاب المبتدإ كتاب أخبار عمر، كتاب أخبار عثمان، كتاب الدار، كتاب الأحداث، كتاب الحرورية، كتاب الاستيفاء والغارات، كتاب السير، كتاب يزيد، كتاب ابن الزبير، كتاب التعبير، كتاب التاريخ، كتاب الرؤيا، كتاب الأشربة الكبير والصغير، كتاب محمد وإبراهيم، كتاب من قتل من آل محمد، كتاب الخطب.
إبراهيم بن محمد بن أحمد بن أبي عون

ابن هلال أبي النجم الكاتب أبو إسحاق، صاحب كتاب التشبهات لابن أبي عون، وكان من أصحاب أبي جعفر محمد بن علي الشلمغاني، المعروف بابن أبي العزاقر، وأحد ثقاته، وممن كان يغلو في أمره، ويدعي أنه إلهه، تعالى الله عن ذلك، وكان ابن أبي العزاقر من أهل قرية من قرى واسط، تعرف بشلغمان، وكان كاتباً ببغداد.
ذكر ثابت أن المحسن بن الفرات، كان له عناية به، فاستخلفه ببغداد لجماعة من العمال بنواحي السلطان، وكانت صورته صورة الحلاج، وكان له قوم يدعون أنه إلههم، وأن روح الله عز وجل حل في آدم، ثم في شيث، ثم في واحد واحد من الأنبياء والأوصياء، والأئمة، حتى حل في الحسن بن علي العسكري، وأنه حل فيه، ووضع كتاباً سماه الحاسة السادسة، وأباح الزنا والفجور، فظفر به الراضي بالله، فقتله في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وكان قد استغوى جماعة، منهم: ابن أبي عون صاحب كتاب التشبيهات، وكانوا يبيحونه حرمهم، وأموالهم يتحكم فيها، وكان يتعاطى الكمياء وله كتب معروفة ولما أخذ ابن أبي العزاقر، أخذ معه، فلما قتل ابن أبي العزاقر، عرض على إبراهيم بن أبي عون أن يشتمه، أو يبصق عليه، فأبى وأرعد وأظهر خوفاً من ذلك للحين، والشقاء، فقتل، وألحق بصاحبه، وكان من أهل الأدب، وتأليف الكتب، وكان ناقص العقل متهوراً.
قال ثابت: قيل إن أبا جعفر محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر ادعى الربوبية فقتل هو وإبراهيم ابن محمد بن أحمد بن أبي النجم، المعروف بابن أبي عون صاحبه، ضربا بالسوط، ثم ضربت أعناقهما وصلبا، ثم أحرقت جثتهما، وذلك يوم الثلاثاء، لليلة خلت من ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، نقلته من خطه، وله من التصانيف كتاب النواحي والبلدان، كتاب الجوابات المسكتة، وكتاب التشبيهات، كتاب بيت مال السرور، كتاب الدواوين. كتاب الرسائل.
قال المرزباني: أبو عون أحمد بن أبي النجم الكاتب الأنباري، مولى لبني سليم، وأبو عون وعماه صالح وماجد ابنا أبي النجم شعراء كلهم، وماجد يكنى أبا الدميل، وأبو عون هو القائل في حاتم بن الفرج وكان أبو شبل البرجمي الشاعر في قدمته سر من رأى نزل عليه، وكان أبو شبل أهتم، فقال فيه أبو عون:
لحاتم في بخله فطنة ... أدق حساً من خطى النمل
قد جعل الهتمان ضيفانه ... فصار في أمنٍ من الأكل
ليس على خبز امرئ ضيعة ... آكله عصم أبو شبل
كم قدر ما كله كفه ... إلى فم من سنه عطل؟
فحاتم الجود أخو طيء ... كان وهذا حاتم البخل
وذكر أبو محمد عبد الله بن أحمد الفرغاني، وكان ابن أبي عون أحد القواد، ممن قربه إليه أبو الهيثم العباس بن محمد بن ثوابة، وأكسبه مالاً، فلما قبض على أبي الهيثم صار ابن أبي عون عوناً عليه مع أعدائه، وكان فيمن وكله بدار أبي الهيثم، ولم يحسن إليه أبو الهيثم إلا على بصيرة فيه بظلمه وفسقه، فسلطه الله عليه، كما كان هو يسلطه على الناس، قال ابن أبي عون: أظن أن أبا الهيثم كان يهودياً، قيل: وكيف ذلك؟ قال لأني أخذت غلاماً له ففسقت به في دبره وسكرت، وطلبت أم ولده لأفجر بها، ولم أقدر عليها، ولو كان أبو الهيثم مسلماً لغضب الله له، وهذا قول متمرد على الله، مستغر بإمهال الله تعالى له، ولم يهمله الله عز وجل، ثم أخذه بسوء عمله، وكان ممن آمن بالحلاج وآمن بربوبيته، وأخذ مع من أخذ من أصحاب الحلاج، وقتل شر قتلة، كذا قال الحلاج، إنما هو ابن أبي العزاقر، وإن كانت علتهما واحدة.
وقرأت بمرو رسالة كتبت من بغداد عن أمير المؤمنين الراضي رضي الله عنه إلى أبي الحسين نصر بن أحمد الساماني والي خرسان بقتل العزاقري، لخصت ما يتعلق بابن أبي عون، قال فيها بعد أن ذكر أول من أبدع مذهباً في الإسلام من الرافضة وأهل الأهواء، وآخر من اضطر المقتدر بالله رحمه الله فانتقم منهم من المعروف بالحلاج، وخبره أرفع وأشهر من أن يوصف ويذكر، وأراق دمه وأزال تمويهه وحسمه.

ولما ورث أمير المؤمنين ميراث أوليائه، وأحله الله محل خلفائه، اقتدى بسنتهم، وجرى على شاكلتهم، في كل أمر قاد إلى مصلحة، ودفع ضرر، وعاد إلى الإسلام وأهله بمنفعة، وجعل الغرض الذي يرجو الإصابة بتيممه، والمثوبة بتعمده، أن يتتبع هذه الطبقة من الكفار، ويطهر الأرض من بقيتهم، الفجار، فبحث عن أخبارهم، وأمر بتقصص آثارهم، وأن ينهي إليه ما يصح من أمورهم، ويحصل له ما يظهر عليه من جمهورهم، فلم يعد أن أحضر أبو علي محمد وزير أمير المؤمنين رجلاً، يقال له محمد بن علي الشلغماني، ويعرف بابن أبي العزاقر، فأعلم أمير المؤمنين أنه من غمار الناس وصغارهم، ووجوه الكفار وكبارهم، وأنه قد استزل خلقاً من المسلمين، وأشرك طوائف من العمهين، وأن الطلب قد كان لحقه في الأيام الخالية فلم يدرك، وأودعت المحابس قوماً ممن ضل وأشرك، فلما رفع حكمه عنه، وأذن في استنقاذ العباد منه، واطلع من أبي عليّ على صفاء نية، ونقاء طوية، في ابتغاء الأجر، وطلابه رضا الله عز وجل واكتسابه، والامتعاض من أن ينازع في الإلهية، أو يضاهي في الربوبية، آنسه بناحيته فاسترسل، وحثه بالمصير إلى حضرته، فتعجل، ففحص أمير المؤمنين عنه، ووكل إليه همه ففتش أمره تفتيش الحائط للمملكة، المحامي عن الحوزة، القائم بما فوضه الله إليه من رعاية الأمة، ووقف أمير المؤمنين على أنه لم يزل يدخل على العقول من كل مدخل، ويتوصل إلى ما فيها من كل متوصل، ويعتزى إلى الملة وهو لا يعتقدها، وينتمي إلى الخلة وهو عار منها، ويدعي العلوم الإلهية وهو عمٍ عنها، ويحقق استخراج الحكم الغامضة وهو جاهل بها، ويتسم بالقدرة على المعجزات، وهو عاجز عن ممكن الأشياء ومتهيئها، وينتحل الثقة في دين آل محمد، وهو يضمر التبرؤ منها، ويشنؤه ويسبه صلى الله عليه وسلم ويعظمه، يرمق ظاهره العيون، فيصرف عنه الظنون، إلى أن دلته الحيلة والمكر والغيلة، على قوم من ذوي الجدة واليسار والثروة والاحتكار، قد أترفهم النعيم فبطروا، وألهاهم فأشروا، ولججهم في بحار اللذة وتولجوها على كل علة، والتمسوا في ذلك رخصة يجعلونها لأنفسهم عمدة وعصمة، وآخرين لا جدة عندهم ولا سعة، قد قويت شهواتهم، وضعفت حالاتهم، فهم يطلبون أقواتهم بالحق والباطل، ويخوضون في مثلها مع الجاد والهازل، فأباحهم المحظورات، وأحل لهم المحرمات، وامتطى لهم مركب الغرور، وتهور بهم غايات الأمور، ولم يدع فناً من الفنون، ولا نوعاً من الأنواع المخزية إلا فسح لهم فيه، وشحذ عزائمهم عليه، حتى دان له واتبعه وأطاعه وشايعه خلق رين على قلوبهم، فهم لا يفقهون، وضرب على آذانهم، فهم لا يسمعون، وغطيَ على أعينهم، فهم لا يبصرون، وحيل بينهم وبي الرشد، فهم لا يرعوون وأنسوا التدبر والتفكر في خلق أنفسهم، والسماء التي تظللهم، والأرض التي تقلهم فأصفقوا بأجمعهم على أنه خالقهم، وربهم ورازقهم، ومحييهم، يحل فيما شاء من الصور، ويحدث ما شاء من الغير، ويفعل ما يريد، ولا يعجزه قريب ولا بعيد، وادعوا له الدعاوى الباطلة، وزعموا أنهم عاينوا منه الآيات المعضلة، واستظهر أمير المؤمنين، بأن تقدم إلى أبي عليٍّ بمواقفة هذا اللعين على تمويهاته، وقبائح تلبيساته، ليكون إقامة أمير المؤمنين حد الله عليه، بعد الإنعام في الاستبصار، وانكشاف الشبهة فيه عن القلوب والأبصار، فتجرد أبو علي في ذلك وتشمر، وبلغ منه وما قصر وانثال عليه كل من اطلع على الحقيقة، وتعرف جلية الصورة فوقف أبو علي على أن العزاقري يدعي أنه لحق الحق، وأنه إله الآلهة، الأول القديم، الظاهر، الباطن، الخالق، الرازق، التام، الموصى إليه بكل معنى، ويدعى بالمسيح، كما كانت بنو إسرائيل تسمي الله عز وجل المسيح، ويقول: إن الله جل وعلا، يحل في كل شيء، على قدر ما يحتمل، وأنه خلق الضد ليدل به على مضدوده، فمن ذلك أنه جلى في آدم لعيه السلام لما خلقه، وفي إبليس، وكلاهما لصاحبه يدل عليه لمضادته إياه في معناه، وأن الدليل على الحق أفضل من الحق، وأ الضد أقرب إلى الشيء من شبهه، وأن الله عز وجل إذا حل في هيكل جسد ناسوتي، أظهر من القدرة المعجزة ما يدل على أنه هو، وأنه لما غاب آدم عليه السلام، ظهر اللاهوت في خمسة ناسوتية، كلما غاب منهم واحد، ظهر مكانه غيره، وفي خمسة أبالسة أضداد لتلك الخمسة، ثم اجتمعت اللاهوتية في إدريس عليه السلام

وإبليسه، وتفرقت بعدهما، كما تفرقت بعد آدم عليه السلام واجتمعت في نوح عليه السلام وإبليسه، وتفرقت عند غيبتهما، حسب ما تقدم ذكره، واجتمعت في صالح وإبليسه عاقر الناقة، وتفرقت بعدهما، واجتمعت في إبراهيم وإبليسه نمرود، وتفرقت بعدهما، واجتمعت في هارون وإبليسه فرعون، وتفرقت على الرسم بعدهما، واجتمعت في داود عليه السلام وإبليسه جالوت، وتفرقت لما غاب، واجتمعت في سليمان عليه السلام وإبليسه، وتفرقت كعادتها بعدهما، واجتمعت في عيسى عليه السلام وإبليسه، ولما غاب تفرقت في تلامذة عيسى كلهم عليهم السلام، والأبالسة معهم، واجتمعت في علي بن أبي طالب وإبليسه، وتفرقت بعدهما، إلى أن اجتمعت في ابن أبي العزاقر وإبليسه، ويصف أن الله عز وجل يظهر في كل شيء بكل معنى، وأنه في كل أحد بالخاطر الذي يخطر بقلبه، فيتصور له ما يغيب عنه كأنه يشاهده، وأن الله اسم لمعنى، ومن احتاج إليه الناس فهو إلههم، ولهذا يستوجب كل كفيٍّ أن يسمى الله، وأن كل واحد من أشياعه لعنه الله يقول: إنه رب لمن هو دون درجته، وأن الرجل منهم يقول: إني رب فلان، وفلان رب فلان، حتى الانتهاء إلى ابن أبي العزاقر، لعنه الله، فيقول أنا رب الأرباب، وإله الآلهة، لا ربوبية لرب بعدي، وأنهم لا ينسبون الحسن والحسين رضي الله عنهما إلى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، لأن من اجتمعت له اللاهوتية لم يكن له والد ولا ولد، وأنهم يسمون موسى ومحمداً صلى الله عليهما الحائنين، لأنهم يدعو أن هارون أرسل موسى عليهما السلام، وأن علياً رضي الله عنه، أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم فخاناهما، ويزعمون أن علياً أمهل النبي صلى الله عليه وسلم عدة أيام أصحاب الكهف سنين، فإذا انقضت هذه المدة وهي خمسون وثلاثمائة سنة تنقلب الشريعة، ويصفون أن الملائكة كل من ملك نفسه، وعرف الحق ورآه، وأن الحق حقهم، وأن الجنة معرفتهم، وانتحال نحلتهم، والنار الجهل بهم، والصدود عن مذهبهم، ويغتفرون ترك الصلاة والصيام والاغتسال، ويذكرون أن من نعم الله على العبد، أن يجمع له اللذتين، وأنهم لا يتناكحون بتزويج على السنة، ولا بحال تأول أو رخصة، ويبيحون الفروج ويقولون: إن محمداً عليه السلام بعث إلى كبراء قريش وجبابرة العرب، وقلوبهم قاسية، ونفوسهم آبية، فكان من الحكمة ما طالبهم به من السجود، وأن من الحكمة الآن أن يمتحن الناس في إباحة فروج حرمهم، وأن لا شيء عندهم في ملامسة الرجل نساء ذوي رحمه، وحرم صديقه وأبيه بعد أن يكون على مذهبه، ولا ينكرون أن يطلب أحدهم من صاحبه حرمته ويردها إليه، فيبعث بها طيبة نفسه، وأنه لابد للفاضل منهم أن ينكح المفضول ليولج النور فيه. وابن أبي العزاقر له في هذه الخصلة كتاب، سماه كتاب الحاسة السادسة، وقال: إنه متى أبى ذلك آب قلب في الكون الذي يجيء بعد هذا امرأة، إذ كان يحقق التناسخ وأنه ومن معه يرون البراءة من الطالبيين، كما يرونها من العباسيين، ويدعون إلى أنفسهم دون غيرهم، إذ كان الحق عندهم، ويظهر فيهم، ووجد كتاب من الحسين ابن القاسم، بن عبيد الله بن سليمان بن وهب، قيل إنه إلى إبراهيم بن محمد، بن أحمد بن أبي النجم، المعروف بابن أبي عون، أحد وجوه العزاقرية، ترجمته:إبليسه، وتفرقت بعدهما، كما تفرقت بعد آدم عليه السلام واجتمعت في نوح عليه السلام وإبليسه، وتفرقت عند غيبتهما، حسب ما تقدم ذكره، واجتمعت في صالح وإبليسه عاقر الناقة، وتفرقت بعدهما، واجتمعت في إبراهيم وإبليسه نمرود، وتفرقت بعدهما، واجتمعت في هارون وإبليسه فرعون، وتفرقت على الرسم بعدهما، واجتمعت في داود عليه السلام وإبليسه جالوت، وتفرقت لما غاب، واجتمعت في سليمان عليه السلام وإبليسه، وتفرقت كعادتها بعدهما، واجتمعت في عيسى عليه السلام وإبليسه، ولما غاب تفرقت في تلامذة عيسى كلهم عليهم السلام، والأبالسة معهم، واجتمعت في علي بن أبي طالب وإبليسه، وتفرقت بعدهما، إلى أن اجتمعت في ابن أبي العزاقر وإبليسه، ويصف أن الله عز وجل يظهر في كل شيء بكل معنى، وأنه في كل أحد بالخاطر الذي يخطر بقلبه، فيتصور له ما يغيب عنه كأنه يشاهده، وأن الله اسم لمعنى، ومن احتاج إليه الناس فهو إلههم، ولهذا يستوجب كل كفيٍّ أن يسمى الله، وأن كل واحد من أشياعه لعنه الله يقول: إنه رب لمن هو دون درجته، وأن الرجل منهم يقول: إني رب فلان، وفلان رب فلان، حتى الانتهاء إلى ابن أبي العزاقر، لعنه الله، فيقول أنا رب الأرباب، وإله الآلهة، لا ربوبية لرب بعدي، وأنهم لا ينسبون الحسن والحسين رضي الله عنهما إلى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، لأن من اجتمعت له اللاهوتية لم يكن له والد ولا ولد، وأنهم يسمون موسى ومحمداً صلى الله عليهما الحائنين، لأنهم يدعو أن هارون أرسل موسى عليهما السلام، وأن علياً رضي الله عنه، أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم فخاناهما، ويزعمون أن علياً أمهل النبي صلى الله عليه وسلم عدة أيام أصحاب الكهف سنين، فإذا انقضت هذه المدة وهي خمسون وثلاثمائة سنة تنقلب الشريعة، ويصفون أن الملائكة كل من ملك نفسه، وعرف الحق ورآه، وأن الحق حقهم، وأن الجنة معرفتهم، وانتحال نحلتهم، والنار الجهل بهم، والصدود عن مذهبهم، ويغتفرون ترك الصلاة والصيام والاغتسال، ويذكرون أن من نعم الله على العبد، أن يجمع له اللذتين، وأنهم لا يتناكحون بتزويج على السنة، ولا بحال تأول أو رخصة، ويبيحون الفروج ويقولون: إن محمداً عليه السلام بعث إلى كبراء قريش وجبابرة العرب، وقلوبهم قاسية، ونفوسهم آبية، فكان من الحكمة ما طالبهم به من السجود، وأن من الحكمة الآن أن يمتحن الناس في إباحة فروج حرمهم، وأن لا شيء عندهم في ملامسة الرجل نساء ذوي رحمه، وحرم صديقه وأبيه بعد أن يكون على مذهبه، ولا ينكرون أن يطلب أحدهم من صاحبه حرمته ويردها إليه، فيبعث بها طيبة نفسه، وأنه لابد للفاضل منهم أن ينكح المفضول ليولج النور فيه. وابن أبي العزاقر له في هذه الخصلة كتاب، سماه كتاب الحاسة السادسة، وقال: إنه متى أبى ذلك آب قلب في الكون الذي يجيء بعد هذا امرأة، إذ كان يحقق التناسخ وأنه ومن معه يرون البراءة من الطالبيين، كما يرونها من العباسيين، ويدعون إلى أنفسهم دون غيرهم، إذ كان الحق عندهم، ويظهر فيهم، ووجد كتاب من الحسين ابن القاسم، بن عبيد الله بن سليمان بن وهب، قيل إنه إلى إبراهيم بن محمد، بن أحمد بن أبي النجم، المعروف بابن أبي عون، أحد وجوه العزاقرية، ترجمته:

