كتاب : معجم الأدباء
المؤلف : ياقوت الحموي

فديت إماماً صيغ من عزة النفس ... أنامله والسحب نوعان من جنس
أشد ارتياحاً نحو طلعة معتف ... من المفلس الخاوي اليدين إلى الفلس
وأفقه في تدريسه من محمد ... وأجود من كعب وأخطب من قس
مناقب لو أن الحرابي مرة ... بصرن بها استنكفن عن خدمة الشمس
ويغدو على طرف من الشقر كلما ... رأته إماء الحي وافته للقبس
على سابح من خلقة الوهم طالع ... وأهون شيء عنده درك الأمس
فتى ساومته خلقه وهو فاغم ... ولا فغمة المسك، والخرائد للعرس
له الصفو من ودي وإخوته الألى ... غدوا من سهام الزيغ للدين كالترس
لفتيان صدق ما اقتنوا طول عمرهم ... سوى البحث والإفتاء والوعظ والدرس
لأربعة شادوا الهدى بعد شيخهم ... فقد بنى الإسلام منهم على خمس
بنور ألهي عليهم وزهدهم ... وعلمهم أضحوا ملائكة الأنس
فعاشوا لترشيح الهدى ويراعهم ... بصائبة الأحكام يقطر في الطرس
وقال بعض الفضلاء الخراسانية في الإمام صدر الأفاضل يمدحه:
إن للعالمين فخراً وزيناً ... وجمالاً يجل عن كل شين
بفتىً وافر العلوم نقاب ... مثله ما رأيت قط بعيني
ليس ذاك الفتى المبرز إلا ... أفضل الناس قاسم بن الحسين
وحدثني صدر الأفاضل: قال بعض الفضلاء العراقية في وهو من أصحابي:
يقولون إن الأصمعي لبارع ... وبالنحو والآداب والشعر عالم
كذا ابن دريد والخليل وجاحظ ... وكل لدر العلم والفضل ناظم
فقلت أجل، قد جل في الناس شأنهم ... وأفضل منهم صدر خورزم قاسم
وأنشدني صدر الأفاضل لنفسه:
أتحمل مني نحو ذيالك الرشا ... سلاماً كصدغيه وحالي مشوشا؟
وإني لوجدي أستضيء لذي الحمى ... بشعلة أنفاسي إذا الليل أغطشا
ويرحمني العذال حتى يقول لي ... أموقد نار بين جنبيك أم حشا؟
وهل ترد الجرعاء مني بحنة ... على طرفيها رونق العهد قد مشى؟
وإني قد كتمت سري وإنما ... برغمي صوب المدمعين به فشا
كما أن صدر الشرق أخفى سخاءه ... ولكنه بشر الجبين به وشى
متى جحدت نعماه أنهض جوده ... شهوداً من الإحسان لا تقبل الرشا
وإن هزه الإطراء ثم تبجست ... أياديه لم يسكر له فقد انتشا
أيلحقه الوهم القطوف، إذا سعى ... لإدراك غايات العلا متكمشا؟
لك المنهل المسكي ما زال نقعه ... يعلل صلا في يمينك أرقشا
فيلفظ في منسابه من لعابه ... حتوفاً وأرزاقاً على حسب ما تشا
وهو أطول من هذا وحدثني الإمام صدر الأفاضل قال: كتب إلي الصوفي المعروف بالصواف يسألني عن بيت حسان بن ثابت وهو:
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
وقولهم بأن فيه ثلاثة عشر مرفوعاً فأجبته:
أفدي إماماً وميض البرق منصرع ... من خلف خاطره الوقاد حين خطا
يبغي الصواب لدينا من مباحته ... أما درى أن ما يعدو والصواب خطا؟

الذي يحضرني في هذا البيت من المرفوعات اثنا عشر،فمنها قوله: فمن يهجو، فيه ثلاثة مرفوعات، المبتدأ، والفعل، المضارع، والضمير المستكن، ومنها المبتدأ المقدر في قوله ويمدحه، المعنى: ومن يمدحه، فيكون هاههنا على حسب المثال الأول ثلاثة مرفوعات أيضاً، ومنها المرفوعان في قوله وينصره، أحدهما الفعل المضارع، والثاني الضمير المستكن، ومنها المرفوعات الأربعة في قوله سواء، إثنان من حيث إنه في مقام الخبرين للمبتدأين، واثنان آخران من حيث إن في كل واحد ضميراً راجعاً إلى المبتدإ، فهذا يا سيدي جهد المقل وغير مرجو قطع المدى من الكل، فليعذرني سيدي قبل الله معاذيره من المرفوع الثالث عشر، فإنه لعمري قد استكن واستتر حتى لا أعرف عنه عيناً، وكيف يعرف له وجار وقد صار أعزب من العنقاء، وأشد عوزاً من الوفاء.
وأنشدني صدر الأفاضل لنفسه:
سرى ناشداً أنسي قضيب من الآس ... فناولني الصهباء والشهد في كاس
وأرشدني وهناً لتقبيل خاله ... وميض ثناياه وشعلة أنفاسي
ولو لم يكن يلقي على جمر خده ... من الطرة السوداء ظلة أنقاس
إذاً لأضاء الليل حتى انجلت لنا ... هواجس تخفيهن أفئدة الناس
وكتب الإمام صدر الأفاضل إلى بعض أصدقائه: كتابي إلى المجلس الرفيع جمال الحرمين، إمام الفريقين يديم الله رفعته ثم يديم، وينيم عنه طوارق الحدثان ثم ينيم، وأنا إليه كالصادي إلى قعقعة الجمد، وبجماله كهو بجمال المجد، لا أروي إلا عن فضله وإفضاله ولا أرتوي إلا من ورده وزلاله، ولا أتحسر إلا على ليال وشيتها بجواره، ثم طرزتها بحواره:
إذا ذكرتها النفس باتت كأنها ... على حد السيف بين جنبي ينتضى
تولى الصبا والمالكية أعرضت ... وزال التصابي والشباب قد انقضى
رفع الله البين من البين، حتى أرى نضاره في قميص من اللجين.
ومن إنشائه إلى الدار العزيزة ببغداد حرسها الله تعالى: رايات مولانا الصوام القوام أمير المؤمنين وإمام المتقين، وخليفة رب العالمين، الإمام الذي ليس للتابعين غيره إمام، ولا دون عتبته متمسك واعتصام، هي التي لم أزل أدعو الله أن يعقد بعذباتها النصر، ويجعل من أشياعها الذئب والنسر، تسايرها الآمال، وتحل حيثما رفعت الآجال، ويحتف بها الجدود، ويرفرف عليها السعود، وهذا دعاء لو سكت كفيته، وأمل إن لم أسأله فقد أوتيته، مني العبد أن يسعى إلى المواقف المقدسة مسعى القلم، يحبو على رأسه لا على القدم، ليشم بثراها الثرى لخلخة المسك الذكي، ويعفر بها جبينه وأنفه، ويجيل في مسارح الحمد طرفه، ويستلم عتبة بها التف الثقلان، ودانت لها الأيام بعد حران، لكن الحوادث قلما توافقه، والأيام تماكسه في ذلك وتضايقه، وظني بأن الله سوف يريك. ولما ورد الرسم - أعلى نور الله به مشارق الأرض ومغاربها - ، تلقاه العبد بالتعظيم والإجلال، ووضعه على قمة الامتثال، وفض ختامه عن الدر المكنون، بل أناسي العيون، وعن مشمول من الرض مجنوب، وكلم على صفحات الدهر مكتوب، فما زالت أعضاؤه تود أن تكون شفاهاً تقبله، وخواطر تتأمله، تمنياً يلذ به المستهام، ويحلو له الغرام، ثم استدعى الأرامل والأيامى فأعطاهم، واستحضر المساكين واليتامى فأغناهم، وأنحى على ما ملكت يمينه من العبيد والأسرى فأعتقهم وأطلقهم شكراً، وسأل الله تعالى أن يديم أكناف العرصة الفيحاء مرتعاً للعزة القعساء، إن شاء الله تعالى.
سنا جبينك مهما لاح في الظلم ... بتنا نطالع منه نسخة الكرم
إن يزرع الناس في أخلافهم كرماً ... فالبذر من جودك الطنان بالديم
تبدو على أشقر خظر حوافره ... بحراً يلاطم أمواجاً على ضرم
تشم عندك صيد العجم لخلخة ... من الرغام بآناف من القمم
كادت لحبك تأتي وهي ساعية ... على الرءوس بدون الساق كالقلم
من ظن غير نظام الملك ذا كرم ... نادى به لؤمه استسمنت ذا ورم

لما أنشدني هذا البيت قال لي: من نظام الملك؟. قلت: أنت - حرسك الله - قائل الشعر تسألني عن ممدوحك. فقال لي متبسماً: لست تعرفه؟ قلت: لا والله. قال: ولا أنا شهد الله أعرفه، لأني ما تعرضت لمدح أحد قط، ولا رغبت في جداه، ولا أعرف أحداً أفضل علي إلا مرة واحدة، فإن الغربة أحوجتني إليه فلعن الله الغربة. قلت له: وكيف ذلك؟ قال: إني مضيت إلى بخارى طالباً للعلم وقاصداً للقراءة على الرضى، فاجتمع إلي أولا صدر جيهان وغيره فقد أنسيت القصة، فلما حذفوا الأدب برني بسبعين ديناراً ركنية، ووعدني بوعود جميلة، ولولا الحاجة والغربة ما قبلتها منه، ولقد عرض علي الشهاب الحوفي، وهو أحد صدور خوارزم المتقربين من السلطان على أن ينصب لي منصباً ومجلساً بطراحة سوداء إلى جانبه، ويعطيني كل شهر عشرة دنانير لأقرأ الأدب فلم أفعل. قلت: فمن أين مادة الحياة؟ قال لي: خلف لي والدي قدراً يسيراً لا يقنع بمثله إلا أصحاب الزوايا، فأنا أنفقه بالميسور، وأتلذذ بالغنى عن الجمهور، وأنا أقول الشعر والنثر تطرباً لا تكسباً، وأستعير اسماً لا اعرفه:
أفديك ذا منظر بالبشر ملتحف ... عن اليمين وللإقبال مبتسم
يد الجلال وشت في لوح جبهته: ... الناس من خولي والدهر من خدمي
ولو أناف على هام السها وطني ... لما لوت نحوه أجيادها هممي
على النجى وقفت أيامه وعلى ... نشر المحامد منه ألسن الأمم
ما جئت أخدمه إلا وقد سحقت ... يدا تلطفه عطراً من الشيم
زف الندى نحوه بكراً مخدرةً ... لولاه زفت إلى كفن من العدم
يريه شعري نجوم الليل طالعة ... والنيرين معاً من مشرق الكلم
لا زال مثل هلال العيد حضرته ... في الحسن واليمن والإقبال والشمم
وعاش للملك يحيمه وينصره ... فالملك من دونه لحم على وضم
ودام كاليم للعافين ملتطماً ... بنانه وهو مرشوف بكل فم
وله من التصانيف: كتاب المجمرة في شرح المفصل صغير، وكتاب السبيكة في شرحه أيضاً وسط، وكتاب التجمير في شرح المفصل أيضاً بسيط، كتاب شرح سقط الزند كتاب التوضيح في شرح المقامات، كتاب لهجة الشرع في شرح ألفاظ الفقه، كتاب شرح المفرد والمؤلف، كتاب شرح النموذج، كتاب شرح الأحاجي لجار الله، كتاب خلوة الرياحين في المحاضرات، كتاب عجائب النحو، كتاب السر في الإعراب، كتاب شرح الأبنية، كتاب الزوايا والخبايا في النحو، كتاب المحصل للمحصلة في البيان، كتاب عجالة السفر في الشعر، كتاب بدائع الملح، كتاب شرح اليميني للعتبي.

القاسم بن سلام أبو عبيد

كان أبوه رومياً مملوكاً لرجل من أهل هراة، وكان أبو عبيد إمام أهل عصره في كل فن من العلم، وولي قضاء طرسوس أيام ثابت بن نصر بن مالك، ولم يزل معه ومع ولده ومات سنة ثلاث وعشرين ومائتين، أو أربع وعشرين ومائتين أيام المعتصم بمكة، وكان قصدها مجاوراً في سنة أربع عشرة ومائتين، وأقام بها حتى مات عن سبع وستين سنة، وأخذ أبو عبيد عن أبي زيد الأنصاري، وأبي عبيدة معمر بن المثنى، والأصمعي وأبي محمد اليزيدي وغيرهم من البصريين، وأخذ عن ابن الأعرابي، وأبي زياد الكلابي، ويحيى بن سعيد الأموي، وأبي عمرو الشيباني، والفراء، والكسائي من الكوفيين، وروى الناس من كتبه المصنفة نيفاً وعشرين كتاباً في القرآن والفقه واللغة والحديث. وقال أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي في كتاب مراتب النحويين: وأما أبو عبيد القاسم بن سلام فإنه مصنف حسن التأليف إلا أنه قليل الرواية، يقتطعه عن اللغة علوم افتن فيها. وأما كتابه المترجم بالغريب المصنف فإنه اعتمد فيه على كتاب عمله رجل من بني هاشم جمعه لنفسه. وأخذ كتب الأصمعي فبوب ما فيها وأضاف إليه شيئاً من علم أبي زيد الأنصاري وروايات عن الكوفيين. وأما كتابه في غريب الحديث، وكذلك كتابه في غريب القرآن منتزع من كتاب أبي عبيدة، وكان مع هذا ثقة ورعاً لا بأس به ولا بعلمه. سمع من أبي زيد شيئاً وقد أخذت عليه مواضع في غريب المصنف، وكان ناقص العلم بالإعراب، وروي أنه قال: عملت كتاب غريب المصنف في ثلاثين سنة، وجئت به إلى عبد الله بن طاهر فأمر لي بألف دينار. وذكره الجاحظ في كتاب المعلمين وقال: كان مؤدباً لم يكتب الناس أصح من كتبه ولا أكثر فائدة. وبلغنا أنه إذا ألف كتاباً حمله إلى عبد الله بن طاهر فيعطيه مالاً خطيراً، فلما صنف غريب الحديث أهداه إليه فقال: إن عقلاً بعث صاحبه على عمل هذا الكتاب لحقيق ألا يحوج إلى طلب معاش، وأجرى له في كل شهر عشرة آلاف درهم. وسمعه منه يحيى بن معين وكان ديناً ورعاً جواداً، وسير أبو دلف القاسم بن عيسى إلى عبد الله طاهر يستهدي منه أبا عبيد مدة شهرين فأنفذه، فلما أراد الانصراف وصله أبو دلف بثلاثين ألف درهم فلم يقبلها وقال: أنا في جنبة رجل لا يحوجني إلى غيره، فلما عاد أمر له ابن طاهر بثلاثين ألف دينار فاشترى بها سلاحاً وجعله للثغر، وخرج إلى مكة مجاوراً في سنة أربع عشرة ومائتين فأقام بها إلى أن مات في الوقت المقدم ذكره.
وقال إسحاق بن راهويه: يحب الله الحق، أبو عبيد أعلم مني ومن احمد بن حنبل، ومن محمد بن إدريس الشافعي. قال: ولم يكن عنده ذاك البيان، إلا أنه إذا وضع وضع. ولما قدم أبو عبيد مكة وقضى حجه أراد الانصراف فاكترى إلى العراق ليخرج في صبيحة غد. قال أبو عبيد: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو جالس في فراشه وقوم يحجبونه والناس يدخلون إليه ويسلمون عليه ويصافحونه. قال: فلما دنوت لأدخل مع الناس منعت فقلت لهم: لم لا تخلون بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: إي والله، لا تدخل إليه ولا تسلم عليه وأنت خارج غداً إلى العراق، فقلت لهم، فإني لا أخرج إذاً، فأخذوا عهدي ثم خلوا بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت وسلمت وصافحت، فلما أصبح فاسخ كريه وسكن مكة حتى مات بها ودفن في دور جعفر.
وقال أبو عبد الله بن طاهر: علماء الإسلام أربعة: عبد الله بن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والقاسم بن معن في زمانه، وأبو عبيد القاسم بن سلام في زمانه. ثم قال يرثيه:
يا طالب العلم قد مات ابن سلام ... وكان فارس علم غير محجام
كان الذي كان فيكم ربع أربعة ... لم نلق مثلهم إستار أحكام
إستار أي أربعة. وحدث أبو بكر الزبيدي قال: قال علي بن عبد العزيز، قال عبد الرحمن اللحنة صاحب أبي عبيد: قيل لأبي عبيد وقد اجتاز على دار رجل من أهل الحديث كان يكتب عنه الناس وكان يزن بشر إن صاحب هذه الدار يقول: أخطأ أبو عبيد في مائتي حرف من المصنف. فقال أبو عبيد - ولم يقع في الرجل بشيء مما كان يعرف به - : في المصنف مائة ألف حرف، فلم أخطئ في كل ألف حرف إلا حرفين، ما هذا بكثير مما استدرك علينا، ولعل صاحبنا هذا لو بدا لنا فناظرناه في هاتين المائتين بزعمه لوجدنا لها مخرجاً.

وحدث عن عباس الخياط قال: كنت مع أبي عبيد فاجتاز بدار إسحاق الموصلي فقال: ما أكثر علمه بالحديث والفقه الشعر مع عنايته بالعلوم! فقلت له: إنه يذكرك بضد هذا. قال: وما ذاك؟ قلت: إنه يزعم أنك صحفت في المصنف نيفاً وعشرين حرفاً. فقال: ما هذا بكثير، في الكتاب عشرة آلاف حرف مسموعة يغلط فيها بهذا ليسير، لعلي لو ناظرت فيها لاحتججت عنها، ولم يذكر إسحاق إلا بخير.
قال الزبيدي: ولما اختلفت هاتان الروايتان في العدد امتحنت ذلك في المصنف فوجدت فيه سبعة عشر ألف حرف وتسعمائة وسبعين حرفاً. وحدث موسى بن نجيح السلمي قال: جاء رجل إلى أبي عبيد القاسم بن سلام فسأله عن الرباب فقال: هو الذي يتدلى دون السحاب، وأنشد لعبد الرحمن بن حسان:
كأن الرباب دوين السحاب ... نعام تعلق بالأرجل
فقال: لم أدر هذا، فقال: الرباب اسم امرأة، وأنشد:
إن الذي قسم الملاحة بيننا ... وكسا وجوه الغانيات جمالا
وهب الملاحة للرباب وزادها ... في الوجه من بعد الملاحة خالا
فقال: لم ادر هذا أيضاً، فقال: عساك أردت قول الشاعر:
رباب ربة البيت ... تصب الخل في الزيت
لها سبع دجاجات ... وديك حسن الصوت
فقال: هذا أردت. فقال: من أين أنت؟. قال: من البصرة. قال: على أي شيء جئت، على الظهر أو في الماء؟ قال: في الماء. قال: كم أعطيت الملاح؟ قال: أربعة دراهم. قال: اذهب استرجع منه ما أعطيته وقل: لم تحمل شيئاً، فعلام تأخذ مني الأجرة؟. قال محمد بن إسحاق النديم: ولأبي عبيد من التصانيف: كتاب غريب المصنف، كتاب غريب الحديث، كتاب غريب القرآن، كتاب معاني القرآن، كتاب الشعراء، كتاب المقصور والممدود، كتاب القراءات، كتاب المذكر والمؤنث، كتاب الأموال، كتاب النسب، كتاب الأحداث، كتاب الأمثال السائرة، كتاب عدد آي القرآن، كتاب أدب القاضي، كتاب الناسخ والمنسوخ، كتاب الأيمان والنذور، كتاب الحيض، كتاب فضائل القرآن، كتاب الحجر والتفليس، كتاب الطهارة، وله غير ذلك من الكتب الفقهية.
قال علي بن محمد بن وهب المشعري عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال: سمعته يقول: هذا الكتاب يعني غريب المصنف أحب إلي من عشرة آلاف دينار: فاستفهمته ثلاث مرات فقال: نعم، هو أحب إلي من عشرة آلاف دينار: وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: قدم طاهر بن عبد الله بن طاهر من خراسان وهو حدث في حياة أبيه يريد الحج، فنزل في دار إسحاق بن إبراهيم فوجه إسحاق إلى العلماء، فأحضرهم ليراهم طاهر ويقرأ عليهم، فحضر أصحاب الحديث والفقه، وأحضر ابن الأعرابي وأبو نصر صاحب الأصمعي، ووجه إلى أبي عبيد القاسم بن سلام في الحضور فأبى أن يحضر وقال: العلم يقصد، فغضب إسحاق من قوله ورسالته، وكان عبد الله بن طاهر يجزى له في الشهر ألفي درهم، فقطع إسحاق عند الرزق وكتب إلى عبد الله بالخير، فكتب إليه عبد الله: قد صدق أبو عبيد في قوله وقد أضعفت له الرزق من أجل فعله، فأعطه فائته وأدر عليه بعد ذلك ما يستحقه.

القاسم بن علي بن محمد بن عثمان
ابن الحريري أبو محمد البصري، من أهل بلد قريب من البصرة يسمى المشان، مولده ومنشؤه به، وسكن البصرة في محلة بني حرام، وقرأ الأدب علي أبي القاسم الفضل بن محمد القصباني البصري بها، ومات ابن الحريري في سادس رجب سنة ست عشرة وخمسمائة عن سبعين سنة، ومولده في حدود سنة ست وأربعين وأربعمائة في خلافة المسترشد، وبالبصرة كانت وفاته، وكان غاية في الذكاء والفطنة والفصاحة والبلاغة، وله تصانيف تشهد بفضله وتقر بنبله، وكفاه شاهداً كتاب المقامات التي أبر بها على الأوائل، وأعجز الأواخر، وكان مع هذا الفضل قذراً في نفسه وصورته ولبسته وهيئته، قصيراً ذميماً بخيلاً مبتلى بنتف لحيته.

قال العماد في كتاب الخريدة: لم يزل ابن الحريري صاحب الخبر بالبصرة في ديوان الخلافة، ووجدت هذا المنصب لأولاده إلى آخر العهد المقتفوي: أخبرني عبد الخالق ابن صالح بن علي بن زيدان المسكي البصري بها في سنة اثنتي عشرة ستمائة في صفر قال: حدثنا الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد المسعودي البندهي - قال: وكان يكتب هو بخطه: الفنجديهي قال: وهي قرية من قرى مرو الشاهجان - قال: سمعت الشيخ الثقة أبا بكر عبد الله بن محمد بن محمد بن أحمد النقور البزاز ببغداد يقول: سمعت الرئيس أبا محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري صاحب المقامات يقول: أبو زيد السروجي كان شيخاً شحاذاً بليغاً، ومكدياً فصيحاً، ورد علينا البصرة فوقف يوماً في مسجد بني حرام فسلم ثم سأل الناس، وكان بعض الولاة حاضراً والمسجد غاص بالفضلاء، فأعجبتهم فصاحته، وحسن صياغة كلامه وملاحته، وذكر أسر الروم ولده كما ذكرناه في المقامة الحرامية وهي الثامنة والأربعون. قال: واجتمع عندي عشية ذلك اليوم جماعة من فضلاء البصرة وعلمائها، فحكيت لهم ما شاهدت من ذلك السائل وسمعت من لطافة عبارته في تحصيل مراده، وظرافة إشارته في تسهيل إيراده، فحكى كل واحد من جلسائه أنه شاهد من هذا لسائل في مسجده مثل ما شاهدت، وأنه سمع منه في معنى آخر فضلاً أحسن مما سمعت، وكان يغير في كل مسجد زيه وشكله، ويظهر في فنون الحيلة فضله، فتعجبوا من جريانه في ميدانه، وتصرفه في تلونه وإحسانه، فأنشأت المقامة الحرامية ثم بنيت عليها سائر المقامات، وكانت أول شيء صنعته.
قال المؤلف: وذكر ابن الجوزي في تاريخه مثل هذه الحكاية، وزاد فيها أن ابن الحريري عرض المقامة الحرامية على أنو شروان بن خالد وزير السلطان فاستحسنها،وأمره أن يضيف إليها ما يشاكلها، فأتممها خمسين مقامة.
وحدثني من أثق به: أن الحريري لما صنع المقامة الحرامية وتعاني الكتابة فأتقنها وخالط الكتاب، أصعد إلى بغداد فدخل يوماً إلى ديوان السلطان وهو منغص بذوي الفضل والبلاغة، محتفل بأهل الكفاية والبراعة، وقد بلغهم ورود ابن الحريري إلا أنهم لم يعرفوا فضله، ولا أشهر بينهم بلاغته ونبله، فقال له بعض الكتاب: أي شيء تتعانى من صناعة الكتابة حتى نباحثك فيه؟ فأخذ بيده قلماً وقال: كل ما يتعلق بهذا، وأشار إلى القلم فقيل له: هذه دعوى عظيمة، فقال: امتحنوا تخبروا، فسأله كل واحد عما يعتقد في نفسه إتقانه من أنواع الكتابة، فأجاب عن الجميع أحسن جواب، وخاطبهم بأتم خطاب حتى بهرهم، فانتهى خبره إلى الوزير أو شروان بن خالد، فأدخله عليه ومال بكليته إليه وأكرمه وناداه، فتحدثا يوماً في مجلسه حتى انتهى الحديث إلى ذكر أبي زيد السروجي المقدم ذكره، وأورد ابن الحريري المقامة الحرامية التي عملها فيه، فاستحسنها أنو شروان جداً وقال: ينبغي أن يضاف إلى هذه أمثالها وينسج عن منوالها عدة من أشكالها. فقال: أفعل ذلك مع رجوعي إلى البصرة وتجمع خاطري بها، ثم انحدر إلى البصرة فصنع أربعين مقامة، ثم اصعد إلى بغداد وهي معه وعرضها على أنو شروان فاستحسنها وتداولها الناس، واتهمه من يحسده بأن قال: ليست هذه من عمله لأنها لا تناسب فضائله ولا تشاكل ألفاظه وقالوا: هذا من صناعة رجل كان استضاف به ومات عنده فادعاها لنفسه.
وقال آخرون: بل العرب أخذت بعض القوافل وكان مما أخذ جراب بعض المغاربة وباعه العرب بالبصرة، فاشتراه ابن الحريري وادعاه، فإن كان صادقاً في أنها من عمله فليصنع مقامة أخرى. فقال: نعم سأصنع، وجلس في منزله ببغداد أربعين يوماً فلم يتهيأ له تركيب كلمتين والجمع بين لفظتين، وسود كثيراً من الكاغد فلم يصنع شيئاً فعاد إلى البصرة والناس يقعون فيه ويغيطون في قفاه كما تقول العامة، فما غاب عنهم إلا مديدة حتى عمل عشر مقامات وأضافها إلى تلك، وأصعد بها إلى بغداد فحينئذ بان فضله، وعلموا أنها من عمله، وكان مبتلى بنتف لحيته، فلذلك قول ابن جكينا فيه:
شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان وقد ... ألجمه في العراق بالخرس

وقرأت بخط صديقنا الكمال عمر بن أبي بكر الدباس رحمه الله، حدثني علي بن جابر بن هبة الله بن علي حاكم ساقية سليمان قال: حدثني والدي جابر بن هبة الله أنه قرأ على القاسم بن علي الحريري المقامات في شهور سنة أربع عشرة وخمسمائة قال: وكنت أظن أن قوله:
يا أهل ذا المغنى وقيتم شرا ... ولا لقيتم ما بقيتم ضرا
قد دفع الليل الذي اكفهرا ... إلى ذراكم شعثاً مغبرا
أنه سغباَ معتراً، فقرأت كما ظننت سغباً معترا، ففكر ساعة ثم قال: والله لقد أجدت في التصحيف فإنه أجود، فرب شعب مغبر غير محتاج، والسغب المعتر موضع الحاجة، ولولا أنني قد كتبت خطي إلى هذا اليوم على سبعمائة نسخة قرئت علي لغيرت الشعث بالسغب، والمغبر بالمعتر.
قال مؤلف الكتاب: ولقد وافق كتاب المقامات من السعد ما لم يوافق مثله كتاب ألفته فإنه جمع بين حقيقة الجودة والبلاغة، واتسعت له الألفاظ، وانقادت له نور البراعة حتى أخذ بأزمتها وملك ربقتها، فاختار ألفاظها وأحسن نسقها، حتى لو ادعى بها الإعجاز لما وجد من يدفع في صدره ولا يرد قوله، ولا يأتي بما يقاربها فضلاً عن أن يأتي بمثلها، ثم رزقت مع ذلك من الشهرة وبعد الصيت والاتفاق على استحسانها من الموافق والمخالف ما استحقت وأكثر.
ومن عجيب ما رأيته وشاهدته: أني وردت آمد في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة وأنا في عنفوان الشباب وريعه، فبلغني أن بها علي بن الحسن بن عنتر المعروف بالشميم الحلي وكان من العلم بمكان مكين، واعتلق من حباله بركن ركين، إلا أنه كان لا يقيم لأحد من أهل العلم المتقدمين ولا المتأخرين وزناً، ولا يعتقد لأحد فضيلة، ولا يقرأ لأحد بإحسان في شيء من العلوم ولا حسن، فحضرت عنده وسمعت من لفظه إزراءه على أولي الفضل، وتنديده بالمعيب عليهم بالقول والفعل، فلما أبرمني وأضجر، وامتد في غيه وأصحر، قلت له: أما كان فيمن تقدم على كثرتهم وشغف الناس بهم عندك قط مجيد؟ فقال: لا أعلم إلا أن يكون ثلاثة رجال: المتنبي في مديحه خاصة، ولو سلكت طريقه لما برز علي، ولسقت فضيلته نحوي ونسبتها إلي. والثاني ابن نباتة في خطبه، وإن كانت خطبي أحسن منها أسير، وأظهر عند الناس قاطبة وأشهر. والثالث ابن الحريري في مقاماته. قلت: فما منعك أن تسلك طريقته وتنشئ مقامات تخمد بها جمرته؟ وتملك بها دولته.
فقال: يا بني، الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولقد أنشأتها ثلاث مرات ثم أتأملها فأسترذلها، فأعمد إلى البركة فأغسلها ثم قال: ما أظن الله خلقني إلا لإظهار فضل الحريري. وشرح مقاماته بشرح قرئ عليه وأخذ عنه وكتب ابن الحريري إلى سديد الدولة في صدر الكتاب:
وما نومة بعد الضحى لمسهد ... زوى همه بالليل عن جفنه السنه
بأحلى من البشرى بأن ركابكم ... ستسري إلى بغداد في هذه السنه
وقرأت في كتاب لبعض أدباء البصرة: قال الشيخ أبو محمد حرس الله نعمته معاياة:
ميم موسى من نون نصر ففسر ... أيهذ الأديب ماذا عنيت؟
تفسيره: ميم الرجل: إذا أصابه الموم وهو البرسام، ويقال: إنه أشد الجدري. ونون نصر: حوت نصر، والنون السمكة، يعني أنه أكل سمكة نصر فأصابه الموم. وله في الأمثلة:
باء بكر بلام ليلى فما ين ... فك منها إلا بغين وها
باء: أي اقرأ، واللام: الدرع، فلما أقرأ لليلى به ألزمته فلا ينفك منها إلا بعين أي الدرع بعينه هاء أي خذي.
حدثني أبو عبد الله الدبيثي قال: حدثني أبو الحسن علي بن جابر، حدثني أبي أبو الفضل جابر بن زهير قال حضرنا مع ابن الحريري في دعوة لظهير الدين بن الوجيه رئيس البصرة في ختان ابنه أبي الغنائم وكان هناك مغن يعرف بحمد المصري وكان غاية في امتداد الصوت وطيب النغمة فغنى:
بالذي ألهم تعذي ... بي ثناياك العذابا
ما الذي قالته عينا ... ك لقلبي فأجابا؟
فطرب الحاضرون وسألوا ابن الحريري أن يزيد فيها شيئاً فقال:
قل لمن عذب قلبي ... وهو محبوب محابي
والذي إن سمته الوص ... ل تغالى وتغابى
ثم البيتان. فاستحسنها الجماعة وأقسموا على المغنى ألا يغنيهم غيرها، فمضى يومهم أجمع بهذه الأبيات.
وأنشد أيضاً لحريري:

لا تخطون إلى خطء ولا خطأ ... من بعد ما الشيب في فوديك قد وخطا
وأي عذر لمن شابت ذوائبه ... إذا سعى في ميادين الصبا وخطا؟
ومن شعره:
خذ يا بني بما أقول ولا تزغ ... ما عشت عنه تعش وأنت سليم
لا تغترر ببني الزمان ولا تقل ... عند الشدائد لي أخ ونديم
جربتهم فإذا المعاقر عاقر ... والآل آل والحميم حميم
ولابن الحريري من التصانيف: كتاب المقامات، كتاب درة الغواص في أوهام الخواص، كتاب ملحة الإعراب وهي قصيدة في النحو، كتاب شرح ملحة الإعراب، كتاب رسائله المدونة، كتاب شعره.
حدثني أبو عبد الله محمد بن سعيد بن الدبيثي قال: سمعت القاضي أبو الحسن علي بن جابر بن زهير يقول: سمعت أبي أبا الفضل جابر بن زهير يقول: كنت عند أبي محمد القاسم ابن الحريري البصري بالمشان أقرأ عليه المقامات، فبلغه أن صاحبه أبا زيد المطهر بن سلام البصري الذي عمل المقامات عنه قد شرب مسكراً فكتب إليه وأنشدناه لنفسه:
أبا زيد اعلم أن من شرب الطلا ... تدنس فافهم سر قولي المهذب
ومن قبل سميت المطهر والفتى ... يصدق بالأفعال تسمية الأب
فلا تحسها كيما تكون مطهراً ... وإلا فغير ذلك الاسم واشرب
قال: فلما بلغه الأبيات أقبل حافياً إلى الشيخ أبي محمد وبيده مصحف فأقسم به ألا يعود إلى شرب مسكر. فقال له الشيخ: ولا تحاضر من يشرب.
حدثني ابن الدبيثي قال: وأنشدني ابن جابر قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن الحسن بن المنقبة الفقيه بالرحبة لنفسه يعارض أبا محمد بن الحريري في بيتيه اللذين قال فيهما: أسكنا كل نافث، وأمنا أن يعززا بثالث:
ملأمة الوكعاء بين الورى ... أحسن من حر أتى ملأمه
فمه إذا استجديت عن قول لا ... فالحر لا يملأ منها فمه
نقلت من خط أبي سعد السمعاني، أنشدنا أبو القاسم عبد الله بن القاسم بن علي بن الحريري، أنشدني والدي لنفسه وهو مما كاتب به شيخ الشيوخ أبا البركات إسماعيل بن أبي سعد:
سلام كأزهار الربيع نضارة ... وحسناً على شيخ الشيوخ الذي صفا
ولو لم يعقني الدهر عن قصد ربعه ... سعيت كما يسعى الملبي إلى الصفا
ولكن عداني عنه الدهر مكدر ... ومن ذا الذي واتاه من دهره الصفا؟
ومن خطه: أنشدني أبو العباس أحمد بن بختيار بن علي الواسطي، أنشدنا القاسم بن علي الحريري لنفسه:
أخمد بحلمك ما يذكيه ذو سفه ... من نار غيظك واصفح إن جنى جاني
فالحلم أفضل ما ازدان اللبيب به ... والأخذ بالعفو أحلى ما جنى جاني
وكتب ابن الحريري إلى سديد الدولة محمد بن عبد الكريم الأنباري كتاباً على يد ولده قال فيه: كتب الخادم وعنده من تباريح الأشواق إلى الخدمة ما يصدع الأطواد، فكيف الفؤاد؟ ويوهي إلى الجبال، فكيف البال؟ ولكنه يستدفع الخوف بسوف، ويبرد حر الأسى بعسى، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير.
ألا ليت شعري والتمني خرافة ... وإن كان فيه راحة لأخي الكرب
أتدرون أني مذ تناءت دياركم ... وشط اقترابي من جنابكم الرحب
أكابد شوقاً ما يزال أواره ... يقلبني بالليل جنباً إلى جنب
أسكب للبين المشت مدامعاً ... كأن عزاليها امترين من السحب
وأذكر أيام التلاقي فأنثني ... لتذكارها بادي الأسى ذاهب اللب
ولي حنة في كل وقت إليكم ... ولا حنة الصادي إلى البارد العذب
فوالله إني لو كتمت هواكم ... لما كان مكتوماً بشرق ولا غرب
ومما شجا قلبي المعنى وشفه ... رضاكم بإهمال الإجابة عن كتبي
على أنني راض بما ترضونه ... وأفخر بالإعتاب فيكم وبالعتب
ولما سرى الوفد العراقي نحوكم ... وأعوزني المسرى إليكم مع الركب
جعلت كتابي نائباً عن ضرورة ... ومن لم يجد ماء تيمم بالتر

وأنفذت أيضاً بضعة من جوارحي ... تنبئكم مشروح حالي وتستنبي
وقلت له عند الوداع وقلبه ... شج وأبوه الشيخ مكتئب القلب
ألا أبشر بما تحظى به حين تجتلي ... محيا سديد الدولة الماجد الندب
ولست أرى إذكاركم بعد خبركم ... بمكرمة، حسبي اهتزازكم حسبي
هذه على عاهتها بنت ساعتها، فإن حظيت منه بالقبول المأمول، فيا بشرى للحامل والمحمول، وإن لمحت لمحة المستثقل، فيا خيبة المرسِل والمرسَل، والسلام.
ومن رسائل ابن الحريري رسالة التزم في كل كلمة منها السين نثراً ونظماً، كتبها على لسان بعض أصدقائه يعاتب صديقاً له أخل به في دعوة دعا غيره إليها وكتب على رأسها: باسم القدوس أستفتح، وبإسعاده أستنجج، سجية سيدنا سيف السلطان سدة سيدنا الإسفهسلار السيد النفيس سيد الرؤساء حرست نفسه، واستنارت شمسه، وبسق غرسه، واتسق أنسه استمالة الجليس، ومساهمة الأنيس، ومواساة السحيق والنسيب، ومساعدة الكسير والسليب، والسيادة تستدعي استدامة السنن، والاستحفاظ بالرسم الحسن. وسمعت بالأمس تدارس الألسن سلاسة خندريسه، وسلسال كئوسه، ومحاسن مجلس مسرته، وإحسان مسمعة ستارته فاستسلفت الاستدعاء، وتوسمت الإسراء، وسوفت نفسي بالإحتساء ومؤانسة الجلساء، وجلست أستقري، السبل، وأستطلع الرسل، وأستطرف تناسي رسمي، وأسامر الوسواس لاستحالة وسمي:
وسيف السلاطين مستأثر ... بأنس السماع وحسو الكئوس
سلاني وليس لباس السلو ... يناسب حسن سمات النفيس
وسنن تناسي جلاسه ... وأسوا السجايا تناسي الجليس
وسر حسودي بطمس الرسوم ... وطمس الرسوم كرمس النفوس
وأسكرني حسرة واستعاض ... لقسوته سكرة الخندريس
وساقى الحسام بكاس السلاف ... وأسهمني بعبوس وبوس
سأكسوه لبسة مستعتب ... وألبس سربال سال يئوس
وأسطر سيناته سيرة ... تسير أساطيرها كالبسوس
وحسبنا السلام رسول السلام.
وكتب إلى أبي طلحة ابن النعمان الشاعر لما قصده إلى البصرة يمدحه ويشكره، ويتأسف على فراقه: بإرشاد المنشئ أنشئ، شغفي بالشيخ شمس الشعراء، ريش معاشه وفشا رياشه، وأشرق شهابه، واعشوشبت شعابه، يشاكل شغف المنتشي بالنشوة، والمرتشي بالرشوة، والشادن بشرخ الشباب، والعطشان بشم الشراب. وشكري لتجشمه ومشقته، وشواهد شفقته، يشابه شكر الناشد للمنشد، والمسترشد للمرشد، والمستبشر للمبشر، والمستجيش للجيش المشمر. وشعاري إنشاد شعره، وإشجاء المكاشر والمكاشح بنشره.
وشغلي إشاعة وشائعه، وتشييد شوافعه، والإشارة بشذوره وشفوفه، والمشورة بتشييعه وتشريفه، وأشهد شهادة تشده المقشر المكاشف، والمشنع الكاشف. لإنشاؤه ومشاهدته تدهش الشائب والناشئ، ولمشافهته تباشير الرشد، واستشيار الشهد، ولمشاحنته تشقي المشاحن، وتشين المشاين، ولمشاغبته تشظى الأشطان، وتشيط الشيطان. فشرفا للشيخ شرفاً، وشغفاً بشنشنته شغفاً:
فأشعاره مشهورة ومشاعره ... وعشرته مشكورة وعشائره
شأى الشعراء المشمعلين شعره ... فشانيه مشجو الحشا ومشاعره
وشوه ترقيش المرقش رقشه ... فأشياعه يشكونه ومعاشره
وشاق الشباب الشم والشيب وشيه ... فمنشوره بشرى المشوق وناشره
شكور ومشكور وحشو مشاشه ... شهامة شمير يطيش مشاجره
شقاشقه مخشية وشباته ... شبا مشرفي جاش للشر شاهره
شفا بالاناشيد النشاوى وشفهم ... فمشفيه مستشف وشاكيه شاكره
ويشدو فيهتش الشحيح لشدوه ... ويشغفه إنشاده فيشاطره
تجشم غشياني فشرد وحشتي ... وبشر ممشاه ببشر أباشر
سأنشده شعراً تشرق شمسه ... وأشكره شكراً تشيع بشائره

