كتاب : معجم الأدباء
المؤلف : ياقوت الحموي

خوفاً من أن توجد معي فأعاقب، قال: فأقبلت على الخليفة وقلت: يا أمير المؤمنين، هذا جاهل متكسب، مدسوس من قبل عدو غير محصل، فقال علي بن عيسى مؤيداً لي: قد قلت هذا للوزير فلم يقبل قولي، وليس يهدد هذا فضلاً عن أن ينزل به مكروه إلا أقر بالصورة، فأقبل الخليفة على نذير الحرمي، وعدل عن أن يأمر نصراً الحاجب بذلك، لما يعرفه بينه وبين ابن الفرات. بحقنا عليك لما ضربته مائة مقرعة أشد الضرب، إلى أن يصدق عن الصورة، فعديَ بالرجل عن حضرة الخليفة ليبعد ويضرب، فقال: لا: إلا ههنا، فضرب بالقرب منه دون العشرة، فصاح: غدرت، وضمنت لي الضمانات، وكذبت، والله ما دخلت أردبيل قط، فطلب نزار بن محمد الضبي أبو معد، وكان صاحب الشرطة وقد انصرف، فقال الخليفة لعلي بن عيسى: وقع إليه بأن يضرب هذا مائة سوط، ويثقله بالحديد، ويحبس في المطبق، فوالله لقد رأيت حامداً وقد كاد يسقط انخذالاً وانكساراً ووجداً وإشفاقاً، وخرجنا وجلسنا في دار نصر الحاجب، وانصرف حامد، وأخذ علي ابن عيسى ينظر في الحوائج، وأخر أمر الرجل، فقال له حاجبه ابن عبدوس: قد وجه نذير بالمضروب المتكذب فقلت له: إنه وإن كان قد جهل، فقد غمني ما لحقه خوفاً من أن أكون سببه، فإن أمكنك أن تسقط عنه المكروه أو بعضه أجرت، فقال: ما في هذا - لعنه الله - أجر، ولكن أقتصر على خمسين مقرعة، وأعفيه من السياط، ثم وقع بذلك إلى نزار وانصرفنا، فصار حامد من أعدى الناس لي.وفاً من أن توجد معي فأعاقب، قال: فأقبلت على الخليفة وقلت: يا أمير المؤمنين، هذا جاهل متكسب، مدسوس من قبل عدو غير محصل، فقال علي بن عيسى مؤيداً لي: قد قلت هذا للوزير فلم يقبل قولي، وليس يهدد هذا فضلاً عن أن ينزل به مكروه إلا أقر بالصورة، فأقبل الخليفة على نذير الحرمي، وعدل عن أن يأمر نصراً الحاجب بذلك، لما يعرفه بينه وبين ابن الفرات. بحقنا عليك لما ضربته مائة مقرعة أشد الضرب، إلى أن يصدق عن الصورة، فعديَ بالرجل عن حضرة الخليفة ليبعد ويضرب، فقال: لا: إلا ههنا، فضرب بالقرب منه دون العشرة، فصاح: غدرت، وضمنت لي الضمانات، وكذبت، والله ما دخلت أردبيل قط، فطلب نزار بن محمد الضبي أبو معد، وكان صاحب الشرطة وقد انصرف، فقال الخليفة لعلي بن عيسى: وقع إليه بأن يضرب هذا مائة سوط، ويثقله بالحديد، ويحبس في المطبق، فوالله لقد رأيت حامداً وقد كاد يسقط انخذالاً وانكساراً ووجداً وإشفاقاً، وخرجنا وجلسنا في دار نصر الحاجب، وانصرف حامد، وأخذ علي ابن عيسى ينظر في الحوائج، وأخر أمر الرجل، فقال له حاجبه ابن عبدوس: قد وجه نذير بالمضروب المتكذب فقلت له: إنه وإن كان قد جهل، فقد غمني ما لحقه خوفاً من أن أكون سببه، فإن أمكنك أن تسقط عنه المكروه أو بعضه أجرت، فقال: ما في هذا - لعنه الله - أجر، ولكن أقتصر على خمسين مقرعة، وأعفيه من السياط، ثم وقع بذلك إلى نزار وانصرفنا، فصار حامد من أعدى الناس لي.
وقال ابن عبد الرحيم: حدثني القاضي أبو القاسم التنوخي، وله بأمره الخبرة التامة، لما يجمعهما من النسب في الصناعة، قال: كان أبو عفر من جلة الناس وعظمائهم وعلمائهم، وتقلد قضاء الأنبار، وهيت، والرحبة، وطريق الفرات، في أيام المعتمد بعد كتبة الموفق أبي أحمد، سنة سبعين ومائتين، وأقام يليها إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة، وأضيف له غليها الأهواز وكورها السبع، وخلفه عليها جدي أبو القاسم علي بن محمد التنوخي، في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وقلده ماه الكوفة، وماه البصرة، مضافات إلى ما تقدم ذكره، ثم رد عليه مدينة المنصور وطسوج مسكن، وقطربل بعد فتنة ابن المعتز في سنة ست وتسعين ومائتين، ولم يزل على هذه الولايات إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة، وأسن وضعف، فتوصل أبو الحسين الأشناني إلى أن ولي قضاء المدينة، فكانت له أحاديث قبيحة. وقيل إن الناس سلموا عليه بالقباء إيماء إلى البغاه، وكان إليه الحسبة ببغداد، فصرف في اليوم الثالث، وأعيد العمل إلى أبي جعفر، فامتنع من قبوله، فرفع يده عن النظر في جميع ما كان إليه، وقال: أحب أن يكون بين الصرف والقبر فرجة، ولا أنزل من القلنسوة إلى الحفرة، وقال في ذلك.
تركت القضاء لأهل القضا ... ء وأقبلت أسمو إلى الآخرة
فإن يك فخراً جليل الثنا ... ء فقد نلت منه يداً فاخرة

وإن كان وزراً فأبعد به ... فلا خير في إمرة وازرة
فقيل له: فابذل شيئاً حتى يرد العمل إلى ابنك أبي طالب، فقال: ما كنت لأتحملها حياً وميتاً، وقد خدم ابني السلطان، وولاه الأعمال، فإن استوثق خدمته قلده، وإن لم يرتض مذاهبه صرفه، وهذا يفتضح ولا يخفى، وأنشدهم:
يقولون همت بنت لقمان مرة ... بسوء وقالت يا أبي ما الذي يخفى؟
فقال لها ما لا يكون، فأمسكت ... عليه ولم تمدد لمنكرة كفا
وما كل مستور يغلق دونه ... مصاريع أبواب، ولو بلغت ألفا
بمستتر، والصائن العرض سالم ... وربتما لم يعدم الذم والقذفا
على أن أثواب البرئ نقية ... ولا يلبث الزور المفكك أن يطفا
قال: ولست أعلم، هذا الشعر له أم تمثل به؟ قال التنوخي: وكان أبو جعفر يقول الشعر تأدباً وتطرباً، وما علمت أنه مدح أحداً بشيء منه، وله قصيدة طردية مزدوجة طويلة، وحمل الناس عنه علماً كثيراً، ومن شعره.
رأيت العيب يلصق بالمعالي ... لصوق الحبر في لفق الثياب
ويخفى في الدنئ فلا تراه ... كما يخفى السواد على الإهاب
وله في الوزير ابن الفرات:
قل لهذا الوزير قول محق ... بثه النصح أيما إبثاث
قد تقلدتها ثلاثاً ثلاثاً ... وطلاق البتات عند الثلاث
وكان الأمر على ما قاله، فإن ابن الفرات قتل بعد الوزارة الثالثة في محبسه: وله أيضاً:
أقبلت الدنيا وقد ولى العمر ... فما أذوق العيش إلا كالصبر
لله أيام الصبا إذ تعتكر ... لاقت لدينا لو تئوب ما يسر
وله أيضاً:
ويجزع من تسليمنا فيردنا ... مخافة أن تبغى يداه فيبخلا
وما ضره لو أن أجاب ببشره ... فنقنع بالبشر الجميل ونرحلا
وله أيضاً:
وحرقة أورثتها فرقة دنفاً ... حيران لا يهتدي إلا إلى الحزن
في جسمه شغل عن قلبه وله ... في قلبه شغل عن سائر البدن
وله أيضاً:
أبعد الثمانين أفنيتها ... وخمساً وسادسها قد نما
ترجى الحياة وتسعى لها؟ ... لقد كاد دينك أن يكلما
وله أيضاً:
إلى كم تخدم الدنيا ... وقد جزت الثمانينا؟
لئن لم تك مجنوناً ... فقد فقت المجانينا
وقد ذكر أبو عبيد الله ابن بشران في تاريخه قال: دخل على القاضي أحمد بن إسحاق بن البهلول أبو القاسم عمر بن شاذان الجوهري فقال له: ارتفع يا أبا حفص، فقال له بعض من حضر هو أبو القاسم، فأنشأ ابن البهلول يقول:
فإن ننسي الأيام كنية صاحب ... كريم فلم أنس الإخاء ولا الودا
ولكن رأيت الدهر ينسيك ما مضى ... إذا أنت لم تحدث إخاء ولا عهدا

أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد

بديع الزمان الهمذاني، أبو الفضل، قال أبو شجاع شيرويه بن شهردار في تاريخ همذان: إن أحمد بن الحسين ابن يحيى بن سعيد بن بشر أبا الفضل، الملقب ببديع الزمان، سكن هراة، روى عن أبي الحسين أحمد بن قارس بن زكريا، وعيسى بن هشام الأخباري، وكان أحد الفضلاء والفصحاء، متعصباً لأهل الحديث والسنة، ما أخرجت همذان بعده مثله، وكان من مفاخر بلدنا، روى عنه أخوه أبو سعد بن الصفار، والقاضي أبو محمد عبد الله بن الحسين النيسابوري، قال: وتوفي في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة: قال شيرويه ومحمد بن الحسين ابن يحيى بن سعيد بن بشر الصفار الفقيه أبو سعد أخو بديع الزمان أبي الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى لأبيه وأمه مفتي البلد، روى عن ابن لال، وابن تركان، وعبد الرحمن الإمام، وأبي بكر محمد بن الحسين الفراء، وابن جائحان، وذكر جماعة وافرة، قال: وأدركته، ولم يقض لي عنه السماع، وكان في الحديث ثقة، ويتهم بمذهب الأشعرية، ويقال: جن في آخر عمره إلى أن مات، وسمعت بعض أصحابنا يقول: كان يعرف الرجال، والمتون، ولد في ثالث عشر جمادى الآخرة، سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، ومات ولم يذكره وذكره الثعالبي في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وكذا قال أبو نصر عبد الرحمن بن عبد الجبار الفامي في تاريخ هراة، قال المؤلف: وقد رأيت ذكر البديع في عدة تصانيف من كتب العلماء، فلم يستقص أحد خبره أحسن مما اقتصه الثعالبي، وكان قد لقيه وكتب عنه، فنقلت خبره من كتابه، ولخصته من بعض سجعه، قال:

بديع الزمان، ومعجزة همذان، ونادرة الفلك، وبكر عطارد، وفرد الدهر، وغرة العصر، ولم نرَ نظيره في الذكاء، وسرعة الخاطر، وشرف الطبع، وصفاء الذهن، وقوة النفس، ولم ندرك نظيره في طرف النثر وملحه وغرر النظم ونكته، وكان صاحب عجائب وبدائع، فمنها. أنه كان ينشد الشعر لم يسمعه قط، وهو أكثر من خمسين بيتاً إلا مرة واحدة، فيحفظها كلها، ويؤديها من أولها إلى آخرها، لا يخرم حرفاً، وينظر في الأربعة والخمسة الأوراق، من كتاب لم يعرفه ولم يره، نظرة واحدة خفيفة ثم يهذها عن ظهر قلبه هذا، ويسردها سرداً، وهذا حاله في الكتب الواردة وغيرها، وكان يقترح عليه عمل قصيدة، وإنشاء رسالة، في معنى بديع، وباب غريب، فيفرغ منها في الوقت والساعة، وكان ربما كتب الكتاب المقترح عليه، فيبتدئ بآخره، ثم هلم جرا إلى أوله، ويخرجه كأحسن شيء وأملحه، ويوشح لقصيدة الفريدة من قوله، بالرسالة الشريفة من إنشائه، فيقرأ من النظم النثر، ويروي من النثر النظم، ويعطى القوافي الكثيرة، فيصل بها الأبيات الرشيقة، ويقترح عليه كل عويص وعسير من النظم والنثر، فيرجله أسرع من الطرف، على ريق لم يبلعه، ونفس لا يقطعه، وكلامه كله عفو الساعة، وفيض اليد، ومسارقة القلم، ومسابقة اليد للفم، وكان يترحم ما يقترح عليه من الأبيات الفارسية، المشتملة على المعاني الغريبة، بالأبيات العربية، فيجمع فيها بين الإبداع والإسراع، إلى عجائب كثيرة لا تحصى، ولطائف تطول أن تستقصى، وكان مع ذلك مقبول الصورة، حسن العشرة، وفارق همذان سنة ثمانين وثلاثمائة وهو في مقتبل الشبيبة، غض الحداثة، وقد درس على أبي الحسن فارس، وأخذ عنه جميع ما عنده، واستنفد علمه، وورد حضرة الصاحب ابن عباد، فتزود من ثمارها، وحسن آثارها، ثم قدم جرجان، واقام بها مدة، على مداخلة الإسماعيلية، والتعيش في أكنافهم، واختص بالدهخداه أبي سعيد محمد بن منصور، ونفقت بضاعته لديه، وتوفر حظه من عادته المعروفة، في إسداء الإفضال على الأفاضل، ولما أراد ورود نيسابور أعانه بما سيره إليها، فوردها في سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، ونشر بها بزه، وأظهر طرزه، وأملى أربعمائة مقامة، نحلها أبا الفتح الإسكندري في الكدية وغيرها، وضمنها ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، ثم شجر بينه وبين الأستاذ أبي بكر الخوارزمي ما كان سبباً لهبوب ريح الهمذاني، وعلو أمره، إذ لم يكن في الحساب أن أحداً من العلماء ينبري لمساجلذته، فلما تصدى الهمذاني لمباراته، وجرت بينهما مقامات، ومبادهات ومناظرات، وغلب قوم هذا، وغلب آخرون ذاك، طار ذكر الهمذاني في الآفاق، وشاع ذكره في الأفاق، ودرت له أخلاف الرزق، فلما مات الخوارزمي خلاله الجو، وتصرفت به أحوال جميلة، وأسفار كثيرة، ولم يبق من بلاد خراسان وسجستان وغزنة بلدة إلا دخلها، وجنى ثمرها، ولا ملك ولا أمير ولا وزير إلا واستمطر بنوئه، وسرى في ضوئه، فحصلت له نعمة حسنة، وثروة جميلة، وألقى عصاه بهراة، فاتخذها دار قراره، وصاهر بها أبا علي الحسين بن محمد الخشنامي، وهو الفاضل الكريم الأصيل، وانتظمت أحواله بمصارهرته، واقتنى بمعونته ضياعاً فاخرة، وحين بلغ أشده وأربى على أربعين سنة، ناداه الله فلباه، وفارق دنياه، في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.
وهذا أنموذج من رسائله فصل: من رقعة كتبها إلى الخوارزمي: وهذا أول ما كاتبه به: أنا لقرب الأستاذ، كما طرب النشوان مالت به الخمر، ومن الارتياح للقائه، كما انتفض العصفور بلله القطر، ومن الامتزاج بولائه، كما التقت الصهباء والبارد العذب، ومن الابتهاج بمزاره، كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب، " ومن رقعة إلى غيره " : يعز عليّ أن ينوب - أيد الله الشيخ - في خدمته قلمي عن قدمي، ويسعد برؤيته رسولي، دون وصولي، ويرد مشرع الأنس به كتابي، قبل ركابي. ولكن ما الحيلة؟ والعوائق جمة،
وعليّ أن أسعى ولي ... س عليّ إدراك النجاح
وقد حضرت داره، وقبلت جداره، وما بي حب الحيطان، ولكن شغف بالقطان، ولا عشق الجدران، ولكن شوق إلى السكان.
وقال البديع، وأراد التحميض كما يقول أهل بغداد، ومعناه عندهم غير ذلك كقوله:
ولقد دخلت ديار فارس مرة ... أبتاع ما فيها من الأعراض
فإذا فسا فيها رجال سادة ... لهفي على ذاك الزمان الماضي

فالسامع يرى أنه أراد فسا مدينة بفارس، التي منها أبو علي الفسوي النحوي، وإنما أراد فسا من الفسو، والضمير في فيها يريد به اللحية.
وذكره أبو إسحاق الحصري في كتاب زهر الآداب، وقد ذكر أبا الفضل الهمذاني بديع الزمان فقال: وهذا اسم وافق مسماه، ولفظ طابق معناه، كلامه غض المكاسر، أنيق الجواهر، يكاد الهواء يسرقه لطفاً، والهوى يعشقه ظرفاً.
ولما رأى أبا بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثاً، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، وانتخبها من معادن فكره، وأبداها للأبصار والبصائر، وأهداها إلى الأفكار والضمائر، في معارض حوشية، وألفاظ عنجهية فجاء أكثرها تنبو عن قبوله الطباع، ولا ترفع له حجب الأسماع، وتوسع فيها إذ صرف ألفاظها ومعانيها في وجوه مختلفة، وضروب منصرفة، عارضه بأربعمائة مقامة في الكدية تذوب ظرفاً، وتقطر حسناً، لا مناسبة بين المقامتين لفظاً ولا معنى، عطف مساجلتها، ووقف مناقلتها بين رجلين، سمى أحدهما عيسى بن هشام، والآخر أبا الفتح الإسكندري، وجعلهما يتهاديان الدر، ويتنافثان السحر، في معان تضحك الحزين، وتحرك الرصين، وتطالع منها كل طريفة، وتوقف منها على كل لطيفة، وربما أفرد بعضهما بالحكاية، وخص أحدهما بالرواية، وقد ذكره أبو نصر عبد الرحمن بن عبد الجبار الفامي في تاريخ هراة من تأليفه.
وأنشد للبديع:
خرج الأمير ومن وراء ركابه ... غيري وعز علي " أن " لم أخرج
أصبحت لا أدري أأدعو طغمشي ... أم يكتليني أم أصيح بنذغجي؟؟؟
وبقيت لا أدري أأركب أبرشي ... أم أدهمي أم أشهبي أم ديزجي؟؟؟
يا سيد الأمراء مالي خيمة ... إلا السماء إلى ذراها ألتجي
كنفي بعيري إن ظعنت ومفرشي ... كمى وجنح الليل مطرح هودجي
وكتب بديع الزمان إلى مستميح عاوده مراراً، وقال له: لم لا تديم الجود بالذهب، كما تديمه بالأدب؟ فكتب البديع: عافاك الله: مثل الإنسان في الإحسان، مثل الأشجار في الإثمار، وسبيل من ابتدأ بالحسنة، أن يرفه إلى السنة، وأنا كما ذكرت لا أملك عضوين من جسدي، وهما فؤادي ويدي، أما اليد فتولع بالجود، وأما الفراد فيتعلق بالوفود، ولكن هذا الخلق النفيس، لا يساعده إلا الكيس، وهذا الخلق الكريم، لا يحتمله إلا الكريم، ولا قرابة بين الأدب والذهب، فلم جمعت بينهما؟ والأدب لا يمكن ثرده في قصعة، ولا صرفه في ثمن سلعة، قد جهدت جهدي بالطباخ، أن يطبخ لي من جيمية الشماخ لوناً فلم يفعل، وبالقصاب، أن يذبح أدب الكتاب فلم يقبل، وأنشدت في الحمام، ديوان أبي تمام، فلم ينجع، ودفعت إلى الحجام، مقطعات اللجام، فلم يأخذ، واحتيج في البيت، إلى شيء من الزيت، فأنشدت ألفاً ومائتي بيت، من شعر الكميت، فلم يغن، ودفعت أرجوزة العجاج، في توابل السكباج، فلم ينفع، وأنت لم نقنع، فما أصنع؟ فإن كنت تحسب اختلافك غلي، إفضالاً منك علي، فراحتي، ألا تطرق ساحتي، وفرجي، ألا تجي، وللسلام: وحدث أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي صاحب كتاب وشاح الدمية، وقد ذكر أبا بكر الخوارزمي وقد رمي بحجر البديع الهمذاني، في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وأعان البديع الهمذاني قوم من وجوه نيسابور، كانوا مستوحشين من أبي بكر، فجمع السيد نقيب السيادة بنيسابور أبو علي بينهما، وأراده على الزيارة، وداره بأعلى ملقاباذ فترفع، فبعث غليه السيد مركوبه، فحضر أبو بكر مع جماعة من تلامذته، فقال له البديع: إنما دعوناك لتملأ المجلس فوائد، وتذكر الأبيات الشوارد، والأمثال الفوارد، ونناجيك فنسعد بما عندك، وتسألنا فتسر بما عندنا، ونبدأ بالفن الذي ملكت زمامه، وطار به صيتك، وهو الحفظ إن شئت، والنظم إن أردت، والنثر إن اخترت، والبديهة إن نشطت، فهذه دعواك، التي تملأ منها فاك، فأحجم الخوارزمي عن الحفظ لكبر سنه، ولم يجل في النثر قداحاً، وقال أبادهك، فقال البديع: الأمر أمرك يا أستاذ، فقال له الخوارزمي: أقول لك ما قال موسى للسحرة: " قال بل ألقوا " .
فقال البديع:
الشعر أصعب مذهباً ومصاعدا ... من أن يكون مطيعه في فكه
والنظم بحر والخواطر معبر ... فانظر إلى بحر القريض وفلكه

فمتى تراني في القريض مقصراً ... عرضت أذن الإمتحان لعركه
قال: وهذه أبيات كثيرة، فيها مدح الشريف أبي علي والمفاخرة، وتهجين الخوارزمي، فقال الخوارزمي أيضاً أبياتاً: ولكن ما أبرزها من الغلاف.
فقال له البديع: أما تستحي أن يكون السنور أعقل منك، لأنه يجعر فيغطيه بالتراب. فقال لهما الشريف، انسجا على منوال المتنبي: أرق على أرق ومثلي يأرق فابتدأ أبو بكر وكان إلى الغايات سباقاً، وقال:
فإذا ابتدهت بديهة يا سيدي ... فأراك عند بديهتي تتقلق
مالي أراك ولست مثلي في الورى ... متموهاً بالترهات تمخرق
ونظم أبياتاً ثم اعتذر، فقال: هذا كما يجيء، لا كما يجب، فقال البديع: قبل الله عذرك، لكن رفقت بين قافات خشنة، كل قاف كجبل قاف، فخذ الآن جزاء عن قرضك، وأداء لفرضك:
مهلاً أبا بكر فزندك أضيق ... واخرس فإن أخاك حي يرزق
يا أحمقا وكفاك تلك فضيحة ... جربت نار معرتي هل تحرق؟
فقال له أبو بكر: يا أحمقا: لا يجوز فإنه لا ينصرف فقال البديع: لا نزال نصفعك حتى ينصرف وتنصرف معه، وللشاعر أن يرد ما لا ينصرف، وإن شئت قلت يا كودنا ثم قولك في البيت يا سيدي، ثم قلت تتقلق مدحت أم قدحت؟ فإن اللفظين لا يركضان في حلبة فقال لهما الشريف قولاً على منوال المتنبي: أهلاً بدار سباك أغيدها قال البديع:
يا نعمة لا تزال تجحدها ... ومنة لا تزال تكندها
فقال أبو بكر: الكنود قلة الخير لا الكفران.
فكذبه الجمع وقالوا: ما قرأت قوله تعالى: " إن الإنسان لربه لكنود " ؟ أي لكفور. فقال له أبو بكر: أنا اكتسبت بفضلي دية أهل همذان، فما الذي اكتسبت أنت بفضلك؟ فقال له البديع أنت في حرفة الكدية أحذق، وبالاستماحة أحرى وأخلق. فقطعه الكلام، ثم أنشد:
وشبهنا بنفسج عارضيه ... بقايا اللطم في الخد الرقيق
فال الخوارزمي: أنا أحفظ هذه القصيدة، فقال البديع أخطأت: فإن البيت على غير هذه الصيغة وهي:
وشبهنا بنفسج عارضيه ... بقايا الوشم في الوجه الصفيق
فقال له أبو بكر: والله لأصفعنك ولو بعد حين، فقال البديع: أنا أصفعك اليوم، وتضربني غداً، اليوم خمر، وغداً أمر. وأنشد قول ابن الرومي:
رأيت شيخاً سفيهاً ... يفوق كل سفيه
وقد أصاب شبيهاً ... له وفوق الشبيه
ثم أنشد البديع:
وأنزلني طول النوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت أمرأً لا أشاكله
أخامقة حتى يقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
فأمال النعاس الرؤوس، وسكنت الألحان والنفوس، وسلب الرقاد الجلوس، فنام القوم كعادتهم في ضيافات نيسابور، وأصبحوا فتفرقوا، وبعض القوم يحكم بلغبة البديع، وبعضهم يحكم بغلبة الخوارزمي، وسعى الفضلاء بينهما بالصلح ودخل عليه البديع واعتذر، وتاب واستغفر مما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقال له البديع: بعد الكدر صفو، وبعد الغيم صحو، فعرض عليه الخوارزمي الإقامة عنده سحابة يومه، فأجابه البديع وأضافه الخوارزمي، وكان بعض الرؤساء مستوحشاً من الخوارزمي، وهيأ مجمعاً في دار الشيخ السيد أبي القاسم الوزير، وكان أبو القاسم فاضلاً ملء إهابه، وحضر أبو الطيب سهل الصعلوكي، والسيد أبو الحسين العالم، فاستمال البديع قلب السيد أبي الحسين بقصيدة قالها في مدائح أهل البيت أولها:
يا معشراً ضرب الزما ... ن على معرسهم خيامه
ثم حضر المجلس القاضي أبو عمر البسطامي، وأبو القاسم ابن حبيب، والقاضي أبو الهيثم، والشيخ أبو نصر بن المرزبان، ومع الإمام أبي الطيب الفقهاء والمتصوفة، وحضر أبو نصر الماسرجسي مع أصحابه، والشيخ أبو سعد الهمذاني، ودخل مع الخوارزمي جم غفير من أصحابه، فقيل لهما: أنشدا على منوال قول أبي الشيص:
أبقى الزمان به ندوب عضاض ... ورمى سواد قرونه ببياض
فابتدر الخوارزمي فقال:
يا قاضياً ما مثله من قاض ... أنا بالذي تقضي علينا راض
منها:
ولقد بليت بشاعر متهتك ... لا بل بليت بناب ذئب غاض

فقال البديع: ما معنى قولك: ذئب غاض. فقال أبو بكر: ما قلته. فشهد عليه الحاضرون أنه قاله، فقال أبو بكر: الذئب الغاضي: الذي يأكل الغضا، فقال البديع: استنوق الذئب صار الذئب جملاً يأكل الغضا، ثم دخل الرئيس أبو جعفر، والقاضي أبو بكر الحيري والشيخ أبو زكريا والشيخ أبو الرشيد المتكلم، فقال الرئيس: قولاً على هذا النمط:
برز الربيع لنا برونق مائه ... وانظر لمنظر أرضه وسمائه
والترب بين ممسك ومعنبر ... من نوره بل مائه وروائه
ثم أنشد الخوارزمي على هذا النمط، فلما فرغ من إنشاده قال البديع للوزير والرئيس: لو أن رجلاً حلف بالطلاق أني لا أقول شعراً، ثم نظم تلك الأبيات التي قالها الخوارزمي، لا يقال نظرت لكذا، ويقال نظرت إلى كذا، وأنت قلت فانظر لمنظر، وشبهت الطير بالمحصنات، وهذا تشبيه فاسد، ثم شبهتها بالمغنيات حين قلت:
والطير مثل المحصنات صوادح ... مثل المغني شادياً بغنائه
المحصنات كيف توصف بالغناء ثم قلت كالبحر في تزخاره، والغيث في إمطاره، والغيث هو المطر، فقال البديع: الغيث المطر والسحاب، وصدقه الحاضرون، وأنكروا على الخوارزمي، فقال الإمام أبو الطيب: علمنا أي الرجلين أفضل وأشعر؟ فقام البديع وقبل رأس الخوارزمي ويده وقال: اشهدوا أن الغلبة له، قال ذلك على سبيل الاستهزاء، وتفرق الناس واشتغلوا بتناول الطعام، وأبو بكر ينطق عن كبد حرى والوزير يقول للبديع: ملكت فأسجح، فلما قام أبو بكر أشار إلى البديع وقال: لأتركنك بين الميمات، فقال: ما معنى الميمات؟ فقال: بين مهدوم، مهزوم، مغموم، محموم، مرجوم، محروم، فقال البديع: لأتركنك بين الهيام والسقام والسام والبرسام والجذام والسرسام، وبين السينات، بين منحوس، ومنخوس، ومنكوس، ومعكوس، وبين الخاءات، من مطبوخ، ومسلوخ، ومشدوخ، ومفسوخ وممسوخ، وبين الباءات، بين مغلوب، ومسلوب، ومصلوب، ومنكوب، فخرج البديع وأصحاب الشافعي يعظمونه بالتقبيل والاستقبال، والإكرام والإجلال، وما خرج الخوارزمي حتى غابت الشمس، وعاد إلى بيته وانخذل انخذالاً شديداً، وانكسف باله وانخفض طرفه، ولم يحل عليه الحول حتى خانه عمره، وذلك في شوال سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. قال أبو الحسن البيهقي: وبديع الزمان أبو الفضل أحمد بن الحسين الحافظ، كان يحفظ خمسين بيتاً بسماع واحد، ويؤديها من أولها إلى آخرها، وينظر في كتاب نظراً خفيفاً، ويحفظ أوراقاً ويؤديها من أولها إلى آخرها، فارق همذان في سنة ثمانين وثلاثمائة، وكان قد اختلف إلى أحمد بن فارس صاحب المجمل، وورد حضرة الصاحب، وتزود من ثمارهما، واختص بالدهخداه أبي سعد محمد بن منصور، ونفقت بضاعته لديه، ووافى نيسابور في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، وبعد موت الخوارزمي خلاله الجو، وجرت بينه وبين أبي علي الحسين ابن محمد الخشنامي مصاهرة، وألقى عصا المقام بهراة، ثم فارق دنياه في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.
وحدث الثعالبي في أخبار أبي فراس قال: حكى أبو الفضل الهمذاني قال: قال الصاحب أبو القاسم يوماً لجلسائه وأنا فيهم - وقد جرى ذكر أبي فراس الحرث بن سعيد بن حمدان - لا يقدر أحد أن يزور على أبي فراس شعراً فقلت: من يقدر على ذلك؟ وهو الذي يقول:
رويدك لا تصل يدها بباعك ... ولا تعز السباع إلى رباعك
ولا تغر العدو على إني ... يمين إن قطعت فمن ذراعك
فقال الصاحب: صدقت: فقلت: - أيد الله مولانا - فقد فعلت. ويقال: إن السبب في مفارقة البديع الهمذاني حضرة الصاحب، أنه كان في مجلسه فخرجت منه ريح " فقال الصاحب " فقال البديع هذا صرير التخت، فقال الصاحب: أخشى أن يكون صرير النحت، فأورثه ذلك جلاً كان سبب مفارقته إياه ووروده إلى خراسان، وكانت أول رقعة كتبها البديع إلى الخوارزمي عند وروده نيسابور: أنا لقرب الأستاذ أطال الله بقاءه، كما طرب النشوان مالت به الخمر، ومن الارتياح للقائه، كما انتفض العصفور بلله القطر، ومن الامتراج بولائه، كما التقت الصهباء والبارد العذب، ومن الابتهاج بمزاره كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب، فكيف ارتياح الأستاذ لصديق طوى إليه ما بين قصبتي العراق وخراسان، بل عتبتي الجبل ونيسابور؟ وكيف اهتزازه لضيف في بردة حمال وجلدة جمال.

رق الشمائل منهج الأثواب ... بكرت عليه مغيرة الأعراب
كمهلهل وربيعة بن مكدم ... وعبينة بن الحارث بن شهاب
وهو ولي إنعامه، بإنفاذ غلامه، إلى مستقري لأفضي إليه بما عندي إن شاء الله تعالى وحده. ثم اجتمع إليه فلم يحمد لقيه،فانصرف عنه، وكتب إليه: الأستاذ - والله يطيل بقاءه. ويديم تأييده ونعماءه - أزرى بضيفه أن وجده يضرب آباط القلة في أطمار الغربة، فأعمل في ترتيبه أنواع المصارفة، وفي الاهتزاز له أصناف المضايقة، من إيماء بنصف الطرف، وإشارة بشطر الكف، ودفع في صدر القيام عن التمام، ومضغ الكلام، وتكلفه لرد السلام، وقد قبلت هذا الترتيب صعراً، واحتملته وزراً، واحتضنته نكراً، وتأبطته شراً، ولم آله عذراً، فإن المرء بالمال وثياب الجمال، وأنا مع هذه الحال، وفي هذه الأسمال، أتقزز صف النعال، ولو حاملته العتاب، وناقشته الحساب، وصدقته السماع، لقلت إن بوادينا ثاغية صباح، وراغية رواح، وقوماً يجرون المطارف، ولا يمنعون المعارف.
وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
ولو طوحت بالأستاذ أيدي الغربة إليهم، لوجد منال البشر قريباً، ومحط الرحل رحيباً، ووجه المضيف خصيباً، ورأيه - أيده الله - في أن يملأ من هذا الضيف أجفان عينه، ويوسع أعطاف ظنه ويجيبه بموقع هذا العتاب الذي معناه ود، والمر الذي يتلوه شهد موفق إن شاء الله تعالى.
" الجواب من الخوارزمي "
إنك إن كلفتني ما لم أطق ... ساءك ما سرك مني من خلق
فهمت ما تناوله سيدي من حسن خطابه، ومؤلم عتبه وعتابه، وصرفت ذلك منه إلى الضجر الذي لا يخلو منه من نبا به دهر، ومسه من الأيام ضر، والحمد لله الذي جعلني موضع أنسه، ومظنة مشتكى ما في نفسه، أما ما شكاه سيدي من مضايقتي إياه رغم في القيام، وتكلفي لرد السلام، فقد وفيته حقه، كلاماً، وسلاماً، وقياماً على قدر ما قدرت عليه، ووصلت إليه، ولم أرفع عليه غير السيد أبي القاسم، وما كنت لأرفع أحداً على من أبوه الرسول، وأمه البتول، وشاهداه التوراة والإنجيل، وناصراه التأويل والتنزيل، والبشير به جبرائيل وميكائيل، وأما عدم الجمال، ورثاثة الحال، فما يضعان عندي قدراً ولا يضران نجراً، وإنما اللباس جلدة، والزي حلية بل قشرة، وإنما يشتغل بالجل من لا يعرف قيمة الخيل، ونحن بحمد الله نعرف الخيل عارية من لالها، ونعرف الرجال بأقوالها وأفعالها، لا بآلاتها وأحوالها، وأما القوم الذين صدر سيدي عنهم، وانتمى إليهم، ففيهم لعمري فوق ما وصف حسن عشرة، وسداد طريقة، وجمال تفصيل وجملة، ولقد جاورتهم فنلت المراد، وأحمدت المراد.
فإن أكُ قد فارقت نجداً وأهله ... فما عهد نجد عندنا بذميم
والله يعلم نيتي للأحرار عامة، ولسيدي من بينهم خاصة، فإن أعانني على مرادى له، ونيتي فيه بحسن العشرة، بلغت له بعض ما في المنية، وجاوزت مسافة القدرة، وإن قطع على طريق عزمي بالمعارضة وسوء المؤاخذة، صرفت عناني عن طريق الاختيار، بيد الاضطرار.
فما النفس إلا نطفة بقرارة ... إذ لم تكدر كان صفواً غديرها
وعلى هذا، فحبذا عتاب سيدي إذا صادف ذنباً، واستوجب عتباً، فأما أن يسلفنا العربدة، ويستكثر المعتبة والموجدة، فتلك حالة نصونه عنها، ونصون أنفسنا عن احتمال مثلها، فليرجع بنا إلى ما هو أشبه به وأجمل له، ولست أسومه أن يقول " استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين " ولكن أسأله أن يقول: " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " .
" رقعة البديع الثالثة إلى الخوارزمي " .