إلى مولاي بشرى، من غلامه مرزوق الثلاج، المسكين الفقير، الذي بفضل الله يجمع الله بينه وبينه، في خير وعافية برحمته، يقول في فصل منه: على مولاي أعتمد، وهو حسبي، وفي فصل آخر: ومولاي أهل للتفضل علي، ورحمة ضعفي، وأرجو ألا يتأخر بفضله عني، وينجزني وعده، وعيني ممدودة إلى تفضل مولاي، وأسأله به إعانتي، فسئل ابن أبي العزاقر عن ذلك الكتاب، فكتب بيده؟ إنه بخط الحسين بن علي بن القاسم، إلى ابن أبي عون، ووافق ابن أبي عون على ذلك لأن الله أظفر به ومكن منه، ورداه رداء ما عمل، ووفاه غاية ما كتب له من المهل، واعترف بأنه كتاب الحسين ابن علي بن القاسم إليه، وأن ما على عنوانه صحيح، وأنه هو بشرى، وأن مرزوقاً الثلاج هو الحسين بن القاسم، وكتب ذلك بخطه، وأشهد جماعة من العدول على ما اعترف به: ووجدت رقعة لابن أبي عون هذا بخطه، إلى بعض نظرائه، يخاطبه فيها كما يخاطب الإنسان ربه، تبارك وتعالى، ويقول في بعض فصولها: لك الحمد، وكل شيء، وما شئت كان، ربي، وفي فصل آخر منها: ولك الحمد على تشريفك وتقريبك، فوقف عليها، واعترف بها، وأشهد على نفسه عدة من العدول بصحتها.
ووجدت رقعة من المعروف بابن شيث الزيات، إلى ابن أبي عون هذا، يقول فيها: يا مولاي، عوائد مولاي عندي لطيفة، ورحمته وتفضله، وجميل إحسانه بامتنانه علي على كل حال، وائتناسي تفضل منه ورحمة، فأسأله بجوده، أن يتمم ما تفضل به، ولا يسلبني إياه، فإن نعمه عليّ ظاهرة وباطنة، قد ألبسني عافيته، وأصلح شأني، واصلح ولدي، ورزقني القناعة، وفي ذلك الغناء الأكبر، وأكبر منه تفضله عليّ بأمر عظيم، لا يجازى بشكر، ولا يسعه إلا تفضله، فإن مولاي الكبير، دعاني ابتداء فصرت إليه، فقربني وأدناني، ومنّ علي بحديثه، وسقاني بعد جهد بيده، وقربني غاية القرب، ومع هذه الحالة العظيمة، وإعطائه لي الملك الخفي، فقد صحا قلبي عن كل كسر كان فيه، وكل شدة جرت، وفعل بي ما لم يفعله بالثلاج، وأرجو أن يمن مولاي بإتمام صلاحي ديناً ودنيا، والمنة لمولاي، وأسأل مولاي الإحسان والتفضل، فإني فقير على كل حال، وأرجو منه توسعة في كل ضيق، وأمناً من كل خوف وأماناً من الشدائد، وما هو أولى به مما لا أعلمه وهو القادر عليه، والرحيم فيه، بمنه وجميل إحسانه، وهو حسبي ونعم الوكيل.
واعترف ابن أبي عون أنها إليه، وأن المخاطبة فيها له، وأن ابن شيث أراد بقوله " مولاي الكبير " ، ابن أبي العزاقر، وبقوله " الثلاج " الحسين بن القاسم، وأعطى بذلك خطه، وأشهد به، ووجد هذا الرجل مستبصراً في كفره، مستظهراً في أمره، مستقصياً في طريق غيه، ماضياً في عنان شركه وإفكه، حتى إنه كلف التبرؤ من ابن أبي العزاقر لعنه الله ونيله بإهانة يصغر بها قدره، فامتنع من ذلك وأبى، وحاد عنه واستعصى، إلى أن لم يجد محيصاً، فمد يده إلى لحيته، على سبيل توقير وتكريم، وإجلال وتعظيم، وصرف تعد، وإماطة الأذى، وقال معلناً غير مخافت، " مولاي مولاي " هذا إلى ما وجد بخطه، وخطوط نظرائه، من الكبائر التي لا تسوغ في الدين، ولا يحتملها ذو يقين، وإلى ما رسمته هذه الفرقة من الأدعية، التي موهت بها على أهل الوكالة، والغباوة، وإذا تأملها أولو الروية والرواية، وجدت مباينة لما ألف في الشريعة، مشوبة بالمكر والتدليس، مشحونة بالختل والتلبيس، محلة دم مبتدعها، والمتمسك بها، واستفتى أبو علي القضاة والفقهاء، في أمر ابن أبي العزاقر وصاحبه هذا الكافر، وسائر من على مذهبه، ممن وجدت له كتب ومخاطبة، ومن لم يوجد له ذلك، فأفتى من استفتى منهم بقتلهم، وأباحوا دماءهم، وكتبوا بذلك خطوطهم، فأمر أمير المؤمنين بإحضار ابن أبي العزاقر اللعين، وابن أبي عون صاحبه، وضريبه وتابعه، وأن يجلدا، ليراهما من سمع بهما، ويتعظ بما نزل من العذاب بساحتهما، ويتبين من دان بربوبية ابن أبي العزاقر عجزه عن حراسة نفسه، وأنه لو كان قادراً، لدفع عن مهجته، ولو كان خالقاً دفع وكشف الضر عن جسده، ولو كان رباً لقبض الأيدي عن نكايته.

وجدد أمير المؤمنين الاستظهار، والحزم والروية فيما يمضيه عن العزم، وأحضر عمر بن محمد القاضي بمدينة السلام، والعدول بها، والفقهاء من أهل مجلسه، وسألهم عما عندهم، مما انكشف من أمر ابن أبي العزاقر، وأمور أهل دعوته، وغيه وضلالته، فأقامت الكافة على رأيها في قتله، وتطهير الأرض من رجسه، ورجس مثله، وزال الشك في ذلك عن أمير المؤمنين بالفتيا، وإجماع القاضي والفقهاء، وبما وضح من إزلال هذا الضلال المسلمين، وإفساد الدين، وذلك أعظم وأثقل وزراً من الإفساد في الأرض، والسعي فيها بغير الحق، وقد استحق من جرى هذا المجرى القتل، فأوعز أمير المؤمنين بصلبه وصلب ابن أبي عون، بحيث يراهما المنكر والعارف، ويلحظهما المجتاز والواقف، فصلبا في أحد جانبي مدينة السلام، ونودي عليهما بما حاولاه من إبطال الشريعة. ورأياه من إفساد الديانة. ثم تقدم أمير المؤمنين بقتلهما، ونصب رؤوسهما، وإحراق أجسامهما، ففعل ذلك بمشهد من الخاصة والعامة، والنظارة والمارة.

إبراهيم بن محمد نفطويه
هو إبراهيم بن محمد، بن عرفة بن سليمان، بن المغيرة ابن حبيب بن المهلب، بن أبي صفرة، العتكي الأزدي من أهل واسط وكنيته أبو عبد الله.
قال الثعالبي: لقب نفطويه تشبيهاً إياه بالنفط، لدمامته وأدمته، وقدر اللقب على مثال سيبويه لأنه كان ينسب في النحو إليه، ويجري في طريقته، ويدرس شرح كتابه، وأنشدوا: لو أنزل النحو على نفطويه: قال وقد صيره ابن بسام نفطوية بضم الطاء وتسكين الواو وفتح الياء فقال:
رأيت في النوم أبي آدماً ... صلى عليه الله ذو الفضل
فقال أبلغ ولدي كلهم ... من كان في حزن وفي سهل
بأن حوا أمهم طالق ... إن كان نفطوية من نسلي
كان عالماً بالعربية، واللغة، والحديث، أخذ عن ثعلب، والمبرد، وغيرهما، روى عنه أبو عبيد الله المرزباني، وأبو الفرج الأصبهاني، وابن حيوية، وغيرهم، ذكره المرزباني في المقتبس، فقال: ولد في سنة أربع وأربعين ومائتين قال: ومات رحمه الله يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وحضرت جنازته عشاء، ودفن في مقابر باب الكوفة، وصلى عليه البربهاري، وكان يخضب بالوسمة، قال: وكان من طهارة الأخلاق، وحسن المجالسة، والصدق فيما يرويه، على حلا ما شاهدت عليها أحداً ممن لقيناه.
وكان يقول: جلست إلى هذه الأسطوانة مذ خمسون، يعني محلته بجامع المدينة، وكان حسن الحفظ للقرآن، أول ما يبتدئ به في مجلسه بمسجد الأنباريين بالغدوات، إلى أن يقرئ القرآن، على قراءة عاصم، ثم الكتب بعده، وكان فقيهاً، عالماً بمذهب داود الإصبهاني، رأساً فيه، يسلم له ذلك جميع أصحابه، وكان مسنداً في الحديث من أهل طبقته، ثقة، صدوقاً، لا يتعلق عليه شيء من سائر ما رووه، وكان حسن المجالسة للخلفاء والوزراء، متقن الحفظ للسيرة، وأيام الناس، وتواريخ الزمان، ووفاة العلماء وكانت له مروءة، وفتوة وظرف.
ولقد هجم علينا يوماً ونحن في بستان كان له بالزبيدية في سنة عشرين، أو إحدى وعشرين وثلاثمائة، فرآنا على حال تبذل، فانقبضت: وذهبت أعتذر إليه: فقال: في التعاقل على التبذل سخف، ثم أنشدنا لنفسه:
لنا صديق غير عالي الهمم ... يحصي على القوم سقاط الكلم
ما استمتع الناس بشيء كما ... يستمتع الناس بحسم الحشم
قال المرزباني: وكان يقول من الشعر المقطعات، في الغزل، وما جرى مجراها: كما يقول المتأدبون، وسنورد من ذلك فيما بعد إن شاء الله حسب الكفاية.

وكان بين أبي عبد الله فطويه، وبين محمد بن الأصبهاني مودة أكيدة، وتصاف تام، وكان ابن داود يهوى أبا الحسين محمد بن جامع الصيدلاني، هوىً أفضى به إلى التلف. وقال ابن عرفة نفطويه، فدخلت عليه في مرضه الذي مات فيه، فقلت يا سيدي ما بك؟ فقال: حب من تعلم، أورثني ما ترى، فقلت: ما يمنعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع نوعان: محظور، ومباح، أما المحظور، فمعاذ الله منه، وأما المباح فهو الذي صيرني إلى ما ترى، ثم قال: حدثني سويد بن سعيد الحدثاني، عن أبي يحيى القتات عن مجاهد، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حب فعف وكتم، ثم مات، مات شهيداً " ثم غشي عليه ساعة، وأفاق، ففتح عينيه، فقلت له أرى قلبك قد سكن، وعرق جبينك قد انقطع، وهذا أمارة العافية، فأنشأ يقول:
أقول لصاحبي وسلياني ... وغرهما سكون حمى جبيني
تسلوا بالتعزي عن أخيكم ... وخوضوا في الدعاء وودعوني
فلم ادع الأنين لضعف سقم ... ولكني ضعفت عن الأنين
ثم مات من ليلته، وذلك في سنة سبع وتسعين ومائتين فيقال إن نفطويه تفجع عليه، وجزع جزعاً عظيماً، ولم يجلس للناس سنة كاملة، ثم ظهر بعد السنة فجلس، فقيل له في ذلك فقال: إن أبا بكر بن داود قال لي يوماً، وقد تجارينا حفظ عهود الأصدقاء، فقال: أقل ما يجب للصديق أن يتسلب على صديقه سنة كاملة، عملاً بقول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
فحزنا عليه سنة كما شرط.
قال المؤلف لهذا الكتاب: وأخبار أبي بكر بن داود كثيرة، مليحة رائقة، وقد أفردنا له باباً في هذا الكتاب، فقف عليه تطرب وتعجب، قال المرزباني: ومما أنشدنا لنفسه في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة:
غنج الفتور يجول في لحظاته ... والورد غض النبت في وجناته
وتكل ألسنة الورى عن وصفه ... أو أن تروم بلوغ بعض صفاته
لا يعرف الإسعاف إلا خطرة ... لك طول الصد من عزماته
لا يستطيع نعم ولا يعتادها ... بل لا يسوغ لعل في لهواته
قال وأنشدنا لنفسه:
تشكو الفراق وأنت تزمع رحلة ... هلا أقمت ولو على جمر الغضا
فالآن عذ بالصبر أو مت حسرة ... فعسى يرد لك النوى ما قد مضى
قال وأنشدنا لنفسه:
أتخالني من زلة أتعتب ... قلبي عليك أرق مما تحسب
قلبي وروحي في يديك وإنما ... أنت الحياة فأين منك المهرب
قال مؤلف الكتاب: ولم يورد أبو عبيد الله إلا هذين البيتين، وأنشدني بعض الأصدقاء، البيت الأول منها، وأتبعه بما لا أعلم، أهو من قول نفطويه أو غيره، وهو:
لا يوحشنك ما صنعت فتنثني ... متجنباً فهواك لا يتجنب
أنت البريء من الإساءة كلها ... ولك الرضى وأنا المسيء المذنب
وحياة وجهك وهو بدر طالع ... وسواد شعرك وهو ليل غيهب
ما أنت إلا مهجتي وهي التي ... أحيا بها أترى على من أغضب؟
قال المرزباني وأنشدني لنفسه:
كفى بالهوى بلوى وبالحب محنة ... وبالهم تعذيباً وبالعذل مغرما
أما والذي يقضي الأمور بأمره ... فما شاء أمضاه وما شاء أحكما
لقد حملتني صبوتي وصبابتي ... من الشوق ما أضنى الفؤاد وتيما
قال وأنشدنا لنفسه:
تجل بلواي عن البلوى ... ويذهل القلب عن الشكوى
يظلمني من لا أرى ظلمه ... وما عليه لي من عدوى
عذبي الحب ولكني ... لا أطلب الراحة بالبلوى
سلط من أهوى علي الضنى ... لا آخذ الله الذي أهوى
قال: وله:
لك خد تذيبه الأبصار ... يخجل الورد منه والجلنار
لا تغيبي ع ناظري فإني ... أنا من لحظتي عليك أغار
وكان بين نفطويه وابن دريد مماظة فقال فيه لما صنف كتاب الجمهرة:
إبن دريد بقره ... وفيه لؤم وشره
قد ادعى بجهله ... جمع كتاب الجمهرة
وهو كتاب العين إلا ... أنه قد غيره

فبلغ ذلك ابن دريد فقال يجيبه:
لو أنزل الوحي على نفطويه ... لكان ذاك الوحي سخطاً عليه
وشاعر يدعى بنصف اسمه ... مستأهل للصفع في أخدعيه
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصير الباقي صراخاً عليه
وحدث ابن شاذان قال: بكر نفطويه إلى درب الرواسين، فلم يعرف الموضع، فتقدم إلى رجل يبيع البقل، فقال له: أيها الشيخ، كيف الطريق إلى درب الرواسين؟ قال فالتفت البقلي إلى جار له، فقال: يا فلان ألا ترى إلى الغلام فعل الله به وصنع، قد احتبس علي، فقال وما الذي تريد منه؟ فقال عوق السلق علي، فما عندي ما أصفع به هذا العاض بظر أمه، فانسل ابن عرفة ولم يجبه، وأنشد الخطيب لنفطويه:
كم قد خلوت بمن أهوى فيمنعني ... منه الحياء وخوف الله والحذر
كم قد خلوت بمن أهوى فيقنعني ... منه الفكاهة والتحديث والنظر
أهوى الملاح وأهوى أن أجالسهم ... وليس لي في سواه منهم وطر
كذلك الحب لا إتيان معصية ... لا خير في لذة من بعدها سقر
ومنه:
أستغفر الله مما يعلم الله ... إن الشقي لمن لم يرحم الله
هبه تجاوز لي عن كل مظلمة ... واسوءتا من حياء يوم ألقاه
وذكره الزبيدي في كتابه، فقال: كان بخيلاً، ضيقاً في النحو، واسع العلم بالشعر.
قال أبو هلال في كتاب الأوائل: حدثني أبو أحمد، قال: كنا في مجلس نفطويه وهو يملي، فدخل غلام وضيء الوجه، وقال: قال رجل من أهل عصرنا:
كم خاس ميعادك يا مخلف ... كم تخلف الوعد وكم تحلف؟؟
قد صرت لا أدعو على كاذب ... ولا ظلوم الفعل لا ينصف
فما شك أحد ممن حضر، أن الغلام كان وعده وأخلفه، وأن الشعر له، وكان نفطويه مع كونه من أعيان العلماء، وعلماء الأعيان، غير مكترث بإصلاح نفسه، فكان يفرط به الصنان، فلا يغيره، فحضر يوماً مجلس حامد بن العباس، وزير المقتدر، فتأذى هو وجلساؤه بكثرة صنانه، فقال حامد: يا غلام، أحضرنا مرتكاً، فجاء به، فبدأ الوزير بنفسه فتمرتك، وأداره على الجلساء فتمرتكوا، وفطوا ما أراد بنفطويه، وأنه أراد من نفطويه أن يتمرتك، فيزول صنانه، من غير أن يجبهه بما يكره، فقال نفطويه لا حاجة بي إليه، فراجعه فأبى، فاحتد حامد واغتاظ، وقال له يا عاض كذا من أمه، إنما تمرتكنا جميعاً لتأذينا بصنانك، قم لا أقام الله لك وزناً، ثم قال: أخرجوه عني، أو أبعدوه إلى حيث لا أتأذى به، وقال ابن بشران أبو محمد عبيد الله في تاريخه.
ومن شعر نفطويه:
الجد أنفع من عقل وتأديب ... إن الزمان ليأتي بالأعاجيب
كم من أديب يزال الدهر يقصده ... بالنائبات ذوات الكره والحوب
وامرئ غير ذي دين ولا أدب ... معمر بين تأهيل وترحيب
ما الرزق من حيلة يحتالها فطن ... لكنه من عطاء غير محسوب
قال: وكان كثير النوادر، ومن نوادره، قيل لبهلول في كم يوسوس الإنسان، فقال: ذاك إلى صبيان المحلة، قال: وقيل لبعض الشيعة، معاوية خالك، فقال لا أدري، أمي نصرانية، والأمر إليه بخط الوزير المغربي قال نفطويه أما سائر العلوم فهاهنا من يشركنا فيها. وأما الشر: فإذا مت مات على الحقيقة، وقال: من أغرب عليّ ببيت لجرير لا أعرفه فأنا عبده، وقال ابن خالويه، وقال لي يوماً وقد حضرته الوفاة: قد جالستني فما رأيت منك إلا خيراً، فادع لي، ثم قال وضئوني، وقد كنت آخذ بيده، فمر بمسجد هشام بن خلف البزار فقال، هذا مسجد هشام مقرئ أهل بغداد، والله ما كان بأعلم مني، ولكنه أطاع الله فرفع، وعصيت الله فوضع مني.
قال الحسين بن أبي قيراط، انصرفت من عند أبي عبد الله نفطويه، وقد كتبت عنه شيئاً، فجئت إلى أبي إسحاق إبراهيم السري الزجاج، فقال لي: ما هذا الكتاب؟ فأريته إياه، وكان على ظهره مقطوعتان، أنشدنيهما نفطويه لنفسه.
فلما قرأهما الزجاج استحسنهما وكتبهما بخطه على ظهر كتاب غريب الحديث، وكان بحضرته:
تواصلنا على الأيام باق ... ولكن هجرنا مطر الربيع
يروعك صوته لكن تراه ... على روعاته داني النزوع

كذا العشاق هجرهم دلال ... ومرجع وصلهم حسن الرجوع
معاذ الله أن نلقى غضاباً ... سوى ذاك المطاع على المطيع
والأخرى:
وقالوا شانه الجدري فانظر ... إلى وجه به أثر الكلوم
فقلت ملاحة نثرت عليه ... وما حسن السماء بلا نجوم؟
وذكر الفرغاني أن نفطويه كان يقول بقول الحنابلة، إن الاسم هو المسمى، وجرت بينه وبين الزجاج مناظرة، أكر الزجاج عليه موافقته الحنابلة على ذلك.
قرأت في تاريخ خوارزم قال أبو سعد الحمدلجي: سمعت نفطويه يقول: إذا سلمت على اليهودي والنصراني، فقلت له أطال الله بقاءك، وأدام سلامتك، وأتم نعمته عليك، فإنما أريد به الحكاية أي أن الله قد فعل بك إلى هذا الوقت، وأعتقد به الدعاء للمسلم، قال الحمدلجي: وأنشدنا نفطويه لنفسه:
إذا ما الأرض جانبها الأعادي ... وطاب الماء فيها والهواء
وساعد من تحب بها وتهوى ... فتلك الأرض طاب بها النواء
يرى الأحباب ضنك العيش وسعاً ... ولا يسع البغيضين الفضاء
وعقل المرء أحسن حليتيه ... وزين المرء في الدنيا الحياء
قال محمد بن إسحاق النديم: وله من الكتب. كتاب التاريخ، كتاب الاقتصارات، كتاب البارع، كتاب غريب القرآن، كتاب المقنع في النحو، كتاب الإستثناء والشرط في القراءة، كتاب الوزراء، كتاب الملح، كتاب الأمثال، كتاب الشهادات، كتاب المصادر كتاب القوافي كتاب أمثال القرآن، كتاب الرد على من يزعم أن العرب يشتق كلامها بعضه من بعض كتاب الرد على من قال بخلق القرآن، كتاب الرد على المفضل بن سلمة في نقضه على الخليل كتاب في أن العرب تتكلم طبعاً لا تعلماً، والله أعلم.

الجزء الثاني
إبراهيم بن محمد الكلابزي
أدرك المازني وأخذ عن المبرد ومات في سنة ست عشرة وثلاثمائة، قال الزبيدي: وإبراهيم بن محمد بن العلاء الكلابزي اللغوي، من أهل العراق، بصري المذهب. حكي عن ابن المبرد أنه قال: في تلاميذ أبي رجلا: أحدهما يسفل، والآخر يعلو، فقيل ومن هما؟ قال المبرمان يقرأ على أبي، ويأخذ عنه كتاب سيبويه، ثم يقول قال الزجاج، فهذا يسفل، والكلابزي يقرأ عليه، ثم يقول قال المازني، فهذا يعلو، وكان الكلابزي قد أدرك المازني، فقال ابن إبراهيم بن حميد الكلابزي مات بالبصرة سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة، وكان متقدماً في النحو واللغة، وقد ولي القضاء بالشام.
إبراهيم بن محمد بن زكريا
الزهري، الأندلسي، أبو القاسم، يعرف بابن الإفليلي، حدث عن أبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي النحوي، بكتاب النوادر عن القالي، وكان متصدراً في العلم ببلده، يقرأ عليه الأدب، ويختلف إليه، وله كتاب شرح معاني شعر المتنبي، حسن جيد، قال الحميدي: وكان مع علمه بالنحو واللغة، يتكلم في معاني الشعر، وأقسام البلاغة، والنقد لها، روى عنه جماعة، وحكى عنه بإسناد له أنه قال: كان شيوخنا من أهل الأدب يتعالمون، أن الحرف إذا كتب عليه صح - بصاد وحاء - كان ذلك علامة لصحة الحرف، لئلا يتوهم متوهم عليه خللاً أو نقصاً، فوضع حرف كامل على حرف صحيح، وإذا كان عليه صاد ممدودة دون حاء، كان علامة أن الحرف سقيم، إذ وضع عليه حرف غير تام، ليدل نقص الحرف على اختلال الحرف، ويسمى ذلك الحرف أيضاً ضبة أي أن الحرف مقفل بها، لم يتجه لقراءة، كما أن الضبة مقفل بها.
قال المؤلف: وهذا كلام على طلاوة من غير فائدة تامة، وإنما قصدوا بكتبهم على الحرف صح، أنه كان شاكاً في صحة اللفظة، فلما صحت له بالبحث، خشي أن يعاوده الشك، فكتب عليها صح، ليزول شكه فيما بعد، ويعلم هو أنه لم يكتب عليها صح إلا وقد انقضى اجتهاده في تصحيحها، وأما الضبة التي صورتها (ص) فإنما هو نصف صح، كتبه على شيء فيه شك، ليبحث عنه فيما يستأنفه، فإذا صحت له أتمها بحاء، فيصير صح، ولو علم عليها بغير هذه العلامة، لتكلف الكشط، وإعادة كتبه صح مكانها.