وأشهد شاهد الأشياء، ومشبع الأحشاء، ليشعلن شواظ اشتياقي في شحطه، ولشعثن شمل نشاطي نشطه، فناشدت الشيخ أيشعر باستيحاشي لشسوعه، وإجهاشي لتشييعه، ووشايتي بنشيده الموشي، وتشكل شخصه بالإشراق والعشي، حاشاه تعتشيه شبهة وتغشاه، فليستشف شرح شجوي بشطونه، وليرشحني لمشاركة شجونه، وليشغلني بتمشية شئونه، وليشيد جاشي، ويشارف انكماشي، عاش منتعش الحشاشة، مستشري البشاشة، مشحوذ الشفار، منتشر الشرار، شتاماً للأشرار، شحاذاً بالأشعار، يشرخ ويحوش، ويقنفش المنفوش الشديد البطش، الشامخ العرش، وتشريفه لبشير البشر، وشفيع المحشر.
وله من المقامات:
وأحوى حوى رقي برقة لفظه ... وغادرني إلف السهاد بغدره
تصدى لقتلي بالصدود وإنني ... لفي أسره مذ حاز قلبي بأسره
أصدق منه الزور خوف ازوراره ... وأرضى استماع الهجر خشية هجره
وأستعذب التعذيب منه وكلما ... أجد عذابي جد بي حب بره
تناسى ذمامي والتناسي مذمة ... وأحفظ قلبي وهو حافظ سره
له مني المدح الذي طاب نشره ... ولي منه طي الود من بعد نشره
وإني على تصريف أمري وأمره ... أرى المر حلواً في انقيادي لأمره
وقال الرئيس أبو الفتح هبة الله بن الفضل بن صاعد بن التلميذ الكاتب: كان الشيخ الأجل الإمام الأوحد أبو محمد القاسم بن علي بن الحريري - رضي الله عنه - الإمام المشهور الفضل، من أعيان دهره، وفريد عصره، وممن لحق طبقة الأوائل، وغبر عليهم في الفضائل، وكانت بيني وبينه مكاتبة قديمة في سنة خمس وتسعين وأربعمائة عند ابتدائه حمل المقامات التي أنشأ، ولما وقع الاجتماع به في سنة أربع وخمسمائة ببغداد وسماعها منه عدة دفعات، جاريته وسألته أن ينظم في النحو مختصراً يحفظه المبتدئون، فشرع في نظم هذه الأرجوزة، وأملى علي منها أبواباً يسيرة، وانحدر من غير إتمامها، واستعاد مني ما أملاه ليحرره، فكاتبته دفعات أقتضيه بها، وأذكره بإنفاذها وإنفاذ كتابه: درة الغواص في أوهام الخواص، فكتب إلي جوابين نسخة الأول منهما: وصل من حضرة سيدنا - أطال الله بقاءه ومدته، وحرس عزه ونعمته، وضاعف سعادته، وكبت حسدته - ، كتاب كريم، مودعه طول جسيم، وفي ضمنه در نظيم، فابتهجت بتناوله، وقررت عيناً بتأمله، وتذكرت الأوقات التي أسعد الدهر فيها برؤيته، وأحظى باجتلاء فضله وروايته، وشكرت الله على ما يوليه من حسن صنعه، وسألته - جلت عظمته - أن يجعل النعمة راهنة بربعه، والسعادة جاذبة أبداً بضبعه، وسررت بما بشرني به من نجابة السيد الرئيس، الولد النفيس - أمتع الله ببقائه - ، وأتاح لي تجدد الأنس بلقائه، ولم أستبعد أن يقمر هلاله بل يبدر، ولا استبعدت أن يورق إن دوحته الزكية ويثمر، والله تعالى يمليه أطول الأعمار في رفاهة الأسرار، ومواتاة الأقدار حتى يعاين أسباطه، ويضاعف باجتماعهم وتضاعفهم بحوزته اغتباطه. فأما الملحة إن أمكن تنفيذها مع أحد المترددين إلى هذا المكان لألحق بها الزيادة، وأهذبها كما يطابق الإرادة، فأوعز به.
وأما درة الغواص في أوهام الخواص، فأرجو أن ينشئ الإصعاد إلى بغداد لتصفحها من البدء، وكأن قد، وإلى أن يسهل المأمول من الالتقاء، فما أولى همته الكريمة بإتحافي بالأنباء، وإنهاضي بما يسنح من الأوطار والأهواء، ورأيه أعلى إن شاء الله.
نسخة الكتاب الثاني، وهو المنفذ مع الملحة المذكورة:
لئن كانت الأيام أحسن مرة ... إلي لقد عادت لهن ذنوب

إذا فكرت - أطال الله بقاء سيدنا - وضاعف سعادته، وكبت حسدته فيما كان سمح به الزمان من تلك الملاقاة الحلوة، وإن كانت أقل من الحسوة أعظمت قيمة حسناه، ووجدتها أحلى إسعاف وأسناه، ثم فكرت فيما أعقب من الفرقة، وألهب في الصدر من الحرقة، وجدته كمن رجع في المنحة، وطمس الفرحة بالترحة، ولولا تعلة القلب المشجو بالتلاقي المرجو لذاب من اتقاد الشوق، ولقال: شب عمرو عن الطوق، وفي لوامح تلك الألمعية ما يغني عن تبيان تلك الطوية، وكان قد وصل من حضرته أنسها الله تعالى ما أعرب فيه عن كريم عهده، وتباريح وجده، فلم أستبدع العذوبة من ورده، ولا استغربت ما توالى من بره وحسن عهده، وبمقتضى هذه الأوامر والطول المتناصر انعكافي على الشكر، واعترافي بعوارفه الغر، فأما استطلاع ملحة الإعراب المشتبهة بالسراب، فقد آثرت خزائنه - عمرها الله تعالى - بمسودتها على شعب بنيتها، وشوه خلقتها، ولو لم تعرض حادثة العرب، العائقة عن كل أرب، لزففتها كما تزف العروس المقينة، والخطب المزينة، غير أني أرجو أن ترزق حظوة القباح، وألا تجبه بالذم الصراح، ولكتبه - حرس الله نعمته - عندي موقع أنفس التحف، وشكري على التكرم بها شكر من اتشح بها والتحف، وسيدنا أمين الدولة رئيس الحكماء مخدوم بأفضل دعاء، وأطيب ثناء وسلام، ولرأيه - أدام الله نعمته - في الإيعاز بالوقوف على ما شرحته وتمثل ما أوضحته - علوه إن شاء الله تعالى.
نسخة كتاب كتبه ابن الحريري إلى أبي الفتح بن التلميذ قبل اللقاء:
جزى الله خيراً والجزاء بكفه ... بني صاعد أهل السيادة والمجد
هم ذكروني والمهامه بيننا ... كما ارفض غيث في تهامة من نجد
لو أخذت في وصف شغفي بمناقب سيدنا - أطال الله بقاءه وأدام علاءه، وحرس نعماءه، وكبت حساده وأعداءه - وما أنا بصدد من مدح سودده، وشرح تطوله وتودده، لكنت بمثابة المغترين، في محاولة عد رمل يبرين، لكنني راج أن أحظى من ألمعيته الثاقبة، وبصيرته الصائبة، بما يمثل له عقيدتي ويطلعه على نخيلة مودتي، وما أملك في مقابلة مفاتحته التي أخلصت له إيجاب الحق وفضيلة السبق، إلا الثناء الذي أتلو صحائفه، والدعاء الذي أقيم في كل وقت وظائفه، والله سبحانه يحسن توفيقي لما يشيد مباني المودة، التي أعتدها أفضل مقاني العدة، ثم إني لفرط اللهج باستملاء فضائله النيرة، واستطلاع محاسنه المسيرة، وأسائل عن خصائصه الركبان، وأطرب بسماعها ولا طرب النشوان. ولما حضر الشيخ الأديب الرئيس أبو القاسم ابن الموذ - أدام الله تمكينه - ألفيته موالياً مغالياً، وداعية إليه وداعياً، فازددت كلفاً بما وعيته منه، وشغفاً بما استوضحته عنه، واستدللت على كمال سيدنا باستخلاص شكر مثله، وتحققت وفور أفضاله وفضله، فافتتحت المكاتبة بتأدية هذه الشهادة، واستمداد سنة المواصلة المعتادة، والتكرمة التي تقتضيها بواعث السيادة، ولرأيه في الوقوف على ما كتبته، والتطول فيه بما توجبه أريحيته، علوه إن شاء الله تعالى.
وكتب إلى سديد الدولة رسالة صدرها بهذين البيتين:
عندي بشكرك ناطقان فواحد ... آثار طولك واللسان الثاني
ومجال منتك التي أوليتني ... في الشكر أفصح من مجال لساني
وصدر رسالة أخرى إليه بهذه الأبيات:
أهنيك بل نفسي أهني بما سنى ... لك الله من نيل المنى وبما أسنى
شكرت زماني بعد ما كنت عاتباً ... عليه لما أسدى إليك من الحسنى
وأيقنت إذ واتاك أن قد تيقظت ... لإرضاء أهل الأرض مقلته الوسى
ففخراً بما في عظم فخرك شبهه ... ولا لك شبه في الأنام إذا قسنا
جمال الورى مليت تشريفك الذي ... أفاض عليك الصيت والعز والحسنى
ومن عجب أني أهنيك بالذي ... أهني به لكن كذا سن من سنا
وكتب إلى المؤيد أبي إسماعيل الطغرائي يهنئه بولاية الطغرا في سنة تسع وخمسمائة، فأجابه الطغراني بجواب هذا نسخته:
ما الروض أضحكت السحاب ثغوره ... وأفاح أنفاس الصبا منثوره
يوماً بأبهج من كتاب نمنمت ... يمناك يا شرف الكفاة سطوره
وافى إلي فتهت حين رأيته ... تيه الملى إذ رأى منشوره

فلثمته عشراً ولو قبلته ... ألفاً وألفاً لم أوف مهوره
وفضضته عن لؤلؤ ولو أنه ... للسمط زان فصوله وشذوره
وأجلت منه الطرف فيما راقه ... وأتاح للقلب الكئيب سروره
قسماً لأنت الفرد في الفضل الذي ... لولاك أطفأت الجهالة نوره
منك امترى لما ارتضعت لبانه ... وبك ازدهى لما احتلبت شطوره
فاسلم له حتى نجدد ما عفا ... منه وتجبر وهنه وكسوره
واعذر وليك إن تقاصر سعيه ... واغفر له تقصيره وقصوره
وصل من المجلس السامي المؤيدي - ضاعف الله علوه وأضعف عدوه، وأكمل سعوده وأكمد حسوده - كتاب اتسم بالمكرمة الغراء، وابتسم عن التكرمة العذراء فخلته كتاب الأمان من الزمان، وتلقيته كما يتلقى الغنسان صحيفة الغحسان، وقابلت ما أودع من البر والطول المبر، بالشكر الذي هو جهد المقل ونسك المستقل، ووجدت ما ألحف من التجميل وأتحف من الجميل ما كانت أطماعي تتوق إليه، وآمالي تحوم حواليه، إذ ما زلت منذ استمليت وصف المناقب المؤيدية، ورويت خبرها عن الرواية الشريفة الشرفية، أبعث قلمي على ان يفاتح، وأن يكون الرائد لي والماتح، وهو ينكص نكوص الهيوبة، وينكل نكول الهام عن الضريبة، فأكابد لإحجامه الأسى، وأزجي الأيام بلعل وعسى، إلى ان بديت وهديت، وأريت كيف يحي الله من يميت؟ فلم يبق بعد أن أنشط العقال واستدعى المقال، إلا أن أنقل الحشف إلى هجر وأزف الهشيم إلى الشجر، فأصدرت هذه الخدمة المتشحة بالخجل، المرتعشة من الوجل، وأنا معترف بسالف التقصير ومعتذر عنه باللسان القصير، فإن قربت عند الوصول، وقرنت بحظوة القبول، فلذلك الذي كانت تتمنى، وحق لي ولها أن تهنى، وإن ألغيت إلغاء الحوار في الدية، وندد بمفاضحها في الأندية، فما هضمت فيما قوبلت، ولا ظلمت إذ ما قبلت، على أن لكل امرئ ما نوى، وأن تعفوا أقرب للتقوى، وإن كان وضح اجتهادي فيما وقف من الوطر الذي تأكد فيه اعتراض القدر، وانتقاص النظر، فيا بردها على الكبد، ويا بشرى خادمه المجتهد، ثم إن استخدمت بعد في خدمة اجتهدت، وانتهزت فرصة فريضتها ولو جاهدت، وللرأي الشريف في الإمام بتحسين ما يتأمل، وتحقيق ما يؤمل، مزيد السمو إن شاء الله تعالى.

القاسم بن فيرة بن أبي قاسم
أبو محمد الرعيني ثم الشاطبي المقرئ، كان فاضلاً في النحو والقراءة، وعلم التفسير، وله لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نظم قصيدة من خمسمائة بيت في كتاب التمهيد لابن عبد البر. وكان شعره صعباً لا يكاد يفهم من ذلك قوله:
يلومونني إذ ما وجدت ملائماً ... ومالي مليم حين سمت الأكارما؟
وقالوا: تعلم للعلوم نفاقها ... بسحر نفاق تستخف العزائما
وهي قصيدة طويلة، وله:
بكى الناس قبلي لا كمثل مصائبي ... بدمع مطيع كالسحاب الصوائب
وكنا جميعاً ثم شتت شملنا ... تفرق أهواء عراض المواكب
وله قصيدة نظم فيها المقنع لأبي عمرو الداني في خط المصحف، وكان رجلاً صالحاً صدوقاً في القول مجداً في الفعل، ظهرت عليه كرامات الصالحين كسماع الأذان بجامع مصر وقت الزوال من غير مؤذن، ولا يسمع ذلك إلا عباد الله الصالحون، وكان يعذل أصحابه على أشياء لم يطلعوه عليها، وكان مولده في سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة. ومات رحمه الله يوم الأحد بعد صلاة العصر الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة، ودفن في مقبرة البيساني بسارية مصر بعد أن أضر. أخذ القراءة عن الشيخين الإمامين أبي الحسن علي بن هذيل، وأبي عبد الله محمد بن أبي العاص النفري.

قال الشيخ الإمام علم الدين أبو الحسن علي بن محمد السخاوي تلميذه وشارح قصيدته، وقد وصف دينه وروعه وصلاحه ثم قال: وذكرت له يوماً جامع مصر وقلت له قد قيل: إن الأذان يسمع فيه من غير المؤذنين ولا يدرى ما هو؟ فقال: قد سمعته مراراً لا أحصيها عند الزوال. وقال لي يوماً: جرت بيني وبين الشيطان مخاطبة فقال: فعلت كذا فسأهلكك فقلت له: والله ما أبالي بك. وقال لي يوماً: كنت في طريق وتخلف عني من كان معي وأنا على الدابة، وأقبل اثنان فسبني أحدهما سباً قبيحاً، فأقبلت على الاستعاذة وبقي كذلك إلى ما شاء الله، ثم قال له الآخر: دعه، وفي تلك الحال لحقني من كان معي فأخبرته بذلك، فطلب يميناً وشمالاً فلم يجد أحداً.
وكان رحمه الله يعذل أصحابه في السر على أشياء لا يعلمها منهم إلا الله عز وجل، وكان يجلس إليه من لا يعرفه فلا يرتاب به أنه يبصر، لأنه لذكائه لا يظهر منه ما يظهر من الأعمى في حركاته.

القاسم بن عمر بن منصور
الواسطي أبو محمد، مولده بواسط العراق في سنة خمسين وخمسمائة في ذي الحجة، ومات بحلب يوم الخميس رابع ربيع الأول سنة ست وعشرين وستمائة، أديب نحوي لغوي فاضل أريب، له تصانيف حسان، ومعرفة بهذا الشأن. قرأ النحو بواسط وبغداد على الشيخ مصدق بن شبيب، واللغة على عميد الرؤساء هبة الله بن أيوب، وقرأ القرآن على الشيخ أبي بكر الباقلاني بواسط، وعلى الشيخ علي بن هياب الجماجي بواسط أيضاً، وسمع كثيراً من كتب اللغة والنحو والحديث على جماعة يطول شرحهم علي، منهم: أبو الفتح محمد بن احمد بن بختيار الماندائي، واحمد بن الحسين بن المبارك بن نغوبا، سمع عليه المقامات عن الحريري، فانتقل من بغداد إلى حلب في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، فأقام بها يقرئ العلم ويفيد أهلها نحواً ولغةً وفنون علوم الأدب، وصنف بها عدة تصانيف، وهي على ما أملاه علي هو بباب داره من حاضر حلب في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وستمائة: كتاب شرح اللمع لابن جني، كتاب التصريف الملوكي لابن جني أيضاً، كتاب فعلت أو أفعلت بمعنى على حروف المعجم، كتاب في اللغة لم يتم إلى هذه المدة، كتاب شرح المقامات على حروف المعجم ترتيب العزيزي، كتاب شرح المقامات آخر على ترتيب آخر، كتاب خطب قليلة، كتاب رسالة فيما أخذ على ابن النابلسي الشاعر في قصيدة نظمها في الإمام الناصر لدين الله أبي العباس صلوات الله عليه أولها: الحمد لله على نعمه المتظاهرة، والصلاة على خير خلقه محمد وعترته الطاهرة، وبعد: فإنه لما أخرت الفضائل عن الرذائل، وقدمت الأواخر على الأوائل، ونبذ عهد القدماء، وجهل قدر العلماء، وصار عطاء الأموال باعتبار الأحوال لا باختيار الأقوال، وظهر عظيم الإجلال بالأسماء لا بالأفعال، علمت أن الأقدار هي التي تعطي وتمنع، وتخفض وترفع، فأخملت عند ذلك من ذكري وقدري، وأخفيت من نظمي ونثري، ولأمر ما جدع قصير أنفه ومن شعر فقه:
ومالي إلى العلياء ذنب علمته ... ولا أنا عن كسب المحامد باعد
وقلت: اصبر على كبد الزمان وكده، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده:
فلو لم يعل إلا ذو محل ... تعالى الجيش وانحط القتام
إلى أن بلغني ممن يعول عليه، ويرجع في القول إليه عن بعض شعراء هذا الزمان ممن يشار إليه بالبنان، أنه أنشد عنده بيت الوليد، يشهد له بالفصاحة والتجويد وهو قوله:
إذا محاسني اللائي أدل بها ... صارت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر؟
فقال مقال المفتري: كم قد خرينا على البحتري؟ فصبرت قلبي على أذاته وأغضيت جفني على قذاته حتى ابتدرني بالبادرة، التي يقصر عنها لسان الحادرة، فلو كان النابلسي كابن هانئ الأندلسي، لزلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، فيا لله العجب، متى أشرفت الظلمة على الضياء، أو علت الأرض على السماء؟ وأين السها من القمر؟ وكيف يضاهى الغمر بالغمر؟ فإنا لله، وأفوض أمري إلى الله، أفي كل سحاية أراع برعد؟ وفي كل واد بنو سعد:
وإني شقي باللئام ولا ترى ... شقياً بهم إلا كريم الشمائل
لقد تحككت العقرب بالأفعى، واستنت الفصال حتى القرعى:
وطاولت الأرض السماء سفاهة ... وفاخرت الشهب الحصا والجنادل

وما ذلك التيه والصلف؟ والتجاوز للحد والسرف، إلا لأنه كلما جر جريراً اعتقد أنه قد جر جريراً، وكلما ركب الكميت ظن انه ارتكب الكميت، وكلما أعظم من غير عظم، وأكرم من غير كرم، شمخ بأنفه وطال، وتطاول إلى ما لن ينال، وزعم أنه قد بلد لبيداً، وعبد عبيداً ولا والله ليس الأمر كما زعم، ولا الشعر كما نظم، ولكنها المكارم السلطانية الملكية الظاهرية التي نوهت بذكره فسترها، ورفعت من قدره فكفرها بقول سأذكره إذا انتهيت إليه. ولما طلب العبد كراعاً فأعطي ذراعاً، خرج على من يعرفه، وبهرج على من يكشفه، فقلت: لا مخبأ بعد بوس، ولا عطر بعد عروس:
وما أنا بالغيران من دون جاره ... إذا أنا لم أصبح غيوراً على العلم
وقصدت قصيداً من شعره، يزعم أنها من قلائد دره، قد هذبها في مدة سنين، ومدح بها أمير المؤمنين. وقال فيها:
فانظر لنفسك أي در تنظم؟
فكان لعمري ناظماً غير أنه ... كحاطب ليل فاته منه طائل
فوا عجباً كم يدعي الفضل ناقص؟ ... ووا أسفا كم يظهر النقص فاضل؟
وتتبعت ما فيها من غلطاته، وأظهرت ما خفي فيها من سقطاته، ولبست له جلد النمر. واندفقت عليه كالسيل المنهمر. بعد ان كتبها بخطه. وزينها بإعرابه وضبطه:
وابن اللبون إذا مالز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
فوجدته قد أخطأ منها في واحد وعشرين مكاناً، عدم فيها تمكناً من العلم وإمكاناً، فمنها ستة عشر موضعاً توضحها الكتابة والنظر، ومنها خمسة توضحها المجادلة والنظر فهذا من جيد مختاره وما يظهر على اختياره. وإن وقع إلى شيء من مزوق شعره أو منوق مستعاره، لأعصبنه فيه عصب السلمة، ولأعذبنه تعذيب الظلمة:
فإن قلتم: إنا ظلمنا فلم نكن ... بدأنا ولكنا أسأنا التقاضيا
ولو أنه اقتصر على قصوره، وأنفق من ميسوره، وستر عواره ولم يبد شواره لطويته على غره، ولم أنبه على عاره وعره فإن من سلك الجدد أمن العثار وسلم من سالم النقع المثار، ولكن كان كالباحث عن حتفه بظلفه، فلحق بالأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وخطؤه في هذه القصيدة ينقسم قسمين: قسم فاته فيه أدب الدرس، فيقسم أيضاً قسمين: قسم لغوي، وقسم صناعي، فأما القسم اللغوي: فإنه كذا وكذا لم يحتمل هذا المختصر ذكره. وأنشدني لنفسه من قصيدة:
ديباج وجهك بالعذار مطرز ... برزت محاسنه وأنت مبرز
وبدت على غصن الصبا لك روضة ... والغصن ينبت في الرياض ويغرز
وجنت على وجنات خدك حمرة ... خجل الشقيق بها وحار القرمز
لو كنت مدعياً نبوة يوسف ... لقضى القياس بأن حسنك معجز
وأنشدني لنفسه من قصيدة:
زهر الحسن فوق زهر الرياض ... منه للغصن حمرة في بياض
قد حمى ورده ونرجسه الغض ... ض سيوف من الجفون مواض
فإذا ما اجتنيت باللحظ فاحذر ... ما جنت صحة العيون المراض
فلها في القلوب فتكة باغ ... رويت عنه فتكة البراض
وإذا فوقت سهاماً من الهد ... ب رمين السهام بالأغراض
واغتنم بهجة الزمان وبادر ... شمس أيامه الطوال العراض
بشموس الكئوس تحت نجوم ... في طلوع من أفقها وانقضاض
واجل من جوهر الدنان عروساً ... نطقت عن جواهر الأعراض
كلما أبرزت أرتك لها وج ... ه انبساط يعطيك وجه انقباض
فعلى الأفق للغمام ملاء ... طرزتها البروق بالإيماض
وكأن الرعود إرزام نوق ... فصلت دونها بنات المخاض
أو صهيل الجياد للملك الظ ... ظاهر تسري بالجحفل النهاض
وأنشدني لنفسه يهجو ابن النابلسي المذكور:
لا تعجبن لمدلوي ... ه إذا بدا شبه المريض
قد ذاب من بخر بفي ... ه بدا من الخلق البغيض
وتكسرت أسنانه ... بالعض في جعس القريض
وتقطعت أنفاسه ... عرضاً بتقطيع العروض

وأنشدني لنفسه يهجو ابن النابلسي المذكور:
يا من تأمل مدلوي ... ه وشك فيما يسقمه
أنظر إلى بخر بفي ... ه وما أظنك تفهمه
ولا تحسبن بأنه ... نفس يغيره فمه
لكنما أنفاسه ... نتنت بشعر ينظمه
وأنشدنا لنفسه في ذي الحجة سنة عشرين وستمائة بحلب:
أرى بغضي على الجهلاء داء ... يموت ببغضه القلب العليل
فهم موتى النفوس بغير دفن ... وأحياء عزيزهم ذليل
يغطون السماء بكل كف ... لها في الطول تصير طويل
ويبدون الطلاقة. من وجوه ... كما يبدو لك الحجر الصقيل
إذا قاموا لمجد أقعدتهم ... مسالك ما لهم فيها سبيل
وإن طلبوا الصعود فمستحيل ... وإن لزموا النزول فما يزول
كذاك السجل في الدولاب يعلو ... صعوداً والصعود له نزول
وأنشدنا لنفسه بالتاريخ:
لنا صديق به انقباض ... ونحن بالبسط نستلذ
لا يعرف الفتح في يديه ... إلا إذا ما أتاه أخذ
فكفه كيف حين يعطي ... شيئاً وبعد العطاء منذ
وأنشدني لنفسه أيضاً:
لا ترد من خيار دهرك خيراً ... فبعيد من السراب الشراب
رونق كالحباب يعلو على الكا ... س ولكن تحت الحباب الحباب
عذبت في النفاق ألسنة القو ... م وفي الألسن العذاب العذاب
وأنشدني لنفسه أيضاً موشحة على طريقة المغاربة:
في زهرة وطيب ... بستاني من أوجه ملاح
أجلو على القضيب ... ريحاني والورد والأقاح
ما روضة الربيع ... في حلة الكمال
تزهو على ربيع ... مرت به الشمال
في الحسن كالبديع ... بالحسن والجمال
ناهيك من حبيب ... نشوان بالدل وهو صاح
إن قلت وا لهيبي ... حياني من ثغره براح
كم بت والكئوس ... تجلى من الدنان
كأنها عروس ... زفت من الجنان
تبدو لنا الشموس ... منها على البنان
لم أخش من رقيب ... ينهاني ألهو إلى الصباح
من شادن ربيب ... فتان زندي له وشاح
خيل الصبا بركضي ... تجري مع الغواه
في سنتي وفرضي ... لا أبتغي سواه
وحجتي لعرضي ... ما تنقل الرواه
عن عاقل لبيب ... أفتاني أن الهوى مباح
والرشف من شنيب ... ريان ما فيه من جناح
وأنشدني لنفسه أيضاً موشحة:
أي عنبرية ... في غلائل الغلس
من زبرجديه ... تنبه النعس
جادها الغمام ... فانتشى بها الزهر
وابتدا الكمام ... أعيناً بها سهر
وشدا الحمام ... حين صفق النهر
وارتدت عشيه ... كملابس العرس
حللا سنيه ... ما دنت من الدنس
واملإ الكئوسا ... فضة على الذهب
واجلها عروساً ... توجت من الشهب
تطلع الشموسا ... في سناً من اللهب
فلها مزيه ... في الدجى على القبس
بحلىً شهيه ... كمحاسن اللعس
مخبر سناها ... عن تطاير الشرر
فاز من جناها ... من قلائد الدرر
فإن تناهى ... في الخلائق الغرر
قلت ظهريه ... أظهرت لملتمس
من علا أبيه ... ما تنال بالخلس
وأنشدني لنفسه أيضاً:
لا خير في أوجه صباح ... تسفر عن أنفس قباح
كالجرح يبني على فساد ... بظاهر ظاهر الصلاح

فقل لمن ما له مصون ... أصبت في عرضك المباح
وأنشدني أيضاً لنفسه:
جد الصبا في أباطيل الهوى لعب ... وراحة اللهو في حكم النهي تعب
وأقرب الناس من مجد يؤثله ... من أبعدته مرامي العزم والطلب
وقادها كظلام الليل حاملة ... أهلة طلعت من بينها الشهب
منقضة من سماء النقع في أفق ... شيطانه بغمام الدرع محتجب
واسود وجه الضحى مما أثار به ... وأشرق الأبيضان الوجه والنسب
في موقف يسلب الأرواح سالبها ... حيث المواضي قواض والقنا سلب
لا يرهب المرء ما لم تبد سطوته ... لو لا السنان استوى الخطي القصب
إن النهوض إلى العلياء مكرمة ... لها التذاذان مشهود ومرتقب
والملك صنفان محصول وملتمس ... والمجد نوعان موروث ومكتسب
والناس ضدان مرزوق ومحترم ... تحت الخمول ومغصوب ومغتصب
والطاهر النفس لا ترضيه مرتبة ... في الأرض إلا إذا انحطت لها الرتب
والفضل كسب فمن يقعد به نسب ... ينهض به الأفضلان العلم والحسب
لله در المساعي ما استدر بها ... خلف السيادة إلا أمكن الحلب
وحبذا همة في العزم ما انتدبت ... لمبهم الخطب إلا زالت الحجب
وموطن يستفاد العز منه كما ... أفادت العز من سلطانها حلب
ومنها:
مؤيد الرأي والرايات قد ألفت ... ذوائب القوم من راياتها العذب
إن نازلوه وقد حق النزال فمن ... أنصاره الخاذلان الجبن والرعب
أو كاتبوه فخيل من كتائبه ... تجيب لا المخبران الرسل والكتب
مغاور ينهب الأعمار ذابله ... في غارة الحرب والأموال تنتهب
في جحفل قابلوا شمس النهار على ... مثل البحار بمثل الموج يضطرب
حتى كأن شعاع الشمس بينهم ... فوق الدروع على غدرانها لهب
ما أنكر الهام من أسيافه ظبة ... وإنما أنكرت أسيافه القرب
ما يدفع الخطب إلا كل مندفع ... في مدحه الأفصحان الشعر والخطب
ومن إذا ما انتمى في يوم مفتخر ... أطاعه العاصيان العجم والعرب
وأنشدني من قصيدة لنفسه أيضاً:
أفي البان إن بان الخليط مخبر؟ ... عسى ما انطوى من عهد لمياء ينشر
فكم حركات في اعتدال سكونها ... أحاديث يرويها النسيم المعطر
يود ظلام الليل وهو ممسك ... لذاذتها والصبح وهو مزعفر
أحاديث لو أن النجوم تمتعت ... بأسرارها لم تدر كيف تغور؟
يموت بها داء الهوى وهو قاتل ... ويحيا بها ميت الجوى وهو مقبر
فيا لنسيم صحتي في اعتلاله ... وصحوي إذا ما مر بي وهو مسكر
كأن به مشمولة بابلية ... صفت وهي من غصن الشمائل تعصر
إذا نشأت مالت بلبك نشوة ... كما مال مهزور يماح ويمطر
وقال يمدح الوزير جمال الدين القاضي الأكرم أبا الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم الشيباني القفطي من صعيد مصر ويلتمس منه أن يرتبه في خدمة:
يا سيدي قد رميت من زمني ... بحادث ضاق عنه محتملي
وأنت في رتبة إذا نظرت ... إلي صار الزمان من قبلي
والنظم والنثر قد أجدتهما ... فيك فلا تترك الإجادة لي
فداك قوم إذا وقفت بهم ... رأيتني راقفاً على طلل
تشغل أموالهم مساعيهم ... فهم عن المكرمات في شغل
تحمي حماها أعراضهم فإذا ... ماتت حماها سور من البخل
معاول الذم فيه عاملة ... إعمالها في مغائر الجبل
نعلك تاج إذا رفعتهم ... لرأس حاف منهم ومنتعل
فاسمع حديثي في مغازلة ... تبث شكوى في موضع الغزل
قد كنت في راحة مكملة ... أحيي المعالي بميت الأمل

أرفل في عزة القناعة في ... ذيل على النائبات منسدل
فعند ما طالت البطالة بي ... وصار لي حاجة إلى العمل
قال أناس نبه لها عمراً ... فقلت حسبي رأي الوزير علي
يعني عمر بن الوبار أحد حجاب أتابك طغرل شهاب الدين الخادم المستولي في أيامنا على حلب وقلعتها:
قد بت من وعده على ثقة ... أمنت في حليها من العطل
فالأكرم ابن الكرام لو سبقت ... وعوده بالشباب لم يحل
يفر من وعده المطال كما ... تفر آراؤه من الزلل
أخلاقه حلوة المذاق فلو ... شبهتها ما ارتضيت بالعسل
تنظم دراً على الطروس كما ... ينظم در الحلي في الحلل
بمنطق لو سرت فصاحته ... في اللكن لاستعصمت من الخطل
تمج أحلافه إذا كتبت ... ماء المنى من أسنة الأسل
وإن سطت في ملمة نسيت ... صفين منها ووقعة الجمل
مبين علمه لسائله ... مسائلاً أشكلت على الأول
لكل علم في بابه علم ... يهدي إلى قبلة من القبل
أي جمال ما فيه أجمله ... على وجوه التفصيل والجمل؟
جل الذي أظهرت بدائعه ... منه معاني الرجال في رجل

القاسم بن محمد بن بشار الأنباري
أبو محمد والد أبي بكر محمد بن الأنباري، كان محدثاً أخبارياً، ثقة صاحب عربية، أخذ عن سلمة بن عاصم وأبي عكرمة الضبي، مات سنة أربع وثلاثمائة غرة ذي القعدة، وقال ثابت بن سنان: مات في صفر سنة خمس وثلاثمائة ومن خطه نقلت: قال محمد بن إسحاق: وله من التصانيف: كتاب خلق الإنسان، كتاب خلق الفرس، كتاب الأمثال، كتاب المقصور والممدود، كتاب المذكر والمؤنث، كتاب غريب الحديث، كتاب شرح السبع الطوال، رواها أبو غالب بن بشران عن علي بن كردان عن أبي بكر أحمد بن محمد بن الجراح الخراز عن أبي بكر عن أبيه.
ومما يروى لابن الأنباري هذا:
إني بأحكام النجوم مكذب ... ولمدعيها لائم ومؤنب
ألغيب يعلمه المهيمن وحده ... وعن الخلائق أجمعين مغيب
الله يعطي وهو يمنع قادراً ... فمن المنجم ويحه والكوكب؟
قرأت في كتاب الفهرست الذي تممه الوزير الكامل أبو القاسم المغربي ولم أجد هذا في النسخة التي بخط المصنف، أو قد ذهب عن ذكرى قال: ذكر أبو عمر الزاهد قال: أخبرني أبو محمد الأنباري قال: قدمت إلى بغداد ومحمد صغير وليس لي دار، فبعث بي ثعلب إلى قوم يقال لهم بنو بدر فأعطوني شيئاً لا يكفيني وذكروا كتاب العين فقلت: عندي كتاب العين، فقالوا لي: بكم تبيعه؟ فقلت بخمسين ديناراً، فقالوا لي قد أخذناه بما قلت إن قال ثعلب إنه للخليل، قلت: فإن لم يقل إنه للخليل بكم تأخذونه؟ قالوا بعشرين ديناراً، فأتيت أبا العباس من فوري فقلت له: يا سيدي، هب لي خمسين ديناراً. فقال لي: أنت مجنون، وهذا تأكيد، فقلت له: لست أريد من مالك وحدثه الحديث، قال: فأكذب؟ قلت حاشاك، ولكن أنت أخبرتنا أن الخليل فرغ من باب العين ثم مات، فإذا حضرنا بين يديك للحكومة فضع يدك على ما لا تشك فيه. فقال: تريد أن أنجش لك؟ قلت نعم، قال هاتهم، فبكروا وسبقوني، وحضرت فأخرجوا الكتاب وناولوه وقالوا: هذا للخليل أم لا؟ ففتح حتى توسط باب العين وقال: هذا كلام الخليل ثلاثاً، قال: فأخذت خمسين ديناراً.
القاسم بن محمد الديمرتي
أبومحمد الأصبهاني من قرية من قراها يقال لها ديمرت، روى عن إبراهيم بن متونة الأصبهاني، وقال حمزة: أبو محمد القاسم الديمرتي لغوي نحوي، عني في صغره بتصحيح كتب وقراءاتها، ثم هو منتصب منذ أربعين سنة تقرأ عليه الكتب.
وحدث أبو نصر منصور بن أحمد بن محمد بن الشيرازي خازن كتب عضد الدولة ومعلم ولده صمصام الدولة وقاضي فارس وأعمالها: قال: أنشدنا أبو محمد القاسم بن محمد الديمرتي لنفسه وقد سئل أن يجمع الشعراء العشرة:
الأصل أن تحكم شعر العشرة ... أشعار قوم في زمان لم تره
أشعار بشر ولبيد وعدي ... نعم والأعشى وعبيد الأسدي
حتى إذا أحكمت شعر النابغة:.......

فابتد في شعر امرئ القيس ... فالفخر في ذاك وشعر أوس
وابتدر القوم وفيهم طرفه ... وكل ما قال زهير في صفه
قال المؤلف: وهذا شعر هذا العلامة كما ترى في غاية الركاكة والرداءة، ولم يستطع تصريع البيت الذي فيه ذكر النابغة.
قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب تقويم الألسنة، كتاب العارض في الكامل، كتاب تفسير الحماسة، كتاب غريب الحديث، كتاب الإبانة.
قال حمزة: وله كتب كبار وصغار، فمن كبار كتبه: كتاب الصفات، كتاب تفسير ضروب المنطق، كتاب سماه كتاب تهذيب الطبع يشتمل على قطعة كبيرة من نوادر اللغة. ذكره أبو نعيم في تاريخ أصبهان فقال: القاسم بن محمد الديمرتي الأديب أبو محمد روى عن إبراهيم بن متونة، وإسحاق بن جميل، ومحمد بن سهل بن الصباح.