أنا أرد من الأستاذ سيدي شرعة وده، وإن لم تصف، وألبس خلعة بره، وإن لم تضف وقصاراي أن أكيله صاعاً بصاع، ومداً عن مد، وإن كنت في الأدب دعي النسب، ضعيف السبب، ضيق المضطرب، سيء المنقلب، أمت إلى أهله بعشرة رشيقة، وأنزع إلى خدمة أصحابه بطريقة، ولكن بقي أن يكون الخليط منصفاً في الإخاء، عادلاً في الوداد، إذا زرت زار، وإن عدت عاد. والأستاذ سيدي - أيده الله - ضايقني في القبول أولاً، ونافشني في الإقبال ثانياً، فأما حديث الاستقبال وأمر الإنزال والأنزال فنطاق الطمع ضيق عنه، غير متسع لتوقعه منه. وبعد، فكلفة الفضل هينة، وفروض الود متعينة، وطرق المكارم بينة، وأرض العشرة لينة، فلم اختار قعود التعالي مركباً، وصعود التغالي مذهباً؟ وهلا ذاد الطير عن شجر العشرة، إذا كان ذاق الحلو من ثمرها، وقد علم الله أن شوقي إليه قد كد الفؤاد برحاً على برح، ونكأه قرحاً على قرح، فهو شوق داعيته محاسن الفضل، وجاذبته بواعث العلم ولكنها مرة مرة ونفس حرة، ولم تقد إلا بالإعظام، ولم تلق إلا بالإكرام، وإذا استعفاني سيدي الأستاذ من معاتبته، واستعادته ومؤاخذته إذا جفا واستزادته، وأعفى نفسه من كلف الفضل يتجشمها، فليس إلا غصص الشوق أتجرعها، وحلل الصبر أتدرعها، فلم أعره من نفسي، وأنا لو أعرت جناحي طائر لما رنقت إلا إليه ولا حلقت إلا عليه.
أحبك يا شمس النهار وبدره ... وإن لامني فيك السها والفراقد
وذاك لأن الفضل عندك باهر ... وليس لأن العيش عندك بارد
" جواب الخوارزمي عنها " شريعة ودي لسيدي - أدام الله عزه - إذا وردها صافية وثياب بري إذا قبلها ضافية، هذا ما لم يكدر الشريعة بتعنته وتعصبه، ولم تحترق الثياب بتجنبه وتسحبه، فأما الإنصاف في الإخاء فهو ضالتي عند الأصدقاء، ولا أقول:
وإني لمشتاق إلى ظل صاحب ... يرق ويصفو إن كدرت عليه
فإن قائل هذا البيت قاله والزمان زمان، والإخوان إخوان، وحسن العشرة سلطان، ولكني أقول: وإني لمشتاق إلى ظل:
رجل يوازنك المودة جاهداً ... يعطي ويأخذ منك بالميزان
فإذا رأى رجحان حبة خردل ... مالت مودته مع الرجحان
وقد كان الناس يقترحون الفضل فأصبحنا نقترح العدل، وإلى الله المشتكى لا منه. ذكر الشيخ سيدي - أيده الله، - حديث الاستقبال، وكيف يستقبل من انقض علينا انقضاض العقاب الكاسر، ووقع بيننا وقوع السهم العائر، وتكليف المرء ما لا يطيق يجوز على مذهب الأشعري، وقد زاد سيدي على أستاذه الأشعري، فإن أستاذه كلف العاجز ما لا يطيق مع عجزه عنه، وسيدي كلف الجاهل علم الغيب مع الاستحالة منه، والمنزل بما فيه قد عرضته عليه، ولو أطقت حمله لحملته إليه، والشوق الذي ذكره سيدي، فعندي منه الكثير الكبير، وعنده منه الصغير اليسير، وأكثرنا شوقاً أقلنا عتاباً، وأليننا خطاباً، ولو أراد سيدي أن أصدق دعواه في شوقه إلي، ليغض من حجم عتبه علي، فإنما اللفظ زائد، واللحظ وارد، فإذا رق اللفظ، دق اللحظ، وإذا صدق الحب ضاق العتاب والعتب.
فبالخير لا بالشر فارج مودتي ... وأي امرئ يعتاد منه الترهب
عتاب سيدي قبيح، ولكنه حسن، وكلامه لين، ولكنه خشن، أما قبحه فلأنه عاتب بريئاً، ونسب إلى الإساءة ما لم يكن مسيئاً، وأما حسنه فلألفاظه الغرر ومعانيه التي هي كالدرر، فهي كالدنيا ظاهرها يغر، وباطنها يضر، وكالمرعلى على دمن الثرى، منظره بهي، ومخبره وبي، ولو شاء سيدي نظم الحسن والإحسان، وجمع بين صواب الفعل واللسان.
يا بديع القول حاشا ... لك من هجو بديع
وبحسن القول عوذ ... تك من سوء الصنيع
لا يعب بعضك بعضاً ... كن مليحاً في الجميع
" رقعة أخرى للبديع إلى الخوارزمي "

أنا وإن كنت مقصراً في موجبات الفضل، من حضور مجلس الأستاذ سيد، فما أفري إلا جلدي. ولا أبري إلا قدحي ولا أبخس إلا حظي، وإن يكن ذاك جرماً فلقي هذا عقاباً، ومع ذاك فما أعمر أوقاتي إلا بمدحه، ولا أطرز ساعاتي إلا بذكره، ولا أركض إلا في حلبة وصفه، حرس الله فضله، نعم، وقد رددت كتاب الأوراق لللصولي، وتطاولت لكتاب البيان والتبيين. للجاحظ، وللأستاذ سيدي في الفضل والتفضل به رأيه وقال البديع يمدح الصحابة ويهجو الخوارزمي ويجيبه عن قصيدة رويت له في الطعن عليهم:
وكلني بالهم والكآبة ... طعانة لعانة سبابه
للسلف الصالح والصحابة ... أساء سمعاً فأساء جابه
تأملوا يا كبراء الشيعة ... لعشرة الإسلام والشريعة
أتستحل هذه الوقيعة ... في تبع الكفر وأهل البيعة
فكيف من صدق بالرسالة ... وقام للدين بكل آله
وأحرز الله يد العقبى له ... ذلكم الصديق لا محالة
إمام من أجمع في السقيفة ... قطعاً عليه أنه الخليفة
ناهيك من أثاره الشريفة ... في رده كيد بني حنيفة
سل الجبال الشم والبحارا ... وسائل المنبر والمنارا
واستعلم الآفاق والأقطارا ... من أظهر الدين بها شعارا
ثم سل الفرس وبيت النار ... من الذي فل شبا الكفار
هل هذه البيض من الآثار ... إلا لثاني المصطفى في الغار
وسائل الإسلام من قواه ... وقال إذ لم تقل الأفواه
واستنجز الوعد فأومى الله ... من قام لما قعدوا إلا هو
ثاني النبي في سني الولادة ... ثانيه في الغارة بعد العادة
ثانيه في الدعوة والشهادة ... ثانيه في القبر بلا وساده
ثانيه في منزلة الزعامة ... نبوة أفضت إلى إمامه
أتأمل الجنة يا شتامه ... ليست بمأواك ولا كرامة
إن امرأً أثنى عليه المصطفى ... ثمت والاه الوصى المرتضى
واجتمعت على معاليه الورى ... واختاره خليفة رب العلا
واتبعته أمة الأمى ... وبايعته راحة الوصي
وباسمه استسقى حيا الوسمي ... ما ضره هجو الخوارزمي
سبحان من لم يلقم الصخر فمه ... ولم يعده حجراً ما أحلمه
يا نذل يا مأبون أفطرت فمه ... لشد ما اشتقات إليك الحطمه
إن أمير المؤمنين المرتضى ... وجعفر الصادق أو موسى الرضى
لو سمعوك بالخنا معرضا ... ما ادخروا عنك الحسام المنتضى
ويلك لم تنبح يا كلب القمر؟ ... مالك يا مأبون تغتاب عمر
سيد من صام وحج واعتمر ... صرح بإلحادك لا تمش الخمر
يا من هجا الصديق والفاروقا ... كيما يقيم عند قوم سوقا
نفخت يا طبل علينا بوقاً ... فما لك اليوم كذا موهوقا؟
إنك في الطعن على الشيخين ... والقدح في السيد ذي النورين
لواهن الظهر سخين العين ... معترض للحين بعد الحين
هلا شغلت باستك المغلومة ... وهامة تحملها ميشومه
هلا نهتك الوجنة الموشومه ... عن مستري الخلد ببئر رومه
كفى من الغيبة أدنى شمه ... من استجاز القدح في الأئمه
ولم يعظم أمناء الأمه ... فلا تلوموه ولوموا أمه
مالك يا نذل وللزكيه ... عائشة الراضيه المرضيه؟
يا ساقد الغيرة والحميه ... ألم تكن للمصطفى حظيه؟
من مبلغ عني الخوارزميا ... يخبره أن ابنه عليا
قد اشترينا منه لحماً نيا ... بشرط أن يفهمنا المعنيا

يا أسد الخلوة خنزير الملا ... مالك في الجري تقود اعلجملا
يا ذا الذي يثلبني إذا خلا ... وفي الخلا أطعمه ما في الخلا
وقلت لما احتفل المضمار واحتفت الأسماع والأبصار
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتي أم حمار؟
وكتب البديع إلى معلمه جواباً: الشيخ الإمام يقول: فسد الزمان، أفلا يقول متى كان صالحاً؟ أفي دولة العباسية، وقد رأينا آخرها، وسمعنا بأولها، أم في المدة المروانية، وفي أخبارها ما لا تكسع الشول بأغبارها، إنك لا تدري من الناتج، أم السنين الحربية:
والسيف يغمد في الطلى ... والرمح يركز في الكلى
ومبيت حجر بالفلا ... والحدثان بكربلا
أم الأيام العدوية، فنقول، هل بعد البزول إلا النزول، أم الأيام التيمية، وتقول طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام، أم على عهد الرسالة، وقيل اسكتي يا رحالة فقد ذهبت الأمانة، أم في الجاهلية، ولبيد يقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
أم قبل ذلك، وأخو عاد يقول:
بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذا الأهل أهل والبلاد بلاد
أم قبل ذلك وقد قال آدم عليه السلام: تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح أم قبل ذلك، والملائكة تقول، " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " وإني على توبيخه لي لفقير إلى لقائه، شفيق على بقائه، ما نسبته ولا أنساه، وإن له بكل كلمة علمنا مناراً، ولكل حرف أخذته منه نارا، ولو عرفت لكلامي موقعاً من قلبه لاغتنمت خدمته به، ولكني خشيت أن تقول: " هذه بضاعتنا ردت إلينا " واثنان قلما يجتمعان، الخراسانية والإنسانية، وإني وإن لم أكن خراساني الطينة، فإني خراساني المدينة، والمرء من حيث يوجد، لا من حيث يولد، والإنسان من حيث يثبت، لا من حيث ينبت، فإذا انضاف إلى تربة خراسان ولادة همذان، ارتفع القلم، وسقط التكليف، والجرح جبار، والجاني حمار، فليحملني على هناتي، أليس صاحبنا يقول؟
لا تلمني على ركاكة عقلي ... إن تصورت أنني همذاني

أحمد بن الحسين بن عبيد الله
ابن إبراهيم بن عبد الله الأسدي الغضاري، كان من الأدباء، والفضلاء الأذكياء، وله خط يزري بخط ابن مقلة على طريقته،
أحمد بن أبان بن السيد اللغوي الأندلسي
أخذ عن أبي علي القالي وغيره من علماء بلاده: وكان عالماً حاذقاً أديباً، مات - فيما ذكره أبو القاسم خلف ابن عبد الملك بن بشكوال القرطبي في تاريخه - في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، وكان يعرف بصاحب الشرطة.
قال أبو نصر الحميدي: في آخر كتابه، في باب من يعرف بأحد آبائه: ابن سيد إمام في اللغة والعربية، وكان في أيام الحكم المستنصر، وهو مصنف كتاب العالم في اللغة في نحو مائة مجلد، مرتب على الأجناس، بدأ بالفلك، وختم بالذرة، وله في العربية: كتاب العالم والمعلم على المسألة والجواب، وكتاب شرح كتاب الأخفش، وله غير ذلك، ذكره أبو محمد علي بن أحمد وأثنى عليه، ولم يسمه لنا، ولعله أحمد بن أبان بن سيد المذكور في بابه.
أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل

ابن داود بن حمدون النديم أبو عبد الله، ذكره أبو جعفر الطوسي في مصنفي الإمامية، وقال: هو شيخ أهل اللغة ووجههم، وأستاذ أبي العباس ثعلب، قرأ عليه قبل ابن الأعرابي، وتخرج من يده، وكان خصيصاً بأبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام، وأبي الحسن قبله، وله معه مسائل وأخبار، وله كتب، منها: كتاب أسماء الجبال والمياه والأودية، كتاب بني مرة بن عوف، كتاب بني نمر بن قاسط، كتاب بني عقيل، كتاب بني عبد الله بن غطفان، كتاب طيء، كتاب شعغر العجير السلولي وصنعته، كتاب شعر ثابت ابن قطنة، الشابشتي: وكان خصيصاً بالمتوكل، ونديماً له، وأنكر منه المتوكل ما أوجب نفيه من بغداد، ثم قطع أذنه، وكان السبب في ذلك أن الفتح بن خاقان كان يعشق شلهيك خادم المتوكل، واشتهر الأمر فيه، حتى بلغه، وله فيه أشعار، ذكرت بعضها في ترجمة الفتح، وكان أبو عبد الله يسعى فيما يحبه الفتح، ونمى الخبر إلى المتوكل فاستدعى أبا عبد الله، وقال له: إنما أردتك لتنادمني، ليس لتقود على غلماني، فأنكر ذلك، وحلف يميناً حنث فيها، فطلق من كانت حرة من نسائه، وأعتق من كان مملوكاً، ولزمه حج ثلاثين سنة، فكان يحج في كل عام.
قال: فأمر المتوكل بنفيه إلى تكريت فأقام فيها أياماً، ثم جاءه زرافة في الليل على البريد، فبلغه ذلك، فظن أن المتوكل لما شرب بالليل وسكر أمر بقتله، فاستسلم لأمر الله، فلما دخل إليه، قال له: قد جئتك في شيء، ما كنت أحب أن أخرج في مثله، قال: وما هو؟ قال: أمير المؤمنين أمر بقطع أذنك، وقال: قل له: لست أعاملك إلا كما يعامل الفتيان، فرأى ذلك هيناً في جنب ما كان توهمه من إذهاب مهجته، فقطع غضروف أذنه من خارج، ولم يستقصه، وجدعله في كافور كان معه، وانصرف به.
وبقي منفياً مدة، ثم حدر إلى بغداد، فأقام بمنزله مدة.
قال أبو عبد الله: فلقيت إسحاق بن إبراهيم الموصلي، ثم لما كف بصره، فسألني عن أخبار الناس والسلطان، فأخبرته، ثم شكوت إليه غمي بقطع أذني، فجعل يسليني ويعزيني، ثم قال لي: من المتقدم اليوم عند أمير المؤمنين، الخاص من ندمائه؟ قلت: محمد بن عمر البازيار، قال: من هذا الرجل؟ وما مقدار علمه وأدبه؟ فقلت: أما أدبه فلا أدري، ولكني أخبرك بما سمعت منه منذ قريب، حضرنا الدار يوم عقد المتوكل لأولاده الثلاثة، فدخل مروان بن أبي الجنوب ابن أبي حفصة، فأنشده قصيدته، التي يقول فيها:
بيضاء في وجناتها ... ورد، فكيف لنا بشمه؟
فسر المتوكل بذلك سروراً كثيراً شديداً، وأمر، فنثر عليه بدرة دنانير، وأن تلقط وتطرح في حجره، وأمره بالجلوس، وعقد له على اليمامة والبحرين، فقال: يا أمير المؤمنين: ما رأيت كاليوم، ولا أرى، - أبقاك الله - ما دامت السموات والأرض، فقال محمد بن عمر: هذا بعد طول إن شاء الله وقبل، قال له: فما تقول في أدبه؟ فقال: أأكثر من أن يقول للخليفة: - أبقاك الله - أيا أمير المؤمنين إلى يوم القيامة وبعد القيامة بشيء كثير؟ فقال إسحاق: ويلك، جزعت على أذنك، وغمك قطعها، حتى لا تسمع مثل هذا الكلام؟ ثم قال: لو أن لك مكوك آذان، إيش كان ينفعك مع هؤلاء؟ قال: ثم أعاده المتوكل إلى خدمته، وكان إذا دعاه قال له، يا عبيد، على جهة المزاح، وقال له يوماً هل لك في جارية أهبها لك؟ فأكبر ذلك وأنكره، فوهب له جارية، يقال لها، صاحب، من جواريه، حسنة كاملة، إلا أن بعض الخدم رد بيده على فمها، وقد أرادت أن تدميه، فصدع ثنيتها، فاسودت، فشانها ذلك عنده، وحمل كل ما كان لها، وكان شيئاً كثيراً عظيماً.
فلما مات أبو عبد الله، تزوجت " صاحب " بعض العلويين، قال علي بن يحيى بن المنجم: فرأيته في النوم وهو يقول:
أبا علي ما ترى العجائبا؟ ... أصبح جسمي في التراب غائباً
واستبدلت " صاحب " بعدي صاحبا ومن شعر أبي عبيد الله، يكاتب فيه علي بن يحيى:
من عذيري من أبي حسن ... حين يجفوني ويصرمني
كان لي خلاً وكنت له ... كامتزاج الروح بالبدن
فوشى واش، فغيره ... وعليه كان يحسدني
إنما يزداد معرفة ... بودادي حين يفقدني

قال: واتصل بنجاح بن سلمة، أن أبا عبد الله بن حمدون يذكره بحضرة المتوكل، يتنادر به، فلقيه نجاح يوماً فقال له: يا أبا عبد الله، قد بلغني ذكرك لي بغير الجميل في حضرة أمير المؤمنين، أتحب أن أنهي إليه قولك إذا خلوت؟.
" أتراني أحبه وقد فعل بي ما فعل؟ " " والله ما وضعت يدي على أذني، إلا تجددت " " له عندي بغضة " فقال ابن حمدون: الطلاق لي لازم إن كنت قلت هذا قط، وامرأته طالق إن ذكره بغير ما يحبه أبداً.
وكان أبوه إبراهيم، وأظن أنه الملقب بحمدون، خادم المعتصم، ثم الواثق بعده، وكان يعاتب المتوكل في أيام أحبه الواثق، وجاءه مرة بحية وأخرج رأسها من كمه، تعريضاً بأنمه شجاع، وكان ذلك يعجب الواثق.
ولما مات الواثق نادم حمدون المتوكل، فلما كان في بعض الأيام أمر المتوكل بإحضار فريدة جارية أخيه الواثق، فأحضرت مكرهة، ودفع إليها عود، فغنت غناء كالندبة، فغضب المتوكل وأمرها أن تغني غناء، فغنت بتحزن وشجى، فزاد ذلك في طيب غنائها فوجم حمدون للرقة التي تداخلته، فغضب المتوكل، ورأى أنه فعل ذلك بسبب أخيه الواثق حزناً عليه، وكان يبغض كل من مال إليه، فأمر بنفيه إلى السند، وضربه ثلثمائة سوط، فسأل أن يكون الضرب من فوق الثياب لضعفه عن ذلك، فأجيب إلى ذلك، وأقام منفياً ثلاث سنين.
وتزوج المتوكل فريدة، بعد ذلك، فولدت له ابنه أبا الحسن.
وحدث حمدون بن إسماعيل، قال: دعاني المعتصم يوماً فدخلت إليه، وهو في بعض مجالسه، وإلى جنبه باب صغير، فحادثته ملياً إلى أن رأيت الباب قد حرك، وخرجت منه جارية بيضاء، مقدودة، حسنة الوجه، وبيدها رطل، وعلى عنقها منديل، فأخذ الرطل من يدها فشربه، ثم قال: أخرج يا حمدون، فخرجت، فكنت في دهليز الحجرة، فلم ألبث أن دعاني، فدخلت، وهو على حاله، فحادثته ملياً، ثم حرك ذلك الباب، فخرجت جارية، كأحسن ما يكون من النساء، سمراء رقيقة اللون، بيدها رطل، فأخذه وشربه، وقال: ارجع إلى مكانك، فخرجت، فلبثت ساعة هناك، ثم دعاني، فأتيته وحادثته ساعة، وحرك الباب، فخرجت أحسن الثلاث، بيدها رطل، ومعها منديل، فأخذ الرطل فشربه، وقال: ارجع إلى مكانك، فخرجت، فلبثت ساعة، ثم دعاني، فدخلت: فقال لي: أتعرف هؤلاء؟ قلت: معاذ الله أن أعرف أحداً ممن هو داخل دار أمير المؤمنين، فقال: إحداهن ابنة بابك الخرمي، والأخرى ابنة المازيار أو " المازيان " ، والثالثة ابنة بطريق عمورية، افترعتهن الساعة، وهذا نهاية الملك يا حمدون.
وأما أبو محمد بن حمدون، فذكر جحظة أن مولده في سنة سبع وثلاثين ومائتين، وتوفي ببغداد في رمضان سنة تسع وثلاثمائة، ونادم المعتمد، وخص به، وكان من ثقاته المتقدمين عنده، وله معه أخبار.
وأما أبو العبيس بن أبي عبد الله بن حمدون، أحد المشهورين بجودة الغناء والصنعة فيه، وابنه إبراهيم بن أبي العبيس أيضاً من المجيدين في الغناء، وشجاء الصوت، فهؤلاء المعروفون بمنادمة الخلفاء من بني حمدون.
وحدث أحمد بن أبي طاهر: أن ابن حمدون النديم حدثه: أن الواثق بالله بسط جلاسه، وأمرهم ألا ينقبضوا في مجلسه، وأن يجروا النادرة على ما اتفقت عليه غير محتشمين، وإن اتفق وقوعها عليه احتمل، قال: فعبرنا على ذلك مدة، وكان على إحدى عيني الواثق نكتة بياض، فلما كان في بعض الأيام، أنشد الواثق أبيات أبي حية النميري:
نظرت كأني من وراء زجاجة ... إلى الدار من ماء الصبابة أنظر

فقلت: وإلى غير الدار يا أمير المؤمنين؟ فتبسم، ثم قال لوزيره: قد قابلني هذا الرجل بما لا أطيق أن أنظرإليه بعدها. فانظر كم مبلغ جاريه وجرايته، وأرزاقه وصلاته، فاجمعها، وأقطعه بها إقطاعاً بالأهواز، وأخرجه إليها ليبعد عن ناظري، ففعل، قال: وأخرجت إليها، وتبيغ بي الدم، فالتمست حجاماً كان في خدمتي، فقيل: لم يخرج في الصحبة لعلة لحقته، فقلت: التمسوا حجاماً نظيفاً حاذقاً، وتقدموا إليه بقلة الكلام، وترك الانبساط، فأتوني بشيخ حسن على غاية النظافة وطيب الريح، فجلس بين يدي، وأخذ الغلام المرآة، فلما أخذ في إصلاح وجهي، قلت له: اترك في هذا الموضع، واحذف في هذا الموضع، وعدل هذه الشعرات، وسرح هذا المكان، وأطلت الكلام وهو ساكت، فلما قعد للحجامة، قلت له: اشرط في الجانب الأيمن اثنتي عشرة شرطة، وفي الجانب الأيسر أربع عشرة شرطة، فإن الدم في الجانب الأيسر أقل منه في الأيمن، لأن الكبد في الأيمن، والحرارة هناك أوفر، والدم أغزر، فإذا زدت في شرط الأيمن، اعتدل خروج الدم من الجانبين، ففعل، وهو مع ذلك ساكت، فعجبت من صمته، وقلت للغلام: ادفع إليه ديناراً، فدفعه إليه، فرده، فقلت: استقله، ولعمري إن العيون إلى مثلي ممتدة، والظمع مستحكم في نديم الخليفة، وصاحب إقطاعه، أعطه ديناراً آخر، ففعل، فردهما وأبى أن يأخذهما، فاغتظت وقلت: - قبحك الله، - أنت حجام سواد، وأكثر من يجلس بين يديك يدفع لك نصف درهم، وأنت تستقل ما دفعت إليك؟ فقال: وحقك ما رددتها استقلالاً، ولكن نحن أهل صناعة واحدة، وأنت أحذق مني، وما كان الله ليراني وأنا آخذ من أهل صناعتي أجرة أبداً، فأخجلني وانصرف ولم يأخذ شيئاً.
فلما كان في العام القابل، خرجت لمثل ما خرجت إليه في العام الماضي، واحتجت إلى نقص الدم، فقلت لغلامي: اذهب فجئنا بذلك الحجام، فقد عرف الخدمة، وقد انصرف تلك الدفعة ولم يأخذ شيئاً، ولعله قد نسيها، فيقع برنا منه على حاجة منه إليه، قال: فلما جلس بين يدي، وأصلح وجهي الإصلاح الذي كنت أوقفته عليه، وحجمني أحسن حجامة، فلما فرغ، قلت: سبحان الله، أنت صانع سواد، فمن أين لك هذا الحذق بهذه الصنعة؟ فقال: وحقك ما كنت أحسن من هذا شيئاً، ولكن حجام الخليفة اجتاز بنا بهذا الموضع في العام الماضي، فتعلمت منه هذا، فضحكت منه، وأمرت له بثلاثين ديناراً، مع ما تم له من معاريض كلامه في الدفعتين جميعاً.
وأنشد جحظة في أماليه لنفسه، يرثي حمدون النديم، كذا قال، ولم يعينه:
أيعذب من بعد ابن حمدون مشرب ... لقد كدرت بعد الصفاء المشارب؟
أصبنا به فاستأسد الضبع بعده ... ودب إلينا من أناس عقارب
وقطب وجه الدهر بعد وفاته ... فمن أي وجه جئته فهو قاطب
بمن ألج الباب الشديد حجابه ... إذا ازدحمت يوماً عليه المواكب؟
بمن أبلغ الغايات، أم من بجاهه ... أنال وأحوي كل ما أنا طالب؟؟
فأصبحت حلف البيت، خلف جداره ... وبالأمر مني يستعيذ النجائب
وقال جحظة في أبي جعفر بن حمدون، ولا أعرفه إلا أنه كذا، أورده في أماليه:
أبا جعفر لا تنال العلا ... بتيهك في المجلس الحاشد
ولا بغلام كبدر التما ... م ركب في غصن مائد
ولا بازيار إذا ما أت ... اك يخطر بالذر والصائد
فكيف ومالك من شاكر ... وكيف ومالك من حامد؟؟
أتذكر إذ أنت تحت الزما ... ن وحيد بلا درهم واحد؟
وتحدث جحظة في أماليه قال: قال لي أبو عبد الله ابن حمدون: حسبت ما وصلني به المتوكل في مدة خلافته، وهي أربع عشرة سنة وشهور، فوجدته ستين ألفاً وثلاثمائة ألف دينار، ونظرت فيما وصلني به المستعين في مدة خلافته، وهي ثلاث سنين ونيف، وكان أكثر مما وصلني به المتوكل، ثم خلع المستعين، وحدر إلى واسط، ومنع من كل شيء إلا القوت، فاشتهى نبيذاً، فخرجت دايته إلى أهل واسط، فتشكت ذلك إليهم، فقال لها رجل من التجار: له عندي كل يوم خمسة أرطال نبيذ دوشاب، فكانت تمضي إليه في كل يوم فتجيئه به سراً، إلى أن حمل من واسط، فقتل بالقاطول:

أحمد بن إبراهيم بن أبي عاصم

اللؤلؤي، أبو بكر، قال الزبيدي: ومن نحاة القيروان ابن أبي عاصم، وكان من العلماء النقاد في العربية والغريب والنحو والحفظ والقيام بشرح أكثر دواوين العرب.
مات فيما ذكره الزبيدي، سنة ثماني عشرة وثلاثمائة وله ست وأربعون سنة، وكان كثير الملازمة لأبي محمد المكفوف النحوي، وعنه أخذ، وكان صادقاً في علمه وبيانه لما يسأل عنه، وله تأليف في الضاد والظاء حسن بين، وكان شاعراً مجيداً، وكان أبوه موسراً، فلم يكن يمدح أحداً بمجازاة، وترك الشعر في آخر عمره، وأقبل على طلب الحديث والفقه، وهو القائل:
أيا طلل الحي الذين تحملوا ... بوادي الغضا، كيف الأحبة والحال
وكيف قضيب البان والقمر الذي ... بوجنته ماء الملاحة سيال
كأن لم تدر ما بيننا ذهبية ... عبيرية الأنفاس عذراء سلسال
ولم أتوسد ناعماً بطن كفه ... ولم يحو جسمينا مع الليل سربال
فبانت به عني ولم أدر بغتة ... طوارق صرف البين، والبين مغيال
فلما استقلت ظعهم وحدوجهم ... دعوت، ودمع العين في الخد هطال
حرمت منايا منك، إن كان ذا الذي ... تقوله الواشون عني كما قالوا
وهذا البيت الأخير تضمين من أبيات لها قصة أنا ذاكرها.
ذكر أبو الفرج علي بن الحسين، في كتابه، قال: كان عبد الله بن محمد القاضي، المعروف بالخليجي، ابن أخت علوية المغني، وكان تياهاً صلفاً، فتقلد في خلافة الأمين قضاء الشرقية، وكان يجلس إلى أسطوانة من أساطين الجامع، فيستند إليها بجميع بدنه ولا يتحرك، فإذا تقدم إليه الخصمان أقبل عليهما بجميع جسده، وترك الاستناد، حتى يفصل بينهما، ثم يعود لحاله، وعمد بعض المجان إلى رقعة من الرقاع التي يكتب فيها الدعاوي، فألصقها في موضع دنيته بالدبق فلما جلس الخليجي إلى السارية، وتمكن منها، وتقدم إليه الخصوم، وأقبل إليهم بجميع جسده، كما كان يفعل، انكشف رأسه، وبقيت الدنية موضعها مصلوبة ملتصقة، فقام الخليجي مغضباً، وعلم أنها حيلة عليه وقعت، فغطى رأسه بطيلسانه وتركها مكانها، حتى جاء بعض أصحابه فأخذها، فقال بعض شعراء عصره:
إن الخليجي من تتايهه ... أثقل باد لنا بطلعته
ماتيه ذي نخوة مناسبة ... بين أخاوينه وقصعته
يصالح الخصم من يخاصمه ... خوفاً من الجور في قضيته
لو لم تديقه كف قانصه ... لطار فيها على رعيته
واشتهرت الأبيات والقصة ببغداد، وعمل لها علوية حكاية أعطاها الزفانين والمخنثين، فأخرجوه منها، وكان علوية يعاديه لمنازعة كانت بينهما ففضحه، واستعفى الخليجي من القضاء ببغداد، وسأل أن يولى بعض الكور البعيدة، فولي جند دمشق أو حمص، فلما ولي المأمون الخلافة، غناه علوية بشعر الخليجي، وهو:
برئت من الإسلام، إن كان ذا الذي ... تقوله الواشون عني كما قالوا
ولكنهم، لما رأوك غرية ... بهجري، تساعوا بالنميمة واحتالوا
فقد صرت أذناً للوشاة سميعة ... ينالون من عرضي، ولو شئت ما نالوا
فقال له المأمون: من يقول هذا الشعر؟ قال: قاضي دمشق، فأمر المأمون بإحضاره، فكتب إلى والي دمشق بإحضاره، فكتب فأشخص، وجلس المأمون للشرب، وأحضر علوية، ودعا بالقاضي؛ فقال له: أنشدني قولك:
برئت من الإسلام، إن كان ذا الذي ... تقوله الواشون عني، كما قالوا
فقال: يا أمير المؤمنين، هذا شيء قلته منذ سنة، وأنا صبي، والذي أكرمك بالخلافة، وورثك ميراث النبوة، ما قلت شعراً منذ أكثر من عشرين سنة إلا في زهد أو عتاب صديق، فقال له: إجلس، فجلس، فناوله قدحاً من نبيذ كان في يده، فقال: يا أمير المؤمنين ما غيرت الماء بشيء قط مما يختلف في تحليله، فقال: لعلك تريد نبيذ التمر أو الزبيب؟ فقال: لا، والله يا أمير المؤمنين ما أعرف شيئاً منها، فأخذ القدح من يده، وقال: أما والله لو شربت هذا لضربت عنقك، ولقد ظننت أنك صادق في قولك كله، ولكن لا يتولى لي أبداً رجل بدأ في قوله بالبراءة من الإسلام، انصرف إلى منزلك، وأمر علوية أن يغير ذلك ويقول: حرمت منايا منك إن كان ذا الذي

أحمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله
ابن الحسن الفارسي، أبو حامد المقرئ الأديب، نزيل نيسابور، جمع في القراءات مصنفات كثيرة.
قال الحاكم: وكان من العباد، أقام في منزل أبي إسحاق المزكي سنين، لتأديب أولاده، وحفظ سماعاتهم عليهم، سمع في بلده من أصحاب أبي الأشعث وعمر بن شبة وأقرانهم، مات بنيسابور سنة ست وأربعين وثلاثمائة.
قال الحاكم: حدثني أبو حامد الفارسي قال: حدثنا أبو الحسين زكريا قال: كنت عند أبي بكر محمد داود ابن علي الإصبهاني الفقيه، وهو يكتب إلى بعض إخوانه بهذه الأبيات:
جعلت فداك، قد طال اشتياقي ... وليس تزيدني إلا مطالا
كتبت إليك أستدعي نوالاً ... فلم تكتب إلي نعم ولا لا
نصحت لكم حذاراً أن تعابوا ... فعاد علي نصحكم وبالا
أحمد بن إبراهيم بن معلى بن أسد العمي
أبو بشر، ذكره أبو جعفر الطوسي في مصنفي الإمامية، قال: والعم هو مرة بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة، وهو ممن دخل في تنوخ بالحلف وسكنوا الأهواز وكان مستملي أبي أحمد الجلودي، وسمع كتبه كلها ورواها، وكان ثقة في حديثه، حسن التصنيف، وأكثر الرواية عن العامة والأخباريين، وكان جده المعلى ابن أسد من أصحاب صاحب الزنج، المختصين به، وروى عنه، وعن عمه أسد بن المعلى أخبار صاحب الزنج، وله تصانيف، منها: كتاب التاريخ الكبير، كتاب التاريخ الصغير، كتاب مناقب علي، كتاب أخبار صاحب الزنج، كتاب الفرق وهو كتاب حسن غريب كتاب أخبار السيد الحميري، كتاب عجائب العالم.
أحمد بن إسحاق، يعرف بالجفر
حميري النسب، مصري الدار، لم أجد له ذكراً إلا في كتاب أبي بكر الزبيدي، فإنه ذكره في نحاة مصر قال: ومات سنة ثلاثمائة وواحد.
أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن الخصيب
نطاحة من أهل الأنبار، كان كاتب عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكان بليغاً مترسلاً، شاعراً أديباً، متقدماً في صناعة البلاغة، وكان في الأكثر يكتب عن نفسه إلى إخوانه، وبينه وبين ابن المعتز مراسلات وجوابات عجيبة.
ذكره محمد بن إسحاق النديم، وقال: له من التصانيف: كتاب ديوان رسائله، نحو ألف ورقة، يحتوي على كل حسن من الرسائل. كتاب الطبيخ، كتاب طبقات الكتاب، كتاب أسماء المجموع المنقول من الرقاع، يشتمل على سماعاته من العلماء وما شاهد من أخبار الجلة كتاب صفة النفس، كتاب رسائله إلى إخوانه.
قال المرزباني في المعجم: وجده الخصيب بن عبد الحميد صاحب مصر، وأصلهم منالمزار، وهو القائل:
خير الكلام قليل ... على كثير دليل
والعي معنى قصير ... يحويه لفظ طويل
وفي الكلام عيون ... وفيه قال وقيل
وللبليغ فصول ... وللعيي فضول
وله أيضاً:
لا تجعلن بعد داري ... مخسساً لنصيبي
فرب شخص بعيد ... إلى الفؤاد قريب
ورب شخص قريب إليه غير حبيب
ما القرب والبعد إلا ... ما كان بين القلوب
وله يمدح كاتباً:
وإذا نمنمت بنانك خطاً ... معرباً عن إصابة وسداد
عجب الناس من بياض معان ... يجتنى من سواد ذاك المداد
وله أيضاً:
ماذا أقول لمن إن زرته حجبا ... وإن تخلفت عنه مكرها عتبا
وإن أردت خلاصاً من تعتبه ... ظلماً، فعاتبته في فعله غضباً
قال أحمد بن يحيى: كان أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم الكاتب، علامة شاعراً، أحسن المعرفة بالشعر، وكان من الظرفاء الخلعاء، قال لي مرة: يا أبا العباس، ما بنات مخر؟ فقلت: بنات " مخر " سحائب بيض يأتين قبل الصيف، تشبه النساء في بياضهن وحسنهن بها، لأن سحاب الصيف لا ماء فيه فيسود ويتغير، فقال لي: قلبك عربي.
وساتهدى من أحمد بن إسماعيل كتاب حدود الفراء، فأهداه وكتب على ظهره:
خذه فقد سوغت منه مشبهاً ... بالروض أو بالبرد في تفويفه
نظمت كما نظم السحاب سطوره ... وتأنق الفراء في تأليفه
وشكلته ونقطته فأمنت من ... تصحيفه ونجوت من تحريفه
بستان خط غير أن ثماره ... لا تجتنى إلا بشكل حروفه
أحمد بن أبي الأسود القيرواني

ذكر الزبيدي فقال: كان غاية في النحو واللغة، وهو من أصحاب عبد الملك المهدي، وله تصانيف في النحو والغريب، ومؤلفات حسان وكان شاعراً مجيداً:

أحمد بن أعثم الكوفي أبو محمد الأخباري
المؤرخ، كان شيعياً، وهو عند أصحاب الحديث ضعيف وله كتاب التاريخ إلى آخر أيام المقتدر، ابتدأه بأيام المأمون، ويوشك أن يكون ذيلاً على الأول، رأيت الكتابين.
وقال أبو الحسين بن أحمد السلامي البيهقي: أنشدني ابن أعثم الكوفي:
إذا اعتذر الصديق إليك يوماً ... من التقصير عذر أخ مقر
فصنه عن جفائك وارض عنه ... فإن الصفح شيمة كل حر
أحمد بن بختيار بن علي بن محمد الماندائي
أبو العباس الواسطي، وكان له معرفة جيدة بالأدب والنحو واللغة، مات ببغداد في جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، ومولده في ذي الحجة سنة ست وسبعين وأربعمائة بأعمال واسط، وقد ولي القضاء بواسط، وكان فقيهاً فاضلاً، له معرفة تامة بالأدب واللغة، ويد باسطة في كتب السجلات والكتب الحكمية، سمع أبا القاسم ابن بيان، وأبا علي بن نبهان، وغيرهما.
قال أبو الفرج بن الجوزي: وكان يسمع معنا علي بن الفضل بن ناصر.
صنف كتباً، منها: كتاب القضاة. كتاب تاريخ البطائح.
قرأت بخط حجة الإسلام، أبي محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن الخشاب: أنشدني صديقنا الشيخ أبو العباس أحمد بن بختيار بن علي بن محمد الماندائي لنفسه في ابن المرخم:
قد نلت بالجهل أسباباً لها خطر ... يضيق فيها على العقل المعاذير
مصيبة عمت الإسلام قاطبة ... لا يقتضي مثلها حزم وتدبير
إذا تجاري ذوو الألباب جملتها ... قالوا: جهول أعانته المقادير
أحمد بن أمية بن أبي أمية، أبو العباس الكاتب
ذكره المرزباني فقال: أهل بيت الكتابة، والغزل، والظرف، والأدب.
حدثنا أحمد بن القاسم النيسابوري: أنه لقيه بعد الخمسين والمائتين، أو حواليها، وأخذ عنمه علماً كثيراً وأدباً.
قلت: وأمية، مولى لهشام بن عبد الملك، واتصل في دولة بني العباس بالربيع، حاجب المنصور، وكتب بين يديه، وله شعر حسن، وولده أهل بيت علم، منهم: أحمد هذا، وأخوه محمد، وقد ذكرته في أخبار الشعراء.
قال المرزباني: وأحمد هو القائل:
خبرت عن تغير الأترابا ... ومشيبي، فقلن: بالله شابا
نظرت نظرة إلي، فصدت ... كصدود المخمور شم الشرابا
إن أدهى مصيبة نزلت بي ... أن تصدى، وقد عدمت الشبابا
وكان أبو هفان يقول: ليس في الدنيا هجاء أشرف ولا أظرف من قول أحمد بن أمية:
إذا ابن شاهك قد وليته عملاً ... أضحى وحقك عنه وهو مشغول
بسكة أحدثت، ليست بشارعة ... في وسطها عرصة في وسطها ميل
يرى فرانقها في الركض مندفعاً ... تهوى خريطته والبغل مشكول
أحمد بن بشر بن علي التجيبي
يعرف بابن الأغبس، ذكره الحميدي وقال: مات سنة ست وعشرين وثلاثمائة، وكان فقيهاً على مذهب الشافعي، مائلاً إلى الحديث، عالماً بكتب القرآن، قد أتقن كل ما قيل فيها، من جهة العربية والتفسير واللغة والقراءة، وكان حافظاً للغة العربية، كثير الرواية، جيد الخط والضبط للكتب، وأخذ عن العجلي والخشني وابن الغازي.
أحمد بن بكران بن الحسين الزجاج
كتب عنه علي بن محمد الأزدي في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة.
أحمد بن بكر العبدي أبو طالب

صاحب كتاب شرح الإيضاح لأبي علي الفارسي، كان نحوياً لغوياً قيماً بالقياس والإفتنان في العلوم العربية، أخذ عن القاضي أبي سعيد السيرافي، وأبي الحسن الرماني، وأبي علي الفارسي، ومات في سنة ست وأربعمائة في خلافة القادر بالله، لم أجد له خبراً فأحكيه، إلا ما حكى هو عن نفسه في كتاب شرح الإيضاح: أنه تكلم مع أبي محمد يوسف بن أبي سعيد الحسن السيرافي قال العبدي: ما كان ابن السيرافي مكيناً في هذا الشأن على شهرته عند الناس في اللغة في ياء تفعلين، فقال: هي علامة التأنيث، والفاعل مضمر، فقلت له: ولو كانت بمنزلة التاء في ضربت، علامة للتأنيث فقط، لثبتت مع ضمير الاثنين، وعلم أن فيها مع دلالتها على التأنيث، معنى الفاعل، فلما صار للاثنين، بطل ضمير الواحد الذي هو الياء، وجاءت الألف وحدها، فقال: هذا زنبيل الحوائج كذا وكذا، وانقطع الوقت بالضحك من ابن شيخنا، ومن قلة تصرفه.
وقرأت في فوائد، نقلت عن أبي القاسم المغربي الوزير: أن العبدي أصيب بعقله، واختل في آخر عمره، وله من التصانيف كتاب شرح الإيضاح، كتاب شرح الجرمي.

أحمد بن أبي بكر بن أبي محمد الخاوراني
النحوي، الأديب، أبو الفضل، يلقب بالمحدويه، لقيته بعرف سرين، وهو شاب فاضل بارع متفنن قيم بعلم النحو، محترق بالذكاء، حافظ للقرآن، كتب بخطه العلوم، وقرأها على مشايخه، ورأيته قد صنف كتابين صغيرين في النحو، وشرع في أشياء لم تمهله المنية ليتمها، منها - فيما ذكر لي - شرح المفصل للزمخشري، وكتب عني الكثير، وفارقته في سنة سبع عشرة وستمائة، ثم بلغني أنه اعتب، فمات في سنة عشرين وستمائة، وعمره نحو ثلاثين سنة، وله رسالة صالحة.
أحمد بن عفر الدينوري
ختن ثعلب على ابنته، يكنى: أبا علي، أحد النحاة المبرزين المصنفين في نحاة مصر، وقال: إنه مات بمصر سنة تسع وثمانين ومائتين، قال: وكان أبو علي الدينوري يخرج من منزل ثعلب، وهو جالس على باب داره، فيتخطى أصحابه، ومعه محبرته، فيقرأ كتاب سيبويه على أبي العباس المبرد، فيعاتبه ثعلب ويقول: إذا رآك الناس تمضي إلى هذا الرجل، وتقرأ عليه، وتتركني، يقولون ماذا؟ فلم يكن يلتفت إلى قوله، قال: وكان أبو علي هذا حسن المعرفة، قال: قال المصعبي: فسألت أبا علي: كيف صار المبرد أعلم بكتاب سيبويه من ثعلب؟ فقال: المبرد قرأه على العلماء وثعلب قرأه على نفسه.
قال الزبيدي: وأصله من الدينور، وقدم البصرة، وأخذ عن المازني، وحمل عنه كتاب سيبويه، ثم دخل بغداد، فقرأ على المبرد، ثم قدم مصر، وألف كتاب المهذب في النحو، وكتب في صدره اختلاف البصريين والكوفيين، وعزا كل مسألة إلى صاحبها، ولم يعتل لكل واحد منهم، ولا احتج لمقالته، فلما أمعن في الكتاب ترك الاختلاف، ونقل مذهب البصريين، وعول في ذلك على كتاب الأخفش سعيد بن مسعدة، وله كتاب مختصر في ضمائر القرآن، استخرجه من كتاب المعاني للفراء، ولما قدم علي بن سليمان الأخفش إلى مصر، خرج أبو علي منها، فلما رجع الأخفش إلى بغداد، عاد أبو علي إلى مصر، فأقام بها حتى مات في السنة المقدم ذكرها، وله كتاب إصلاح المنطق.
أحمد بن جعفر جحظة
هو أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي النديم، قال أبو عبد الله الحسن ابن علي بن مقلة: سألت جحظة عمن لقبه بهذا اللقب، فقال: ابن المعتز لقيني يوماً فقال لي: ما حيوان إذا قلب صار آلة للبحرية؟؟ فقلت: علق، إذا عكس صار قلعاً فقال: أحسنت يا جحظة، فلزمني هذا اللقب، وهو من في عينيه نتو جداً، وكان قبيح المنظر، وكان له لقب آخر، يلقبه به المعتمد، وهو خنياكر، وما أدري أي شيء معناه؟ كان حسن الأدب، كثير الرواية للأخبار، متصرفاً في فنون من العلم، كالنحو واللغة والنجوم، مليح الشعر، مقبول الألفاظ، حاضر النادرة وكان طنبورياً حاذقاً فيه فائقاً، مات في شعبان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة بجيل، ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين، ذكره محمد بن إسحاق النديم، فقال: ولجحظة من التصانيف: كتاب الطبيخ - لطيف، - كتاب الطنبوريين، كتاب فضائل السكباج، كتاب الترنم، كتاب المشاهدات، كتاب ما شاهده من أمر المعتمد على الله، كتاب ما جمعه مما جربه المنجمون فصح من الأحكام، كتاب ديوان شعره.

قال: كان جحظة وسخاً قذراً دني النفس، في دينه قلة، وهو القائل:
إذا ما ظمئت إلى ريقه ... جعلت المدامة منه بديلا
وأين المدامة من ريقه؟ ... ولكن أعلل قلباً غليلا
ومن سائر شعره قوله:
لي صديق مغري بقربي وشدوي ... وله عند ذاك وجه صفيق
قوله إن شدوت أحسنت، زدنيوبأحسنت لا يباع الدقيق
حدث الخطيب قال: قال جحظة: أنشدت عبيد الله ابن طاهر قولي:
قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في العالم من يسمع
كم واثق بالعمر واثقته ... وجامع بددت ما يجمع
فقال لي: ذنبك إلى الزمان الكمال.
ومن شعر جحظة:
أقول لها والصبح قد لاح ضوءه ... كما لاح ضوء البارق المتألق
شبيهك قد وافى ولاح افتراقنا ... فهل لك في صوت وكأس مروق؟
فقالت شفائي في الذي قد ذكرته ... وإن كنت قد نغصته بالتفرق
قال جحظة: صك لي بعض الملوك بصك فدافعني الجهبذ به، حتى ضجرت، فكتبت إليه:
إذا كانت صلاتكم رقاعاً ... تخطط بالأنامل والأكف
فها خطي، خذوه بألف ألف ... ولم تكن الرقاع تجر نفعاً
وأنشد جحظة في أماليه:
طرقنا بزوغي حين أينع زهرها ... وفيها، لعمر الله، للعين منظر
وكم من بهار يبهر العين حسنه ... ومن جدول بالبارد العذب يزخر
ومن مستحث بالمدام كأنه، ... وإن كان ذمياً، أمير مؤمر
وفي كفه اليمنى شراب، مورد ... وفي كفه اليسرى بنان معصفر
شقائق تندى بالندى فكأنها ... خدود عليهن المدامع تقطر
وكم ساقط سكراً يلوك لسانه ... وكم قائل هجراً وما كان يهجر
وكم منشد بيتاً وفيه بقية ... من العقل إلا أنه متحير
" فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر "
وكم من حسان جس أوتار عوده فألهب ناراً في الحشا تتسعر
يغني وأسباب الصواب تمده ... بصوت جليل ذكره حين يذكر
أحن حنين الواله الطرب الذي ... ثنى شجوه بعد الغداء التذكر
أجحظة إن تجزع على فقد معشر ... فقدت بهم من كان للكسر يجبر
وأصبحت في قوم كأن عظامهم ... إذا جئتهم في حاجة تتكسر
فصبراً جميلاً، إن في الصبر مقنعاً ... على ما جناه الدهر، والله أكبر
وأنشد أيضاً لنفسه:
يا من بعدت عن الكرى ببعادهالصبر مذ غيبت عني غائب
أصبحت أجحد أنني لك عاشق ... والعين مخبرة بأني كاذب
وأنشد أيضاً لنفسه:
قد قلل الإدمان أكلي فما ... أطعم زاداً قيس إبهام
فالحمد لله وشكراً له ... قد صرت من بائد أقوام
قوم ترى أولادهم بينهم ... للجوع في حلية أيتام
وأنشد لنفسه:
أرى الأيام تضمن لي بخير ... ولكن بعد أيام طوال
فمن ذا ضامن لدوام عمري ... إلى دهر يغير سوء حالي
هي التسعون قد عطفت قناتي ... ونفرت الغواني عن وصالي
وفيها لو عرفت الحق شغلعن الأمر الذي اضحى اشتغالي
كأني بالنوادب قائلات، ... وجسمي فوق أعناق الرجال
ألا سقيا لجسمك كيف يبلى وذكرك في المجالس غير بالي وأنشد أيضاً لنفسه:
أنفق ولا تخش إقلالاً، فقد قسمت ... بين العباد مع الآجال أرزاق
لا ينفع البخل مع دنيا مولية ... ولا يضر مع الإقبال إنفاق
وأنشد أيضاً لنفسه:
تعجبت إذ رأتني فوق مكسور ... من الحمير عقير الظهر مضرور
من بعد كل أمين الرسغ معترض ... في السير تحسبه إحدى التصاوير
فقلت لا تعجبي مني ومن زمن ... أنحنى علي بتضييق وتقتير
بل فاعجبي من كلاب قد خدمتهم ... تسعين عاماً بأشعاري وطنبوري؟
ولم يكن في تناهي حالهم بهم ... حر يعود لعى حالي بتغيير

وقيل لجحظة: كيف حالك؟ فقال: كما قال الشاعر:
أي شيء رأيت أعجب من ذا ... إن تفكرت ساعة في الزمان؟
كل شيء من السرور بوزن ... والبلايا تكال بالقفزان
وأنشد جحظة لنفسه:
الحمد لله ليس لي كاتب ... ولا على باب منزلي حاجب
ولا حمار إذا عزمت على ... ركوبه، قيل: جحظة راكب
ولا قميص يكون لي بدلاً ... مخافة من قميصي الذاهب
وأجرة البيت فهي مقرحة ... أجفان عيني بالوابل الساكب
إن زارني صاحب عزمت على ... بيع كتاب لشبعة الصاحب
أصبحت في معشر تشمتهم ... فرض من الله لازب واجب
فيهم صديق في عرسه عجب ... إذا تأملت، أمرها عاجب
تحسبها حرة وحافرها ... أرق من شعر خالد الكاتب
وأنشد لنفسه:
ألحمد لله لم أقل قط: يا بد ... ر ويا منصفاً ويا كافور
لا، ولا قلت: أين أين الشوا ... هين ووزاننا وأين البذور
لا ولا قيل: قد أتاك من الضي ... عة بر موفر وشعير
وأتاك العطاء بالند لما ... قيل لي إن في الخزين بخور
أنا خلو من المماليك والأم ... لاك جلد على البلا وصبور
ليس إلا كيسرة وقديح ... وخليق أتت عليه الدهور
قال جحظة: ومررت بوقاد يوقد في التنور ويغني:
أنا أهواك نور الل ... ه فافعل ما بدا لك
إن تكن تمنعني شخ ... صك فابذل لي خيالك
قد أخذت الدن والطن ... بور والكلب فمالك؟
قل لمن جنبك القم ... موث من دسك والك
وله أيضاً:
ولي صاحب زرته للسلا ... م فقابلني بالحجاب الصراح
وقالوا تغيب عن داره ... لخوف غريم ملح وقاح
ولو كان عن داره غائباً ... لأدخلني أهله للنكاح
وقال يستزير بعض إخوانه:
لنا يا أخي زلة وافره ... وقدر معجلة حاضره
وراح تزيل إذا صفقت ... سنا البرق في الليلة الماطره
ومسمعة لم يخنها الصوا ... ب وزامرة أيما زامره
وما شئت من خبر نادر ... ونادرة بعدها نادره
فآت ولو كنت يا ابن الكرام وحاشاك من ذاك في الآخره
وأنشد لنفسه أيضاً:
ما زارني في الحبس من نادمته ... كأسين: كأس مودة ومدام
بخلوا علي وقد طلبت سلامهم ... فكأنني طالبتهم بطعام
وأنشد أيضاً لنفسه:
وذي جدة طلبت إليه براً ... من الجلساء مذموم الخلائق
فأقسم أنه رجل فقير ... أرانيه المهيمن وهو صادق
كأني بالمنازل عن قليل ... خلون من المطرزة النمارق
وقد ظفر النساء بما تركتم ... فصار لماهر بالنيك حاذق
وأنشد أيضاً لنفسه في أماليه:
وقائل قال لي: من أنت؟ قلت له، ... مقال ذي حكمة واتت له الحكم
لست الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
أنا الذي دينه إسعاف سائله ... والضر يعرفه والبؤس والعدم
أنا الذي حب أهل البيت أفقره ... فالعدل مستعبر والجور مبتسم
وله أيضاً:
ولي كبد لا يصلح الطب سقمها ... من الوجد لا تنفك دامية حرى
فيا ليت شعري والظنون كثيرة ... أيشعر بي من بت أرعى له الشعرى
وله أيضاً:
شكري لإحسانك شكر امرئ ... يستوهب الإحسان من واهبه
وكيف لا أشكر من لا أرى ... في منزلي إلا الذي جاد به
وأنشد جحظة لنفسه في أماليه.
حسبي ضجرت من الأدب ... ورأيته سبب العطب
وهجرت إعراب الكلام ... وما حفظت من الخطب
ورهنت ديوان النقا ... ئض واسترحت من التعب
وله أيضاً:
لا تعجبي يا هند من ... حالي فما فيها عجب

إن الزمان بمن تقد ... م في النباهة منقلب
فالجهل يضطهد الحجى ... والرأس يعلوه الذنب
حدث غرس النعمة في كتاب الهفوات قال: كان جحظة لما أسن يفسو في مجالسه، فيلقى من يعاشره منه جهداً. قال الحسين بن العباس: وكنت أحب غناءه، والكتابة عنه، لما عنده من الآداب، وكان يستطيب عشرتي، وكنت إذا جلست عنده أخذته غلبة الريح، فجئته يوماً في مجلس الأدب، والناس عنده، وهو يملي، فلما خفوا، قال لي ولآخر كان معي: اجلسا عندي حتى أقعدكما على أسود، وأطعمكما طباهجة بكبود، وأسقيكما من معتقة اليهود، وأبحركما بعنبر وعود، أطيب من الندود، وأغنيكما غناء المشدود، فقلت: هذا موضع السجود، وجلسنا، وصديقي لا يعرف خلقه في الفساء، وأنا قد أخذت الريح فوقي، فوفى لنا بجميع ما ذكره، وقال لنا، وقد غنى وشربنا: نحن بالغداة علماء وبالعشي في صورة المخنكرين، فلما أخذ النبيذ منه، أخذ يفسو، وصديقي يغمزني ويتعجب، فأقول له: إن ذلك عادته وخلقه، وإن سبيله أن يحتمل، إلى أن غي صوتاً من الشعر، والصنعة له فيه، وكان يجيده:
إن بالحيرة قسا قد مجن ... فتن الرهبان فيها وافتتن
ترك الإنجيل حيناً للصبا ... ورأى الدنيا مجوناً فركن
قال: فطرب عليه صديقي طرباً شديداً، واستحسنه كثيراً، وأراد أن يقول له: أحسنت والله يا أبا الحسن. فقال له ما في نفسه يتردد من أمر الفساء: أفس علي يا أبا الحسن كيف شئت، فخجل جحظة، وخجل الفتى، وانصرفنا.
وحدث الخطيب، عن أبي الفرج الإصبهاني، قال: حدثني جحظة قال: اتصلت علي إضاقة، أنفقت فيها كل ما أملكه، حتى بقيت ليس في داري سوى البواري، فأصبحت يوماً، وأنا أفلس من طنبور بلا وتر، كما في المثل، ففكرت كيف أعمل، فوقع لي أن أكتب إلى محبرة بن أبي عباد الكاتب، وكنت أجاوره، وكان قد ترك التصرف قبل ذلك بسنتين، وحالفه النقرس، فأزمنه حتى صار لا يتمكن من التصرف إلا محمولاً على الأيدي أو في محفة، وكان مع ذلك على غاية الظرف، وكبر النفس، وعظم الهمة، ومواصلة الشرب والقصف، فأردت أن أتطايب عليه ليدعوني، فآخذ منه ما أنفقه مدة، فكتبت إليه:
ماذا ترى في جدي ... وفي عقار بوارد
وقهوة ذات لون ... يحكى خدود الخزائد
ومسمع يتغنى ... من آل يحيى بن خالد
إن المضيع لهذا ... نزر المروءة بارد
فما شعرت إلا بمحفة محبرة يحملها غلمانه إلى داري، وأنا جالس على بابي، فقلت له: لم جئت؟ ومن دعاك؟ فقال: أنت، فقلت: إنما قلت لك: ماذا ترى في هذا؟ وعنيت في بيتك، وما قلت لك: إنه في بيتي، وبيتي والله أفرغ من فؤاد أم موسى، فقال: الآن قد جئت ولا أرجع، ولكن أدخل إليك، وأستدعي من داري ما أريد، قلت: ذاك إليك، فدخل، فلم ير في بيتي إلا بارية، فقال: يا أبا الحسن، هذا والله فقر مطيح، هذا ضر مدقع، ما هذا؟ قلت: هو والله ما ترى، فأنفذ إلى داره، فاستدعى فرشاً وآلة وقماشاً وغلماناً، وجاء فراشوه ففرشوا ذلك، وجاء وافر الصفر والشمع وغير ذلك مما يحتاج إليه، وجاء طباخه بما كان في مطبخه، وهو شيء كثير، بآلات ذلك، وجاء شرابيه بالأواني والمخروط والفاكهة وآلة التبخير والبخور وألوان الأنبذة، وجلس يومه ذلك وليلته عندي، يشرب على غنائي وغناء مغنية أحضرها، كنت ألقنها، فلما كان من الغد سلم إلى غلامه كيساً فيه ألف درهم، ورزمة ثياب صحاح، ومقطوعة من فاخر الثياب، واستدعى محفة فجلس فيها، وشيعته، فلما بلغ آخر الصحن،قال: مكانك يا أبا الحسن، احفظ بابك، فكل ما في دارك لك، فلا تدع أحداً يحمل منه شيئاً، وقال للغلمان: اخرجوا، فخرجوا بين يديه، وأغلقت الباب على قماش بألفو كثيرة.
وأنشد السلامي لجحظة في سعد الحاجب:
يا سعد إنك قد خدمت ثلاثة ... كل عليه منك وسم لائح
وأراك تخدم رابعاً لتميته ... رفقاً به فالشيخ شيخ صالح
يا خادم الوزراء إنك عندهم ... سعد ولكن أنت سعد الذابح

وحدث جحظة قال: دخلت، وأنا في بقايا علة، على كاتب، قال ابن بشران، على هارون ابن عريب الخالي، فقدم إلينا مضيرة عصبان، فأمعنت منها، فقال: - جعلت فداك - أنت عليل، وبدنك نحيل، والعصب ثقيل، واللبن يستحيل، فثقلت له: والعظيم اعلجليل، المفضل المنيل، لا تركت منها كثيراً ولا قليلاً، وحسبنا الله ونعم الوكيل، فغضب علي فضربني عشرين مقرعة، فقلت:
ولي صاحب لا قدس الله روحه ... وكان من الخيرات غير قريب
أكلت عصيداً عنده في مضيرة ... فيالك من يوم علي عصيب
قال: ودخلت إليه يوماً آخر، فقدم إلي لوزينجاً لها أيام وقد حمضت، فأخذت أمعن في أكلها، فقال لي: إن اللوزينج إذا كان بالجوز أبشم وإذا كان باللوز أتخم، فقلت: نعم يا سيدي إذا كانت لوزينجاً، وأما إذا كانت مصوصاً فلا! وحدث عبد الله بن المعتز، قال: عربد ابن أبي العلاء على جحظة بحضرتي، فأمرت بتنحية جحظة إلى أن رضي أحمد، فكتب إلي جحة:
أليس من العجائب أن مثلي ... يقام لأحمد بن أبي العلاء
ولي نفس أبت إلا ارتفاعاً ... فأضحت كالسماء على السماء
لقد غضب الزمان على أناس ... فأبلاهم بأولاد الزناء
في تاريخ دمشق قال جحظة: سلمت على بعض الرساء وكان مبخلاً، فلما أردت الانصراف قال لي. يا أبا الحسن، إيش يقول في قطائف تأتيه؟ ولم يكن له بذلك عادة؟ فقلت: ما آبى ذلك، فأحضر لي جاماً فيه قطائف، قد خمت فأرجفت فيها، وصادفت مني سغبة، وهو ينظر إلي شزراً، فقال لي: يا أبا الحسن، إن القطائف إذا كانت بجوز أتخمتك، وإذا كانت بلوز أبشمتك، قال: فقلت: هذا إذا كانت قطائف، أما إذا كانت مصوصاً فلا. وعملت لوقتي هذه الأبيات:
دعاني صديق لي لأكل القطائف ... فأمعنت فيها آمناً غير خائف
فقال، وقد أوجعت بالأكل قلبه ... رويك، مهلاً، فهي إحدى المتالف
فقلت له: ما إن سمعنا بهالك ... ينادى عليه: يا قتيل القطائف
قال عبد الله بن المعتز: كتب إلي جحظة في يوم مطير: انصرفت من عندك - جعلني الله فداك - وقد كنا عقدنا موعداً للقاء، ومنعني من المصير إليك ما نحن فيه من انقطاع شريان الغمام، فتفضل ببسط العذر لعبدك، إن شاء الله.
ومن شعر جحظة:
وليل في جوانبه حران ... فليس لطول مدته انقضاء
عدمت مطالع الإصباح فيه ... كأن الصبح جود أو وفاء
وله أيضاً:
رحلتم فكم من أنة بعد زفرة ... مبينة للناس شوقي إليكم
وقد كنت أعتقت الجفون من البكا ... فقد ردها في الرق حزني عليكم
وحدث أبو الفرج الإصبهاني قال: دعاني محمد بن الشار يوماً، ودعا جحظة، وأطال حبس الطعام جداً، وجاع جحظة، فأخذ دواة وبياضاً وكتب:
مالي وللشار وأولاده ... لا قدس الوالد والوالده
قد حفظا القرآن واستعملوا ... ما فيه إلا سورة المائده
ورمى بها إلي، فقرأتها، ودفعتها إلى ابن الشار، فقرأها، ووثب مسرعاً، فقدم المائدة، فقاطعه جحظة، فكان يجهد جهده أن يجيئه فلا يفعل، فإذا عاتبناه قال: والله حتى يحفظ تلك السورة.
وله أيضاً:
يطول علي الليل حتى أمله ... فأجلس والنوام في غفلة عني
فلا أنا بالراضي من الدهر فعله ... ولا الدهر يرضى بالذي ناله مني
قال أبو علي: حدثني أبو القاسم الحسين بن علي البغدادي، وكان أبوه ينادم ابن الحواري، ثم نادم اليزيديين بالبصرة، وأقام بها سنين، قال: كان جحظة خسيف الدين، وكان لا يصوم شهر رمضان، وكان يأكل سراً، فكان عند أبي يوماً في شهر رمضان مسلماً، فأجلسته، فلما كان نصف النهار سرق من الدار رغيفاً، ودخل المستراح، وجلس على المقعدة، واتفق أن دخل أبي فرآه فاستعظم ذلك وقال: ما هذا يا أبا الحسن؟ فقال: أفت لبنات وردان ما يأكلون، فقد رحمتهم من الجوع: ومن شعر جحظة:
إن كنت ترغب في الزيا ... رة عند أوقات لزياره
فدع الشتيمة للغلا ... م إذا دنت من الغضاره
ومن مطبوع شعر جحظة:
وإذا جفاني صاحب ... لم أستجز ما عشت قطعه

وتركته مثل القبو ... ر أزورها في كل جمعه
وحدث جحظة في أماليه: دخلت إلى عريب المأمونية مع شروين المغنى، وأبي العبيس المغنى، وأنا يومئذ غلام على قباء ومنطقة، وأنكرتني، وسألت عني، فأخبرها شروين، وقال لها: هذا فتى من أهلك، هذا ابن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد البرمكي، وهو يغني بالطنبور، فأدنتني، وقربت مجلسي، ودعت بطنبور، وأمرتني أن أغني، فغنيت أصواتاً، فقالت: أحسنت يا بني، ولتكونن مغنياً، ولكن إذا حضرت بين هذين الأسدين ضعت أنت وطنبورك، تعني بين عوديهما، وأمرت لي بمائة دينار.
وأنشد لنفسه في أماليه:
دعيني من العذل أين الكبير؟ ... بحرمة معبودك الأكبر
فلست بباك على ظاعن ... ولا طلل محول مقفر
ولكن بكائي على ماجد ... أراد نوالاً فلم يقدر
وأنشد فيه لنفسه:
مرضت فلم يعدني في شكاتي ... من الإخوان ذو كرم وخير
فإن مرضوا، وللأيام حكم ... سينفذ في الكبير وفي الصغير
غدوت على المدامة والملاهي ... وإن ماتوا حزنت على القبور
وأنشد فيه لنفسه:
يا راقداً، ونسيم الورد منتبه ... في ربقة القفص والأطيار تنتحب
الورد ضيف، فلا تجهل كرامته ... وهاتها قهوة في الكاس تلتهب
سقياً له زائراً تحيا النفوس به ... يجود بالوصل حيناً ثم يجتنب
تباً لحر رآه وهو ذو جدة ... لم يقض من حقه بالشرب ما يجب
وقد قال جحظة:
ناديت عمراً، وقد مالت بجانبه ... مدامة، أخذت بالراس والقدم
قد لاح في الدير نار الراهبين وقد ... ناداك بالصبح ناقوساهما، فقم
فقام يعثر في أثواب نعسته ... لبزل صافية كالنجم في الظلم
فاستلها، وشدا، والكأس في يده: ... سلم على الربع من سلمى بذي سلم
لو دام لي في الورى خل وعاتقة ... لما حفلت بذي قربى ولا رحم
ولا بكرت إلى حلو لنائله ... ولا التفت إلى شيء من النعم
حدث أبو علي المحسن بن محمد بن علي قال: كان الحسن بن مخلد أكرم الناس في بذل المال، وأبخلهم بطعامه، فكان يحضر ندماؤه على مائدته، فلا يستجرئ أحد منهم أن يشعب شيئاً البتة، وينزهون أنفسهم عند رفع المائدة بمسح أيديهم بلحاهم، وله في ذلك قصص عجيبة.