قال أبو سروان بن حيان: كان أبو القاسم، المعروف بابن الإفليلي، فريد أهل زمانه بقرطبة، في علم اللسان العربي، والضبط لغريب اللغة، في ألفاظ الأشعار الجاهلية والإسلامية، والمشاركة في بعض معانيها، وكان غيوراً على ما يحمل من ذلك الفن، كثير الحسد فيه، راكباً رأسه في الخطأ البين إذا تقلده، أو نشب فيه، يجادل عنه، ولا يصرفه صارف عنه، وعدم علم العروض ومعرفته، مع احتياجه إليه، لإكمال صناعته به ولم يكن له شروع فيه، وكان لحق الفتنة اليزيدية بقرطبة، ومضى الناس بين حائر وطاعن، فازدلف إلى الأمراء المتداولين بقرطبة من آل حمود، ومن تلاهم، إلى أن نال الجاه. واستكتبه محمد بن عبد الرحمن المستكفي، بعد ابن برد، فوقع كلامه جانباً من البلاغة، لأنه كان على طريقة المعلمين المتكلمين، فلم يجر في أساليب الكتاب المطبوعين، فزهد فيه، وما بلغني أنه ألف في شيء من فنون المعرفة، إلا كتابه في شعر المتنبي لا غير، ولحقته تهمة في دينه، في أيام هشام المرواني، في جملة من تتبع من الأطباء في وقته كابن عاصم، والسنابسي، والخمار، وغيرهم، وطلب ابن الإفليلي، وسجن بالمطبق، ثم انطلق.
وفيه يقول موسى بن الطائف، من قصيدة:
يا مبصراً عميت فواطن فهمه ... عن كنه عرضي في البديع وطولي
ولو كنت تعقل ما جهلت مقاومي ... من ضاق فرسخه بخطوة قيلي
ولئن ثلبت الشعر وهو أباطل ... فلقد ثلبت حقائق التنزيل
وخلعت ربق الدين عنك منابذاً ... ولبست ثوب الزيغ والتعطيل
فأقمت للجهال مثلك في العنا ... علماً مشيت أمامه برعيل
ومن المغالط أن تكون مقلداً ... علماً ولو مقدار وزن فتيل
تعتل في الأمر الصحيح معانداً ... أبداً وفهمك علة المعلول
وتظن أنك من فنوني موسر ... وكثير شأنك لا يفي بقليلي
سيسيل روحك من خبيث قذارة ... تأثير هذا الصارم المصقول
وأحض سيف الدولة الملك الرضي ... ليعيد عقد رباطك المحلول
وأريك رأي العين أنك ذرة ... عبثت بها مني قوائم فيل

إبراهيم بن محمد بن محمد بن أحمد
ابن علي، بن الحسين، بن علي، بن حمزة، بن يحيى ابن الحسين، بن زيد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب، أبو علي، والد أبي البركات عمر النحوي، صاحب كتاب شرح اللمع، من أهل الكوفة، له معرفة حسنة بالنحو واللغة والأدب، وحظ من الشعر جيد، نذر مثله، مات - فيما ذكره السمعاني عن ابنه أبي البركات - في شوال سنة ست وستين وأربعمائة، ودفن بمسجد السهلة عن ست وستين سنة، وكان قد سافر إلى الشام ومصر، وأقام بها مدة، ونفق على الخلفاء بمصر، ثم رجع إلى وطنه الكوفة، إلى أن مات بها.
وجدت بخط أبي سعد السمعاني: سمعت أبا البركات عمر ابن إبراهيم: سمعت والدي يقول: كنت بمصر، وضاق صدري بها فقلت:
فإن تسأليني كيف أنت فإنني ... تنكرت دهري والمعاهد والصبرا
وأصبحت في مصر كما لا يسرني ... بعيداً من الأوطان منتزحاً عزبا
وإني فيها كامرئ القيس مرة ... وصاحبه لما بكى ورأى الدربا
فإن أنج من بابي زويلا فتوبة ... إلى الله أن لا مس خفي لها تربا
قال السمعاني: قال لي الشريف، قال أبي، قلت هذه الأبيات بمصر، وما كنت ضيق اليد، وكان قد حصل لي من المستنصر خمسة آلاف دينار مصرية.
قال: وقال الشريف: مرض أبي إما بدمشق أو بحلب، فرأيته يبكي ويجزع، فقلت له يا سيدي ما هذا الجزع؟ فإن الموت لابد منه، قال أعرف، ولكني أشتهي أن أموت بالكوفة، وأدفن بها، حتى إذا أنشرت يوم القيامة أخرج رأسي من التراب، فأرى بني عمي، ووجوهاً أعرفها، قال الشريف: وبلغ ما أراد.
قال: وأنشدني أبو البركات لوالده:
أرخ لها زمامها والأنسعا ... ورم بها من العلا ما شسعا
واجل بها مغترباً عن العدا ... توطئك من أرض العدا متسعا
يا رائد الظعن بأكناف العدا ... بلغ سلامي إن وصلت لعلعا
وحي خدراً بأثيلات الغضا ... عهدت فيه قمراً مبرقعا

كان وقوعي في يديه ولعا ... وأول العشق يكون ولعا
ماذا عليها لو رثت لساهر ... لولا انتظار طيفها ما هجعا؟
تمنعت من وصله فكلما ... زاد غراماً زادها تمنعا
أنا ابن سادات قريش وابن من ... لم يبق في قوس الفخار منزعا
وابن علي والحسين وهما ... أبر من حج ولبى وسعى
نحن بنو زيد وما زاحمنا ... في المجد إلا من غدا مدفعا
الأكثرين في المساعي عددا ... والأطولين في الضراب أذرعا
من كل بسام المحيا لم يكن ... عند المعالي والعوالي ورعا
طابت أصول مجدنا في هاشم ... فطال فيها عودنا وفرعا
قال: وأنشدني لأبيه:
لما أرقت بجلق ... وأقض فيها مضجعي
نادمت بدر سمائها ... بنواظر لم تهجع
وسألته بتوجع ... وتخضع وتفجع
صف للأحبة ما ترى ... من فعل بينهم معي
واقرأ السلام على الحبي ... ب ومن بتلك الأربع

إبراهيم بن محمد بن إبراهيم النسوي
أبو إسحاق، الشيخ العميد، مات فجاءة في شهور سنة تسع عشرة وخمسمائة بنيسابور، رجل فاضل، شاعر كاتب، حسن المحاورة، كريم الصحبة، سمع الحديث الكثير في أسفاره، وصنف في غريب الحديث لأبي عبيد تصنيفاً مفيداً.
إبراهيم بن مسعود بن حسان
المعروف بالوجيه الصغير، ويعرف جده بالشاعر، وإنما سمى بالوجيه الصغير لأنه كان ببغداد حينئذ نحوي آخر يعرف بالوجيه الكبير، وهو شيخي رحمه الله، وقد ذكرته في باب المبارك بن المبارك، وكانا ضريرين معاً، وكان هذا من أهل الرصافة ببغداد، وكان عجباً في الذكاء وسرعة الحفظ، وكان قد حفظ كتاب سيويه، وقيل: بل حفظ أكثره، وكان يحفظ غير ذلك من كتب الأدب، وأخذ النحو عن مصدق بن شبيب، وكان أعلم منه، وأصفى ذهناً، واعتبط شاباً في جمادى الأولى سنة تسعين وخمسمائة، ولو قدر الله أن يعيش لكان آية من الآيات.
إبراهيم بن محمد بن حيدر بن علي أبو إسحاق
نظام الدين المؤذى، الخوارزمي، سألته عن مولده، فقال: كانت ولادتي في ذي الحجة، سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وله من التصانيف: كتاب ديوان الأنبياء، كتاب شرح كليلة بالفارسية، كتاب الوسائل إلى الرسائل، من نثره، كتاب ديوان شعره بالفارسية، كتاب الخطب في دعوات ختم القرآن، سماها يتيمة اليتيمة، كتاب الطرفة في التحفة بالفارسية، رسائل، وكتاب أساس نامه، في المواعظ بالفارسية. كتاب تعريف شواهد التصريف، كتاب أنموذار نامه، يشتمل على أبيات غريبة من كليلة ودمنة، شرحها بالفارسية. كتاب كفتار نامه منطق، كتاب مرتع الوسائل ومربع الرسائل.
إبراهيم بن ممشاذ أبو إسحاق المتوكلي الأصبهاني
قال حمزة: ومن بلغاء إصبهان: أبو غسحاق المتوكلي، وكان من رستاق جي من قرية أسيجان، فخرج إلى العراق، وكتب للمتوكل، ثم صار من ندمائه، فسمي المتوكلي، ولم يكن بالعراق في أيامه أبلغ منه، وله رسالة طويلة في تقريظ المتوكل، والفتح بن خاقان، يتداولها كتاب العراق إلى الآن، وتسخط صحبة أولاد المتوكل، فتركهم ولحق بيعقوب ابن الليث. وقال حمزة أيضاً، فيما رواه عن عمارة بن حمزة: حضر المتوكلي مجلس المتوكل، وقد نثر على المحضر مال جليل، تناهبه الأمراء والقواد بين يديه، وإبراهيم لا يتحرك، فقال له المتوكل، ولم لا تنبسط فيه؟ فال: جلالة أمير المؤمنين تمنعني منه، ونعمته على أغنتني عنه، فأقطعه إقطاعات.
وكان أحد البلغاء في زمانه، حتى لم يتقدمه أحد، وأنفذ في أيام المعتمد رسولاً عنه، وعن الموفق إلى يعقوب بن الليث، فاحتبسه عنده، وقدمه على كل من ببابه، حتى حسده قواد يعقوب وحاشيته، فأخبروا يعقوب أنه يكاتب الموفق في السر، فقتله.
قلت: والأولى من هاتين الروايتين أوضح في أنه هو الذي لحق بيعقوب، يدل على ذلك أنه كتب من عند يعقوب إلى المعتمد:
أنا ابن الأكارم من نسل جم ... وحائز إرث ملوك العجم
ومحيي الذي باد من عزهم ... وعفى عليه طوال القدم

وطالب أوتارهم جهرة ... فمن نام عن حقهم لم أنم
يهم الأنام بلذاتهم ... ونفسي تهم بسوق الهمم
إلى كل أمر رفيع العماد ... طويل النجاد منيف العلم
وإني لآمل من ذي العلا ... بلوغ مرادي بخير النسم
معي علم الكائنات الذي به أرتجي أن أسود الأمم
فقل لبني هاشم أجمعين ... هلموا إلى الخلع قبل الندم
ملكناكم عنة بالرما ... ح طعناً وضرباً بسيف خذم
وأولاكم الملك آباؤنا ... فما إن وفيتم بشكر النعم
فعودوا إلى أرضكم بالحجاز ... لأكل الضباب ورعي الغنم
فإني سألعو سرير الملوك ... بحد الحسام وحرف القلم
وقال يرثي الفضل بن العباس بن مافروخ:
أخ لم تلدني أمه كان واحدي ... وأنسي وهمي في الفراغ وفي الشغل
مضى فرطاً لما استتم شبابه ... ومن قبل أن يحتل منزلة الكهل
فعلمني كيف البكاء من الجوى ... وكيف حزازات الفؤاد من الثكل
إذا ندب الأقوام إخوان دهرهم ... بكيت أخي، فضلاً أخا الجود والفضل
وقال يهجو إسحاق بن سعد القطربلي عامل إصبهان، وقد كان أساء معاملة إخوته بإصبهان:
أين الذين تقولوا ألا يروا ... ضدين مختلفين في ذا العالم
هذا ابن سعد قد أزال قياسكم ... وأباد حجتكم بغير تخاصم
أبدى لنا متحركاً في ساكن ... منه وأظهر قائماً في نائم
وإذا تذكر أصلعاً هشم استه ... يبكي يقول: فديت أصلع هاشم
بالله ما اتخذ الإمامة مذهباً ... إلا لكي يبكي لذكر القائم
قال حمزة: ومن هذا أخذ ابن الناصر قوله:
قل لمن كان إمام ... يا إلى كم تتردد؟
أله التمس ما في سراوي ... ل فتى الناصر أحمد
فهو القائم يا مغرو ... ر من آل محمد

إبراهيم بن موسى الواسطي الكاتب
له كتاب في أخبارالوزراء، عارض فيه كتاب محمد ابن داود الجراح في الوزراء، قاله المسعودي.
إبراهيم بن هلال بن زهرون
أبو إسحاق الحراني، أوحد الدنيا في إنشاء الرسائل، والاشتمال على جهات الفضائل، مات يوم الخميس، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، عن إحدى وسبعين سنة، ومولده في سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، كذا ذكره حفيده أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم في تاريخه.
وكان قد خدم الخلفاء والأمراء من بني بويه والوزراء، وتقلد أعمالاً جليلة، ومدحه الشعراء، وعرض عليه عز الدولة يختيار بن معز الدولة بن بويه الوزارة إن أسلم، فامتنع.
وكان حسن العشرة للمسلمين، عفيفاً في مذهبه.
وكان ينوب أولاً عن الوزير أبي محمد المهلبي، في ديوان الإنشاء، وأمور الوزارة.
ولما ورد عضد الدولة إلى بغداد في سنة سبع وستين وثلاثمائة، نقم عليه أشياء من مكتوباته عن الخليفة وعن عز الدولة بختيار، فحبسه، فسئل فيه وعرف بفضله، وقيل له: مثل مولانا لا ينقم على مثله ما كان منه، فإنه كان في خدمة قوم لا يمكنه إلا المبالغة في نصحهم، ولو أمره مولانا بمثل ذلك إذا استخدمه في أبيه، ما أمكنه المخالفة، فقال عضد الدولة: قد سوغته نفسه، فإن عمل كتاباً في مآثرنا وتاريخنا أطلقته، فشرع في محبسه في كتاب التاجي في أخبار بني بويه، وقيل إن بعض أصدقائه دخل عليه الحبس، وهو في تبييض وتسويد في هذا الكتاب، فسأله عما يعمله، فقال: أباطيل أنمقها، وأكاذيب ألفقها، فخرج الرجل، وأنهى ذلك إلى عضد الدولة، فأمر بإلقائه تحت أرجل الفيلة، فأكب أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، ونصر بن هارون على الأرض يقبلانها، ويشفعون إليه في أمره، حتى أمر باستحيائه، وأخذ أمواله واستصفائه، وتخليد السجن بدمائه، فبقي في السجن بضع سنين، إلى أن تخلص في أيام صمصام الدولة ابن عضد الدولة.

وكان بينه وبين الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد مراسلات ومواصلات ومتاحفات، وكذلك بينه وبين الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي: مودة ومكاتبات أذكر منها ما يليق باختصارنا هذا، مع اختلاف الملل، وتباين النحل، وإنما كان ينظمهم سلك الأدب، مع تبدد الدين والنسب.
وذكر أبو منصور الثعالبي في كتابه: أنه بلغ من العمر تسعين سنة والذي أوردته من تاريخ حفيده، وهو أعلم به.
فأما بلاغته، وحسن ألفاظه، فقد أغنتنا شهرتها عن صفتها، وذكرتها الشعراء فقال بعضهم:
أصبحت مشتاقاً حليف صبابة ... برسائل الصابي أبي إسحاق
صوب البلاغة والحلاوة والحجى ... ذوب البراعة سلوة العشاق
طوراً كما رق النسم وتارة ... يحكي لنا الأطواق في الأعناق
لا يبلغ البلغاء شأو مبرز ... كتبت بدائعه على الأحداق
ولآخر فيه:
يا بؤس من يمنى بدمع ساجم ... يهمى على حجب الفؤاد لا واجم
لولا تعلله بكأس مدامة ... ورسائل الصابي وشعر كشاجم
قال أبو منصور: وكان يصوم شهر رمضان، مساعدة وموافقة للمسلمين، وحسن عشرة منه لهم، ويحفظ القرآن حفظاً يدور على طرف لسانه، وبرهان ذلك في رسائله.
قال: وكان أبو إسحاق في عنفوان شبابه، أحسن حالاً منه في أيام اكتهاله، وفي ذلك يقول:
عجباً لحظي إذ أراه مصالحي ... عصر الشباب وفي المشيب مغاضبي؟
أمن الغواني كان حتى خانني ... شيخاً، وكان على صباي مصاحبي؟
أمع التضعضع ملني متجنباً ... ومع الترعرع كان غير مجانبي؟
يا ليت صبوته إلي تأخرت ... حتى تكون ذخيرة لعواقبي
من قصيدة، في فنها فريدة، كتبها إلى الصاحب يشكو فيها بثه وحزنه، ويستمطر سحبه ودرره، بعد أن كان يخاطبه بالكلف، ولا يرفعه عن رتبة الأكفاء.
وكان المهلبي لا يرى إلا به الدنيا، ويحن إلى براعته، ويصطنعه لنفسه، ويستدعيه في أوقات أنسه، وتوفي المهلبي، وأبو إسحاق يلي ديوان الرسائل، والخلافة على ديوان الوزارة، لأن المهلبي مات بعمان، وكان قد مضى لافتتاحها، واستخلف أبا إسحاق على ديوان الوزارة، فاعتقل في جملة عمال المهلبي وأصحابه، فقال، وهو معتقل:
يا أيها الرؤساء دعوة خادم ... أربت رسائله على التعديد
أيجوز في حكم المروءة عندكم: ... حبسي وطول تهددي ووعيدي
قلدت ديوان الرسائل، فانظروا ... أعدلت في لفظي عن التسديد؟
أعلي رفع حساب ما أنشأته ... فأقيم فيه أدلتي وشهودي؟
أنسيتم كتباً شحنت فصولها ... بفصول در عندكم منضورد
ورسائلاً نفذت إلى أطرافكم ... عبد الحميد بهن غير حميد
قال: وكانت الرسالة التي ينقمها عليه عضد الدولة، كتاباً أنشأه عن الخليفة، في شأن عز الدولة بختيار، وهو: " وقد جدد له أمير المؤمنين، مع هذه المساعي السوابق، والمعالي السوامق، التي يلزم كل دان وقاص، وعام وخاص، أن يعرف له حق ما كرم به منها، ويتزحزح له عن رتبة المماثلة فيها " فإن عضد الدولة أنكر هذه اللفظة أشد الإنكار، وأسرها في نفسه، إلى أن ملك لاعراق، فحبسه، كما تقدم ذكره.
وقال حفيده هلال بن المحسن في أخبار الوزراء: حدثني أبو إسحاق جدي، قال: لما توفي أبو الحسين هلال أبي، جاءني أبو محمد المهلبي معزياً به، فحين عرفت خبره في تقديمه مشرعة داري الشاطية بالزاهر، بادرت لتلقيه، واستعفيته من الصعود، فامتنع من الإجابة إلى ذلك، وصعد، وجلس ساعة يخاطبني فيها بكل ما يقوي النفس، ويشرح الصدر، ويصف والدي، ويقرظه لي بقوله: ما مات من كنت له خلفاً، ولا فقد من كنت منه عوضاً، ولقد قررت عين أبيك بك في حياته، وسكنت مضاجعه إلى مكانك بعد وفاته، فقبلت يده ورجله، وأكثرت من الثناء عليه، والدعاء له، وحضرتني في الحال ثلاثة أبيات، أنشدته إياها، وهي:
لو وثقنا بأن عمرك يمت ... د بأعمارنا قتلنا النفوسا
قد تركت الموت الزؤام مغيظاً ... يتلظى لجرحه، كيف يوسا
فغدت عندنا المصيبة نعمى ... بأياديك وهي من قبل بوسا