الجزء السابع عشر
القاسم بن محمد بن رمضان
أبو الجود النحوي العجلاني: كان في عصر أبي الفتح بن جني وفي طبقته وهو بصري. قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب المختصر للمتعلمين، كتاب المقصود والممدود، كتاب المذكر والمؤنث، كتاب الفرق.
القاسم بن محمد بن الواسطي
مباشر الواسطي أبو نصر النحوي، لقي ببغداد أصحاب أبي العلي، وتنقل في البلاد حتى نزل مصر فاستوطنها فقرأ عليه أهلها، وأخذ عنه أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ وبه تخرج، وزوجه من أخته، وكان ابن بابشاذ يخدمه وبه انتفع، ومات بمصر. وله من الكتب: كتاب شرح اللمع، كتاب في النحو رتبه على أبواب الجمل، وشرح من كل باب مسألة.
القاسم بن معن المسعودي
هو أبو عبد القاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله ابن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن غافل ابن حبيب بن شمخ بن فاد مخزوم بن صاهلة بن كاهل ابن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس ابن مضر بن نزار بن معد بن عدنان من أهل الكوفة، وكان فقيهاً على رأي أبي حنيفة ولقيه، وكان عالماً ولي القضاء بالكوفة ومات سنة خمس وسبعين ومائة، خرج مع بعض أسباب الرشيد إلى الرقة فمات في رأس عين.
وقال أحمد بن كامل القاضي: مات القاسم بن معن في سنة ثمان وثمانين ومائة. قال المرزباني: والأول أصح. وقال عبد الله بن جعفر: من علماء الكوفة بالعربية والفقه والشعر والأخبار والنسب، القاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فقيهاً محدثاً قاضياً، وله في اللغة: كتاب النوادر، كتاب غريب المصنف، وكتب في النحو، ومذهب متروك. وكان الليث بن المظفر صاحب الخليل بن أحمد من أخذ عنه النحو واللغة وروى عنه، وأدخل في كتاب الخليل من علم القوم شيئاً فأفسد الكتاب، إلا أن القاسم من المحدثين والفقهاء والزهاد والثقات، ولم يكن له بالكوفة في عصره نظير ولا أحد يخالفه في شيء يقوله، والفراء كثير الرواية عنه.
وحدث محمد بن سعد قال: القاسم بن معن يكنى أبا عبد الله ولي قضاء الكوفة ولم يرزق عليه شيئاً حتى مات، وكان عالماً بالحديث والفقه والشعر والنسب وأيام الناس، وكان يقال له شعبي زمانه، وكان ثقةً سخياً.
وقال أحمد بن كامل: كان القاسم بن معن الهذلي قاضي الكوفة، وكان من أصحاب أبي حنيفة الأثبات في النقل، الرفعاء في اللغة والفقه.
وحدث حماد بن إسحاق الموصلي قال: سمعت محمد بن كناسة قال: سمعت القاسم بن معن يقول: دخلت على عيسى بن موسى فقال لي: ما بعثت إليك إلا لخير. قال: فهان والله في عيني حتى جلست واحتبيت في مجلسه. فقال لي تحتبي في مجلسي؟ يا غلام حل حبوته. قال: قلت لا عدمت نقويم الأمير. قال: بعثت إليك لأوليك القضاء. قلت: لا أفعل. قال: إن أبيت ضربتك خمسة وسبعين سوطاً. قال: قلت لا يجيء من بعد السبعين. قال قلت: وإن لم أفعل فعلت؟ قال نعم. قالقلت فذا إلي.

وحدث الهيثم بن عدي قال: استقضي المنصور على الكوفة بعد عبد الرحمن بن أبي ليلى، شريك بن عبد الله النخعي فلم يزل قاضياً حتى كانت خلافة الرشيد فاستقضى نوح بن دراج. وحدث المرزباني عن علي بن صالح عن القاسم ابن معن قال: عدت خشافاً في مرضه الذي مات فيه فقال لي: يا أبا عبد الله، ما أشوقني إليك! ولو كان لي نهوض خرجت إليك، ولولا أن بيتي قد آلى فأكرس لأحببت أن تدخله - يريد بالموالاة البعر بعر الشاء، وأكرس من الكرس هو السرجين - . قال العجاج:
يا صاح هل تعرف رسماً مكرساً
وكان خشاف من علماء أهل الكوفة باللغة. وحدث عن سليمان بن أبي شيخ قال: قال ابن حبيبات الكوفي للقاسم بن معن المسعودي القاضي:
يا أيها العادل الموفق وال ... قاسم بين الأرامل الصدقه
ماذا ترى في عجائز رزح ... أمسين يشكين قلة النفقه؟
ما إن لهن الغداة من نشب ... يعرف إلا قطيفة خلقه
بنات تسعين قد خرفن فما ... يفصلن بين الشواء والمرقة
فهن لولا انتظارهن دنا ... نيرك قطعن بعد في السرقه
قال: فقال القاسم: العجب أنه يوجب علينا دنانير ولا يوجب دراهم. قال وأعطاه ثلاثة دنانير.

قتادة بن دعامة السدوسي
أبو الخطابي وكان أكمة ولد أعمى، وكان أبوه أعرابياً ولد بالبادية وأمه سرية من مولدات الأعراب، وكان يقول بشيء من القدر ثم رجع عنه. ويقال أيضاً: إنه كان ذا علم في القرآن والحديث والفقه.
قال الأصمعي: وقتادة حاطب ليل من الطبقة الثالثة من النابغين بالبصرة، مات بالبصرة سنة سبع عشرة ومائة في أيام هشام بن عبد الملك، وأخذ القراءة عن الحسن البصري وابن سيرين. عن التوزي عن أبي عبيدة قال: ما كنا نفقد في كل أيام راكباً من ناحية بني أمية ينيخ على باب قتادة يسأله عن خبر أن نسب أو شعر، وكان قتادة أجمع الناس. ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي عن محمد بن سلام الجمحي عن عامر بن عبد الملك المسمعي قال: لقد كان الرجلان من بني مروان يختلفان في بيت شعر فيرسلان راكباً إلى قتادة يسأله قال: ولقد قدم عليه رجل من عند بعض الخلفاء من بني مروان فقال لقتادة: من قتل عمراً وعامراً؟ فقال: قتلهما جحدر بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. قال: فشخص بها ثم عاد إليه فقال: أجل، قتلهما جحدر ولكن كيف قتلهما جميعاً؟ فقال: اعتوراه فطعن هذا بالسنان وهذا بالزج، فعادى بينهما.
قال أبو يحيى الساجي: حدثنا نصر بن علي الجهضمي مولاي عن خالد بن قيس قال: قال قتادة: ما نسيت شيئاً قط ثم قال: يا غلام ناولني نعلي، قال: نعلك في رجلك.
قثم بن طلحة بن علي بن محمد
بن علي ابن الحسن، الزينبي أبو القاسم، يعرف بابن الأتقى، وهو لقب أبيه طلحة، تولى قثم نقابة العباسيين مرتين: أولاهما في أيام المستضيء بأمر الله في سنة ست وستين وخمسمائة، وعزل في ذي الحجة سنة ثمان وستين. والثانية في صفر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة في أيام الناصر، وعزل في سابع عشر ذي الحجة تسعين، وولي بعد ذلك حجابة باب النوبي يوم الخميس خامس عشر ذي القعدة سنة ستمائة، فوقعت فتنة ببغداد بين أهل باب الأزج والمأمونية فركب ليسكن الفتنة فلم تسكن، فأخذ بيده حربة وحمل على إحدى الطائفتين ونادة يا لهاشم، وتداركه الشحنة حتى سكنت الفتنة، فعيب عليه وقيل: أردت خرق الهيبة، لو ضربك أحد العوام فقتلك، فعزل عن حجبه الباب في ثالث عشر من شهر رمضان سنة إحدى وستمائة ولم يستخدم بعد ذلك.
وكان فيه فضل وتميز ومعرفة بالعلم وحرص عليه جداً، خصوصاُ ما يتعلق بالأنساب والأخبار والأشعار، وجمع في ذلك جموعاً بأيدي الناس، وكتب الكثير بخطه المليح إلا أن خطه لا يخلو من السقط مع ذلك، وسمع الحديث من أبي عبد الله الحسين بن عبد الرحمن الغزي، وأبي بكر أحمد بن المقرب الكرخي، وأبي الفتح محمد بن عبد الباقي بن سليمان وغيرهم. وسئل عن مولده فقال: في سابع محرم سنة خمسين وخمسمائة، ومات في سادس رجب سنة سبع وستمائة.
قدامة بن جعفر بن قدامة الكاتب
أبو الفرج، كان نصرانياً وأسلم على يد المكتفي بالله، وكان أحد البلغاء الفصحاء، والفلاسفة الفضلاء، وممن يشار إليه في علم المنطق، وكان أبوه جعفر ممن لا يفكر فيه ولا علم عنده.

وذكر أبو الفرج بن الجوزي في تاريخه: قدامة بن جعفر بن قدامة أبو الفرج الكاتب، له كتاب في الخراج وصناعة الكتابة، وقد سأل ثعلباً عن أشياء. مات في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة في أيام المطيع، وأنا لا أعتمد على ما تفرد به ابن الجوزي لأنه عندي كثير التخليط، ولكن آخر ما علمنا من أمر قدامة أن أبا حيان ذكر أنه حضر مجلس الوزير الفضل بن جعفر بن الفرات وقت مناظرة أبي سعيد السيرافي ومتى المنطقي في سنة عشرين وثلاثمائة. قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب الخراج تسع منازل، كان ثمانية منازل فأضاف إليه تاسعاً، كتاب نقد الشعر، كتاب صابون الغم، كتاب صرف الهم، كتاب جلاء الحزن، كتاب درياق الفكر، كتاب السياسة، كتاب الرد على ابن المعتز فيما عاب به أبا تمام، كتاب حشوحشاء الجليس، كتاب صناعة الجدل كتاب الرسالة في أبي علي بن مقلة وتعرف بالنجم الثاقب، كتاب نزهة القلوب وزاد المسافر، كتاب زهر الربيع في الأخبار.
وبلغني عن بعض متعاطي علم الأدب أنه شرح كتاب المقامات الحريرية فقال عند قوله: ولو أوتي بلاغة قدامة. إن قدامة بن جعفر كان كاتباً لبني بويه، وجهل في هذا القول فإن قدامة كان أقدم عهداً. أدرك زمن ثعلب والمبرد وأبي سعد السكري وابن قتيبة وطبقتهم، والأدب يومئذ طرئ فقرأ واجتهد، وبرع في صناعتي البلاغة والحساب، وقرأ صدراً صالحاً من المنطق وهو لائح على ديباجة تصانيفه، وإن كان المنطق في ذلك العصر لم يتحرر تحريره الآن، واشتهر في زمانه بالبلاغة ونقد الشعر، وصنف في ذلك كتباً منها: كتاب نقد الشهر له وقد تعرض ابن بشر الآمدي إلى الرد عليه فيه، وله كتاب في الخراج رتبه مراتب. وأتى فيه بكل ما يحتاج الكاتب إليه، وهو من الكتب الحسان إلى غير ذلك من الكتب، ولم يزل يتردد في أوساط الخدم الديوانية بدار السلام إلى سنة سبع وتسعين ومائتين، فإن الوزير أبا الحسن ابن الفرات لما توفي أخوه أبو عبد الله جعفر بن محمد بن الفرات في يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة سبع وتسعين ومائتين، وكان أسن من أخيه أبي الحسن بن محمد الوزير بثلاث سنين، رد ما كان إليه من الديوان المعروف بمجلس الجماعة إلى ولده أبي الفتح الفضل بن جعفر وإليه ديوان المشرق، ثم ظهر له بعد ذلك اختلال من النواب فولاه لولده أبي أحمد المحسن، واستخلف المحسن عليه القاسم بن ثابت، وجعل قدامة بن جعفر يتولى مجلس الزمام في هذا الديوان، وبانت عند صناعة المحسن، وأثار من جهة العمال أموالاً جليلة.

قعنب بن المحرر الباهلي أبو عمرو
الرواية من أهل البصرة المكثرين، وكان أو هفان يتردد إليه فأخذ عنه ثم وجد عليه فهجاه. حدث قعنب قال: دخلت على سعيد بن سلم الباهلي وهو يضحك فسألته عن سبب ذلك فقال: جاءتني جارية ليست عندي كغيرها فغمزتني فانتشرت فقلت: ادعي لي فلانة لجارية كنت أهواها، فقالت لا والله، فقلت: ولم؟ قالت لأنك تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحيا أرضاً مواتاً فهي له). وقد أحييت أنا هذا فهو لي فواقعتها وما كنت فعلت ذلك قبل، وقربت من قلبي.
وحدث أبو العيناء قال: كان قعنب الباهلي قد تعشق فتى من فتيان المهالبة واتصل بأبيه وبخادم له ثم نذر به. فدعاه الفتى وقد جمع له عدة من المهالبة ومواليهم إلى بستان له فأكلوا وشربوا، ثم حملهم على قعنب فهتكوا ستره. فقال أبو العالية الشامي:
نبئت أن المرء قعنب ... دمرت عليه بنو المهلب
بأسنة تدع الكمي ... ي وأنفه دام مترب
فتجلت الغمى وكل ... ل سلاحهم بدم مخضب
قال أبو العيناء: فحدث بهذا الحديث الأصمعي بحضرتي، فذهبت أذب عن قعنب تقرباً إلى الأصمعي للباهلية بينهما. فقال الأصمعي: أسكت يا بني، فقد بلعني أنه لقي بكمر ككيزان الفقاع عندها إرزاز. وقال عبد الصمد بن المعذل في قعنب:
أراك الله يا دلفاء ما قد ... لقيه قعنب يوم الهنيه
غدا يبغي النكاح فعاد فيه ... أيور كالعصى مهلبيه
تشقق دبره ويقول هذا ... جزاء ذوي التلوط بالنشيه

وحدث عمر بن محمد الفقيه قال: سمعت محمد بن عثمان ابن أبي شبيبة يقول: سمعت عمي القاسم بن أبي شبيبة يعاتب قعنب بن المحرر في شربه النبيذ ويقول له: قد كبرت وشخت فلو تركته. فقال له قعنب: يا أبا محمد لم تجد وقتاً تعاتبني فيه إلا أيام الورد

قنبل بن عبد الرحمن
بن محمد بن خالد ابن سعيد بن جرجة المكي. قال أبو علي الأهوازي: سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد العجلي المقرئ بالبصرة يقول: هو أبو عمر قنبل بن عبد الرحمن، وقنبل لقب غلب عليه، وإنما سمي بذلك لأنه كان يستعمل دواء يقال له قنبيل يسقى للبقر معروف عند العطارين لمرض كان به فسمى بذلك. وقيل: بل هو من قوم يقال لهم القنابلة من أهل مكة، ولو كان كذلك لقيل له قنبلي. مات سنة إحدى وتسعين ومائتين في أيام المكتفي عن ست وتسعين سنة، لأن مولده في سنة خمس وتسعين ومائة في أيام الأمين، وكان قد قطع الإقراء قبل موته بعشر سنين. قرأ على عبد الله ابن كثير وكان من جلة أصحابه، ومن جهته انتشرت قراءته، وكان قنبل يلي الشرطة بمكة، وكان لا يليها إلا أهل العلم والفضل لتقوم بواجباتها، وكان ابن مجاهد يزعم أنه قرأ عليه، وكان ابن شنبوذ يدفع ذلك، وكان ابن مجاهد يقول: قرأت على قنبل ولا يقول قرأت القرآن من أوله إلى آخره عليه.
حدث ابن طرادة الحلواني قال: سألت أبا الحسين بن المنادي وقلت له: إن ابن مجاهد يزعم أنه قرأ على قنبل وابن شنبوذ في سنة واحدة في سنة تسع وسبعين ومائتين، ونحن على نية القراءة على قنبل فوجدناه قد اختل واضطرب وخلط في القراءات، فأما أنا فلم أقرأ عليه ولا حرفاً واحداً، وأما ابن مجاهد فإنه قرأ عليه بعض القرآن فخلط عليه فترك القراءة وأخرج له تعليق ابن عون الواسطي عنه، وكان معه فقرأه عليه إلى آخره، وأما ابن شنبوذ فإنه جاور سنتين بمكة وقرأ عليه ختمتين. فقول ابن مجاهد قرأت عليه يصدق، يعني بعض القرآن، وقول ابن شنبوذ لم يقرأ عليه يصدق يعني القرآن كله لم يقرأه عليه.
باب الكاف
كامل بن الفتح
ابن ثابت بن سابور أبو تمام الضرير من أهل بادرايا سكن بغداد، وكان أديباً فاضلاً ذكياً جداً، قرأ فنون العلم وحفظ الأشعار والأخبار، وأخذ أهل الأدب ببغداد عنه علماً كثيراً وكان متهماُ في دينه. مات سنة ست وتسعين وخمسمائة، وكان يسكن باب الأزج، وصاهر بني زهمويه الكتاب وله ترسل وشعر، وقد سمع شيئاً من الحديث من أبي الفتح علي بن علي زهموية، وقيل إنه كان يدخل على الناصر ويحاضره ويخلو معه، وأنه علمه علم الأوائل وهون عليه الشرائع والله أعلم. ومن شعره:
وفي الأوانس من بغداد آنسة ... لها من القلب ما تهوى وتختار
ساومتها نفثة من ريقها بدمي ... وليس إلا خفي الطرف سمسار
عند العذول اعتراضات ولائمة ... وعند قلبي جوابات وأعذار
كلاب بن حمزة العقيلي
أبو الهيذام اللغوي قال محمد بن إسحاق النديم: هو من أهل حران أقام بالباديه، وقيل: إنه كان معلماً ودخل الحضرة أيام القاسم بن عبيد الله بن سليمان ومدحه، وكان عالماً بالشعر وخطه معروف وخلط المذهبين، وكان أبو الحسين محمد ابن محمد بن لنكك البصري الشاعر مولعاُ بهجوه، وكان أبو الهيذام قد ورد البصرة. فمن قول ابن لنكك فيه:
نفسي تقيك أبا الهيذام كل أذى ... إني بكل الذي ترضاه لي راضي
ما بال جعسك مركوماً على ذكري ... يا أكرم الناس من باق ومن ماضي
ما كان أيرى فقيهاً إذ ظفرت به ... فكيف ألبسته دنية القاضي؟
ووجدت بخط أبي أحمد عبد السلام بن الحسين البصري للغوي ما صورته:
مسطح أصدر عكلا وله ... ضغث تشجذ قيظ بن فخز
هذا البيت لأبي الهيذام كلاب بن حمزة العقيلي جمع فيه حروف المعجم، فجعل ما لا ينقط في الصدر وما ينقط في العجز، أنشدنيه جماعة من أهل العلم منهم: أبو الحسن علي بن الحسين الآمدي النحوي - رحمه الله - .
وذكره المرزباني في كتاب المعجم فقال: أبو الهيذام كلاب بن حمزة العقيلي محدث، وهو القائل يرثي أبا أحمد يحيى بن علي المنجم، ومات سنة ثلاثمائة من قصيدة:
لقد عاش يحيى وهو محمود عيشة ... ومات فقيداً واحد العلم والجود

فإن كان صرف الدهر خلى كنوزه ... وأفقدنا منه بأنفس مفقود
فما زال حكم البيض والسود نافذاً ... بحكم الردى في أنفس البيض والسود
فللثكل يرجى حملها كل حامل ... وللموت يغذو والد كل مولود
قال محمد بن إسحاق النديم: وله من الكتب: كتاب جامع النحو، كتاب الأراكة، كتاب ما يلحن فيه العامة.
وأنشد الخالدي في كتاب الديرة لأبي الهيذام:
سقياً لحران إنه بلد ... أصبح للهو وهو مضمار
بقيعة سجسج تخرقها ... ومن حواشي الرياض أنهار
يشرع فيه من الصنوبر وال ... عرعر والزورفين أشجار
في يوم باعوثهم وقد نشروا الص ... صلبان والمسلمون نظار
فمن مهاة هناك هبلة ... ومن غزال عليه زنار
أزحم هذا وتلك تزحمني ... وفي الحشا والفؤاد إسعار
فعارضتني هناك شاطرة ... منهم بها في الذراع أسوار
تقول لي والدلال يصرعها ... أنحن يا مسلمون كفار؟
فقلت: يا غايتي ويا أملي ... بل أنتم المؤمنون أخيار
أطلب منها بذاك تقربة ... والشعراء الخباث فجار
فرق لي قلبها وملت بها ... في ديرزكي ونعمت الدار
تقول لي عند وقت منصرفي ... إنك من بعدها لغدار
حللت عقد الأمان منك لنا ... فما لعقد لديك إمرار
لا أنس يومي من الفتاة لدي الدي ... رين والمشركون حضار
فقلت: قد كان ذاك عن خطأ ... لا قود عندنا ولا ثار
استغفر الله ثم أسأله التو ... ب فليس بالذنوب إقرار
قرأت في جزازة عتيقة أملاها أبو الهيذام كلاب بن حمزة العقيلي ما صورته: قال أبو الهيذام: كتبت إلى أبي الحسن محمد بن عبد الوهاب الزينبي الهاشمي بالبصرة بما توهم أنه مديح له وهو:
إسلم على الدهر يا أبا الحسن ... وعش على ما تود ألف سنه
فأنت عندي حليف ضد سوى ... غير حليف الشمائل الحسنة
وأنت سلم لحرب سلم عدى ... حرب عداة اللئام والخونه
يعجب منك الكرام أعجب ما ... يدعو به الله عاقل فتنه
فهو يرى فرقة الفراق لما ... يخشى من الخير غاية الأمنه
إذا بنور الهدى توسم أع ... راض معاريض دهره الدرنه
كم سائل عنك يا محمد لا ... يأذن خلق لجابتي أذنه
ألقيت في روعه جواب فتى ... لو غبن عاقلاً غبنه
إن قلت شروى أبي حسن ... للعرض بالمال أصون الصونه
سنته غرة وناصية للز ... زينبيين فاجتنب سننه
لا سيما وهو قلقل ذهن ... يهرب من رجم ذهنه الشطنه
قد كان بالأمس قال لي وجرى ... ذكر شقي حرمته وسنه
بعداً وسحقاً لمن يشرف بال ... مدح ولم يعط شاعراُ ثمنه
وكيف تحتال فيه إن خزن الن ... نذل وأعطاك خازناً وسنه؟
فقلت: أبدي بكل سيئة ... من مدحه في هجائه حسنه
لعل رب العباد يغفر بال ... عفو أباطيل مدحه اللحنه
كقاتل الصيد وهو في حرم ال ... له يجازي الحمار بالبدنه
والثور بالثور والغزالة ال ... شاة وجفراً بالأرنب الأرنه
أليس هذا الجزاء أثقل إذ ... أحضر للوزن والحساب زنه
ولا تطع في السماح متهماً ... أخلاقه بالسفال ممتحنه
فأنت من أسرة مفضلة ... على كرام الأخلاق مؤتمنه
والزينبيون معشر زهر ... لا سر يلقى وهم له خزنه

غير سوى ضد غير غيرهم ... أيديهم بالسماح مرتهنه
فلا تضع يا ابن خيرهم أملي ... فيك فعقبي الفعال مختزنه

بنت الكنيري
حدث أبو نصر قال: ومن طريف ما شاهدته أنا: أنه كان في الجانب الشرقي بمدينة السلام امرأة تعرف ببنت الكنيري وكانت نهاية في الفضل، ولها أخ غاية في الجهل، وكانت حسنة المعرفة بالنحو واللغة، ولها تصانيف فيهما تعرف بها، واختصما في ميراث والدهما فطال التنازع بينهما، وحضرا يوماً مجلس والدي وزاد الكلام بينهما ونقص، فاغتاظ والدي من تفيهقها وحوشي كلامها، ومن سقطه وعاميته في مناقضتها ففطنت لذلك فقالت: أغاظ سيدنا الشيخ - أيده الله - ما يرى مني ومن هذا الأخ أصلحه الله؟. قال: كلا - إن شاء الله - ولكن جردي الدعوى فإنه أقرب للإيجاز. فقالت: - أيد الله الشيخ - ، في ذمته اثنان وعشرون ديناراً مطيعية سلامية. فقال له: ما الذي تقول؟ فقال: أما لها عندي اثنان وسكت، ورام أن يقول مثل ما قالت فلم يقدر فقال بالله يا سيدي كيف قالت فقد والله صدعتنا؟. فقال له: فضولك، قل كما تحسن، وضحك أهل المجلس وصار طنزاً، واندفعت الخصومة ذلك اليوم.
كلثوم بن عمرو العتابي الشاعر
قد ذكرنا أخباره مستوفاة في كتابنا أخبار الشعراء، وأما نسبه فهو كلثوم بن عمرو بن أيوب بن عبيد بن حبيش ابن أوس بن مسعود بن عبد الله بن عمرو الشاعر بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب ابن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل. وعمرو بن كلثوم المذكور في أجداده هو شاعر السبع الطوال، وكنية العتابي أبو عمرو، وأصله من الشام من أرض قنسرين، صحب البرامكة ثم صحب طاهر بن الحسين، وعلي بن هشام القائدين. وكان حسن الاعتذار في رسائله وشعره، يشبه في المحدثين بالنابغة في الجاهلية، فمن ذلك قوله في جعفر بن يحيى وقد كان بلغ الرشيد عنه ما أهدر به دمه، فخلصه جعفر فقال فيه:
ما زلت في غمرات الموت مطرحاً ... يضيق عني فسيح الرأي من حيلي
فلم تزل دائباً تسعى بلطفك لي ... حتى اختلست حياتي من يدي أجلي
قال محمد بن إسحاق النديم: وكان العتابي أديباً مصنفاً، وله من الكتب: كتاب المنطق، كتاب الآداب، كتاب فنون الحكم، كتاب الخليل لطيف، كتاب الألفاظ رواه أبو عمر الزاهد عن المبرد عنه.
قال العتابي: وقفت بباب المأمون أنتظر من يستأذن لي عليه فإذا أنا بيحيى بن أكثم فقلت: استأذن لي على أمير المؤمنين. قال: لست بحاجب. قلت: صدقت، ولكنك ذو فضل وذو الفضل معوان. قال: سلكت بي غير سبيلي. قلت: إن الله أتحفك بجاه وهو عليك مقبل بالزيادة إن شكرت، وبالتغيير إن كفرت، وأنا لنفسك خير منك لها، أدعوك إلى زيادة النعمة وبقائها عليك فتأباها. قال: فدخل على المأمون وحكى له ما جرى بيني وبينه، فاستحسنه وأذن لي.
قال جحظة في أماليه: كلم العتابي يحيى بن خالد في حاجة له كلمات قليلة. فقال له يحيى: لقد نزر كلامك اليوم وقل. فقال: له وكيف لا يقل وقد تكنفني ذل المسألة وحيرة الطلب وخوف الرد؟ فقال له يحيى: لئن قل كلامك لقد كثرت فوائده. وقال في أماليه: قال العتابي: لو سكت من لا يعلم عما لا يعلم سقط الاختلاف. ومن شعره.
ولو كان يستغني عن الشكر ماجد ... لعزة ملك أو علو مكان
لما أمر الله العباد بشكره ... فقال اشكروا لي أيها الثقلان
قال الحسن بن وهب: بلغ العتابي أن عمرو بن مسعدة ذكره عند المأمون بسوء فقال:
قد كنت أرجو أن تكون نصيري ... وعلى الذي يبغي على ظهيري
وطفقت آمل ما يرجى سيبه ... حتى رأيت تعلقي بغرور
فحضرت قبرك ثم قلت دفنته ... ونفضت كفي من ثرى المقبور
ورجعت مفترياً على الأمل الذي ... قد كان يشهد لي عليك بزور
فبلغ الشعر عمراً فركب من وقته إلى العتابي في موكبه حتى اعتذر إليه.
قال مالك بن طوق للعتابي: أما ترى عشيرتك - يعني بني تغلب - كيف تدل علي وتستطيل وأنا أصبر؟ فقال العتابي: أيها الأمير، إن عشيرتك من أحسن عشرتك، وإن ابن عمك من عمك خيره، وإن قريبك قرب منك نفعه، وإن أحب الناس إليك من كان أخفهم ثقلا عليك، وأنشده

إني بلوث الناس في حالاتهم ... وخبرت ما وصلوا من الأنساب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً ... وإذا المودة أوكد الأسباب
وقيل للعتابي لو تزوجت. فقال: إني وجدت مكابدة العفة خير من الاحتيال لمصلحة العيال، وما أحسن قول العتابي وأحكمه.
لوم يعيذك من سوء تقارفه ... أبقي لعرضك من قول يداجيكا
وقد رمى بك في تيهاء مهلكة ... من بات يكتمك العيب الذي فيكا
ومن منثور كلامه: أما بعد: فإنه ما من مستخلص غضارة عيش إلا من خلال مكروه، ومن انتظر بمعالجة الدرك مواجلة الاستقصاء سلبته الأيام فرصتها.
وكتب إلى آخر: من اجتمع فيه من خلال الفضل ما اجتمع فيك وانحاز إلى نواحيك، لم يخش المطنب في الثناء عليه أن يكون مفرطا كما لا يأمن أن يكون مفرطاً، فالاعتراف بالعجز عن بلوغ استحقاقك من التقريظ، أولى من الإطناب الذي غايته التقصير ومآله إلى الحشو.

كيسان بن المعروف النحوي
أبو سليمان الهجيمي قالوا: كان يخرج معنا إلى الأعراب فينشدونا، فيكتب في ألواحه غير ما ينشدونا، وينقل من ألواحه إلى الدفاتر غير ما فيها، ثم يحفظ من الدفاتر غير ما نقله إليها، ثم يحدث بغير ما حفظ.
وذكر أبو الطيب في كتاب مراتب النحويين عن الأصمعي قال: كيسان ثقة ليس بمتزيد، وقد أخذ عن الخليل.
وحدث أبو العيناء قال: قال كيسان لخلف الأحمر: يا أبا محرز، المخبل كان شاعراً أو من بني ضبة؟ فقال: يا مجنون صحح المسألة حتى يصح الجواب.
وحدث أبو حاتم قال: قال أبو زيد يوماً في مجلسه وكانت العرب تقول: ليس لحاقن رأي. فقال كيسان: ولا لمنعظ. فقال أبو زيد: ما سمعناه ولكن اكتبوه فإنه حق، وكان كيسان من الطياب المزاحين. قال أبو زيد: جاء صبي إلى كيسان يقرأ عليه شعراً حتى مر ببيت فيه ذكر العيس قال: الإبل البيض التي يخلط بياضها حمرة، قال: وما الإبل؟ قال الجمال: قال: وما الجمال؟ فقام على أربع ورغا في المسجد وقال: الذي تراه طويل الرقبة وهو يقول بوع.
وحدث المبرد عن التوزي قال: حبس عيسى بن سليمان الهاشمي كيسان وكان أحد الطياب، وكان أبو عبيدة يعبث به كثيراً فشفع فيه أبو عبيدة إلى الأمير فأمر بإخراجه.
فقال للجلاوزة: من أخرجني؟ قالوا: تكلم فيك شيخ مخضوب. فقال: أمه زانية إن برح من الحبس، إحبيس ظلم، وطليق ذل، لا يكون ذلك أبداً.
وقرأت في كتاب التصحيف لحمزة الأصفهاني: قال الرياشي: سمعت كيسان يقول: كنت على باب أبي عمرو بن العلاء فجاء أبو عبيدة فجعل ينشد شعراً لأبي شجرة وهو قوله:
ضن علينا أبو عمرو بنائله ... وكل مختبط يوماً له ورق
ما زلت يضربني حتى جذبت له ... وحال من دون بعض البغية الشفق
فقلت: جذبت جذبت وضحكت فغضب وقال: كيف هو؟ فقلت: إنما هو خذيت، فانخزل وما أحار جواباً، خذيت من قولك خذي البازي: إذا ثبت على يد البازيار. قال أبو الحسن على بن سليمان الأخفش: حدثني أبو العباس ثعلب: قرأ بعض أصحاب الأصمعي عليه شعر النابغة الجعدي حتى انتهى إلى قوله:
إنك أنت المخزون في أثر ال ... حي فإن تنونيهم تقم
قال الأصمعي معناه: فإن تنونيهم: تقم صدور الإبل وتظعن نحوهم كما قال الآخر: أقم لها صدورها يا بسبس. فقال كيسان: كذبت، أما إنك قد سمعت من أبي عمرو بن العلاء ولكن أنسيت، إنما أراد أنهم قد نووا فراقك فذهبوا وتركوك، فإن تنولهم مثل ما نووا فيك من القطيعة نقم في دارك ومكانك، ولا ترحل نحوهم ولا تطلبهم كما قال الآخر:
إذا اختلجت عنك النوى ذا مودة ... قربن بقطاع من البين ذا شعب
أذاقتك مر العيش أو مت حسرة ... كما مات مسقي الصباح على ألب
ألب يألب، ولاب يلوب واحد. يقول: إذا باعدت بيني وبين من أحب قربن، يعني إبلي قربت إلى منزلي ووطني ومياهي، ولم أتبع من فارقني لأني صبور على الفراق جلد متعود لذلك فقطاع: يعني نفسه هو القطاع، لأني أقطع من قطعي، وأذاقتك من تحب وهي التي فارقتها، فأنت وإن كنت. كذا وعلى هذه الحال فأنت صبور قوي على القطع. وكما قال الراعي:
وإلف صبرت النفس عنه وقد أرى ... غداة فراق الحي أن لا تلاقيا

وقد قادني الجيران حيناً وقدتهم ... وفارقت حي ما تحن جماليا

الكيس النمري النساب
الكيس لقب واسمه زيد بن الحارث بن حارثة بن هلال ابن ربيعة بن زيد مناة بن عوف بن سعد بن الخزرج بن تيم الله ابن النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة. فعوف بن سعد بن الخزرج هو أخو عامر الضحيان، هذا قول الكلبي. وقال غيره: اسم الكيس زيد بن حارثة بن زيد مناة بن تميم بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر الضحيان رهط نتلة بنت جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر بن زيد مناة عامر الضحيان، ولدت لعبد المطلب العباس ومرار ابني عبد المطلب.
قال مسكين الدارمي يخاطب عبد الرحمن بن حسان بن ثابت مفتخراً:
وحكم دغفلاً وارحل إليه ... ولا تدع المطي من الكلال
وعند الكيس النمري علم ... ولو أمسى بمنخرق الشمال
وقيل مصعب بن الكيس هو النساب وكان يعدل بدغفل. قال الكميت:
وما ابن الكيس النمري معكم ... وما أنتم هناك بدغفلينا
وقيل: الكيس هو مالك بن شراحيل بن زيد بن الحارث ابن حارثة بن هلال كلهم ينسب من عبيد إلى الكيس، يعني كلهم نساب يعلم النسب.
باب اللام
لقيط بن بكير المحاربي
قال ابن حبيب في كتاب جمهرة النسب التي رواها عن ابن الكلبي وغيره: ومنهم يعني بني محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان، عائد بن سعيد بن جندب بن جابر بن زيد بن عبد الحارث بن بغيض بن شكم بن عبد بني عوف بن زيد ابن بكر بن عميرة بن علي بن حرب بن محارب، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. من ولده لقيط الرواية، - وكان صدوقاً - ابن بكير - وكان أيضاً عالماً صدوقاً - ابن النضر بن سعيد عائد بن سعيد، وقد لقي هشام بن الكلبي لقيطاً.
حدث المرزباني فيما أسنده إلى الخليل النوشجاني قال: قال لي الجهمي: كان لقيط المحاربي من رواة الكوفة وكان سيئ الخلق. قال الصولي: ويكنى أبا هلال، ومات في سنة تسعين ومائة في خلافة الرشيد. وقال عبد الله بن جعفر: أخبرني ابن مهدي والسكري قالا: للقيط كتاب مصنف في الأخبار مبوب، في كل فن من الفنون كتاب مفرد. فمنها ومن أحسنها كتابه في النساء وهو عندي رواية عنهما عن العمري عنه. وله كتاب السمر، كتاب الخراب واللصوص، كتاب أخبار الجن. وأخذ العلم عن لقيط جماعة من أعيانهم منهم ابن الأعرابي.
وحدث المرزباني فيما رفعه إلى لقيط بن بكير المحاربي قال: أمر المهدي الناس سنة ستين ومائة بصوم ثلاثة أيام لبطء المطر ليستسقي، فلما كان في اليوم الثالث من الليل طرق الناس ليلتهم كلها ثلج ملأ الأرض، فقال لقيط:
يا إمام الهدى سقينا بك الغي ... ث وزالت عنا بك اللأواء
وهي أبيات طويلة. وقال لقيط في ذلك أيضاً:
لما استغاث بك العباد بجهدهم ... متوسلين إلى إله الناس
أسقاهم بك مثل ما أسقاهم ... صوب الغمام بجدك العباس
فأتتهم لما دعوت سماؤهم ... منهلة بالوا كف الرجاس
العدل منه سقاهم وجميل ما ... توليه ذا الإيحاش والإيناس
فإذا أمرت فبالإبانة والهدى ... وإذا وزنت وزنت بالقسطاس
قال: ودخل لقيط على الرشيد وهو ولي عهد وقد اشتكى فأنشد:
ما بال نومك أمسى لا يؤاتيكا ... كأن في الجفن شوكا بات يقذيكا
من غير سقم ولا عشق أرقت له ... إلا لأن قيل أمسى الجود موعوكا
وقيل هارون أمسى شاكياً وصبا ... فقلت: نفسي يا هارون تفديكا
ما كنت أحسب جوداً يشتكي نهكاً ... حتى رأيت ولي العهد منهوكا
فبت مرتفقاً أرعى النجوم إلى ... أن جاوب الديك فينا سحرة ديكا
فكم وكم لي من نذر سأنجزه ... إن كنت عوفيت قد أوجبته فيكا
حج وصوم وعتق لن أخيس به ... فما تركت لنفسي اليوم مملوكا
سعد عتيق وبنتاه وأمهماكانوا وأعجب بهم عندي مماليكا
توقعوني كأني قد حذيتكم ... سود النعال وأهديت المساويكا

وحدث فيما أسنده إلى إسحاق الموصلي قال: كان لقيط ابن بكير في جراية المهدي، وكان الذي وصله به أبو عبد الله وزير المهدي، وكان أبو عبد الله مائلاً إليه لعلمه بالشعر والأخبار. فلما مات المهدي لزم الكوفة. قال إسحاق: فرأيته في سنة تسعين ومائة وهو ينشد قوماً شعراً له في الزهد وهو قوله:
عزفت عن الغواية والملاهي ... وأخلصت المتاب إلى إلهي
وغرتني ليال كنت فيها ... مطيعاً للشباب به أباهي
أجاري الغي في ميدان لهوى ... وقلبي عن طريق الرشد لاهي
وألجمي المشيب لجام تقوى ... وركن الشيب بادي العيب واهي
ومن لم يكفه العذال عزم ... فليس له على عذل تناهي
قال: وكان ذلك من آخر شهره وفي آخر زمانه ثم توفي في هي هذه السنة. وحدث مما رفعه إلى ابن المدور قال: سألت ابن الأعرابيعن لقيط بن بكير وموته فقال: مات في آخر أيام الرشيد وهو أزهد الناس، وكان من دعائه: اللهم اغفر لي، فإن حسناتي لو كانت مثل حسنات جميع خلقك لعلمت أني لا أستحق الجنة إلا بفضلك، ولو كانت على سيئاتهم جميعاً ما يئست من عفوك.