قال جحظة: ربحت بأكلة افتديتها مع الحسن ابن مخلد خمسمائة دينار، وخمسمائة درهم، وخمسة أثواب فاخرة، وعتيدة طيبة سرية، فقيل له: كيف كان ذلك؟ فقال: كان الحسن بن مخلد بخيلاً على الطعام، سمحاً بالمال، وكان يأخذ ندماءه بغتة، فيسقيهم النبيذ، ويؤاكلهم فمن أكل قتله قتلا، ومن شرب معه على الخسف حظي عنده، قال: فكنت عنده يوماً، فقال لي: يا أبا الحسن، قد عملت غداً على الصبوح الجاشري فبت عندي، فقلت: لا يمكنني، ولكني أباكرك قبل الوقت، فعلى أي شيء عملت أن تصطبح؟ فقال: قد أعد لنا كذا وكذا، ووصف ما تقدم به إلى الطباخ بعمله، فعقدنا الرأي أن أباكره، وقمت وجئت إلى منزلي، ودعوت طباخي فتقدمت غليه بأن يصلح لي مثل ذلك بعينه، ويفرغ منه وقت العتمة، ففعل، ونمت، وقمت وقد مضى نصف الليل، فأكلت ما أصلح، وغسلت يدي وأسرج لي وأنا عامل على المضي إليه، إذ طرقتني رسله، فجئته، فقال. بحياتي أكلت؟ قلت. أعيذك بالله، انصرفت من عندك قبل الغروب، وهذا نصف الليل، فأي وقت أصلح لي شيء؟ أو أي وقت أكلت شيئاً؟ سل غلمانك على أي حال وجدوني، فقالوا. وجدناه يا سيدنا وقد لبس ثيابه، وهو ينتظر أن يفرغ له من إسراج بغلته ليركبها، فسر بذلك سروراً شديداً، وقدم الطعام، فما كان في فضل أشمه، فأمسكت عن تشعيبه ضرورة، وهو يستدعي أكلي، ولو أكلت أحل دمي، قال: وكذا كانت عادته، فأقول: هو ذا آكل يا سيدي أفي الدنيا أحد يأكل أكثر من هذا؟ وانقضى الأكل، وجلسنا على الشرب، فجعلت أشرب بأرطال، وهو يفرح، وعنده أنى أشرب على الريق، أو على ذلك الأكل الذي جلست معه، ثم أمرني بالغناء، فغنيت، فاستطاب ذلك، وطرب، وشرب أرطالاً، فلما رأيت النبيذ قد عمل فيه، قلت: يا سيدي تطرب أنت على غنائي، فأنا على أي شيء أطرب؟ فقال: يا غلام هات دواة، فأحضرها، فكتب لي رقعة ورمى بها غلي، وإذا هي على صيرفي يعامله بخمسمائة دينار، فأخذتها وشكرته، ثم غنيته، وطرب وزاد سكره، فطلبت منه ثياباً، فخلع علي خمسة أثواب، ثم أمر أن يبخر كل ما بين يديه، فأحضرت عتيدة حسنة سرية فيها طيب كثير، فأخذ الغلمان يبخرون منها للناس، فلما انتهوا إلي، قلت: يا سيدي: وأنا أرضى أن أتبخر فحسب؟ فقال لي: ما تريد؟ قلت: أريد نصيبي من العتيدة، قال: قد وهبتها لك، فأخذتها، وشرب بعد ذلك رطلاً، واتكأ على مسورته، وكذا كانت عادته، إذا سكر، فقام الناس من مجلسه، وقمت وقد طلع الفجر وأضاء، وهو وقت يبكر الناس في حوائجهم، فخرجت كأني لص قد خرج من بيت قوم على قفا غلامي الثياب والعتيدة كلها، فصرت إلى منزيلي ونمت نومة، ثم ركبت إلى رب عون أريد الصيرفي، فأوصلت إليه الرقعة، فقال: يا سيدي أنت لارجل المسمى في التوقيع؟ قلت: نعم، قال: أنت تعلم أن مثلنا يعاملون للفائدة، قلت: أجل، قال: ورسمنا أن نعطى في مثل هذا ما يكسر في كل دينار درهماً، فقلت له: ليس أضايقك في هذا القدر، فقال: ما قلت هذا إلا لأربح عليك الكبير أيما أحب إليك: أن تأخذ كما يأخذ الناس، وهو ما قد عرفتك، أو تجلس مكانك إلى الظهر، حتى أفرغ من شغلي، ثم تركب معي إلى داري، فتقيم عندي اليوم والليلة تشرب، فقد والله سمعت بك، وكنت أتمنى أن أسمعك، ووقعتن الآن لي رخيصاً، فإذا فعلت هذا، دفعت إليك الدنانير من غير خسران، فقلت: أقيم عندك، فجعل الرقعة في كمه، وأقبل على شغله، فلما دنا الظهر، جاء غلامه ببغلة فارهة، فركب وركبت معه، وصرنا إلى دار سرية حسنة، بفاخر الفرش والآلات، ليس فيها إلا جوار روم للخدمة من غير فحل، فتركني في مجلسه، ودخل، ثم خرج بثياب أولاد الخلفاء من حمام داره، وتبخر وبخرني بيده بند عتيق جيد، وأكلنا أسرى الطعام وأنظفه، وقمنا إلى مجلس سري للشرب، فيه فواكه وآلات بمال، وشربنا ليلتنا، فكانت ليلتي عنده أطيب من أختها عند الحسن بن مخلد، فلما أصبحنا، أخرج كيسين، في أحدهما دنانير، وفي الأخرى دراهم، فوزن خمسمائة دينار، وخمسمائة درهم، وقال: يا سيدي تلك ما أمرت به، وهذه الدراهم هدية مني إليك، فأخذتها وصار الصيرفي صديقي، وداره لي.

قال: وحدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف التنوخي قال: حدثني أبو لعي بن الأعرابي الشاعر قال: كنت في دعوة جحظة، فأكلت، وجلسنا نشرب، وهو يغني، إذ دخل رجل فقدم إليه جحظة زلة كان زلها من طعامه ونحن نأكل، وكان بخيلاً على الطعام، قال: وكأن الرجل كان طاوياً، طاوى تسع، فأتى على الزلة، ورفع الطيفورية فارغة، وجحظة يرمقه ونحن نلمح جحظة، ونضحك، فلما فرغ، قال له جحظة: تلعب معي بالنرد قال: نعم، فوضعاه بينهما، ولعبا، فتوالى اللعب على جحظة من الرجل بأن تجيء الفصوص على ما يريد من الأعداد ويكره جحظة، فأخرج جحظة رأسه من قبة الخيش رافعاً له إلى السماء، وقال كأنه يخاطب الله جل وعز: لعمري إني أستحق هذا، لأني أشبع من أجعته.
قلت: ما أشد تباعد ما بين هببذين الخبرين، وخبر رواه التنوخي أيضاً عن أبي العباس بن المنم، قال. سمعت أبا عبد الله الموسوي العلوي يقول: قصدني أبو جعفر محمد بن يحيى شيرزاد، في أيام تدبيره الأمر، قصداً قبيحاً، وعمل لي كتابة مؤامرة في خراجاتي بمائة ألف درهم، أكثرها واجب وباقيها كالواجب، وأحضرني للمناظرة. عليها، واعتقلني في داره، فضقت ذرعاً بما نزل بي وعلمت أن المال سيلزمني إذا نوظرت، وأنه يؤثر في حالي، ويهتك جاهي، فلم أدر ما أصنع، فشاورت بعض من يختص به، فقال: طمعه فيك والله قوي، وما يفعل معه بشيء غير المال، فقلت له: ففكر في حيلة أو مخادعة، ففكر ثم قال: لا أعرف لك دواء إلا شيئاً واحداً إن سمحت به نفسك وتركت العلوية عنك وفعلت نجوت، قلت. ما هو، قال: هو رجل سمح على الطعام، محب لأكلة مائدته، موجب لحرمته، وأرى لك، إذا وضع طعامه، أن تخرج إليه، فإنك معه في الدار، ولا يمنعك الموكلون من ذلك، فتجيء بغير إذن، فتجلس على المائدة، وتأكل وتنبسط وتخاطبه في أمرك عقيب الأكل، وتسأله، وترفق به، وتخضع له، فإنه يسامحك بأكثرها، ويقرب ما بينك وبينه، فشق ذلك علي، ثم نظرت، فإذا وزن المال أشق منه، وكان أبو جعفر لا يأكل إلا بعد المغرب في كل يوم أكلة، فلم آكل ذلك اليوم شيئاً، وراعيت مائدته، فلما وضعت، قمت، فقال الموكلون: إلى أين؟ قلت. إلى مائدة الوزير، فما قدروا أن يمنعوني، فلما رأى أبو جعفر، أكبر ذلك وتهلل وجهه وقال. ألا عندي يا سيدي، وأجلسني إلى جنبه، فأقبلت آكل وأنبسط في الأكل والحديث، إلى أن رفعت المائدة واستدعاني إلى موضعه، فغسلت يدي بحضرته، فلما فرغت، أردت أن أبتدئه بالخطاب، فقال لي: قد آذيتك يا سيدي، يا أبا عبد الله، بتأخرك عن منزلك، فامض إلى بيتك، وما أخاطبك بشيء مما في نفسي، ولا مما أردت مخاطبتك به، ولا مطالبة عليك من جهتي، بعد ما تفضلت به، فشكرته، وقلت: إن رأى سيدنا، أيده الله، أن يتمم معروفه بتسليم المؤامرة إلي، فقال: هاتموها، فما برحت إلا وهي في خفي، وانصرفت إلى منزلي وقد سقط المال ني، ولزمته للسلم، وصرت أتعمد مؤاكلته، والتخصص به، فسلمت طول أيامه، وسلم جاهي ومالي علي، إلى أن مضى لسبيله.
قلت: هذا حسن من فعله، مع عسف كان فيه بالرعية في جباية المال، لم يسبق إليها، ولا تبعه بعده أحد في مثلها، فكانت له أفعال منكرة منها: أنه استدعى العيارين وضمنهم ما يسرقونه من أموال الناس وكتب جحظة إلى أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله المشمعي، وكان قائداً جليلاً، تقلد البصرة وفارس:
إليك أبا إسحاق مني رسالة ... تزين الفتى، إن كان يعشق زينه
لقد كنت غضباناً على الدهر زاريا ... عليه، فقد أصلحت بيني وبينه
وكان أبو إسحاق هذا أديباً شاعراً، ومن شعره:
ألا طف من أجله أهله ... وكل إلي حبيب قريب
وأسأل عن غيره قبله ... لأبطل ظن الذي يستريب
وأنشد جحظة لنفسه في أماليه:
قد نلتم صحة، ما نالها بشر ... وحزتم نعمة ما نالها ملك
فليت شعري أمقدار تعمدكم ... بما أتاكم به، أم وسوس الفلك
وأنشد جحظة في أماليه:
يا من دعاني وفر مني ... أخلفت والله حسن ظني
قد كنت أرضى بخبز رز ... ومالح أو قليل بن
وسكرة من نبيذ دبس ... أقام يوماً بعقر دن
فكيف يغلو بما ذكرنا ... مساعد شاعر مغني

وحدث جحظة في أماليه قال: كنت أشرب عند بعض إخواني بباب حرب في ناعورة ثابت في يوم مطر، ومعنا شيخ خضيب حسن البرة متصدر، فتجارينا ذكر المطر، وما جاء فيه من الخبر، فقال الشيخ: حدثوا يا سيدي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، أبا بكر وأبا حفص وعلى النبيين السريين منكر ونكير وعلى عمرو بن العاضي قاتل الكفار يوم غدير خم وصاحب راية النبي يوم القطائف - يريد يوم الطائف - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من قطرة تنزل من السماء إلا ومحا ملك يتبحا حتى يضحا في موضحا ثم يصعد ويدحا فقلت: يا شيخ فالقطر يقع في الكنيف، والملك ينزل معه قال: نعم يا سيدي فيهم ما في الناس من الدناءة والخسة.
وأنشد جحظة لنفسه في أماليه:
قالت أعاليه الصلب ... لما تثنى واضطرب
أترى جنيت جناية؟ حتى صلبت على الخشب قال جحظة في أماليه: استهديت من بعض إخواني دواة فأخرها عني، ثم اجتمعنا في مجلس أبي العباس ثعلب، فقلت لأبي العباس: ما أراد الشاعر بقوله:
أحاجيك: ما قبر عديم ترابه ... به معشر موتى وإن لم يكفنوا
سلوت عن التبيان مدة قبرهم ... فإن نبشوا يوماً من الدهر بينوا
فسكت ساعة، ثم قال: الدواة، فلما انصرفت إلى منزلي إذا الدواة قد سبقتني إليه.
قال جحظة: دعوت فضيلاً الأعرج، وكان عندنا جماعة فكتب إلينا:
أنا في منزلي، وقد رزق الل ... ه نديماً ومسمعاً وعقارا
فاعذروني بأن تخلفت عنكم ... شغل الحلي أهله أن يعارا
ومثله لغيره:
حي طيفاً من الأحبة زارا ... بعد أن نوم الكرى السمارا
داعياً في الوصال تحت دجى اللي ... ل عيوناً عن الوصال سهارى
قلت ما بالنا جفينا وكنا ... قبل ذاك الأسماع والأبصارا
قال: إنا كما عهدت، ولكن ... شغل الحلي أهله أن يعارا
قال جحظة: وسألت الحسن بن مخلد حاجة، فقال: إذا كان بعد ثلاث عرفتك، فقلت: يا سيدي تعدني أن تعدني.
قال جحظة في أماليه: كنت جالساً عند صديق لي، فجاءه رقعة من منزله، فلما نظر فيها ضرط، فحادثته ساعة واعتقلته وأخذتها، وإذا فيها: قد فني الدقيق وغدا الخبزة.
وأنشد لنفسه في أماليه يقول:
يقول لي مالكي، والدمع منحدر ... لا خفف الله رب العرش بلواكا
وإن دعوت إليه عند معتبة، ... يقول قلبي له في السر: حاشاكا
وأنشد أيضاً لنفسه في أماليه:
ما أنصفتني يد الزمان ولا ... أدركني غير حرفة الأدب
لا حفظ الله، حيثما سلكت ... أمي، وأير الحمار في أست أبي
ما تركا درهماً أصون به ... وجهي يوماً عن ذلة الطلب

أحمد بن جميل بن الحسن بن جميل أبو منصور
أديب أريب، فاضل كامل، له يد باسطة في النظم والنثر، وهو من أهل بغداد، وكان يسكن باب الأزج.
ذكره أبو الفرج بن الجوزي، في مذيله على صدقة ابن الحسن، فقال: كانت له معرفة بالأدب جيدة، وله كتاب مقامات حذو الحريري، وله فضل.
ومات في شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعين وخمسمائة.
أحمد بن حاتم أبو نصر الباهلي
صاحب الأصمعي، روى عن الأصمعي كتبه، وقال أبو العباس محمد بن أحمد القمري الإسكافي النحوي. كان أبو نصر ابن أخت الأصمعي، وقال أبو الطيب في كتاب مراتب النحويين: زعموا أن أحمد بن حاتم كان ابن أخت الأصمعي، وليس هذا بثبت، رأيت أبا جعفر بن باسوه ينكره، وكان أثبت من عبد الرحمن، يعني ابن أخت الأصمعي، واسن، وكان يضيق على ابن الأعرابي وقد أخذ عن الأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد، وأقام ببغداد، وربما حكى الشيء بعد الشيء عن أبي عمرو الشيباني، ومات، فيما ذكره هو وأبو عبد الله ابن الأعرابي وعمرو بن عمرو الشيباني في سنة إحدى وثلاثين ومائتين وقد نيف على السبعين.

وحدث المرزباني عن أبي عمر الزاهد قال: قال ثعلب دخلت على يعقوب بن السكيت، وهو يعمل إصلاح المنطق فقال، يا أبا العباس، رغبت عن كتابي، فقلت له كتابك كبير وأنا عملت الفصيح للصبيان، ثم قال سر معي إلى أبي نصر صاحب الأصمعي، فمضيت معه فلما كنا في الطريق قال: قد سألت أبا نصر عن بيت شعر فأجابني جواباً لم أرضه، أفأعيده عليه؟ فقلت: لا تفعل فإن عنده أجوبة، وقد أجابك ببعضها، فلما دخلت عليه سأله عن البيت، فقال له: يا مؤاجر أنت وهذا وأنا قريبك حتى رموني بك، عندي عشرون جواباً في هذا، وخجل من ذلك، وخرجنا، فقلت له: لا مقام لك هاهنا، اخرج من سر من رأى، واكتب إلي بما تحتاج إليه لأسأل عنه وأعرفك إياه.
وحكي عن الأصمعي أنه كان يقول: ما يصدق علي إلا أبو نصر، وكان ثقة مأموناً.
ولأبي نصر من التصانيف: كتاب الشجر والنبات، كتاب اللبإ واللبن، كتاب الإبل، كتاب أبيات المعاني كتاب اشتقاق الأسماء، كتاب الزرع والنحل، كتاب الخيل كتاب الطير. كتاب ما يلحن فيه العامة، كتاب الجراء.
وذكره حمزة في كتاب إصبهان، قال: ولما أقدم الخصيب بن أسلم أبا محمد الباهلي صاحب الأصمعي إلى إصبهان، نقل معه مصنفات الأصمعي، وأشعار شعراء الجاهلية والإسلام مقروءة على الأصمعي، وكان قدومه إصبهان بعد سنة عشرين ومائتين فأقام أشهراً، ثم تأهب منها للحج، فدخل إلى عبد الله بن الحسن، وسأله أن يدله على رجل يسلم إليه دفاتره إلى أن يرجع، فقال له عليك بمحمد بن العباس، وكان مؤدب أولاد عبد الله بن الحسن، مقبول القول، فسلم الباهلي إليه دفاتره، وخرج، فأنسخها محمد بن عبد الله الناس، فقدم الباهلي وقامت قيامته، ودخل إلى عبد الله بن الحسن، وذكر له ما كان يأمل في دفاتره من التكسب بها، فجمع له عبد الله بن الحسن من أهل البلد عشرة آلاف درهم، ووصله الخصيب بعشرين ألفاً، فتناولها ورجع إلى البصرة.

الجزء الثالث
أحمد بن الحارث بن المبارك الخزاز
أبو جعفر، راوية أبي الحسن المدائني، والعتابي، كان راوية مكثراً، موصوفاً بالثقة، وكان شاعراً، وهو من موالي المنصور، ومات الخزاز، فيما ذكره قانع، ورواه المرزباني عنه، في ذي الحجة سنة سبع وخمسين ومائتين، وكان ينزل في باب الكوفة، فدفن في مقابرها، وقيل: مات في سنة تسع وخمسين.
وذكره المرزباني في المقتبس: فقال: حدثني علي بن هارون، قال: أخبرني عبيد الله بن أحمد، بن طاهر، عن أبيه، عن محمد بن صالح، بن النطاح، مولى هاشم عن أبيه، قال: طلب المنصور رجالاً يجعلهم بوابين له، فقيل له: لا يضبطهم إلا قوم لئام الأصول، أنذال النفوس، صلاب الوجوه، ولا تجدهم إلا في رقيق اليمامة، فاشترى له مائتي غلام من اليمامة، فصير بعضهم بوابين، وبقي الباقون، فكان ممن بقي خلاد، جد أبي العيناء محمد بن القاسم بن خلاد، وحسان جد إبراهيم بن عطار، جد أحمد بن الحارث الخزاز.
وقال المرزباني: أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثني الحسين بن إسحاق، قال: أنشدت أحمد بن الحارث شعراً للبحتري، فعاب منه شيئاً، فبلغ البحتري، فقال:
الحمد لله على ما أرى ... من قدر الله الذي يجري
ما كان ذا العالم من عالمي ... يوماً ولا ذا الدهر من دهري
يعترض الحرمان في مطلبي ... ويحكم الخزاز في شعري
وروى محمد بن داود، لأحمد بن الحارث، في إبراهيم ابن المدبر، وحاجبه بشر:
وجه جميل وصاحب صلف ... كذاك أمر الملوك يختلف
فأنت تلقى بالبشر واللطف ... وبشر يلقاهم به جنف
يا حسن الوجه والفعال ويا ... أكرم وجه سما به شرف
ويا قبيح الفعال بالحاجب ال ... غث الذي كل أمره نطف
فأنت تبني وبشر يهدمه ... والمدح والذم ليس يأتلف
وذكر أبو بكر الخطيب، فقال: كان الخزاز ذا فهم ومعرفة، صدوقاً، أسمع المدائني كتبه كلها، وهو بغدادي، روى عنه السكري، وابن أبي الدنيا، وغيرهما. وكان كبير الرأس، طويل اللحية كبيرها، حسن الوجه، كبير الفم ألثغ، خضب قبل موته لسنة خضاباً قانئاً، فسئل عن ذلك، فقال: بلغني أن منكراً ونكيراً، إذا حضرا ميتاً فرأياه خضيباً، قال منكر لنكير: تجاف عنه.
ومن سائر شعره قوله:

إني امرؤ لا أرى بالباب أقرعه ... إذا تنمر دوني حاجب الباب
ولا ألوم امرأ في رد ذي شرف ... ولا أطالب ود الكاره الآبي
ولما قتل بغا التركي باغر التركي، وهاجت الأتراك على المستعين بالله، وخافهم، وانحدر من سر من رأى إلى بغداد، في سنة إحدى وخمسين إلى مائتين في المحرم، قال أحمد بن الحارث:
لعمري لئن قتلوا باغراً ... لقد هاج باغر حرباً طحوناً
وفر الخليفة والقائدا ... ن بالليل يلتمسون السفينا
وحل ببغداد قبل الشروق ... فحل بهم منه ما يكرهونا
فليت السفينة لم تأتنا ... وغرقها الله والراكبينا
هي قصيدة يذكر فيها الحرب وصفتها.
وقال أحمد بن الحارث، في بشر حاجب إبراهيم ابن المدبر:
قد تركناك لبشر ... وتركنا لك بشرا
وذكره محمد بن إسحاق النديم في كتابه، وقال: له من الكتب: كتاب المسالك والممالك. كتاب أسماء الخلفاء، وكتابهم، والصحابة. كتاب مغازي البحر في دولة بني هاشم، وذكر أبي حفص صاحب أقريطش. كتاب القبائل. كتاب الأشراف. كتاب ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، كتاب أبناء السراري. كتاب نوادر الشعراء. كتاب مختصر كتاب البطون. كتاب مغازي النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه وأزواجه. كتاب أخبار أبي العباس. كتاب الأخبار والنوادر. كتاب شحنة البريد. كتاب النسب. كتاب الحلائب والرهان. كتاب جمهرة نسب الحارث بن كعب، وأخبارهم في الجاهلية.

أحمد بن الحسنالسكوتي
بن إسماعيل أبو عبد الله السكوتي الكندي النسابة، كان له اختصاص بالمكتفي، ثم بالمقتدر.
ذكره أبو الحسن، محمد بن جعفر بن النجار، الكوفي، في تاريخ الكوفة، وقال: إنه كان ممن أخذ عن ثعلب الأدب، وكان مليح المجلس، حسن الترسل، ممكناً من نفسه، هذا لفظ ابن النجار بعينه.
وحكى ابن النجار، عن أبي عبد الله قال: قال ابن عبدة النساب: ما عرف النساب أنساب العرب على حقيقة، حتى قال الكميت النزاريات، فأظهر بها علماً كثيراً، ولقد نظرت في شعره، فما رأيت أحداً أعلم منه بالعرب وأيامها.
قال أبو عبد الله: فلما سمعت هذا، جمعت شعره، فكان عوني على التصنيف لأيام العرب.
ورأيت أنا لأبي عبد الله كتاباً في أسماء مياه العرب، ونقلته غير تام:
أحمد بن الحسن، بن القاسم
،
بن الحسن، أبو علي أبو بكر، يلقب الفلكي، جد أبي الفضل الفلكي الحافظ الهمذاني.
قال شيرويه: روى عن الحسن بن الحسين التميمي، وأبي الحسن، علي بن الحسن، بن سعد البزاز، وأبي بكر، عمر بن سهل الحافظ، روى عنه ابناه أبو عبد الله الحسين، وأبو الصقر الحسن.
قال: وكان إماماً جامعاً في كل فن، عالماً بالأدب، والنحو، والعروض، وسائر العلوم، وخصوصاً في علم الحساب، فإنه كان يقال له: الحاسب، ولذلك لقب بالفلكي، وكان هيوباً، ذا حشمة ومنزلة عند الناس. مات في ذي القعدة، سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وهو ابن خمس وثمانين سنة.
أحمد بن الحسن، بن محمد، بن اليمان
ابن الفتح، الديناري، أبو عبد الله، رجل أديب، إلا أن الغالب عليه الحط، وذكرنا له، إنما هو لحسن خطه، الذي بلغ فيه الغاية.
وقال أبو الوزير عميد الدولة، أبو سعد بن عبد الرحيم، في أخبار ابنه عبد الجبار، بن أحمد: وكان والده أبو عبد الله الديناري مقدماً مكرماً، يزور بحسن خطه على أبي عبد الله بن مقلة، تزويراً لا يكاد يفطن له، وله ولد أديب، يقال له: أبو يعلى عبد الجبار، ذكر في بابه.
أحمد بن الحسين، يعرف بابن شقير
أبو بكر، هو أحمد بن الحسين، بن العباس، بن الفرج، النحوي، أخذ عن أحمد بن عبيد بن ناصح، وكان مشهوراً برواية كتب الواقدي، عن أحمد بن عبيد عنه. ومات في صفر سنة سبع عشرة وثلاثمائة، في خلافة المقتدر، وهو في طبقة أبي بكر بن السراج، وله تصانيف، منها: كتاب مختصر في النحو. كتاب المقصور والممدود. كتاب المذكر والمؤنث.
قرأت في كتاب ابن مسعدة: أن الكتاب الذي ينسب إلى الخليل، ويسمى الجمل، من تصانيف ابن شقير هذا. قال: يقول فيه: النصب على أربعين وجهاً.
أحمد بن الحسين بن مهران المقرئ
أبو بكر النيسابوري، قال الحافظ أبو القاسم: أصله من أصبهان، سكن نيسابور.

قال الحاكم: هو إمام عصره في القراءات، وأعبد من رأينا من القراء، وكان مجاب الدعوة. مات في السابع والعشرين من شوال، سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وهو يوم مات ابن ست وثمانين سنة، وصلينا عليه في ميدان الطاهرية، وتوفي في ذلك اليوم، أبو الحسن العامري، صاحب الفلسفة.
قال الحاكم: فحدثني عمر بن أحمد الزاهد، قال: سمعت الثقة من أصحابنا، يذكر أنه رأى أبا بكر بن الحسين بن مهران - رحمه الله - في المنام، في الليلة التي دفن فيها، قال: فقلت. أيها الأستاذ ما فعل الله بك؟ فقال: إن الله عز وجل، أقام أبا الحسن العامري بحذائي، وقال: هذا فداؤك من النار.
ثم ذكر الحاكم بإسناد رفعه إلى أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة، أعطى الله كل رجل من هذه الأمة رجلاً من الكفار، فيقول: هذا فداؤك من النار " . وهذا الخبر إذا قرن بالرؤيا، صار من براهين الشرع.
قال الحاكم: سمع ابن مهران بنيسابور، أبا بكر بن محمد، بن إسحاق، بن خزيمة، وأبا العباس السراج الثقفي، وأبا العباس الماسرجسي. وله من التصانيف: كتاب الشامل، كتاب الغاية، كتاب قراءة أبي عمرو، كتاب غرائب القرآن، كتاب وقوف القرآن، كتاب الانفراد، كتاب شرح المعجم، كتاب شرح التحقيق، كتاب اختلاف عدد السور، كتاب رؤوس الآيات، كتاب الوقف والابتداء، كتاب قراءة عبد الله بن عمرو، كتاب علل كتاب المبسوط، كتاب آيات القرآن، كتاب الاتفاق والانفراد، كتاب المقطع والمبادئ.
قال الحاكم: سمعت أبا بكر بن مهران يقول: قرأت على أبي علي، محمد بن أحمد، بن حامد، الصفار المقرئ، القرآن من أوله إلى آخره، وقال: قرأت القرآن من أوله إلى آخره، على أبي بكر، محمد بن سليمان، بن موسى الهاشمي ببغداد، قال: قرأت على قنبل بن عبد الرحمن، بن محمد ابن خالد، بن سعيد، بن خرجة المكي. وقال: قرأت على أبي الحسن النبال، وأخبرني أنه قرأ على ابن الإخريط وهب بن واضح، وقرأ ابن الإخريط، على إسماعيل بن عبد الله، بن قسطنطين، وقرأ ابن قسطنطين، على شبل بن عباد، ومعروف بن مسكان، فأخبراه أنهما قرأا على عبد الله بن كثير، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الحاكم: ومحمد بن الحسين، بن مهران الأديب، الفقيه الكاتب، أخو أبي بكر، سمع عبد الله بن شيرويه وأقرانه، وسمع الكتب من أبي بكر، محمد بن إسحاق، ابن خزيمة وأقرانه. ومات في شعبان، سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وهو ابن نيف وثمانين سنة.

أحمد بن أبي خالد، أبو سعيد الضرير
البغدادي، رأيت في فوائد أبي الحسين، أحمد بن فارس، بن زكريا اللغوي، صاحب كتاب المجمل ما صورته: وجدت في تفسير أبي موسى، محمد بن المثنى العنزي، ولم أسمعه، حدثني أبو معاوية الضرير، محمد بن حازم، حدثنا إسماعيل، روى عن أبي صالح، هكذا أسماه، وقد سماه السلامي، كما ذكرناه في الترجمة، والذي ترجمناه أصح، لأني رأيته في مواضع أخر موافقاً له، والله أعلم.
قال الأزهري: كان طاهر بن عبد الله، بن طاهر، استقدمه من بغداد إلى خراسان، وقام بنيسابور وأملى بها المعاني، والنوادر، ولقي أبا عمرو الشيباني، وابن الأعرابي، وكان يلقي الأعراب الفصحاء، الذين استوردهم ابن طاهر نيسابور، فيأخذ عنهم، وكان شمر، وأبو الهيثم يوثقانه.
ونقلت من كتاب نتف الطرف، تأليف أبي علي الحسين، بن أحمد السلامي، صاحب كتاب ولاة خراسان، وقد ذكرناه في بابه، قال: خرج أبو سعيد الضرير، عن أبي عبيد، من غريب الحديث جملة مما غلط فيه، وأورد في تفسيره فوائد كثيرة، ثم عرض ذلك على عبد الله بن عبد الغفار، وكان أحد الأدباء، فكأنه لم يرضه، فقال لأبي سعيد: ناوني يدك، فناوله يده، فوضع الشيخ في كفه متاعه، وقال: اكتحل بهذا يا أبا سعيد، حتى تبصر، فكأنك لا تبصر، ثم قال: سمعت أبا جعفر، محمد بن سليمان الشرمقاني قال: سمعت أبا سعيد الضرير يقول، كان يقال: إذا أردت أن تعرف خطأ أستاذك فجالس غيره، وله تصانيف: منها كتاب الرد على أبي عبيد في غريب الحديث، وكتاب الأبيات.

قال السلامي: حدثني أبو العباس، محمد بن أحمد الغضاري، قال: حدثني عمي محمد بن الفضل، وكان قد بلغ مائة وعشرين سنة، قال: لما قدم عبد الله بن طاهر نيسابور، وأقدم معه جماعة من فرسان طرسوس وملطية، وجماعة من أدباء الأعراب، منهم عرام، وأبو العميثل، وأبو الميسجور، وأبو العجنس، وعوسجة، وأبو الغدافر وغيرهم، فتفرس أولاد قواده وغيرهم بأولئك الفرسان، وتأدبوا بأولئك الأعراب، وبهم تخرج أبو سعيد الضرير، واسمه أحمد بن خالد، وكان وافى نيسابور مع عبد الله ابن طاهر، فصار بهم إماماً في الأدب، وقد كان صحب بالعراق أبا عبد الله، محمد بن زياد الأعرابي، وأخذ عنه، فبلغ ابن الأعرابي، أن أبا سعيد يروى عنه أشياء كثيرة مما يفتي فيه، فقال لبعض من لقيه من الخراسانية: بلغني أن أبا سعيد يروي عني أشياء كثيرة، فلا تقبلوا منه ذلك، غير ما يرويه من أشعار العجاج ورؤبة، فإنه عرض ديوانهما علي وصححه.
وحدث عن الغضاري، عن عمه قال: اختصم بعض الأعراب اللذين كانوا مع عبد الله بن طاهر، في علاقة بينهم إلى صاحب الشرطة بنيسابور، فسألهم بينة وشهوداً يعرفون، فأعجزهم ذلك: فقال أبو العيسجور:
إن يبغ منا شهوداً يشهدون لنا ... فلا شهود لنا غير الأعاريب
وكيف يبغي بنيسابور معرفة ... من داره بين أرض الحزن واللوب
قرأت بخط عبد السلام الصري، في كتاب محمد بن أبي الأزهر. قال: حدثني وهب بن إبراهيم، خال عبيد الله، بن سليمان ابن وهب، قال: كنا يوماً بنيسابور في مجلس أبي سعيد العفوف، وكان أبو سعيد عالماً باللغة جداً، إذ هجم علينا مجنون من أهل قم، فسقط على جماعة من أهل المجلس، فاضطرب الناس لسقطته، ووثب أبو سعيد، لا يشك أن آفة لحقتنا من سقوط جدار، أو شرود بهيمة، فلما رآه المجنون على تلك الحال، قال: الحمد لله رب العالمين، على رسلك، يا شيخ لا ترع، آذاني هؤلاء الصبيان، وأخرجوني عن طبعي، إلى ما لا أستحسنه من غيري، فقال أبو سعيد: امتنعوا عنه عافاكم الله، فوثبنا وشردنا من كان ورجعنا، فسكت ساعة لا يتكلم، إلى أن عدنا إلى ما كنا فيه من المذاكرة، وابتدأ بغضنا بقراءة قصيدة من شعر نهشل بن جرير التميمي، حتى بلغ قوله:
غلامان خاضا الموت من كل جانب ... فآبا ولم يعقد وراءهما يد
متى يلقيا قرناً فلا بد أنه ... سيلقاه مكروه من الموت أسود
فما استتم هذا البيت حتى قال: قف يا أيها القارئ، تتجاوز المعنى ولا تسأل عنه، ما معنى قوله: ولم وراءهما يد؟ فأمسك من حضر عن القول، فقال: قل يا شيخ، فإنك المنظور إليه، والمقتدى به، فقال أبو سعيد: يقول: إنهما رميا بأنفسهما في الحرب أقصى مراميها، ورجعا موفورين لم يؤسرا، فتعقد أيديهما كتفاً، فقال: يا شيخ، أترضى لنفسك بهذا الجوب؟ فأنكرنا ذلك على المجنون، فنظر بعضنا إلى بعض، فقال أبو سعيد: هذا الذي عندنا، فما عندك؟ فقال: المعنى يا شيخ، آبا، ولم تعقد يد بمثل فعلهما بعدهما، لأنهما فعلا ما لم يفعله أحد، كما قال الشاعر:
قرم إذا عدت تميم معاً ... ساداتها عدوه بالخنصر
ألبسه الله ثياب الندى ... فلم تطل عنه ولم تقصر
أي خلقت له، وقريب من الأول قوله:
قومي بنو مذحج من خير الأمم ... لا يصعدون قدماً على قدم
يعني أنهم يتقدمون الناس، ولا يطئون على عقب أحد، وهذان فعلا ما لم يعطه أحد، فلقد رأيت أبا سعيد وقد احمر وجهه، واستحيا من أصحابه، ثم غطى المجنون رأسه، وخرج وهو يقول: يتصدرون ويغرون الناس من أنفسهم، فقال أبو سعيد بعد خروجه: اطلبوه، فإني أظنه إبليس، فطلبناه فلم نظفر به.
قال الشافعي: حدثني أبو جعفر الشرمقاني قال: كان أبو سعيد الضرير مثرياً ممسكاً، لا يكسر رأس رغيف له، إنما يأكل عند من يختلف إليهم، لكنه كان أديب النفس، عاقلاً.