ثم نهض، وأقسم علينا ألا يتبعه أحد منا، وأنفذ إلي في بقية ذلك اليوم خمسة آلاف درهم، فقال: استعن بهبذا على أمرك، ولم يبق أحد من أهل الدولة إلا جاءني بعده معزياً، ثم اجتاز بي من الغد في طيارة ووقف واستدعاني، وأمرني بالنزول معه، فبعد جهد ما تركني بقية اليوم.
وحدث أبو منصور، قال: حكى أبو إسحاق الصابيء، قال: طلب مني رسول سيف الدولة بن حمدان عند قدومه الحضرة شيئاً من شعري، وذكر أن صاحبه رسم له ذلك، فدافتعته أياماً، ثم ألح علي وقت الخروج فأعطيته هذه الثلاثة الأبيات:
إن كنت خنتك في المودة ساعة ... فذممت سيف الدولة المحمودا
وزعمت أن له شريكاً في العلا ... وجحدته في فضله التوحيدا
قسماً لواني حالف بغمومها ... لغريم دين ما أراد مزيدا
فلما عاد الرسول إلى الحضرة، ودخلت عليه مسلماً، أخرج لي كيساً بختم سيف الدولة، مكتوباً عليه اسمي، وفيه ثلثمائة دينار.
ووجدت بخط أبي علي بن أبي إسحاق قال: لما غني ابن حمدان بهذا الشعر، سأله عن قائله، فعرفه، قال والدي رحمه الله: فأنفذ إلي في الوقت عشرة دنانير من دنانير الصلة، وزنها خمسمائة مثقال، وأضاف إلى ذلك رسماً كان ينفذه إلي في كل سنة، إلى أن مات رحمه الله.
قال: وأهدى أبو إسحاق الصابيء إلى عضد الدولة، في يوم مهرجان، إصطرلاباً بقدر الدرهم، محكم الصنعة، وكتب إليه " وفي كتاب الوزراء لحفيده: أنه أهدى الإصطرلاب إلى المطهر بن عبد الله وزير عضد الدولة وكتب إليه " بهذه الأبيات:
أهدي إليك بنو الحاجات واختلفوا ... في مهرجان عظيم أنت مبليه
لكن عبدك إبراهيم حين رأى ... علو قدرك لا شيء يساميه
لم يرض بالأرض يهديها إليك فقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه
ولقابوس أبيات تشبه هذه مذكورة في بابه: " ذكر القبض على أبي إسحاق الصابئ، والسبب فيه، وما جرى عليه من أمره إلى أن أطلق " .
قال هلال بن المحسن: قبض عليه في يوم السبت لأربع بقين من ذي القعدة سنة سبع وستين وثلاثمائة، وأفرج عنه يوم الأربعاء لعشر بقين من جمادى الأولى سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، فكان مدة حبسه ثلاث سنين وسبعة أشهر وأربعة عشر يوماً.
قال: وكان السبب في القبض عليه، أنه كان قد خدم عضد الدولة عند كونه بفارس بالشعر والمكاتبة، والقيام بما يعرض من أموره بالحضرة، فقبله وأنفق عليه، وأرفده في أكثر نكباته بمال حمله إليه، وورد عضد الدولة في سنة أربع وستين وثلاثمائة، فزاد قربه منه، وخصوصه به، وتأكد حاله عنده، فلما أراد العود إلى فارس، عمل على الخروج معه، إشفاقاً من المقام بعده، ثم عليم أنه متى فعل ذلك أسلم أهله وولده، وتعجل منهم ما عسى الله أن يدفعه عنه، فاستظهر له عضد الدولة، بأن ذكره في الاتفاق الذي كتب بينه وبين عز الدولة، وعهد به إليه، واليمين التي حلفا بها، وشرط عليهما حراسته في نفسه وماله، وترك تتبعه في شيء من أحواله، وانحدر عضد الدولة، فلم يأمن على نفسه من عز الدولة، وأبي طاهر بن بقية وزيره، واستتر، وأقام على الاستتار مدة، ثم توسط أبو محمد بن معروف أمره معهما، وأخذ له العهد عليهما، والأمان منهما، واستوثق بغاية ما يستوثق به من مثلهما، وظهر، فتركاه مديدة، ثم قبضا عليه، وذلك بإغراء ابن السراج لهما به، وتجدد منه في العداوة له أمور تجنى فيها عليه، وجرت له في هذه التكبة خطوب أشفى فيها على ذهاب النفس، ثم كفاه الله بأن فسد أمر ابن السراج مع ابن بقية بما عامله بالعلة التي عرضت له فقبض عليه، ونقل القيد من رجل أبي إسحاق إلى رجله، وعاد إلى خدمة عز الدولة، وكتب عنه في أيام المباينة بينه وبين عضد الدولة الكتب التي تضمنت الوقيعة والاستهتار عليه، ومنها الكتاب عن الطائع لله بتقديم عز الدولة وإنزاله منزلة ركن الدولة، وهو أعظم ما نقمه عليه.

فلما ورد عضد الدولة إلى بغداد في الدفعة الثانية، وحصل بواسط، استظهر بأن خرج إلى أبي سعد بهرام بن أردشير، وهو يتردد في الرسائل بما يتخوفه من تشعب رأي عضد الدولة، وسأله إجراء ذكره، وإقامة عذره، والاحتياط له بأمان تسكن إليه نفسه، وكتب على يده كتاباً، عاد جوابه بما نسخته: " كتابنا - أيدك الله - من المعسكر بجيل يوم الجمعة لست ليال بقين من شهر ربيع الأول عن سلامة ونعمة، والحمد لله رب العالمين، ووصل كتابك - أيدك الله - وفهمنا وعرفنا ما يحمل، واستمعنا من أبي سعد بهرام بن أزدشير، - أعزه الله، - ما أورده عنك، ومن كانت به حاجة إلى إقامة معذرة، واستقالة من عثرة، أو الاستظهار في مثل هذه الأحوال بوثيقة، فأنت مستغن عن ذلك، بسابقتك في الخدمة، ومنزلتك من الثقة، وموقعك لدينا من الخصوص والزلفة.
وذكر أبو سعد، - أعزه الله، - إلتماسك أماناً، فقد بذلناه لك على غناك عنه، وأنت آمن على نفسك، ودمك، وشعرك، وبشرك، وأهلك، وولدك، وسائر ما تحويه يدك، حال في كل حال بكنف الأثرة والخصوص والإحسان والقبول عندنا محروس في جاهك، وموقفك، وحالك، فاسكن إلى ذلك، واعتمده، ولك علينا الوفاء به عهد الله وميثاقه، وقد حملنا أبا سعد، - أعزه الله، - في هذا الباب ما يذكره لك، والله نستعين على النية فيك، وهو حسبنا.
والتوقيع بخط عضد الدولة: اعتمد ذلك واسكن إليه، وثق به، إن شاء الله تعالى.
ودخل عضد الدولة إلى بغداد، فأجراه على رسمه، ووقع بإقرار إقطاعه، وإمضاء تقريراته، فلما حصل بالموصل، كتب إلى أبي القاسم المطهر بالقبض عليه فحدثني أبو الحسن فقد بن عبد الله، وكان يكتب لأبي عمرو بن... عند نظره في الموصل، قال: أخرج في الموصل إلى الديوان، ما وجد في قلاع أبي تغلب من الحسابات، ليتأمل ويميز، وكان فيها الشيء الكثير من كتب عز الدولة إلى أبي تغلب بخط أبي إسحاق جدك، فكان أبو عمرو إذا رأى ما فيه ذكر عضد الدولة، لعداوة كانت بينه وبينه، فأظن ما وقف عليه، حرك ما كان في نفسه، حتى كتب من هناك بالقبض عليه.
قال: وحدثني جدي قال: كنت جالساً بحضرة أبي القاسم المطهر بن عبد الله، وزير عضد الدولة، في يوم القبض علي، إذ وردت النوبة، ففضت بين يديه، وبدأ منها بقراءة كتاب عضد الدولة، فلما انتهى إلى فصل منه، وجم وجوماً بان في وجهه، فقال لي أبو العلاء صاعد بن ثابت: أظن في هذا الكتاب ما ضاق صدراً به، وقمت من مجلسه لأنصرف، فتبعني بعض حجابه، وعدل بي إلى بيت من داره، ووكل بي، وأرسل يقول لي: لعلك قد عرفت مني الانزعاج عند الوقوف على الكتاب الوارد من الحضرة اليوم، وكان ذلك لما تضمن من القبض عليك، وأخذ مائة ألف درهم منك، وينبغي أن تكتب خطك بهذا المال، ولا تراجع فيه، فوالله لا تركت ممكناً في معونتك وتحليصك إلا بذلته، وقد جعلت اعتقالك في داري، ومقامك في ضيافتي، فطب نفساً بقولي، وثق بما يتبعه من فعلي. وقبض على ولديه أبي علي المحسن، والدي، وأبي سعيد سنان، عمي، فلما تقدم عضد الدولة إلى أبي القاسم المطهر بالانحدار لقتال صاحب البطيحة، سأل عضد الدولة إطلاقه والإذن له في استخلافه، بحضرته، فقال له: أما العفو، فقد شفعناك فيه، وينبغي أن تعرفه ذلك، وتقول له، إننا قد غفرنا لك عن ذنب، لم نعف عما دونه لأهلنا، - يعني: عز الدولة والديلم - ولأولاد بيتنا - يعني: أبا الحسن محمد بن عمر وأبا أحمد الموسوي - ولكنا وهبنا إساءتك لخدمتك، وعلينا المحافظة فيك على الحفيظة منك، وأما استخلافك إياه بحضرتنا، فكيف يجوز أن ننقله من السخط والنكبة إلى النظر في الوزارة، ولنا في أمره تدبير. وبالعاجل، فتحمل إليه من عندك ثياباً ونفقة، وتطلق ولديه، وتقدم إليه عنا يعمل كتاب في مفاخرنا، فحمل إليه المطهر ثياباً ونفقة وأطلق ولديه، والدي وعمي، ورسم له تأليف الكتاب في الدولة الديلمية، وانحدر المطهر، وبقي أبة إسحاق في محبسه وعمل الكتاب، فكان إذا ارتفع جزء منه، حمل إلى الحضرة العضدية، حتى يقرأه ويتصفحه، ويزيد فيه، وينقص منه، فلما تكامل على ما أراده، حرر وحمل كلاماً محرراً، فيقال: إنه قرئ عليه في أسبوع، وتركه في الحبس بعد ذلك سنة، واتفق أن خرج إلى الزيارة وعاد، فعمل فيه قصيدة يهنئه فيها بمقدمه، ويذكره بأمره، منها:

أهلاً بأشرف أوبة وأجلها ... لأجل ذي قام يلاذ بنعلها
شاهانشاه تاج ملته التي ... ريدت به في قدرها ومحلها
يا خير من زهت المنابر باسمه ... في دولة علقت يداه بحبلها
وأقمت فينا سيرة عضدية ... هيهات لا تأتي الملوك بمثلها
يردى غوي فاجر في بأسها ... ويعيش بر صالح في فضلها
مولاي عبدك حالف لك حلفة ... تعيا مناكب يذبل عن حملها
لقد انتهى شوقي إليك إلى التي ... لا أستطيع أقلها من ثقلها
طوبى لعين أبصرتك ومن لها ... بغبار دارك جازياً عن كحلها؟
لو بعتني بجميع عمري لفظة ... أو لحظة بالطرف لم أستغلها
أترى أمر بخطرة من بالها؟ ... أترى أعود إلى كثافة ظلها؟
لي ذمة محفوظة في ضمنها ... ووثائق محروسة في كفلها
وإذا رأيت سحائباً لك ثرة ... تروى النفوس الحائمات بهطلها
لا في الرجال الناقعين بوبلها ... كلا ولا في القانعين بطلها
قابلت بالزفرات هبة ريحها ... وحكيت بالعبرات درة سجلها
فلو أن عيني راهنت بدموعها ... يمناك في السقيا لفزت بخصلها
قال: قد كان أبو إسحاق يكاتب عضد الدولة في الحبس بالأشعار، ويرققه، فما رققه شيء كقصيدته القافية، ومنها:
أجل في البنين الزهر طرفك إنهم ... حووا كل مرأى للأحبة مؤنق
وتمت لك النعمى بقرب كبيرهم ... فأهلاً به من طارق خير مطرق
موال لنا مثل النجوم مطيفة ... بمولى موال منك كالبدر مشرق
وقد ضمهم شمل لديك مؤلف ... فأرث لذي الشمل الشتيت المفرق
وإن كنت يوماً عنهم متصدقاً ... فمن مثل ما خولت فيهم تصدق
فلي مقلة تقذى إذا ما مددتها ... غلى حلة ممن أعول ودورق
إناث وذكران أبيت من أجلهم ... على كمد بين الحجابين مقلق
رسائلهم تأتى بما يلدغ الحشا ... ويصدع قلب النازع المتشوق
فباكية ترثي أباها ولم يمت ... وبائنة من بعلها لم تطلق
زغب من الأطفال أبناء منزل ... شوارد عنه كالقطا المتمزق
إذا حرقوا قلبي بنجواهم انثنت ... عداك تناجيني فتطفي تحرقي
شهدت لئن أنكرت أنك صنتني ... ولم أرع ما أوليتني من ترفق
لقد ضيع المعروف عندي وأصبحت ... ودائعه مودوعة عند أحمق
وحبسك لي جاه عريض ورفعة ... وقيدك في ساقي تاج لمفرقي
وما موثق لم تطرحه بموثق ... ولا مطلق لم تصطنعه بمطلق
خلا أن أعواماً كملن ثلاثة ... تعرقت البقيا أشد تعرق
وقد ظمئت عيني التي أنت نورها ... إلى نظرة من وجهك المتألق
فيا فرحتي إن ألقه قبل ميتتي ... ويا حسرتي إن مت من قبل نلتقي
خدمتك مذ عشرون عاماً موفقاً ... فهب لي يوماً واحداً لم أوفق
فإن يك ذنب ضاق عندي عذره ... فعندك عفو واسع غير ضيق
قال: وسمعت أبا الريان، حامد بن محمد، الوزير، يقول لجدي، وهما في مجلس أنس، وأنا حاضر معهما: لما أنفذت القصيدة اللامية بالتهنئة، عن قدوم عضد الدولة من الزيارة، عرضتها عليه في وقت كان عبد العزيز بن يوسف غير حاضر فيه، فقرأها، ثم رفع رأسه إلي وإلى عبد الله بن سعدان، وكنت آمنه عليك، وأعلم أن اعتقاده يوافق اعتقادي فيك، فقال: قد طال حبس هذا المسكين ومحنته، فقبلت أنا وهو الأرض عند ذلك، فقال لنا: كأنكما تؤثران إطلاقه، قلنا: إن من أعظم حقوقه علينا، وذرائعه عندنا، أن عرفناه في خدمتك، وخالطناه في أيامك، قال: فإذا كان رأيكما فيه، فأنذا وأفرجا عنه، وتقدما إليه عنا بملازمة منزله، إلى أن يرسم له ما يليق بمثله:

قال أبو الريا، فخرجت مبادراً، وأنفذت لشكرستان صاحبي، وأنفذ بن سعدان محمدا لأواتيه، وانتظرت عودهما بما فعلاه، من صرفك إلى دارك، فأبطأا عليّ، وكنت أعرف من عادة عضد الدولة، أنه يتقدم بالأمر، ثم يسأل عنه، فإن كان قد فعل أمضاه، ولم يرجع، وإن تأخر، فربما بدا له رأي مستأنف في التوقف عنه، فدخلت إلى عضد الدولة في غرض ما، أطالعه به، فقلت له: سمع الله في مولانا ما دعي له، فقال: ما تجدد؟ قلت: شاهد الناس أبا إسحاق الصابئ، وقد أخرج من محبسه، ومضى إلى داره، فأكثروا من الدعاء والشكر، فسكت، وشغلت عضد الدولة علته، وما أفضى إليه من منيته عن النظر في أمره، إلا أنه وصل إلى حضرته، فيما بين الإطلاق واشتداد العلة، في ايام متفرقة، فتفقده بثياب ونفقات، عدة دفعات.
وكان الصاحب ابن عباد يحبه أشد الحب، ويتعصب له، ويتعاهده على بعد الدار بالمنح، وكان الصابئ، منذ حبسه عضد الدولة، متعطلاً، إلى أن مات فكان يواصل حضرة الصاحب بالمدح.
قال أبو منصور: فقرأت له فصلاً من كتاب في ذكر صلة، وصلت منه إليه، استطرفته جداً، وهو: ورد، أطال الله بقاء سيدنا، أبو العباس أحمد بن الحسن، وأبو محمد جعفر بن شعيب، حاجين، فعرجا إلى ملمين، وعاجا إلى مسلمين، فحين عرفتهما، فقبل أن أرد السلام عليهما، مددت اليد إلى ما معهما، كما مدها حسان بن ثابت إلى رسول جبلة بن الأيهم، ثقة مني بصلته، وتشوقاً إلى تكرمته، واعتياداً لإحسانه، وإلفاً لموارد إنعامه، وتيقناً أن الخطرة مني على باله، مقرونة بالنصيب من ماله، وأن ذكراه لي، مشفوعة بجدواه علي، وقمت عند ذلك قائماً، وقبلت الأرض ساجداً، وكررت الدعاء والثناء مجتهداً، وسألت الله أن يطيل له البقاء، كطول يده بالعطاء، ويمد له في العمر، كامتداد ظله على الحر، وأن يحرس هذا البدد، القليل العدد، من مشيخة الكتاب، ومنتحلي الآداب، ما كنفهم به من ذراه، وأفاءه عليهم من نداه، وأسامهم فيه من مراتعه وأعذبه لهم من شرائعه، التي هم محلئون إلا منها، ومحرومون إلا عنها " .
وكان الصاحب يتمنى انحياز أبي إسحاق إلى جنبته، وقدومه إلى حضرته، ويضمن له الرغائب على ذلك، إما تشوقاً، وإما تشرفاً.
وكان أبو إسحاق يحتمل ثقل الخلة، وسوء أثر العطلة، ولا يتواضع للاتصال بجملة الصاحب، بعدكونه من نظرائه، وتحليه بالرياسة في أيامه.
قال: وأخبرني ثقات، منهم أبو القاسم علي بن محمد الكرخي، وكان شديد الاختصاص بالصاحب، أنه كثيراً ما كان يقول: كتاب الدنيا، وبلغاء العصر أربعة: الأستاذ ابن العميد، وأبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وأبو إسحاق الصابي، ولو شئت لذكرت الرابع يعني نفسه.
فأما الترجيح بين هذين الصدرين، أعني: الصاحب والصابئ، في الكتابة، فقد خاض فيه الخائضون، وأطنب المحصلون، ومن أشفى ما سمعته في ذلك: أن الصاحب كان يكتب كما يريد، وأبو إسحاق يكتب كما يؤمر، وبين الحالين بون بعيد، وكيف جرى الأمر، فهما هما، ولقد وقف فلك البلاغة بعدهما؟ ومما يدل على إناخة كلكل الزمان عليه، وصرف صروفه، بعد النباهة إليه، فصل كتبه إلى صديق له يستميحه، وهو: ولما صارت صروف الدهر تتوغل بعد التطريف وتجحف بعد التحيف، وصادف ما تجدد علي في هذا الوقت منها أشلاء، مني منهوكة، وأعظماً مبرية، وحشاشة مشفية، وبقية مودية، جعلت أختار الجهات، وأعتام الجنبات، لأنحو منها ما لا يعاب سائله إذا سأل، ولا يخيب آمله إذا أمل، وكان سيدي أولها إذا عددت، وأولاها إذا اعتمدت، وكتبت كتابي هذا، بيد يكاد وجهي يتظلم منها إذ تخطه، إشفاقاً على مائه مما يريقه، لولا الثقة بأنه يحقن مياه الوجوه ويحميها، ويجمها، ولا يقذيها.
فصل من كتاب إلى عضد الدولة في تهنئة بتحويل سنته:

أسأل الله مبتهلاً لديه، ماداً يدي إليه، أن يحيل على مولانا هذه السنة، وما يتلوها من أخواتها، بالصالحات الباقيات، والزيادات الغامرات، ليكون كل دهر يستقبله، وأمد يستأنفه، موفراً على المتقدم له، قاصراً عن المتأخر عنه، ويوفيه من العمر أطوله وأبعده، ومن العيش أعذبه وأرغده، عزيزاً منصوراً، محمياً موفوراً، باسطاً يده، فلا يقبضها إلا على نواصي أعداء وحساد، سامياً طرفه، فلا يغضه إلا على لذة غمض ورقاد، مستريحة ركايه، فلا يعملها إلا لاستضافة عز وملك، فائزة قداحه، فلا يجيلها إلا لحيازة مال وملك، حتى ينال أقصى ما يتوجه إليه أمنيته جامحة، وتسمو له همته طامحة.
وحدث هلال بن المحسن: حدثني جدي أبو إسحاق: ثم وجدت هذا الخبر بخط المحسن بن إبراهيم قال: حدثني والدي أبو إسحاق، قال: كان والدي أبو الحسن يلزمني في الحداثة والصبي قراءة كتب الطب، والتحلي بصناعته، وينهاني عن التعرض لغير ذلك، فقويت فيها قوة شديدة، وجعل لي برسم الخدمة في البيمارستان عشرون ديناراً في كل شهر، وكنت أتردد إلى جماعة من الرؤساء، خلافة له، ونيابة عنه، وأنا مع ذلك كاره للطب، ومائل إلى قراءة كتب الأدب، كاللغة والشعر، والنحو والرسائل والأدب، وكان إذا أحس بهذا مني، يعاتبني عليه، وينهاني عنه، ويقول: يا بني، لا تعدل عن صناعة أسلافك، فلما كان في بعض الأيام، ورد عليه كتاب من بعض وزراء خراسان يتضمن أشياء كثيرة، كلفه إياها، ومسائل في الطب وغيره، سأله عنها، وكان الكتاب طويلاً بليغاً، قد تأنق منشئه، وتغارب، فأجاب عن تلك المسائل، وعمل جملاً لما يريده، وأنفذها على يدي إلى كاتب، لم يكن في ذلك العصر أبلغ منه، وسأله إنشاء الجواب عنه، قال: فمضيت، وأنشأت أنا الجواب، وأطلته وحررته، وجئت به إليه، فلما قرأه، قال: يا بني سبحان الله، ما أفضل هذا الرجل وأبلغه، فقلت له: هذا من إنشائي، فكاد يطير فرحاً، وضمني إليه، وقبل بين عيني، وقال: قد أذنت لك الآن، فامض، فكن كاتباً.
كان أبو إسحاق الصابئ واقفاً بين يدي عضد الدولة، وبين يديه كتب قد وردت عليه من ابن سمجور، صاحب خراسان، وعلى رأسه غلام تركي، حسن الوجه، جميل، الخليقة، وكان مائلاً إليه، ورأيت الشمس إذا وجبت عليه حجبه عنها، إلى أن استتم قراءة ما كان في يده، ثم التفت إليه، فقال له: هل قلت شيئاً يا إبراهيم؟ فقال:
وقفت لتحجبني عن الشمس ... نفس أعز علي من نفسي
ظلت تظللني ومن عجب ... شمس تقنعني عن الشمس
فسر بذلك، وطوى الكتب، وجعله مجلساً للقرب، وألقي على الجواري الستائر، فغنوا به في ذلك اليوم، وهو في الخامس من شوال سنة إحدى وستين وثلاثمائة.
وكتب إلى بعض أصدقائه: ولو حملت نفسي على الاستشفاع والسؤال، لضاق علي فيه المرتكض والمجال، لأن الناس عندنا - ما خلا الأعيان الشواذ الذين أنت بحمد الله أولهم - طائفتان: مجاملة، ترى أنها قد وفتك خيرها، إذا كفتك شرها، وأجزلت لك رفدها، إذا أجنبتك كيدها. ومكاشفة، تنزو إلى القبيح، نزو الجنادب، أو تدب، دبيب العقارب، فإن عوتبوا، حسروا قناع الشقاق، وإن غولظوا، تلثموا بلثام النفاق. والفريقان في ذاك كما قلت منذ أيام:
أيارب، كل الناس أبناء علة ... أما تعثر الدنيا لنا بصديق
وجوه بها من مضمر الغل شاهد ... ذوات أديم في النفاق صفيق
إذا اعترضوا عند اللقاء فإنهم ... قذى لعيون أو شجاً لحلوق
وإن أظهروا برد الودود وظله ... أسروا من الشحناء حر حريق
أخو وحدة قد آنستني كأنني ... بها نازل في معشر ورفيق
فذلك خير للفتى من ثوائه ... بمسبعة من صاحب وصديق

ومن خط أبي علي المحسن، بن إبراهيم بن هلال: حدثني والدي رحمه الله، قال: وصفتع وأنا حدث، للوزير أبي محمد المهلبي، وهو يومئذ يخاطب بالأستاذ، فاستدعى عمي أبا الحسن، ثابت بن إبراهيم، وسأله عني والتمسني منه، ووعده في بكل جميل، فخاطبني عمي في ذلك، وأشار علي به، فامتنعت، لانقطاعي إلى النظر في العلوم، وكنت مع هذه الحال شديد الحاجة إلى التصرف، لقرب العهد بالنكبة من توزون، التي أتت على أموالنا، فلم يزل بي أبي، حتى حملني إليه، فلما رآني تقبلني، وأقبل علي، ورسم لي الملازمة، وبحضرته في ذلك الوقت جماعة من شيوخ الكتاب، فلما كان في بعض الأيام، وردت عليه عدة كتب من جهات مختلفة، فاستدعاني، وسلمها إلي، وذكر لي المعاني التي تتضمنها الأجوبة، وأطال القول، فمضيت، وأجبت عن جميعها، من غير أن أخل بشيء من المعاني التي ذكرها، فقرأها حتى أتى على آخرها، وتقدم إلي في الحال بإحضار دواتي، والجلوس بين يديه متقدماً على الجماعة، فلزم بعضهم منزله وجداً وغضباً، وأظهر بعضهم التعالل، فلم أزل أتلطف وأداري، وأغضي على قوارص تبلغني، حتى صارت الجماعة إخواني وأصدقائي.
وقرأت بخطه أيضاً: وفي كتاب الوزراء لابنه، قال المحسن: حدثني والدي: وقال هلال: حدثني جدي: واللفظ والمعنى يزيد وينقص، والاعتماد على ما في كتاب هلال، لأنه أتم، قال أبو إسحاق: كنت في مجلس الوزير أبي محمد المهلبي، في بعض أيام الحداثة، جالساً في مجلس أنسه، وبين يديه أبو الفضل العباس بن الحسين، وأبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن، وأبو علي الحسين بن محمد الأنباري، وأبو الفرج بن أبي هشام، وغيرهم من خلفائه وكتابه، وقد أخذ الشراب من الجماعة، وزاد بهم على حد التشوه وكانت لي في ذلك مزية، لأنني شربت معه أرطالاً عدة، إذ حضر رسول الأمير معز الدولة، يذكر أن معه مهما، فقال أبو محمد: يدخل، فدخل، وقال: الأمير يقول: تكتب عني الساعة كتاباً إلى محمد بن إلياس، صاحب كرمان، تخطب فيه ابنته لبختيار، فقال الوزير: هذا كتاب يحتاج إلى تأمل وتثبت، وما في الكتاب من فيه، مع السكر، فضل له، ثم التفت إلى أبي علي الأنباري، فقال له: تتمكن يا أبا علي من كتبه؟ فقال: أما الليلة وعلى مثل هذه الحالة والصورة فلا، ورآني الوزير مصغياً إلى القول، متشوفاً لما يرسمه لي في ذلك، فقال: تكتبه يا أبا إسحاق؟ قلت: نعم: قال: افعل، فقمت إلى صفة يشاهدني فيها، واستدعيت دواتي، ودرجاً منصورياً، وكتبت كتاباً اقتضبته بغير روية، ولا نسخة، والوزير والحاضرون يلاحظوني، ويعجبون من إقدامي، ثم اقتضابي وإطالتي، فلما فرغت منه، أصلحته، وعنونته، وحملته إليه، فوقف عليه ووجهه متهلل، في أثناء القراءة والتأمل، ورمى به إلى أبي علي بن الأنباري، ثم قال للجماعة: هذا كتاب حسن، دال على الكفاية المبرزة، ولو كتبه صاحياً مروياً، لكان عجباً، فكيف إذ يكتبه منتشياً مقتضباً، ولكنه كاتبي وصنيعتي، قم يا أبا إسحاق من موضعك، واجلس ههنا، حيث أجلستك الكفاية، وأومأ إلى جانب أبي الغنائم ابنه، فقبلت يده ورجله، وشكرته، ودعوت له، وجلست بحيث أجلسني، وشرب لي ساراً، ثم استدعى حاجبه، وقال: تقدم دابته إلى حيث تقدم دواب خلفائي، ويوفى من الإكبار الإكرام ما يوفونه، فحسدني على ذلك كل من كان حاضراً، ووفوني من الغد حكم المساواة، في المخاطبة والمعاملة، واستشعروا عندها أسباب العداوة والمنافسة، ثم قلدني دواوين الرسائل، والمظالم، والمعاون تقليداً سلطانياً، كتب به: عن المطيع لله إلى أصحاب الأطراف.
وحدث هلال بن المحسن، قال: حدثني جدي أبو إسحاق، قال: كان أبو طاهر بن بقية واقفاً بين يدي عضد الدولة في سنة أربع وستين وثلاثمائة التي ورد فيها للمعاونة على الأتراك، فقال لي عضد الدولة: لو عرضت علينا أبياتك إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف، التي هي، وأنشدها، وكانت:
يا راكب الجسرة العيرانة الأجد ... تدمى مناسمها في الحزن والجدد
أبلغ أبا قاسم نفسي الفداء له ... مقالة من أخ للحق معتمد
أنصفت فيها ولم أظلم، وما حسن ... بالمرء إلا مقال الحق والسدد
في كل يوم لكم فتح له خطر ... يشاد فيه بذكر السيد العضد

وما لنا مثله لكننا أبداً ... نجيبكم بجواب الحاسد الكمد
فأنت أكتب مني في الفتوح وما ... تجري مجيباً إلى شأوى ولا أمدي
إذ لست تعرفها تأتيك من أحد ... ولست أعرفها تمضي إلى أحد
وما ذممت ابتدائي إذ بدأتكم ... ولا جوابكم في القرب والبعد
وإنما رمت أن أثني على ملك ... مستطرد بدليل فيه مطرد
قال: فلما استتمها، قال لأبي طاهر: ما قصد أبو إسحاق في هذه الأبيات؟ وسمعها أبو طاهر صفحاً، وقد كان شرب أقداحاً، ولم يعلق بذكره من الأمر إلا ذكر المجلس، واشتهر خبرها عند كل أحد، مما عاد عضد الدولة إلى شيراز سألني أبو طاهر بن بقية عنها، وطالبني بإنشادها غياه، فلم يمكنني إنكارها، فغيرتها في الحال على هذا الوجه:
يا راكب الجسرة العيرانة الأجد ... تدمى مناسمها في الحزن والجدد
أبلغ أبا قاسم، نفسي الفداء له ... مقالة من أخ للود معتقد
أنصفت فيها ولم أظلم، ولا حسن ... بالمرء إلا مقال الحق والسدد
قد أعجبتك فتوح أنت كاتبها ... تردد السجع فيها غير متئد
خلا لك الجو إذ أصبحت منتشياً ... تشدو بها طرباً كالطائر الغرد
تروعني كل يوم منك رائعة ... تبغي الجواب لها من موجع كمد
فأنت أكتب مني في الفتوح وما ... تجري مجيباً إلى شأوي ولا أمدي
أعطيتني شر قسميها وفزت بما ... فيه الفوائد من قرب ومن بعد
فاشكر إلهك واعذرني فقد صديت ... قريحتي من زمان مقرف تلد
ثم سعي بأبي إسحاق إلى عز الدولة، حتى قبض عليه، بعد أن أعطانا أماناً، كتبه ابن بقية بيده، ولم يستقص ابن بقية عليه، لحق كان قد أوجبه عليه، أيام كون عضد الدولة ببع فكتب أبو إسحاق إلى ابن بقية من الحبس:
ألا يا نصير الدين والدولة الذي ... رددت إليها العز، إذ فات رده
أيعجزك استخلاص عبدك بعد ما ... تخلصت مولاك الذي أنت عبده؟
وكتب أبو إسحاق إلى المطهر بن عبد الله، وزير عضد الدولة، وقد عرضت له شكاة:
لو استطعت أخذت علة جسمه ... فقرنتها مني بعلة حالي
وجعلت صحتي التي لم تصف لي ... بدلاً له من صحة الإقبال
فتكون عندي العلتان كلاهما ... والصحتان له بغير زوال
قرأت بخط أبي علي بن إبراهيم الصابئ، كتب والدي إلى بعض إخوانه: كانت رقعتك يا سيدي، وصلت إلي، مشتملة من لطيف تفضلك وبرك، وأنيق نظمك ونثرك، على ما شغلني الاستحسان له، والاسترواح إليه، وتكرير الطرف في مبانيه، والفكرة في معانيه، عن الشروع في الإجابة عنه، ثم تعاطيتها، فوجدتني بين حالتين، إما أوجزت إيجازاً، يظن معه التقصير، أو أطلت إطالة، يظهر منها القصور، فرأيت أولى الأمرين، بذل الممكن، واستنفاد المجهود، بعد تقديم الإقرار لك، والاعتراف بفضلك.
فسبحان رب كريم حبا ... ك بطول اللسان وطول البنان
ووفاك من فضل إنعامه ... كمالاً تقصر عنه الأماني
فما كنت أحسب أن الزما ... ن يزان بمثلك لولا عياني
ومن خطه: حدثني والدي أبو إسحاق قال: راسلت أبا الطيب المتنبي - رحمه الله - في أن يمدحني بقصيدتين، وأعطيه خمسة آلاف درهم، ووسطت بيني وبينه رجلاً من وجوه التجار، فقال له: قل له: والله ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولا أوجب علي في هذه البلاد أحد من الحق ما أوجبت، وإن أنا مدحتك، تنكر لك الوزير، يعني - أبا محمد المهلبي، - وتغير عليك، لأنني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذه الحال، فأنا أجيبك إلى ما التمست، وما أريد منك منالاً، ولا عن شعري عوضاً، قال والدي: فتنبهت على موضع الغلط، وعلمت أنه قد نصح، فلم أعاوده.
ومن شعر أبي إسحاق، قوله:
جرت الجفون دماً، وكأسي في يدي ... شوقاً إلى من لج في هجراني
فتخالف الفعلان، شارب قهوة ... يبكي دماً، وتشاكل اللونان

فكأن ما في الجفن من كأسي جرى ... وكأن ما في الكأس من أجفاني
وله أيضاً:
أيها اللائم المضيق صدري ... لا تلمني فكثرة اللوم تغري
قد أقام القوام حجة عشقي ... وأبان العذار في الحب عذري
وله أيضاً في غاية الجودة:
حذرت قلبي أن يعود إلى الهوى ... لما تبدل بالنزاع نزوعاً
فأجابني لا تخش مني بعد ما ... أفلت من شرك الغرام وقوعاً
حتى إذا داع دعاه إلى الهوى ... أصغى إليه سامعاً ومطيعا
كذبالة أخمدتها فكما دنا ... منها الضرام تعلقته سريعا
وله أيضاً:
مرضت من الهوى حتى إذا ما ... بدا ما بي لإخواني الحضور
تكنفني ذوو الإشفاق منهم ... ولاذوا بالدعاء وبالنذور
وقالوا للطبيب: أشر فإنا ... نعدك للعظيم من الأمور
فقال شفاؤه الرمان مما ... تضمنه حشاه من السعير
فقلت لهم: أصاب بغير قصد ... ولكن ذاك رمان الصدور
وله أيضاً:
إلى الله أشكو ما لقيت من الهوى ... بجارية أمسى بها القلب يلهج
إذا امتزجت أنفاسنا بالتزامنا ... توهمت أن الروح بالروح يمزج
كأني وقد قبلتها بعد هجعة ... ووجدي ما بين الجوانح يلعج
أضفت إلى النفس التي بين أضلعي ... بأنفاسها نفساً إلى الصدر تولج
فإن قيل لي اختر أيما شئت منهما ... فإني إلى النفس الجديدة أحوج
وله أيضاً:
أقول، وقد جردتها من ثيابها ... وعانقتها كالبدر في ليلة التم
وقد آلمت صدري لشدة ضمها ... لقد جبرت قلبي وإن أوهنت عظمي
وله أيضاً:
إن نحن قسناك بالغصن الرطيب فقد ... حفنا عليك به ظلماً وعدوانا
لأن أحسن ما نلقاه مكتسياً ... وأنت أحسن ما نلقاك عرياناً
وله أيضاً:
فديت من لاحظ طرفها ... من جيفة الناس بتسليمته
لما رأت بدر الدجى تائهاً ... وغاظها ذلك من شيمته
سرت له البرقع من وجهها ... فردت البدر إلى قيمته
وكتب أبو إسحاق إلى الوزير، أبي نصر سابور أبن أردشير جواباً عن كتاب إليه:
أتتني على بعد المدى منك نعمة ... تشاكل ما قدمت من نعم عندي
كتابك مطوياً على كل منه ... يمن بها المولى الكريم على العبد
فقبلت إجلالاً له الأرض ساجداً ... وعفرت، قدام الرسول به خدي
وقابلت ما فيه من الطول والندى ... بما في من شكر عليه ومن حمد
وعاليت نحو العرش طرفي باسطاً ... يدي بدعاء قد بذلت به جهدي
وكم لك عندي من يد قد حفظتها ... ولم ينسنيها ما تطاول من عهد
وقال في غلام له، اسمه رشد أسود:
قد قال رشد وهو أسود للذي ... ببياضه يعلو علو الحائن
ما فخر خدك بالبياض وهل ترى ... أن قد أفدت به مزيد محاسن؟؟
ولو أن مني فيه خالاً زانه ... ولو أن منه في خالاً شانني
وله فيه أيضاً:
لك وجه كأن يمناي خط ... ته بلفظ تمله آمالي
فيه معنى من البدور ولكن ... نفضت صبغها عليها الليالي
لم يشنك السواد بل زاد حسناً ... إنما يلبس السواد الموالي
وله في البق:
وليلة لم أذق من حرها وسناً ... كأن في جوها النيران تشتعل
أحاط بي عسكر للبق ذو لجب ... ما فيه إلا شجاع فاتك بطل
من كل شائكة الخرطوم طاعنة ... لا تحجب السجف مسراها ولا الكلل
طافوا علينا، وحر الشمس يطبخنا ... حتى إذا أنضجت أجسادنا أكلوا
وقال يذم البصرة، وكان قد خرج إليها لاستيفاء مال السلطان:
ليس يغنيك في التطهر بالبص ... رة إن حانت الصلاة اجتهاد
إن تطهرت فالمياه سلاح ... أو تيممت فالصعيد سماد
وقال عند رحيله عنها:

توليت عن أرض البصيرة راحلاً ... وأفئدة الفتيان حشو حقائبي
منازل تقري ضيفها كل ليلة ... بأمثال غزلان الصريم الربائب
أقمت بها سوق الصبا والندى معاً ... لعاشقة حيرى وحيران لاعب
فما تظهر الأشواق إلا صنائعي ... ولا تستر الجدران إلا حبائبي
وقال، وقد عتب على بعض ولده:
أرضى عن ابني إذا ما عقني حذراً ... عليه أن يغضب الرحمن من غضبي
ولست أدري لم استحققت من ولدي ... إقذاء عيني وقد أقررت عين أبي؟
وكتب إلى بعض الرؤساء، يلتمس منه إشغال بعض ولده وإجراء رزق عليه:
وما أنا إلا دوحة قد غرستها ... وسقيتها حتى تراخى بها المدى
فلما اقشعر العود منها وصوحت ... أتتك بأغصان لها تطلب الندى
وكتب إليه أبو علي المحسن ابنه، تسلية في إحدى نكباته:
لا تأس للمال إن غالته غائلة ... ففي حياتك من فقد اللهى عوض
إذ أنت جوهرنا الأعلى وما جمعت ... يداك من طارف أو تالد عرض
وأجابه أبو إسحاق:
يا درة أنا من دون الورى صدف ... لها أقيها المنايا حين تعترض
قد قلت للدهر، قولاً كان مصدره ... عن نية لم يشب إخلاصها مرض:
دع المحسن يحيا، فهو جوهرة ... جواهير الأرض طرا عندها عرض
والنفس لي عوض عما أصبت به ... وإن أصبت بنفسي فهو لي عوض
أتركه لي وأخاه، ثم خذ سلبي ... ومهجتي، فهما مغزاي والغرض
وقال يمدح المهلبي:
وكم من يد بيضاء حازت جمالها ... يد لك لا تسود إلا من النقس
إذا رقشت بيض الصحائف خلتها ... تطرز بالظلماء أردية تشمس
وله فيه، وقد فصد من غير علة:
لهجت يمينك بالندى، فبنانها ... أبداً يفيض حتى العفاة عطاء
حتى فصدت، وما بجسمك علة ... كيما تسبب للطبيب حباء
ولقد أرقت دماً زكياً من يد ... حقنت، بيدي الأمور، دماء
يجري العلا في عرقه جري الندى ... في عوده، فهو اللباب صفاء
لو يقدر الأحرار حين أرقته ... جعلوا له حب القلوب وعاء
فانعم وعش في صحة وسلامة ... تحيي الولى وتكبت الأعداء
وله أيضاً فيه:
لا تحسب الملك الذي أوتيته ... يفضي، وإن طال الزمان، إلى مدى
كالدوح في أفق السماء فروعه ... وعروقه متولجات في الندى
في كل عام يستجد شبيبة ... فيعود ماء العود فيه كما بدا
حتى كأنك دائر في حلقة ... فلكية في منتهاها المبتدا
وله في ابن سعدان:
وما زلت من قبل الوزارة جابري ... فكن رائشي، إذ أنت ناه وآمر
أمنت بك المحذور، إذ كنت شافعاً ... فبلغني المأمول إذ أنت قادر
لعمري، لقد نلت المنى بك كلها ... وطرفي إلى نيل المنى بك ناظر
عكس قول المهلبي:
بلغت الذي قد كنت آمله بكم ... وإن كنت لم أبلغ لكم ما أؤمل
وله إلى الصاحب:
لما وضعت صحيفتي ... في بطن كف رسولها
قبلتها لتمسها ... يمناك عند وصولها
وتود عيني أنها اق ... ترنت ببعض فصولها
حتى ترى في وجهك ال ... ميمون غاية سؤلها
وقال لأبي القاسم عبد العزيز بن يوسف:
أبو قاسم عبد العزيز بن يوسف ... عليه من العلياء عين تراقبه
روى ورعى لما روى قول قائل ... " وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه "
وله تهنئة بالعيد:
يا سيداً أضحى الزما ... ن بأسره منه ربيعا
أيام دهرك لم تزل للناس أعياداً جميعا
حتى لأوشك بينها ... عيد الحقيقة أن يضيعا
فاسلم لنا. ما أشرقت ... شمس على أفق طلوعا
واسعد بعيد ما يزا ... ل إليك معتقداً رجوعا
وله أيضاً، يهنئ عضد الدولة بالأضحى:

صل يا ذا العلا لربك وانحر ... كل ضد وشانئ لك أبتر
أنت أعلى من أن تكون أضاح ... يك قروماً من الجمالة تعقر
بل قروماً من الملوك ذوي السو ... دد تيجانها أمامك تنثر
كلما خر ساجداً لك رأس ... منهم، قال سيفك: الله أكبر
وله أيضاً:
ولما رأيت الله يهدي وخلقه ... تجاسرت واستفرغت جهد جهيد
فكان احتفالي في الهدية درهماً ... يطير على الأنفاس يوم ركود
وجزءاً لطيفاً ذرعه ذرع محبسي ... وتقييده بالشكل مثل قيودي
ألاطف مولانا، وكالماء طبعه ... تسلسل من عذب النطاف برود
وكتب إلى الوزير أبي نصر سابور بن أردشير، وقد أعيد إلى الوزارة:
قد كنت طلقت الوزارة بعد ما ... زلت بها قدم وساء صنيعها
فغدت بغيرك تستحل ضرورة ... كيما يحل إلى ذراك رجوعها
والآن آلت ثم آلت حلفة ... ألا يبيت سواك وهو ضجيعها
وله يهجو:
أيها النابح الذي يتصدى ... بقبيح يقوله لجوابي
لا تؤمل أني أقول لك: اخسأ ... لست أسخو بها لكل الكلاب
وله يهجو:
وراكب فوق طرف ... كأنه فوق طرفي
له قذال متين ... يجل عن كل وصف
يذوب شوقاً إليه ... نعلي وخفي وكفي
وله يهجو:
يبدي اللواط مغالطاً، وعجانه ... أبداً لأعراد الورى مستهدف
فكأنه ثعبان موسى إذ غدا ... لحبالهم وعصيهم يتلقف
وله يصف الشعر:
لقد شان شأن الشعر قوم كلامهم ... إذا نظموا شعراً من الثلج أبرد
فيا رب إن لم تهدهم لصوابه ... فأضللهم عن وزن ما لم يجودوا
وله أيضاً:
إذا جمعت بين امرأين صناعة ... فأحببت أن تدري الذي هو أحذق
فلا تتفقد منهما غير ما جرت ... به لهما الأرزاق حين تفرق
فحيث يكون النقص، فالرزق واسع ... وحيث يكون الفضل، فالرزق ضيق
وله أيضاً:
كل الورى من مسلم ومعاهد ... للدين منه فيك أعدل شاهد
فإذا رآك المسلمون تيقنوا ... حور الجنان لدى النعيم الخالد
وإذا رأى منك النصارى ظبية ... تعطو ببدر فوق غصن مائد
أثنوا على تثليثهم واستشهدوا ... بك إذ جمعت ثلاثة في واحد
وإذا اليهود رأوا جبينك لامعاً ... قالوا لدافع دينهم والجاحد
هذا سنا الرحمن حين أبانه ... لكليمه موسى النبي العابد
ويرى المجوس ضياء وجهك فوقه ... مسود فرع كالظلام الراكد
فتقوم بين ظلام ذاك ونور ذا ... حجج أعدوها لكل معاند
أصبت شمسهم، فكم لك فيهم ... من راكع عند الظلام وساجد
والصابئون يرون أنك فردة ... في الحسن إقراراً لفرد ماجد
كالزهرة الزهراء أنت لديهم ... مسعودة بالمشتري وعطارد
فعلى يديك جميعهم مستبصر ... في الدين من غاوي السبيل وراشد
أصلحتهم وقتلتني فتركتني ... من بينهم أسعى بدين فاسد
قرأت بخط أبي علي المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابئ، حدثني أبو الحسن محمد بن عبد الله بن سكرة الهاشمي الشاعر، قال: أعانني والدك أبو إسحاق إبراهيم ابن هلال في هجائي، خمرة المجنونة بالشيء الكثير، فمن ذلك:
لخمرة عندي حديث يطول ... رأتني أبول، فكادت تبول
وقالت: تقول بنا يا فتى ... فقلت، وأدليت: لم لا أقول؟
فلما نهضت أتتني رقاع ... وجاءت هدايا ووافي رسول
ومن ذلك أيضاً:
نام إيرى، وقد تولج فيها ... قائلاً فيه من هجير وحر
بيت خيش في برده ونداه ... سجفت دونه شريحة بظر
نعم مستبرد الغراميل لولا ... أنه منتن خبيث المقر
ومن ذلك أيضاً:

ألا هل قائل مني لخمره: ... فقدتك، كل شيء منك عبره
ألا كل النوى في البسر يخفى ... وقد أخفت نواتك كل بسره
إذا وردتك فيشة ذي جمام ... ترف نضارة وتروق حمره
تولت عنك صفراء النواحي ... عليها من ثياب حشاك صدره
فتدخل وهي فيشة جيسوان ... وتخرج وهي كالبرني صفره
ومن خط أبي علي المحسن حدثني السري ابن أحمد الشاعر الرفاء قال أنشدني والدك لنفسه:
مازلت في سكري ألمع كفها ... وذراعها بالقرص والآثار
حتى تركت أديمها وكأنما ... غرس البنفسج منه في الجمار
وأخذت هذا المعنى فقلت:
أحبب إلي بفتية نادمتهم ... بين المحلة والقباب البيض
من كل محض الجاهلية معرق ... في الخرمية بالعدي عريض
وسموا الأكف بخضرة فكأنما ... غرسوا بها الريحان في الإغريض
ومن خطه لأبي الحسن بن سكرة الهاشمي، من قصيدة إلى والدي وعمي أبي العلاء - رحمهما الله - :
آمنوا يا بني هلال جميعاً ... نوب الدهر والزمان المعاند
وارتقوا كيف شئتم في المعالي ... وأذلوا وأهبطوا كل حاسد
لكم في أبي العلاء علو ... وصعود ببدره التم صاعد
زاد في عزكم ومازال منكم ... كل يوم يزيد في الصيد واحد
وكتب من الحبس إلى ابنه المحسن، وقد أكثر من هذا في ترجمة أبيه:
كتبت أقيك السوء من مجلس صنك ... وعين عدوي، رحمةً منه لي، تبكي
وقد ملكتني كف فظ مسلط ... قليل التقى ضار على الفتك والإفك
صليت بنار الهم فازددت صفوة ... كذا الذهب الإبريز يصفو على السبك
وكتب إلى صديق له من الحبس:
نفسي فداؤك غير معتد بها ... إذ قد مللت حياتها وبقاءها
ولو أن لي مالاً سواها لم أكن ... أرضى لنفسك أن تكون إزاءها
لكن صفرت فلم أجد إلا التي ... قد آن لي أن أستطيل ذماءها
وإذا شكرت لمن فداك فإنني ... لك شاكر أن قد قبلت فداءها
وكأنني المفدى حين أرحتني ... من نائبات ما أطيق لقاءها
وقال في الحبس:
إذا لم يكن للمرء بد من الردى ... فأسهله ما جاء والعيش أنكد
وأصعبه ما جاءه وهو راتع ... تطيف به اللذات، والحظ مسعد
فإن أكُ شر العيشتين أعيشها ... فإني إلى خير المماتين أقصد
وسيان يوما شقوة وسعادة ... إذا كان غباً واحداً لهما الغد
وقال في الشيب:
يقول الناس لي: في الشيب عز ... يزيد به جلال المرء ضعفا
ولولا أنه ذلك وهون ... لما احتكم المزين فيه نتفا
أخذه من ابن الرومي:
كفاك من ذلتي للشيب حين أتى ... أني توليت نتفاً لحيتي بيدي
وله أيضاً:
وجع المفاصل وهو أي ... سر ما لقيت من الأذى
جعل الذي استحسنته ... والناس من حظي كذا
والعمر مثل الكأس ير ... سب في أواخرها القذى
حدث الرئيس أبو الحسن هلال، قال: قلت لجدي أبي إسحاق، تجاوز الله عنه وهو يشكو زمانه: يا سيدي، ما نحن بحمد الله تعالى إلا في خير وعافية، ونعمة كافية، فما معنى هذه الشكوى التي تواصلها، ويضيق صدرك بها، وينتغص عيشك معها؟ فضحك وقال: يا بني نحن كدود العسل، قد نقلنا منه إلى الخل، فهو ذا نحس بحموضته، ونأسى ونحزن على ما كنا فيه من العسل ولذته، وأنتم كدود الخل، ما ذقتم حلاوة غيره، ولا رأيتم طلاوة ضده.
ولأبي إسحاق من التصانيف: كتاب رسائله، وهو مشهور، نحو ألف ورقة، كتاب التاجي في أخبار أهله، كتاب اختيار شعر المهلبي، كتاب ديوان شعره.

إبراهيم بن علي الحصري القيرواني الأنصاري
قال ابن صهيب: مات بالمنصورة، من أرض القيروان سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وقد جاوز الأشد.

قال: وكان شاعراً، نقاداً، عالماً بتنزيل الكلام، وتفصيل النظام، يحب المجانسة والمطابقة، ويرغب في الاستعارة، تشبهاً بأبي تمام في أشعاره، وتتبعاً لآثاره، وعنده من الطبع ما لو أرسله على سجيته، لجرى جري الماء، ورق رقة الهواء، كقوله في بعض مقطعاته:
يا هل بكيت كما بكت ... ورق الحمائم في الغصون
هتفت سحيراً والربى للقطر رافعة الجفون
فكأنها صاغت على ... شجوى شجي تلك اللحون
ذكرتني عهداً مضى ... للأنس منقطع القرين
فتصرمت أيمها ... وكأنها رجع الجفون
وله في الغزل:
كتمت هواك حتى عيل صبري ... وأدنتني مكاتمتي لرمسي
ولم أقدر على إخفاء حال ... يحول بها الأسى دون التأسي
وحبك مالك لحظي ولفظي ... وإظهاري وإضماري وحسي
فإن أنطق، ففيك جميع نطقي ... وإن أسكت ففيك حديث نفسي
وقوله أيضاً:
إني أحبك حباً ليس يبلغه ... همي ولا ينتهي فهمي إلى صفته
أقصى نهاية علمي فيه معرفتي ... بالعجز مني عن إدراك معرفته
وله تآليف جيدة في ملح الشعر والخبر.
قال ابن رشيق: وقد كان أخذ في عمل طبقات الشعراء على رتب الأسنان، وكنت أصغر القوم سنا، فصنعت:
رفقاً أبا إسحاق بالعالم ... حصلت في أضيق من خاتم
لو كان فضل السبق مندوحة ... فضل إبليس على آدم
فبلغه البيتان، فأمسك عنه، واعتذر منه، ومات، وقد سد عليه باب الفكرة فيه، ولم يصنع شيئاً.
والذي أعرف أنا من تصانيفه: كتاب زهرة الآداب، وكتاب النورين، اختصره منها، وهما يتضمنان أخباراً وأشعاراً حساناً، وكتاب المصون والدر المكنون، وله عندي: كتاب الجواهر، في الملح والنوادر، كتبه عبد القادر البغدادي.

إبراهيم بن يحيى بن المبارك بن المغيرة
اليزيدي، أبو إسحاق بن أبي محمد العدوي، قد ذكر السبب الذي من أجله سمي باليزيدي في خبر أبيه، وكان إبراهيم عالماً بالأدب شاعراً مجيداً، نادم الخلفاء، وقدم دمشق صحبة المأمون، كذا ذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق، مات فيما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في كتاب المنتظم، سنة خمس وعشرين ومائتين.
قال ابن عساكر: وكان قد سمع أباه أبا محمد اليزيدي وأبا زيد سعد بن أوس الأنصاري، والأصمعي. روى عنه أخوه أبو علي إسماعيل بن يحيى ابن المبارك، وابنا أخيه أحمد وعبيد الله ابنا محمد بن أبي محمد.
قال الخطيب: وهو بصري، سكن بغداد، وكان ذا قدر وفضل، وحظ وافر من الأدب، وله كتاب مصنف، يفتخر به اليزيديون، وهو ما اتفق لفظه، واختلف معناه، نحو من سبعمائة ورقة، رواه عنه ابن أخيه عبيد الله ابن محمد بن أبي محمد، وذكر إبراهيم: أنه بدأ بعمله، وهو ابن سبع عشرة سنة، ولم يزل يعمله إلى أن أتت عليه ستونه سنة، وله كتاب مصادر القرآن، قال ابن النديم: يبلغ فيه إلى سورة الحديد، ومات، وكتاب في بناء الكعبة وأخبارها، وكتاب النقط والشكل، وله كتاب المقصور والممدود. حدث ابن عساكر في تاريخه، بإسناد رفعه إلى إبراهيم بن أبي أحمد عن أبيه، قال: كنت مع أبي عمرو بن العلاء في مجلس إبراهيم ابن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، فسأل عن رجل من أصحابه فقده، فقال لبعض من حضره: اذهب فاسأل عنه، فرجع فقال: تركته يريد أن يموت، فقال: فضحك منه بعض القوم، قوال: في الدنيا إنسان يريد أن يموت؟ فقال إبراهيم: لقد ضحكتم منها عربية، إذ يريد هاهنا بمعنى يكاد، قال الله تعالى: " يريد أن ينقض " ، قال: فقال أبو عمرو بن العلاء لا نزال بخير مادام فينا مثلك.
وحدث أيضاً قال: قال إبراهيم اليزيدي: كنت يوماً عند المأمون، وليس معنا إلا المعتصم، قال: فذكر كلاماً فلم أحتمله منه، يعني: من المعتصم، وأجبته قال: فأخفى ذلك المأمون ولم يظهر ذلك الإظهار، فلما صرت من غد إلى المأمون، كما كنت أصبر، قال لي الحاجب: أمرت ألا آذن لك، فدعوت بدواة وقرطاس، فكتبت:
أنا المذنب الخطاء، والعفو واسع ... ولو لم يكن ذنب لما عرف العفو
سكرت فأبدت مني الكأس بعض ما ... كرهت، وما إن يستوي السكر والصحو

ولا سيما إذ كنت عند خليفة ... وفي مجلس ما إن يليق به اللغو
ولولا حميا الكأس كان احتمال ما ... بدهت به لا شك فيه هو السرو
تنصلت من ذنبي تنصل ضارع ... إلى من لديه يغفر العمد والسهو
فإن تعف عني تلف خطوي واسعاً ... وإلا يكن عفو، فقد قصر الخطو
قال: فأدخلها الحاجب، ثم خرج إليّ، فأدخلني، فم المأمون باعيه، فأكببت على يديه فقبلتهما، فضمني إليه وأجلسني.
قال المرزباني: إن المأمون وقع على ظهر هذه الأبيات:
إنما مجلس الندامى بساط ... للمودات بينهم وضعوه
فإذا ما انتهوا إلى ما أرادوا ... من حديث ولذة رفعوه
وحدث أبو الفرج الإصبهاني في كتابه، ورفعه إلى إبراهيم بن اليزيدي، قال: كنت مع المأمون في بلد الروم، فبينا أنا أسير في ليلة مظلمة شاتية ذات غيم وريح، وإلى جانبي قبة إذ برقت بارقة، فإذا في القبة عريب المغنية جارية المأمون، فقالت: إبراهيم بن اليزيدي؟ فقلت: لبيك، فقالت: قل في هذا البرق أبياتاً أغني فيها، فقلت:
ماذا بقلبي من أليم الخفق ... إذا رأيت لمعان البرق
من قبل الأردن أو دمشق ... لأن من أهوى بذاك الأفق
فارقته وهو أعز الخلق ... عليّ، والزور خلاف الحق
ذاك الذي يملك مني رقي ... ولست أبغي ما حييت عتقي
فتنفست نفساً ظننت أنه قد قطع حيازيمها، فقلت: ويحك، على من هذا؟ فضحكت، وقالت: على الوطن فقلت: هيهات، ليس هذا كله للوطن، فقالت: ويحك، أفتراك ظننت أنك تستفزني، والله لقد نظرت نظرة مريبة في مجلس، فادعاها أكثر من ثلاثين رئيساً، والله ما علم أحد منهم لمن كانت إلى هذا الوقت.
ووجدت في بعض الكتب: أن إبراهيم اليزيدي، دخل يوماً على المأمون، وعنده يحيى بن أكثم القاضي، فأقبل يحيى على إبراهيم يمازحه، وهم على الشراب، فقال له فيما قال: ما بال المعلمين ينيكون الصبيان، فرفع إبراهيم رأسه، فإذا المأمون يحرض يحيى على العبث به، فغاظ ذلك إبراهيم، فقال: أمير المؤمنين أعلم خلق الله بهذا، فإن أبي أدبه، فقام المأمون من مجلسه مغضباً، ورفعت الملاهي، وكل ما كان بحضرته، فأقبل يحيى بن أكثم على إبراهيم، فقال له: أتدري ما خرج من رأسك؟ إني لأرى هذه الكلمة سبباً في انقراضكم يا آل اليزيدي، قال إبراهيم: فزال عني السكر، وسألت من أحضر لي دواة ورقعة، فأحضرهما، وكتبت معتذراً بقولي:
أنا المذنب الخطاء، والعفو واسع
الأبيات المتقدمة، فرضي وعفا عنه.
قال إبراهيم: وكنت يوماً بحضرة المأمون، فقالت لي عريب، على سبيل الولع: يا سلعوس، قال: وكان من يريد العبث بإبراهيم، لقبه سلعوس، قال إبراهيم: فقلت لها:
قل لعريب: لا تكوني سلعسه ... وكوني كنزيف، وكوني كمونسه
هذه أسماء جواري المأمون، قال: فقال المأمون على الفور:
فإن كثرت منك الأقاويل لم يكن ... هنالك شك، أن ذلك وسوسه
فقال إبراهيم: كذا والله يا أمير المؤمنين قدرت، وإياه أردت، وعبت من فظنة المأمون وذهنه.

الأثرم الفابجاني الإصبهاني
ذكره في كتاب أصبهان، فقال: كان أحد علماء اللغة، وممن جاب بلدان العراق، يجمع اللغة والشعر، وتصحيحهما عن علمائهما.
أحمد بن إبراهيم الضبي
أبو العباس الملقب بالكافي الأوحد، الوزير بعد الصاحب أبي القاسم بن عباد، لفخر الدولة أبي الحسن علي ابن ركن الدولة بن بويه، مات في صفر سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ببروجرد، من أعمال بدر بن حسنويه، على ما نذكره، ذكره الثعالبي فقال: هو جذوة من نار الصاحب أبي القاسم، ونهر من بحره، وخليفته النائب منابه في حياته، القائم مقامه بعد وفاته، وكان الصاحب استصحبه منذ الصبا، واجتمع فيه الرأي والهوى، فاصطنعه لنفسه، وأدبه بآدابه، وقدمه بفضل الاختصاص على سائر صنائعه وندمائه، وخرج منه صدراً يملأ الصدور كمالاً، ويجري في طريقه ترسماً وترسلاً، وفي ذرا المعالي توقلاً، ويحقق قول أبي محمد فيه من قصيدة:
تزهى بأترابها كما زهيت ... ضبة بالماجد ابن ماجدها

سمائها شمسها غمامتها ... هلالها بدرها عطاردها
يروى كتاب الفخار أجمع عن ... كافي كفاة الورى وواحدها
وقد كانت بلاغة العصر بعد الصاحب والصابئ بقيت متماسكة بأبي العباس، فأشرفت على التهافت بموته، وكادت تشيب بعده لمم الأقلام، وتجف غدر محاسن الكلام، لولا أن الله سد ببقاء الأمير أبي الفضل عبيد الله بن أحمد ثلم الآداب والكتابة، ثم وصفه بكلام كثير.
ومن شعر أبي العباس الضبي:
لا تركنن إلى الفرا ... ق فإنه مر المذاق
والشمس عند غروبها ... تصفر من ألم الفراق
وكتب إلى الصاحب كافي الكفاة:
أكافي كفاة الأرض ملكك خالد ... وعزك موصول فأعظم بها نعمى
نثرت على القرطاس دراً مبدداً ... وآخر نظماً قد فرعت به النجما
جواهر لو كانت جواهر نظمت ... ولكنها الأعراض لا تقبل النظما
وهذه رسالة من نثره كتبها إلى أبي سعيد الشيبي: وقد أتاني كتاب شيخ الدولتين، فكان في الحسن روضة حزن، بل جنة عدن، وفي شرح النفس، وبسط الأنس، برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب، ومنها: - وبعد - فإن المنازعين للأمير حسام الدولة نسور قد اقتنصتها القصور، ودولته - حرسها الله - في إبان شبابها واعتدالها، وريعان إقبالها واقتبالها، قد أسست على صلاح وسداد، وعمارة دنيا ومعاد، وهي مؤذنه بالدوام، في ظل السلامة والسلام.
وأما سبب هربه إلى بروجرد، فإن أم مجد الدولة اتهمته أن سم ابن أخيها، وطلبت منه مائتي ألف دينار، نفقة في مأتمه فلم يفعل، والتجأ إلى بروجرد، وهي من أعمال بدر بن حسنويه الكردي، ثم بدا له في الرجوع إلى الوزارة، فبذل مائتي ألف دينار ليعاد إلى وزارته لمجد الدولة، فلم يجب إلى ذلك، فلما مات احتوى ابنه أبو القاسم سعد على تركته، وكانت عظيمة، ومات بعده بشهور، فاحتوى أبو بكر محمد بن عبد العزيز بن رافع على المال، وورد تابوت أبي العباس إلى بغداد مع أحد حجابه.
وكتب ابنه إلى أبي بكر الخوارزمي، شيخ أصحاب أبي حنيفة، يعرفه أنه وصى بدفنه في مشهد الحسين بن علي رضي الله عنهما، ويسأله القيام بأمره، وابتياع تربة له، فخاطب الشريف الطاهر أبا أحمد في ذلك، وسأله أن يبيعهم تربة بخمسمائة دينار، فقال: هذا رجل التجأ إلى جوار جدي، ولا آخذ لتربته ثمناً، وكتب نفسه الموضع الذي طلب منه، وأخرج التابوت إلى برانا، وخرج الطاهر أبو أحمد ومعه الأشراف والفقهاء وصلى عليه، وأصحب خمسين رجلاً من رجاله حتى أوصلوه ودفنوه هنالك.
وقد مدحه مهيار بقصائد منها:
أجيراننا بالغور والركب منهم ... أيعلم خال كيف بات المتيم؟؟
رحلتم وعمر الليل فينا وفيكم ... سواء ولكن ساهرون ونوم
فيا أنتم من ظاعنين وخلفوا ... قلوباً أبت أن تعرف الصبر عنهم
يقون الوجوه الشمس والشمس فيهم ... ويسترشدون النجم والنجم منهم
أناشد نعمان الأخابير عنهم ... كفى خبرة مستفصح وهو أعجم
ولما جلا التوديع عمن أحبه ... ولم يبق إلا نظرة تتغنم
بكيت على الوادي وحرمت ماءه ... وكيف يحل الماء أكثره دم؟
ونفرت بالأنفاس عني حدوجهم ... كأن مطاياهم بهن توسم
وإن ملوكاً في " بروجرد " كرمت ... هم بذلوا الإنصاف فيما تكرموا
فميز من أعدائهم أولياؤهم ... إذا انتقموا يوم الجزاء وأنعموا
أسادتنا والجود صيرنا لكم ... عبيداً وعن قوم نعز ونكرم
إلام وكان البر منكم سجية ... تواصلنا يجفى وكم نتظلم؟
من اعتضتم عنا خطيباً لفضلكم ... وهل مثل شعري عن علاكم يترجم؟؟
وهل غير مدحي طبق الأرض فيكم ... وإن كان ملء الأرض ما قد مدحتم؟
ولما مات رثاه مهيار أيضاً بقصيدة منها:
أبكيك لي ولمن بلين بفرقه ال ... أيتام بعدك والنساء أرامل
ولمستجير والخطوب تنوشه ... متسطعم والدهر فيه آكل