لوط بن مخنف الأزدي
هو لوط بن يحيى بن مخنف بن سليمان بن الحارث بن عوف بن ثعلبة بن عامر بن ذهل بن مازن بن ذبيان بن ثعلبة ابن سعد مناة بن غامد، واسم غامد عمر بن عبد الله بن كعب ابن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد يكني أبا مخنف، ومخنف بن سليمان من أصحاب علي بن أبي طالب عليه السلام، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، مات لوط سنة سبع وخمسين ومائة، وكان راوية أخبارياً صاحب تصانيف في الفتوح وحروب الإسلام. قال يحيى بن معين: هو كوفي وليس حديثه بشيء.
وجدت بخط أحمد بن الحارث الخزاز قال: العلماء: أبو مخنف بأمر العراق وفتوحها وأخبارها يزيد على غيره، والمدائني بأمر خراسان والهند وفارس والواقدي بالحجاز والسير، وقد اشتركوا في فتوح الشام.
قال محمد بن إسحاق: ولأبي مخنف من الكتب: كتاب الردة، كتاب فتوح الشام، كتاب فتوح العراق، كتاب الجمل، كتاب صفين، كتاب النهروان، كتاب الغارات: كتاب الخريت بن راشد وبني ناجية، كتاب مقتل علي كرم الله وجهه، كتاب مقتل حجر بن عدي، كتاب مقتل محمد بن أبي بكر والأشتر ومحمد بن أبي حذيفة، كتاب الشورى ومقتل عثمان رضي الله عنه، كتاب المستوردين بن علفة، كتاب مقتل الحسين بن علي عليهما السلام، كتاب المختار ابن أبي عبيد، كتاب وفاة معاوية وولاية ابنه ووقعة الحرة وعبد الله بن الزبير، كتاب سليمان بن صرد وعين الوردة، كتاب مرج راهط ومقتل الضحاك بن قيس الفهري، كتاب مصعب بن الزبير والعراق، كتاب مقتل عبد الله بن الزبير، كتاب مقتل عمرو بن سعيد بن العاص، كتاب حديث باخمرا ومقتل ابن الأشعث، كتاب نجدة الحروري، كتاب الأزارقة، كتاب حديث روستقباذ، كتاب شبيب الحروري وصالح بن مسرح، كتاب المطرف بن المغيرة، كتاب دير الجماجم وخلع بن الأشعث، كتاب يزيد بن المهلب ومقتله بالعقر، كتاب خالد القسري ويوسف بن عمر وموت هشام وولاية الوليد، كتاب زيد بن علي، كتاب يحيى ابن زيد، كتاب الضحاك الخارجي، كتاب الخوارج والمهلب بن أبي صفرة.
الليث بن المظفر
كذا قال الأزهري في مقدمة كتابه: الليث بن المظفر. وقال ابن المعتز في كتاب الشعراء من تصنيفه: الليث بن رافع بن نصر بن سيار قال الأزهري: ومن المتقدمين الليث بن المظفر الذي نحل الخليل بن أحمد تأليف كتاب العين حملة لينفق كتابه باسمه ويرغب فيه من حوله، وأثبت لنا عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي الفقيه أنه قال: كان الليث رجلاً صالحاً، ومات الخليل ولم يفرغ من كتاب العين فأحب الليث أن ينفق الكتاب كله فسمى لسانه الخليل، فإذا رأيت في الكتاب سألت الخليل أو أخبرني الخليل، فإنه يعني الخليل نفسه. قال: وإذا قال: قال الخليل فإنما يعني لسان نفسه. قال: وإنما وقع الاضطراب فيه من خليل الليث.

قال: وأخبرني المنذري أنه سأل ثعلباً عن كتاب العين فقال: ذاك كتاب مليء غدد - قال: وهذا لفظ أبي العباس، وحقه عند النحويين ملآن غدداً، ولكن كان أبو العباس يخاطب العامة على قدر فهمهم. قلت: ليس هذا بعذر لأبي العباس فإنه لو قال: ملآن غدداً لم يخف معنى الكلام على صغار العامة، فكيف وفي مجلسه الأئمة من أهل العلم؟ ثم سائله الذي أجابه ليس بتلك الصورة، وإنما عذره أنه كان لا يتكلف الإعراب في المفاوضة وهي سنة جلة العلماء - وأراد أن في جراب العين حروفاً كثيرة قد أزيلت عن صورها ومعانيها بالتصحيف والتغيير فهي تضر حافظها كما تضر الغدد آكلها.
قال أبو الطيب اللغوي: مصنف كتاب العين الليث ابن المظفر بن نصر سيار، روى ذلك عن أبي عمر الزاهد قال: حدثني فتى قدم علينا من خراسان وكان يقرأ على كتاب العين قال: أخبرني أبي عن إسحاق بن راهويه قال: كان الليث بن المظفر بن نصر بن سيار صاحب الخليل رجلاً صالحاً، وكان الخليل قد عمل من كتاب العين باب العين فأحب الليث أن ينفق سوق الخليل، ثم ذكر كما ذكر الأزهري.
وحدث عبد الله بن المعتز في كتاب الشعراء عن الحسن ابن علي المهلبي قال: كان الخليل منقطعاً إلى الليث بن رافع ابن نصر بن سيار، وكان الليث من أكتب الناس في زمانه، بارع الأدب بصيراً بالشعر والغريب والنحو، وكان كاتباً للبرامكة وكانوا معجبين به، فارتحل إليه الخليل وعاشره فوجده بحرا فأغناه، وأحب الخليل أن يهدي إليه هدية تشبهه، فاجتهد الخليل في تصنيف كتاب العين فصنفه له، وخصه به دون الناس وحبره وأهداه إليه، فوقع منه موقعاً عظيماً وسر به، وعوضه عنه مائة ألف درهم واعتذر إليه، وأقبل الليث ينظر فيه ليلاً ونهاراً لا يمل النظر فيه حتى حفظ نصفه، وكانت ابنة عمه تحته، فاشترى الليث جارية نفيسة بمال جليل فبلغها ذلك فغارت غيرة شديدة فقالت: والله لأغيظنه ولا أبقي غاية، فقالت: إن غظته في المال فذاك ما لا يبالي به، لكني أراه مكباً ليله ونهاره على هذا الدفتر، والله لأفجعنه به، فأخذت الكتاب وأضرمت ناراً وألقته فيها، وأقبل الليث إلى منزله ودخل إلى البيت الذي كان فيه الكتاب فصاح بخدمه وسألهم عن الكتاب فقالوا: أخذته الحرة، فبادر إليها وقد علم من أين أتي؟، فلما دخل عليها ضحك في وجهها وقال لها: ردي الكتاب فقد وهبت لك الجارية وحرمتها على نفسي، وكانت غضبى فأخذت بيده وأدخلته رماده فسقط في يد الليث، فكتب نصفه من حفظه، وجمع على الباقي أدباء زمانه وقال لهم: مثلوا عليه واجتهدوا، فعملوا هذا النصف الذي بأيدي الناس، فهو ليس من تصنيف الخليل ولا يشق غباره، وكان الخليل قد مات.
وجدت على ظهر جزء من كتاب التهذيب لأبي منصور الأزهري:
ابن دريد بقره ... وفيه عجب وشره
ويدعي بجهله ... وضع كتاب الجمهره
وهو الكتاب العين إل ... لا أنه قد غيره
الأزهري وزغه ... وحمقه حمق دغه
ويدعي بجهله ... كتاب تهذيب اللغة
وهو كتاب العين إل ... ا أنه قد صبغه
في الخارزنجي بله ... وفيه حمق ووله
ويدعى بجهله ... وضع كتاب التكملة
وهو كتاب العين إل ... ا أنه قد نقله
حاشية: دغة بنت مغنج يضرب بها المثل في الحمق، زوجت وهي صغيرة في بني العنبر فحملت، فلما ضربها المخاض ظنت أنها تحتاج إلى الخلاء فبرزت إلى بعض الغيطان ووضعت ذا بطنها، فاستهل الوليد فجاءت منصرفة وهي لا تظن إلا أنها أحدثت فقالت لأمها: يا أمتاه، وهل يفتح الجعر فاه؟ قالت نعم ويدعو أباه، فسب بنوا العنبر به وسموا بنوا الجعراء. ولها حماقات كثيرة.

قرأت بخط أبي منصور الأزهري في كتاب نظم الجمان تصنيف أبي الفضل المنذري: نصر بن سيار كان والي خراسان، والليث بن المظفر بن نصر صاحب العربية وصاحب الخليل بن أحمد هو ابنه، حدث عنه قتيبة بن سعيد: سمعت محمد بن إبراهيم العبدي يقول: سمعت قتيبة يقول: كنت عند ليث بن نصر بن سيار فقال: ما تركت شيئاً من فنون العلم إلا نظرت فيه إلا هذا الفن، وما عجزت إلا أني رأيت العلماء يكرهونه - يعني النجوم - . سمعت محمد بن سعيد القزاز قال: نصر بن سيار والي خراسان المحمول إليه رأس جهم، وكان نصر من تحت يدي هشام ابن عبد الملك، وكان بمرو، وكان سلم بن أحوز والي بلخ والجوزجان من تحت يده، وهو الذي قتل يحيى بن زيد ابن علي بن الحسين، جهم بن صفوان الذي ينسب إليه مذهب جهم ووجه برأسيهما إلى مرو إلى نصر بن سيار فنصبا على باب قهندز مرو، فكان سلم بن أحوز يقول: قتلت خير الناس وشر الناس.
قال المنذري: وسمعت محمد بن إبراهيم العبدي قال سمعت أبا رجا قتيبة يقول: دخل الليث بن نصر بن سيار على علي بن عيسى بن ماهان وعنده رجل يقال له حماد الخزربك، فجاءه رجل فقص رؤيا رآها لعلي بن عيسى فهم حماد أن يعبرها فقال ليث: كف فلست هناك. فقال علي: يا أبا هشام وتعبرها؟ قال نعم وأنا أعبرها أهل خراسان. فكانت الرؤيا كأن علي بن عيسى مات وحمل على جنازة وأهل خراسان يتبعونه، ثم انقض غراب من السماء ليحمله فكسروا رجل الغراب. فقال الليث: أما الموت فبقاء، وأما الجنازة فهو سرير وملك، وأما ما حملوك فهو ما علوتهم وكنت على رقابهم، وأما الغراب فهو رسول، قال الله تعالى: (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض)، يقدم فلا ينفذ أمره. فما مكثوا إلا يومين أو ثلاثة حتى قدم رسول من عند الخليفة في حمل علي بن عيسى، فاجتمع قواد خراسان فأثنوا عليه خيراً ولم يتركوه يحمل وقالوا: يخشى انتقاض البلاد فبقي.
قال المنذري: هو الليث بن المظفر بن نصر بن سيار صاحب العربية، وكان له ابن يقال له رافع. سمعت بعض أصحابي قال: سمعت محمد بن إسحاق السراج فال: سمعت إسحاق بن راهويه قال: سألت رافع بن الليث بن المظفر عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل سكر حرام)، أيقع على جميع المسكر يعني جميع ما يسكر منه من قليلة وكثيرة؟ أم على الشربة التي تسكرك؟. فقال بل على جميع ما يسكر منه قليله وكثيره، إذا أسكر كثيره فقليله بمنزلته، ولو كان عني الشربة التي تسكرك لقال: كل مسكر حرام.
قال ابن المنذري: وبلغني أن المظفر بن نصر مر به عناق وابنه الليث قد حضره فقال له وأراد أن يخبره: ما هذا؟ قال: بز بالفارسية. فقال: لأسيرنك إلى حيث لا تعرف بز، فسيره إلى البادية فمكث فيها قريباً من عشر سنين أو أكثر، ففيها تأدب ثم رجع فعجب أهله من كثرة أدبه. هذا آخر ما كتبته من خط الأزهري وكتاب المنذري.
وحدث الحاكم أبو عبد الله بن البيع في كتاب نيسابور عن العباس بن مصعب قال: سئل النضر بن شميل عن الكتاب الذي ينسب إلى الخليل بن أحمد ويقال له كتاب العين، فأنكره فقيل له: لعله ألفه بعدك؟ فقال: أو خرجت من البصرة حتى دفنت الخليل بن أحمد؟.
وحدث أبو الحسن علي بن مهدي الكسروي، حدثني محمد بن منصور المعروف بالراج المحدث قال: قال الليث ابن المظفر بن نصر بن سيار: كنت أصير إلى الخليل بن أحمد فقال لي يوماً: لو أن إنساناً قصد وألف حروف أ ب ت ث على ما أمثله لاستوعب في ذلك جميع كلام العرب، وتهيأ له أصل لا يخرج منه شيء ألبتة. فقلت له: وكيف يكون ذلك؟ قال: يؤلفه على الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي، فإنه ليس يعرف في كلام العرب أكثر منه.
قال الليث: فجعلت أستفهمه ويصف لي ولا أقف على ما يصف، فاختلف إليه في هذا المعنى أياماً ثم اعتل وحججت، فما زلت مشفقاً عليه وخشيت أن يموت في علته فيبطل ما كان يشرحه لي، فرجعت من الحج وصرت إليه فإذا هو قد ألف الحروف كلها على ما في الكتاب، وكان يملي علي ما يحفظ، وما شك فيه يقول لي سل عنه، فإذا صح فأثبته إلى أن عملت الكتاب.

باب الميم
المبارك بن الحسن بن أحمد بن علي

ابن فتحان بن منصور الشهرزوري أبو الكرم المقرئ، إمام في القراءات عالم بها. مات فيما ذكره أبو سعد عن ابن حرز في الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة خمسين وخمسمائة للهجرة ودفن في دكة بشر الحافي بباب حرب ببغداد إلى جنب أبي بكر الخطيب. قال: وكتب عنه وذكر أن مولده في سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وأربعمائة قال: وكان يسكن دار الخلافة ببغداد مما يلي باب العامة شيخ صالح دين خير قيم بكتاب الله عالم باختلاف الروايات والقراءات، و صنف فيها كتاب المصباح في القراءات، وهو حسن السيرة جيد الأخذ على الطلاب، له روايات عالية، سمع الحديث من أبي الفضل أحمد بن الحسن ابن جيرون الأمين وغيره.

المبارك بن سعيد بن الحمامي المؤدب
أبو الفرج المؤدب، كان يسكن قراح بني رزين من بغداد، وله به مكتب يعلم فيه الصبيان، وكان أديباً فاضلاً صالحاً، تخرج به خلق كثير وكان محمود السيرة مشكوراً عند الناس، وكان ذا هيبة على الصبيان، وكان أولاد الأكابر يقصدون مكتبه من جميع بغداد لما شاع من خيره وصلاحه، أدركت زمانه ورأيت مكتبه وكان مكتباً حفيلاً مزدحماً إلا أنني لم ألقه شيئاً، وكان يكتب خطاً حسناً معروفاً عند الناس مرغوباً فيه. مات فيما بلغني في جمادى الآخرة سنة ثمانين وخمسمائة للهجرة، وكان له ابن على سيرته في الصلاح والدين والخير، قام مقامه في مكتبه وخلفه بعده في مكتبه، وكان اسمه أيضاً المبارك، مات سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
المبارك بن الفاخر بن محمد بن يعقوب
أو الكرم النحوي - أخو أبي عبد الله الحسين بن محمد لأمه - المعروف بالبارع الدباس. ولد سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، ومات في ذي القعدة سنة خمسين وخمسمائة ودفن بباب حرب، سمع الحديث من أبي الطيب الطبري والجوهري وغيرهما، وكان قيماً بالنحو عارفاً باللغة. قال أبو الفرج: غير أن مشايخنا جرحوه. كان أبو الفضل ابن ناصر سئ الرأي فيه يرميه بالكذب والتزوير قال: وكان يدعي سماع ما لم يسمعه، ولما مات دفن بمقبرة باب حرب، وقرأ النحو علي ابن برهان الأسدي، وله من الكتب: كتاب المعلم في النحو. كتاب نحو العرف. كتاب شرح خطبة أدب الكاتب. وجدت بخط السمعاني مولده على ما تقدم، فإن صح ذلك لا يصح أخذه النحو عن ابن برهان، لأن ابن برهان مات سنة ست وخمسين وأربعمائة، بل إن كان سمع منه شيئاً جاز ذلك، ثم لما وردت إلى مرو نظرت في كتاب المذيل للسمعاني وقد ألحق بخطه في تضاعف السطور بخط دقيق: قرأت بخط والدي رحمه الله سألت المبارك بن الفاخر عن مولده فقال: ولدت في سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. قلت: فإذا صحت هذه الرواية فقد صح أخذه عن ابن برهان، وكان والد السمعاني قد لقي ابن الفاخر وأخذ عنه، وحكى عنه شيئاً من النحو واللغة. رأيت بخط الشيخ أبي محمد عبد الله ابن أحمد بن أحمد بن الخشاب رحمه الله: حكى لي محمد بن محمد ابن قزما الإسكافي عن شيخنا أبي الكرم المبارك بن فاخر ابن يعقوب النحوي المعروف بابن الدباس: أنه كان يكرم المترددين إليه لطلب العلم بالقيام لهم في مجلسه، وكان الشيخ أبو زكريا يحيى بن على يأبى ذلك وينكره عليه وعلى غيره ممن يعتمده وينشده:
قصر بالعلم وأزرى به ... من قام في الدرس لأصحابه
قال الشيخ أبو محمد: ولعمري إن حرمة العلم آكد من حرمة طالبه، وإعزاز العلم أبعث لطلبه، وبحسب الصبر على مرارة طلبه تحلو ثمرة مكتسبه وكان الشيخ أبو الكرم بن الدباس رحمه الله يجمع إلى هذا، التساهل في الخطاب إذا أخذ خطه على ظهر كتاب ويقصد بذلك اجتذاب الطلاب، لأن النفوس تميل إلى هذا الباب، وحال أبي علي رحمه الله في عكس هذه الحال معلومة متعارفة يأثرها أصحابه عنه، وكان أمره مع العالم في ذاك على حد سواء من ملك وسوقة وعالم ومتعلم، ونحن نسأل الله العون على زمن نحن فيه. آخر ما فيه من خط ابن الخشاب.
المبارك بن المبارك بن المبارك

أبو طالب الكرخي بن أبي البركات الفقيه الشافعي صاحب أبي الحسن بن الخل، مات في ثامن ذي القعدة سنة خمس وثمانين وخمسمائة، أدركت زمانه ولقيت ببغداد أوانه إلا أنني لم أره لصغر السن حينئذ، والاشتغال في ذلك الزمان بغير هذا الشان. كان رحمه الله فاضلاً زاهداً عابداً ورعاً إماماً أوحد زمانه في حسن الخط على طريقة على بن هلال بن البواب. سمعت جماعة يحكون أنه لم يكتب أحد قبله ولا بعده مثله في قلم الثلث، حتى رأيت من يغالي فيه فيقول: إنه كتب خيراً من ابن البواب، وكان ضنيناً بخطه جداً فلذلك قل وجوده. كان إذا اجتمع عنده شيء من تجويداته يستدعي طستاً ويغسله، فأما إذا استفتى فإنه كان يكسر قلمه ويجهد في تغيير خطه، وكان أحد الشهود المعدلين، تفقه على أبي الحسن ين الخل ولازمه مدة حتى صار بارعاً في الفقه، وصارت له معرفة بالمذهب ولسان تام في الخلاف، شهد عند قاضي القضاة أبي القاسم الزينبي في تاسع جمادى الآخرة سنة ثلاثين وخمسمائة، ولم يزل على ذلك إلى أن عزل نفسه عن تحمل الشهادة وأدائها قبل موته بمدة مديدة ولن يدع الطيلسان، وتولى التدريس بمدرسة كمال الدين أبي الفتوح حمزة بن علي بن طلحة الرازي التي بباب العامة المحروس بعد وفاة شيخه أبي الحسن بن الخل المدرسي كان بها، ثم تولى تدريس النظامية وذكر الدرس بها في تاسع صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وأضيف إليه التقدم بالرباط الجديد المجاور لتربة الجهة الشريفة السلجوقية المعروف بالأخلاطية عند مشهد عون ومعين بالجانب الغربي، وانتقل إلى هناك وسكن الدار المجاورة للرباط المذكور، وكان يعبر إلى الجانب الشرقي ويذكر الدروس بالنظامية ويعود إلى منزله بالجانب الغربي، وكان له قبول عند الخاص والعام وجاه عند أرباب الولايات، وهو الذي تولى خدمة الأمير ابن أبي نصر محمد وأبي الحسن علي ابني مولانا الناصر لدين الله أمير المؤمنين خلد الله سلطانه في تعليم الخط، و سمع الحديث من ابن الحصين وقاضي البيمارستان وشيخه ابن الحاج وغيرهم، وحدث عنهم ثم خرج من منزله لصلاة العصر بالرباط الجديد المذكور وكان يؤم فيه، فلما توجه للصلاة عرضت له سعلة وتتابعت فوقع المقدم إلى الأرض وحمل إلى منزله فمات لوقته في الوقت المقدم ذكره وصلى عليه في غده، واجتمع له خلق عظيم ودفن بتربة الجهة السلجوقية المجاورة للرباط، وهو فيما يقال ابن اثنين وثمانين سنة.

المبارك بن المبارك بن سعيد
ابن الدهان أبو بكر الضرير النحوي المعروف بالوجيه من أهل واسط، قدم بغداد مع أبيه في صباه فأقام بها إلى أن مات في السادس عشر من شعبان سنة اثنتي عشرة وستمائة - رحمه الله - دفن بالوردية، ومولده في سنة اثنتين وخمسمائة، وهو شيخي الذي به تخرجت وعليه قرأت، وهو قرأ بواسط علي أبي سعيد نصر ابن محمد بن سلم المؤدب وغيره، وأدرك ببغداد ابن الخشاب فأخذ عنه، ولازم الكمال أبا البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري النحوي، وقرأ عليه وتتلمذ له، فهو أشهر شيوخه وسمع منه تصانيفه، وسمع الحديث من طاهر بن محمد المقدسي، وتولى تدريس النحو بالنظامية سنين، فتخرج عليه جماعة كثيرة منهم: حسن بن الباقلاوي الحلي، والموفق عبد اللطيف بن يوسف البغدادي، والمنتخب سالم ابن أبي الصقر العروضي وغيرهم. وكان - رحمه الله - قليل الحظ من التلامذة يتخرجون عليه ولا ينسبون إليه، ولم يكن فيه عيب إلا أنه كان فيه كيس ولين، وكان إذا جلس للدرس يقطع أكثر وقته بالأخبار والحكايات وإنشاد الأشعار حتى يسأم الطالب وينصرف عنه وهو ضجر وينقم ذلك عليه، وكان يحسن بكل لغة من الفارسية والتركية، والحبشية، والرومية، والأرمنية، والزنجية، فكان إذا قرا عليه عجمي واستغلق عليه المعنى بالعربية فهمه إياه بالعجمية على لسانه، وكان حسن التعليم طويل الروح كثير الاحتمال للتلامذة، وكان شاعراً مجيداً، أنشدني لنفسه كثيراً من شعره. منه في التجنيس:
ولو وقعت في لجة البحر قطرة ... من المزن يوماً ثم شاء لما زها
ولو ملك الدنيا فأضحى ملوكها ... عبيداً له في الشرق والغرب ما زها

وكان قد فوض إلى عضد الدولة أبي الفتوح بن الوزير عضد الدين بن رئيس الرؤساء أمر المخزن المعمور والأعمال التي كانت مفوضة قبله إلى ابن ناصر في عاشر شعبان سنة خمس وستمائة، وخلع عليه في باب الحجرة الشريفة وهو موضع لا يخلع فيه إلا على الوزراء، وركب منه والعالم بين يديه ليمضي إلى منزله، فعثرت به فرسه وسقط من عليها ثم ركبها سالماً من ساعته، فأكثر الناس القول في الطيرة من هذا، فقال الوجيه وأنشدنيه لنفسه:
لا تعذل الفرس التي عثرت ... بك أمس قبل سماعك العذرا
قالت مقالاً لو علمت به ... لم تولها هجراً ولا هجرا
لما رأى الأملاك أن على ... سرجي فتى أعلى الورى قدرا
رفعت يدي حتى تقبلها ... شغفاً بها فوهت يدي الأخرى
ثم لم يلبث المذكور إلا يسيراً حتى عزل وألزم بيته.
وأنشدني الوجيه أيضاً لنفسه:
لست أستقبح اقتضاءك بالوع ... د وإن كنت سيد الكرماء
فاآله السماء قد ضمن الرز ... ق عليه ويقتضي بالدعاء
وأنشدني الوجيه أيضاً لنفسه في التجنيس:
لا راح مسترفدي جذلان من صفدي ... يوماً ولا عز بي في مشهد جاري
إن لم تكب على الأذقان أوجههم ... سيوف قومي بسيل من دم جاري
وحدثني الوجيه - رحمه الله - قال: دخلت يوماً إلى فخر الدين أبي على الحسن بن هبة الله بن الدوامي وهو من علمت أدباً وفضلاً وحسن بشر وكرم سجية، فجلسنا نتذاكر الشعراء إلى أن انتهى بنا الكلام إلى البحتري فأنشد قوله في الفتح بن خاقان:
هب الدار ردت رجع ما أنت قائلة ... وأبدى الجواب الربع عما تسائله
إلى قوله:
ولما حضرنا سدة الإذن أخرت ... رجال عن الباب الذي أنا داخله
بدا لي محمود السجية شمرت ... سرابيله عنه وطالت حمائله
كما انتصب الرمح الرديني ثقفت ... أنابيبه للطعن واهتز عامله
فكالبدر وافته لوقت سعوده ... وتم سناه واستهلت منازله
فسلمت واعتاقت جناني هيبة ... تنازعني القول الذي أنا قائله
فلما تأملت الطلاقة وانثنى ... إلي ببشر آنستنى مخايله
دنوت فقبلت الندى من يد امرئ ... جميل محياه سباط أنامله
صفت مثل ما يصفو المدام خلاله ... ورقت كما رق النسيم شمائله
فهش الجميع وأخذ كل منهم يصف حسن ألفاظها ورشاقة معانيها وجودو مقاصدها، وجعلوا يقولون: هذا هو السهل الممتنع، والفضل المتسع، والديباج الخسرواني، والزهر الأنيق، وأطنبوا في ذلك وحق لهم فقلت ارتجالاً:
لمن تنظم الأشعار والناس كلهم ... سواسية إلا امرؤ أنا جاهله؟
ولو علموا أن اللهي تفتح اللها ... دروا أن ذا الشعر ابن خاقان قائله
وكان الوجيه قد التزم سماحة الأخلاق وسعة الصدر، فكان لا يغضب من شيء ولم يره أحد قط حردان وشاع ذلك عنه، وبلغ ذلك بعض الحرفاء فقال: ليس له من يغضبه ولو أغضب لما غضب وخاطروه على أن يغضبه، فجاءه فسلم عليه، ثم سأله عن مسألة نحوية، فأجابه الشيخ بأحسن جواب ودله على محجة الصواب فقال له: أخطأت، فأعاد الشيخ الجواب بألطف من ذلك الخطاب، وسهل طريقته وبين له حقيقته فقال له: أخطأت أيها الشيخ، والعجب ممن يزعم أنك تعرف النحو ويهتدي بك في العلوم، وهذا مبلغ معرفتك؟ فلاطفه وقال له: يا بني لعلك لم تفهم الجواب، وإن أحببت أن أعيد القول عليك بأبين من الأول فعلت، قال له: كذبت، لقد فهمت ما قلت، ولكن لجهلك تحسب أنني لم أفهم، فقال له الشيخ وهو يضحك: قد عرفت مرادك ووقفت على مقصودك، وما أراك إلا وقد غلبت، فأد ما بايعت عليه، فلست بالذي تغضبني أبداً. وبعد يا بني فقد قيل: إن بقة جلست ظهر فيل فلما أرادت أن تطير قالت له: استمسك فإني أريد الطيران، فقال لها الفيل: والله يا هذه ما أحسست بك لما جلست، فكيف استمسك إذا أنت طرت؟ والله يا ولدي ما تحسن أن تسأل، ولا تفهم الجواب، فكيف أستفيد منك؟

وحدثني محب الدين محمد بن النجار قال: حضر الوجيه النحوي بدار الكتب التي برباط المأمونية، وخازنها يومئذ أبو المعالي أحمد بن هبة الله، فجرى حديث المعري فذمه الخازن وقال: كان عندي في الخزانة كتاب من تصانيفه فغسلته، فقال له الوجيه: وأي شيء كان هذا الكتاب؟ قال: كان كتاب نقض القرآن. فقال له: أخطأت في غسله، فعجب الجماعة منه وتغامزوا عليه واستشاط ابن هبة الله وقال له: مثلك ينهي عن مثل هذا؟ قال نعم، لا يخلو أن يكون هذا الكتاب مثل القرآن أو خيراً منه أو دونه، فإن كان مثله أو خيراً منه وحاش لله أن يكون ذلك، فلا يجب أن يفرط في مثله، وإن كان دونه وذلك ما لا شك فيه فتركه معجزة للقرآن فلا يجب التفريط فيه. فاستحسن الجماعة قوله ووافقه ابن هبة الله على الحق وسكت.
وكان الوجيه - رحمه الله - حنبلياً ثم صار حنفياً فلما درس النحو بالنظامية صار شافعياً، فقال فيه المؤيد أبو البركات محمد بن أبي الفرج التكريتي ثم البغدادي وكان أحد تلامذته، وسمعته من لفظه غير مرة:
ألا مبلغ عني الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي إليه الرسائل
تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ... وذلك لما أعوزتك المآكل
وما اخترت دين الشافعي تديناً ... ولكنما تهوى الذي هو حاصل
وعما قليل أنت لا شك صائر ... إلى مالك فافطن لما أنا قائل
وأنشدني الوجيه لنفسه في التجنيس
أطلت ملامي في اجتنابي لمعشر ... طغام لئام جودهم غير مرتجى
ترى بابهم لا بارك الله فيهم ... على طالب المعروف إن جاء مرتجا
حموا ما لهم والدين والعرض منهم ... مباح فيما يخشون من هجو من هجا
إذا شرع الأجواد في الجود منهجاً ... لهم شرعوا في البخل سبعين منهجا
وأنشدني الوجيه النحوي لنفسه يمدح أبا الفضل مسعود ابن جابر صاحب المخزن
ما مر يوم ولا شهر ولا عيد ... فاخضر فيه لنا من وصلكم عود
عودوا تعد بكم الأيام مشرقة ... وإن أبيتم ففي الأسقام لي عودوا
كم ذا التجني وكم هذا الصدود صلوا؟ ... من حظه منكم هم وتسهيد؟
لو تسألوا كيف حالي بعد بعدكم؟ ... فالحال شاهدة والسقم مشهود
لولا التعلل بالآمال مت أسى ... يغنى الزمان وما تفنى المواعيد
ولو شكوت الذي ألقى بحبكم ... إلى الجلاميد رفت لي الجلاميد
يا هذه ما أنام الليل من ولهي ... كأنما حاجبي بالجفن معقود
قل اصطباري وزاد الوجد بي فأنا ... بك الشقي وغيري منك مسعود
تلذ في حبك الأيام لي وأرى الت ... تعذيب عذباً به والقلب مجهود
كأنك المجد أو بذل الندى وأنا ... في فرط حبك فخر الدين مسعود
مولي إذا السحب ضنت بالحيا فله ... في الخلق بحر عظيم الري مورود
وله مطلع قصيدة في ابن جابر أيضاً:
يا من أقام قيامتي بقوامه ... وأطال تعذيبي بطول مطاله
أمط اللثام عن العذار تقم به ... عند العذول عليك عذر الواله
وارفق ببال في هواك معذب ... بجفاك ما خطر السلو بباله
طبع الحبيب على الملال وليته ... يوماً يميل إلى ملال ملاله
لو كنت تسمع ما أقول وقوله ... لعجبت من ذلي له ودلاله
شدا الرحال عقد تصبري ... لما سرت أجماله بجماله
أنشدني الحافظ أبو عبد الله محمد بن النجار صديقنا - حرسه الله - قال: أنشدني شيخنا الوجيه النحوي لنفسه:
أرفع الصوت إن مررت بدار ... أنت فيها إذ ما إليك وصول
وأحيي من ليس عندي بأهل ... أن يحيا كي تسمعي ما أقول

وكان ملازماً لدار الوزير عضد الدين أبي الفرج بن رئيس الرؤساء ويبيت ويصبح يقرئ أهله ونال من جهته ثروة، فحدثني عز الدين أبو الحسن علي بن محمود بن محمد المعروف بالسرخسي النحوي قال: حدثني الوجيه قال: اقترحت على بعض حظايا الوزير أن أعمل أبياتاً تكتبها على قميص أصفر فعلمت:
انظر إلى لابسي وانظر إلى وكن ... من مثل ما حل بي منه على خطر
هذا اصفراري يراه الناظرون وما ... في القلب من حبه يخفي على البصر
أموت في خلعه بالليل لي كمداً ... لولا انتظار وصال منه في السحر
أقول عجباً إذا ما رام يلبسني ... ما كنت أطمع أن أعلو على القمر
ونقشتها على القميص ورآه الوزير عليها، فنلت منه بذلك السبب خيراً كثيراً

المبارك بن محمد الشيباني
بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني أبو السعادات الملقب بمجد الدين المعروف بابن الأثير هو أبوه محمد بن محمد بن عبد الكريم من أهل جزيرة ابن عمر. مات فيما حدثني به أخوه عز الدين أبو الحسن علي بن محمد في يوم الخميس سلخ ذي الحجة سنة ست وستمائة قال: ومولده في أحد الربيعين سنة أربع وأربعين وخمسمائة بالجزيرة وانتقل إلى الموصل في سنة خمس وستين ولم يزل بها إلى أن مات.
قال المؤلف: وكان عالماً فاضلاً وسيداً كاملاً، قد جمع بين علم العربية والقرآن والنحو واللغة والحديث وشيوخه وصحته وسقمه والفقه وكان شافعياً، وصنف في كل ذلك تصانيف هي مشهورة بالموصل وغيره. حدثني أخوه أبو الحسن قال: قرأ أخي الأدب على ناصح الدين أبي محمد سعيد ابن الدهان البغدادي، وأبي بكر يحيى بن سعدون المغربي القرطبي، وأبي الحزم مكي بن الريان بن شبة الماكسي النحوي الضرير، وسمع الحديث بالموصل من جماعة منهم الخطيب أبو الفضل بن الطوسي وغيره، وقدم بغداد حاجاً فسمع بها من أبي القاسم صاحب ابن الخل، وعبد الوهاب ابن سكينة، وعاد إلى الموصل فروى بها وصنف، ووقف داره على الصوفية وجعلها رباطاً.
وحدثني أخوه أبو الحسن قال: تولى أخي أبو السعادات الخزانة لسيف الدين الغازي بن مودود بن زنكي ثم ولاه ديوان الجزيرة وأعمالها، ثم عاد إلى الموصل فناب في الديوان عن الوزير جلال الدين أبي الحسن علي بن جمال الدين محمد ابن منصور الأصبهاني، ثم اتصل بمجاهد الدين قايماز بالموصل أيضاً فنال عنده درجة رفيعة، فلما قبض على مجاهد الدين اتصل بخدمة أتابك عز الدين مسعود بن مودود إلى أن توفي عز الدين فاتصل بخدمة ولده نور الدين أرسلان شاه، فصار واحد دولته حقيقة بحيث إن السلطان كان يقصد منزله في مهام نفسه لأنه أقعد في آخر زمانه فكانت الحركة تصعب عليه فكان يجيئه بنفسه، أو يرسل إليه بدر الدين لؤلؤ الذي هو اليوم أمير الموصل.
وحدثني أخوه المذكور قال: حدثني أخي أبو السعادات قال: لقد ألزمني نور الدين بالوزارة غير مرة وأنا أستعفيه حتى غضب مني وأمر بالتوكيل بي قال: فجعلت أبكي فبلغه ذلك فجاءني وأنا على تلك الحال فقال لي: أبلغ الأمر إلى هذا؟ ما علمت أن رجلاً ممن خلق الله يكره ما كرهت. فقلت: أنا يا مولانا رجل كبير وقد خدمت العلم عمري، واشتهر ذلك عني في البلاد بأسرها، وأعلم أنني لو اجتهدت في إقامة العدل بغاية جهدي ما قدرت أؤدي حقه، ولو ظلم أكار في ضيعة من أقصى أعمال السلطان لنسب ظلمه إلي، ورجعت أنت وغيرك باللائمة علي، والملك لا يستقيم إلا بالتسمح في العسف وأخذ هذا الخلق بالشدة، وأنا لا أقدر على ذلك فأعفاه، وجاءنا إلى دارنا فخبرنا بالحال. فأما والده وأخوه فلاماه على الامتناع فلم يؤثر اللوم عنده أسفاً، وذكر في قصة طويلة بتفاصيلها إلا أن هذا الذي ذكرته هو معناها.
وحدثني عز الدين أبو الحسن قال: حدثني أخي أبو السعادات - رحمه الله - قال: كنت أشتغل بعلم الأدب على الشيخ أبي محمد سعيد بن المبارك ين الدهان النحوي البغدادي بالموصل، وكان كثيراً ما يأمرني بقول الشعر وأنا أمتنع من ذلك قال: فبينا أنا ذات ليلة نائم رأيت الشيخ في النوم وهو يأمرني بقول الشهر فقلت له: ضع لي مثالاً أعمل عليه فقال:
جب الفلا مدمناً إن فاتك الظفر ... وخد خد الثرى والليل معتكر
فقلت أنا:
فالعز في صهوات الخيل مركبه ... والمجد ينتجه الإسراء والسهر

فقال لي: أحسنت، هكذا فقل، فاستيقظت فأتممت عليها نحو العشرين بيتاً.
وحدثني عز الدين أبو الحسن قال: كتب أخي أبو السعادات إلى صديق له في صدر كتاب والشعر له:
وإني لمهد عن حنين مبرح ... إليك على الأقصى من الدار والأدنى
وإن كانت الأشواق تزداد كلما ... تناقص بعد الدار واقترب المغنى
سلاماً كنشر الروض باكره الحيا ... وهبت عليه نسمة السحر الأعلى
فجاء بمسكي الهوا متحلياً ... ببعض سجايا ذلك المجلس الأسمى
وأنشدني عز الدين قال: أنشدني أخي مجد الدين أبو السعادات لنفسه:
عليك سلام فاح من نشر طيبه ... نسيم تولى بثه الرند والبان
وجاز على أطلال مي عشية ... وجاد عليه مغدق الوبل هتان
فحملته شوقاً حوته ضمائري ... تميد له أعلام رضوى ولبنان
واستنشدته شيئاً آخر من شعره فقال: كان أخي قليل الشعر لم يكن له به تلك العناية، وما أعرف الآن له غير هذا. فقلت له: فأمل علي تصانيفه، فأملي علي: كتاب البديع في النحو الأربعين كراسة، وقفني عليه فوجدته بديعاً كاسمه سلك فيه مسلكاً غريباً، وبوبه تبويباً عجيباً، كتاب الباهر في الفروق في النحو أيضاً، كتاب تهذيب فصول ابن الدهان، كتاب الإنصاف في تفسير القرآن أربع مجلدات، كتاب الشافي وهو شرح مسند الشافعي أبدع في تصنيفه، فذكر أحكامه ولغته ونحوه ومعانيه نحو مائة كراسه، كتاب غريب الحديث على حروف المعجم أربع مجلدات، كتاب جامع الأصول في أحاديث الرسول عشر مجلدات جمع فيه بين البخاري ومسلم والموطأ وسنن أبي داود وسنن النسائي والترمذي عمله على حروف المعجم، وشرح غريب الأحاديث ومعانيها وأحكامها ووصف رجالها، ونبه على جميع ما يحتاج إليه منها.
قال المؤلف: أقطع قطعاً أنه لم يصنف مثله قط ولا يصنف، وله رسائل في الحساب مجدولات، كتاب ديوان رسائله، وكتاب البنين والبنات والأباء والأمهات والأذواء والذوات مجلد، كتاب المختار في مناقب الأخبار أربع مجلدات إلى غير ذلك.