حضر يوماً مجلس عبد الله بن طاهر، فقدم إليه طبق عليه قصب السكر، وقد قشر وقطع كاللقم، فأمره عبد الله ابن طاهر أن يتناول منه، فقال أبو سعيد: إن لهذا لفاظة ترتجع من الأفواه، وأنا أكره ذلك في مجلس الأمير، - أيده الله - فقال عبد الله: تناول، فليس بصاحبك من احتشمك واحتشمته، أما إنه لو قسم عقلك على مائة رجل، لصار كل رجل منهم عاقلاً، وقيل: إن هذا الكلام جرى بين الضرير، وبين أبي دلف في مجلسه. وحدث قال: حدثني الغضاري قال: كان أبو سعيد الضرير، يختار المؤدبين لأولاد قواد عبد الله بن طاهر، ويبين مقدار أرزاقهم، ويطوف عليهم، ويتعهد من بين أيديهم من أولئك الصبيان، فاستقبله يوماً في ميدان الحسين بعض أولئك المؤدبين، فقال له: يا فلان، من أين وجهك؟ قال: من شاذياخ. قال زد فيه ألفاً ولاماً، فقال من شاذيا خال، فقال أبو سعيد: اللهم غفراً، زدهما في أول الحرب، ويلك، فقال: ألف لام شاذياخ، فقال صم صداك، كم رزقك؟ قال سبعين درهماً، فقال: يصرف ويبدل به غيره، وهو صاغر صد.
وحدث الحاكم في كتاب نيسابور: سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول: سمعت أبي يقول: لما قلد المأمون عبد الله بن طاهر ولاية خراسان، سنة سبع عشرة ومائتين، وناوله العهد بيده قال: حاجة يا أمير المؤمنين، قال: مقضية، قال: يسعفني أمير المؤمنين في استصحاب ثلاثة من العلماء، قال: من هم؟ قال: الحسين ابن الفضل البجلي، وأبو سعيد الضرير، وأبو إسحاق القرشي. فأجابه إلى ذلك، فقال عبد الله: وطبيب يا أمير المؤمنين، فليس في خراسان طبيب حاذق. قال: من؟ قال: أيوب الرهاوي. فقال يا أبا العباس: لقد أسعفناك بما التمسته. قود أخليت العراق من الأفراد، قال: فقدم الحسن بن الفضل بنيسابور، وابتاع بها داراً مشهورة بباب غزرة، فبقي يعلم الناس العلم، ويفتي، إلى أن مات في شعبان، سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وهو ابن مائة سنة وأربع سنين، ودفن في مقبرة الحسين ابن معاذ، قال: ولو كان في بني إسرائيل لكان من عجائبهم، يعني الحسين بن الفضل. ذكر ذلك كله في ترجمة الحسين بن الفضل.
قرأت بخط الأزهري من كتاب نظم الجمان للمنذري، سمعت أبا عبد الله المعقلي المزني يقول: سمعت أبا سعيد الضرير يقول: كنت أعرض على ابن الأعرابي أصول الشعر، أصلاً أصلاً، وعرض عليه - وأنا أحضر - شعر الكميت في المجالس التي كان يحضرها، قال: فحفظته بعضره، وحفظت النكت التي أفاد فيها، فقال لي ابن الأعرابي يوماً: لم تعرض عليّ فيما عرضت شعر الكميت، فقلت له: عرضه عليك فلان فحفظته بعرضه، وحفظت ما أفدت فيه من الفوائد والنكت والمعاني، وجعلت أنشده، وأعرفه من تلك النكت، فعجب.
وقال أبو سعيد الضرير: سألني أبو دلف عن بيت امرئ القيس:
كبكر المقاناة البياض بصفرة
قال: أخبرني عن البكر، هي المقاناة أم غيرها؟ قال: قلت هي هي: قال: أفيضاف الشيء إلى صفته؟ قلت: نعم، قال: وأين؟ قلت: قد قال الله تعالى: " ولدار الآخرة " فأضاف الدار إلى الآخرة، وهي هي بعينها، والدليل على ذلك، أنه قال في سورة أخرى: " وللدار الآخرة " قال: أريد أشفى من هذا؟ فأنشدته لجرير:
يا ضب إن هوى القيون أضلكم ... كضلال شيعة أعور الدجال

أحمد بن داود بن وتند
أبو حنيفة الدينوري، أخذ عن البصريين والكوفيين، وأكثر أخذه عن ابن السكيت. وكان نحوياً لغوياً، مهندساً منجماً حاسباً، راوية ثقة فيما يرويه ويحكيه. مات في جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وجدت ذلك على ظهر كتاب النبات من تصنيفه، ووجدت في كتاب عتيق: مات أحمد بن داود أبو حنيفة الدينوري. قبل سنة تسعين ومائتين، ثم وجدت على ظهر النسخة التي بخط ابن المسبح، بكتاب النبات، من تصنيف أبي حنيفة، توفي أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري، ليلة الاثنين، لأربع بقين من جمادى الأولى، سنة ثمانين ومائتين، ووجدت في كتاب الوفيات، لأبي عبد الله محمد بن سفيان بن هارون، بن بنت جعفر، بن محمد الفريابي البغدادي، مات أبو حنيفة أحمد بن داود، بن وتند، صاحب كتاب النبات، في سنة إحدى وثمانين ومائتين.

قال أبو حيان في كتاب تقريظ الجاحظ: ومن خطه الذي لا أرتاب فيه نقلت، قال: قلت لأبي محمد الأندلسي، يعني عبد الله بن حمود الزبيدي، وكان من عدد أصحاب السيرافي، وله في هذا الكتاب ذكر، قد اختلفت أصحابنا في مجلس أبي سعيد السيرافي، في بلاغة الجاحظ، وأبي حنيفة صاحب النبات، ووقع الرضا بحكمك، فما قولك؟ فقال أنا أحقر نفسي عن الحكم لهما وعليهما، فقال: لابد من قول. قال: أبو حنيفة أكثر ندارة، وأبو عثمان أكثر حلاوة، ومعاني أبي عثمان لائطة بالنفس، سهلة في السمع، ولفظ أبي حنيفة أعذب وأغرب، وأدخل في أساليب العرب، قال أبو حيان: والذي أقول وأعتقد وآخذ به، وأسنهم عليه، أني لم أجد في جميع من تقدم وتأخر ثلاثة: لو اجتمع الثقلان على تقريظهم، ومدحهم، ونشر فضائلهم، في أخلاقهم وعلمهم، ومصنفاتهم ورسائلهم، مدى الدنيا إلى أن يأذن الله بزوالها، لما بلغوا آخر ما يستحقه كل واحد منهم، أحدهم: هذا الشيخ، الذي أنشأنا له هذه الرسالة، وبسببه جشمنا هذه الكلفة، أعني أبا عثمان، عمرو بن بحر. والثاني: أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري، فإنه من نوادر الرجال، جمع بين حكمة الفلاسفة، وبيان العرب، له في كل فن ساق وقدم، ورواء وحكم، وهذا كلامه في الأنواء، يدل على حظ وافر من علم النجوم، وأسرار الفلك، فأما كتابه في النبات فكلامه فيه، في عروض كلام آبدي بدوي، وعلى طباع أفصح عربي، ولقد قيل لي: إن له في القرآن كتاباً، يبلغ ثلاثة عشر مجلداً، ما رأيته، وإنه ما سبق إلى ذلك النمط، هذا مع ورعه وزهده، وجلالة قدره، وقد وقف الموفق عليه، وسأله وتحفى به. والثالث: أبو زيد أحمد بن سهل البلخي، فإنه لم يتقدم له شبيه في الأعصر الأول، ولا يظن أنه يوجد له نظير في مستأنف الدهر، ومن تصفح كلامه في كتاب أقسام العلوم، وفي كتاب أخلاق الأمم، وفي كتاب نظم القرآن، وفي كتاب اختيار السير، وفي رسائله إلى إخوانه، وجوابه عما يسأل عنه، ويبده به، علم أنه بحر البحور، وأنه عالم العلماء، وما رئي في الناس، من جمع بين الحكمة والشريعة سواه، وإن القول فيه لكثير، ولو تناصرت إلينا أخبارهما، لكنا نحب أن نفرد لكل واحد منهما تقريظاً مقصوراً عليه، وكتاباً منسوباً إليه، كما فعلت بأبي عثمان.
قرأت في كتاب ابن فرجة: المسمى بالفتح، على أبي الفتح، في تفسير قول المتنبي:
فدع عنك تشبيهي بما وكأنه ... فما أحد فوقي وما أحد مثلي
وقال فيه: ما لم يرضه ابن فرجة، ونسبه إلى أنه سأل عنه أبا الطيب، فأجاب بهذا الجواب، فأورد ابن فرجة هذه الحكاية: زعموا أن أبا العباس المبرد ورد الدينور زائراً لعيسى ابن ماهان، فأول ما دخل عليه وقضى سلامه، قال له عيسى: أيها الشيخ، ما الشاة المثمة، التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحمها؟ فقال هي الشاة القليلة اللبن، مثل اللجبة. فقال: هل من شاهد؟ قال: نعم قول الراجز:
لم يبق من آل الحميد نسمه ... إلا عنيز لجبة مجثمهْ

فإذا بالحاجب يستأذن لأبي حنيفة الدينوري، فلما دخل، قال له: أيها الشيخ، ما الشاة المجثمة، التي نهينا عن أكل لحمها؟ فقال: هي التي جثمت على ركبها وذبحت من خلف قفاها، فقال: كيف تقول؟ وهذا شيخ العراق، يعني أبا العباس المبرد يقول: هي مثل اللجبة، وهي القليلة اللبن، وأنشده البيتين، فقال أبو حنيفة: أيمان البيعة تلزم أبا حنيفة، إن كان هذا التفسير، سمعه هذا الشيخ أو قرأه، وإن كان البيتان إلا لساعتهما هذه، فقال: صدق الشيخ أبو حنيفة، فإنني أنفت أن أرد عليك من العراق، وذكري ما قد شاع، فأول ما تسألني عنه لا أعرفه، فاستحسن منه هذا الإقرار، وترك البهت قال ابن فرجة: وأنا أحلف بالله العلي، إن كان أبو الطيب قط سئل عن هذا البيت، فأجاب هذا الجواب، الذي حكاه ابن جني، وإن كان إلا متزيداً مبطلاً فيما يدعيه، - عفا الله عنه، وغفر له - فالجهل والإقرار به أحسن من هذا، وذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: وله من الكتب المصنفة: كتاب الباه، كتاب ما يلحن فيه العامة، كتاب الشعر والشعراء، كتاب الفصاحة، كتاب البحث في حساب الهند، كتاب الجبر والمقابلة، كتاب البلدان كبير، كتاب النبات، لم يصنف في معناه مثله، كتاب الرد على لغزة الأصفهاني، كتاب الجمع والتفريق، كتاب الأخبار الطوال، كتاب الوصايا، كتاب نوادر الجبر، كتاب إصلاح المنطق، كتاب القبلة والزوال، كتاب الكسوف، قال أبو حيان: وله كتاب في تفسير القرآن.

أحمد بن رشيق الأندلسي
الكاتب أبو العباس، ذكره الحميدي وقال: كان أبوه من موالي بني شهيد، ونشأ هو بمرسية، وانتقل إلى قرطبة، وطلب الأدب وبرز فيه، وبسق في صناعة الرسائل، مع حسن الخط المتفق على نهايته، وتقدم فيهما وشارك في سائر العلوم، ومال إلى الفقه والحديث، وبلغ من رياسة الدنيا أبلغ منزلة، وقدمه الأمير الموفق أبو الجيش مجاهد بن عبد الله العامري على كل من في دولته، لأسباب أكدت له ذلك عنده، من المودة والثقة، والنصيحة والصحبة في النشأة، وكان ينظر في أمور الجهة التي كان فيها نظر العدل والسياسة، ويشتغل بالفقه والحديث، ويجمع العلماء والصالحين ويؤثرهم، ويصلح الأمور جهده، وما رأينا من أهل الرياسة من يجري مجراه، من هيبة مفرطة، وتواضع وحلم عرف به، مع القدرة، مات بعد الأربعين وأربعمائة، عن سن عالية، وله كتاب رسائل مجموعة متداولة، منها رسالة إلى أبي عمران موسى بن عيسى بن أبي حاج نجح الفاسي، وأبي بكر بن عبد الرحمن فقيهي القيروان في الإصلاح بينهما، وكتاب على تراجم كتاب الصحيح للبخاري، ومعاني ما أشكل منه، وقد رأيته غير مرة إذا غضب في مجلس الحكم أطرق ثم قام، ولم يتكلم بين اثنين، فظننته كان يذهب إلى حديث أبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحكم حاكم بين اثنين وهو غضبان " وظننت أن قيامه عند الغضب شيء ما سبق إليه، حتى رأيت بعض المصنفين القدماء قد حكى عن يزيد بن أبي حبيب أنه قال: إنما غضبي في نعلي، إذا سمعت ما أكره أخذتهما ومضيت.
أ؛مد بن رضوان أبو الحسن
النحوي، أظنه ممن أخذ النحو عن أصحاب أبي علي الفارسي.
أحمد بن زهير أبو خيثمة
هو أبو بكر، أحمد بن أبي خيثمة، زهير بن حرب، ابن شداد، النسائي الأصل، سمع أبا نعيم الفضل ابن دكين، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وأخذ علم النسب عن مصعب بن عبد الله الزبيري، وأيام الناس عن أبي الحسن المدائني، والأدب عن محمد بن سلام الجمحي، ومات في شوال سنة تسع وسبعين ومائتين، في خلافة المعتمد على الله، عن أربع وتسعين سنة، ذكر ذلك كله الخطيب، قال: وله كتاب التاريخ الذي أحسن تصنيفه، وكثر فائدته، قال: ولا أعرف أغزر فوائد من كتاب التاريخ الذي ألفه أحمد بن خيثمة، وكان لا يرويه إلا على الوجه، فسمعه منه الشيوخ الأكابر، كأبي القاسم البغوي ونحوه، قال: واستعار أبو العباس ابن محمد بن إسحاق السراج من أبي بكر بن أبي خيثمة شيئاَ من التاريخ، فقال: يا أبا العباس علي يمين أن لا أخذت بهذا الكتاب إلا على الوجه، فقال أبو العباس وعلي عزيمة أن لا أكتب إلا ما اشتهيه فرده عليه، ولم يحدث في تاريخه عنه بحرف، وأنشد الخطيب لابن أبي خيثمة:
قالوا اهتجارك من تهواه تسلاه ... فقد هجرت فما لي لست أسلاه

من كان لم ير في هذا الهوى أثراً ... فليلقني ليرى آثار بلواه
من يلقني يلق مرهوناً بصبوته ... متيماً لا يفك الدهر قيداه
متيم شفه بالحب مالكه ... ولو يشاء الذي أدواه داواه
قال الخطيب: وكان ابن أبي خيثمة كبير الكتاب، أكثر الناس عنه السماع.
في كتاب الفرغاني: أنه مات سنة سبع وتسعين، قال: وفي آخر شوال مات ابن أبي خيثمة صاحب التاريخ من سكتة، وكانت له معرفة بأخبار الناس وأيامهم، وله مذهب، كان الناس ينسبونه إلى القول بالقدر، وكان مختصاً بعلي بن عيسى.

أحمد بن سعد أبو الحسين الكاتب
ذكره حمزة في أهل أصبهان، فقال ندب في أيام القاهر بالله إلى عمل الخراج أبو الحسين أحمد بن سعد، فورد أصبهان غرة جمادى الأولى، سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وعزل عنها أبو علي بن رستم في جمادى الآخرة من هذه السنة، ثم قدم أبو الحسين بن سعد من فارس متقلداً لتدبير البلد، وعمل الخراج، من قبل الأمير علي ابن بويه، يعني عماد الدولة، في جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، ثم صرف في سنة أربع وعشرين. قال: ثم رد جباية الخراج في أربع وعشرين إلى أبي القاسم سعد بن أحمد بن سعد، قال ثم إن أبا الحسين عزل في شوال من هذه السنة، لم يذكره بعد ذلك، وعد فضلاء أصبهان من أصحاب الرسائل، ثم قال: وأما أبو مسلم محمد، وأبو الحسين أحمد بن سعد، فقد استغنينا بشهرة هذين وبعد صوتهما في كور المشرق والمغرب، وعند كتاب الحضرة، وإجماع أهل الزمان على فضلهما عن وصفهما، وعامة الرسائل لهما، ثم ذكره في المصنفين فقال: له من الكتب، كتاب الاختيار من الرسائل، لم يسبق إلى مثله، وكتاب آخر في الرسائل، سماه فقر البلغاء، وكتاب الحلي والثياب، وكتاب المنطق، وكتاب الهجاء، قرأت في كتاب عتيق.
حدثني شيخ كبير قال: تنبأ في مدينة أصبهان رجل في زمن أبي الحسين بن سعد، فأتي به، وأحضر العلماء والعظماء والكبراء كلهم فقيل له من أنت؟ فقال: أنا نبي مرسل، فقيل له: ويلك: إن لكل نبي آية، فما آيتك وحجتك؟ فقال: ما معي من الحجج لم يكن لأحد قبلي من الأنبياء والرسل، فقيل له: أظهرها: فقال: من كان منكم له زوجة حسناء، أو بنت جميلة، أو أخت صبيحة، فليحضرها إلي أحبلها بابن في ساعة واحدة، فقال أبو الحسين بن سعد: أما أنا فأشهد أنك رسول، وأعفني من ذلك، فقال له رجل: نساء ما عندنا: ولكن عندي عنز حسناء، فأحبلها لي: فقام يمضي، فقيل له إلى أين؟ قال أمضي إلى جبرائيل وأعرفه أن هؤلاء يريدون تيساً، ولا حاجة بهم إلى نبي، فضحكوا منه وأطلقوه وأنشد للإصبهاني أبي الحسين هذا أشعاراً منها في جواب معمى:
رماني أخ أصفي له الود جاهداً ... ومن يتطوع بالمودة يحمد
بداهبة تعيي على كل عالم ... بوجه المعمى بالصواب مؤيد
وحمل سرب الوحش والطير سره ... وأرسلها تكرا ببيداء قردد
فانهضت قلبي وهو في نفس جارح ... ومن يغد يوماً بالجوارح يصطد
فحاش لي الصنفين من بين أرنب ... يقود الوحوش طائعات وهدهد
يسوق لنا أسراب طير تتابعت ... على نسق مثل الجمان المنضد
ومزقتها بالزجر حتى تحولت ... وعادت عباديداً بشمل مبدد
وراوضتها بالفكر حتى تذللت ... فمن مسمح طوعاً ومن متجلد
فأخرجت السر الخفي وأنشدت ... قريض رهين بالصبابة ذي دد
وإني وإياها لكالخمر والفتى ... متى يستطع منها الزيادة يزدد
وله في الفضل محمد بن الحسين بن العميد:
البين أفردني بالهم والكمد ... والبين جدد حر الثكل في كبدي
فارقت من صار لي من واحدي عوضاً ... يا رب لا تجعلنها فرقة الأبد
أمسك حشاشة نفسي أن يطيف بها ... كيد من الدهر بعد الفقد للولد
لا في الحياة فإني غير مغتبط ... بالعيش بعد انقصاف الظهر والعضد
بل ابق لي الخلف المأمول حيطته ... على عيال وأطفال ذوي عدد
من أن يروا ضيعة في عرصة البلد ... وأن يروا نهزة في كف مضطهد

ربي رجائي وحسب المرء معتمداً ... نجل العميد وصنع الواحد الصمد
وله إلى أبي الحسين بن لرة، في مملوك له أسود كان تبناه:
حذر فديتك بشرى من تبرزه ... إني أخاف عليه لفعة العين
إذا بدت لك منه طرة سبلت ... على الجبين وتحريف كنونين
حسبت بدراً بدا تما فأكلفه ... غمامة نشرت في الأرض ثوبين
كأنما خط في أصداغه قلم ... بالحبر خطين جاءا نحو قوسين
لكن ذلك منه غير دافعه ... عن القبول وعن بعد من الشين
وهذه قطعة شعر لأبي الحسين بن سعد على أربع قواف كلما أفردت قافية كان شعراً برأسه إلى آخر الأبيات.
وبلدة قطعتها بضامر ... خفيدد عيرانة ركوب
وليلة سهرتها لزائر ... ومسعد مواصل حبيب
وقينة وصلتها بطاهر ... مسود ترب العلا نجيب
إذا غوت أرشدتها بخاطر ... مسدد وهاجس مصيب
وقهوة باكرتها لفاجر ... ذي عتد، في دينه وروب
سورتها كسرتها بماطر ... مبرد من جمة القليب
وحرب خصم بختها بكائر ... ذي عدد في قومه مهيب
معوداً بل سفتها بباتر ... مهند يفري الطلى رسوب
وكم حظوظ نلتها من قادر ... ممجد بصنعة القريب
كافية إذ شكرتها في سامر ... ومشهد للملك الرقيب

أحمد بن سعيد بن عبد الله الدمشقي
أبو الحسن، نزل ببغداد، وحدث عن الزبير بن بكار بالموفقيات وغيرها من مصنفاته، وكان مؤدب ولد المعتز، واختص بعبد الله بن المعتز، روى عنه إسماعيل الصفار وغيره، وكان صدوقاً، مات سنة ست وثلاثمائة، ذكره المرزباني في كتابه، فقال: أبو بكر محمد ابن القاسم الأنباري: حدثني أحمد بن سعيد، قال: كنت أؤدب أولاد المعتز، فتحمل أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري على قبيحة أم المعتز بقوم سألوها أن تأذن له في أن يدخل إلى ابن المعتز وقتاً من النهار، فأجابت أو كادت تجيب، فلما اتصل الخبر بي جلست في منزلي غضبان مفكراً لما بلغني عنها، فكتب إلي أبو العباس عبد الله بن المعتز، وله ثلاث عشرة سنة.
أصبحت يا ابن سعيد حزت مكرمة ... عنها يقصر من يحفى وينتعل
سربلتني حكمة قد هذبت شيمي ... وأججت غرب ذهني فهو مشتعل
أكون إن شئت قسا في خطابته ... أو حارثاً وهو يوم الفخر مرتجل
وإن أشأ فكزيد في فرائضه ... أو مثل نعمان ما ضاقت بي الحيل
أو الخليل عروضياً أخا فطن ... أو الكسائي نحوياً له علل
تغلي بداهة ذهني في مركبها ... كمثل ما عرفت آبائي الأول
وفي فمي صارم ما سله أحد ... من غمده فدرى ما العيش والجذل
عقباك شكر طويل لا نفاد له ... تبقى معالمه ما أطت الإبل
قس: هو ابن ساعدة الإيادي، والحارث بن حلزة، كان ارتجل قصيدة آذنتنا ببينها، وزيد بن ثابت الأنصاري، والنعمان: أبو حنيفة، صاحب الرأي والفقه، وحدث أيضاً قال: كتب ابن المعتز إلى أحمد بن سعيد الدمشقي واباً عن كتاب استزاده فيه: قيد نعمتي عندك بمثل ما كنت استدعيتها به، وذب عنها أسباب الظن، واستدم ما تحب مني، بما أحب منك.
وكتب ابن المعتز إلى الدمشقي، جواباً عن اعتذار كان من الدمشقي، في شيء بلغ ابن المعتز عنه: والله لا قابل إحسانك مني كفر، ولا تبع إحساني إليك من فلك مني يد لا أقبضها عن نفعك، وأخرى لا أبسطها إلى ظلمك، ما يسخطني فإني أصون وجهك عن ذل الاعتذار.
أحمد بن سعيد بن شاهين
البصري، أبو العباس، هو أحمد بن سعيد بن شاهين ابن علي بن ربيعة: ذكره محمد بن إسحاق النديم، فقال هو من أهل الأدب، وله من الكتب: كتاب ما قالته العرب، وكثر في أفواه العامة.
أحمد بن سعيد بن حزم

الصدفي الأندلسي المنتجيلي، أبو عمر، ذكره الحميدي فقال: سمع بالأندلس جماعة منهم محمد بن أحمد الزراد، وذكره غيره، ورحل فسمع إسحاق بن إبراهيم بن النعمان، وأحمد بن عيسى المصري، المعروف بابن أبي عجينة، وغيرهما وألف كتاب تاريخ الرجال، كبيراً، جمع فيه جميع ما أمكنه من أقوال الناس في أهل العدالة والتجريح سمعه منه خلف بن أحمد، المعروف بابن أبي جعفر، وأحمد بن محمد الأشبيلي، المعروف بابن الحزاز، قال ابن عبد البر: ويقال إنه لم يكمل سماعه إلا لهما، ومات أبو عمر الصدفي سنة خمسين وثلاثمائة، كل هذا من كتاب الحميدي، وذكر بعض الناس أنه من ولد جعفر بن الحارث، من أهل قرطبة، ويكنى أبا عمرو، عني بالآثار والسنن، وجمع الحديث والتاريخ، وروى عنه جماعة بالأندلس، منهم أحمد بن ثوابة، وأسلم بن عبد العزيز، وطبقتهم، ورحل إلى المشرق، سنة إحدى عشرة وثلاثمائة مع أحمد ابن عبادة ارعيني، فسمع بمكة من أبي جعفر العقبلي، وأبي بكر بن المنذر صاحب الإشراق، والديبلي أبي جعفر، محمد بن إبراهيم، وأبي سعيد بن الأعرابي وغيرهم، وسمع بمصر على جماعة، منهم أبو عبد الله محمد بن الربيع بن سليمان، وبالقيروان من أحمد بن نصر، ومحمد بن محمد ابن اللباد، ثم انصرف إلى الأندلس، فصنف تاريخاً في المحدثين، بلغ فيه الغاية قرئ عليه، ولم يزل يحدث إلى أن مات، ليلة الخميس لتسع بقين من جمادى الآخرة سنة خمسين وثلاثمائة، ومولده يوم الجمعة لخمس خلون من شهر ربيع الآخر سنة أربع وثمانين ومائتين.

أحمد بن سليمان الطوسي أبو عبد الله
هو أبو عبد الله، أحمد بن سليمان بن داود بن محمد ابن العباس الطوسي، واسم أبي العباس الفضل بن سليمان بن المهاجر، بن سنان بن حكيم، وكان فاضلاً مات فيما ذكره الخطيب في صفر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة عن ثلاث وثمانين سنة. قال ابن شاذان: قال الطوسي ولدت سنة أربعين ومائتين، روى عنه أبو حفص ابن شاهين، وأبو الفرج الإصبهاني صاحب كتاب الأغاني وأبو عبيد الله المرزباني وكان صدوقاً.
حدث ابن طاهر المباشر أبو عبد الله المعروف بقنينة سمعت الخضر بن داود بمكة يقول: قدم علينا سليمان ابن داود الطوسي وهو على البريد، وكان الزبير قد فرغ من كتاب النسب، فأهدى إليه الطوسي هدايا كثيرة، فأهدى إليه الزبير كتاب النسب، فقال له سليمان: أحب أن تقرأه علي، فقرأه عليه، وسمع ابنه أحمد ابن سليمان مع أبيه جميع الكتاب، فروى عنه أبو بكر ابن شاذان، وأبو حفص بن شاهين، وأبو عبد الله المرزباني والمخلص.
أحمد بن سليمان بن وهب
ابن سعيد الكاتب، أبو الفضل، وأبوه أبو أيوب سليمان بن وهب الوزير، وعمه الحسن بن وهب معروفان مشهوران، مذكوران في هذا الكتاب، ونسب هذا البيت مستقصى في ترجمة الحسن بن وهب، مات فيما ذكره أبو عبد الله في كتاب معجم الشعراء في سنة خمس وثمانين ومائتين، وكان أبو الفضل هذا بارعاً فاضلاً ناظماً ناثراً، قد تقلد الأعمال، ونظر للسلطان في جباية الأموال، وأخوه عبيد الله بن سليمان، والقاسم بن عبيد الله وزير المعتضد والمكتفي، ولأحمد من التصنيفات: كتاب ديوان شعره، وكتاب ديوان رسائله.
حدث لاصولي قال: وجدت بخط بعض الكتاب أن أحمد ابن سليمان سأل صديقاً له حاجة فلم يقضها له فقال:
قل لي نعم مرة إني أسر بها ... وإن عداني ما أرجوه من نعم
فقد تعودت لا حتى كأنك لا ... تعد قولك لا إلا من الكرم
قال: وحدثني الطالقاني: كنا عند أحمد بن سليمان على شرب، ومعنا رجل من الهاشميين ورجل من الدهاقين، فعربد الهاشمي علي الدهقان، فأنشد أحمد بن سليمان:
إذا بدأ الصديق بيوم سوء ... شفكن منه لآخر ذا ارتقاب

وأمر بإخراج الهاشمي، فقال له: أتخرجني وتدع نبطياً؟ فقال، نعم: رأس كلب أحب إلي من ذنب أسد، وحدث عن الحسين بن إسحاق قال: كنت عند أحمد بن سليمان بن وهب. ونحن على شراب، فوافته رقعة فيها أبيات مدح، فكتب الجواب فنسخته، ولم أنسخ الرقعة الواردة عليه، وكان جوابه: وصلت رقعتك - أعزك الله - فكانت كوصل بعد هجر، وغنىً بعد فقر، وظفر بعد صبر، ألفاظها در مشوف ومعانيها جوهر مرصوف، وقد اصطحبا أحسن صحبة، وتألفا أقرب ألفة، لا تمجها الآذان، ولا تتعب بها الأذهان، وقرأت في آخرها من الشعر ما لم أملك نفسي أن كتبت لجلالته عندي، وحسن موقعه من نفسي، بما لا أقوم به مع تحيف الصهباء لبي، وشربها من عقلي، مقدار شربي، ولكني واثق منك بطي سيئتي ونشر حسنتي:
نفسي فداؤك يا أبا العباس ... وافى كتابك بعد طول اليا
وافى وكنت بوحشتي متفرداً ... فأصارني للجمع والإيناس
وقرأت شعرك فاستطلت لحسنه ... فخراً على الخلصاء والجلاس
عاينت منه عيون وشي سديت ... ببدائع في جانب القرطاس
فاقت دقائقه وجل لحسنه ... عن أن يحد بفطنة وقياس
شعر كجري الماء يخرج لفظه ... من حسن طبعك مخرج الأنفاس
لو كان شعر الناس جسماً لم يكن ... لكماله إلا مكان الراس
وكان لأحمد خادم يقال له عرام، ويكنى أبا الحسام، وكان يهواه جداً، فخرج مرة إلى الكوفة بسبب رزقه مع إسحق بن عمران، فكتب إلى إسحق:
دموع العين مذروفهْ ... ونفس الصب مشغوفهْ
من الشوق إلى البدر ال ... ذي يطلع بالكوفهْ
فلما قرأ كتابه وفاه رزقه، وأنفذه إليه سريعاً، ومن كلامه: النعم أيدك الله ثلاث، مقيمة، ومتوقعة، ويغر محتسبة، فحرس الله لك مقيمها، وبلغك متوقعها، وآتاك ما لم تحتسب منها.
قال: ودخل أحمد بن سليمان إلى صديق له، ولم يره كما ظن من السرور، فدعا بدواة وكتب:
قد أتيناك زائرين خفافاً ... وعلمنا بأن عندك فضله
من شراب كأنه دمع مرها ... ء أضأت لها من الهجر شعلهْ
ولدينا من الحديث هنات ... معجبات نعدها لك جمله
إن يكن مثل ما تريد وإلا ... فاحتملنا فإنما هي أكله
ومن مشهور شعره، الذي لا تخلو مجاميع أهل الفضل منه قوله يصف السرو من أبيات، وربما نسبوه إلى غيره،
حفت بسرو كالقيان تلحفت ... خضر الحرير على قوام معتدل
فكأنها والريح حين تميلها ... تبغي التعانق ثم يمنعها الخجل
وكتب في صدر كتاب إلى ابن أخيه، الحسن بن عبيد الله بن سليمان:
يا ابني ويا ابن أخي الأدنى ويا ابن أبي ... والمرتدي برداء العقل والأدب
ومن يزيد جناحي من قواك به ... ومن إذا عد مني زان لي حسبي
ومن منثوره كتب إلى ابن أبي الإصبع: لو أطعت الشوق إليك، والنزاع نحوك، لكثر قصدي لك، وغشياني إياك، مع العلة القاطعة عن الحركة، الحائلة بيني وبين الركوب، فالعلة إن تخلفت مخلفتي، وإيثار التخفيف يؤخر مكاتبتي، فأما مودة القلب، وخلوص النية، ونقاء الضمير، والاعتداد بما يجدده الله لك من نعمة، ويرفعك إليه من درجة، ويبلغك إياه من رتبة، فعلى ما يكون عليه الأخ الشقيق، وذو المودة الشفيق، وأرجو أن يكون شاهدي على ذلك من قلبك أعدل الشهود، ووافدي بإعلامك إياه أصدق الوفود، وبحسب ذلك انبساطي إليك في الحاجة، تعرض قبلك، ويعنى بالنجاح منها عند، وعرضت حاجة ليس تمنعني قلتها من كثير الشكر عليها، والاعتداد بما يكون من قضائك إياها، وقد حملتها يحيى لتسممها منه، وتتقدم بما أحب فيها، جارياً على كرم سجيتك، وعادة تفضلك، إن شاء الله.

وكتب إلى أخيه الوزير، عبيد الله، وقد سافر ولم يودعه، - أطال الله بقاء الوزير - مصحباً له السلامة الشاملة والغبطة المتكاملة، والنعم المتظاهرة، والمواهب المتواترة، في ظعنه ومقامه، وحله وترحاله، وحركته وسكونه، وليله ونهاره، وعجل إلينا أوبته، وأقر عيوننا برجعته، ومتعنا بالنظر إليه: كان شخوص الوزير - أعزه الله - في هذه المدة يغتة، أعجل عن توديعه فزاد ذلك في ولهي، وإضرام لوعتي، واشتدت له وحشتي، وذكرت قول كثير:
وكنتم تزينون البلاد ففارقت ... عشية بنتم زينها وجمالها
فقد جعل الراضون إذ أنتم لها ... بخصب البلاد يشتكون وبالها
والوزير - أعزه الله - يعلم ما قيل في يحيى بن خالد:
ينسى صنائعه ويذكر وعده ... ويبيت في أمثاله يتفكر
وكتب إلى صديق له: ليس عن الصديق المخلص، والأخ المشارك، في الأحوال كلها مذهب ولا وراءه، للواثق به مطلب، والشاعر يقول:
وإذا يصيبك واحوادث جمة ... حدث حداك إلى أخيك الأوثق
وأنت الأخ الأوثق، والولي المشفق، والصديق الوصول، والمشارك في المكروه والمحبوب، قد عرفني الله من صدق صفائك، وكرم وفائك، على الأحوال المتصرفة، والأزمنة المتقلبة، ما يستغرق الشكر، ويستعبد الحر، وما من يوم يأتي علي إلا وثقتي بك تزداد استحكاماً، واعتمادي عليك يزداد توكداً والتياماً، أنبسط في حوائجي، وأثق بنجح مسألتي، والله أسأل لك طول البقاء، في أدوم النعمة وأسبغها وأكمل العوافي وأتمها، وألا يسلب الدنيا نضرتها بك، وبهجتها ببقائك، فما أعرف بهذا الدهر المتنكر في حالاته، حسنة سواك، ولا حيلة غيرك، فأعيذك بالله من العيون الطامحة، والألسنة القادحة وأسأله أن يجعلك في حرزه الذي لا يرام، وكنفه الذي لا يضام، وأن يحرسك بعينه التي لا تنام، إنه ذو المن والإنعام.

أحمد بن سليمان المعيدي
أبو الحسين، ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: روى عن علي بن ثابت، عن أبي عبيد، وعن ابن أخيه أبي الوزير، عن الأعرابي، روى عنه أبو بكر محمد بن الحسين، بن مقسم، وخطه يرغب فيه: وهو أحد العلماء المشاهير الثقات، قرأت بخط ابن أبي نواس. قال: أبو عمر ابن حيويه قال لي أبو عمران: مات المعيدي ليلة الأربعاء ودفن يوم الأربعاء لثمان بقين من صفر سنة اثنتين وتسعين ومائتين.
أحمد بن سهل البلخي أبو زيد
كان فاضلاً، قائماً بجميع العلوم القديمة والحديثة، يسلك في مصنفاته طريقة الفلاسفة، إلا أنه بأهل الأدب أشبه، وكان معلماً للصبيان، ثم رفعه العلم إلى مرتبة علية، كما اقتصصنا في أخباره، وقد وصفه أبو حيان في كتابه، في تقريظ الجاحظ، بوصف ذكرته في أخبار أبي حنيفة أحمد بن داود، فاحتسبت به كعادتي في الإيجاز، وترك التكرير، مات في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة على ما أذكره فيما بعد، عن سبع أو ثمان وثمانين سنة.