ولمعشر طرق العلوم ذنوبهم ... في الناس وهي لهم إليك وسائل
قد كنت ملتحفاً بمدحك حلة ... فخراً تجر لها علي ذلاذل
فاليوم أشكرك الصنيع مراثياً ... خرس المشبب عندها والغازل
قال هلال: في عصر الجمعة لست بقين من صفر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، توفي الصاحب كافي الكفاة أبو القاسم إسماعيل بن عباد بالري، ودفن من غد في داره، ونظر في الأمور بعده أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي، المتلقب بالكافي الأوحد، ومنزلة الصاحب، وعلو قدره، وما شاع من ذكره، يغني عن الإطالة، في وصف أمره.
فحدثني القاضي أبو العباس أحمد بن محمد البارودي قال: اعتل الصاحب أبو القاسم، فكان أمراء الديلم، ووجوه الحواشي، وأكابر الناس يغادون بابه ويراوحون، ويخدمونه بالدعاء، وتقبيل الأرض وينصرفون، وجاءه فخر الدولة عدة دفعات، فيقال إن الصاحب قال له وهو على يأس من نفسه: قد خدمتك أيها الأمير الخدمة التي استفرغت فيها الوسع، وسرت في دولتك وأيامك السيرة التي حصلت لك حسن الذكر بها، فإن أديت الأمور بعدي على رسومها علم أن ذلك منك، ونسب الجميل فيه إليك، واستمرت الأحدوثة الطيبة لك، ونسيت أنا في أثناء ما يثنى به عليك، وإن غيرت ذلك وعدلت عنه وسمعت أقوال من يحملك على خلافه، وتسلك به في طريقه، كنت المذكور بما تقدم والمشكور عليه، وقدح في دولتك ما يشيع أنفاً عنك، فقال له في جواب ذلك ما أراه به قبول رأيه. فلما كان وقد غروب الشمس من ليلة الجمعة المذكورة قضى نحبه.
وكان أبو محمد خازن الكتب ملازماً داره على سبيل الخدمة له، وهو عين لفخر الدولة في مراعاة الدار وما فيها، فأنفذ في الحال وعرفه الخبر، فأنفذ فخر الدولة خواصه وثقاته حتى أحاطوا على الدار والخزائن، ووجد له كيس فيه رقاع أقوام بمائة ألف وخمسين ألف دينار مودعة عندهم، فاستدعاهم وطالبهم بذلك، فأحضروه، وكان فيه ما هو بختم مؤيد الدولة، ورجمت الظنون فيه، فقيل: إنه أخذه من خيانة، وقيل إنه أودعه مؤيد الدولة عن وصية منه إليه، ونقل ما كان في الدار والخزائن إلى دار فخر الدولة، وجهز الصاحب وأخرج تابوته وسط الناس، وقد جلس أبو العباس الضبي لعزائه، فلما بدا على أيدي الحاملين له قامت الجماعة إعظاماً له وقبلوا الأرض، ثم وقفت الصلاة عليه، وعلق بالسلاسل في بيت كبير إلى أن نقل إلى تربته بإصبهان.
وكان القاضي أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد، قد قال: لا أرى الرحمة عليه، لأنه مات عن غير توبة هرت منه، فطعن عليه بذلك، ونسب إلى قلة الرعاية فيه، وقبض فخر الدولة على القاضي عبد الجبار وأصحابه، وقرر أمرهم على ثلاثة آلاف ألف درهم، فأدوا ذلك ورقاً وعيناً وقيمة عقار سلموه، وباع في جملة ما باع ألف طيلسان محشي، وألف ثوب مصري، وقلد القضاء بعده علي بن عبد العزيز، وطالب أبا العباس الضبي أن يحصل من الأعمال والمتصرفين فيها ثلاثين ألف ألف درهم، وقال له: إن الصاحب أضاع الأموال، وأهمل الحقوق، وينبغي أن يستدرك ما فات، ويتبع ما مضى، فامتنع من ذاك مع تردد القول فيه.
وكتب أبو علي الحسن بن أحمد بن حمولة وكان من أعلام الكتاب المتقدمين، الذين استخصهم الصاحب وأقر لهم بالفضل، وقد قاد الجيوش الكثيرة فهزمهم، فقامت له الهيبة التامة في قلوب العساكر، والملوك المجاورين، وكان عند موت الصاحب بجرجان، مقيماً مع الجيوش لمدافعة قابوس بن وشمكير، وجيوش خراسان، فكتب يخطب الوزارة ويضمن ثمانية آلاف ألف درهم عنها، فأجيب بالحضور، فلما قرب، قال فخر الدولة لأبي العباس الضبي: قد ورد أبو علي وعزمت على الخروج من غد لتلقيه، وأمرت الجماعة من قوادي وأصحابي بالنزول له، ولا بد من خروجك وفعلك مثل ذلك، فثقل هذا القول على أبي العباس، وقال له خواصه وأصحابه: هذا ثمرة امتناعتك عليه، وتقاعدك عما دعاك له، وسيكون لهذه الحال ما بعدها، فراسل فخر الدولة وبذل له ستة آلاف ألف درهم على إقراره على الوزارة، وإعفائه من تلقي أبي علي، وخرج فخر الدولة وتلقاه، ولم يخرج أبو العباس.

ورأى فخر الدولة أن من الصلاح لأمره الإشراك بينهما في وزارته، فسامح أبا علي بألفي ألف درهم من جملة الثمانية التي بذلها، وسامح أبا العباس بألفي ألف درهم من جملة الستة التي ذكرناها، وقرر عليهما عشرة آلاف ألف درهم، وجمع بينهما في النظر، وخلع عليهما خلعتين متساويتين، ورتب أمرهما على أن يجلسا في دست واحد، ويكون التوقيع لهذا في يوم، والعلامة للآخر، ويجعل الكتب باسمهما، فقدم هذا على عنواناتهما يوماً، ووقع التراضي بذلك، وجرت الحال عليه، ونظرا في الأعمال، وتحصيل الأموال، وقبضا على أصحاب الصاحب أبي القاسم ومن لحقته المسامحة في أيامه، وقررا عليهم المصادرات.
وذكر القاضي أبو العباس عن أبي العلاء بن المقرن أنه حدثه أنهما استخرجا من إصبهان وحدها جملة وافرة، وجرت حال غيرها من النواحي إلى مصادرة أهلها على مثل هذه الصورة، وأنفذا أبا بكر بن رافع إلى إستراباذ ونواحيها لاستيفاء ما يستوفيه من المعاملين والتناء فيها، فقيل: إنه جمع الوجوه، وأرباب الأحوال، وأخر الإذن لهم حتى تعالى النهار، واشتد الحر، ثم أطعمهم طعاماً أكثر ملحه، ومنعهم الماء عليه وبعده، وقدم إليهم الدواة والكاغد وطالبهم بكتب خطوطهم بما يصححونه، ولم يزل يستام عليهم فيه وهم يتلهفون عطشاً، إلى أن ألزموا له عشرة آلاف ألف درهم، وتوقف العمال والمتصرفون عن الخروج إلى قزوين، لأن أهلها أهل امتناع وقوة، فبذل القارضي بن شيرمردي الخروج إليها، وذكر أنه يعرف وجوه أموال فيها، وخرج وحاول مطالبة أهلها، ومعاملتهم بمثل ما عومل به غيرهم، فاجتمعوا وهجموا عليه في داره وقتلوه.
واجتمع لفخر الدولة من الأموال في الخزائن والقلاع ما كثره المقللون ثم تمزق بعد وفاته، فلم تبق منه بقية في أسرع وقت، ثم مات فخر الدولة، وولي الأمر بعده ابنه مجد الدولة أبو طالب رستم، واستولت السيدة والدته على الأمر، وأجري أمر الوزيرين على حاله في أيام فخر الدولة من التشارك في تدبير المملكة، ومزقا أموال فخر الدولة، وبذراها غاية التبذير، ثم نجم قابوس، واستولى على رججان، وضام جيوش خراسان، فدعت الضرورة إلى تجهيز جيش إليه، وأن يخرج معه أحد الوزيرين، فتقارعا على من يخرج منهما، فوقعت القرعة على الجليل أبي علي الحسن بن أحمد بن حمولة، فخرج ومعه العساكر الجمة، ووقعت بينه وبين قابوس وقائع استنفدت الأموال التي صحبته، واحتاج إلى الإمداد من الري، فتقاعد به أبو العباس الضبي، فرجع إلى الري مفلولاً، وأقاما على أمرهما من الاشتراك مدة، ثم سعت بينهما السعاة وقالوا: فساد الأمر إنما هو من اشتراكهما، واختلاف آرائهما، والرأي أن يعزل أحدهما ويبقى الآخر، وكان ابن حمولة شديد الثقة بنفسه، معتقداً أن العساكر لا تختار غيره، ولا تريد سواه، فكان متغافلاً حتى دبر أبو العباس الضبي عليه، وقبض عليه بأمر السيدة، وحمله إلى قلعة استوناوند، ثم أنفذ إليه من قتله.
واستبد أبو العباس بالأمر، وجرت له خطوب، وعجز في آخرها ومات، فرأته السيدة، فاتهم أنه سقاه السم، فهرب حتى لحق بروجرد في سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة ملتجئاً إلى بدر بن حسنويه، فلم يزل عنده إلى أن مات في بروجرد في سنة سبع وتسعين أو ثمان وتسعين، وتبعه ابنه أبو القاسم سعد لاحقاً به، وكانت المدة قريبة بينهما.
وقيل: إن أبا بكر بن رافع، واطأ أحد غلمانه فسقاه سماً كان فيه حتفه، ونهض أبو بكر من همذان إلى بروجرد لاحتمال تركته، فذكر أنه حصل له ما زاد على ستمائة ألف دينار.

أحمد بن إبراهيم أبو رياش
وجدت بخط الحميدي، فيما رواه عن التنوخي في كتاب نشوار المحاضرة قال: هو أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي، ووجدت بخط بعض أدباء مصر قال: أبو رياش، أحمد بن إبراهيم الشيباني، ولعل أبا هاشم كنية إبراهيم، مات فيما ذكره أبو غالب همام بن الفضل بن مهذب المغربي في تارلايخه في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة.

قال أبو علي المحسن بن علي التنوخي: ومن رواة الأدب الذين شاهدناهم أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي، وكان يقال: إنه يحفظ خمسة آلاف ورقة لغة، وعشرين ألف بيت شعر، إلا أن أبا محمد المافروخي أبر عليه، لأنهما اجتمعا أول ما تشاهدا بالبصرة، فتذاكرا أشعار الجاهلية، وكان أبو محمد يذكر القصيدة فيأتي أبو رياش على عيونها، فيقول أبو محمد لا، إلا أن تهذها من أولها إلى آخرها، فينشد معه ويتناشدا إلى آخرها، ثم أتى أبو محمد بعده بقصائد لم يتمكن أبو رياش أن يأتي بها إلى آخرها، وفعل ذلك في أكثر من مائة قصيدة. حدثني بذلك من حضر ذلك المجلس معهما.
وحكى أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري، في كتابه المعروف بالرياش المصطنعي: أن أبا رياش كان طويل الشخص، جهير الصوت، يتكلم بكلام البادية، ويظهر أنه على مذهب الزيدية، ويتزوج كثيراً ويطلق، وكان يقول: ولدت بالبادية، ولعبت بالحضرمة، وتأدبت بالبصرة، والحضرمة بستان في ناحية اليمامة، له خاصية في عظم البصل، والريش والرياش حسن الهيئة والشارة.
وقال أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي في اليتيمة: كان أبو رياش باقعة في حفظ أيام العرب وأنسابها وأشعارها، غاية بل آية في هذ دواوينها وسرد أخبارها، مع فصاحة وبيان، وإعراب وإتقان، ولكنه كان عديم المروءة، وسخ اللبسة، كثير التقشف، قليل التنظف، وفيه يقول أبو عثمان الخالدي:
كأنما قمل أبي رياش ... ما بين صئبان قفاه الفاشي
وذا وذا قد لج في انتعاش ... شهدانج بدد في خشخاشِ
وكان مع ذلك شرهاً على الطعام، رجيم شيطان المعدة، حوتي الالتقام، ثعباني الالتهام، سيء الأدب في المؤاكلة، دعاه أبو يوسف الزيدي والي البصرة إلى مائدته، فلما أخذ في الأكل، مد يده إلى بضعة لحم فانتهشها ثم ردها إلى القصعة، فكان بعد ذلك إذا حضر مائدته أمر بأن يهيأ له طبق ليأكل عليه وحده.
ودعاه يوماً المهلي الوزير إلى طعامه، فبينما هو يأكل، إذ امتخط في منديل الغمر وبصق فيه، ثم أخذ زيتونة من قصعة فغمزها بعنف حتى طفرت نواتها فأصابت وجه الوزير، فتعجب من سوء أدبه، فاحتمله لفرط علمه، ففي شره أبي رياشٍ يقول ابن لنكك:
يطير إلى الطعام أبو رياشٍ ... مبادرة ولو واره قبر
أصابعه من الحلواء صفر ... ولكن الأخادع منه حمر
وله فيه:
أبو رياش بغي والبغي مصرعه ... فشدد الغين ترميه بآبدته
عبد ذليل هجا للحين سيده ... تصحيف كنيته في صدغ والدته
وله فيه وقد ولاه المافروخي عملاً بالبصرة:
قل للوضيع أبي رياش لا تبل ... ته كل تيهك بالولاية والعمل
ما ازددت حين وليت إلا خسة ... كالكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل
ولابن لنكك فيه أشعار كثيرة: بعضها في أخبار ابن لنكك، من كتاب الشعراء. وجدت في موضع آخر من كتاب نشوار المحاضرة للقاضي التنوخي، كان أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي اليمامي رجلاً من حفاظ اللغة، وكان جندياً في أول أمره مع المسمعي برسم العرب، ثم انقطع إلى العلم والشعر وروايته لنا بالبصرة، وأنا حديث مع عمي حتى صرت رجلاً، وكتبت عنه وأخذت منه علماً صالحاً، وكان يتعصب على أبي تمام الطائي. وقال بعض الحاضرين لأبي: إن من عيون شعر أبي رياش قوله في أبيات عند ذكر امرأة شبب بها:
لها فخذ بختية تعلف النوى ... على شفة لمياء أحلى من التمر
فغضب أبو رياش ونهض، فأمر أبي بإجلاسه وقال للحاضر القائل: ولا كل ذا: وترضاه، ووهب له دراهم صالحة القدر.
قال: وأخبرني من حضر مجلس أبي محمد المافروخي عامل البصرة، وقد تنارا في شيء من اللغة اختلفا فيه، فقال أبو رياش: كذا أخبرتني عمتي أو جدتي في البادية عن العرب، ووجدتها تتكلم به. فقال له أبو الحسين محمد ابن محمد بن جعفر بن لنكك الشاعر وكان حاضراً: اللغة لا تؤخذ عن البغيات، فأمسك خجلاً، وكان أبو محمد المافروخي قد ولاه الرسم على المراكب بعبادان بحار سابع وأحسن إليه واختاره، عصبية منه للعلم والأدب، فقال ابن لنكك:
أبو رياش ولي الرسما ... وكيف لا يصفع أو يعمى
يا رب جدي دق في خصره ... ثم أتانا بقفا يذمى

قال وحدثني أبو رياش قال: مدحت الوزير المهلبي فتأخرت صلته، وطال ترددي إليه، فقلت:
وقائلة قد مدحت الوزي ... ر وهو المؤمل والمستماح
فماذا أفادك ذاك المدي ... ح وهذا الغدو وذاك الرواح؟
فقلت لها ليس يدري امرؤ ... بأي الأمور يكون الصلاح؟
علي التقلب والإضطرا ... ب جهدي وليس علي النجاح
قال المؤلف: وأما أبو محمد المافروخي الذي تقدم ذكره مكرراً، فهو أبو محمد عبد العزيز بن أحمد الفروخي فإنه كان يتقلد عمالة البصرة، وكان من العلم والجلالة على ما تقدم ذكره، وكان مع ذلك تمتاماً، يكرر الحرف في كلامه، وهو الذي تسميه العامة فأفاء، وكان مستغلقاً جداً، فحدث التنوخي أنه اعترض جملاً يسير في صحن الدار بحضرته، ووقف ليخاطب عليه فلم يرضه فقال أخرجوه عني، وكرر أخ أخ لأجل عقلة لسانه، فبرك الجمل، لأنه ظن أنه يقال له ذلك، كما يقال إذا أريد منه البروك، قال: وكان إذا أنشد الشعر أون قرأ القرآن، قرأه وأورده على أحسن ما يكون من حسن الأداء، وطيب الحنجرة، فقيل له: لو كان كلامك كله شعراً أو كقراءة القرآن، تخلصت من هذه الشدة، فقال يكون ذلك طنزاً، قال: وكان أحد خلفائه قد خرج إلى بعض الأعمال، واستخلف بحضرته ابناً له، كان مثل المافروخي في التمتمة، فخاطبه المافروخي أول ما دخل إليه في أمر شيء قال فيه و. و. و. مراراً، فأجابه ذلك الابن بمثل كلامه، فقال يا غلمان قفاه، كأنه يحكيني، فصفع صفعاً محكماً، حتى حضره أقوام وحلفوا له أن ذلك عادته، فأخذ يعتذر إليه، قال الذنب لأبيه، لما نزل في حضرتي مثله فهذا خبر المافروخي لتعرفه،

أحمد بن إبراهيم الأديبي
الخوارزمي أبو سعيد، من مشاهير فضلاء خوارم وأدبائها وشعرائها.
قال أبو محمد في تاريخ خوارزم: ذكره أبو الفضل الصفاري في كتابه، قرأت بخطه أنه كان كاتباً بارعاً، حسن التصرف في الترسل، وافر الحظ من حسن الكتابة، وفصاحة البلاغة، وكان خطه في الدرجة العليا من أقسام الحسن والجودة، فمن كلامه: الزيادة فوق الحد نقصان، والإساءة بلسان الحق إحسان.
قال: وكان إذا رأى كتابة متعقدة متكلفة قال: الكتابة تسكن سكن أخرى: وكتب إلى بعض الرؤساء في شكاية رجل ثقيل: قد منيت من هذا الكهل الرازي، صاحب الجبة الكهباء، واللحية الشهباء بالداهية الدهياء، والصيلم الصماء، جعل لسانه سنانه، وأشفار عينيه الصلبة شفاره، فإذا تكلم كلم بلسانه، أكثر مما يكلم بسنانه، وإذا لمح ببصره، جرح القلوب بلحظه، أشد مما جرح الآذان بلفظه، يظهر للناس في زي مظلوم، وإنه لظالم، ويشكو إليهم وجع السليم، وهو سالم.
وكتب إلى بعض الرؤساء وقد حجب عنه:
ومحجب بحجاب عز شامخ ... وشعاع نور جبينه لا يحجب
حاولته فرأيت بدراً طالعاً ... والبدر يبعد بالشعاع ويقرب
قبلت نور جبينه متعززاً ... باللحظ منه وقد زهاه الموكب
كالشمس في كبد السماء ونورها ... من جانبيه مشرق ومغرب
إن بان شخصي عن مجالس غيره ... فالنفس في ألطافه تتقلب
وإذا تقاربت النفوس وما انتأت ... أشخاصها فهو الجواد الأقرب

وكتب إلى واحد، وقد بعث إليه شاة: وصلت الشاة فكانت شاة الشياة، حسنة الحلي والشيات، ففرح الفراريج بمكانها، وملأوا منها حواصلهم، وثنوا بالدباء والدعاء أناملهم: وله: ساعدت الأيام بالمراد، ووفت بالميعاد، وجمعت لي بين طرفي الإصعاد والإسعاد، وله: حضرت موالياً الحضرة التي تضرب غليها أكباد الإبل، من كل فج عميق، وتمتد نحوها أعناق الأمل، من كل فوج وفريق، وله: أيام مولانا مشرقة، كأخلاقه، وأخباره عبقة، كأعراقه تزهى بجلال مكانه الرتب والمعارج، وتزين بكرم وجهه الأعياد والمهارج، وله: لا يليق خاتم العز والجلال إلا بخناصره، ولا يرجع الباطل إلى الحق إلا عند ناصره، وله: من لحظته عين إقباله، وسقته عين إفضاله، أقبلت سعوده بإشراق، وأذن عوده بإيراق، وله: إن كانت الوزارة دثرت رسومها وآثارها، ودرست أعلامها ومنارها، فلقد قيض الله لها مولانا فمد باعها، وعمر رباعها، فأنست بتدابيره الثاقبة من وحشة نفارها، واستروحت من آرائه الصائبة إلى كنفها وقرارها، وله: كتابي وأنا في سلامة إلا من الشوق إلى طلعته المسعودة، والنزاع إلى أخلاقه المشهودة، وملاحظة تلك الهمم العلية، ومطالعة تلك الحركات الشهية، ومجاري تلك الأنامل بالأقلام، فإنها إذا جرت نثرت الدرر، وأسالت على جباه الأنام الغرر، وسنت للبلغاء والكتاب، سنن الفقر والآداب.