مبشر بن فاتك أبو الوفاء الأمير
أحد أدباء مصر العارفين بالأخبار والتواريخ المصنفين فيها، وكان في أيام الدولة المصرية في أيام الظاهر والمستنصر وله من التصانيف: كتاب سيرة المستنصر ثلاث مجلدات وله تواليف في علوم الأوائل، وملك من الكتب مالا يحصى عدده كثرة.
مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني
روي عن الشعبي فأكثر، وروي عنه الهيثم بن عدي، مات في سنة إحدى وأربعين ومائة، وكان راوية للأخبار والأنساب والأشعار، وهو عند أصحاب الحديث ضعيف.
مجاهد بن جبر القارئ
وقيل مجاهد بن جبير مولى عبد الله بن السائب، وقيل مولى قيس بن السائب المخزومي من كبار التابعين يكنى أبا الحجاج، مات سنة أربع ومائة، وقيل سنة ثلاث عن ثلاث وثمانين سنة من عمره. سمع ابن عباس وجابراً وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري وأبا ريحانه وعبد الله بن عمر وغيرهم. أخذ القراءة عن عبد الله بن عباس وعن عبد الله ابن أبي ليلى، وقرأ على علي بن أبي طالب وأبي بن كعب رضي الله عنهم. روى عنه الأعمش والليث بن أبي سليم والحكم ومنصور بن نجيح وغيرهم.
وقال مجاهد: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين عرضة. قال مجاهد: وكنت أصحب ابن عمر في السفر فكنت إذا أردت أن أركب يأتيني فيمسك ركابي، فإذا ركبت سوى على ثيابي. قال مجاهد: فجاءني مرة فكأني كرهت ذلك فقال يا مجاهد: إنك ضيق الخلق، نقلت ذلك كله من كتاب الأمالي لأبي بكر محمد بن منصور السمعاني.
وقرأت بخط أبي سعد بإسناد رفعه إلى مجاهد أنه قال: انطلق غلام من بني إسرائيل بفخ فنصبه منتبذاً عن الطريق، فجاء عصفور فوقع قريباً منه وأنطلق الله العصفور وأفهم الفخ فقال العصفور: مالي أراك منتبذاً عن الطريق؟ قال: اعتزلت شرور الناس. قال فمالي أراك نحيفاً؟ قال: أنهكتني العبادة. قال: فما هذه الحبة في فيك؟ قال أرصد بها مسكيناً أو ابن سبيل. قال: فأنا مسكين وابن سبيل، قال: فدونكها. قال فوثب العصفور فأخذ الحبة فوثب الفخ فوقع في عنقه، فجعل العصفور يقول: عيق عيق، وعزة ربي لاغرني بعدها قارئ مراء أبداً.
قال مجاهد: وهذا مثل قرائين مرائين يكونون آخر الزمان.

وذكرابن عفير قال: قدم عمرو بن العاص بهد فتحه مصر على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قد متين استخلف في إحداهما زكريا بن الجهم العبدري على الجند، ومجاهد بن جبر مولى بني نوفل بن عبد مناف على الخراج، وهو جد معاذ بن موسى النفاط أبي إسحاق بن معاذ الشاعر فسأله عمر من استخلفت؟ فذكر له مجاهد بن جبر، فقال له عمر: مولى ابنة غزوان؟ قال نعم إنه كاتب، فقال عمر: إن العلم ليرفع صاحبه. وبنت غزوان هي أخت عتبة بن غزوان وقد شهد عتبة بدراً، وكان حليف بني نوفل بن عبد مناف قال: وخطة مجاهد بن جبر دار صالح صاحب السوق.

مجاهد بن عبد الله العامري
أبو الجيش الموفق، مولى عبد الرحمن الناصر بن المنصور محمد بن أبي عامر أمير الأندلس، مات بدانية في سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وأصله مملوك رومي من مماليك ابن أبي عامر، كان من أهل الأدب والشجاعة والمحبة للعلوم وأهلها، نشأ بقرطبة وكانت له همة وجلادة وجرأة، فلما جاءت أيام الفتنة وتغلبت العساكر على النواحي سار هو فيمن تبعه إلى الجزائر التي في شرق الأندلس وهي: دانية ومنورقة بالنون، ودانية هي ذات خصب وسعة فغلب عليها وحماها، وقصد سردانية في قصة ذكرتها في التاريخ الذي سميته المبدأ، وكان من الكرماء على العلماء يبذل لهم الرغائب خصوصاً على القراء حتى صارت دانية معدن القراء بالغرب، وهو الذي بذل لأبي غالب تمام بن غالب ألف دينار ليزيد اسمه في ديباجة كتابه كما ذكرنا في باب تمام.
وفيه يقول أبو العلاء صاعد بن الحسن اللغوي - وقد استماله بخريطة مال ومركب أهداهما إليه - قصيدة أولها:
أتتني الخريطة والمركب ... كما اقترن السعد والكوكب
وحط بمينائه قلعة ... كما وضعت حملها المقرب
على ساعة قام فيها الثنا ... ء على هامة المشتري يخطب
مجاهد رضت إباء الشمو ... س فأصبحت ما لم يكن بصحب
فقل واحتكم لي فسمع الزمان ... مصيخ إليك بما ترغب
وقد ألف مجاهد كتاب عروض يدل على قوته فيه: ومن أعظم فضائله تقديمه للوزير أبي العباس أحمد بن رشيق وتعويله عليه، وبسط يده في العدل.
المحسن بن إبراهيم بن هلال بن زهرون
الصابئ أبو علي ين أبي إسحاق صاحب الرسائل، ووالد هلال بن المحسن صاحب التواريخ والرسائل. كان أديباً فاضلاً بارعاً، قد لقي الأدباء والعلماء وأخذ عنهم كأبي سعيد السيرافي وأبي علي الفارسي وأبي عبيد الله المرزباني. مات في ثامن محرم سنة إحدى وأربعمائة عن ابنه هلال وله شعر حسن من مثله، وكان بوجهه شامة حمراء فكان بعرف بصاحب الشامة، وابنه هلال بن المحسن أعلى منزلة منه. ومات هذا على دين أبيه، وأما ابنه فأسلم على ما ذكرته في بابه، وكان لأبي إسحاق ابن آخر يقال له أبو سعيد سنان ليس بالنبيه، وآخر كنيته أبو العلاء صاعد. ومات أبو سعيد سنان في حياة أبيه في رجب سنة ثمانين. ولمات قبض على أبيه أبي إسحاق قبض معه على ولديه أبي علي هذا وأبي سعيد. فحدث أبو الحسين هلال قال: حدثني أبو علي والدي قال: أمر عضد الدولة أبا القاسم المطهر بن عبد الله وزيره وقال له: أفرج عن ابن أبي إسحاق صاحب الشامة، فإن له قديم خدمة فتقدم بذاك، فثقل على أبي سعيد أخي إطلاقي من دونه، ودمدم على والدنا دمدمة قال له عندها: أي أمر لنا يا بني في نفوسنا؟ أم أي ذنب لي فيما لطف به لأخيك وحرمته؟. ثم عدل إلى مسألتي أن أخرج أسبوعاً ويخرج أسبوعاً، ويقع بيننا مناوبة في ذاك فامتنعت وأبيت ورفق بي رفقاً استحييت معه وأجبت، فكتب أبو إسحاق إلى أبي القاسم المطهر:
ابناي عيناي كف الحبس لحظهما ... وعز حسمها عن منظر النور
أطلقت لي منهما عيناً وقد بقيت ... عين فصرت من الإبنين كالعور
فسو بينهما في فك أسرهما ... مستوفراً منهما من أجر مأجور
يفديك بالأنفس التي مننت بها ... أبوهما وهما من كل محذور

فقال المطهر: الأمر إلى الملك، والذي رسم لي إطلاق ولدك صاحب الشامة، ولو كنت مستطيعاً للجمع بينهما لفعلت، بل لم أقنع حتى تكون أنت المطلق، فعاوده وشكره وقال: إذا كان قد أخذ في تخلية واحد فيجوز أن يتناوبا في الخروج وفسح المطهر في ذلك. قال أبو علي: وكانت خدمتي التي راعاها الملك عضد الدولة أن أبا طاهر بن بقية لما أفرج عن أبي إسحاق والدي بعد القبض عليه عقيب خروج عضد الدولة من مدينة السلام استخلفه على أن يعرفه ما يرد عليه من كتبه ويسلم إليه من يجيئه من رسله، فاتفق أن جاء أبو سعد المدبر إليه بكتاب من عضد الدولة وعمل على تسليمه فاجتهدت به ألا يفعل، فخاف وأشفق ولم يقبل وحمله إلى ابن بقية، فتقدم باعتقاله بعد أن ضربه وقرره، وشق ذلك على لما يراعي من عواقبه، وحملني الشباب ونزقه، والاغترار وبواعثه، على أن قمت ليلاً وحملت معي خمسين درهماً في صرة وعشرين درهماً في صرة أخرى، وجئت إلى الحبس متنكراً وعلى رأسي منشفة وقلت للسجان: هذه عشرون درهماً خذها ومكني من الدخول على هذا الجاسوس وأجتمع معه وأخاطبه وأخرج، فأخذها وأدخلني وجئت إلى أبي سعد وتوجعت له مما حصل فيه ووعدته بما أستطيعه من المعاونة على خلاصة ثم قلت له: أنت غريب وربما احتجت إلى شيء وهذه خمسون درهماً اصرفها في نفقتك واستعن بها على أمرك فشكرني وانصرفت، وأظنه ذكر ذلك لعضد الدولة عند خلاصه وعوده إليه، فحصل لي في نفسه ما كانت هذه الحال ثمرته. قرأت بخط أبي علي المحسن في مجموع جمعه لولده هلال ما هذا صورته لبعض المحدثين في عصرنا - وعلى الحاشية بخط ابنه هلال، هذه الأبيات لأبي علي المحسن بن إبراهيم بن هلال رحمه الله - :
أأهجو مجوسياً لو أني أمرته ... بنيك أمه جهر إذا تأثما
إذا ذكرت يوماً له ريع قلبه ... وأنعظ مشتاقاً إليها متيماً
يحن إليها حنتين لأنه ... يكون لها بعلاً وكان لها ابنما
قضاها رضاع الثدي منه بأيره ... ففر لها فرجاً وفرت له فما
فإن طرقت بالحمل يوماً فإنما ... يكون أخاً وابناً له كلما انتمى
ينيك الاقاصي والأداني محللاً ... بذلك ما كان الإله محرما
إذا ماذوو الأديان صلوا لربهم ... تقدم يهذي في الصلاة مزمزما
ويخرج مما كلفوا من مشقة ... ويحتسب اللذات أجراً ومغنما
وكتب أبو علي إلى أبيه في بعض نكباته:
لا تأس للمال إن غالته غائلة ... ففي حياتك من فقد اللهي عوض
إذ أنت جوهرنا الأعلى وما جمعت ... يداك من طارف أو تالد عرض
فأجابه أبو إسحاق بأبيات ذكرتها في بابه فأغني. قرأت بخط أبي علي المحسن: أنشدني القاضي أبو سعيد الحسن ابن عبد الله السرافي رحمه الله:
الجواد والغول والعنقاء ثالثة ... أسماء أشياء لم تخلق ولم تكن
وأنشدني:
ألهي بني جشم عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أولهم ... يا للرجال لفخر غيرهم مسؤوم
وأنشدني في المعنى:
كأن وجوه شماس بن لأي ... من السوءات ملبسة عصيما
إذا ذكروا الحطيئة لم يعدوا ... حديثاً بعد ذاك ولا قديما
وأنشدني:
يا ابن صليبا أين طبك والذي ... به كنت تشفي من به مثل دائكا؟
أأنكرت مما قيل ما قد عرفته ... بغيرك أم آثرتهم بشفائكا؟
بل الموت ميقات النفوس متى يحن ... فداء الذي داويته في دوائكا
ومن خط أبي علي المحسن قال: سألت القاضي أبا سعيد السيرافي رحمه الله عن الأخبار التي يرويها عن أبي بكر بن دريد وكنت أقرؤها عليه: أكان يمليها من حفظه؟ فقال: لا، كانت تجمع من كتبه وغيرها ثم تقرأ عليه. وسألت أبا عبد الله محمد بن عمران المرزباني رحمه الله عن ذلك فقال: لم يكن يمليها من كتاب ولا حفظ، ولكن كان يكتبها ثم يخرجها إلينا بخطه، فإذا كتبناها خرق ما كانت فيه. وقرأت بخط أبي على المحسن: لأبي الحسن محمد بن عبد الله بن سكرة الهاشمي إلي يتقاضاني دفتراً أعطانيه:

كنت يا سيدي استعرت كتاباً ... لي فيه قصائد للخليع
في الربيع وهذا ربيع ... فتفضل برده يا ربيعي
تغتنم مدحتي وإن جدت أيضاً ... لي بفلسين لم يكن ببديع
يا جميل الصنيع لم قد تغير ... ت وعملتني بسوء الصنيع؟
من عذيري يا آل زهرون منكم ... من تراه يطفي لهيب ضلوعي؟
لست في المنع بالملوم تعلم ... ت من السيد الجليل الرفيع
كنت أعددتكم لنائبة الده ... ر وللحادث الملم الفظيع
ورجوت الغني فخاب رجائي ... لم يخب فيك أنت بل في الجميع
واقريضي واخيبتي وأعنائي ... واضنائي واذلتي واخضوعي
واشبابي الذي تقضي ضياعاً ... واسهادي وافقد طيب هجوعي
واشقائي من ذل بختي عليكم ... من إليكم يا قوم كان شفيعي؟
كنت أبكي منكم فلما نكبتم ... قمت أبكي لكم فعزت دموعي
قال أبو علي: وكنت مع أبي الحسن بن سكرة على المائدة فحمل بعض الغلمان غضارة فيها مضيرة فاضطربت يده وانقلب شيء منها على ثياب أبي الحسن فادعى عليه أنه ضرط وهجاه بأبيات لم يبق في حفظي منها غير بيتين وهما:
قليل الصواب كثير الغلط ... شديد العثار قبيح السقط
جني بالمضيرة ما قد جنى ... ولم يكفه ذاك حتى ضرط

المحسن بن الحسينكوجك
بن علي كوجك أبو القاسم الأديب من أهل الفضل، وكان الغالب عليه الوراقة ويقول الشعر، وخطة معروف مرغوب فيه يشبه خط الطبري. قال أبو محمد أحمد بن الحسين بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الروذباري في تاريخه الذي ألف بمصر: وفي شوال سنة ست عشرة وأربعمائة، مات أبو القاسم المحسن بن الحسين العبسي الأديب الوراق، سمع من أبي مسلم محمد بن أحمد كاتب بن حنزابة، وسمع معه أخوه علي بن الحسين وكان أبوه أيضاً من أهل الفضل، وله شعر ذكرته في ترجمة ابنه الآخر علي ابن الحسين. وقرأت في كتاب الشام: المحسن بن علي بن كوجك أبو عبد الله من أهل الأدب، أملي بصيدا حكايات مقطعة بعضها عن ابن خالويه، روي عنه أبو نصر طلاب قال: أنبأنا عبد الله بن أحمد بن عمر قال: أخبرنا أبو نصر ابن الحسين بن محمد بن أحمد بن طلاب قال: أملي علينا الأستاذ أبو عبد الله المحسن بن علي بن كوجك بصيدا، وقرأته عليه في سنة أربع وتسعين وثلاثمائة أنشدنا لبعضهم:
ودعك الحسن فهو مرتحل ... وانصرفت عن جمالك المقل
ومت من بعد ما أمت وأح ... ييت وكل الأمور تنتقل
كم قائل لي وقد رأى كلفي ... فيك ووجدي فقال مكتهل
يرحمك الله يا غلام إذا ... قال لك العاشقون يا رجل
قال ابن طلاب: وحضرنا معه يوماً في محرس غرق بمدينة صيدا، وفيه قبة فيها مكتوب أسماء من حضرها وأشعار: من جملتها:
رحم الله من دنا لأناس ... نزلوا ههنا يريدون مصراً
فرقت بينهم صروف الليالي ... فتخلوا عن الأحبة قسرا
فقال له قائل من جماعتنا: إن المائدة لا تقعد على رجلين ولا تستقر إلا على ثلاثة فأجز لنا هذين البيتين بثالث، فأطرق ساعة ثم قال اكتبوا:
نزلوا والثياب بيض فلما ... أزف البين منهم صرن حمرا
قال ابن طلاب: وكان بين الاستاذ وبين رجل كاتب لبني بزال إحن وملاحاة مستهجنة أوقعت بينهما العداوة بعد وكيد الصداقة، وكان هذا الرجل يقال له أبو المنتصر مبارك الكاتب، فهجاه الأستاذ بأشعار كثيرة وجمعها في جزء وكتب على ظهر هذا الجزء شعراً له وهو:
هذا جزاء صديق ... لم يرع حق الصداقة
سعى على دم حر ... محرم فأرقه
قال: وأنشد لنفسه فيه أيضاً:
مبارك بورك في الطول لك ... فأصبحت أطول من في الفلك
ولولا انحناؤك نلت السما ... ء ولكن ربك ما عدلك
المحسن بن علي التنوخي

بن محمد بن داود بن الفهم التنوخي أبو علي القاضي، وقد مر ذكر أبيه علي بن محمد وابنه علي ابن المحسن في مواضعهما. مات لخمس بقين من محرم سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، ومولده سنة تسع وعشرين وثلاثمائة بالبصرة وكانت وفاته ببغداد، وله من التصانيف: كتاب الفرج بعد الشدة ثلاث مجلدات، كتاب نشوار المحاضرة اشترط فيه أنه لا يضمنه شيئاً نقله من كتاب أحد عشر مجلداً كل مجلد له فاتحة بخطبة.
قال غرس النعمة: صنف أبو علي المحسن كتاب نشوار المحاضرة في عشرين سنة أولها سنة ستين وثلاثمائة، وذيله غرس النعمة بكتاب سماه كتاب الربيع قال: ابتدأته في سنة ثمان وستين وأربعمائة. ولي القضاء بعدة نواح. حكى عن نفسه أنه في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة كان متولي القضاء بواسط، وقال في موضع آخر من كتابه: حضرت أنا مجلس أبي العباس بن أبي الشوارب قاضي القضاة إذ ذاك وكنت حينئذ أكتب له على الحكم والوقوف بمدينة السلام مضافاً إلى ما كنت أخلفه عليه بتكريت ودقوقاء وخانيجار، وقصر ابن هبيرة، والجامعين، وسوراء وبابل والإيغارين وخطرنية. وذكر قصة. وذكر في موضع آخر أنه كان يتقلد القضاء بعسكر مكرم في أيام المطيع لله وعز الدولة بن بويه. وقد ذكر أبو الفرج الشلجي أنه تقلد القضاء بالأهواز نيابة عن القاضي أبي بكر بن قريعة وقد ذكرت ذلك في خبر الشلجي.
قال أبو الفرج: وحدثني أبو علي التنوخي القاضي قال: لما قلدني القاضي أبو بكر بن قريعة قضاء الأهواز خلافة له كتب إلى المعروف بابن سركر الشاهد وكان خليفته على القضاء قبلي كتاباً على يدي وعنونه: إلى المخالف الشاق، السئ الأخلاق الظاهر النفاق، محمد بن إسحاق.
وذكر الثعالبي فقال: هلال ذلك القمر، وغصن ذلك الشجر، الشاهد العدل لمجد أبيه وفضله، والفرع المشيد لأصله، والنائب عنه في حياته، والقائم مقامه بعد وفاته، وفيه يقول أبو عبد الله الحسين بن الحجاج:
إذا ذكر القضاة وهم شهود ... تخيرت الشباب على الشيوخ
ومن لم يرض لم أصفعه إلا ... بحضرة سيدي القاضي التنوخي
قال: وأخبرني أبو نصر سهل بن المرزبان: أنه رأى ديوان شعره ببغداد أكبر حجماً من ديوان شعر أبيه، ومما علق بحفظ أبي نصر من شعره قوله في معنى طريف لم سبق إليه:
خرجنا لنستسقي بيمن دعائه ... وقد كاد هدب الغيم أن يبلغ الأرضا
فلما ابتدا يدعو تقشعت السما ... فما تم إلا والغمام قد انفضا
قال: وأنشدني غيره له وأنا مرتاب به لفرط جودته وارتفاعه عن طبقته.
أقول لها والحي قد فطنوا بنا ... ومالي عن أيدي المنون براح
لما ساءني أن وشحتني سيوفهم ... وأنك لي دون الوشاح وشاح
وأنشد لنفسه في كتاب الفرج بعد الشدة:
لئن أشمت الحساد صرفي ورحلتي ... فما صرفوا فضلي ولا ارتحل المجد
مقام وترحال وقبض وبسطة ... كذا عادة الدنيا وأخلاقها النكد

قرأت في كتاب الوزراء لهلال بن المحسن: حدث القاضي أبو علي قال: نزل الوزير أبو محمد المهلبي السوس فقصدته للسلام عليه وتجديد العهد بخدمته فقال لي: بلغني أنك شهدت عند ابن سيار قاضي الأهواز؟ قلت نعم، قال: ومن ابن سيار حتى تشهد عنده وأنت ولدي وابن أبي القاسم التنوخي أستاذ ابن سيار؟ قلت: ألا إن في الشهادة عنده مع الحداثة جمالاً - وكانت سني يومئذ عشرين سنة - قال: وجب أن تجئ إلى الحضرة لأتقدم إلى أبي السائب قاضي القضاة بتقليدك عملاً تقبلي أنت فيه شهوداً. قلت: ما فات ذاك إذا أنعم سيدنا الوزير به، وسبيلي إليه الآن مع قبول الشهادة أقرب، فضحك وقال لمن كان بين يديه: انظروا إلى ذكائه كيف اغتنمها؟ ثم قال لي: اخرج معي إلى بغداد فقبلت يده ودعوت له، وسار من السوس إلى بغداد ووردت إلى بغداد في سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، فتقدم إلى أبي السائب في أمري بما دعاه إلى أن قلدني عملاً بسقي الفرات، وكنت ألازم الوزير أبا محمد وأحضر طعامه ومجالس أنسه، اتفق أن جلس يوماً مجلساً عاماً وأنا بحضرته وقيل له: أبو السائب في الدار قال: يدخل، ثم أومأ إلي بأن أتقدم إليه فتقدمت، ومد يده ليسارني فقبلتها فمد يدي وقال: ليس بيننا سر، وإنما أردت أن يدخل أبو السائب فيراك تسارني في مثل هذا المجلس الحافل فلا يشك أنك معي في أمر من أمور الدولة فيرهبك ويحشمك، ويتوفر عليك ويكرمك، فإنه لا يجئ إلا بالرهبة وهو يبغضك بزيادة عداوة كانت لأبيك، ولا يشتهي أن يكون له خلف مثلك، وأخذ يوصل معي في مثل هذا الفن من الحديث إلى أن دخل أو السائب، فلما رآه في سرار وقف ولم يحب أن يجلس إلا بعد مشاهدة الوزير له تقرباً إليه وتلطفاً في استمالة قلبه، فإنه كان إذ ذاك فاسد الرأي فيه فقال الحاجب لأبي السائب: يجلس قاضي القضاة وسمعه الوزير فرفع رأسه وقال له اجلس يا سيدي وعاد إلى سراري وقال لي: هذه أشد من تلك، فامض إليه في غد فسترى ما يعاملك به، وقطع السرار وقال لي ظاهراً: قم فامض فيما أنفذتك فيه وعد إلي الساعة بما تعمله، فوهم أبا السائب بذاك أننا في مهم، فقمت ومضيت إلى بعض الحجر وجلست إلى أن عرفت انصراف أبي السائب ثم عدت إليه وقد قام عن ذلك المجلس وجئت من غد إلى أبي السائب فكاد يحملني على رأسه، وأخذ يجاذبني بضروب من المحادثة والمباسطة، وكان ذلك دهراً طويلاً.
قال القاضي أبو علي في نشوار المحاضرة: حضر بين يدي رجلان بالأهواز فادعى أحدهما على الآخر حقاً فأنكره فسأل غريمه إحلافه فقال له أتحلف؟ فقال: ليس له علي شيء فكيف أحلف؟ ولو كان له علي شيء حلفت له وأكرمته.
حدث أبو علي قال: كنت جالساً بحضرة عضد الدولة في مجلس أنسه بنهاوند فغناه محمد بن كالة الطنبوري - شيخ كان يخدمه في جملة المغنين باق إلى الآن - :
ذد بماء المزن والعنب ... طارقات الهم والكرب
قهوة لو أنها نطقت ... ذكرت قحطان في العرب
وهي تكسو كف شاربها ... دستبانات من الذهب
فاستحين الشعر والصنعة وسأل عنها. فقال له ابن كالة: هذا شعر غنت به مولانا سلمة بنت حسينة فاستعاده منها استحساناً له فسرقته منها. قال التنوخي: فقلت له: أما الشعر فللخباز البلدي، وأظن أبا الحسن بن طرحان قال لي: إن الصنعة فيه لأبيه، والمعنى حسن ولكنه مسروق. فقال: من أين؟ فقلت: أما البيت الثاني فمن قول أبي نواس:
عنقت حتى لو اتصلت ... بلسان صادق وفم
لاحتبت في القوم ماثلة ... ثم قصت قصة الأمم
ووصفها بالعتق والقدم كثير في القوم في أبلغ من هذا البيت، ولكن التشبيه في البيت الثالث هو الحسن، وقد سرقه مما أنشدناه أبو سهل بن زياد القطان قال: أنشدنا يعقوب بن السكيت ولم يسم قائلاً:
أقرى الهموم إذا ضاقت معتقة ... حمراء يحدث فيها الماء تفويغا
تكسو أصابع ساقيها إذا مزجت ... من الشعاع الذي فيها تطاريفا
وقد كشف - أطال الله بقاء مولاي - هذا المعنى من قال:
كأن المدير لها باليمن ... إذا قام للسقي أو باليسار
تدرع ثوباً من الياسمين ... له فرد كم من الجلنار

وكان أبو علي أحمد بن علي المدائني المعروف بالهائم الراوية قائماً في المجلس فقال: قد كشف معنى الأبيات الفائية سرى الرفاء حيث يقول في صفة الدنان:
ومستسلمات هززن لها ... مداري القيان لسفك الدماء
وقد نظم الصلح أجسامها ... مع الخدر نظم صفوف اللقاء
تمد إليها أكف الرجال ... فترجع مثل أكف النساء
وكشف المعنى الثاني في الأبيات بقوله:
إزدد من الراح وزد ... فالغي في الراح رشد
يديرها ذو عنة ... وغد يثنيه الغيد
مد إليها يده ... فالتهبت إلى العضد
قال القاضي التنوخي: فقلت له: فأين أنت عما هو خير من هذا؟ وهو قول ابن المعتز:
تحسب الظبي إذا طاف بها ... قبل أن يسقيكها مختضبا
قال الهائم: فقد قال بكارة الرسغي:
وبكر شريناها على الورد بكرة ... فكانت لنا ورداً إلى ضحوة الغد
إذا قام مبيض للباس يديرها ... توهمته يسعى بكم مورد
وقول أبي النصر النحوي:
فلو رآني إذا اتكأت وقد ... مددت كفي للهو والطرب
يخالني لابساً مشهرة ... من لازورد يشف عن ذهب
فبدأت أذكر شيئاً فقال الهائم: اصبر اصبر فهاهنا ما لا يلحقه أحد كان في الدنيا قط حسناً وجودة، وهو قول مولانا الملك من أبيات:
وشرب الكأس من صهباء صرف ... يفيض على الشروب يد النضار
فقطعت المذاكرة وأقبلت أعظم البيت وأفخم أمره، وأفرط في استحسانه، والاعتراف بأنني لا أحفظ ما يقاربه في الحسن والجودة فأذاكر به. قال التنوخي: وكنت بحضرته في عشية من العشايا في مجلس الأنس، وكان هذا بعد خدمتي له المؤانسة بشهور يسيرة فغنى له من وراء ستارته الخاصة صوت وهو:
نحن قوم من قريش ... ما هممنا بالفرار
وبعده أبيات بعضها ملحون وبعض جيد. فاستملح اللحن وقال: هو شعر ركيك جداً فتعلمون لم هو ولمن اللحن؟ فقال له أبو عبد الله بن المنجم: بلغني أن الشعر للمطيع لله وأن اللحن له أيضاً. فقال لي: اعمل أبياتاً تنقل هذا اللحن إليها في وزنها وقافيتها فجلست ناحية وعملت:
أيهذا القمر الطا ... لع من دار القمار
رائحاً من خيلاء ال ... حسن في أبهى إزار
والذي يجني ولا يت ... بع ذبناً باعتذار
أنا من هجرك في بع ... د على قرب المزار
أوضح العذر عذارا ... ك على خلع العذار
وعدت وأنشدته إياها في الحال فارتضاها وقال: لولا أنه قد هجس في نفسي أن أعمل في معناها لأمرت بنقل اللحن إليها، ثم أنشدنا بعد أيام لنفسه:
نحن قوم نحفظ العه ... على بعد المزار
ونمر السحب سحباً ... من أكف كالبحار
أبداً ننجز للضي ... ف قدوراً من نضار

وأمر جواريه بالغناء فيه. وأما أبياتي فإني تممتها قصيدة ومدحته بها وهي مثبته في ديوان شعري. قال: وجلس عضد الدولة وقد تحولت له سنة شمسية من يوم مولده على عادة له في ذلك، وكان عادته أنه إذا علم أنه قد بقي بينه وبين دخول السنة الجديدة ساعة أو أقل أو أكثر، أن يأكل ويتبخر ويخرج في حال التحويل إلى مجلس عظيم قد عبي فيه آلات الذهب والفضة ليس فيه غيرهما، وفيها أنواع الفاكهة والرياحين، ويجلس في دست عظيم القيمة ويجئ المنجم فيقبل الأرض بين يديه ويهنئه بتحويل السنة، وقد حضر المغنون وأخذوا مواضعم وجلسوا، وحضر الندماء وأخذوا مواقفهم قياماً ولم يكن أحد منهم يجلس بحضرته غيري وغير أبي علي الفسوي، وأبي الحسن الصوفي المنجم، وأما أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف صاحب ديوان الرسائل فإنه كان يجلس ليوقع بين يديه ويستدعي له إذا نشط فيجعل بين يديه أقداحاً ويشرب معه. ومن قبل أن يشرب يوقع بمال الصدقات فيخرج، والغناء يمضي ثم يجئ المهنون من أهل المجلس مثل رؤساء دولته ووجوه الكتاب والعمال وكبار أهل البلد من الأشراف وغيرهم فيدخلون إليه فيهنونه والشعراء فيمدحونه. فلما جلس ذلك اليوم على هذه الصفة قيل له: إن الناس قد اجتمعوا للخدمة وفيهم أبو الحسن بن أم شيبان وقد حضر، فعجب من هذا ثم قال: أبو الحسن رجل فاضل وليس هذا من أيامه وما حضر إلا لفرط موالاته، وأنه ظن أنه يوم لا يشرب فيه لنا، وإن حجبناه غضضنا منه، وإن أوصلناه فلعله لا يحب ذلك لأجل الغناء والنبيذ، ولكن اخرج إليه يا فلان - لبعض من كان قائماً من الندماء - واشرح له صفة المجلس ما قلته من أمره، وأد الرسالة إليه ظاهراً ليسمعها الناس، فإن أحب الدخول فأدخله قبلهم، وإن أراد الانصراف فلينصرف والناس يسمعون وقد علموا منزلته منا. فخرج الحاجب وأبلغ ذلك، فدعا وشكر وآثر الانصراف، فانصرف وهم جلوس يسمعون، ثم قال لحاجب النوبة: اخرج وأدخل الناس، وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس وأخوه أبو محمد علي ابن العباس يتقدمون الناس جميعهم لرياستهم القديمة حتى دخلوا وقبلوا الأرض على الرسم في ذلك وأعطوه الدينار والدرهم ووقفوا، وابتدأ الشعراء فكان أول من ينشده من الشعراء السلامي أبو الحسن محمد بن عبد الله إلا أنه يريد مني أن أنشده في الملإ شيئاً، فإنه كان يأمرني بذلك من الليل فأحضر وأبتدئ فأنشده أو يحضر رجل علوي ينشد شعراً لنفسه فيجعل عقيبي، ثم ينشد السلامي أبو الحسن ثم أبو القاسم علي بن الحسن التنوخي الشامي من أهل معرة النعمان يعرف بابن جلباب، ثم يتتابع الشعراء.
فلما انصرف الناس وتوسط الشرب جاءه الحاجب فقال: قد حضر أبو بكر بن عبد الرحيم الفسوي، وكان هذا شيخاً قد أقام بالبصرة وشهد عند القاضي بها، وقد وفد إلى باب عضد الدولة قبل ذلك وأقام، وكان خادماً له فيما يخدم فيه التجار يختصه بعض الاختصاص، فأقبل وكان بين يدي الدست التمري الذي يوضع بين يدي في كل يوم، وفيه من الأشربة المحللة ما جرت عادتي بشرب اليسير منه بين يدي عضد الدولة على سبيل المنادمة والمؤانسة والمباسطة، وكان قد وسمني وألزمني ذلك بعد امتناعي منه شهوراً حتى قد ردني وأخافني. فقال لي: يا قاضي، إن هذا الرجل الذي استؤذن له عامي جاهل بالعلم، وإنما استخدمته رعاية لحرمات له علي، ولأنه كان يخدم أمي في البز ويدخل إليها بإذن ركن الدولة لتقاه وأمانته فلا تستتر عنه وهذا قبل أن أولد فلما ولدت كان يحملني على كتفه إلى أن ترجلت، ثم صار يشتري البز ويبيعه علي واستمرت خدمته لحرمته وهو قاطن بالبصرة، ولعله يدخل فيرى ما بين يديك فيظنه خمراً فيرجع إلى البصرة فيخبر قاضيها وشهودها بذلك فيقدح فيك، ومحلة يوجب أن يكشف لك عذرك، ولكن أزح الدست الذي بين يديك حتى يصير بين يدي أبي عبد الله المنجم - وكان أبو عبد الله بن إسحاق بن المنجم يجلس دوني بفسحة في المجلس - فإذا دخل رأى الدست بين يديه دونك فلم يقدر على حكاية يطعن بها عليك. فقبلت الأرض شكراً لهذا التطول في الإنعام، وباعدت الدست إلى أبي عبد الله ثم قال: أدخلوه، وشاهد المجلس وهنأ ودعا وأعطى ديناراً ودرهماً كبيرين فيهما عدة مثاقيل وانصرف.

قال أبو علي: ويقرب من هذا ما عاملني به الوزير أبو محمد المهلبي، وذكر الحكاية التي سبق ذكرها آنفاً مع قاضي القضاة أبي السائب، وحديث تقريبه منه ومسارته إياه في المحفل ليعظم بذلك قدره، وتكبر منزلته في عين قاضي القضاة، أبي السائب، لله در القائل
لولا ملاحظة الكبير صغيره ... ما كان يعرف في الأنام كبير
قال الرئيس أبو الحسن هلال: وفي شهر ربيع الأول سخط عضد الدولة على القاضي أبي المحسن بن علي التنوخي وألزم منزله وصرف عما كان يتقلده، وقسم ذلك على أبي بكر بن أبي موسى، وأبي بكر بن المحاملي، وأبي محمد ابن عقبة، وأبي تمام بن أبي حصين، وأبي بكر بن الأزرق، وأبي محمد بن الجمهري. وكان السبب في ذلك ما حدثني به أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: حدثني القاضي أبو علي والدي قال: كنت بهمذان مع الملك عضد الدولة فاتفق أن مضيت يوماً إلى أبي بكر بن شاهويه رسول القرامطة والمتوسط بين عضد الدولة وبينهم وكان له صديقاً، ومعي أبو علي الهائم وجلسنا نتحدث، وقعد أبو علي على باب خركاه، كنا فيه وقدم إليه ما يأكله فقال لي: اجعل أيها القاضي في نفسك المقام في هذه الشتوة في هذا البلد. فقلت لم؟ فقال: إن الملك مدبر في القبض على الصاحب أبي القاسم بن عباد وكان قد ورد إلى حضرته بهمذان، وإذا كان كذلك تشاغل بما يتطاول معه الأيام وانصرف من عنده. فقال أبو علي الهائم: قد سمعت ما كنتما فيه، وهذا أمر ينبغي أن تطويه ولا تخرج به إلى أحد ولا سيما إلى أبي الفضل بن أحمد الشيرازي. فقلت أفعل ونزلت إلى خيمتي وجاءني من كانت له عادة جارية بملازمتي ومواصلتي ومواكلتي ومشاربتي، وفيهم أبو الفضل بن أحمد الشيرازي فقال لي: أيها القاضي، أنت مشغول القلب فما الذي حدث؟ فاسترسلت على أنس كان بيننا وقلت: أما علمت أن الملك مقيم وقد عمل على كذا في أمر الصاحب وهذا دليل على تطاول السنة. فلم يتمالك أن انصرف واستدعى ركابياً من ركابيتي وقال له: أين كنتم اليوم؟ فقال: عند أبي بكر ابن شاهويه. قال: وما صنعتم؟ قال: لا أدري، إلا أن القاضي أطال عنده الجلوس وانصرف إلى خيمته عنه ولم يمض إلى غيره، فكتب إلى عضد الدولة رقعة يقول فيها: كنت عند القاضي أبي علي التنوخي فقال كذا وكذا، وذكر أنه قد عرفه من حيث لا يشك فيه، وعرفت أنه كان عند أبي بكر بن شاهويه وربما كان لهذا الحديث أصل، وإذا شاع الخبر به وأظهر السر فيه فسد ما دبر في معناه.
فلم وقف عضد الدولة على الرقعة وجم وجوماً شديداً وقام من سماط كان قد عمل في ذلك اليوم على منابت الزعفران للديلم مغيظاً واستدعاني وقال لي: بلغني أنك قلت كذا وكذا حاكياً عن أبي بكر بن شاهويه، فما الذي جرى بينكما في ذلك؟ قلت: لم أقل من ذلك شيئاً فجمع بيني وبين أبي الفضل ابن أبي أحمد وواقفني وأنكرته وراجعني وكذبته، وأحضر أبو بكر بن شاهويه وسئل عن الحكاية فقال: ما أعرفها ولا جرى بيني وبين القاضي قول في معناها، وثقل على أبي بكر هذه المواقفة وقال: ما نعامل الأضياف بهذه المعاملة.