حكي عنه أنه قال: كان الحسين بن علي المروروزي، وأخوه وأنا صعلوك يجريان علي صلات معلومة دائمة، فلماصنفت كتابي في البحث عن التأويلات قطعاها عني، وكان لأبي علي محمد بن أحمد بن جيهان من خرخان الجيهاني، وزير نصر بن أحمد الساماني جوار يدرها علي، فلما أمليت كتاب القرابين والذبائح حرمنيها، قال: وكان الحسين قرمطياً، وكان الجيهاني ثنوياً، وكان أبو زيد يرمى بالإلحاد، ذكر ذلك كله محمد بن إسحاق النديم، قال: ولأبي زيد من الكتب: كتاب أقسام العلوم، كتاب شرائع الأديان، كتاب اختيارات السير، كتاب السياسة الكبير، كتاب السياسة الصغير، كتاب كمال الدين، كتاب فضل صناعة الكتابة، كتاب مصالح الأبدان والأنفس، يعرف بالمقالتين، كتاب أسماء الله وصفاته، كتاب صناعة الشعر، كتاب فضيلة علم الأخبار، كتاب الأسماء والكنى والألقاب، كتاب أسماء الأشياء، كتاب النحو والتصريف، كتاب الصورة والمصدر، كتاب رسالة حدود الفلسفة، كتاب ما يصح من أحكام النجوم، كتاب الرد على عبدة الأوثان، كتاب فضيلة علوم الرياضات، كتاب في أقسام علوم الفلسفة، كتاب القرابين والذبائح، كتاب عصمة الأنبياء، كتاب نظم القرآن، كتاب قوارع القرآن، كتاب الفتاك والنساك، كتاب ما أغلق من غريب القرآن، كتاب في أن سورة الحمد تنوب عن جميع القرآن، كتاب أجوبة أبي القاسم الكعبي، كتاب النوادر في فنون شتى، كتاب أجوبة أهل فارس، كتاب تفسير " صورٍ " كتاب السماء والعالم لأبي جعفر الخازن، كتاب أجوبة أبي علي بن محتاج، كتاب أجوبة أبي إسحاق المؤدب، كتاب المصادر، كتاب أجوبة أبي الفضل السكري كتاب الشطرنج، كتاب فضائل مكة على سائر البقاع، كتاب جواب رسالة أبي علي بن المنير الزيادي، كتاب منية الكتاب، كتاب البحث عن التأويلات كبير، كتاب الرسالة السالفة إلى العاتب، كتاب رسالته في مدح الوراقة، كتاب الوصية، كتاب صفات الأمم، كتاب القرود، كتاب فضل الملك، كتاب المختصر في اللغة، كتاب صولجان الكتبة، كتاب نثاراتٍ على كلامه، كتاب أدب السلطان والرعية، كتاب فضائل بلخ، كتاب تفسير الفاتحة والحروف المقطعة في أوائل السور، كتاب رسول الكتب، كتاب كتبه إلى أبي بكر بن المستنير، عاتباً ومنتصفاً، في ذمه المعلمين والوراقين، كتاب كتبه إلى أبي بكر بن المظفر، في شرح ما قيل في حدود الفلسفة، كتاب أخلاق الأمم، وقرأت بخط أبي سهل أحمد بن عبيد الله بن أحمد، مولى أمير المؤمنين، وتصنيفه كتاباً في أخبار أبي زيد البلخي، وأبي الحسن شهيد البلخي، فلخصت منه ما ذكرته في تراجم الثلاثة.
قال في أخبار أبي زيد، ولد أبو زيد أحمد بن سهل ببلخ، بقرية تدعى شامستيان، من رستاق نهر غربنكي، من جملة اثني عشر نهراً من أنهار بلخ، وكان أبوه سجزياً يعلم الصبيان، هذا ما ذكره أبو محمد الحسن بن محمد الوزيري، وله كتاب في أخبار أبي زيد البلخي.
وسمعت أنه كان يعلم بهذه القرية المدعوة شامستيان أعني أباه، وكان أبو زيد يميل إليها ويحبها، لأجل مولده بها، ونزعه إليها حب المولد، ومسقط الرأس والحنين إلى الوطن الأول، ولذلك لما حسنت حاله، ودعته نفسه إلى اعتقاد الضياع والأسباب، والنظر للأولاد والأعقاب، اختارها من قرى بلخ، فاعتقد بها ضيعته، ووكل بها همته، وصرف إلى اتخاذ العقد بها عنايته، وقد كانت تلك الضياع بعد باقية، إلى قريب من هذا الزمان، في أيدي أحفاده وأقاربه، بها وبالقصبة ثم إنهم كما أقدر قد فنوا وانقرضوا، في اختلاف هذه الحوادث ببلخ وغيرها، من سائر البلدان، فلا أحسب أنه بقي منهم نافخ ضرم، ولا عين تطرف، لا تحس منهم من أحد ولا تسمع منهم ركزاً.

سمعت أن الأمير أحمد بن سهل بن هاشم كان ببلخ، وعنده أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي، وأبو زيد ليلة من الليالي وفي يد الأمير عقد لآلائي نفيسة، ثمينة، تتلألأ كاسمها، ويتوهج نورها، وكان حمل إليه من بعض بلاد الهند، حين افتتحت، فأفرد الأمير منها عشرة أعداد، وناولها أبا القاسم، وعشرة أعداد أخر، وناولها أبا زيد، وقال: هذه اللآلئ في غاية النفاسة، فأحببت أن أشرككما فيها، ولا أستبد بها دونكما. فشكرا له ذلك، ثم إن أبا القاسم وضع لآلئه بين يدي أبي زيد، وقال: إن أبا زيد وهو من هو مهتم بشأنهن، فأردت أن أصرف ما برني به الأمير إليه، لينتظم في عقده فقال الأمير: نعماً فعلت، ورمى بالعشرة الباقية إلى أبي زيد وقال خذها فلست في الفتوة بأقل حظاً، ولا أوكس سهماً، من أبي القاسم، ولا تغبنن عنها، فإنها ابتيعت من الفئ، بثلاثين ألف درهم، فاجتمعت الثلاثون عند أبي زيد برمتها، وباعها بمال جليل، وصرف ثمنها إلى الضيعة التي اشتراها بشامستيان.
قال وكان أبو زيد كما ذكر أبو محمد الحسن الوزيري - وكان رآه واختلف إليه - ربعة نحيفاً مصفاراً، أسمر اللون جاحظ العينين، فيهما تأخر ومثل بوجهه آثار جدري، صموتاً سكيتاً، ذا وقار وهيبة، وقد وصفه أبو علي أحمد المنيري الزيادي، في رسالته التي كتبها إليه، وأراد أن يهدم بنيانه، ويضع شانه، ويوهي أركانه، فرند عليه أبو زيد في جوابها، ما ألبسه الشنار والصغار، ونبه العالم أن حظه من العلوم حظ منكود، وأنه فيما أجرى له من كلامه غير سديد، قرأت على أبي محمد الوزيري كلتا الرسالتين، فزعم أنه قرأهما عليهما، أعني أبا زيد والمنيري كليهما، فذكر المنيري في رسالته في جملة ما هجنه به، وأنك لا تصلح إلا أن تكون زامراً، أو مغيراً، أو محتكراً فدل هذا الكلام على أنه كان جاحظ العين، أشدق، مع قصر قامته، ودنو هامته، قال: ثم حدثت أنه كان في عنفوان شبابه، وطراءة زمانه، وأول حداثته، ومائه، دعته نفسه إلى أن يسافر ويدخل إلى أرض العراق، ويجثو بين يدي العلماء، ويقتبس منهم العلو، فتوجه إليها راجلاً مع الحاج، وأقام بها ثماني سنين، وجازها فطوف البلدان المتاخمة لها، ولقي الكبار والأعيان، وتتلمذ لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، وحصل من عنده علوماً جمة، وتعمق في علم الفلسفة، وهجم على أسرار علم التنجيم، والهيئة وبرز في علم الطب والطبائع وبحث عن أصول الدين أتم بحث، وأبعد استقصاء، حتى قاده ذلك إلى الحيرة، وزل به عن النهج الأوضح، فتارة كان يطلب الإمام ومرة كان يسند الأمر إلى النجوم والأحكام، ثم إنه لما كتبه الله في الأول من السعداء، وحكم بأنه لا يتركه يتسكع في ظلمات الأشقياء، بصره أرشد الطرق، وهداه لأقوم السبل، فاستمسك بعروة من الدين وثيقة، وثبت من الاستقامة على بصيرة وحقيقة، فذكر أبو الحسن الحديثي قال: كان أبو بكر البكري فاضلاً خليعاً لا يبالي ما قال، وكان يحتمل عنه لسنه، قال: أذكر إذ كنا عنده وقد قدمت المائدة وأبو زيد يصلي، وكان حسن الصلاة، فضجر البكري من طول صلاته، فالتفت إلى رجل من أهل العلم، يقال له أبو محمد الجحندي فقال: يا أبا محمد، ريح الإمامة يعد في رأس أبي زيد، فخفف أبو زيد الصلاة وهما يضحكان، قال أبو الحسن: فلم أدر ما ذلك! حتى سألت لا أدري الجحندي أو أبا بكر الدمشقي فقال: أحدهما: العم أن أبا زيد في أول أمره كان خرج في طلب الإمام إلى العراق، إذ كان قد تقلد مذهب الإمامية، فعيره البكري بذلك

قال: وكان حسن الاعتقاد، ومن حسن اعتقاده أنه كان لا يثتب من علم النجوم الأحكام، بل كان يثبت ما يدل عليه الحسبان، ولقد جرى ذكره رحمه الله في مجلس الإمام أبي بكر، أحمد بن محمد بن العباس البزار، وهو الإمام ببلخ، والمفتي بها، فأثنى عليه خيراً، وقال: إنه كان قويم المذهب، حسن الاعتقاد، لم يعرف بشيء في ديانته، كما ينسب إليه من نسب إلى علم الفلسفة، وكل من حضر من الفضلاء والأماثل، أثنى عليه ونسبه إلى الاستقامة والاستواء، وأنه لم يعثر له مع ما له من المصنفات الجمة، على كلمة تدل على قدح في عقيدته، ثم لما قضى وطره من العراق، وصار في كل فن من فنون العلم قدوة، وفي كل نوع من أنواعه إماماً، قصد العود إلى بلده، فتوجه إليها مقبلاً على طريق هراة، حتى وصل إلى بلخ، وانتشر بها علمه، فلما ورد أحمد بن سهل بن هاشم المروزي بلخ، واستولى على تخومها، راوده على أن يستوزره فأبى عليه، واختار سلامة الأولى، والعقبى، فاتخذ أبا القاسم الكعبي وزيراً، وأبا زيد كاتباً، وكان أبو القاسم الوزير وأبو زيد من الكتاب، وعظم محلهما عنده، وأصبحا بأرفع طرف عنده مرموقين وبأروى كأس من جنابه مصبوحين ومغبوقين، وكان رزق أبي القاسم في الشهر ألف درهم ورقاً، ولأبي زيد خمسمائة درهم ورقاً، وكان أبو القاسم يأمر الخازن بزيادة مائة درهم لأبي زيد من رزقه ونقصان مائة درهم من رزق نفسه، فكان يصل إلى أبي زيد ستمائة درهم وإلى أبي القاسم تسعمائة درهم، وكان يأخذ لنفسه مكسرة، ويأمر لأبي زيد بالوضح الصحاح، فبقوا على ذلك مدة غير طويلة، وعاشوا على جملة جميلة، حتى فتكت بهم يد المنون، وهلك أحمد بن سهل عن عمر قصير، واستمتاع بإمامة غير كبير، قال: أخبرني أبو محمد الحسن بن الوزيري: وكان لقي أبا زيد وتتلمذ له قال: كان أبو زيد ضابطاً لنفسه ذا وقار، وحسن استبصار، قويم اللسان، جميل البيان، متثبتاً نزر الشعر، قليل البديهة، واسع الكلام في الرسائل والتأليفات، إذا أخذ في الكلام أمطر اللآلئ المنثورة، وكان قليل المناظرة، حسن العبارة، وكان يتنزه عما يقال في القرآن، إلا الظاهر المستفيض من التفسير والتأويل، والمشكل من الأقاويل، وحسبك ما ألفه من كتاب نظم القرآن، الذي لا يفوقه في هذا لاباب تأليف.
قرأت في كتاب البصائر لأبي حيان الفارسي، من ساكني بغداد، قال: قال أبو حامد القاضي لم أر كتاباً في القرآن مثل كتاب لأبي زيد البلخي، وكان فاضلاً يذهب في رأي الفلسفة، لكنه تكلم في القرآن بكلام لطيف دقيق في مواضع، وأخرج سرائره، وسماه نظم لاقرآن، ولم يأت على جميع المعاني فيه.
قال: وللكعبي كتاب في التفسير، يزيد حجمه على كتاب أبي زيد، قال الوزيري: وكان أيضاً يتحرج عن تفضيل الصحابة بعضهم على بعض، وكذلك عن مفاخرة العرب والعجم، ويقول ليس في هذه المناظرات الثلاث ما يجدي طائلاً، ولا يتضمن حاصلاً، لأن الله تعالى يقول في معنى القرآن: (قرآناً عربياً غير ذي عوج) الآية وأما معنى الصحابة وتفضيل بعضهم على بعض، فقوله عليه السلام، أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم، وكذلك العربي والشعوبي، فإنه سبحانه يقول: (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) ويقول في موضع آخر، (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) قال: وسمعت بعض أهل الأدب يقول: اتفق أهل صناعة الكلام أن متكلمي العالم ثلاثة، الجاحظ، وعلي بن عبيدة اللطفي، وأبو زيد البلخي، فمنهم من يزيد لفظه على معناه، وهو الجاحظ ومنهم من يزيد معناه على لفظه، وهو علي بن عبيدة، ومنهم من توافق لفظه ومعناه، وهو أبو زيد.
وقال أبو حيان في كتاب النظائر: أبو زيد البلخي يقال له بالعراق جاحظ خراسان، وحكي أن أبا زيد لما دخل على أحمد بن سهل، أول دخوله عليه، سأله عن اسمه، فقال أبو زيد، فعجب أحمد بن سهل من ذلك، حين سأله عن اسمه فأجاب عن كنيته، وعد ذلك من سقطاته، فلما خرج ترك خاتمه في مجلسه عنده، فأبصره أحمد بن سهل، فازداد تعجباً من غفلته، فأخذه بيده ونظر في نقش فصه، فإذا عليه أحمد بن سهل، فعلم حينئذ أنه إنما أجاب عن كنيته للموافقة الواقعة بين اسمه واسمه، وأنه أخذ بحسن الأدب، وراعى حد الاحتشام، واختار وصمة التزام الخطإ في الوقت والحال، على أن يتعاطى اسم الأمير بالاستعمال والابتذال.

وحكي أن أبا زيد في حداثته، وحال فقره وخلته كان التمس من أبي علي المنيري حنطة، فأمره بحمل جراب إليه ففعل، فلم يعطه حنطة، وحبس الجراب، ومضى على هذا أعوام كثيرة، وخرج شهيد بن الحسين إلى محتاج بن أحمد بالصعانيان، وكتب إلى أبي زيد كتباً لم يجبه أبو زيد عنها، فكتب إليه شهيد بهذين البيتين، يعيره بحديث الجراب:
أمني النفس منك جواب كتبي ... وأقطعها لتسكن وهي تابي
إذا ما قلت سوف يجيب قالت ... إذا رد المنيري الجرابا
قال: وقرأت بخط أبي الحسن الحديثي، على ظهر كتاب كمال الدين لأبي زيد، قال أبو بكر الفقيه: ما صنف في الإسلام كتاب أنفع للمسلمين من كتاب البحث عن التأويلات، صنفه أبو زيد البلخي، وهذا الكتاب يعني كتاب كمال الدين.
وكان لأبي زيد حافد يقال له علي بن محمد بن أبي زيد، قال: ولأبي زيد نحو من سبعين تأليفاً، قال: ولقي أحمد بن سهل الأمير أبا زيد في طريق، وقد أجهده السير، فقال له: عييت أيها الشيخ، فقال أبو زيد: نعم أعييت أيها الأمير، فنبهه أنه لحن في قوله " عييت " إذ العي في الكلام، والإعياء في المشي، وأنشد أبو زيد:
لكل امرئ ضيف يسر بقربه ... ومالي سوى الأحزان والهم من ضيف
تناءت بنا دار الحبيب اقترابها ... فلم يبق إلا رؤية الطيف للطيف
وقال أبو زيد: كان ببلخ مجنون من عقلاء المجانين وكان يعرف بأبي إبراهيم إسحاق بن إسحاق البغدادي، " من عقلاء المجانين " دخل إلي وكنت ألاعب الأهوازي بالشطرنج، فقال أبو زيد والأهوازي لك فتحيرت في هذا الكلام، فقال لي احسب فحسبت بحروف الجمل، فكان ستون، قال فصل بين كنيتك وكنيته الأهوازي، قال فوصلت، فإذا أبو زيد ثلاثون، والأهوازي ثلاثون، فقضيت عجباً من اختراعه في تلك الوهلة هذا الحساب.
وأما خبر وفاته، فقال صاحب الكتاب المذكور: ذكر أبو زيد الدمشقي قال: دخلت على أبي زيد - رحمه الله - يوم الجمعة ضحوة لعشر بقين من ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة فوجدته ثقيلاً من علته، فسلمت سلاماً ضعيفاً، ثم قال: يا أبا بكر قد انقطع السبب، وما هو إلا فراق الإخوان، ودمعت عينه، وبكيت أنا، وقلت: أرجو أن يشفع الله الشيخ فينا وفي عترتنا بعافيته، فقال: أيهات: وقرأ هذه الآية: (أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) ثم قال: لا تغب عني وكن بالقرب.
فلما كان عند العتمة قال: انصرفوا حتى أدعوكم، وقال لابنه الحسين إذا طلع القمر ونزل في الدار فأعلمني، فلما طلع القمر أعلمه، فصاح بهم فجاءوا، وقال أطلع القمر؟ فقالوا: نعم، قال: اجمعوا كل من في المنزل، فاجتمعوا عليه، فسأل كل واحد منهم عن حاله، وعن كسوته، وعن آلة الشتاء، ثم قال: بقي شيء لم أصلحه لكم. قالوا: لا: فاستحلفهم ثم قال: عليكم السلام، هذا آخر اجتماعي معكم، ثم جعل يتشهد ويستغفر، ثم قال: قوموا فقد جاء نوبة غيركم، فخرجوا من باب الطارمة، وهم يسمعون تشهده، ثم سكت فرجعوا وقد قضى نحبه، رحمه الله، هذا العقل والتمييز صار كما قال أبو تمام:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
قال المؤلف: هذا آخر ما كتبته عن كتاب أبي سهل أحمد بن عبيد الله من أخبار أبي زيد، وما أرى أن أحداً جاء من خبر أبي زيد بأحسن مما جاء به، أثابه الله على اهتمامه الجنة، وسأكتب أخبار أبي القاسم، عبد الله بن أحمد الكعبي البلخي عنه في موضعه، ولم أخل من أخبار أبي زيد التي ذكرها بشيء مما يتعلق به، إنما تركت أشياء من فوائده تتعلق بكتب المجاميع.
وقال المرزباني: أحمد بن سهل البلخي محدث معتمدي وهو القائل يرثي الحسن بن الحسين العلوي، وقد توفي ببلخ:
إن المنية رامتنا بأسهمها ... فأوقعت سهمها المسموم بالحسن
أبو محمد الأعلى فغادره ... تحت الصفيح مع الأموات في قرن
يا قبر إن الذي ضمنت جثته ... من عصبة سادة ليسوا ذوي أفن
محمد وعلي ثم زوجته ... ثم الحسين ابنه والمرتضى الحسن
صلى الإله عليهم والملائكة ال ... مقربون طوال الدهر والزمن

قال المؤلف: هكذا قال المرزباني، ولا أدري أيريد صاحبنا هذا أو غيره؟ فإنه لم يذكره بأكثر مما كتبناه.
وقرأت في كتاب البلدان لأبي عبد الله البشاري، أن صاحب خراسان استدعاه إلى بخاري، ليستعين به على سلطانه، فلما بلغ جيحون ورأى تغطمط أمواجه وجرية مائه وسعة قطره كتب إليه: إن كنت استدعيتني لما بلغك من صائب رأيي فإني إن عبرت هذا النهر فلست بذي رأي ورأيي يمنعني من عبوره: فلما قرأ كتابه عجب منه وأمره بالرجوع إلى بلخ.

أحمد بن الصنديد العراقي
يكنى أبا مالك، كان من أهل الأدب والشعر، روى شعر المعري عنه، وله فيه شرح، وله مع الحصري مناقضات دخل الأندلس، وكان عند بني طاهر، ومدح الرساء والأكابر.
أحمد بن أبي طاهر أبو الفضل
واسم طاهر طيفور، مروروزي الأصل، أحد البلغاء الشعراء الرواة، من أهل الفهم المذكورين بالعلم، وهو صاحب كتاب تاريخ بغداد، في أخبار الخلفاء والأمراء وأيامهم، مات سنة ثمانين ومائتين ودفن بباب الشام ببغداد، ومولده سنة أربع ومائتين مدخل المأمون بغداد من خراسان، ذكر ذلك ابنه عبيد الله، فيما ذيله على تاريخ والده، وحكاه عنه، قال: وروى عن عمر بن شبة، روى عنه ابنه عبيد الله، ومحمد بن خلف بن المرزبان، وحدث جعفر بن أحمد صاحب كتاب الباهر: كان أحمد بن أبي طاهر مؤدب كتاب عامياً، ثم تخصص وجلس في سوق الوراقين، في الجانب الشرقي، قال: ولم أر ممن شهر بمثل ما شهر به من التصنيف للكتب، وقول الشعر أكثر تصحيفاً منه ولا أبلد علماً، ولا ألحن، ولقد أنشدني شعراً، يعرضه علي في إسحاق بن أيوب، لحن في بضعة عشر موضعاً منه، وكان أسرق الناس لنصف بيت وثلث بيت، قال: وكذا قال لي البحتري فيه، وكان مع هذا جميل الأخلاق، ظريف المعاشرة، حلواً من بين الكهول.
وحدث أبو دهقان قال: كنت أنزل في جوار المعلى ابن أيوب، صاحب العرض والجيش في أيام المأمون، وكان أحمد بن أبي طاهر ينزل عنده، فأضقنا إضاقة شديدة، وتعذرت علينا وجوه احليلة، فقلت لابن أبي طاهر: هل لك في شيء لا بأس به؟ تدعني حتى أسجيك وأمضي إلى منزل المعلى بن أيوب، فأعلمه أن صديقاً لي قد توفي فآخذ منه ثمن كفن فننفقه، فقال نعم: وجئت إلى وكيل المعلى فعرفته خبرنا، فصار معي إلى منزلي، فتأمل ابن أبي طاهر، ثم نقر أنفه فضرط، فقال لي ما هذا؟ فقلت هذه بقية من روحه كرهت نكهته فخرجت مناسته، فضحك، وعرف المعلى خبرنا، فأمر لنا بجملة دنانير، والمعلى هذا هو الذي يقول فيه دعبل، وقيل أبو علي البصير:
لعمر أبيك ما نسب المعلى ... إلى كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت ... وصوح نبتها رعي الهشيم
وحدث الجهشياري في كتاب الوزراء قال: مدح أحمد ابن أبي طاهر الحسن بن مخلد، وزير المعتمد، فأمر له بمائة دينار، وقال: إيت رجاء الخادم فخدذها منه، فلقي أحمد رجاء فقال له: لم يأمرني بشيء، فكتب إلى الحسن:
أما رجاء فأرجا ما أمرت به ... فكيف إن كنت لم تأمره يأتمر؟
بادر بجودك مهما كنت مقتدراً ... فليس في كل حال أنت مقتدر
فأمر بأضعافها له.

وذكره محمد بن إسحاق النديم، وقال: له من الكتب كتاب المنثور والمنظوم، أربعة عشر جزءاً، والذي بيد الناس ثلاثة عشر جزءاً، كتاب سرقات الشعراء، كتاب بغداد، كتاب الجواهر، كتاب المؤلفين، كتاب الهدايا، كتاب المشتق، كتاب المختلف من المؤتلف، كتاب أسماء الشعراء الأوائل، كتاب الموشى، كتاب ألقاب الشعراء، ومن عرف بالكنى ومن عرف بالاسم، كتاب المعروفين من الأنبياء، كتاب المعتذرين، كتاب اعتذار وهب من ضرطته، كتاب من أنشد شعراً وأجيب بكلام، كتاب الحجاب، كتاب مرثية هرمز بن كسرى بن أبي شروان، كتاب خبر الملك العالي في تدبير المملكة والسياسة، كتاب المصلح والوزير المعين، كتاب الملك البابلي والملك المصري الباغيين، والملك الحكيم الرومي، كتاب المزاح والمعاتبات، كتاب مفاخرة الورد والنرجس، كتاب مقاتل الفرسان، كتاب مقاتل الشعراء، كتاب الخيل، كبير، كتاب الطرد، كتاب سرقات البحتري من أبي تمام، كتاب جمهرة بني هاشم، كتاب رسالة إلى إبراهيم بن المدبر، كتاب الرسالة، في النهي عن الشهوات، كتاب الرسالة إلى علي بن يحيى، كتاب الجامع، في الشعراء وأخبارهم، كتاب فضل العرب على العجم، كتاب لسان العيون، كتاب أخبار المتظرفات، كتاب اختيار أشعار الشعراء كتاب اختيار شعر بكر ابن النطاح، كتاب المؤنس، كتاب الغلة والغليل، كتاب اختيار شعر العتابي، كتاب اختيار شعر منصور النمري، كتاب اختيار شعر أبي العتاهية، كتاب أخبار بشار واختيار شعره، كتاب أخبار مروان وآل مروان واختيار أشعارهم كتاب أخبار ابن ميادة كتاب أخبار ابن هرمة ومختار شعره. كتاب أخبار ابن الدمينة. كتاب أخبار وشعر عبد الله بن قيس الرقيات. وأنشد له ابنه عبيد الله في كتابه:
وما الشعر إلا السيف ينبو وحده ... حسام ويمضي وهو ليس بذي حد
ولو كان بالإحسان يرزق شاعر ... لأجدى الذي يكدى وأكدى الذي يجدي
ومن قوله أيضاً:
قد كنت أصدق في وعدي فصيرني ... كذابة ليس ذا في جملة الأدب
يا ذاكراً حلت عن عهدي وعهدكم ... فنصرة الصدق أفضت بي إلى الكذب
حدث المرزباني في كتاب المقتبس، عن عبد الله ابن محمد الحليمي، قال: أنشدني أحمد بن أبي طاهر لنفسه في أبي العباس المبرد:
كملت في المبرد الآداب ... واستقلت في عقله الألباب
غير أن الفتى كما زعم النا ... س دعي مصحف كذاب
وحدث عنن الصولي، عن أبي علي بن عينويه الكاتب، قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر قال: خرجت من منزل أبي الصقر، نصف النهار في تموز، فقلت ليس بقربي منزل أقرب من منزل المبرد، إذ كنت لا أقدر أصل إلى منزلي بباب الشام، فجئته، فأدخلني إلى حويشة له، وجاء بمائدة، فأكلت معه لونين طيبين، وسقاني ماء بارداً، وقال لي: أحدثك إلى أن تنام، فجعل يحدثني أحسن حديث، فحضرني لشؤمي وقلة شكري بيتان، فقلت: قد حضرني بيتان أنشدهما؟ فقال: ذاك إليك، وهو يظن أني قد مدحته، فأنشدته:
ويوم كحر الشوق في صدر عاشق ... على أنه منه أحر وأومد
ظللت به عند المبرد قائلاً ... فما زلت في ألفاظه أتبرد
فقال لي: قد كان يسعك إذا لم تحمد ألا تذم، ومالك عندي جزاء إلا أن أخرجك، والله لا جلست عندي بعد هذا، فأخرجني، فمضيت إلى منزلي بباب الشام، فمرضت من الحر الذي نالني مدة، فعدت باللوم على نفسي.
قال الخالدي حدثنا جحظة عن أحمد بن أبي طاهر قال: قصدت سر من رأى، زائراً بعض كتابها بشعر مدحته به، فقبلني وأحسن إلي، وأجزل صلتي، ووهب لي غلاماً رومياً، حسن الوجه، ورحلت أريد بغداد سائراً على الظهر، ولم أركب الماء، فلما سرت نحو الفرسخ أخذتنا السماء بأمر عظيم من القطر، ونحن بالقرب من دير السوسن، فقلت للغلام: اعدل بنا يا بني إلى هذا الدير، نقيم فيه إلى أن يخف هذا المطر، ففعل وازداد القطر واشتد، وجاء الليل، فقال الراهب: أتت العشية ههنا، وعندي شراب جيد، فتبيت وتقصف، ويسكن المطر، وتجف الطريق وتبكر، فقلت: أفعل فأخرج إلي شراباً ما رأيت قط أصفي منه، ولا أعطر فقلت: هات مدامك، وأمرت بحط الرحل، وبت والغلام يسقيني، والراهب نديمي، حتى مت سكراً، فلما أصبحت رحلت، وقلت:

سقى سر من را وسكانها ... وديراً لسوسنها الراهب
سحاب تدفق عن رعده ال ... صفوق وبارقه الواصب
فقد بت في ديره ليلة ... وبدر على غصن صاحبي
غزال سقاني الصبا ... ح صفراء كالذهب الذائب
على الورد من حمرة الوجنت ... ين وفي الآس من خضرة الشارب
سقاني المدامة مستيقظاً ... ونمت ونام إلى جانبي
فكانت هناة لك الويل من ... جناها الذي خطه كاتبي
فيا رب تب واعف عن مذنب ... مقر بزلته تائب

أحمد بن الطيب السرخسي
يعرف بابن الفرائقي أحد العلماء الفهماء المحصلين، الفصحاء البلغاء المتقنين، له في علم الأثر الباع الواسع، وفي علوم الحكماء الذهن الثاقب الوقاد، وبسطة الذراع، وهو تلميذ الكندي وله في كل فن تصانيف، ومجاميع وتواليف، وكان أحد ندماء أبي العباس المعتضد بالله، والمختصين به، فأنكر منه بعض شأنه، فأذاقه حمامه صبراً، وجعله نكالاً، ولم يرع له ذمة ولا إلاً.
وقال في تاريخ دمشق: ذكره أبو الحسن محمد بن أحمد بن القواس، قال: ولي أحمد بن الطيب الحسبة يوم الاثنين، والمواريث يوم الثلاثاء، وسوق الرقيق يوم الأربعاء، لسبع خلون من رجب سنة اثنتين وثمانين ومائتين وفي يوم الاثنين لخمس خلون من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين غضب المعتضد على أحمد بن الطيب، وفي يوم الخميس لثلاث بقين من جمادى الأولى ضرب ابن الطيب مائة سوط، وحول إلى المطبق، وفي صفر سنة ست وثمانين ومائتين مات ابن الطيب السرخسي.
حدث أبو القاسم، عن عبد الله بن عمر الحاربي، قال حدثني أبي قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن حمدون، نديم المعتضد، قال: كان المعتضد في بعض متصيداته مجتازاً بعسكره وأنا معه، فصاح ناطور في قثاء فاستدعاه وسأله عن سبب صياحه، فقال: أخذ بعض الجيش شيئاً فقال: اطلبوهم فجاءوا بثلاثة أنفس، فقال: هؤلاء الذين أخذوا القثاء؟ فقال الناطور: نعم، فقيدهم في الحال، وأمر بحبسهم، فلما كان من الغد أنفذهم إلى القراح وضرب أعناقهم فيه، وسار، وأنكر الناس ذلك وتحدوا به، ونحبت قلوبهم منه، ومضت على ذلك مدة طويلة، فجلست أحادثه ليلة، فقال لي: يا عبد الله، هل يعتب الناس علي شيئاً؟ عرفني حتى أزيله، فقلت: كلا يا أمير المؤمنين، فقال: أقسمت عليك بحياتي إلا صدقتني، قلت: يا أمير المؤمنين وأنا آمن؟ قال: نعم، قلت: إسراعك إلى سفك الدماء، فقال: والله ما هرقت دماً قط منذ وليت هذا الأمر إلا بحقه، قال: فأمسكت إمساك من ينكر عليه الكلام، فقال: بحياتي لما قلت، فقلت: يقولون إنك قتلت أحمد بن الطيب، وكان خادمك، ولم تكن له جناية ظاهرة، فقال: ويحك، إنه دعاني إلى الإلحاد، فقلت له: يا هذا، أنا ابن عم صاحب هذه الشريعة، وأنا الآن منتصب منصبه، فألحد حتى أكون من؟ وكان قال لي: إن الخلفاء لا تغضب، وإذا غضبت لم ترض، فلم يصلح إطلاقه، فسكت سكوت من يريد الكلام، فقال: في وجهك كلام، فقلت: الناس ينقمون عليك أمر الثلاثة الأنفس الذين قتلتهم في قراح القثاء، فقال: والله ما كان أولئك المقتولون هم الذين أخذوا القثاء وإنما كانوا لصوصاً، حملوا من موضع كذا وكذا، ووافق ذلك أمر أصحاب القثاء، فأردت أن أهول على الجيش، بأن من عاث منهم في عسكري وأفسدوا في هذا القدر، كانت هذه عقوبتي له، ليكفوا عما فوقه، ولو أردت قتلهم لقتلتهم في الحال والوقت، وإنما حبستهم، وأمرت بإخراج اللصوص من غد مغطين الوجوه، ليقال إنهم أصحاب القثاء، فقلت: فكيف تعلم العامة؟ قال: بإخراجي القوم الذين أخذوا القثاء أحياء، وإطلاقي لهم في هذه الساعة، ثم قال: هاتوا القوم، فجاءوا بهم، وقد تغيرت حالهم، فقال لهم: ما قصتكم؟ فاقتصوا عليه قصة القثاء، فاستتابهم عن فعل مثل ذلك وأطلقهم، فانتشرت الحكاية فزالت التهمة.
أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم
ابن سعيد بن أبي زرعة الزهري مولاهم، يكنى أبا بكر البرقي، وقد ذكرنا فيما بعد برقياً آخر، اسمه أحمد بن محمد، وهو أيضاً من برقة قم، وقد اشتد علي أمره وأمر هذا، فنقلت كما وجدت، ولا شك أنهما من بيت واحد، والله أعلم.

وكانوا ثلاثة إخوة كلهم من أهل العلم، أبو بكر أحمد، وأبو عبد الله محمد، وأبو سعيد عبد الرحيم، يروي ثلاثتهم المغازي عن عبد الملك بن هشام، وفي كتاب أصبهان لحمزة، في الفصل الذي ذكر فيه أهل الأدب واللغة قال: أحمد بن عبد الله البرقي كان من رستاق برق رود، وهو أحد الرواة للغة والشعر، واستوطن قم، فخرج ابن أخيه أبو عبد الله البرقي هناك، ثم قدم أبو عبد الله أصبهان فاستوطنها.
قرأت في كتاب جمهرة النسب قال ابن حبيب: أخبرني أبو عبد الله البرقي - وكان أعلم أهل قم بنسب الأشعريين - أن ابن الكلبي قال: في ثلاثة أحياء من الأشعريين لسن وإنما هو أسن وقال مراطة، وإنما هو إمراطة، وقال زكاز وإنما هو ركاز.

أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة
أبو جعفر الكاتب، ولد ببغداد، ومات بمصر وهو على قضائها، سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وقد روى عن أبيه تصانيفه كلها، حدث عنه أبو الفتح المراغي النحوي، وعبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، وغيرهما، وقال أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن خرزاذ النجيرمي إن أبا جعفر بن قتيبة حدث بكتب أبيه كلها بمصر حفظاً، ولم يكن معه كتاب، وأحسب ذكر ذلك عن أبي الحسين المهلبي.
وحدث أبو سعيد بن يونس قال: قدم أحمد بن عبد الله ابن مسلم بن قتيبة مصر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وتولى بها القضاء وتوفي بها وهو على القضاء سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
أحمد بن محمد بن عبد الله المعبدي
من ولد معبد بن العباس، بن عبد المطلب بن هاشم، أحد من اشتهر بالنحو وعلم العربية من الكوفيين وجه من وجوه أصحاب ثعلب الكبار، ذكره الزبيدي، وقد تقدم ذكر آخر يقال له أحمد بن سليمان، لا أدري أهو هذا ونسب إلى جد له أعلى يقال له سليمان أم هو غيره؟ قرأت بخط ابن أبي نواس قال أبو عمر بن حيويه، قال لي أبو عمر: مات المعبدي ليلة الأربعاء لثمان بقين من صفر سنة اثنتين وتسعين ومائتين.
أحمد بن عبد الله بن أحمد الفرغاني
أبو منصور بن أبي محمد عبد الله، بن أحمد بن خزيان بن حامس الفرغاني كان أبوه صاحب محمد بن جرير الطبري، صاحب التفسير والتاريخ، وقد كتبنا خبره فيما بعد في بابه، مات أحمد هذا في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، ومولده لثمان عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وكانت وفاته كما أخبرني المصريون بها في سنة اثنتي عشرة وستمائة عند كوني بها.
روى أبو منصور عن أبيه تصانيف أبي جعفر محمد ابن جرير الطبري، وصنف أبو منصور أيضاً عدة تصانيف، منها كتاب التاريخ، وصل به تاريخ والده، وكتاب سيرة العزيز سلطان مصر، المنتسب إلى العلويين، وكتاب سيرة كافور الإخشيدي،وبمصر كان مقامه.
أحمد بن عبد الله بن بدر القرطبي
النحوي، أبو مروان الحكم المستنصر، روى عن أبي عمر بن أبي الحباب، وأبي بكر بن هذيل، وكان نحوياً لغوياً، شاعراً عروضياً، مات سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، حدث عنه أبو مروان الطبيبي، وذكر خبره ووفاته، قاله ابن بشكوال.
أحمد بن عبد الله بن سليمان
أبو العلاء المعري، هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان، بن داود بن المطهر، بن زياد بن ربيعة، بن الحارث ابن ربيعة، بن أرقم بن أنور، بن أسحم بن النعمان، ويقال له الساطع الجمال، بن عدي بن عبد غطفان، بن عمرو بن يربح، بن خزيمة بن تيم الله، بن أسد بن وبرة ابن تغلب بن حلوان، بن عمران بن الحاف، بن قضاعة، وتيم الله مجتمع تنوخ من أهل محلة النعمان، من بلاد الشام، كان غزير الفضل، شائع الذكر، وافر العلم، غاية الفهم، عالماً باللغة حاذقاً بالنحو، جيد الشعر، جزل الكلام، شهرته تغني عن صفته، وفضله ينطق بسجيته، ولد بمعرة النعمان سنة ثلاث وستين وثلاثمائة واعتل بالجدري، التي ذهب فيها بصره سنة سبع وستين وثلاثمائة، وقال الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة، ورحل إلى بغداد سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، أقام ببغداد سنة وسبعة أشهر، ثم رجع إلى بلده، فأقام ولزم منزله إلى أن مات، يوم الجمعة الثاني من شهر ربيع الأول، سنة تسع وأربعين وأربعمائة في أيام القائم، وكان في آبائه وأعمامه، ومن تقدمه من أهله وتأخر عنه، من ولد أبيه ونسله فضل، وقضاة وشعراء، أنا ذاكر منهم من حضرني، لتعرف نسبه في العلم، كما عرفت ما أعطيه من الفهم.

كان سليمان بن أحمد بن سليمان جده، قاضي المعرة، ولي القضاء بحمص، وبها مات سنة تسعين ومائتين، ثم ولي القضاء بعده بها ولده أبو بكر محمد، عم أبي العلاء وفيه يقول الصنوبري الشاعر:
بأبي يا بن سليمان ... سدت تنوخا
وهم السادة شبا ... ناً لعمري وشيوخا
أدرك البغية من أض ... حى بناديك منيخا
وارداً عندك نيلاً ... وفراتاً وبليخا
واجداً منك متى است ... صرخ للمجد صريخا
في زمان غادر اله ... مات في الناس مسوخا
ثم بعده أخوه، أبو محمد عبد الله، والد أبي العلاء ولعبد الله شعر في مرثية والده:
إن كان أصبح من أهواه مطرحاً ... بباب حمص فما حزني بمطرح
لو بان أيسر ما أخفيه من جزع ... لمات أكثر أعدائي من الفرح
وتوفي عبد الله بحمص سنة سبع وسبعين وثلاثمائة ومنهم أبو المجد، محمد بن عبد الله أخو أبي العلاء، وكان أسن من أبي العلاء، وله أيضاً شعر، منه في الزهد:
كرم المهيمن منتهى أملي ... لا نيتي أجر ولا عملي
يا مفضلاً جلت فواضله ... عن بغيتي حتى انقضى أجلي
كم قد أفضت علي من نعم ... كم قد سترت علي من زلل
إن لم يكن لي ما ألوذ به ... يوم الحساب فإن عفوك لي
ومنهم عبد الواحد، أبو الهيثم أخو أبي العلاء القائل في الشمعة:
وذات لون كلوني في تغيره ... وأدمع كدموعي في تحدرها
سهرت ليلي وباتت لي مسهرة ... كأن ناظرها في قلب مسهرها
وله أيضاً:
قالوا تراه سلا لأن جفونه ... ضنت عشية بيننا بدموعها
ومن العجائب أن يفيض مدامع ... نار الغرام تشب في ينبوعها
هؤلاء من حضرني، ممن كان قبل أبي العلاء وفي زمانه، وقد تأخر عن زمانه من أهله من كان عالماً فاضلاً، وأنا ذاكرهم ههنا ليجيئوا على نسق واحد، فمنهم القاضي أبو المجد، محمد بن عبيد الله، وأبو المجد الثاني هو أخو أبي العلاء، وذكره العماد في الخريدة، فقال: ذكر لي ابنه القاضي أبو اليسر الكاتب، أنه كان فاضلاً أديباً، فقيهاً على مذهب الشافعي، أريباً مفتياً خطيباً، أدرك عم أبيه أبا العلاء، وروى عنه مصنفاته وأشعاره، وولي القضاء بالمعرة إلى أن دخلها الفرنج - خذلهم الله - في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، فانتقل إلى شيرز وأقام بها مدة، ثم انتقل إلى حماة فأقام بها إلى أن مات، في محرم سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، ومولده سنة أربعين وأربعمائة وله ديوان ورسائل، ومن شعره:
رأيتك في نومي كأنك معرض ... ملالاً فداويت الملالة بالترك
وأصبحت أبغي شاهداً فعدمته ... فعدت فغلبت اليقين على الشك
وعهدي بصحف الود تنشر بيننا ... فإن طويت فاجعل ختامك بالمسك
لئن كانت الأيام أبلى جديدها ... جديدي وردت من رحيب إلى ضنك
فما أنا إلا السيف أخلق جفنه ... وليس بمأمون الفرند على الفتك
قال: وأنشدني بعض أهل المعرة:
جس الطبيب يدي جهلاً فقلت له ... إليك عني فإن اليوم بحراني
فقال لي ما الذي تشكو؟ فقلت له ... إني هويت بجهلي بعض نجيراني
فقام يعجب من قولي وقال لهم ... إنسان سوء فداووه بإنسان
قال: وأنشدني مؤيد الدولة، أسامة بن منقذ قال: أنشدني القاضي أبو المجد المعري لنفسه:
وقائلة رأت شيباً علاني ... عهدتك في قميص صباً بديع
فقلت فهل ترين سوى هشيم ... إذا جاوزت أيام الربيع
قال الأمير أسامة: ولما فارق أهله بالمعرة وبقي منفرداً، وكان له غلام اسمه شعيا قال:
زمان غاض أهل الفضل فيه ... فسقياً للحمام به ورعيا
أسارى بين أتراك وروم ... وفقد أحبة وفراق شعيا
قال: وقد سبقه إلى هذا المعنى الوزير المغربي، فإنه لما تغيرت عليه الوزارة وتغرب، كان معه غلام اسمه داهر فقال:
كفى حزناً أني مقيم ببلدة ... يعللني بعد الأحبة داهر

يحدثني مما يجمع عقله ... أحاديث منها مستقيم وجائر
قال الأمير أسامة: لما بليت بفرقة الأهل، كتبت إلى أخي، أستطرد بغلامي أبي المجد، والوزير المغربي، اللذين ذكراهما في شعريهما:
أصبحت بعدك يا شقيق النفس في ... بحر من الهم المبرح زاخر
متفرداً بالهم من لي ساعة ... برفاق شعيا أو علالة داهر
الحديث شجون، يذكر الشيء بما يتصل به، وأشعار أبي المجد المعري كثيرة، منها:
قد أوسع الله البلاد وللفتى ... إلى بعضها عن بعضها مترحرح
فخل الهوينا إنها شر مركب ... ودونك صعب الأمر فالصعب أنجح
فإن نلت ما تهوى فذاك وإن تمت ... فللموت خير للكريم وأروح
ومنهم أبو اليسر، شاكر بن عبد الله، بن محمد، بن أبي المجد، بن عبد الله، بن محمد، بن سليمان، قال العماد: كان كاتب الإنشاء لنور الدين محمود بن زنكي قبلي، فلما استعفى وقعد في بيته، توليت الإنشاء بعده، ومولده بشيزر في جمادى الآخرة، سنة ست وتسعين وأربعمائة، وكان قد تولى ديوان الإنشاء سنين كثيرة، قال: وأنشدني لنفسه:
وردت بجهلي مورد الصب فارتوت ... عروقي من محض الهوى وعظامي
ولم تك إلا نظرة بعد نظرة ... على غرة منها ووضع لثام
فحلت بقلبي من تثنيه لوعة ... تفرت بها حتى الممات عظامي
وله أيضاً:
سارقته نظرة أطال بها ... عذاب قلبي وما له ذنب
يا جور حكم الهوى ويا عجبا ... تسرق عيني ويقطع القلب
وله:
يا له عارضاً إذا دب في الخد ... دبيباً من تحت عقرب صدغ
قعد القلب منهما في بلاء ... وعذاب ما بين قرص ولدغ
وله:
غريت بهم نوب الليالي فاغتدوا ... ما يستقر لهم بأرض دار
حتى كأنهم طريف بضائع ... وكأن أحداث الزمان تجار
وله أيضاً:
تعمم رأسي بالمشيب فساءني ... وما سرني تفتيح نور بياضه
وقد أبصرت عيني خطوباً كثيرة ... فلم أر خطباً أسوداً كبياضه
ومنهم القاضي أبو مسلم، وادع بن عبد الله، بن محمد، ابن عبد الله، بن سليمان، كان أبو العلاء عم أبيه، تولى القضاء بمعرة النعمان وكفر طاب وحماة، وكان مشهوراً بالكرم، ومولده سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وله رسائل حسنة، وشعر بديع منه:
وقائلة ما بال جفنك أرمدا ... فقلت وفي الأحشاء من قولها لدغ
لئن سرقت عيناه من لون خده ... فغير بديع ربما نفض الصبغ
ومن شعره أيضاً:
ولما تلاقينا وهذا بناره ... حريق وهذا بالدموع غريق
تقلدت الدر الذي فاض جفنها ... فرصعه من مقلتي عقيق
ومنهم أبو عدي النعمان بن مسلم، وادع من أهل العلم والفضل، وهو القائل:
يأيها الملاك لا تبرحوا الأم ... لاك وارجوها إلى قابل
فالعام قد صحت ولكنها ... للعدل والمشرف والعامل
ومات أبو عدي بعد سنة خمسين وخمسمائة. ومنهم أبو مرشد سليمان بن علي، بن محمد بن عبد الله، بن سليمان، ولي القضاء بمعرة النعمان، وانتقل إلى شيزر بعد أخذ الفرنج المعرة، وتوفي بها، وله رسائل وشعر، منه قصيدة التزم في كل كلمة منها حرف النون، أولها:
نزه لسانك عن نفاق منافق ... وانصح فإن الدين نصح المؤمن
وتجنب المن المنكد للندى ... وأعن بنيلك من أعانك وامنن
ومنهم أبو سهل، عبد الرحمن بن مدرك، بن علي بن محمد بن سليمان، مولده ومنشؤه بشيزر وحماة، وتوفي في الزلزلة التي كانت بحماة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة وكان شاعراً مطبوع الشعر، ومنه:
جرحت بلحظي خد الحبي ... ب فما طالب المقلة الفاعلهْ
ولكن اقتص من مهجتي ... كذك الديات على العاقلهْ
ومن شعره أيضاً:
ولما سألت القلب صبراً عن الهوى ... وطالبته بالصدق وهو يروغ
تيقنت منه أنه غير صابر ... وأن سلوا عنه ليس يسوغ

فإن قال لا أسلوه قلت صدقتني ... وإن قال أسلو عنه قلت دروغ
هذه كلمة أعجمية معناها كذب، ومنهم أخوه أبو المعالي صاعد بن مدرك، بن علي، بن محمد، بن عبد الله، ابن سليمان، مولده ومنشؤه شيزر وحماة، ومات بمعرة النعمان، ومن شعره:
أيأيها الوادي المبيني هل لنا ... تلاق فنشكو فيه صنع التفرق
أبثك ما بي من غرام ولوعة ... وفرط جوى يضني وطول تشوق
عسى أن ترقى حين ملكت رقه ... وترثي له مما بهجرك قد لقي
بوصل يروي غلة الوجد والأسى ... ويطفي به حر الجوى والتحرق
وغير هؤلاء حذفت أسماءهم اختصاراً، وإنما قصدت الإخبار عن إعراق أبي العلاء في بيت العلم.
ونقلت من بعض الكتب، أن أبا العلاء لما ورد إلى بغداد، قصد أبا الحسن علي بن عيسى الربعي، ليقرأ عليه، فلما دخل إليه، قال علي بن عيسى: ليصعد الإسطبل، فخرج مغضباً ولم يعد إليه، والإسطبل في لغة أهل الشام الأعمى، ولعلها معربة.
ودخل على المرتضى أبي القاسم، فعثر برجل، فقال من هذا الكلب؟ فقال المعري: الكلب من لا يعرف للكلب سعين اسماً، وسمعه المرتضى فاستدناه، واختبره فوجده عالماً مشبعاً بالفطنة والذكاء، فأقبل عليه إقبالاً كثيراً.
وكان أبو العلاء يتعصب للمتنبئ، ويزعم أنه أشعر المحدثين، ويفضله على بشار ومن بعده، مثل أبي نواس، وأبي تمام، وكان المرتضى يبغض المتنبئ، ويتعصب عليه، فجرى يوماً بحضرته ذكر المتنبئ، فتنقصه المرتضى، وجعل يتبع عيوبه، فقال المعري: لو لم يكن للمتنبئ من الشعر إلا قوله:
لك يا منازل في القلوب منازل
لكفاه فضلاً، فغضب المرتضى وأمر فسحب برجله، وأخرج من مجلسه، وقال لمن بحضرته: أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر هذه القصيدة؟ فإن للمتنبئ ما هو أجود منها لم يذكرها، فقيل: النقيب السيد أعرف، فقال أراد قوله في هذه القصيدة:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
ولما رجع إلى المعرة لزم بيته: فلم يخرج منه، وسمى نفسه رهين المحبسين، يعني حبس نفسه في المنزل، وترك الخروج منه. وحبسه عن النظر إلى الدنيا بالعمى: وكان متهماً في دينه، يرى رأي البراهمة، لا يرى إفساد الصورة، ولا يأكل لحماً، ولا يؤمن بالرسل، والبعث والنشور، وعاش شيئاً وثمانين سنة، لم يأكل اللحم منها خمساً وأربعين سنة، وحدثت أنه مرض مرة، فوصف الطبيب له الفروج، فلما جئ به لمسه بيده وقال: استضعفوك فوصفوك، هلا وصفوا شبل الأسد: وقد أوردنا من شعره ما يستدل به على سوء معتقده، ويخبرك بنحلته ومستنده.
وحدث غرس النعمة أبو الحسن الصابئ، أنه بقي خمساً وأربعين سنة لا يأكل اللحم ولا البيض، ويحرم إيلام الحيوان، ويقتصر على ما تنبت الأرض، ويلبس حشن الثياب، ويظهر دوام الصوم، قال: ولقيه رجل فقال له: لم لا تأكل اللحم؟ قال: أرحم الحيوان، قال: فما تقول في السباع التي لا طعام لها إلا لحوم الحيوان؟ فإن كان لذلك خالق فما أنت بأرأف منه، وإن كانت الطبائع المحدثة لذلك فما أنت بأحذق منها ولا أتقن عملاً، فسكت، قال ابن الجوزي: وقد كان يمكنه أن لا يذبح رحمة، وأما ما قد ذبحه غيره فأي رحمة بقيت؟ قال: وقد حدثنا عن أبي زكريا أنه قال: قال لي المعري: ما الذي تعتقد؟ فقلت في نفسي: اليوم أقف على اعتقاده، فقلت له: ما أنا إلا شاك، فقال: وهكذا شيخك. قال القاضي أبو يوسف عبد السلام القزويني: قال لي المعري: لم أهج أحداً قط، فقلت له: صدقت. إلا الأنبياء عليهم السلام، فتغير وجهه.
وحدث أبو زكرياء قال: لما مات أبو العلاء أنشد على قبره أربعة وثمانون شاعراً مراثي، من جملتها أبيات لعلي بن الهمام من قصيدة طويلة:
إن كنت لم ترق الدماء زهادة ... فلقد أرقت اليوم من جفني دما
سيرت ذكراً في البلاد كأنه ... مسك مسامعها يضمخ أو فما
وترى الحجيج إذا أرادوا ليلة ... ذكراك أوجدب فدية من أحرما
كأنه يقول: إن ذكراك طيب، والطيب لا يحل للمحرم، فيجب عليه فدية، ومن شعره في الزهد:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
يحطمنا صرف الزمان كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك

ومن شعره في الزهد:
فلا تشرف بدنيا عنك معرضة ... فما التشرف بالدنيا هو الشرف
واصرف فؤادك عنها مثلما انصرفت ... فكلنا عن مغانيها سينصرف
يا أم دفر لحاك الله والدة ... فيك الخناء وفيك البؤس والسرف
لو أنك العرس أوقعت الطلاق بها ... لكنك الأم ما لي عنك منصرف
وحدث أبو الكرم، خميس بن علي الجوزي النحوي، حدثنا القاضي أبو يوسف القزويني قال: قال لي ملحد المعرة: ما سمعت في أمر الحسين بن علي رضي الله عنهما شيئاً يجب أن يحفظ، فقلت له: قد قال سوادي من أهل بلادنا أبياتاً، لا يقول مثلها تنوخ جدك الأكبر،
رأس ابن بنت محمد ووصيه ... للمسلمين على قناة يرفع
والمسلمون لمنظر ولمشهد ... لا جازع فيهم ولا متفجع
كحلت بمنظرك العيون عماية ... وأصم رزؤك كل أذن تسمع
أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى ... وأنمت عيناً لم تكن بك تهجع
ما روضة إلا تمنت أنها ... لك تربة ولخط قبرك مضجع
قال ولم يسم لنا قائلاً: وقال أبو منصور الثعالبي في يتيمة الدهر: وكان حدثني أبو الحسن الدلفي المصيصي الشاعر، وهو من لقيته قديماً وحديثاً في مدة ثلاثين سنة، قال: لقيت بمعرة النعمان عجباً من العجب، رأيت شاعراً ظريفاً يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل، يكنى أبا العلاء، وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، قال: وحضرته يوماً وهو يملي في جواب كتاب ورد عليه من بعض الرؤساء:
وافى الكتاب فأوجب الشكرا ... فضممته ولثمته عشرا
وفضضته وقرأته فإذا ... أجلى كتاب في الورى يقرا
فمحاه دمعي من تحدره ... شوقاً إليك فلم يدع سطرا
قال وأنشدني لنفسه:
لست أدري ولا المنجم يدري ... ما يريد القضاء بالإنسان
غير أني أقول قول محق ... قد يرى الغيب فيه مثل العيان
إن من كان محسناً فابكينه ... لجميل عواقب الإحسان
حدث أبو سعد السمعاني في كتاب النسب، وقد ذكر المعري فقال بعد وصفه: وذكر تلميذه أبو زكريا التبريزي، أنه كان قاعداً في مسجده بمعرة النعمان، بين يدي أبي العلاء يقرأ عليه شيئاً من تصانيفه، قال: وكنت قد أقمت عنده سنين، ولم أر أحداً من أهل بلدي، فدخل المسجد مغافصة بعض جيراننا للصلاة، فرأيته وعرفته، فتغيرت من الفرح، فقال لي أبو العلاء: إيش أصابك؟ فحكيت له أني رأيت جاراً لي، بعد أن لم ألق أحداً من أهل بلدي سنتين، فقال لي: قم وكلمه. فقلتع: حتى أتمم السياق. فقال: قم أنا أنتظر لك، فقمت وكلمته بلسان الأذربية شيئاً كثيراً، إلى أن سألت عن كل ما أردت، فلما رجعت وقعدت بين يديه قال لي: أي لسان هذا؟ قلت هذا لسان أهل أذربيجان، فقال لي: ما عرفت اللسان ولا فهمته، غير أني حفظت ما قلتما، ثم أعاد علي اللفظ بعينه، من غير أن ينقص عنه أو يزيد عليه في جميع ما قلت، وقال جاري: فتعجبت غاية التعجب، كيف حفظ ما لم يفهمه.
قال المؤلف: وهذا غاية ليس بعدها شيء في حسن الحفظ، وقال المؤلف: وأنا كثير الاستحسان لقول أبي العلاء:
أسالت أتي الدمع فوق أسيل ... ومالت لظل بالعراق ظليل
أيا جارة البيت الممنع أهله ... غدوت ومن لي عندكم بمقيل؟
لغيري زكاة من جمال وإن تكن ... زكاة جمال فاذكري ابن سبيل
وأرسلت طيفاً خان لما بعثته ... فلا تثقي من بعده برسول
خيالاً أرانا نفسه متجنياً ... وقد زار من صافي الوداد وصول
نسيت مكان العقد من دهش النوى ... فعلقته من وجنة بمسيل
وكنت لأجل السن شمس غدية ... ولكنها للبين شمس أصيل
أسرت أخانا بالخداع وإنه ... يعد إذا اشتد الوغى بقبيل
فإن تطلقيه تملكي شكر قومه ... وإن تقتليه تؤخذي بقتيل
فإن عاش لاقى ذلة واختياره ... وفاة عزيز لا حياة ذليل

وكيف يجر الجيش يطلب غارة ... أسير لمجرور الذيول كحيل
ومن شعره لزوم ما لا يلزم:
يا محلى عليك مني سلام ... سوف أمضي وينجز الموعود
فلجسمي إلى التراب هبوط ... ولورحي إلى الهواء صعود
وعلى حالها تدوم الليالي ... فنحوس لمعشر وسعود
أترجون أن أعود إليكم؟ ... لا ترجوا فإنني لا أعود
قرأت بخط أبي سعد، أنشدنا الوكيل بأصبهان، أنشدنا عبيد الله القشيري، أنشدنا أبو الوليد الدربندي، قال: أنشدني أبو العلاء التنوخي في داره، عند وداعي إياه.
كم بلدة فارقتها ومعاشر ... يذرون من أسف علي دموعا
وإذا أضاعتني الخطوب فلن أرى ... لعهود إخوان الصفاء مضيعا
خاللت توديع الأصادق للنوى ... فمتى أودع خلي التوديعا؟
قال أبو الهبارية: أنشدني أبو زكريا الخطيب التبريزي قال: أنشدني أبو العلاء، أحمد بن عبد الله، بن سليمان المعري لنفسه:
أرى جيل التصوف شر جيل ... فقل لهم وأهون بالحلول
أقال الله حين عبدتموه ... كلوا أكل البهائم وارقصوا لي
ومن شعر أبي العلاء في الغزل:
يا ظبية علقتني في تصيدها ... أشراكها وهي لم تعلق بأشراكي
أعييت قلبي وما راعيت حرمته ... فلم رعيت ولا راعيت مرعاك
أتحرقين فؤاداً قد حللت به ... بنار حبك عمداً وهو واراك
أسكنته حين لم يسكن به سكن ... وليس يحسن أن يسخى بسكناك
ما بال داعي غرامي حين يأمرني ... بأن أكابد حر الوجد ينهاك
ولم غدا القلب ذا يأس وذا طمع ... يرجوك أن ترحميه ثم يخشاك
ومن خط ابن العصار، قال أبو العلاء في رجل اسمه أبو القاسم:
هذا أبو القاسم أعجوبة ... لكل من يدري ولا يدري
لا ينظم الشعر ولا يحفظ ال ... قرآن وهو الشاعر المقري
قرأت بخط أبي سعيد قال: سمعت المبارك بن أحمد ابن الأخوث مذاكرة، خرج رجل على سبيل: الفرجة فقعد على الجسر، فأقبلت امرأة من جانب الرصافة، متوجهة إلى الجانب الغربي، فاستقبلها شاب فقال لها: رحم الله علي بن الجهم فقالت المرأة في الحال: رحم الله أبا العلاء المعري، ولم يقفا، ومرا مشرقاً ومغربة، فتتبعت المرأة وقلت لها: أخبريني - عافاك الله - عما قال لك، وعما أجبته؟ فقالت: نعم، رحم الله علي بن الجهم أراد قوله:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وأردت بترحمي على أبي العلاء قوله:
فيا دارها بالحزن إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
قال أبو زكريا، يحيى بن علي، الخطيب التبريزي: أنشدني أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري لنفسه:
منك الصدود ومني بالصدود رضى ... من ذا علي بهذا في هواك قضى
لي منك ما لو غدا بالشمس ما طلعت ... من الكآبة أو بالبرق ما ومضا
جربت دهري وأهليه فما تركت ... لي التجاريب في ود امرئ غرضا
إذا الفتى ذم عيشاً في شبيبته ... ماذقا يقول إذا عصر الشباب مضى؟
وقد تعوضت عن كل بمشبهه ... فما وجدت لأيام الصبا عوضا
وله أيضاً:
غدوت مريض العقل والدين فالقني ... لتعلم أنباء الأمور الصحائح
الأبيات: قرأت بخط عبد الله بن محمد، بن سعيد بن سنان، الخفاجي الشاعر في كتاب له ألفه في الصرفة، زعم فيه: أن القرآن لم يخرق العادة بالفصاحة، حتى صار معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن كل فصيح بليغ قادر على الإتيان بمثله، إلا أنهم صرفوا عن ذلك، لا أن يكون القرآن في نفسه معجز الفصاحة، وهو مذهب لجماعة من المتكلمين والرافضة، منهم بشر المريسي، والمرتضى أبو القاسم، قال في تضاعيفه: وقد حمل جماعة من الأدباء قول أصحاب هذا الرأي، على أنه لا يمكن أحد من المعارضة بعد زمان التحدي، على أن ينظموا على أسلوب القرآن، وأظهر ذلك قوم، وأخفاه آخرون.

ومما ظهر منه قول أبي العلاء في بعض كلامه: أقسم بخالق الخيل، والريح الهابة بليل، ما بين الأشراط ومطالع سهيل، إن الكافر لطيول الويل، وإن العمر لمكفوف الذيل، اتق مدارج السيل، وطالع التوبة من قبيل، تنج وما إخالك بناجٍ.
وقوله: أذلت العائذة أباها، وأصاب الوحدة ورباها، والله بكرمه اجتباها، أولاها الشرف بما حباها، أرسل الشمال وصباها، " ولا يخاف عقباها " .
وقال:
ما جار شماسك في كلمة ... ولا يهوديك بالطامع
والطيلسان اشتق في لفظه ... من طلسة المبتكر الخامع
والقس خير لك فيما أرى ... من خاطب يخطب في جامع
وله أيضاً:
قالوا: فلان جيد فأجبتهم ... لا تكذبوا ما في البرية جيد
فغنيهم نال الغناء ببخله ... وفقيرهم بصلاته يتصيد
والناس في أبي العلاء مختلفون، فمنهم من يقول: إنه كان زنديقاً، وينسبون إليه أشياء مما ذكرناها، ومنهم من يقول: كان زاهداً عابداً متقللاً، يأخذ نفسه بالرياضة والخشونة، والقناعة باليسير، والإعراض عن أعراض الدنيا.
قال كمال الدين أبو القاسم، عمر بن أبي جرداة: قرأت بخط أبي اليسر شاكر بن عبد الله، بن سليمان المعري، أن المنتصر صاحب مصر، بذل لأبي العلاء ما ببيت المال بالمعرة من الحلال، فلم يقبل منه شيئاً، فقال:
كأنما لي غاية من غنى ... فعد عن معدن أسوان
سرت برغمي عن زمان الصبي ... يعجلني وقتي وأكواني
صد أبي الطيب لما غدا ... منصرفاً عن شعب بوان
وقال أيضاً:
لا أطلب الأرزاق وال ... مولى يفيض علي رزقي
إن أعط بعض القوت أع ... لم أن ذلك ضعف حقي
قال: وقرأت بخط أبي المعري في ذكره، وكان - رضي الله عنه - ، يرمى من أهل الحسد له بالتعطيل، وتعمل تلامذته وغيرهم على لسانه الأشعار، يضمنونها أقاويل الملحدة قصداً لهلاكه، وإيثاراً لإتلاف نفسه، فقال - رضي الله عنه - :
حاول إهواني قوم فما ... واجهتهم إلا بإهوان
يخرشوني بسعاياتهم ... فغيروا نية إخواني
لو استطاعوا لوشوا بي إلى ال ... مريخ في الشهب وكيوان
وقال أيضاً:
غريت بذمي أمة ... وبحمد خالقها غريت
وعبدت ربي ما استطع ... ت ومن بريته بريت
وفرتني الجهال حا ... سدة علي وما فريت
سعروا علي فلم أح ... س وعندهم أني هريت
فهرست كتبه على ما نقلته من خط أحد مستملي أبي العلاء، قال: الذي أملاه أبو العلاء، أحمد بن عبد الله، بن سليمان التنوخي - تجاوز الله عنه - من الكتب على ضروب: منها ما هو في الزهد، وقرأت في نسخة أخرى: فهرست كتبه ما صورته، قال الشيخ أبو العلاء - رضي الله عنه - : لزمت مسكني منذ سنة أربعمائة، واجتهدت على أن أتوفر على تسبيح الله وتحميده، إلى أن أضطر إلى غير ذلك، فأمليت أشياء، وتولى نسخها الشيخ أبو الحسن، علي بن عبد الله ابن أبي هاشم - أحسن الله معونته - فألزمني بذلك حقوقاً جمة، وأيادي بيضاء، لأنه أفنى في زمنه، ولم يأخذ عما صنع ثمنه، والله يحسن له الجزاء، ويكفيه حوادي الزمن والأرزاء، وهي على ضروب مختلفة، فمنها ما هو في الزهد والعظات، وتمجيد الله سبحانه وتعالى من المنظوم والمنثور، فمن ذلك، الكتاب المعروف بالفصول والغايات، والمرادب الغايات القوافي، لأن القافية غاية البيت، أي منتهاه، وهو كتاب موضوع على حروف المعجم، ما خلا الألف، لأن فواصله مبينة على أن يكون ما قبل الحرف المعتمد فيها ألفاً، ومن المحال أن يجمع بين ألفين، ولكن تجئ الهمزة وقبلها ألف، مثل العطاء والكساء، وكذلك الشراب والسراب في الباء، ثم على هذا الترتيب، ولم يعتمد فيه أن تكون الحروف التي يبنى عليها مستوية الإعراب، بل تجئ مختلفة.
وفي الكتاب قواف تجئ على نسق واحد، وليست المطلقة بالغايات، ومجيئها على حرف واحد، مثل أن يقال: عمامها، وغلامها، وغمامها، وأمرا، وتمرا، وما أشبه، وفيه فنون كثيرة من هذا النوع.