أحمد بن إبراهيم بن محمد السجزي
أبو نصر، أحد الأدباء الفضلاء، قرأ على أبي بكر عبد القاهر، ثم قرأت بخط سلامة بن عياض الكفرطابي النحوي ما صورته: وجدت في آخر نسخة المعتضد، لعبد القاهر الجرجاني بالري مكتوباً، ما حكايته: قرأ علي الأخ الفقيه أبو نصر، أحمد بن إبراهيم بن محمد السجزي أيده الله، هذا الكتاب من أوله إلى آخره، قراءة ضبط وتحصيل، وكتبه عبد القاهر بن عبد الرحمن بخطه في شهر الله المبارك من شهور سنة أربع وخمسين وأربعمائة.
أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد
الطبيب يعرف بابن الجزار القيرواني، كان طبيباً حاذقاً دارساً، كتبه جامعة لمؤلفات الأوائل، فيه حسن الفهم لها، وله مصنفات فيه وفي غيره.
فمن أشهر كتبه في الطب، كتابه في علاج الأمراض، سماه زاد المسافر، وكتابه في الأدوية المفردة، المعروف بالاعتماد، وكتابه في الأدوية المركبة، المعروف بالبغية، ورسائله في النفس، وذكر اختلاف الأوائل فيها، وكان أيضاً له عناية بالتاريخ، ألف فيه كتاباً، رأيته في مجلدات تزيد على العشر، سماه التعريف بصحيح التاريخ، وذاك الذي أوجب ذكره في هذا الكتاب، وكان مع ذلك حسن المذهب بأصل السيرة، صائناً لنفسه، منقبضاً عن الملوك، ذا ثروة، ولم يكن يقصد أحداً إلى بيته، وكان له معروف، وأدوية يفرقها، وكان في أيام المعز لدين الله، في حدود سنة خمسين وثلاثمائة أو ما قاربها.
أحمد بن أحمد بن أخيٍ الشافعي
هو رجل من أهل الأدب، رأيت جماعة من أعيان العلماء يفتخرون بالنقل من خطه، ورأيت خطه وليس بجيد المنظر، لكنه متقن الضبط، ولم أر أحداً ذكر شيئاً من خبره، لكني وجدت خطه في آخر كتاب، وقد قال فيه: كتبه أحمد بن أحمد المعروف بابن أخيٍ الشافعي وراق ابن عبدوس الجهشياري، والجهشباري هذا قد ذكر في بابه، وقد جمع ديوان البحتري وغيره.
أحمد بن إسحاق بن البهلول
ابن حسان بن سنان، أبو جعفر التنوخي أنباري الأصل، ولي القضاء بمدينة المنصور عشرين سنة، ومات لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر، سنة ثماني عشرة وثلاثمائة، ومولده بالأنبار سنة إحدى وثلاثين ومائتين، عن ثمان وثمانين سنة.
قال أبو بكر الخطيب: وحدث حديثاً كثيراً، وكان عنده عن أبي لهب محمد بن العلاء حديث واحد، وروى عنه الدارقطني، وأبو حفص بن شاهين، والمخلص، وجماعة، وكان ثقة، قال: وذكر طلحة بن محمد بن جعفر في تسمية قضاة بغداد.
أحمد بن إسحاق بن البهلول، عظيم القدر، واسع الأدب، تام المروءة، حسن الفصاحة، حسن المعرفة بمذهب أهل العراق، ولكن غلب عليه الأدب، وكان لأبيه إسحاق مسند كبير حسن، وكان ثقة، وحمل الناس عن جماعة من أهل هذا البيت، منهم البهلول بن حسان، ثم ابنه إسحاق، ثم أولاد إسحاق.

ولم يزل أحمد بن إسحاق على عضاء المدينة من سنة ست وتسعين ومائتين، إلى شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وثلاثمائة، ثم صرف، وكان بيناً في الحديث، ثقة مأموناً، جيد الضبط لما حدث به، وكان مفتياً في علوم شتى، منها الفقه على مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وربما خالفهم في مسألات يسيرة، وكان تام العلم باللغة، حسن القيام بالنحو على مذهب الكوفيين، وله فيه كتاب ألفه، وكان تام الحفظ للشعر القديم والمحدث والأخبار الطوال والسير والتفسير، وكان شاعراً كثير الشعر جداً، خطيباً، حسن الخطابة والتفوه بالكلام، لسناً صالح الخط في الترسل والمكاتبة والبلاغة في المخاطبة، وكان ورعاً متخشناً في الحكم تقلد القضاء بالأنبار، وهيت، وطريق الفرات، من قبل الموفق بالله الناصر لدين الله، في سنة ست وسبعين ومائتين، ثم تقلد للناصر دفعة أخرى، ثم تقلد للمعتضد، ثم تقلد بعض كور الجبل للمكتفي، في سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ولم يخرج إليها، ثم قلده المقتدر بالله في سنة ست وتسعين ومائتين بعد فتنة ابن المعتز القضاء بمدينة المنصور من مدينة السلام، وطسوج قطربل ومسكن، والأنبار، وهيت، وطريق الفرات، ثم أضاف له إلى ذلك بعد سنين القضاء بكور الأهواز مجموعة، لما مات قاضيها إذ ذاك محمد بن خلف، المعروف بوكيع، فمازال على هذه الأعمال إلى أن صرف عنها في سنة سبع عشرة وثلاثمائة.
وحدث أبو نصر يوسف بن عمر ابن القاضي أبي عمر محمد بن يوسف قال: كنت أحضر دار المقتدر بالله وأنا غلام حدث بالسواد مع أبي الحسين، وهو يومئذ قاضي القضاة، فكنت أرى في بعض المواكب القاضي أبا جعفر يحضر بالسواد، فإذا رآه أبي عدل إلى موضعه فجلس عنده، فيتذاكران الشعر والأدب والعلم، حتى يجتمع عليهما من الخدم عدد كثير، كما يجتمع على القصاص استحساناً لما يجري بينهما، فسمعته يوماً وقد أنشد بيتاً لا أذكره الآن، فقال له أبي أيها القاضي: إني أحفظ هذا البيت بخلاف هذه الرواية، فصاح عليه صيحة عظيمة وقال: اسكت، ألي تقول هذا؟ أنا أحفظ لنفسي من شعري خمسة عشر ألف بيت، وأحفظ للناس أضعاف ذلك وأضعافه وأضعافه، يكررها مراراً.
وفي رواية ابن عبد الرحيم عن التنوخي قال: قال له هات: ألي تقول هذا؟ وأنا أحفظ من شعري نيفاً وعشرين ألف بيت، سوى ما أحفظه للناس، قال: فاستحيى أبي منه لسنه ومحله وسكت. قال: وحدثني القاضي أبو طالب محمد ابن القاضي أبي جعفر ابن البهلول قال: كنت مع أبي في جنازة بعض أهل بغداد من الوجوه، وإلى جانبه في الحق جالس أبو جعفر الطبري، فأخذ أبي يعظ صاحب المصيبة ويسليه، وينشده أشعاراً، ويروي له أخباراً، فداخله الطبري في ذلك، وذئب معه، ثم اتسع الأمر بينهما في المذاكرة، وخرجا إلى فنون كثيرة من الأدب والعلم استحسنها الحاضرون، وعجبوا منها، وتعالى النهار وافترقنا، فلما جعلت أسير خلفه قال يا بني: هذا الشيخ الذي داخلنا اليوم في المذاكرة من هو؟ أترعفه؟ فقلت يا سيدي كأنك لم تعرفه؟ فقال لا: فقلت: هذا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، فقال: إنا لله، ما أحسنت عشرتي يا بني، فقلت: كيف يا سيدي؟ فقال: ألا قلت لي في الحال، فكنت أذاكره غير تلك المذاكرة، هذا رجل مشهور بالحفظ، والاتساع في صنوف من العلم، وما ذاكرته بحسبها، قال: ومضت على هذا مدة، فحضرنا في حق لآخر وجلسنا، وإذ بالطبري يدخل إلى الحق، فقلت له: قليلاً قليلاً أيها القاضي، هذا أبو جعفر الطبري قد جاء مقبلاً، قال: فأومأ إليه بالجلوس عنده، فعدل إليه، فأوسعت له حتى جلس إلى جنبه، وأخذ أبي يجاريه، فكلما جاء إلى قصيدة ذكر الطبري منها أبياتاً، قال أبي هاتها يا أبا جعفر، فربما تلعثم، فيمر أبي في جميعه، حتى سبقه، قال: فما سكت أبي يومه ذاك إلى الظهر، وبان للحاضرين تقصير الطبري، ثم قمنا، فقال لي أبي: الآن شفيت صدري.

ولأبي جعفر هذا كتاب في النحو على مذهب الكوفيين، حدث أبو علي التنوخي، حدثني أبو الحسين علي بن هشام ابن عبد الله، المعروف بابن أبي قيراط، كاتب ابن الفرات، وأبو محمد عبد الله بن علي ذكويه، كاتب نصر القشوري، وأبو الطيب محمد بن أحمد الكلوذاني كاتب ابن الفرات، قالوا: كنا مع أبي الحسن بن الفرات، في دار المقتدر، في وزارته الثانية، في يوم الخميس لخمس ليال بقين من جمادى الآخرة من سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وقد استحضر ابن قليجة رسول علي بن عيسى إلى القرامطة في وزارته الأولى، فواجه علي بن عيسى في المجلس بحضرتنا بأنه وجه إلى القرامطة مبتدئاً، فكاتبوه يلتمسون منه المساحي والطلق وعدة حوائج، فأنفذ جميع ذلك إليهم، وأحضر ابن الفرات معه خطه، " أي ابن عيسى " في نسخة أنشأها ابن ثوابة إلى القرامطة، جواباً عن كتابهم إليه، وقد أصلح علي بن عيسى فيها بخطه، ولم يقل إنكم خارجون عن ملة الإسلام بعصيانكم أمير المؤمنين، ومخالفتكم إجماع المسلمين، وشقكم العصا، ولكنكم خارجون عن جملة أهل الرشاد والسداد، وداخلون في جملة أهل العناد والفساد، فهجن ابن الفرات علياً بذلك، وقال: ويحك تقول القرامطة مسلمون؟ والإجماع قد وقع على أنهم أهل ردة، لا يصلون ولا يصومون، وتوجه إليهم بالطلق وهو الذي إذا طلي به البدن أو غيره لم تعمل فيه النار، قال: أردت بهذا المصلحة، واستعادتهم إلى الطاعة بالرفق وبغير حرب، فقال ابن الفرات لأبي عمر القاضي: ما عندك في هذا يا أبا عمر؟ اكتب به، فأفحم، وجعل مكان ذلك أن أقبل على علي بن عيسى فقال: يا هذا، لقد أقررت بما لو أقر به إمام لما وسع الناس طاعته، قال: فرأيت علي بن عيسى وقد حدق إليه تحديقاً شديداً، لعلمه بأن المقتدر في موضع يقرب منه، بحيث يسمع الكلام ولا يراه الحاضرون، فاجتهد ابن الفرات بأبي عمر أن يكتب بخطه شيئاً فلم يفعل، وقال: قد غلط غلطاً وما عندي غير ذلك، فأخذ خطه بالشهادة عليه بأن هذا كتابه، ثم أقبل على أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول القاضي، فقال: ما عندك يا أبا جعفر في هذا؟ فقال: إن أذن الوزير أن أقول ما عندي فيه على شرح قلته، قال افعل: قال: صح عندي أن هذا الرجل وأومأ إلى علي بن عيسى، افتدى بكتابين كتبهما إلى القرامطة في وزارته الأولى ابتداء وجواباً ثلاثة آلاف رجل من المسلمين، كانوا مستعبدين، وهم أهل نعم وأموال، فرجعوا إلى أوطانهم ونعمهم، فإذا فعل الإنسان مثل هذا الكتاب على جهة طلب الصلح، والمغالطة للعدو لم يجب عليه شيء، قال: فما عندك فيما أقر به أن القرامطة مسلمون؟ قال: إذا لم يصح عنده كفرهم وكاتبوه بالتسمية لله ثم الصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وانتسبوا إلى أنهم مسلمون، وإنما ينازعون في الإمامة فقط لم يطلق عليهم الكفر، قال فما عندك في الطلق ينفذ إلى أعداء الإمام؟ فإذا طلي به البدن أو غيره لم تعمل فيه النار، وصاح بها كالمنكر على أبي جعفر، فأخبرني، فأقبل ابن البهلول على علي بن عيسى فقال له: أنفذت الطلق الذي هذه صفته إلى القرامطة؟ فقال علي بن عيسى لا، فقال ابن الفرات: هذا رسولك وثقتك ابن قليجة، قد أقر عليك بذلك، فلحق علي بن عيسى دهشة فلم يتكلم، فقال ابن الفرات لأبي جعفر بن البهلول، احفظ إقراره بابن قليجة ثقته ورسوله، وقد أقر عليه بذلك، فقال: أيها الوزير: لا يسمى هذا مقراً، هذا مدع، وعليه البينة، فقال ابن الفرات: فهو ثقته بإنفاذه إياه، قال: إنما وثقه في حمل كتاب، فلا يقبل قوله عليه في غيره، فقال ابن أبي جعفر: أنت وكيله، ومحتج عنه؟، لست إلا حاكماً، فقال: لا، ولكني أقول الحق في هذا الرجل، كما قلته في حق الوزير - أيده الله، - لما أراد حامد بن العباس في وزارته ومن ضامه الحيلة على الوزير - أعزه الله - بما هو أعظم من هذا الباب، فإن كنت لم أصب حينئذ فلست مصيباً في هذا الوقت، فسكت ابن الفرات، والتفت إلى علي بن عيسى وقال: أقرمطي؟ فقال له علي بن عيسى: أيها الوزير، أنا قرمطي؟ أنا قرمطي؟ يعرض به، وذكر قصة طويلة، ليست من خبر ابن البهلول في شيء.
وحدث أبو الحسن علي بن هشام بن أبي قيراط قال: دخلت مع أبي إلى أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول عقيب عيد لنهنئه به، وتطاول الحديث، فقال له أبي:

قد كنت أكاتب الوزير - أيده الله - إلى محبسه، يعني ابن الفرات، لأنه هو كان الوزير إذ ذاك الوزارة الثالثة، وأعرفه ما عليه القاضي من موالاته من كذا وكذا، والآن: وهو على شكر القاضي والاعتداد به، قال: فلما سمع ذلك فرق الغلمان، ومن كان في مجلسه من أصحابه حتى خلا، وقال: ليس يخفى علي التغير في عين الوزير، وإن كان لم ينقصني من رتبة ولا عمل، وبالله أحلف، لقد لقيت حامد بن العباس بالمدائن لما جيء به للوزارة، فقام لي في حراقته قائماً، وقال لي: هذا الأمر لك ولولدك، وسيبين لك ما أفعله في زيادتك، من الأعمال والأرزاق، ثم لقيته يوم الخلع عليه بعد لبسه إياها فتطاول، فلما فعلت به في أمر الوزير - أيده الله - ما فعلته بحضرة أمير المؤمنين عاداني، وصار لا يعيرني طرفه، وتعرضت منه لكل بلية، فكنت خائفاً له حتى أراح الله منه بتفرد علي بن عيسى بالأمور، واشتغاله هو بالضمان، وسقوط حاجتنا إلى لقائه، ومالي إلى هذا الوزير - أيده الله - ذنب يوجب انقباضه، إلا أني أديت الوديعة التي كانت له عندي، وبالله لقد وريت عن ذكرها جهدي، ودافعت بما يدافع به مثلي، ممن لا يمكنه الكذب. فلما جاء ابن حماد كاتب موسى بن خلف وأقر بها، وأحضر الدليل بإحضار المرأة التي حملتها، لم أجد بداً عن أدائها، وقد فعل مثلي أبو عمر في الوديعة التي كانت له عنده، إلا أن أبا عمر فعل ما قد علمته من حيلة، بشراء فص بنصف درهم، نقش عليه علي بن محمد، ووضع مالاً من عنده في أكياس ختمها به، وقال للوزير: وديعتك عندي بحالها، وإنما غرمت ما أديت عنك من مالي، وأراد التقرب إليه ففعل هذا، وأنت تعلم فرق ما بيني وبين أبي عمر في كثرة المال، فأريد أن تحل سخيمته، وتستصلح لي نيته، وتذكره بحقي القديم عليه، ومقامي له بين يدي الخليفة، ذلك، وإن مثل ذلك لا ينسى بتجن لا يلزم. فقال له أبي: أنا أفعل ولا أقصر، وقد اختلفت الأخبار علينا فيما جرى ذلك اليوم، فإن رأى القاضي - أعزه الله - أن يشرحه لي، فعل. فقال أبو جعفر: كنت أنا، وأبو عمرو علي بن عيسى، وحامد بن العباس، بحضرة الخليفة مع جماعة من خواصه، وكلهم منحرف عن الوزير - أيده الله، - ومحب لمكروهه، إذ حضر حامد الرجل الجندي الذي ادعى أنه وجده راجعاً من أردبيل إلى قزوين، ثم إلى إصبهان ثم إلى البصرة، فإنه أقر له عفواً أنه رسول ابن الفرات إلى ابن أبي الساج، في عقد الإمامة لرجل من الطالبيين المقيمين بطبرستان، ليقويه ابن أبي الساج، ويسيره إلى بغداد، ويعاونه ابن الفرات بها، وأنه مخبر أنه تردد في ذلك دفعات، وخاطبه بحضرة الخليفة في أن يصدق عما عنده في ذلك، فذكر الرجل مثل ما أخبر به عنه حامد، ووصف أن موسى بن خلف كان يتحير لابن الفرات، لأنه من الدعاة الذين يدعونه إلى الطالبيين، وأنه كان يمضي في وقت من الأوقات إلى ابن أبي الساج في شيء من هذا، فلما استتم الخليفة سماع هذا الكلام، اغتاظ غيظاً شديداً، وأقبل على ابن عمر وقال: ما عندك فيمن فعله هذا؟ فقال: لئن كان فعل ذلك، لقد أتى أمراً فظيعاً، وأقدم على أمر يضر بالمسلمين جميعاً، واستحق لذا كلمة عظيمة لا أحفظها، قال أبو جعفر: وتبينت في علي ابن عيسى كراهية لما جرى، والإنكار للدعوى، والطنر بما قيل فيها، فقويت بذلك نفسي، وأقبل الخليفة علي فقال: ما عندك يا أحمد فيمن فعل هذا؟ فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني. فقال ولم؟ فقلت: لأن الجواب ربما أغضبت به من أنا محتاج إلى رضاه، أو خالف ما يوافقه من ذلك ويهواه، ويضر بي، فقال: لابد أن تجيب، فقلت: الجواب ما قال الله تعالى، " يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " ومثل هذا يا أمير المؤمنين لا يقبل فيه خبر واحد، والتمييز يمنع من قبول مثل هذا على ابن الفرات، أتراه يظن به أنه رضي أن يكون تابعاً لابن أبي الساج؟، ولعله ما كان يرضى وهو وزير أن يستحجبه، ثم أقبلت على الرجل فقلت له: صف لي أردبيل، عليها سور أم لا؟ فإنك على ما تدعيه من دخولها، لابد أن تكون عارفاً بها، واذكر لنا صفة باب دار الإمارة، هل هو حديد، أم خشب؟ فتلجلج، فقلت له: كاتب ابن أبي الساج بن محمود ما اسمه؟ وما كنيته؟ فلم يعرف ذلك، فقلت له فأين الكتب التي معك؟ فقال: لما أحسست بأني قد وقعت في أيديهم رميت بها

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15