وسئل أبو علي الهائم عما سمعه فقال: كنت خارج الخركاه وكنت مشغولاً بالأكل وما وقفت على ما كانا فيه، فمد وضرب مائتي مقرعة وأقيم فنفض ثيابه، وخرج أبو عبد الله سعدان وكان لي محباً فقال لي: الملك يقول لك: ألم تكن صغيراً فكبرناك، ومتأخراً فقدمناك، وخاملاً فنبهنا عليك، ومقتراً فأحسنا إليك؟؟ فما بالك جحدت نعمتنا وسعيت في الفساد على دولتنا؟ قلت: أما اصطناع الملك لي فأنا معترف به، وأما الفساد على دولته فما علمت أنني فعلته، ومع ذلك فقد كنت مستوراً فهتكني، ومتصوناً ففضحني، وأدخلني من الشرب والمنادمة بما قدح فيّ؟ فقال أبو عبد الله: هذا قول لا أرى الإجابة له لئلا يتضاعف ما نحن محتاجون إلى الاعتذار والتخلص منه، ولكنني أقول عنك كذا وكذا بجواب لطيف فاعرفه حتى إن سئلت عنه وافقني فيه. وتركني وانصرف، وجلست مكاني طويلاً وعندي أنني مقبوض علي ثم حملت نفسي على أن أقوم وأسبر الأمر وقمت وخرجت من الخيمة فدعا البوابون دابتي على العادة ورجعت إلى خيمتي منكسر النفس منكسف البال، فصار الوقت الذي أدعى فيه للخدمة، فجاءني رسول ابن الحلاج على الرسم وحضرت المجلس، فلم يرفع الملك إلي طرفاً ولا لوى إلي وجهاً، ولم يزل الحال على ذلك خمسة وأربعين يوماً، ثم استدعاني وهو في خركاه وبين يديه أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف وعلى رأسه أبو الثناء شكر الخادم فقال: ويلك، اصدقني عما حكاه أبو الفضل بن أحمد فقلت: كذب منه، ولو ذكرت لمولانا ما يقوله لما أقاله العثرة. فقال: أومن حقوق عليكم أن تسيئوا غيبتي وتتشاغلوا بذكري؟ فقلت: أما حقوق النعمة فظاهرة، وأما حديثك فنحن نتفاوضه دائماً. فالتفت إلى أبي القاسم وقال: اسمع ما يقول. فقال له بالفارسية وعنده أنني لا أعرفها: هؤلاء البغداديون مفتونون ومفسدون ومتسوفون. وقال شكر: الأمر كذلك، إلا أن التسوق على القاضي لا منه.
ثم قال لي عضد الدولة: عرفنا ما قاله أبو الفضل قلت: هو ما لا ينطق لساني به. فقال: هاته، وكان يجب أن تعاد الأحاديث و الأقاويل على وجهها من غير كناية عنها ولا احتشام فيها. فقلت: نعم قال: إنك عند وفاة والدك بشيراز أنفذت من كرمان وأخذت جاريته زرياب، وأن الخادم المخرج في ذاك وافي ليلة الشهر فاجتهد به أن يتركها تلك الليلة لتوفي أيام الحق فلم يفعل ولا رعى للماضي حقاً ولا حرمة. فقال: والله لقد أنكرنا على الخادم إخراجه إياها على هذا الإعجال ولو تركها يوماً وأياماً لجاز، وبعد فهذا ذنب الخادم ولا عمل لنا فيه ولا عيب علينا به، ثم ماذا؟ قلت: وقال: إن مولانا يعشق كنجك المغنية ويتهالك في أمرها وربما نهض إلى الخلاء فاستدعاها إلى هناك وواقعها. فقال: إنا لله لعنكما الله ولا بارك فيكما، ثم ماذا؟ فأوردت عليه أحاديث سمعتها من غير أبي الفضل ونسبتها إليه وقلت: لم أعلم أنني أقوم هذا المقام فأحفظ أقواله، وقد ذكر أيضاً هذا الأستاذ وأومأت إلى أبي القاسم وأبي الريان وجماعة الحواشي فقال ما قال في أبي القاسم؟ قلت قال. إنه ابتاع من ورثة ابن بقية ناحية الزاوية من راذان بأربعة آلاف درهم بعد أن استأذنك استئذاناً سلك فيه سبيل السخرية والمغالطة واستغلها في سنة واحدة نيفاً على ثلاثين ألف درهم وإنه أعطى فلاناً وفلاناً ثمانية آلاف درهم على ظاهر البضاعة والتجارة فأعطاه نيفاً وستين ألف درهم، فمات أبو القاسم عند سماعه ذلك، وأوردت ما أوردته منه مقابلة على ما ذكرني به. قلت: وقال في أبي الريان كذا وكذا لأمور ذكرتها.

وحضرت آخر النهار المجلس في ذلك اليوم على رسمي فعاود التقريب لي والإقبال علي، واتفق أنه سكر في بعض الأيام وولع بكنجك ولعاً قال لي فيه: وهذا من حديث أبي الفضل وأشار إليه، فقلق أبو الفضل وقرب مني وكنت أقعد ويقوم. وقال لي: ما الذي أومأ إلي الملك فيه؟ قلت: لا أدري فسله أنت عنهن ثم رحلنا عائدين إلى بغداد فرآني الملك في الطريق وعلي ثيابه حسنة وتحتي بغلة بمركب وجناغ جواد فقال لي: من أين لك هذه البغلة؟ قلت: حملني عليها الصاحب أبو القاسم بمركبها وجناغها وأعطاني عشرين قطعة ثياباً وسبعة آلاف درهم. فقال: هذا قليل لك منه مع ما تستحقه عليه، فعلمت أنه اتهمني به وبأني خرجت بذلك الحديث إليه وما كنت حدثته به، ووردنا إلى بغداد فحكى لي: أن الطائع لله متجاف عن ابنته المنقولة إليه وأنه لم يقربها إلى تلك الغاية فثقل ذلك عليه وقال لي: تمضي إلى الخليفة وتقول له عن والدة الصبية: إنها مستزيدة لإقبال مولانا عليها وإدنائه إياها، ويعود الأمر إلى ما يستقيم به الحال ويزول معه الانقباض، فقد كنت وسيط هذه المصاهرة فقلت: السمع والطاعة، وعدت إلى داري لألبس ثياب دار الخلافة، فاتفق أن زلقت ووثئت رجلي، فأنفذت إلى الملك أعرفه عذري في تأخري عن أمره فلم يقبله، وأنفذ إلي من يستعلم خبري، فرأى الرسول لي غلماناً روقة وفرشاً جميلاً فعاد إليه وقال له: هو متعالل وليس بعليل، وشاهدته على صورة كذا وكذا والناس يغشونه ويعودونه، فاغتاظ غيظاً مجدداً حرك ما في نفسه مني أولاً، فراسلني بأن ألزم بيتك ولا تخرج عنه ولا تأذن لأحد في الدخول عليك فيه إلا نفر من أصدقائي استأذنت فيهم فاستثنى بهم، ومضيت الأيام وأنفذ إلى أبو الريان فطالبني بعشرة آلاف درهم وكنت أستسلفتها من إقطاعي فأديتها إليه، واستمر على السخط والصرف عن الأعمال إلى حين وفاة عضد الدولة.
وذكر عرس النعمة بن هلال: حدثني بعض السادة الأصدقاء وأنسيته وأظنه أبا طاهر محمد بن محمد الكرخي قال: كانت بنت عضد الدولة لما زفت إلى الطائع بقيت بحالها لا يقربها خوفاً أن تحمل منه فتستولي الديلم على الخلافة، وكان الطائع يحبها حباً شديداً زائداً موفياً، ويقفل عليها باب حجرتها إذا شرب ويقول للخدم: خذوا المفتاح ولا تعطونيه إذا سكرت ورمت الدخول إليها ولو فعلت مهما فعلت، فأقسم بالله لئن مكنت من ذاك لأقتلن الذي يمكنني منه، فإذا سكر منعه السكر من التماسك، وحمله الحب والهوى على المضي إليها والدخول عليها فيجئ إلى بابها ويأمر بفتحه ويتهدد ويتوعد ولا يقبل منه، ولا يقر له أحد بمعرفة المفتاح أين هو؟ ولا من هو معه إلى أن ينصرف أو ينام، فذاك كان دأبه ودأبها، وتقدم عضد الدولة إلى أبي علي التنوخي في أواخر أيامه بأن يمضي إلى الطائع ويطارحه عن والدة الصبية في المعنى بما يستزيده فيه لها ويبعثه به عليها بأسباب يتوصل إليها وأقول يصفها ويومئ إلى الغرض فيها رتبها عضد الدولة ولقنه إياها وفهمه فقال: السمع والطاعة، ومضى إلى بيته ولن يقدم على الطائع، وخاف عضد الدولة إن خالف ما رسمه له، فأظهر مرضاً وعاده أصدقاؤه منه واعتذر به إلى عضد الدولة، فوقع لعضد الدولة باطن الأمر، وأمر بعض الخدم الخواص بالمضي إلى التنوخي لعيادته وتعرف خيره وأن يخرج من عنده ويركب إلى أن يخرج من الدرب، ثم يعود فيدخل عليه هاجماُ، فإن كان على حاله في فراشه لم يتغير له أمر أعطاه مائتي دينار أصحبه إياها لنفسه وأظهر أنه عاد لأجلها لأنه أنسيها معه؟ وإن وجده قاعداً أو قائماً عن الفراش قال له: الملك يقول لك: لا تخرج عن دارك إلينا ولا إلى غيرنا، وانصرف. قال الخادم: فدخلت إليه وهو في فراشه وعليه دثاره وخاطبته عن الملك فشكر وأعاد جواباً ضعيفاً لم أكد أفهمه، وخرجت ثم عدت على ما رسم الملك، فهجمت عليه فوجدته قائماً يمشي حول البستان، فلما رآني اضطرب وتحير فقلت له: الملك يقول لك: لا تبرح دارك لا إلينا ولا إلى غيرنا وخرجت، فبقي على ذلك إلى أن مات عضد الدولة.

محمد بن آدم بن كمال الهروي

أبو المظفر الهروي ذكره عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في السياق وقال. مات بغتة سنة أربع عشرة وأربعمائة ودفن بمقبرة الحسين، وقبره ظاهر بقرب قبر أبي العباس السراج ووصفه فقال: الأستاذ الكامل الإمام في الأدب والمعالي، المبرز على إقرانه وعلى من تقدمه من الأئمة باستخراج المعاني وشرح الأبيات، وله أمثال وغرائب التفسير بحيث يضرب به المثل، ومن تأمل فوائده في كتاب شرح الحماسة وكتاب شرح الإصلاح وكتاب شرح أمثال أبي عبيد وكتاب شرح ديوان أبي الطيب وغيرها اعترف له بالفضل والانفراد، وتتلمذ للأستاذ أبي بكر الخوارزمي الطبري، وتفقه على القاضي أبي الهيثم، ثم جدد الفقه على القاضي أبي العلاء صاعد، وكان يقعد للتدريس في النحو وشرح الدواوين والتفسير وغير ذلك، فأما الحديث فما أعلم أنه نقل عنه منه شيء لاشتغاله بما سواه لا لعدم السماع له.

محمد بن أبان بن سيد أبان
اللخمي أبو عبد الله القرطبي، كان عالماً باللغة والعربية حافظاً للأخبار والآثار والأيام والمشاهد والتواريخ، أخذ عن أبي على البغدادي وعن غيره، ولي أحكام الشرطة وكان مكيناً عند المنتصر، وألف له الكتب وكتب عنه، وتوفي سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.
محمد بن إبراهيم بن حبيب بن سمرة
ابن جندب بن هلال بن جريج بن مسرة بن حزن بن عمرو ابن جابر بن ذي الرأسين واسمه خشين بن لاي بن عصيم بن شمخ ابن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان أبو عبد الله الفزاري. ولسمرة بن جندب صحبه بالنبي صلي الله عليه وسلم وكان عبيد الله بن زياد يستعمله على شرط البصرة إذا قدم الكوفة، وكان الفزاري هذا نحويا ضابطاً جيد الخط، أخذ عن المازني وحكى عنه أنه قال: قرأت كتاب الأمثال للأصمعي على الأصمعي. ومن زعم أنه قرأه عليه غيره فقد كذب.
قال المرزباني: كان محمد بن إبراهيم الفزاري الكوفي عالماً بالنجوم. وهو الذي يقول فيه يحيى بن خالد البرمكي: أربعة لم يدرك مثلهم في فنونهم: الخليل بن أحمد، وابن المقفع، وأبو حنيفة، والفزاري.
وقال جعفر بن يحيى، لم ير أبدع في فنه من الكسائي في النحو، والأصمعي في الشعر، والفزاري في النجوم، وزلزل في ضرب العود. وللفزاري القصيدة التي تقوم مقام زيجات المنجمين وهي مزدوجة طويلة تدخل مع تفسيرها عشرة أجلاد أولها:
الحمد لله العلي الأعظم ... ذي الفضل والمجدالكبير الأكرم
الواحد الفرد الجواد المنعم
الخالق السبع العلي طباقا ... والشمس يجلو ضوءها الإغساقا
والبدر يملأ نوره الآفاقا
وهي هكذا ثلاثة أقفال، ثلاثة أقفال
محمد بن إبراهيم العوامي
قال ابن إسحاق: يعرف بالقاضي وكان صديقي وتوفي بعد الخمسين والثلاثمائة، وله كتاب الإصلاح والإيضاح في النحو.
محمد بن إبراهيم بن عمران
ابن موسى الحوزي الأديب أبو بكر النحوي، من حوز فارس، وكان الأدباء المنقرين علامة في معرفة الأنساب وعلوم القرآن، ونزل نيسابور مدة وكثر الانتفاع به، وسمع حماد بن مدرك وجعفر بن درستويه الفارسيين وأبا بكر محمد ابن دريد وأقرانهم. قال الحاكم: وجاءنا نعمه من فارس سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.
محمد بن إبراهيم بن عبد الله أبو سعيد
الأديب الرجل الصالح، درس الأدب على أبي حامد الخارزنجي، وسمع أبا العباس بن يعقوب وأبا بكر القطان وأبا عثمان البصري وخرجت له الفوائد وحدث. ومات يوم الجمعة النصف من جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وثلاثمائة ذكر ذلك كله الحاكم في كتاب نيسابور.
محمد بن إبراهيم بن الحسين بن دادا

الجرباذقاني أبو جعفر، ذكره أحمد بن صالح بن شافع في تاريخه وقال: مات في حادي عشر ذي الحجة سنة تسع وأربعين وخمسمائة ووصفه فقال: رفيقنا الفقيه المحدث النحوي الأديب اللغوي الفرضي كالكاتب العفيف، ذو الموات والخصائص، ولما مات صلى عليه شيخنا أبو الفضل ابن ناصر ودفن في تربة استجدها أبو النجيب بظاهر التوثة وكنا نسمع معاً، ولم أر له مثلاً زهداً وعلماً ونبلاً، وصل إلى بغداد سنة أربعين وخمسمائة واصطحبنا، وكان متيقظاً زاهداً ورعاً، وصنف كتباً في الفرائض وغيرها، وكان شافعي المذهب، ولو عاش لكان صدر الآفاق، ولقد فت في عضدي فقده، وأثر عندي بعده، فعند الله نحتسب مصيبتنا فيه.

محمد بن إبراهيم بن خلف اللخمي الأديب
أبو عبد الله يعرف بابن زروقه، قال ابن بشكوال: كان من أهل الأدب معتنياً بطلبه قديماً مشهوراً فيه، وممن يقول الشعر الحسن، له تأليفان في الأدب والأخبار. قال ابن خزرج: قرأتهما عليه، ومن شيوخه أبو نصر النحوي وابن أبي الحباب وغيرهما، وتوفي في حدود سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وهو ابن سبع وستين سنة.
محمد بن إبراهيم لبيهقي
بن أحمد البيهقي أبو سعيد قال عبد الغافر: هو رجل فاضل متدين حسن العقيدة، صنف في اللغة كتباً منها: كتاب الهداية، كتاب الغيبة، وكان ماهراً في ذلك النوع، سمع الحديث من مشايخ نيسابور كالإمام شيخ الإسلام الصابوني والإمام ناصر المروزي.
محمد بن إبراهيم بن داود
بن سليمان أبو جعفر الأردستاني - وأردستان من نواحي أصبهان بليدة - أديب فاضل، حدث عن أحمد بن عبد الله النهرديري وأحمد ابن محمد بن العباس الأسفاطي البصري، وكتب عنه أحمد ابن محمد الحداد وغيره بأصفهان، ذكره يحيى بن مندة وقال: مات في ذي القعدة سنة خمس عشرة وأربعمائة.
محمد بن أحمد بن عبد الله
بن عبد الصمد ابن على بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي، وقال المرزباني: هو أحمد بن محمد، قتل في سنة خمسين ومائتين في خلافة المستعين بالله، وكنيته أبو العباس ويلقب بأبي العبر.
قال جحظة: لم أر قط احفظ منه لكل عين ولا أجود شعراً، ولم يكن في الدنيا صناعة إلا وهو يعلمها بيده حتى لقد رأيته يعجن ويخبز، وكان أبوه أحمد يلقب بالحامض، وكان حافظاً أديباً في نهاية التسنن، قتل بقصر ابن هبيرة وقد خرج لأخذ أرزاقه من هناك، سمعه قوم من الشيعة ينتقص علياً عليه السلام فرموا به من فوق سطح كان بائتاً عليه فمات في السنة المقدم ذكرها.
وذكره أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني فقال: كان أبوه أحمد يلقب حمدون الحامض، ولد لمضي خمس سنين من خلافة الرشيد والرشيد بويع في سنة سبعين ومائة وعاش إلى أيام المستعين بالله، وكان في أول أمره يسلك في شعره الجد ثم عدل إلى الهزل والحماقة فنفق نفاقاً كثيراً، وجمع به ما لم يجمع أحد من شعراء عصره المجيدين.
ومن سائر شعره قوله:
بأبي من زارني مكتئباً ... خائفاً من كل حس جزعا
رصد الخلوة حتى أمكنت ... ورعى السامر حتى هجعا
قمر نم عليه حسنه ... كيف يخفي الليل بدراً طلعا؟
ركب الأهوال في زورته ... ثم ما سلم حتى ودعا
قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب جامع الحماقات وحاوي الرقاعات، كتاب المنادمة وأخلاق الرؤساء. حدث أبو علي الحسين بن أحمد البيهقي السلامي حدثني أبو أحمد الهذلي قال: حدثنا أبو عبد الله الشعيري وكان شاعراً من أهل بغداد قال: اجتمعت مع جماعة من الشعراء في مجلس نتناظر ونتناشد ونتساءل ونعد شعراء زماننا، فمر بنا أبو العبر فقلنا: هذا أيضاً يعد نفسه في الشعراء فمال إلينا وقال: والله أشعر منكم وأعلم. فقلنا: قد اختلفنا في بيت فاشتبه علينا فهل نسألك عنه؟ فقال نعم، فسألناه عن معنى هذا البيت:
عافت الماء في الشتاء فقلنا ... برديه تصادفيه سخينا

كيف تصادفه سخياً إذا بردته؟. فقال: أخفي عليكم؟ قلنا نعم. فقال هو ليس من التبريد وإنما هو صرف مدغم، ومعناه بل رديه من الورود، فأدغموا اللام في الراء كما قال الله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم)، وقوله: (وقيل من راق). قال: فاستحسنا ما فسره وأقررنا له بالفضل. فقال: إني أسألكم بيتاً كما سألتموني، أما ترون إلى قول دغفل:
إن على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا تعرفه أو تحمله
فقلنا: سل: فقال: ما معنى قول القائل؟:
يا من رأى رحلاً واقفاً ... أحرقه الحر من البرد
كيف يحرقه الحر من البرد؟ قال: فاضطربنا في معناه، فلم نخرجه فسألناه عنه فقال: هذا قولي: وذلك أنني مررت بحداد يبرد حديداً فمسست تلك البرادة فأحرقت يدي، وإنما البرد مصدر برد الحديد برداً، وليس هو من الشيء البارد. قال: فأقررنا بفضل معرفته فأنشأ يقول:
أقر الشعراء أني ... ومرواً في الحرمرم
إنهم عندي جميعاً ... .... العنمنم
فقطعت الرأس منهم ... ثم جلد القد دمدم
فعلمنا منه طبلاً ... من طبول الخد دمدم
فضربنا به دمدم ... ثم دمدم ثم دمدم
عجبنا يا قوم مني ... كنت معكم كالململم
وقال المرزباني: أبو العبر أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد لصمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب.
وقال محمد بن داود: اسمه محمد بن أحمد، وهو حمدون ابن عبد الله بن عبد الصمد يكنى أبا العباس، صاحب الشعر الأحمق والكلام المختلق، وهو أبرد الناس غير مدافع وربما قال شعراً صالحاً، وهو القائل وأنشدناه الأخفش:
لو يكون الهوى بجسم من الصخ ... رعلى أن فيه قلب حديد
فعل الحب فيهما مثل ما يف ... عل شعر اللحى بورد الخدود
وله ورواه أبو الحسن علي بن العباس الرومي:
لو كنت من شيء خلافك لم تكن ... لتكون إلا مشجباً في مشجب
لو أن لي من جلد وجهك رقعة ... لجعلت منها حافراً للأشهب
قال: وكان يظهر الميل على العلويين والهجاء لهم، وجرت منيته على يد رجل من أهل الكوفة من رماة الجلاهق، وخرج معه من بغداد إلى آجام الكوفة للرمي فسمع الرامي منه كلاماً استحل به دمه فقتله وهو القائل لموسى بن عبد الملك وكان دفع إليه توقيعاً بصلة من المتوكل فدافعه موسى وماطله مدة فوقف له يوماً فلما ركب أنشده:
حتى متى نتبرد ... وكم وكم أتردد؟
موسى أدر لي كتابي بحق ربك الأسود
يعني محمد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق، وكان محمد من أمة سوداء فنحلته سوادها، فجزع موسى بن عبد الملك من قوله، وسأله كتم الحال وقضي شغله.
وقال جحظة: اجتمعت أنا وجماعة من إخواننا مع أبي العبر في براح أراد أن يبنيه داراً فأقبلنا نقدر البيوت وأين مواقعها؟ فبينا نحن كذلك إذ ضرط بعض من كان معنا فقال أبو العبر: مهما شككنا فيه فما نشك أن هذا الموضع الكنيف.

محمد بن أحمد بن محمد المغربي
أبو الحسن راوية المتنبي، أحد الأئمة الأدباء والأعيان الشعراء، خدم سيف الدولة ولقي المتنبي وصنف تصانيف حسنة وله ذكر في مصر والعراق والجبل وما وراء النهر والشاش، وجالس الصاحب ابن عباد، ولقي أيا الفرج الأصبهاني وروي عنه، وله معه أخبار. ومن تصانيفه التي شاهدتها: كتاب الانتصار المنبئ عن فضائل المتنبئ، كتاب النبيه المنبئ عن رذائل المتنبئ، كتاب تحفة الكتاب في الرسائل - مبوب - ، كتاب تذكرة النديم - مجموع حسن جيد ممتع - ، كتاب الرسالة الممتعة كتاب بقية الانتصار المكثر للاختصار. وغير ذلك من الرسائل والكتب. قال: وأخذت قول المتنبئ:
كفى بجسمي نحولاً أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
فزدت عليه فلم أدع لغيري فيه زيادة وقلت من قصيدة:
عدمت من النحول فلا بلمس ... يكفيني الوجود ولا عيان
ولولا أنني أذكى البرايا ... لكنت خفيت عني لا أراني
قال: واختفائي عني أبدع من اختفائي من غيري وأبلغ في المعنى. وله إلى بعض جلة الكتاب يستهدنه عمامة:
أريد عمامة حسناء عنها ... أعممك الجميل من الثناء

فوجهها وقد نبلت ... بلبسك في صباح أم مساء
معافى نشرها من كل عاب ... يولد لونه أيدي العناء
أدق من الذكاء إذا اجتلتها ... على مهل لواحظ ذي ذكاء
وأضوى لحمة وسدى ولوناً ... من الشمس النيرة في ضحاء
لو الغرقى قاربها لأربت ... عليه في الصفاقة والصفاء
لبم أو لنيسابور تعزى ... فتصلح للمصيف وللشتاء
كعرضك إنه عرض نقي ... عن الأدناس جمعاً في عطاء
تتوجني بهاء منه أكسى ... مدى لبسي لها حلل البهاء
إذا ما مست فيها معجباً لا ... أفكر من أمامي أو ورائي
يقول المبصروها أي تاج ... به أصبحت فينا ذا رواء
وتعلم أن قول العرب حق ... بلا كذب يدوم ولا افتراء
عمائمنا لنا تيجان فخر ... سناها قد أضيف إلى سناء
قرأت في كتاب مذاكرة النديم من تصنيف محمد بن أحمد المغربي هذا: قلت أصف رغيفاً أمرني بوصفه الصاحب الجليل أبو القاسم إسماعيل بن عباد وأنا معه على مائدته، واقترح أن يكون وصفي له ارتجالاً فقلت:
ورغيف كأنه الترس يحكى ... حمرة الشمس بالغدو احمراره
خفت أن يكتسي نهار مآقي ... ى به الليل مذ تبدى نهاره
جمعته أناملي ثم خلت ... ه فسيان طيه وانتشاره
لم تقع منه قطعة لا ولا با ... ن للحظ شقيقه وانكساره
ناعم لين كمبسم من قا ... م بعذري عند البرايا عذارة
لست أنسى به تنعم ضرسي ... إذ لجزعي وهج توقد ناره
كان أحظى إذ ذاك عندي من الوف ... ر إذا قر في محلى قراره
يعلم الله أني لست أنسا ... ه وإن شط عن مزاري مزاره
فاستحسن الأبيات وتعجب من سرعة خاطري بها ثم قال لي مداعباً نفاسة أخلاق فيه: خذه صلة لك، فأخذته وتركته على رأسي إلى أن قمنا عن المائدة، ثم خرجت ماراً إلى منزلي وكنت أنزل بعيداً من منزله، فعرف خروجي على تلك الحال فقال: ردوه، فرجعت فقال لي: عزمت أن تشق الأسواق والشوارع وهذا على رأسك؟ فقلت: نعم لأسأل فأقول: هذا صلة مولانا وأذكر الأبيات، فضحك ثم قال: بعناه. فقلت: قد بعته من مولانا بخمسمائة دينار فقال: أنقضنا واجعلها دراهم، فقلت: قد فعلت، فأمري لي بخمسمائة درهم وخلعة من ثياب جسده. وقال في هذا الكتاب: ولي في وصف مضيرة وصفتها وأنا على مائدة أبي عبد الله بن جيهان وزير صاحب خراسان:
نعم الغذاء إذا ما أينع العشب ... وراقت العين أبراد له قشب
مضيرة كاللجين، السبك يحكمها ... معقودة مصطفى للطبخ منتخت
تخالها أرض بلور وما حملت ... من الدسومة نقشاً حشوة ذهب
أبرنجها أكر سود ملبسة ... قباطياً عن قريب سوف تستكب؟
ولحمها حلل للزهر قد جعلت ... من أبيض الثلج فيما بينها حجب
توافق الشيخ والكهل اللذين هما ... من الرطوبة في حال هي العطب
وللأبازير نفح من دواخلها كالمسك ... لا بل إليها المسك ينتسب
يا حسنها وهي بالأيدي تغار بلا ... جرم أتته وبالألحاظ تنتهب
من حالفته فقد جلت مواهبه ... ونال من دهره أضعاف ما يجب

محمد بن أحمد الوشاء
ن إسحاق بن يحيى الوشاء أبو الطيب النحوي من أهل الأدب حسن التصنيف مليح التأليف أخباري. قال أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في تاريخه: مات أبو الطيب الوشاء سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، وله ابن يعرف بابن الوشاء. حدث الوشاء عن أحمد بن عبيد بن ناصح والحارث بن أسامة وثعلب والمبرد قال الخطيب: روت عنه منية جارية خلافة أم ولد المعتمد.

قال ابن النديم: وكان نحوياً معلماً لمكتب العامة وكان يعرف بالأعرابي، وله من الكتب: كتاب مختصر في النحو، كتاب الجامع في النحو، كتاب في المقصور والممدود، كتاب المذكر والمؤنث، كتاب الفرق، كتاب خلق الإنسان، كتاب خلق الفرس، كتاب المثلث، كتاب أخبار صاحب الزنج، كتاب الزاهر في الأنوار والزهر، كتاب السلوان، كتاب المذهب، كتاب الموشح، كتاب سلسلة الذهب، كتاب أخبار المتظرفات، كتاب الحنين إلى الأوطان، كتاب حدود الطرف الكبير، كتاب الموشى. نقلت من خط أبي عمرو محمد بن أحمد النوقاتي أنشدني الشافعي أحمد بن محمد، أنشدني بن محمد بن حفص، أنشدني أبو الطيب الوشاء لنفسه:
لا صبر لي عنك سوى أنني ... أرضى من الدهر بما يقدر
من كان ذا صبر فلا صبر لي ... مثلي عن مثلك لا يصبر
ومن خطه وإسناده للوشاء:
يا من يقوم مقام الروح في الجسد ... لا تحسبني خلي البال من سهد
حاشاك من أرقى حاشاك من قلقي ... حاشاك من طول ما ألقى من الكمد
حزني عليك جديد لا نفاد له ... أوهى فؤادي وأوهى عقدة الجلد
والصبر عنك قليل مضرم قلقاً ... بين الضلوع كصبر الأم عن ولد

محمد بن أحمدلأصبغ
بن الحسين بن الأصبغ بن الحرون ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو عالم فاضل حسن التصنيف مليح التأليف كثير الأدب واسع الرواية من أهل بغداد ومن أولاد الكتاب، وله من الكتب: كتاب المطابق والمجانس، كتاب الحقائق كبير، كتاب الشعر والشعراء، كتاب الآداب، كتاب الرياض، كتاب الكتاب، كتاب المحاسن، كتاب مجالسة الرؤساء.
محمد بن أحمد بن مروان بن سبره
أبو مسهر النحوي، ذكره محمد بن إسحاق النديم ثم قال: وله من الكتب: كتاب الجامع في النحو، كتاب المختصر، كتاب أخبار أبي عيينة محمد بن أبي عيينة.
محمد بن أحمد المزني أبو الحسن
وزير نوح بن منصور الساماني، أحد أصحاب البلاغة والرسائل، شاع ذكرها في الآفاق، وتناجت بحسنها الرفاق.
محمد بن أحمد بن عبد الحميد الكاتب
ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو من أهل السير، وله من الكتب: كتاب أخبار خلفاء بني العباس كبير
محمد بن أحمد الحكيمي
بن إبراهيم بن قريش الحكيمي أبو عبد الله، روي عن يموت بن المزرع، ومحمد بن إسحاق الصاغاني، وأحمد بن عبيد بن ناصح، والحارث بن أبي أسامة، روي عن أبو عبد الله المرزباني وغيره، ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: له من الكتب: كتاب خلية الأدباء تشتمل على أخيار ومحاسن وأشعار، كتاب سفط الجوهر، كتاب الشباب، كتاب الفكاهة والدعابة. حدث أبو علي قال: حدثني ابن أبي قيراط قال: أقر أني أبو عبد الله محمد بن أحمد الحكيمي كتاباً بخط علي بن عيسى الوزير وأخبرني أنه كتبه إليه في وزارته الأخيرة وهو يتقلد له طساسيج طريق خراسان يحثه فيه على حمل المال وضمنه: قد كنت - أكرمك الله - بعيداً من التقصير، غنياً عن التنبيه والتبصير، راغباً فيما خصك بالجمال، وقدمك على نظرائك من العمال، واتصلت بك ثقتي، وانصرفت إليك عنايتي، ورددت الجميل من العمل إليك، واعتمدت في المهم عليك، ثم وضح لي من أثرك، وصح عندي من خبرك، ما اقتضى استزادتك، وردفه ما استدعى استبطائك ولأئمتك، وأنت تعرف صورة الحال، وتطلعي مع شدة الضرورة إلى ورود المال، وكان يجب أن تبعثك العناية، على الجد في الجباية، حتى تدر حمولك وتتوفر ويتصل ما يتوقع وروده من جهتك ولا تتأخر، فنشدتك لما تجنبت مذاهب الإغفال والإهمال، وقرنت الجواب عن كتابي هذا بمال، تثيره من سائر جهاته وتحصله، وتبادر به وتحمله، فإن العين إليه ممدودة، والساعات لوروده معدودة، والعذر في تأخيره ضيق، وأنا عليك من سوء العاقبة مشفق، والسلام.
محمد بن أحمد بن إبراهيم

بن كيسان أبو الحسن النحوي، وكيسان لقب واسمه إبراهيم، مات فيما ذكره الخطيب لثمان خلون من ذي القعدة سنة تسع وتسعين ومائتين في خلافة المقتدر. قال أبو بكر الزبيدي: وليس هذا بالقديم الذي له في العروض والمعمى كتاب. وقال الخطيب بن برهان: كيسان - ليس باسم جده إنما هو لقب أبيه - . وكان يحفظ المذهبين الكوفي والبصري في النحو لأنه أخذ عن المبرد وثعلب، وكان أبو بكر بن مجاهد يقول: أبو الحسن ابن كيسان أنحى من الشيخين يعني المبرد وثعلباً. قال المؤلف: وكان كما قال: يعرف المذهبين إلا أنه كان إلى البصريين أميل.
وحدث أبو الطيب اللغوي في كتاب مراتب النحويين قال: كان ابن كيسان يسأل المبرد عن مسائل فيجيبه فيعارضها بقول الكوفيين فيقول في هذا: على من يقوله كذا ويلزمه كذا، فإذا رضي قال له: قد بقي عليك شيء لم لا تقول كذا؟ فقال له يوماً وقد لزم قولاً للكوفيين ولج فيه: أنت كما قال جرير:
أسليك عن زيد لتسلى وقد أرى ... بعينيك من زيد قذى غير بارح
إذا ذكرت زيداً ترقرق دمعها ... بمذروفة العينين شوساء طامح
تبكي على زيد ولم تر مثله ... براء من الحمى صحيح الجوانح
فإن تقصدي فالقصد منك سجية ... وإن تجمحي تلقي لجام الجوامح
وحدث أبو بكر محمد بن مبرمان قال: قصدت بن كيسان لأقرأ عليه كتاب سيبويه فامتنع وقال: أذهب به إلى أهله يعني الزجاج وابن السراج، وكان أبو بكر بن الأنباري يتعصب عليه ويقول: خلط المذهبين فلم يضبط منهما شيئاً، وكان يفضل الزجاج عليه جداً. وله من الكتب: كتاب المهذب في النحو، كتاب غلط أدب الكاتب، كتاب اللامات، كتاب الحقائق، كتاب البرهان، كتاب مصابيح الكتاب، كتاب الهجاء والخط، كتاب غريب الحديث نحو أربعمائة ورقة، كتاب الوقف والابتداء، كتاب القراءات، كتاب التصاريف، كتاب الشاذاني في النحو، كتاب المذكر والمؤنث، كتاب المقصور والممدود، كتاب معاني القرآن، كتاب مختصر في النحو، كتاب المسائل على مذهب النحويين ما اختلف فيه الكوفيين والبصريون، كتاب الفاعل والمفعول به كتاب المختار في علل النحو ثلاث مجلدات أو أكثر قرأت بخط إبراهيم بن محمد بن بندار، قرأت بخط أبي جعفر السعال في آخر العروض: - إلى ههنا أملي على بن كيسان وأنا كنت أستمليه، وفرغنا من العروض لخمس بقين من شوال سنة ثمان وتسعين ومائتين - .
وقال أبو حيان التوحيدي: وما رأيت مجلساً أكثر فائدة وأجمع لأصناف العلوم وخاصة ما يتعلق بالتحف والطرف والنتف من مجلس ابن كيسان، فإنه كان يبدأ بأخذ القرآن والقراءات، ثم بأحاديث رسول الله صلى الله عله وسلم، فإذا قرئ خبر غريب أو لفظة شاذة أبان عنها وتكلم عليها وسأل أصحابه عن معناها، وكان يقرأ عليه مجالسات ثعلب في طرفي النهار، وقد اجتمع على باب مسجده نحو مائة رأس من الدواب للرؤساء والكتاب والأشراف والأعيان الذين قصدوه، وكان مع ذلك إقباله على صاحب المرقعة الممزقة والعباء الخلق والطمر البالي كإقباله على صاحب القصب والوشي والديباج والدابة والمركب والحاشية والغاشية. ويوماً من الأيام جرى في مجلسه ما امتعض منه وأنكره وقضى منه عجباً، وأنشد في تلك الحالة من غرر الشعر والمقطعات الحسنة وغيرها ما ملاء السمع وحير الألباب حتى قال الصابئ: هذا الرجل من الجن إلا أنه في شكل إنسان. ومن جملة ما أنشد في تلك الحال:
مالي أرى الدهر لا تفني عجائبه؟ ... أبقى لنا ذنباً واستؤصل الراس
إن الجديدين في طول اختلافهما ... لا ينقصان ولكن ينقص الناس
أبقى كل محمول وفجعنا ... بالحاملين فهم أثواء أرماس
يرون أن كرام الناس إن بذلوا ... حمقى وأن لئام الناس أكباس
وتمثل أيضا ببيتي أبي تمام:
قوم إذا خافوا عداوة حاسد ... سفكوا الدما بأسنة الأقلام
ولضربة من كاتب بمداده ... أمضى وأنفذ من رقيق حسام

قال المؤلف: هكذا حكى أبو حيان، ولا أرى أبا حيان أدرك ابن كيسان، هذا إن صحت وفاته التي ذكرها الخطيب، ولا يكون الصابئ أيضاً أدركه، لأن مولد الصابئ في سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، والذي ذكره الخطيب لاشك سهو، فإني وجدت في تاريخ أبي غالب همام ابن الفضل بن المهذب المغربي أن كيسان مات في سنة عشرين وثلاثمائة.

محمد بن أحمد بن منصور
أبو بكر بن الخياط النحوي، أصله من سمرقند وقدم بغداد، ومات فيما ذكره أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني في سنة عشرين وثلاثمائة قال: وكان قد انحدر مع البريد لما غلبوا على البصرة وبها مات، وجرت بينه وبين الزجاج ببغداد مناظرة وكان يخلط المذهبين، وقد قرأ عليه أبو علي الفارسي وكتب عنه شيئاً من علم العربية، رأيت ذلك بخط أبي علي. وله مع أصحاب الخياط قصة قد ذكرت في أخبار أبي علي، وأخذ عنه أبو القاسم الزجاجي أيضاً، وكان ابن الخياط جميل الأخلاق طيب العشرة محبوب الخلقة. وله من الكتب: كتاب معاني القرآن، كتاب النحو الكبير، كتاب الموجز في النحو، كتاب المقنع في النحو.
وقال أبو علي الفارسي في ضمن رقعة كتبها إلى سيف الدولة جواباً عن رقعة وردت منه ذكرتها في أخبار أبي علي: وأما قوله: إني قلت إن ابن الخياط كان لا يعرف شيئاً فغلط في الحكاية كيف أستجيز ذلك؟ وقد كلمت ابن الخياط في مجالس كثيرة، ولكني قلت: إنه لا لقاء له لأنه دخل إلى بغداد بعد موت محمود بن يزيد وصادف أحمد ابن يحيى وقد صم صمماً شديداً لا يخرق الكلام سمعه فلم يمكن تعلم النحو منه، وإنما كان يقوله فيما كان يؤخذ عنه ما يمليه دون ما كان يقرأ عليه، وهذا أمر لا ينكره أهل هذا الشأن ومن يعرفهم.
محمد بن أحمد بن علي
بن إبراهيم بن زيد ابن حاتم بن المهلب بن أبي صفرة، المهلبي النحوي أبو يعقوب، مات بمصر سنة تسع وأربعين وثلاثمائة في خلافة المطيع، وكان عالماً نحوياً لغوياً، ذكره الزبيدي. قال المؤلف: وعساه أن يكون أخا أبي الحسين علي بن أحمد المهلبي والله أعلم.
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد
ابن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عبد المطلب بن هاشم، شاعر مفلق، وعالم محقق، شائع الشعر نبيه الذكر. مولده بأصبهان، وبها مات في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وله عقب كثير بأصبهان، فيهم علماء وأدباء ونقباء ومشاهير، وكان مذكوراً بالذكاء والفطنة وصفاء القريحة وصحة الذهن وجودة المقاصد، معروف بذلك مشهور به. وهو مصنف كتاب عيار الشعر، كتاب تهذيب الطبع، كتاب العروض لم يسبق إلى مثله، كتاب في المدخل في معرفة المعمى من الشعر، كتاب في تقريظ الدفاتر.
ذكر أبو عبد الله حمزة بن الحسن الأصبهاني قال: سمعت جماعة من رواة الأشعار ببغداد يتحدثون عن عبد الله بن المعتز أنه كان لهجاً بذكر أبي الحسن مقدماً له على سائر أهله ويقول: ما أشبهه في أوصافه إلا محمد بن يزيد مسلمة بن عبد الملك، إلا أن أبا الحسن أكثر شعراً من المسلمي وليس في ولد الحسن من يشبهه، بل يقاربه علي بن محمد الأفواه.
قال: وحدثني أبو عبد الله بن أبي عامر قال: كان أبو الحسن طوال أيامه مشتاقاً إلى عبد الله بن المعتز متمنياً أن يلقاه أو يرى شعره، فأما لقاؤه فلم ينفق له لأنه لم يفارق أصبهان قط، وأما ظفره بشعره فإنه اتفق له في آخر أيامه. وله في ذلك قصة عجيبة: وذلك أنه دخل إلى دار معمر وقد حملت إليه من بغداد نسخة من شعر عبد الله بن المعتز، فاستعارها فسوف بها فتمكن عندهم من النظر فيها، وخرج عدل إلى كالا معيياً كأنه ناهض بجمل ثقيل، فطلب محبرة وكاغداً وأخذ يكتب عن ظهر قلبه مقطعات من الشعر فسألته لمن هي؟ فلم يجبني حتى فرغ من نسخها وملأ منها خمس ورقات من نصف المأموني، وأحصيت الأبيات

فبلغ عددها مائة وسبعة وثمانين بيتاً تحفظها من شعر ابن المعتز في ذلك المجلس واختارها من بين سائرها. وذكر عنه حكايات، منها ما حدثني به أبو عبد الله بن أبي عامر قال: من توسع أبي الحسن في أتي القول وقهره لأبيه، أن عبد الله فتى أبي الحسين بن أحمد بن يحيى بن أبي البغل كانت به لكنه شديدة حتى كان لا يجري على لسانه حرفان من حروف المعجم، الراء والكاف، يكون مكان الراء غيناً ومكان الكاف همزة، فكان إذا أراد أن يقول كركي يقول: أغ إي، وإذا أراد أن يقول كركرة يقول: أغ أغة، وينشد للأعشى: قالت إغى غجلاً في أفه أتف. يريد: قالت أرى رجلاً في كفه كتف. فعمل أبو الحسن قصيدة في مدح الحسين حذف منها حرفي لكنة الحسين ولقنه حتى رواها لأبيه أبي الحسين فجن عليها. وقال أبو الحسن: والله أنا أقدر على أبي الكلام من واصل بن عطاء، والقصيدة:
يا سيداً دانت له السادات ... وتتابعت في فعله الحسنات
وتواصلت نعماؤه عندي فلي ... منه هبات خلفهن هبات
نعم ثنت عني الزمان وخطبه ... من بعد ما هيبت له غدوات
فأدلت من زمن منيت بغشمه ... أيام للأيام بي سطوات
فلميت آمالي لديه حياته ... ولحاسدي نعمى يديه ممات
أوليتني مننا تجلى وتعتلي ... عن أن يحيط بوصفهن صفات
فإذا نثثن بمنطق من مادح ... فالمدح مني والثناء صمات
عجنا عن المدح التي استحققتها ... والله يعلم ما تعي النيات
يا ماجداً فعل المحامد دينه ... وسماحه صوم له وصلاة
فيبيت يشفع راجياً بتطوع ... منه وقد غشى العيون سبات
فالجود مثل قيامة وسجوده ... إن قيس والتسبيح منه عدات
مازال يلفي جائداً أو واعداً ... وعدا تضايق دونه الأوقات
ليمينه بالنجح عند عفاته ... في ليل ظنهم البهيم ثبات
ذو همة علوية توفي على ال ... جوزاء تسقط دونها الهمات
تنأى عن الأوهام إلا أنها ... تدنو إذا نيطت بها الحاجات
وعزيمة مثل الحسام مصونة ... عن أن يفل به الزمان شباة
فإذا دهى خطب مهم أيد ... خلي العداة وجمعهم أشتات
لأبي الحسين سماحة لو أنها ... للغيث لم تجدب عليه فلاة
وله مساع في العلا عدد الحصى ... في طيئ منن جلها مسعاة
كحيا السحاب على البقاع سماته ... وله على عافي نداه سمات
يحيى بنائله نفوساً مثل ما ... يحيا بجود الهاطلات نبان
شاد العلاء أبو الحسين وحازه ... عن سادة هم شائدون بناة
سباق غايات تقطع دونها ... سباقها إن مدت الحلبات
فإذا سعوا نحو العلا وسعى لها ... متمهلاً حيزت له القصبات
مستوفز عند السماح وإن تقس ... أحداً به في الحلم قلت حصاة
طود يلوذ به الزمان وعنده ... لجميع أحداث الزمان أداة
بيمينه قلم إذا ماهزه ... في أوجه الأيام قلت قناة
في سنة باس السنان وهيبة الس ... يف الحسام وقد حوته دواة
سحبان عيا وهو عيا باقل ... عجل إلى النجوى وفيه أناة
وسنان إلا أنه متنبه ... يقظان منه الزهو والإخبات
لم يخط في ظلمات ليل مداده ... إلا انجلت عنا به الظلمات
وأبو علي أحمد بن محمد ... قد نمقت عني لديه هنات
فتقاعست دوني عوائد فضله ... وسعت سعاة بيننا وعداة
فافتله عن طول العقوق وهزه ... فله لدي فعل العلا هزات
والله ما شأني المديح وبذله ... لمؤمل ليمينه نفحات
إلا مجازاة لمن أضحت له ... عندي يد أغذي بها وأقات

والمسمعي له لدي صنائع ... أيامهن لطيها ساعات
فإخالها عهد الشباب وحسنه ... إذ طار لي في ظله اللذات
خذها الغداة أبا الحسين قصيدة ... ضيمت بها الراءات والكافات
غيبن عنها ختلة أخواتها ... عند النشيد فما لها أخوات
ولو أنهن شهدن لازدوجت ... لها الغينات والألفات
فاسعد أبا عبد الإله بها إذا ... شقيت بلثغة منشد أبيات
نقصت فتمت في السماع وألغيت ... منها التي هي بينها آفات
صفيتها مثل المدام له فما ... فيها لدي حسن السماع قذاة
معشوقة تسبي العقول بحسنها ... ياقوتة في اللين وهي صفاة
علوية حسنية مزهوة ... تزهى بحسن نشيدها اللهوات
ميزانها عند الخليل معدل ... متفاعلن متفاعلن فعلات
لو واصل بن عطاء الباني لها ... تليت توهم أنها آيات
لولا اجتنابي أن يمل سماعها ... لأطلتها ما خطت التاءات
وقال أيضاً في الفخر:
حسود مريض القلب يخفى أنينه ... ويضحي كئيب البال عندي حزينه
يلوم على أن رحت في العلم راغباً ... أجمع من عند الرواة فنونه
وأملك أبكار الكلام وعونه ... وأحفظ مما أستفيد عيونه
ويزعم أن العلم لا يجلب الغنى ... ويحسن الجهل الذميم ظنونه
فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمة كل الناس ما يحسنونه
إذا عد أغني الناس لم أك دونه ... وكنت أرى الفجر المسود دونه
إذا ما رأى الراؤون نطقي وعيه ... رأوا حركاتي قد هتكن سكونه
وما ثم ريب في حياتي وموته ... فأعجب بميت كيف لا يدفنونه؟
أبي الله لي من صنعه أن يكونني ... إذا ما ذكرنا فخرنا وأكونه
وجدت في كتاب شعراء أصبهان لحمزة الأصبهاني قال: وجدت بخط أبي الحسن - رحمه الله - يعني ابن طباطبا، أن أبا علي يحيى بن علي بن المهلب وصف له دعوة لأبي الحسن أحمد بن محمد بن إبراهيم الكراريسي، ذكر أنهم قربوا فيها مائدة عليها خيار وفي وسطها جامات عليا - فطر نخشب - فسميتها مسيحية لأنها أدم النصارى، وأنهم قربوا بعد ذلك سكباجة بعظام عارية فسميتها شطرنجية، وأنهم قربوا بعدها مضيرة في غضائر بيض فسميتها معتدة وكانت بلا دسم، والمعتدة لا تمس الدهن والطيب، وأنهم قدموا بعدها زيرباجة قليلة الزعفران فسميتها عابدة تشبيهاً بلون العباد في الصفرة، وأنهم قربوا بعدها لونا فسميتها قنبية وأنهم قربوا بعدها زبيبية سوداء فسميتها موكبية، وأنهم قربوا بعدها قلية بعظام الأضلاع فسميتها حسكية، ثم قربوا بعدها فالوذجة بيضاء فسميتها صابونية، وأنه اعتل على الجماعة بأنه عليل فحولهم من منزله إلى باغ قد طبق بالكراث فهيأ المجلس هناك، وأحضرهم جرة منثلمة وكانوا يمزجون شرابهم منها، فإذا أرادوا الغائط نقلوها معهم، فكانت مرة في المجلس ومرة في المخرج وأن الباغبان ربط بحذائهم عجله كانت تخور عليهم خواراً مناسباً لقول القائل يا فاطمة، فقلت في ذلك:
يا دعوة مغبرة قاتمة ... كأنها من سفر قادمه
قد قدموا فيها مسيحية ... أضحت على أسلافها نادمه
نعم وشطرنجية لم تزل ... أيد وأيد حولها حائمه
فلم نزل في لعبها ساعة ... ثم نفضناها على قائمه
وبعدها معتدة أختها ... عابدة قائمة صائمه
في حجرها أطراف مؤودة ... قد قتلتها أمها ظالمه
والقنبيات فلا تنسها ... فحيرتي في وصفها دائمه
أقنب ما امتد في إصبعي ... أم حية في وسطها نائمه
والموكبيات بسلطانها ... قد تركت آنافنا راغمه
والحسكيات فلا تنس في ... خندقها أوتادها القائمه
وجام صابونية بعدها ... فافخر بها إذ كانت الخاتمه

ظل الكراريسي مستعبراً ... من عصبة في داره طاعمه
وقال إن ابني عليل ولي ... قيانه من أجله قائمه
وولولت داياته حوله ... وليس إلا عبرة ساجمه
والقصيدة طويلة باردة نشبت في كتابتها فكتبت منها هذا. وله:
لا تنكرن إهداءنا لك منطقاً ... منك استفدنا حسنه ونظامه
فالله عز وجل يشكر فعل من ... يتلو عليه وحيه وكلامه
وقال: وقد صادف على باب ابن رستم عثمانيين أسودين معتمين بعمامتين حمراوين فامتحنهما فوجدهما من الأدب خاليين، فدخل إلى مجلس أبي علي وتناول الدواة والكاغد من بين يديه وكتب بديهة:
رأيت باب الدار أسودين ... ذي عمامتين حمراوين
كجمرتين فوق فحمتين ... قد غادرا الرفض قريري عين
جدكما عثمان ذو النورين ... فما له أنسل ظلمتين؟
يا قبح شين صادر عن زين ... حدائد تطبع منلجين
ما أنتما إلا غرابا بين ... طيرا فقد وقعتما للحين
زورا ذوي السنة في المصرين ... المظهرين الحب للشيخين
وخليا الشيعة للسبطين ... الحسن المرضي والحسين
لا تبرما إبرام رب الدين ... ستعطيان في مدى عامين
قال: وقال لابن أبي عمر بن عصام وكان ينتف لحيته:
يا من يزيل خلقة الر ... حمن عما خلقت
تب وخف الله على ... ما ... اجترحت
هل لك عذر عنده ... إذا الوحوش حشرت؟
في لحية إن سئلت ... بأي ذنب قتلت؟
وقال:
ما أنس لا أنس حتى الحشر مائدة ... ظلنا لديك بها في أشغل الشغل
إذا أقبل الجدي مكشوفاً ترائبه ... كأنه متمط دائم الكسل
قد مد كلتا يديه لي فذكرني ... بيتاً بمثله من أحسن المثل
كأنه عاشق قد مد بسطته ... يوم الفراق إلى توديع مرتحل
وقد تردى بأطمار الرقاق لنا ... مثل الفقير إذا ما راح في سمل
وله:
لنا صديق نفسنا ... في مقته منهمكه
أبرد من سكونه ... وسط الندى الحركه
وجدري وجهه ... يحكيه جلد السمكه
أو جلد أفعى سلخت ... أو قطعة من شبكه
أو حلق الدرع إذا ... أبصرتها مشتبكه
أو كدر الماء إذا ... ما الريح أبدت حبكه
أو سفن محبب ... أو كرش منفركه
أو منجل أو عرض ... رقيقة منهتكه
أو حجر الحمام كم ... من وسخ قد دلكه
أو كور زنبور إذا ... أفرخ فيه تركه
أو سلحه يابسة ... قد نقرتها الديكه
ومن محاسن ابن طباطبا في أبي علي الرستمي يهجوه بالدعوة والبرص:
أنت أعطيت من دلائل رسل ال ... له آيا بها علوت الرؤوسا
جئت فرداً بلا أب وبيمنا ... ك بياض فأنت عيسى وموسى

محمد بن أحمد بن نصر الجيهاني
أبو عبد الله، قال السلامي في تاريخ خراسان: وفي سنه إحدى وثلاثمائة في جمادى الآخرة، ولي أبو الحسن نصر ابن أحمد بن إسماعيل وهو ابن ثمان سنين، وتولي التدابير أبو عبد الله محمد بن أحمد الجيهاني فأجرى الأسباب على وجوهها، وكان حسن النظر لمن أمله وقصده، معيناً لمن أمه واعتمده، وكان مبتلي بالمذهب فلم يكن يصافح أحداً إلا دون ثوب أو كاغد، ومر يوماً بنخاس يعالج دابة فتأفف وأبرز يده من كمه وعلقها إلى أن نزل وصب عليها قماقم من الماء تقذراً مما فعله النخاس كأنه هو الذي تولى ذلك، ولم يكن يأذن في إمساك السنانير في دوره، فكان الفأر يتعابث فيها، وفيه يقول أبو الطيب الطاهري:
رأيت الوزير على بابه ... من المذهب الشائع المنتشر
يرى الفأر أنظف شيء يدب ... ب على ثوبه ويعاف البشر
يبيت حفياً بها معجباً ... ويضحي عليها شديد الحذر

وإن سغبت فهو في جحرها ... يفت لها يابسات الكسر
فلم صار يستقذر المسلمين ... ويألف ما هو عين القذر؟
وله أيضاً فيه:
ما فيك من خس نثني عليك به ... إلا التصنع بالوسواس للناس
ليوهموا شغفاً بالطهر منك فلا ... تعد فيمن يؤدي جزية الراس
يا لهف نفسي على دنيا حظيت بها ... عفواً بلا طول إبساس وإيناس
وله أيضاً فيه:
قل للوزير الذي عجائبه ... يضرب في سوقنا بها المثل
أنت إذا كمن طول دهرك بال ... مخرج عما سواه تشتغل
فأين ألقاك للحوائج أو ... في أي حين يهمك العمل؟
قال: وكان هجيري الجيهائي يقول في أضعاف كلامه بدواندرون، وأن هجيري علي بن محمد العارض يقول هزين، وفيهما يقول الطاهري:
وزيران أما بالمقدم منهما ... فخبل وبالثاني يقال جنون
إذا نحن كلمناهما فجوابنا ... بدواندرون دائم وهزين
متى تلق ذا أو تلق ذلك لحادث ... تلاقي مهيناً لا يكاد يبين
ومعنى بدواندرون اعد على داخل ومعنى هزين الفرار. وللطاهري فيهم:
إن الأمور إذا أضحت يدبرها ... طفل رضيع وسكران ومجنون
لمخبرات بأن لن يستقيم بها ... لمن توسطها دنيا ولا دين

محمد بن أحمد أبو الندى الغندجاني اللغوي
رجل واسع العلم راجح المعرفة باللغة وأخبار العرب وأشعارها، وما عرفت له شيخاً ينسب إليه ولا تلميذاً يعول عليه غير الحسن بن أحمد الأعرابي المعروف بالأسود صاحب التصانيف المشهورة التي تصدى فيها للأخذ على أعيان العلماء فإن روايته في كتبه كلها عن أبي الندى هذا، وأنا أرى أن هذا الرجل خرج إلى البادية واقتبس علومه من العرب الذين يسكنون الخيم وقد وقع لي شيء من خبره في ذلك أنا أورده ههنا ليستدل به على ما ذهبت إليه كما استدللت أنا به: وجدت بخط صديقنا كمال الدين أبي القاسم عمر بن أحمد ابن هبة الله بن أبي جرادة الحلبي الفقيه المدرس الكاتب الأديب ما أسنده إلى ليث الطويل قال: سألت أبا الندى وكان من أعلم من شاهدت بأخبار العرب، هل تعرف من شعر الذلفاء بنت الأبيض في ابن عمها نجدة بن الأسود؟ قال نعم، كنت فيمن حضر جنازة نجدة حتى وضعناه في قبره وأهلنا عليه التراب وصدرنا عنه غير بعيد، فأقبلت نسوه يتهادين فيهن امرأة قد فاقتهن طولاً كالغصن الرطب وإذا هي الذلفاء فأقبلت حتى أكبت على القبر وبكت بكاء محرقاً، وأظهرت من وجدها ما خفن معه على نفسها، فقلن لها: يا ذلفاء، إنه قد مات السادات من قومك قبل نجدة، فهل رأيت نساءهم قتلن أنفسهن عليهم؟ فلم يزلن بها حتى قامت فانصرفت عن القبر، فلما صارت منه غير بعيد عطفت بوجهها عليه وقالت:
سئمت حياتي حين فارقت قبره ... ورحت وماء العين ينهل هامله
وقالت نساء الحي قد مات قبله ... شريف فلم تهلك عليه حلائله
صدقن لقد مات الرجال ولم يمت ... كنجدة من إخوانه من يعادله
فتى لم يضق عن جسمه لحد قبره ... وقد وسع الأرض الفضاء فضائله
قال: فقلت أحسنت والله يا أبا الندى وأحسنت، فهل تعرف من شعرها شيئاً آخر؟ قال نعم، كنت ممن حضر قبر نجدة عند زيارتها إياه لتمام الحول فرأيتها قد أقبلت حتى أكبت على القبر وبكت بكاء شديداً ثم أنشأت تقول:
يا قبر نجدة لم أهجرك مقلية ... ولا جفوتك من صبري ولا جلدي
لكن بكيتك حتى لم أجد مدداً ... من الدموع ولا عوناً من الكمد
وآيستي جفوني من مدامعها ... فقلت للعين فيضي من دم الكبد
فلم أزل بدمي أبكيك جاهدة ... حتى بقيت بلا عين ولا جسد
والله يعلم لولا الله ما رضيت ... نفسي سوى قتل لها بيدي

قال: فقلت: أحسنت والله يا أبا الندى وأحسنت، فهل تعرف من شعرها شيئاً آخر؟ قال نعم، حضرنا عيداً لنا في زمن الربيع ونحن في رياض خضرة معشبة فركب الفتيان وعقدوا العذب الصفر في القنا الحمر، وجعلوا يتجاولون فلما أردنا الانصراف قال بعضنا لبعض: ألا تجعلون طريقكم على الذلفاء! ولعلها إذا نظرت إليكم تسلت بمن بقي عمن هلك. قال: فخرجنا نؤمها فأصبناها بارزة من خبائها وهي كالشمس الطالعة، إلا أنه يعلوها كسوف الحزن فسلمنا عليها وقلنا: يا ذلفاء إلى كم يكون هذا الوجد على نجدة؟ أما آن لك أن تتسلي بمن بقي من بني عمك عمن هلك، هانحن سادات قومك وفتيانهم ونجومهم، وفينا السادة والذادة، والبأس والنجدة. فأطرقت ملياً ثم رفعت رأسها باكية تقول:
صدقتم إنكم لنجوم قومي ... ليوث عند مختلف العوالي
ولكن كان نجدة بدر قومي ... وكهفهم المنيف على الجبال
فما حسن السماء بلا نجوم ... وما حسن النجوم بلا هلال!
ثم دخلت خباءها وأرسلت سترها فكان آخر العهد بها. وقرأت بخط أبي سعد في المذيل: أنشدنا شافع بن علي الحمامي، أنشدنا إسماعيل عبد الغافر الفارسي، أنشدني أبو حرب رزماشوب بن زياد الجيلي بشيراز، أنشدنا أبو محمد الحسن بن علي الغندجاني الأديب، أنشدنا أبو محمد الأسود الغندجاني الأديب، أنشدنا أبو الندى قال: سمعت أعرابياً بالبصرة يقال له الوليد بن عاصم ينشد لنفسه:
وما مغزل بالغور غور تهامة ... بأودية صابت عليها عهودها
ترود الضحى أفنان ضال وتتقي ... ويخرج من بين الأراكة جيدها
بأحسن من سلمى ولا ضوء درة ... تسمى إليها غائض يستجيدها
قرأت في كتاب اللقائط لأبي يعلى بن الهبارية وقد ذكر أبا محمد الأعرابي ووضع منه وانتصر للنمري الذي شرح الحماسة وغيره، واستدل على صحة رواياتهم وإتقان علمهم ومقالاتهم ثم قال: فكيف نترك أمثال هذه الروايات لرواية مثل أبي الندى؟ ولم يذكر لي من لقيته من شيوخ بلاد فارس من فضل أبي الندى إلا أنه غاب عن أهله مدة وأقام في البادية سنين عدة، وعاد يروي ويخبر، وكان له ابن فأخذ يطليه بالزيت ويقفه في شمس القيظ بالغندجان وهي حارة جداً ولم يزل يفعل به ذلك ليكون أسمر اللون كالعرب حتى مات ذلك المسكين

محمد بن أحمد الأزهري طلحة بن نوح
ابن الأزهر بن نوح حاتم بن سعيد بن عبد الرحمن، الأزهري أبو منصور اللغوي الأديب الشافعي المذهب الهروي، مات فيما ذكره أبو النصر عبد الرحمن بن عبد الجبار بن أبي سعيد الفامي في تاريخ هراة في سنة سبعين وثلاثمائة، ووافقه الحاكم أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الكتبي الهروي في كتاب الوفيات له وزاد في ربيع الآخر. قال الحاكم: ورأيت في كتاب تاريخ السنين تصنيف أبي يعقوب إبراهيم ابن محمد بن عبد الرحمن بن الفرات الهروي الحافظ وأصله عندي بخطة في عشرة أجزاء: أن مولد أبي منصور الأزهري في سنة اثنتين ومائتين، أخذ الأزهري عن أبي الفضل محمد ابن أبي جعفر المنذري عن ثعلب وغيره فأكثر. وعن أبي محمد المزني عن أبي الخليفة الجمحي، وعن أبي محمد عبد الله بن عبد الوهاب البغوي عن الربيع بن سليمان عن الشافعي، وعن عبد الله بن محمد بن هاجك، وأبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي. ورد بغداد وأدرك ابن دريد فلم يرو عنه قال: ودخلت داره ببغداد مرة فألفيته على كبر سن سكران لا يكاد يستمر لسانه على الكلام من سكره. وأخذ الأزهري ببغداد عن أبي عبد لله إبراهيم بن عرفة نفطويه، وعن ابن السراج، وصنف: كتاب التهذيب في اللغة، كتاب معرفة الصبح، كتاب التقريب في التفسير، كتاب تفسير ألفاظ كتاب المزني، كتاب علل القراءات، كتاب في الروح وما جاء فيه من القرآن والسنة، كتاب تفسير أسماء الله عز وجل، كتاب معاني شواهد غريب الحديث، كتاب الرد على الليث، كتاب تفسير شواهد غريب الحديث، كتاب تفسير إصلاح المنطق، كتاب تفسير السبع الطوال، كتاب تفسير شعر أبي تمام، كتاب الأدوات.

وذكر في مقدمة كتابه قال: وكنت امتحنت بالإسار سنة عارضت القرامطة الحاج بالهبير، وكان القوم الذين وقعت في سهمهم عرباً نشئوا بالبادية يتتبعون مساقط الغيث أيام النجع، ويرجعون إلى إعداد المياه في محاضرهم زمن القيظ ويرعون النعم ويعيشون بألبانها ويتكلمون بطباعهم البدوية وقرائحهم التي اعتادوها، ولا يكاد يكون في منطقهم لحن أو خطأ فاحش، فبقيت في إسارهم دهراً طويلاً، وكنا نتشتى الدهناء، ونتربع الصمان، ونتقيظ الستارين، واستفدت من مخاطبتهم ومحاورة بعضهم بعضاً ألفاظاً جمة، ونوادر كثيرة أوقعت أكثرها من الكتاب، وستراها في مواضعها إذا أنت قرأتها علينا إن شاء الله تعالى، وذكر في تضاعيف كتابه أنه أقام بالصمان شتوتين، ورأى ببغداد أبا إسحاق الزجاج وأبا بكر بن الأنباري ولم يذكر أنه أخذ عنهم شيئاً.
قال المؤلف: كانت سنة الهبير هي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وذكر بعهم أنها كانت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، عارضهم أبو طاهر الجناني فقتل بعضهم واسترق بعضهم واستولى على جميع أموالهم، وذلك في أيام المقتدر بالله بن المعتضد.

محمد بن أحمد بن طالب الأخباري
قال الخطيب: مات بعد سنة سبعين وثلاثمائة ويكنى أبا الحسن، سكن الشام وحدث بطرابلس، أنشد أبو الحسن محمد بن أحمد البغدادي قال: أنشدني أبو علي الأعرابي لنفسه:
كنت دهراً أعلل النفس بالوع ... د وأخلوا مستأنساً بالأماني
فمضى الواعدون ثم اقتطعنا ... عن فضول المنى لصرف الزمان
محمد بن احمدبن شنبود
بن أيوب بن الصلت بن شنبود أبو الحسن المقرئ، مات فيما ذكره الخطيب في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، قال الخطيب قد تخير لنفسه حروفاً من شواذ القراءات فقرأ بها، فصنف أبو بكر الأنباري وغبره كتباً في الرد عليه.
قرأت بخط أبي علي بن إسحاق الصابئ، قال القاضي أبو سعيد السيرافي - رحمه الله - : كان ابن شنبوذ واسمه محمد ابن أحمد بن أيوب كثير اللحن قليل العلم، وكان ديِّناً وفيه سلامة وحمق، ثم ذكر توبته كما ذكرنا بعد.
حدث إسماعيل بن علي الخطيبي في كتاب التاريخ قال: واشتهر ببغداد أمر رجل بعرف بابن شنبوذ يقرئ الناس ويقرأ في المحراب بحروف يخالف فيها المصحف فيما يروي عن عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب وغيرهما مما كان يقرأ به قبل المصحف الذي جمعه عثمان، ويتتبع الشواذ فيقرأ بها ويجادل حتى عظم أمره وفحش وأنكره الناس، فوجه السلطان وقبض عليه في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وحمل إلى دار الوزير محمد بن مقلة وأحضر القضاة والفقهاء والقراء وناظرة الوزير بحضرته، فأقام على ما ذكر عنه ونصره، واستنزله الوزير عن ذلك فأبى أن ينزل عنه أو يرجع عما يقرأ به من هذه الشواذ المنكرة التي تزيد على المصحف العثماني، فأنكر ذلك جميع من حضر المجلس وأشاروا بعقوبته ومعاملته بما يضطره إلى الرجوع، فأمر بتجريده وإقامته بين الخبازين، وأمر بضربه بالدرة على قفاه فضرب نحو العشرة ضرباً شديداً فلم يصبر واستغاث وأذعن بالرجوع والتوبة فخلى عنه وأعيدت عليه ثيابه واستتيب، وكتب عليه كتاب توبته وأخذ فيه خطه بالتوبة فتقول أصحابه أنه دعا على ابن مقلة بقطع اليد فاستجيب له.

قال المؤلف: وهذا من عجيب الاتفاق إن صح، وذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: كان ابن شنبوذ يناوئ أبا بكر بن مجاهد ولا يعشره، وكان ديناً فيه سلامة وحمق. وقال لي الشيخ أبو محمد يوسف بن السيرافي: إنه كان كثير اللحن قليل العلم، وقد روى قراءات كثيرة، وله كتب مصنفة في ذلك، وكان مما خالف فيه قراءة الجمهور. قال القاضي أبو يوسف: وسئل عنه بحضرة الوزير أبي علي ابن مقلة فاعترف به ولم ينكره: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله). وقرأ: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً). وقرأ كصوف المنفوش. وقرأ: (تبت يداً أبي لهب وتب ما أغنى). وقرأ: (فاليوم ننجيك بيديك لتكون لمن خلفك آية). وقرأ: (وتجعلون شكركم أنكم تكذبون). وقرأ: (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى). وقرأ: (وقد كذب الكافرون فسوف يكون لزاماً). وقرأ: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض). إلى غير ذلك. وله من التصانيف: كتاب ما خالف فيه ابن كثير أبا عمرو، كتاب قراءة علي عليه الصلاة والسلام. كتاب اختلاف القراء، كتاب القراءات، كتاب انفراداته.
وقرأت في كتاب ألفه القاضي أبو يوسف عبد السلام القزويني سماه أفواج القراء قال: كان ابن شنبوذ أحد القراء والمتنسكين، وكان يرجع إلى ورع ولكنه كان يميل إلى الشواذ ويقرأ بها، وربما أعلن ببعضها في بعض صلواته التي يجهر فيها بالقراءة، وسمع ذلك منه وأنكر عليه فلم ينته للإنكار فقام أبو بكر بن مجاهد فيه حق القيام، وأشهر أمره ورفع حديثه إلى الوزير في ذلك الوقت، وهو أبو علي بن مقلة فأخذ وضرب أسواطاً زادت على العشرة ولم تبلغ العشرين، وحبس واستتيب فتاب وقال: إني قد رجعت عما منت أقرأ به ولا أخالف مصحف عثمان، ولا أقرأ إلا بما فيه من القراءة المشهورة، وكتب عليه بذلك الوزير أبو علي محضراً بما سمع من لفظة، وأمره أن يكتب في آخره بخطه. وكان المحضر بخط أبي الحسين أحمد بن محمد ميمون، وكان أبو بكر بن مجاهد تجرد في كشفه ومناظرته، فانتهى أمره إلى أن خاف على نفسه من القتل، وقام أبو أيوب السمسار في إصلاح أمره وسأل الوزير أبا علي أن يطلقه وأن ينفذه إلى داره مع أعوانه بالليل خيفة عليه لئلا يقتله العامة ففعل ذلك، ووجه إلى المدائن سراً مدة شهرين، ثم دخل بيته ببغداد مستخفياً من العامة. ونسخة المحضر المعمول على ابن شنبوذ بخط ابن ميمون: يقول محمد ابن أحمد بن أيوب المعروف بابن شنبوذ: قد كنت أقرأ حروفاً تخالف ما في مصحف عثمان بن عفان - رضي الله عنه - المجمع عليه والذي اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم على تلاوته، ثم بان لي أن ذلك خطأ فأنا منه تائب وعنه مقلع وإلى الله عز وجل برئ، إذ كان مصحف عثمان هو الحق الذي لا يجوز خلافة، ولا يقرأ بغير ما فيه. نسخة خط ابن شنبوذ في هذا المحضر: يقول محمد بن أحمد بن أيوب ابن شنبوذ: ما في الرقعة صحيح، وهو قولي واعتقادي، وأشهد الله عز جل وسائر من حضر على نفسي بذلك وكنت بخطه، فمتى خالفت ذلك أو بان مني غيره فأمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - في حل وسعة من دمي، وذلك في يوم الأحد لسبع خلون من ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة في مجلس الوزير أبي علي محمد بن علي - أدام الله توفيقه - وحسبي الله وحده، وصلاته على سيدنا محمد وآله.
خط ابن مجاهد: اعترف ابن شنبوذ بما في هذه الرقعة وكتب ابن مجاهد بيده وذكر التاريخ.
خط ابن أبي موسى: اعترف المعروف بابن شنبوذ بما في هذه الرقعة بحضوري طوعاً. وكتب محمد بن أبي موسى الهاشمي وذكر التاريخ. شهادة أخرى: شهد محمد بن أحمد بن محمد على إقرار محمد بن أحمد بن أيوب المعروف بابن شنبوذ بجميع ما في هذا الكتاب وذكر التاريخ. وقال ابن شنبوذ في المجلس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة من أصحابه خالفوا بعض ما في هذا المصحف الذي في أيدينا وكان اعترافه به طوعاً. شهد بذلك محمد بن أبي موسى وكتب بيده. وشهد أحمد بن موسى بن مجاهد وكتب بيده. قال القاضي أبو يوسف: كنت قد سمعت من مشايخنا بالري ثم ببغداد أن سبب الإنكار على ابن شنبوذ أنه قرأ أو قرئ عليه في آخر سورة المائدة عند حكاية قول عيسى: (وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم من العزيز الحكيم).

محمد بن أحمدلشنبوذي

بن إبراهيم الشنبوذي أبو الفرج المقرئ يعرف بغلام ابن شنبوذ، مات سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وقيل سنة ثمان، ومولده في سنة ثلاثمائة. قال الخطيب: روي عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن شنبوذ وغيره كتباً في القراءات وتكلم الناس في رواياته، وسئل الدارقطني عنه فأساء القول فيه والثناء عليه قال: وسمعت عبيد الله الصيرفي يذكر أبا الفرج الشنبوذي فعظم أمره، ووصف علمه بالقرآن وحفظ التفسير وقال: سمعته يقول: أحفظ خمسين ألف بيت من الشعر شواهد للقرآن. وله من التصانيف: كتاب الشارة في تلطيف العبارة في علم القرآن، كتاب التفسير ولم يتم.

محمد بن أحمد المعمري
أبو العباس النحوي، أحد شيوخ النحاة ومشورتهم، صحب الزجاج وأخذ عنه، وكان أبو الفتح المراغي تلميذه وصاحبه، وكان أكثر مقامه بالبصرة وبها توفى وأظنه من أهلها، وله شعر صالح متوسط من أشعار الأدباء، ومات فيما أحسب بين الخمسين وثلاثمائة قال ذلك ابن عبد الرحيم. قال: وأنشدي أبو القاسم التنوخي عن أبيه له من قصيدة مدح بها جده أبا القاسم أولها:
وجفون المضانيات المراض ... والثنايا يلحن بالإيماض
والعهود التي تلوح بها الصح ... ف خلاف الصدود والإعراض
لبرتني الخطوب حتى نضتني ... حرضاً بالياً من الأحراض
وجدتني والدهر سلمى سليمى ... لم ينلني بنا به العضاض
بين برد من الشباب جديد ... ورداء من الصبا فضفاض
ومدبر عرى الأمور برأي ... يقظ الحزم مبرم نقاض
دق معنى وجل قدراً فجادت ... في معانيه نهية الأغماض
وانشد أيضاً له:
لو قد وجدت إلى شفائك منهجاً ... جبت الصباح إليه أوحلك الدجى
لكن رأيتك لا يحيك العتب في ... ك ولا العتاب ولا المديح ولا الهجا
فاذهب سدى ما فيك شر يتقي ... يوماً وليس لديك خير يرتجى
وإذا امرؤ كانت خلائق نفسه ... هذي الخلائق فالنجا منه النجا
قال: وحدثني أبو علي محمد بن وشاح قال: حدثني أبي قال: حدثني القاضي أبو تمام الحسن بن محمد الزينبي رحمه الله قال: جاءتني في تعض البكر رسالة محمد بن أحمد المعمري النحوي بالبصرة - وكنت أغشى مجلسه دائماً وآخذ عنه - أن أدركني، فبادرت إليه وتبعني جماعة من أصحابي، فلما صرت إليه عرفني أن صبية مملوكة له مولدة قد كنت أشاهدها في ولده قد هربت منه، وتناولت صدراً مما كان في منزله، فأنفذت أصحابي وبثثتهم في الجيران، وبحيث يظن بها الحصول فيه، فما بعد أن أحضرت وما أخذت، فسر المعمري وطابت نفسه، فلما هممت بالانصراف أنشدني:
ما لا يرى كسبت عا ... دية الدهر عموده
كان حرباء فاضحى ... بشقاء البخت دوده
قال ابن وشاح: وحدثني أبي قال: حدثني القاضي رحمه الله قال: كان رسم المعمري أن يجلس لأهل العمي في يوم الأربعاء فبكرنا إليه في بعض الأيام فقال للجماعة: ليس لكم اليوم عندي فائدة ولا مني حظ، فلما هممنا بالانصراف قال:
إذا كان يوم الأربعاء ولم أنك ... ولم أصطبح بالأربعاء مشوم
فإن نكت فيه واصطحبت ولمته ... فإني ليوم الأربعاء ظلوم
انصرف مأجورين فانصرفنا. قال: وكان شديد المحبة لشرب النبيذ كثير التوفر عليه قاطعاً أكثر زمانه به. ولما مات رثاه أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي صاحب كتاب الموازنة بقوله:
ياعين أذري الدموع وانسكبي ... أصبح ترب العلوم في الترب
لقيت بالمعمري يوم ثوى ... أول رزء بآخر الأدب
كان على أعجمي نسبته ... فضيلة من فضائل العرب
وكتب أبو القاسم الآمدي إلى المعمري جواب أبيات كتب بها إليه:
يا مهدي الشعر إلى من يرى ... أنك تستعلي عن الشعر
أنت الذي تحكم فيه إذا ... أعيا على الباقلاني الحبر
وتكشف الغامض حتى يرى ... أوضح أسباباً من الفجر
بنت عن المثل ومن ذا الذي ... إلى مدى تبلغه يجري؟
كل إلى علمك ذو حاجة ... كحاجة الأرض إلى القطر

محمد بن أحمدالقطان
بن عبد الله بن زياد القطان ويعرف بالمتوثي، ويكنى أبا سهل. أحد الشيوخ الفضلاء المقدمين، سمع الحديث ورواه وكان ثقة جيد المعرفة بالعلوم، ومات سنه تسع وأربعين وثلاثمائة. وسمع كثيراً من كتب الأدب عن بشر من موسى الأسدي، ومحمد بن يونس الكديمي، وأبي العيناء وثعلب والمبرد وغيرهم، ولقي السكري أبا سعيد، وسمع عليه أشعار اللصوص من صنعه، وسمعه منه الخلع أبو عبد الله الشاعر وفلج في آخر عمره، وكان ينزل بدار القطن من غربي دار السلام - بغداد - وله بقية حال حسنة. قال الخالع: وحكى لنا أنه كان في ابتداء أمره يتوكل لعلي بن عيسى بن الجراح الوزير وأنه صحبه حين نفي من بغداد وعاد بعوده، وأنهم نزلوا في بعض طريقهم بأحد أمراء الشام، وأنه حمل على يده إلى علي بن عيسى سمكة فضة وزنها زيادة على خمسة آلاف درهم مبيتة للطيب وعليها جوهر وياقوت قد رصعت به، فامتنع من قبولها على عادته في ذلك فرددتها إلى صاحبها فوهبها لي ولم أتجاسر على قبولها إلا بعد استئذانه، فاستأذنته فأذن لي فكانت أصل حالي.
قال الخالع: وكانت بضاعة أبي سهل جيدة في العلم، فكان يحفظ القرآن ويعرف القراءات ويرويها، ويطلع على قطعة من اللغة، ويعرف النحو ويحفظ الشعر ويقوله، وكان يتشيع على مذهب الإمامية ويظاهر به، إلا أنه كان في الأصول على رأي المجبرة، ولم يعقب ولد ذكراً، وكانت له ابنه بقيت إلى سنة أربعين وباعت كتبه، وله أشعار كثيرة ركيكة باردة ومن أصلها:
غضب الصولي لما ... كسر الضيف وسمي
ثم عند للمضغ منه ... كاد أن يتلف غما
قال للضيف ترفق ... شم ريح الخبز شما
واغتنم شكري فقال ال ... ضيف بل أكلاً وذما
محمد بن أحمد بن يونس الفسوي
أبو عبد الله يعرف بخاطف. صاحب أب بكر بن السراج، وروي عن ابن دريد وغيره.
محمد بن أحمد أبو الريحان البيروني
الخوارزمي، وهذه النسبة معناها البراني، لأن بيرون بالفارسية معناه براً، وسألت بعض الفضلاء عن ذلك فزعم أن مقامه بخوارزم كان قليلاً، وأهل خوارزم يسمون الغريب بهذا الاسم، كأنه لما طالت غربته عنهم صار غريباً، وما أظنه يراد به إلا أنه من أهل الرستاق يعني أنه من براً البلد. ومات السلطان محمود بن سبكتكين في سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وأبو الريحان بغزنة.
وجدت كتاب تقاسيم الأقاليم تصنيفه وخطه وقد كتبه في هذا العام، ذكره محمد بن محمود النيسابوري فقال: له في الرياضيات السبق الذي لم يشق المحضرون غباره، ولم يلحق المضمرون المجيدون مضماره، وقد جعل الله الأقسام الأربعة له أرضاً خاشعة، سمت له لواقح مزنها، واهتزت به يوانع نبتها، فكم مجموع له على روض النجوم ظله، ويرفرف على كبد السماء طله. وبلغني أنه لما صنف القانون المسعودي أجازه السلطان بحمل فيل من نقده الفضي، فرده إلى الخزانة بعذر الاستغناء عنه، ورفض العادة في الاستغناء به، وكان - رحمه الله - مع الفسحة في التعمير وجلالة الحال في عامة الأمور مكباً على تحصيل العلوم منصباً إلى تصنيف الكتب يفتح أبوابها، ويحيط بشواكلها وأقرابها ولا يكاد يفارق يده القلم، وعينه النظر، وقلبه الفكر إلا في يومي النيروز والمهرجان من السنة لإعداد ما تمس إليه الحاجة في المعاش من بلغة الطعام وعلقة الرياش، ثم هجيراه في سائر الأيام من السنة علم يسفر عن وجهه قناع الإشكال، ويحسر عن ذراعيه كمام الإغلاق.

حدث القاضي كثير بن يعقوب البغدادي النحوي في الستور عن الفقيه أبي الحسن علي بن عيسى الولوالجي قال: دخلت على أبي الريحان وهو يجود بنفسه قد حشرج نفسه وضاق به صدره فقال لي في تلك الحال: كيف قلت لي يوماً حساب الجدات الفاسدة؟ فقلت له إشفاقاً عليه: أفي هذه الحالة؟ قال لي يا هذا، أودع الدنيا وأنا علم بهذه المسالة، ألا يكون خيراً من أن أخليها وأنا جاهل بها. فأعدت ذلك عليه وحفظ وعلمني ما وعد، وخرجت من عنده وأنا في الطريق فسمعت الصراخ. وأما نباهة قدره وجلالة خطره عند الملوك فقد بلغني من حظوته لديهم أن شمس المعالي قابوس بن وشمكير أراد أن يستخلصه لصحبته ويرتبطه في داره، على أن تكون له الإمرة المطاعة في جميع ما يحويه ملكه، ويشتمل عليه ملكه، فأبى عليه ولم يطاوعه، ولما سمحت قرونته بمثل ذلك أسكنه في داره، وأنزله معه في قصره. ودخل خزارزمشاه يوماً وهو يشرب على ظهر الدابة فأمر باستدعائه من الحجرة فأبطأ قليلاً فتصور الأمر على غير صورته، وثنى العنان نحوه ورام النزول، فسبقه أبو الريحان إلى البروز وناشده الله ألا يفعل فتمثل خوارزمشاه:
العلم من أشرف الولايات ... يأتيه كل الورى ولا ياتي
ثم قال: لولا الرسوم الدنيا لما استدعيتك، فالعلم يعلو ولا يعلى، وكأنه سمع هذا في أخبار المعتضد، فإنه كان يوماً يطوف في البستان وهو آخذ بيد ثابت بن قرة الحراني إذ جذبها دفعة وخلاها فقال ثابت: ما بدا يا أمير المؤمنين؟ قال: كانت يدي فوق يدك والعلم يعلو ولا يعلى. ولما استبقاه السلطان الماضي لخاصة أمره وحوجاء صدره كان يفاوضه فيما يسنح لخاطره من أمر السماء والنجوم، فيحكي أنه ورد عليه رسول من أقصى بلاد الترك وحدث بين يديه بما شاهد فيما وراء البحر نحو القطب الشمالي من دور الشمس عليه ظاهرة في كل دورها فوق الأرض بحيث يبطل الليل فتسارع على عادته في التشدد في الدين إلى نسبة الرجل إلى الإلحاد والقرمطة على براءة أولئك القوم عن هذه الآفات حتى قال أبو نصر بن مشكان: إن هذا لا يذكر ذلك عن رأي يرتئيه، ولكن عن مشاهدة يحكيه، وتلا قوله عز وجل: (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً). فسأل أبا الريحان عنه، فأخذ يصف له على وجه الاختصار ويقرره على طريق الإقناع، وكان السلطان في بعض الأوقات يحسن الإصغاء ويبدل الإنصاف، فقبل ذلك وانقطع الحديث بينه وبين السلطان وقتئذ، وأما ابنه السلطان مسعود فقد كان فيه إقبال على علم النجوم ومحبة لحقائق العلوم، ففاوضه يوماً في هذه المسألة وفي سبب اختلاف مقادير الليل والنهار في الأرض، وأحب أن يتضح له برهان ما لم يصح له من ذلك بعيان، فقال له أبو الريحان: أنت المنفرد اليوم بامتلاك الخافقين، والمستحق بالحقيقة اسم ملك الأرض، فأخلق بهذه المرتبة إيثار الاطلاع على مجاري الأمور، وتصاريف أحوال الليل وانهار، ومقدارها في عامرها وغامرها، وصنف له عند ذلك كتاباً في اعتبار مقدار الليل والنهار بطريق تبعد عن مواضعات المنجمين وألقابهم، ويقرب تصورهم من فهم من لم يرتض بها ولم يعتدها، وكان السلطان الشهيد قد مهر بالعربية فسهل وقوفه عليه، وأجزل إحسانه إليه. وكذلك صنف كتابه في لوازم الحركتين بأمره، وهو كتاب جليل لا مزيد عليه مقتبس أكثر كلماته عن آيات من كتاب الله عز وجل. وكتابه المترجم بالقانون المسعودي يعفي على أثر كل كتاب صنف في تنجيم أو حساب. وكتابة الآخر المعنون بالدستور الذي صنفه باسم شهاب الدولة أبي الفتح مودود ابن السلطان الشهيد مستوف أحاسن المحاسن.
قال مؤلف الكتاب: هذا ذكره محمد بن محمود، وإنما ذكرته أنا ههنا لأن الرجل كان أديباً أريباً لغوياً، له تصانيف في ذلك رأيت أنا منها: كتاب شرح شعر أبي تمام رأيته بخطه لم يتمه، كتاب التعليل بإحالة الوهم في المعاني نظم أولي الفضل، كتاب تاريخ أيام السلطان محمود وأخبار أبيه، كتاب المسامرة في أخبار خوارزم، كتاب مختار الأشعار والآثار. وأما سائر كتبه في علوم النجوم والهيئة والمنطق والحكمة فإنها تفوق الحصر، رأيت فهرستها في وقف الجامع بمرو في نحو الستين ورقة بخط مكتنز.

وحدثني بعض أهل الفضل: أن السبب في مصيره إلى غزنة أن السلطان محمودا لما استولى على خوارزم قبض عليه وعلى أستاذه عبد الصمد الأول ابن عبد الصمد الحكيم، واتهمه بالقرمطة والكفر فأذاقه الحمام وهم أن يلحق به أبا الريحان، فساعده فسحة الأجل بسبب خلصه من القتل، وقيل له: إنه إمام وقته في علم النجوم، وإن الملوك لا يستغنون عن مثله، فأخذه معه ودخل إلى بلاد الهند وأقام بينهم وتعلم لغتهم واقتبس علومهم، ثم أقام بغزنة حتى مات بها أرى في حدود سنة ثلاث وأربعمائة عن سن عالية، وكان حسن المحاضرة، طيب العشرة خليعاً في ألفاظه عفيفا في أفعاله، لم يأت الزمان بمثله علماً وفهماً، وكان يقول شعراً إن لم يكن في الطبقة العليا فإنه من مثله حسن، منه في ذكر صحبة الملوك، ويمدح و يمدح أبا الفتح البستي من كتاب سر السرور.
مضى أكثر الأيام في ظل نعمة ... على رتب فيها علوت كراسيا
فآل عراق قد غذوني بدرهم ... ومنصور منهم قد تولى غراسيا
وشمس المعالي كان يرتاد خدمتي ... على نفرة مني وقد كان قاسيا
وأولاد مأمون ومنهم عليهم ... تبدى بصنع صار للحال آسيا
وأخرهم مأمون رفه حالتي ... ونوه باسمي ثم راس راسيا
و لم ينقبض محمود عني بنعمة ... فأغنى و أقنى مغضيا عن مكاسيا
عفا عن جهالاتي وأبدي تكرماً ... وطرى بجاه رونقي ولباسيا
عفاء على دنياي بعد فراقهم ... وواحزني إن لم أزر قبل آسيا
ولما مضوا وأعتضت منهم عصابة ... دعوا بالتناسي فاغتنمت التناسيا
وخلفت في غزنين لحماً كمضغة ... على وضم للطير للعلم ناسيا
فأبدلت أقواماً وليسوا كمثلهم ... معاذ إلهي أن يكونوا سواسيا
بجهد شأوت الجالبين أئمة ... فما اقتبسوا في العمل مثل اقتباسيا
فما بركوا للبحث عند معالم ... ولا احتبسوا في عقدة كاحتباسيا
فسائل بمقداري هنوداً بمشرق ... وبالغرب من قد قاس قدر عماسيا
فلم يثنهم عن شكر جهدي نفاسة ... بل اعترفوا طرا وعافوا انتكاسيا
أبو الفتح في دنياي مالك ربقتي ... فهات بذكراه الحمية كاسيا
فلا زال للدنيا وللدين عامراً ... ولا زال فيها للغواة مواسيا
ومن أقوم شعره قوله لشاعر اجتداه.
يا شاعر جاءني يخرى على الأدب ... وافي ليمدحني والذم من أدبي
وجدته ضارطاً في لحيتي سفهاً ... كلا فلحيته عثنونها ذنبي
وذاكراً في قوافي شعره حسبي ... ولست والله حقاً عارفاً نسبي
إذ لست أعرف جدي حق معرفة ... وكيف أعرف جدي إذ جهلت أبي؟
إني أبو لهب شيخ بلا أدب ... نعم ووالدتي حمالة الحطب
المدح والذم عندي يا أبا حسن ... سيان مثل استواء الجد واللعب
فأعفني عنهما لا تشتغل بهما ... بالله لا توقعن مفساك في تعب
وله:
ومن حام حول المجد غير مجاهد ... ثوى طاعماً للمكرمات وكاسيا
وبات قرير العين في ظل راحة ... ولكنه عن حلة المجد عاريا
وله في التجنيس:
فلا يغررك مني لين مس ... تراه في دروس واقتباس
فإني أسرع الثقلين طرا ... إلى خوض الردى في وقت باس
ومنه:
تنغص بالتباعد طيب عيشي ... فلا شيء أمر من الفراق
كتابك إذ هو الفرج المرجى ... أطب لما ألم من ألف راق
وله:
أتأذنون لصب في زيارتكم ... إن كان مجلسكم خلواً من الناس؟
فأنتم الناس لا أبغي بكم بدلاً ... وأنتم الراس والإنسان بالراس
وكدكم لمعال تنهضون بها ... وغيركم طاعم مسترجع كاسي
فليس يعرف من أيام عيشته ... سوى التلهي بأير قام أو كاس

لدي المكايد إن راجت مكايده ... ينسى الإله وليس الله بالناس

محمد بن أحمد بن عبيد الله الكاتب
المعروف بالمفجع صاحب ثعلب. كذا وجدت نسبه بخط الطبري المعروف بمضراب اللبن من أهل البصرة، ويكنى أبا عبد الله ذكره ابن النديم فقال: إنه لقي ثعلباً وأخذ عنه وعن غيره وكان شاعراً شيعياً، وله قصيدة يسميها بالأشباه يمدح فيها علياً عليه السلام، وبينه وبين ابن دريد مهاجاة. وذكره أبو المنصور الثعالبي في كتاب اليتيمة فقال: المفجع البصري صاحب ابن دريد والقائم مقامه في التأليف والإملاء. حدث ابن نصر قال: حدثني بعض المشايخ البصريين قال: كان المفجع وشمال يتهاجيان وكان شمال سنياً والمفجع شيعياً، فقال فيه المفجع:
دار شمال في بني أصمع ...
فقال شمال كذا هو، فقال المفجع:
أنظر إليها فهي في بلقع
قال شمال: أي شيء ذنبي إذا خربت المحلة؟ قال:
هو خبيث النفس مستهتر ... بكل أير قائم أصلع
فقال شمال: هو شيعي، وكان يجب أن ينزه ذكر القائم والأصلع عن لفظ الهجاء. قال:
وذا قبيح أن يرى شاعر ... يناك في السرم على أربع
قال شمال: وغير الشاعر أيضاً قبيح أن يرى كذا. ثم عمل فيه شمال يعرض به:
رجل نازل بدرب سطيح ... أي شخص بالليل يركب سطحه؟
أخذ الله لابن عفان منه ... ولشيخه والزبير وطلحة
فلما سمعت ربيعة بذلك قصدت دار المفجع فهرب منها. ومن شعر المفجع:
لي أير أراحني الله منه ... صار حزني به عريضاً طويلاً
نام إذ زارني الحبيب عناداً ... ولعهدي به ينيك الرسولا
حسبت زورة على لحيني ... وافترقنا وما شفيت غليلا
ووجدت له أيضاُ فيما رواه الحميدي:
لنا صديق مليح الوجه مقتبل ... وليس في وده نفع ولا بركه
شبهته بنهار الصيف يوسعنا ... طولاً ويمنع منا النوم و الحركه
وقد هجاه بعض الشعراء فقال:
إن المفجع ويله ... شر الأوائل والأواخر
ومن النوادر أنه ... يملي على الناس النوادر
كأنه من قول أبي تمام:
ومالك بالغريب يد ولكن ... تعاطيك الغريب من الغريب
قال المرزباني: لقب بالمفجع لبيت قال، وهو شاعر مكثر عالم أديب، مات قبل الثلاثين والثلاثمائة. قال: وهو القائل في أبي الحسن محمد بن عبد الوهاب الزينبي الهاشمي يمدحه:
للزينبي على جلالة قدره ... خلق كطعم الماء غير مزند
وشهامة تقصي الليوث إذا سطا ... وندى يغرق كل بحر مزبد
يحتل بيتاً في ذؤابة هاشم ... طالت دعائمه محل الفرقد
حر يروح المستميح ويغتدي ... بمواهب منه تروح وتغتدي
فإذا تحيف ماله إعطاؤه ... في يومه نهك البقية في غد
بضياء سنته المكارم تهتدي ... وبجود راحته السحائب تقتدي
مقدار ما بيني وما بين الغنى ... مقدار ما بيني وبين المربد
وقال الثعالبي: وأما شعره فقليل كثير الحلاوة يكاد يقطر منه ماء الظرف وفيه يقول اللحام:
إن المفجع فالعنوه مؤنث ... نغل يدين ببغض أهل البيت
يهوى العلوق وإنما يهواهم ... بمؤخر حي وقلب ميت
ومن شعره ويروي لابن لنكك:
لنا سراج نوره ظلمة ... ليس له ظل على الأرض
كأنه شخص الإمام الذي ... يبغي الهدى منه أولو الرفض
وللمفجع تصانيف منها: كتاب الترجمان في الشعر ومعانيه يشتمل على ثلاثة عشر حداً وهي: حد الإعراب، حد المديح، حد البخل، حد الحلم والرأي، حد الغزل، حد المال حد الإغتراب، حد المطايا، حد الخطوب، حد النبات، حد الحيوان حد الهجاء، حد اللغز وهو آخر الكتاب. وله أيضاً: كتاب المنقد في الإيمان يشبه كتاب الملاحن لابن دريد إلا أنه أكبر منه وأجود وأتقن. كتاب أشعار الجواري لم يتم، كتاب عرائس المجالس، كتاب غريب شعر زيد الخيل الطائي، كتاب قصيدته في أهل البيت ذكره أبو جعفر في مصنفي الإمامية.

ومما أنشده الثعالبي له في غلام يكنى أبا سعد:
زفرات تعتادني عند ذكرا ... ك وذكراك ما تريم فؤادي
وسروري قد غاب عني مذ غب ... ت فهل كنتما على ميعاد؟
حاربتني الأيام فيك أبا سع ... د بسيف الهوى وسهم العباد
ليس لي مفزع سوى عبرات ... من جفون مكحولة بالسهاد
في سهادي لطول أنسي بذكرا ... ك اعتياض من الكرى والرقاد
وبحسبي من المصائب أني ... في بلاد وأنتم في بلاد
وله:
ألا ياجامع البص ... رة لا خربك الله
وسقي صحنك الغي ... ث من المزن فرواه
فكم من عاشق فيك ... يرى ما يتمناه
وكم ظبي من الإنس ... مليح فيك مرعاه
نصبنا الفخ بالعلم ... له فيك فصدناه
بقرآن قرأناه ... وتفسير رويناه
وكم من طالب للشع ... ر بالشعر طلبناه
فما زالت يد الأيا ... م حتى لان متناه
وحتى ثبت السرج ... عليه وركبناه
ألا يا طالب الأمر ... د كذب ما ذكرناه
فلا يغررك ما قلناه ... فما بالجد قلناه
وإن كان من البغض ... يزني حين تلقاه
فرد الدرهم الضرب ... إليه تتلقاه
فبالدرهم يستنز ... ل ما في الجو مأواه
وبالدرهم يستخر ... ج ما في القفر مثواه
قال أبو محمد عبد الله بن أبي القاسم عبد المجيد بن بشران بن إبراهيم بن العباس بن محمد بن العباس بن محمد ابن جعفر في تاريخه قال: وفيها يعني في سنة سبع وعشرين وثلاثمائة توفي أبو عبد الله محمد بن عبد الله المفجع الكاتب الشاعر، وكان شاعر البصرة وأديبها، وكان يجلس في الجامع بالبصرة فيكتب عنه ويقرأ عليه الشعر واللغة والمصنفات، وامتنع من الجلوس مدة لسبب لحقه من بعض من حضره فخوطب في ذلك فقال: لو استطعت أن أنسيهم أسماءهم لفعلت. وشعره مشهور، فمنه دامت الأمطار وقطعت عن الحركة:
يا خالق الخلق أجمعينا ... وواهب المال والبنينا
ورافع السبع فوق سبع ... لم يستعن فيهما معينا
ومن إذا قال كن لشيء ... لم تقع النون أو يكونا
لا تسقنا العم صوب غيث ... أكثر من ذا فقد روينا
وله يخاطب أبا عبد الله البريدي وقد أعاد عليه ذكر سبب:
قل لمن كان قد عفا ... عن ذنوب المفجع
لا تعد ذكر ما مضى ... من عفا لم يقرع
وله وقد سأل بعض أصدقائه أيضاً رقعة وشعراً له يهنئه في مهرجان إلى بعضهم فقصر حتى مضى المهرجان:
إن الكتاب وإن تضمن طيه ... كنه البلاغة كالفصح الأخرس
فإذا أعانته عناية حامل ... فجوابه يأتي بنجح منفس
وإذا الرسول ونى وقصر عامداً ... كان الكتاب صحيفة المتلمس
قد فات يوم المهرجان فذكره ... في الشعر أبرد من سخاء المفلس
فسئل عن سخاء المفلس فقال: يعد في إفلاسه بما لا يفي به عند إمكانه. قال: دخل المفجع يوماً إلى القاضي أبي القاسم علي بن محمد التنوخي فوجده يقرأ معاني الشعر على العبيسي فأنشد:
قد قدم العجب على الرويس ... وشارف الوهد أبا قبيس
وطاول البقل فروع الميس ... وهبت العنز لقرع التيس
وادعت الروم أباً في قيس ... واختلط الناس اختلاط الحيس
إذ قرأ القاضي حليف الكيس ... معاني الشعر على العبيسي
وألقى ذلك إلى التنوخي وانصرف. وكان أبو عبد الله الأكفاني راويته وكتب لي بخطه من مليح شعره شيئاً كثيراً قال: ومدح أبا القاسم التنوخي فرأى منه جفاء فكتب إليه:
لو أعرض الناس كلهم وأبوا ... لم ينقصوا رزقي الذي قسما
كان وداد فزال وانصرما ... وكان عهد فبان وانهدما
وقد صحبنا في عصرنا أمماً ... وقد فقدنا من قبلهم أمما

فما هلكنا هزلاً ولا ساخت ال ... أرض ولم تقطر السماء دما
في الله من كل هالك خلف ... لا يرهب الدهر من به اعتصما
حر ظننا به جميل فما ... حقق ظنا ولا رعى الذمما
فكان ماذا ما كل معتمد ... عليه يرعى الوفاء والكرما
غلطت والناس يغلطون وهل ... تعرف خلقاً من غلطه سلما؟
من ذا إذا أعطى السداد فلم ... يعرف بذنب ولم يزل قدما
شلت يدي لم جلست عن تفه ... أكتب شجوى وأمتطي القلما؟
يا ليتني قبلها خرست فلم ... أعمل لساناً ولا فتحت فما
يا زلة ما أقلت عثرتها ... أبقيت على القلب والحشا ألما
من راعه بالهوان صاحبه ... فعاد فيه فنفسه ظلما
وله:
أظهرت للرئم بعض وجدي ... وإنما الوجد ما سترته
وقلت حبيك قد براني ... فقال دعه بذا أمرته
وله قصيدته ذا الأشباه، وسميت بذات الأشباه لقصده فيما ذكره من الخبر الذي رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في محفل من أصحابه: (إن تنظروا إلى آدم في علمه، ونوح في همه، وإبراهيم في خلقه، وموسى في مناجاته، وعيسى في سنه، ومحمد في هديه وحلمه، فانظر إلى هذا المقبل). فتطاول الناس فإذا هو علي بن أبي طالب عليه السلام، فأورد المفجع ذلك في قصيدته وفيها مناقب كثيرة وأولها:
أيها اللائمي لحبي عليا ... قم ذميماً إلى الجحيم خزيا
أبخير الأنام عرضت لا زل ... ت مذوداً عن الهدى مزويا
أشبه الأنبياء كهلاً وزولاً ... وفطيماً وراضعاً وغذيا
كان في علمه كآدم إذ عل ... م شرح الأسماء والمكنيا
وكنوح نجى من الهلك من س ... ير في الفلك إذ علا الجوديا
وجفا في رضا الإله أباه ... واجتواه وعده أجنبيا
كاعتزال الخليل آزر في ال ... له وهجرانه أباه مليا
ودعا قومه فآمن لوط ... أقرب الناس منه رحماً وريا
وعلي لم دعاه أخوه ... سبق الحاضرين والبدويا
وله من أبيه ذي الأيد إسما ... عيل شبه ما كان عني خفيا
إنه عاون الخليل على الكع ... بة إذ شاد ركنها المبنيا
ولقد عاون الوصي حبيب ال ... له إذ يغسلان منها الصفيا
رام حمل النبي كي يقطع الأص ... نام من سطحها المثول الحبيا
فحناه ثقل النبوة حتى ... كاد ينآد تحته مثنيا
فارتقى منكب النبي على ... صنوه ما أجل ذا المرتقيا
فأماط الأوثان عن ظاهر الكع ... بة ينفي الرجاس عنها نفيا
ولو أن الوصي حاول مس ال ... نجم بالكف لم تجده قصيا
أفهل تعرفون غير علي ... وابنه استرحل النبي مطيا
وشعر أبي عبد الله المفجع كثير حسن. وكان يوماً بالأهواز جالساً مع جماعة فاجتاز به غلام لموسى بن الطيب نديم أبي عبد الله البريدي يقال له طريف وهو أمرد مليح فسأل المفجع عنه فقيل: هذا غلام نديم البريدي فقال:
اجتاز بي اليوم في الطريق فتى ... يختال في مورق من البان
فقلت من ذا؟ فقال لي خبر ... بالأمر هذا غلام صفعان
ولأبي عبد الله في جماعة من كبار أهل الأهواز مدائح كثيرة وأهاج، وله قصيدة في أبي عبد الله بن درستوريه يرثيه فيها وهو حي يقول فيها ويلقبه بدهن الآجر:
مات دهن الآجر فاخضرت الأر ... ض وكادت جبالها لا تزول
ويصف أشياء كثيرة فيها. قال: وكان المفجع يكثر عند والدي ويطيل المقام عنده، وكنت أراه عنده وأنا صبي بالأهواز، وله إليه مراسلات وله فيه مدح كثيرة كنت جمعتها فضاعت أيام دخول ابن أبي ليلى الأهواز ونهب رزناماتها، وكان منها قصيدة بخطه عندي يقول فيها:

لو قيل للجود من مولاك قال نعم؟ ... عبد المجيد المغيرة بن بشران
وأذكر له من قصيدة أخرى:
يا من أطال يدي إذ هاضني زمني ... وصرت في المصر مجفوا ومطرحا
أنقذتني من أناس عند دينهم ... قتل الأديب إذا ما علمه اتضحا
قال: وكانت وفاته قبل وفاة والدي بأيام يسيرة، ومات والدي في يوم السبت لعشرة خلون من شعبان سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وفيها مات الخروري الشاعر. ومن ملحه المشهورة قوله لإنسان أهدى إليه طبقاً فيه قصب السكر والأترنج والنارنج وأراه أبا سعد غلامه:
إن شيطانك في الظر ... ف لشيطان مريد
فلهذا أنت فيه ... تبتدي ثم تعيد
قد أتتنا تحفة من ... ك على الحسن تزيد
طبق فيه قدود ... ونهود وخدود
وأنشد الثعالبي له في غلام مغن جدر فازداد حسناً وجمالاً:
يا قمراً جدر حتى استوى ... فزاده حسناً وزادت هموم
كأنه غني لشمس الضحى ... فنقتطته طرباً بالنجوم
وأنشد له أيضاً:
فسا على قوم فقالوا له ... إن لم تقم من بيننا قمنا
فقال لا عدت فقالوا له ... من نتن فيه ذا كما كنا
وأنشد له أيضاً:
أداروها ولليل اعتكار ... فخلت الليل فاجأه النهار
فقلت لصاحبي والليل داج ... ألاح الصبح أم بدت العقار؟
فقال هي العقار تداولوها ... مشعشعة يطير لها شرار
فلولا أنني أمتاح منها ... حلفت بأنها في الكأس نار

محمد بن أحمد بن غيثة
بن سليمان بن أيوب بن غيثة النوقاتي بالتاء قبل ياء النسبة، ونوقات محلة بسجستان يقال لها نوها فعربت، يكنى أبا عمر السجستاني وهو والد عمر وعثمان، وصاحب التصانيف المشهورة. ذكره أبو سعد السمعاني في كتاب تاريخ مرو فقال: دخل إلى خراسان وكتب بهراة ومرو وبلخ وما وراء النهر، وسمع الكثير من الشيوخ وأكثر واشتغل بالتصانيف، وبلغ فيها الغاية وكان مرزوقاً فيها محسناً، جمع من كل جنس وفن، وأحسن في كل التصانيف، وسمع أبا عبد الله محمد بن إسحاق القرشي ثم ذكر خلقاً كثيراً، منهم الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله ابن البيع الحافظ، وأبو حاتم محمد بن حيان البستي، وأبو يعلى النسفي، وأبو على حامد بن محمد الرفاء، وأبو سليمان الخطابي.
وروى عنه ابناه عمر وعثمان، وله تصانيف كثيرة منها: كتاب آداب المسافرين، كتاب العتاب والإعتاب، كتاب فضل الرياحين، كتاب العلم، كتاب الشيب، كتاب محنة الظراف في أخبار العشاق، كتاب معاشرة الأهلين. وأنشد لنفسه في كتاب محنة الظراف:
نمت دموعي على سرى وكتماني ... وشرد النوم عن عيني أحزاني
وأقلقني عما أستعين به ... على الهوى حسرات منك تغشاني
يا من جفاني وأقصاني وغادرني ... صبا وأشمت بي من كان يلحاني
لا تنس أيام أنس قد مننت بها ... وداو غلة قلب فيك أعياني
ومن كتاب محنة الظراف مما نسبه أبو عمر إلى نفسه ومن خطه نقلت:
سأهجركم ما دمتم في حجابكم ... على الكره حتى تأمنوا الرقباء
مساعدة مني لكم لا تصبراً ... ولم يصبر العطشان يبصر ماء
وأنشد أيضاً لنفسه:
أصابك أيضاً عين بعد فرطك في حي ... أم أذنبت فاستحسنت يا سيدي ذنبي؟
أحين سلبت القلب من صبابة ... وصيرتني عبداً تجافيت عن قربي؟
سأصبر حتى تعجبوا من تصبري ... وأنتظر الحسنى على ذاك من ربي
وأنشد السمعاني بإسناد له رفعة إلى النوقاتي عن الحسين بن أحمد عن الصولي عن ثعلب عن أبي العالية:
أرى بصري في كل يوم وليلة ... يكل وخطوي عن مدى الخطو يقصر
ومن يصحب الأيام ستين حجة ... يغيرنه والدهر لا يتغير
لعمري لئن أمسيت أمشي مقيداً ... لما كنت أمشي مطلق القيد أكثر
قال: وحدث أبو عمر بن النوقاتي في رجب سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، فتكون وفاته بعد هذا الشهر.
محمد بن أحمد بن عمر الخلال

أبو الغنائم اللغوي، إمام عالم جيد الضبط، صحيح الخط، معتمد عليه معتبر، أخذ عن أبي سعيد السيرافي، وأبي علي الفارسي، وأبي الحسن الرماني وتلك الطبقة.

محمد بن أحمد بن طالب الفقيه
الأديب الحلبي أبو الحسن، سمع ببغداد أبا بكر بن دريد وأبا بكر بن الأنباري، وأبا علي بن الحسين بن أحمد الكاتب المعروف بالكوكبي، وأبا عبد الله نفطويه، وأبا عيسى محمد بن أحمد بن قطن السمسار، وبحلب أبا عبد الله أحمد بن جعفر بن أحمد بن ماست الحاضري الحلبي، والقاضي أبا حصين، ومات بعد سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، قرئ عليه كتابه في هذه السنة، وله كتاب الشبان والشيب أحسن فيه.
محمد بن أحمد بن محمد أشرس
أبو الفتح النحوي اللغوي، أديب فاضل شاعر من أهل نيسابور، وكان من تلاميذ أبي بكر محمد بن العباس الخوارزمي بنيسابور، وقدم بغداد فلقي بها جماعة من أصحاب أبي علي الفارسي كالربعي علي بن عيسى، وأبي الحسن السمسمي وغيرهما، ذكره الباخرزي في كتابه فقال: حدثني القاضي أبو جعفر البحاثي قال: حدثني الحاكم أبو سعد بن دوست قال: كان أبو الفتح بن أشرس من ناحية الرخ، وكان يؤدب بنيسابور ويختلف إلى أبي بكر الخوارزمي، فلما نزف ما عنده ارتحل إلى مدينة السلام قال: فرأيت كتاباً بخط يده وقد كتب به إلى بعض أصدقائه وذكر في أثنائه أن ليس اليوم بخراسان من يقوم باختيار فصيح الكلام لثعلب، وألفاظ الكتبة لعبد الرحمن عيسى.
قال أبو سعد: وكان الخوارزمي يومئذ حياً يرزق، والألسنة لفضله تطلق. وهذان الكتابان من زغب فراخ الكتب، وأنكر معرفة أهل خراسان بهما، فما ظنك بالقشاعم اللقمانية من أمهاتنا. وأنشدني القاضي أبو جعفر قال: أنشدني الحاكم أبو سعد قال: أنشدني ابن الأشرس لنفسه في أبي الحسن الأهوازي يهجوه.
يا عجباً لشيخنا الأهوازي ... يزهى علينا وهو في هوان
قال الحاكم أبو سعد: وأنشدني أيضاً لنفسه:
كأنما الأغصان لما علا ... فروعها قطر الندى قطرا
ولاحت الشمس عليها ضحى ... زبرجد قد أثمر الدرا
نقد الحاكم أبو سعد على بيته فقال: قوله قد أثمر الدر، لا يستقيم في النحو، لأنه لا يقال أثمرت النخلة الثمر، وإنما يقال أثمرت ثمراً بغير الألف واللام. وكتب ابن أشرس من بغداد إلى أبي الفتح الحداد بنيسابور:
رب غلام صار في ... بغداد إحدى الفتن
رقعتت خرق ظهره ... برقعة من بدني
قال الحاكم: في هذين البيتين خلل، لأنه لا يمكن أن يفسر على وجه قبيح لأن لحيته أيضاً من بدنه. قال القاضي البحاثي: فقلت له: وهذا التفسير أشبه، لأن اللحية أشبه بالرقعة من الفعل، قال نعم. لأن اللحية ترقع وذاك يمزق. هذا آخر ما ذكره الباخرزي في كتابه.
قال القاضي أبو المحاسن بن مسعر المغربي في كتابه: وممن قرأت عليه: أبو الفتح محمد بن أشرس النيسابوري، وكان ملازماً دار الخلافة ويأتي يوم الثلاثاء إلى قطيعة الملحم فكنت أصل إليه في هذا الموضع، وكان واسع العلم غزير الحفظ، وكان حياً في سنة خمس عشرة وأربعمائة، ولم تتجاوز وفاته سنة عشرين وأربعمائة وما لقيت أحداً من البغداديين يحقق لي وقت وفاته فأثبته على الحقيقة.
محمد بن أحمد بن محمد أبو سعد
العميدي، أديب نحوي لغوي مصنف سكن مصر. قال أبو إسحاق الحبال: أبو سعد العميدي له أدبيات، مات يوم الجمعة لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وكان العميدي يتولى ديوان الترتيب وعزل عنه كما ذكر الروذباري في سنة ثلاث عشرة في أيام الظاهر ووليه ابن معشر، ثم تولى ديوان الإنشاء بمصر في أيام المستنصر استخدم فيه عوضاً من ولي الدولة ابن خيران الكاتب في صفر سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وتولى الديوان بعده أبو الفرج الذهلي في جمادى الآخرة من سنة ست وثلاثين وأربعمائة. وله تصانيف في الأدب منها: كتاب تنقيح البلاغة في عشر مجلدات، رأيته بدمشق في خزانة الملك المعظم - خلد الله دولته - وعليه خطه، وقد قرئ عليه في شعبان سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، كتاب الإرشاد إلى حل المنظوم والهداية إلى نظم المنثور، كتاب انتزاعات القرآن، كتاب العروض، كتاب القوافي كبير.

قال علي بن مشرف: أنشدنا أبو الحسين محمد بن محمود ابن الدليل الصواف بمصر قال: أنشدنا أبو سعد محمد بن أحمد العميدي لنفسه:
إذا ما ضاق صدري لم أجد لي ... مقر عبادة إلا القرافة
لئن لم يرحم المولى اجتهادي ... قلة ناصري لم ألق رافه

محمد بن أحمد محمد بن سلمان كامل
ابن عبد الله بن عامر بن سنان، البخاري المعروف بالغنجار الحافظ أبو عبد الله بن أبي بكر. لم يكن من أهل الأدب فيجب ذكره، إنما ذكرته لأنه ألف كتاب تاريخ بخارى.
قال أبو سعد السمعاني: مات الغنجار البخاري سنة عشرة وأربعمائة، ومولده في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، ودفن في مقبرة حوض الفدام ببخارى.
قال أحمد بن ماما الأصبهاني الحافظ فيما زاده على تاريخ غنجار بعد ذكر نسب غنجار كما ذكرنا قال: سمي غنجار لتتبعه وجمعه في حال شبابه أحاديث أبي أحمد عيسى بن موسى غنجار البخاري قال: وأول من كتب عنه الحديث كثير عن أبي بكر محمد بن أحمد بن حبيب، ومشايخه أكثرهم مذكورون في تصنيفه لتاريخ بخارى. سمعته يقول: ولدت سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، ومات يوم الجمعة عند طلوع الشمس الثاني والعشرين من شهر شعبان سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة.
محمد بن أحمد بن على المعمري أبو بكر الأديب. مات في محرم سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. قال عبد الغافر: الأديب المعمري مشهور ثقة حدث عن جماعة من الشيوخ، وكان يؤدب وتخرج عليه جماعة من أولاد المشايخ، سمع أبا حفص محمد بن على الفقيه إملأ. روي عنه أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الكريزي.
محمد بن أحمد بن سهل
يعرف بابن بشران وبشران جده لأمه، ويعرف بابن الخالة أيضاً، ويكنى أبا غالب من أهل واسط، أحد الأئمة المعروفين والعلماء المشهورين، تجمع فيه أشتات العلوم، وقرن بين الرواية والدراية والفهم وشدة العناية، صاحب نحو ولغة وحديث وأخبار ودين وصلاح، وإليه كانت الرحلة في زمانه، وهو عين وقته وأوانه، وكان مع ذلك ثقة ضابطاً محرراً حافظاً إلا أنه كان محدوداً، أخذ العلم عن خلق لا يحصون: منهم أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الرحمن بن دينار الكاتب صاحب أبي علي الفارسي.
وحدث أبو عبد الله الحميدي قال: كتب إلى أبو الحسن علي بن محمد بن محمد الجلابي الواسطي صديقنا من واسط: أن أبا غلاب بن بشران النحوي مات بواسط في خامس عشر رجب سنة اثنتين وستين وأربعمائة، ومولده سنة ثمانين وثلاثمائة. قال الجلابي: ودخلت إلية قبل موته وجاءه من أخبره أن القاضي وجماعة معه قد ختموا على كتبه حراسة لها وخوفاً عليها فقال:
لئن كان الزمان على أنحى ... بأحداث غصصت لها بريقي
فقد أسدى إلى يداً بأني ... عرفت بها عدوي من صديقي
قال: وهذا آخر ما قاله من الشعر. قال الحميدي: وما أظن البيتين إلا لغيره. قال: وأنشدنا وقد انقطع الناس عن عيادته والدخول إليه:
مالي أرى الأبصار بي جافيه ... لم تلتفت مني إلى ناحية؟
لا ينظر الناس إلى الميت لا ... وإنما الناس مع العافية
وله حظ وافر من الشعر في قوله وعلمه، فمن شعره:
لولا تعرض ذكر من سكن الغضا ... ما كان قلبي للضنى متعرضا
لكن جفا جفني الكرى بجفائهم ... وحشا حشاي فراقهم جمر الغضا
ولو أن ما بي بالرياح لما جرت ... والبرق لو يمنى به ما أومضا
يا راكباً يطوي الدجنة عيسه ... فتريه رضراض الحصا مترضرضا
بلغ رعاك الله سكان الغضا ... عني التحية إن عرضت معرضا
وقل انقضي عصر الشباب وودنا ... باق على مر الليالي ما انقضى
إن كان قد حكم الزمان ببعدكم ... أبداً فتسليماً لما حكم القضا
ونضا الشباب قناعه لما رأى ... سيف المشيب على المفارق منتضى
قد كنت ألقى الدهر أبيض ناضراً ... فاسود لما صار رأسي أبيضا
لولا اعترافي بالزمان وريبه ... ما كنت ممن يرتضي غير الرضا
وله:
لا تغترر بهوى الملاح فربما ... ظهرت خلائق للملاح قباح

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15