وقيل إنه بدأ بهذا الكتاب قبل رحلته إلى بغداد، وأتمه بعد عوده إلى معرة النعمان، وهو سبعة أجزاء، وفي نسخة، مقداره مائة كراسة، وكتاب الشاذن، أنشأه في ذكر غريب هذا الكتاب، وما فيه من اللغز، مقداره عشرون كراسة، وكتاب إقليد الغايات، لطيف مقصور على تفسير اللغز، مقداره عشر كراريس، الكتاب المعروف بالأيك والغصون، وهو كتاب الهمزة والردف بخطه، يبنى على إحدى عشرة حالة، الهمزة في حال إفرادها وإضافتها، ومثال ذلك السماء بالرفع: السماءَ، بالنصب: السماء، بالخفض: سماء يتبع الهمة التنوين: سماؤه، مرفوع مضاف، سماءه منصوب مضاف: سمائه مخفوض مضاف، ثم يجئ سماؤها، وسماءها، وسمائها، على التأنيث، ثم همزة بعدها هاء ساكنة، مثل عباءه وملاءه، فإذا ضربت في حروف المعجم الثمانية والعشرين، خرج من ذلك ثلاثمائة فصل وثمانية فصول، وهي سمتوفاة في كتاب الهمزة والردف، وذكرت فيه الأرداف الأربعة بعد ذكر الألف، وهي الواو المضموم ما قبلها، والواو التي قبلها فتحة، ويذكر لكل جنس من هذه أحد عشر وجهاً، كما ذكر للألف، ومن غير خطه وهو في العظات وذم الدنيا، وهو إثنان وتسعون جزءاً، نسخة أخرى، ويكون مقدار هذا الكتاب ألفاً ومائتي كراسة، ومن خطه الكتاب المعروف بتضمين الآي، وهو كتاب مختلف الفصول، فمنه طائفة على حروف المعجم، وقبل الحرف المعتمد ألف، مثل أن يقال في الهمزة: بناء ونساء، وفي الباء ثياب وعباب، ثم على هذا إلى آخر الحروف، ومنه فصول كثيرة على فاعلين، مثل باسطين وقاسطين، وعلى فاعلون، مثل حامدون وعابدون، وفيه ما هو على غير هذا الفن، والغرض أن يأتي بعد انقضاء الكلام آية من الكتاب العزيز، مثل قوله " إياك نعبد وإياك نستعين " ، وربما اقتصر على بعض الآية، أو جئ بآيتين أو أكثر منهما، إذا كانت الآيات من ذوات القصر، كآيات " عبس " ونحوها، ومقدار هذا الكتاب أربعمائة كراسة.
وكان السبب في تأليف هذا الكتاب، أن بعض الأمراء سأله أن يؤلف كتاباً برسمه، ولم يؤثر أن يؤلف شيئاً في غير العظات، والحث على تقوى الله، فأملى هذا الكتاب. كتاب تفسير الهمزة والردف، جزء، كتاب سيف الخطبة جزءان، يشتمل على خطب السنة، فيه خطب للجمع والعيدين، والخسوف والكسوف، والاستسقاء، وعقد النكاح، وهي مؤلفة على حروف من حروف المعجم، فيها خطب عمادها الهمزة، وخطب بنيت على الباء، وخطب على الدال، وعلى الراء، وعلى اللام، وعلى الميم، وعلى النون، وتركت الجيم والحاء وما يجري مجراهما، لأن الكلام المقول في الجماعات، ينبغي أن يكون سجسجاً سهلاً، ومقداره أربعون كراسة، وكان سأله في الكتاب رجل من المتظاهرين بالديانة، فصنف له كتاب نشر شواهد الجمهرة ولم يتم ثلاثة أجزاء. كتاب دعاء وحرز الخيل، كتاب مجد الأنصار في القوافي، كتاب تاج الحرة في عظات النساء خاصة، وتختلف فصوله، فمنها ما يجئ بعد حرفه الذي بني الروي عليه ياء للتأنيث، كقوله: " شائي " وتشائي وتسائي، وهابي، وترائي. ومنه ما هو مبني على الكاف، نحو غلامك وكلامك. ومنها ما يجيء على تفعلين، مثل ترغبين وتذهبين، وأنواعه كثيرة، فيكون هذا الكتاب نحو أربعمائة كراسة. كتاب يعرف بدعاء ساعة، وكتاب آخر يعرف بوقفة الواعظ، وكتاب يعرف بسجع الحمائم، يتكلم فيه على ألسن حمائم أربع، وكان بعض الرساء سأله أن يصنف له تصنيفاً يذكره فيه، فأنشأ له هذا الكتاب، وجعل ما يقوله على لسان الحمامة في العظة، والحث على الزهد. قال غيره: هو أربعة أجزاء، مقداره ثلاثون كراسة. كتاب يعرف بلزوم ما لا يلزم، وهو في المنظوم، بني على حروف المعجم، يذكر كل حرف سوى الألف بوجوهه الأربعة، وهي: الضمة والفتحة والكسرة والوقف، ومعنى لزوم ما لا يلزم، أن القافية يردد فيها حرف لو غير لم يكن مخلاً بالنظم، كما قال كثير:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم انزلا حيث حلت
فلزم اللام قبل اتاء، وذلك لا يلزمه، ولم يفعل كما فعل الشنفري في قصيدته التي على التاء، لأنه لم يلزم فيها إلا حرفاً واحداً، ولكنه خالف بين الحروف التي قبل الروي، فقال:
أرى أم عمرو أزمعت فاستقلت ... وما ودعت جيرانها يوم ولت
وقال فيها:
بريحانة من نبت حلية نورت ... لها أرج ما حولها غير مسنت
وقال فيها:

لها وفضة فيها ثلاثون سيحفاً ... إذا أنست أولى العداة اقشعرت
ومن غير خطه ما هو ثلاثة أجزاء، أو أربعمائة وعشرون كراسة، يحتوي على أحد عشر ألف بيت من الشعر. كتاب زجر النابح، يتعلق بلزوم ما لا يلزم، وذلك أن بعض الجهال تكلم على أبيات من لزوم ما لا يلزم، يريد بها التشرر والأذية، فألزم أبا العلاء أصدقاؤه أن ينشئ هذا، فأنشأ هذا الكتاب وهو كاره، ومن غير خطه ما هو شرح اللزوم، وهو جزء واحد، مقداره أربعون كراسة، كتاب يتعلق بزجر النابح، سماه بحر الزجر، كتاب ملقى السبيل، صغير، فيه نظم ونثر، كتاب الجلي والحلي، سأله فيه صديق له من أهل حلب، يعرف بابن الحلي، مجلد واحد وعشرون كراسة، ومن غير هذا الجنس كتاب لطيف، فيه شعر قيل في الدهر الأول: يعرف بكتاب سقط الزند، وأبياته ثلاثة آلاف بيت، كتاب يعرف بجامع الأوزان، فيه شعر منظوم على معنى اللغز، يعم به الأوزان الخمسة عشر، التي ذكرها الخليل بجميع ضروبها، ويذكر قوافي كل ضرب من ذلك، مثاله أن يقال للضرب الأول من الطويل أربع قواف، المطلقة المجردة، ثم قول القائل:
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر ... وإن كان حيانا عداً آخر الدهر
والقافية المردفة، مثل قول امرئ القيس:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي
والمقيدة المجردة، وذلك مفقود في الشعر القديم والمحدث، وربما جاء به المحدثون على النحو الذي يسمى مقصوراً، كما قال بعض الناس وهو في السجن: هو صالح ابن عبد القدوس:
إلى الله أشكو إنه موضع الشكوى ... وفي يده كشف المصيبة والبلوى
خرجدنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فما نحن بالأحياء فيها ولا الموتى
إذا ما أتانا مخبر عن حديثها ... فرحنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
وتعجبنا الرؤيا فجل حديثنا ... إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
فإن حسنت لم تأت عجلى وأبطلت ... وإن قبحت لم تحتبس وأتت عجلى
والقافية المقيدة المؤسسة، مثل أن يكون العادل والقائل، وذلك مرفوض متروك، ثم على هذا النحو إلى آخر الكتاب، ومقداره ستون كراسة، ويكون عدد أبيات شعره نحو تسعة آلاف بيت، وهو ثلاثة أجزاء.
كتاب يعرف بالسجع السلطاني، يشتمل على مخاطبات للجنود والوزراء، وغيرهم من الولاة.
وكان بعض من خدم السلطان وارتفعت طبقته، لا قدم له في الكتابة، فسأل أن ينشأ له كتاب مسجوع من أوله إلى آخره، وهو لا يشعر بما يريد، لقلة خبرته بالأدب، فألف هذا الكتاب، وهو أربعة أجزاء، وكتاب يعرف بسجع الفقيه، جزء، ثلاثون كراسة، وكتاب لطيف يعرف بسجع المضطرين، عمله لرجل مسافر يستعين به على أمور دنياه، وكتاب مختصر يعرف بذكرى حبيب، في غريب شعر أبي تمام، سأل فيه صديق لأبي العلاء من الكتاب، وهو أربعة أجزاء ستون كراسة، وهذه الكتب المسئسول في تأليها، إنما تكلفها مؤلفها من فرط الحياء، وهو لتأليفها كاره، وكتاب عبث الوليد، فيما يتصل بشعر البحتري، وكان سبب إنشائه: أن بعض الرساء أنفذ نسخة ليقابل له بها، فأثبت ما جرى من الغلط، ليعرض ذلك عليه، وهو جزء واحد وعشرون كراسة، وكتاب يعرف بالرياش المصطنعي في شرح مواضع من الحماسة الرياشية، عمل لرجل يلقب بمصطنع الدولة، ويخاطب بالإمرة، واسمه كليب بن علي، ويكنى أبا غالب، أنفذ نسخة من الحماسة الرياشية، وسأل أن يخرج على حواشيها شيئاً لم يذكره أبو رياش، مما يحتاج إلى تفسيره، فخشي أن تضيق الحواشي عن ذلك، فصنع هذا الكتاب، وجمع فيه ما سنح مما لم يفسره أبو رياش، أربعون كراسة، وكتاب يعرف بشرف السيف، عمل للرجل الذي كان مقيماً بدمشق، وهو المعروف بنشتكين الدزبري.

وكان السبب في عمله: أنه كان يوجه إلى أبي العلاء بالسلام، ويحفي المسألة عنه، فأراد جزاءه على ما فعل، - جزءان - وكتاب يعرف بتعليق الجليس، مما يتصل بكتاب أبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، المعروف بالجمل - جزء - وكتاب إسعاف الصديق، ثلاثة أجزاء، يتعلق بالجمل أيضاً، وكتاب قاضي الحق، يتصل بالكتاب المعروف بالكافي، الذي ألفه أبو جعفر النحاس، وكتاب الحقير النافع، مختصر في النحو، خمس كراريس، وكتاب يتصل به يعرف بالطل الطاهري، أنشئ لرجل يعرف بأبي طاهر حلبي، وكتاب المختصر الفتحي، يتصل بكتاب محمد بن سعدان، صنعه لرجل يكنى أبا الفتح، محمد بن علي بن أبي هاشم، وكان أبو هذا الرجل، تولى إثبات ما ألفه أبو العلاء من جميع هذه الكتب، فألزمه بذلك حقوقاً جمة، وأيادي كثيرة، وكتاب في الرسائل الطوال، فيها رسالة الغفران، كتاب سميته خطب الخيل، يتكلم على ألسنتها، ومقداره عشر كراريس، كتاب يعرف بخطبة الفصيح، يتكلم فيه على أبواب الفصيح، مقداره خمس عشرة كراسة، وكتاب شرح فيه ما جاء في الذي قبله من الغريب، يعرف بتفسير خطبة الفصيح، وكتاب رسل الراموز، نحو ثلاثين كراسة، وكتاب راحة اللزوم، ويشرح فيه ما في كتاب لزوم ما لا يلزم من الغريب، نحو مائة كراسة، وكتاب لطيف يعرف بخماسية الراح، في ذم الخمر، ومعنى هذا الوسم، أنه بني على حروف المعجم، فذكر لكل حرف تمكن حركته خمس سجعات مضمومات، وخمساً مفتوحات، وخمساً مكسورات، وخمساً موقوفات، يكون مقداره عشر كراريس، وكتاب المواعظ الست، وهو لطيف، ومعنى هذا التلقيب، أن الفصل الأول منه في خطاب رجل، والثاني في خطاب اثنين، والثالث في خطاب جماعة، والرابع في خطاب امرأة، والخامس في خطاب امرأتين، والسادس في خطاب نسوة، نحو خمس عشرة كراسة، كتاب ضوء السقط، تفسير غريب سقط الزند، مقادره عشرون كراسة، وكتاب الصاهل والشاحج يتكلم فيه على لسان فرس وبغل، مقداره أربعون كراسة، صنفه لأبي شجاع فاتك، الملقب بعزيز الدولة، والي حلب من قبل المصريين، وكان رومياً، وكتاب منار القائف، في تفسير الكتاب الذي قبله فيما جاء فيه من اللغز والغريب، عشر كراريس، كتاب دعاء الأيام السبعة، وكتاب رسالة على لسان ملك الموت عليه السلام، وكتاب بعض فضائل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وكتاب أدب العصفورين، وكتاب السجعات العشر، موضوع على كل حرف من حروف المعجم، عشر سجعات في المواعظ، كتاب شرح كتاب سيبويه، لم يتم، مقداره خمسون كراسة، كتاب يتصل بكتاب الزجاجي، يعرف بعون الجمل، عمل أيضاً لأبي الفتح، محمد بن علي، بن أبي هاشم المذكور آنفاً، وهو آخر شيء أملاه، وكتاب في النحو يتصل بالكتاب المعروف بالعضدي، ولقبه ظهير العضدي، وكتاب ديوان الرسائل، وهو ثلاثة أقسام.
الأول رسائل طوال، تجري مجرى الكتب المصنفة، مثل كتاب رسالة الملائكة، وكتاب الرسالة السندية، جزء، وكتاب رسالة الغفران، جزء، وكتاب رسالة الفرض، جزء، ونحو ذلك.
والثاني: رسائل دون هذه في الطول، مثل كتاب رسالة المنيح، وكتاب رسالة الاغريض.
والثالث كتاب الرسائل القصار، كنحو ما تجري به العادة في المكاتبة، قيل إنه أربعون جزءاً، وقيل إنه ثمانمائة كراسة، وكتاب خادم الرسائل، في تفسير ما تضمنته هذه الرسائل، مما يحتاج إليه المبتدئون في الأدب، كتاب نظم السور، وكتاب عظات السور، وكتاب الراحلة، ثلاثة أجزاء، في تفسير كتاب لزوم ما لا يلزم، وكتاب في المنظوم، يعرف بكتاب استغفر واستغفري، مقداره مائة وعشرون كراسة، فيه نحو من عشرة آلاف بيت، وكتاب يعرف بالرسالة الحضية، وكتاب رسائل المعونة، وهي ما كتبت على ألسن قوم، وكتاب مثقال النظم في العروض، جزء، وكتاب اللامع العزيزي، في تفسير شعر المتنبي، عمل للأمير عزيز الدولة، وغرسها ابن تاج الأمراء، أبي الدوام، ثابت ابن ثمال، بن صالح، بن مرداس، بن إدريس، بن نصر، بن حميد، بن شداد، بن عبد قيس، بن ربيعة ابن كعب، بن عبد الله، بن أبي بكر، بن كلاب، ابن ربيعة، بن عامر، بن صعصعة، ويقال له أيضاً اللامع العزيزي، مقداره مائة وعشرون كراسة.
هذا ما وجدناه وأثبتناه عن جماعة من أصحاب أبي العلاء، قالوا: وله بعض كتب في العروض والشعر، بدأها ولم تتم، أو تمت وشذ عنا أسماؤها.
ومن شعره الدال على سوء عقيدته من لزوم ما لا يلزم:

ألا فانعموا واحذروا في الحيا ... ة ملهىً يسمى زوال النعم
أتوكم بأقوالهم والحسا ... م يسد به زاعم ما زعم
تلوا باطلاً وجلوا صارماً ... وقالوا صدقنا فقلنا نعم
زخارف ما ثبت في القلوب ... عمى عليكم بهن المعم
ومن ذلك أيضاً:
فقد طال العناء فكم تعاني ... سطوراً عاد كاتبها بطمس
دعا موسى وزال وقام عيسى ... وجاء محمد بصلاة خمس
وقيل يجئ دين غير هذا ... فأودى الناس بين غد وأمس
إذا قلت المحال رفعت صوتي ... وإن قلت اليقين أطلت همسي
ومن ذلك أيضاً:
وجدت الشرع تخلقه الليالي ... كما خلق الرداء الشرعبي
هي العادات يجري الشيخ منها ... على شيم تعودها الصبي
وأشوى الحق رام مشرقي ... ولم يرزقه آخر مغربي
فذا عمر يقول وذا سواه ... كلا الرجلين في الدعوى غبي
ومن ذلك أيضاً:
إذا ما ذكرنا آدماً وفعاله ... وتزويجه بنتيه لابنيه في الخنا
علمنا بأن الخلق من أصل زنية ... وأن جميع الناس من عنثر الزنا
وقال في رسالة الغفران، ولما أجلى عمر بن الخطاب أهل الذمة عن جزيرة العرب، شق ذلك على الجالين، فيقال: إن رجلاً من يهود خيبر، يعرف بسمير بن أدكن، قال في ذلك:
يصول أبو حفص علينا بدرة ... رويدك إن المرء يطفو ويرسب
مكانك لا نتبع حمولة ماقط ... لتشبع أن الزاد شيء محبب
فلو كان موسى صادقاً ما ظهرتم ... علينا ولكن دولة ثم تذهب
ونحن سبقناكم إلى المين فاعرفوا ... لنا رتبة البادي الذي هو أكذب
مشيتم على آثارنا في طريقنا ... وبغيتكم في أن تسودوا وترهبوا
وهذا يشبه أن يكون شعره، قد نحله هذا اليهودي، أو أن إيراده لمثل هذا، واستلذاذه به، من أمارات سوء عقيدته، وقبح مذهبه، ومن أشعاره الدالة على سوء اعتقاده، قوله في لزوم ما لا يلزم أيضاً:
وهيهات البرية في ضلال ... وقد نظر اللبيب لما اعتراها
تقدم صاحب التوراة موسى ... وأوقع في الخسار من افتراها
فقال رجاله وحي أتاه ... وقال الناظرون بل افتراها
وما حجي إلى أحجار بيت؟ ... كؤوس الخمر تشرب في ذراها
إذا رجع الحليم إلى حجاه ... تهاون بالمذاهب وازدراها
وله أيضاً:
خذ المرآة واستخبر نجوماً ... تمر بمطعم الأرى المشور
تدل على الممات بلا ارتياب ... ولكن لا تدل على النشور
ومنها أيضاً:
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدوا ... ويهود حارت والمجوس مضللهْ
إثنان أهل الأرض ذو عقل بلا ... دين وآخر دين لا عقل لهْ
ومنها أيضاً:
إن الشرائع ألقت بيننا إحناً ... وأورثتنا أفانين العداوات
وما أبيحت نساء الروم عن عرض ... للعرب إلا بأحكام النبوات
ومنها أيضاً:
تناقض ما لنا إلا الشكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار
يد بخمس مئين عسجد فديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار؟
قال المؤلف: كان المعري حماراً، لا يفقه شيئاً، وإلا فالمراد بهذا بين، لو كانت اليد لا تقطع إلا في سرقة خمسمائة دينار، لكثر سرقة ما دونها، طمعاً في النجاة، ولو كانت اليد تفدى بربع دينار، لكثر من يقطعها، ويؤدي ربع دينار دية عنها، نعوذ بالله من الضلال. ومنها أيضاً:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك
ومما يدل على كفره تصريحاً قوله:
عقول تستخف بها سطور ... يدري الفتى لمن الثبور؟
كتاب محمد وكتاب موسى ... وإنجيل ابن مريم والزبور
ومن ذلك أيضاً:
صرف الزمان مفرق الإلفين ... فاحكم إلهي بين ذاك وبيني

أنهيت عن قتل النفوس تعمداً ... وبعثت أنت لقتلها ملكين؟
وزعمت أن لها معاداً ثانياً ... ما كان أغناها عن الحالين!!
ومن ذلك أيضاً:
إذا كان لا يحظى برزقك عاقل ... وترزق مجنوناً وترزق أحمقا
فلا ذنب يا رب السماء على امرئ ... رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا
ومن ذلك أيضاً قوله:
في كل أمرك تقليد تدين به ... حتى مقالك ربي واحد أحد
وقد أمرنا بفكر في بدائعه ... فإن تفكر فيه معشر لحدوا
لولا التنافس في الدنيا لما وضعت ... كتب التناظر لا المغني ولا العمد
ومن ذلك أيضاً قوله:
قلتم لنا خالق قديم ... صدقتم هكذا نقول
زعمتموه بلا زمان ... ولا مكان ألا فقولوا
هذا كلام له خبئ ... معناه ليست لنا عقول
ومن ذلك أيضاً قوله:
دين وكفر وأنباء تقال وقر ... قان ينص وتوراة وإنجيل
في كل جيل أباطيل ملفقة ... فهل تفرد يوماً بالهدى جيل؟
ومن ذلك أيضاً:
ألحمد لله قد أصبحت في لجج ... مكابداً من هموم الدهر قاموساً
قالت معاشر لم يبعث إلاهكم ... إلى البرية عيساها ولا موسا
وإنما جعلوا الرحمن مأكلة ... وصيروا دينهم للملك ناموسا
ولو قدرت لعاتبت الذين بغوا ... حتى يعود حليف الغي مغموسا
ومن ذلك أيضاً قوله:
ولا تحسب مقال الرسل حقاً ... ولكن قول زور سطروه
وكان الناس في عيش رغي ... فجاءوا بالمحال فكدروه
قال المؤلف: نقلت هذا كله من تاريخ غرس النعمة محمد بن هلال، بن المحسن الصابئ، وحمدت الله تعالى على ما ألهم من صحة الدين، وصلاح اليقين، واستعذت به من استيلاء الشيطان على العقول.
قرأت في كتاب فلك المعاني، أن كثيراً من الجهال يعد الموت ظلماً من الباري عز وجل، ويستقبحه، بما فيه من النعمة، والحكمة والراحة والمصلحة، وقد قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري مع تحذلقه ودعواه الطويلة العريضة، وشهرة نفسه بالحكمة، ومظاهرته:
ونهيت عن قتل النفوس تعمداً ... وبعثت أنت لقتلها ملكين
وزعمت أن لنا معاداً ثانياً ... ما كان أغناها عن الحالين!!
وهذا كلام مجنون معتوه، يعتقد أن القتل كالموت والموت كالقتل، فليت هذا الجاهل لما حرم الشرع وبرده، والحق وحلاوته، والهدى ونوره، واليقين وراحته، لم يدع ما هو برئ منه، بعيد عنه، ولم يقل:
غدوت مريض العقل والرأي فالقني ... لتعلم أنباء العقول الصحائح
حتى سلط الله عليه أبا نصر بن أبي عمران، داعي الدعاة بمصر، فقال له: أنا ذلك المريض رأياً وعقلاً، وقد أتيتك مستشفياً فاشفني، وجرت بينهما مكاتبات كثيرة، أمر في آخرها بإحضاره حلب، ووعده على الإسلام خيراً من بيت المال، فلما علم أبو العلاء أنه يحمل للقتل أو الإسلام، سم نفسه ومات، وليته لما ادعى العقل خرس، ولم يقل مثل هذه الترهات التي يخلد إليها من لا حاجة لله تعالى فيه.
قال المؤلف: لما وقفت على هذه القصة، اشتهيت أن أقف على صورة ما دار بينهما على وجهه، حتى ظفرت بمجلد لطيف، وفيه عدة رسائل من أبي نصر، هبة الله ابن موسى، بن أبي عمران، إلى المعري في هذا المعنى، انقطع الخطاب بينهما على المساكتة، ولم يذكر فيها ما يدل على ما ذهب إليه ابن الهبارية، من سم المعري نفسه. ونقلها على الوجه يطول، فلخصت منها الغرض، دون تفاصح المعري وتشدقه.
كتب ابن أبي عمران إليه:

الشيخ - أحسن الله توفيقه - الناطق بلسان الفضل والأدب، الذي ترك من عداه صامتاً، مشهود له بهذه الفضيلة، من كل من هو فوق البسيطة، غير أن الأدب الذي هو جالينوس طبه، وعنده مفاتح غيبه، ليس مما يفيده كبير فائدة، في معاشه أو معاده، سوى الذكر السائر به الركبان، مما هو إذا تسامع المذكور به، علم أنه له بمكانة الجمال والزينة، مادام حياً، فإذا رمت به يد المنون من ظهر الأرض إلى بطنها، فلا بحسن ذكره ينتفع، ولا بقبيحه يستضر، وإذا كانت الصورة هذه، كان مستحيلاً منه، - أيده الله - مع وفور عقله، أن جعل مواده كلها منصبة إلى إحكام اللغة العربية، والتقعر فيها، واستيفاء أقسام ألفاظها ومعانيها، ووفر عمره على ما لا نتيجة له منها، وترك نفسه المتوقدة، نار ذكائها خلواً من النظر في شأن معاده، وأن يختار من عمله ما لا ينفع، فيمكث إذا ذهب الزبد جفاء من غيره، فإذا هو - حرسه الله - بمقتضى هذا الحكم، مرتو من عذب مشرب هذا العلم، وإنما ليس يبوح به، لضرب من ضروب السياسة، والدليل على كونه ناظراً لمعاده، سلوكه سبيل العيش والتزهد، وعدوله عن الملاذ، من المأكول والمشروب والملبوس، وتعففه عن أن يعل جوفه للحيوان مدفناً، أو أن يذوق من درها لبناً، أو يستطعم من استبدت عليه في حرثه وإنشائه، وهذه طريقة من يعتقد أنه إذا آلمها جوزي بألمها، وهذا غاية في الزهد.
ولما رأيت ذلك، وسمعت داعية البيت الذي يعزى إليه، وهو:
غدوت مريض الدين والعقل فالقني ... لتعلم أنباء الأمور الصحائح
شددت إليه راحلة العليل في دينه وعقله، إلى الصحيح الذي ينبئني أنباء الأمور الصحائح، وأنا أول ملب لدعوته، معترف بخبرته، وهو حقيق ألا يوطئني العشواء فيسلك بي في المجاهل، ولا يعتمد فيما يورده تلبيس الحق بالباطل.
وأول سؤالي عن أمر خفيف، فإن استنشقت نسيم الصبا، سقت السؤال إلى المهم: أسأله عن العلة في تحريمه على نفسه اللحم واللبن، وكل ما يصدر إلى الوجود من منافع الحيوان، فأقول: أليس النبات موضوعاً للحيوان يمتار منه؟ وبوجوده وجوده، وبقوة في الحيوان حساسة استولى على الانتفاع بالنبات، ولو لم يكن الحيوان، لكان موضوع النبات باطلاً لا معنى له، وعلى هذه القضية، فإن القوة الإنسانية مستولية على الحيوان، استيلاء الحيوان على النبات، لرجحانها عليه بالنطق والعقل، فهي مسخرة له على أنواع من التسخير، ولولا ذلك، لكان موضوع الحيوان باطلاً، فتجافى الشيخ - وفقه الله - عن الانتفاع بما هو موضوع له، مخلوق لأجله، إبطال لتركيب الخلقة، ثم امتناعه عن أكل الحيوان، ليس يخلو القصد به من أحد أمرين، الأول: إما أنه تأخذه رأفة بها، فلا يرى تناولها بالمكروه، وما ينبغي له أن يكون أرأف بها من خالقها، فإذا ادعى أن تحليلها وتحريمها، إنما كان من بعض البشر، يعني به أصحاب الشرائع، وأن الله لم يبح إراقة دم حيوان وأكله، كان الدليل على بطلان قوله، وقوع المشاهدة لجنس السباع وجوارح الطير، التي خلقها الله سبحانه على صيغة لا تصلح إلا لنتش اللحوم وفسخها، وتمزيق الحيوانات وأكلها. وإذا كان هذا الشكل قائم العين في الفطرة، كان جنس البشر وسيع العذر في أكل اللحوم، وكان من أصل لهم ذلك محقاً.
والثاني: أنه يرى سفك دماء الحيوان خارجاً عن أوضاع الحكمة، وذلك اعتراض منه على خالقه الذي أوجده. وإذا أنعم الشيخ وساق إلى حجة أعتمدها، رجوت كشف المرض الذي وقع اعترافي به.
الجواب من أبي العلاء المعري إليه قال العبد الضعيف العاجر، أحمد بن عبد الله، بن سليمان: أول ما أبدأ به، أني أعد سيدنا الرئيس الأجل، المؤيد في الدين - أطال الله بقاءه - ممن ورث حكمة الأنبياء، وأعد نفسي الخاطئة من الأغبياء، وهو بكتابه إلي متواضع، ومن أنا؟ حتى يكتب مثله إلى مثلي، مثله في ذلك، مثل الثريا كتب إلى الثرى وقد علم الله أن سمعي ثقيل، وبصري عن الإبصار نقيل، قضي علي وأنا ابن أربع، لا أفرق بين النازل والطالع، ثم توالت محني، فأشبه شخصي العود المنحني، ومنيت في آخر عمري بالإقعاد، وعداني عن النهضة عاد. وأما ما ذكره سيدنا الرئيس الأجل، المؤيد في الدين، فالعبد الضعيف العاجز، يذكر له مما عاياه طرفاً، فأقول: إن الله - جلت عظمته - ، حكم علي بالإزهاد، فطفقت من العدم في جهاد، وأما قول العبد الضعيف العاجز:

" غدوت مريض العقل والدين فالقني " فإنما خاطب به من هو في غمرة الجهل، لا من هو للرياسة علم وأصل، وقد علم أن الحيوان كله حساس يقع به الألم، وقد سمع العبد الضعيف من اختلاف القدماء.
وأول ما يبدأ به، لو أن قائلاً من البشر قال: إذا بنينا القضية البتية المركبة من المسند والمسند إليه، ولها واسطتان، إحداهما نافية، والأخرى استثنائية، فقلنا: الله لا يفعل إلا الخير، فهذه القضية كاذبة أم صادقة؟ فإن قيل صادقة، فقد رأينا الشرور غالبة، فعلمنا أن ذلك أمر خفي، ولم يزل من ينسب إلى الدين يرغب في هجران اللحوم، لأنها لم يوصل إليها إلا بإيلام حيوان، يفر منه في كل أوان، وأن الضائنة تكون في محل القوم وهي حامل، فإذا وضعت وبلغ ولدها شهراً أو نحوه، اعتبطوه فأكلوه، ورغبوا في اللبن، وباتت أمه ثاغية، لو تقدر سعت له باغية، وقد تردد في كلام العرب ما يلحق الوحشية من الوجد، والناقة إذا فقدت الفصيل، فقال قائلهم:
فما وجدت كوجدي أم سقب ... أضلته فرجعت الحنينا
وللسائل أن يقول: إن كان الخير لا يريد ربنا سواه، فالشر لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون قد علم به أو لا. فإن كان عالماً به، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون مريداً له أو لا. فإن كان مريداً له، فكأنه الفاعل، كما أن القائل يقول: قطع الأمير يد السارق، وإن لم يباشر ذلك بنفسه.
وإن كان غير مريد، فقد جاز عليه ما لا يجوز على أمير مثله في الأرض، أنه إذا فعل في ولايته شيء لا يرضاه أنكره، وأمر بزواله، وهذه عقدة، قد اجتهد المتكلمون في حلها فأعوزهم.
وقد ذكرت الأنبياء: أن البارئ - جلت عظمته - رؤوف رحيم، ولو رأف ببني آدم، وجب أن يرأف بغيرهم من أصناف الحيوان، الذي يجد الألم بأدنى شيء، وقد علم أن الوحوش الراتعة يبكر إليها الفارس، فيطعن العير أو الأتان، وهن ما أسدين إليه ذنباً، ولأي حال استوجب من يفعل بها هذا، " الرقة " ؟ وهي لم تشرب من الماء بذنوب، ولم تجز ما تكسب من الذنوب، وقد رأيت الجيشين المنتسب كل واحد منهما إلى الشرع المنفرد، يلتقيان وكلاهما في مدد، ويقتل بينهما آلاف عدداً، فهذا محسوب من أي الوجهين؟ فليس عند النظر بهين. فلما بلغ العبد الضعيف العاجز اختلاف الأقوال، وبلغ ثلاثين عاماً، سأل ربه إنعاماً، فرزقه صوم الدهر، فلم يفطر في السنة ولا الشهر، إلا في العيدين، وصبر على توالي الجديدين، وظن اقتناعه بالنبات يثبت له جميل العاقبة.
وقد علم سيدنا الرئيس الأجل، المؤيد في الدين ولا ريب، أنه قد نظر في الكتب المتقدمة، وما حكي عن جالينوس وغيره، من اعتقاد يدل على الحيرة. وإذا قيل: إن الباريء رؤوف رحيم، فلم سلط الأسد على افتراس نسمة إنسية؟، ليست بالمفسدة ولا القسية، وكم مات بلدغ الحيات جماعة مشهورة؟، وسلط على الطير الراضية بلقط الحبة البازي والصقر، وإن القطاة لتدع فراخها ظماء، وتبتكر لترد ماء تحمله إليها في حوصلتها، فيصادفها دونهن أجدل فيأكلها، فيهلك فراخها عطشاً، وذكر أشياء من هذا الباب، ثم قال: وأعوذ بالله وأتبرأ من قول الكافر:
ألمت بالتحية أم بكر ... فحيوا أم بكر بالسلام
وكائن بالطوى طوى بدر ... من الشيزي يكلل بالسنام
ألا يا أم بكر لا تكرى ... علي الكأس بعد أخي هشام
وبعد أخي أبيه وكان قرماً ... من الأقرام شراب المدام
ألا من مبلغ الرحمن عني ... بأني تارك شهر الصيام
إذا ما الرأس زايل منكبيه ... فقد شبع الأنيس من الطعام
أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام؟؟
أينزل أن يرد الموت عني ... ويحييني إذا بليت عظامي؟؟
ولعن الله القائل. ويقال: إنه الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
أدنها مني خليلي ... عنه لا دون الإزار
فلقد أيقنت أني غير مبعوث لنار
سأروض الناس حتى ... يركبوا دين الحمار
وأرى من يطلب الجن ... ة يسعى في خسار
وويل لابن رعيان إن كان قال:
هي الأولى وقد نعموا بأخرى ... وتسويف الظنون من السواف

فإن يك بعض ما قالوه حقاً ... فإن المبتليك هو المعافى
ومما حثني على ترك أكل الحيوان، أن الذي لي في السنة نيف وعشرون ديناراً، فإذا أخذ خادمي بعض ما يجب، بقي لي ما لا يعجب، فاقتصرت على فول وبلسن وما لا يعذب على الألسن، فأما الآن، فإذا صار إلى من يخدمني كبير، فعندي وعنده هين، فما حظي إلا اليسير المتعين، ولست أريد في رزقي زيادة، ولا أوثر لسقمي عيادة، والسلام.
الجواب من ابن أبي عمران حوشي الشيخ: - أدام الله سلامته - من أن يكون ممن قطف في مرض دينه وعقله بعلته، وأجاب دعوة الداعي منه، بالبيت الشائع عنه، لينال شفاء علته، جواباً يزيده إلى غلته غلة، إذاً يكون كما قال المتنبي:
أظمتني الدنيا فلما جئتها ... مستسقياً مطرت علي مصائبا
كان سؤالي له - حرسه الله - في شيء يختص بنفسه، في هجره ما يسد الجسم من اللحم، الذي ينبت اللحم، فأجاب بما أقول في جوابه: أهذه أنباء الخ، وهل زاد السقيم بدوائه هذا إلا سقماً، والأعمى الأصم في دينه وعقله بما قال إلا عمىً وصمماً، على أن جميع ما ذكره بنجوة عن سؤالي الأول، ومعزل عنه، ولا مناسبة بينهما وبينه.
وأما القول بأن اللحوم لا يوصل إليها إلا بإيلام الحيوان، فقد سبق الجواب: لا يكونن الشيخ أرأف بها من خالقها، فليس يخلو من كونه عادلاً أو جائراً، فإن كان عادلاً، فإنه سبحانه يقبض أرواح الآكل والمأكول جميعاً، وذلك مسلم له، وإن كان جائراً، لم ينبغ أن نرجع لعى خالقنا بعلنا وجوره.
وأما قوله وللسائل أن يقول: إن كان الخير هو الذي لا يريد ربنا سواه، فالشر لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون قد عليم به أو لا، إلى آخره، فأقول: قيل إن إنساناً ضاع له مصفحف، فقيل له اقرأ " والشمس وضحاها " فإنك تجده، فقال: وهذه السورة أيضاً فيه، فأقول أيضاً: إن هذا أيضاً من ذلك، وجميعه ظلمات فأين النور؟ وإنما قصدنا أن نعرف أنباء الأمور الصحائح كما قاله. وأما قوله: لما رأي اختلاف الأقوال، وأيقن بنفاه وزوال، سأل ربه أن يرزقه صوم الدهر، واقتنع بالنبات، فما صح لي أن الرب الذي سأله، هو الذي يريد الشر وحده، أو الذي يريدهما جميعاً، والصوم فرع على أصل، من شرع يأتي به رسول، والرسول يتعلق بمرسل، وقصتنا في الرسل مشتبهة، يبعث رسولاً يريد أن يطاع، أم لا يطاع؟ فإن كان يريد أن يطاع، فهو مغلوب على إرادته، لأن من لا يطيعه أكثر، وإن كان يريد ألا يطاع، فإرساله إياه محال، وطلبة حجة على الضعفاء ليعذبهم، فإن كان موضوع صومه على هذا، فلم يفعل شيئاً، وإن كان على غيره مما هو أجلى وأوضح، فهو الذي أطلبه.
وأما حكايته قول بعض الملحدين، واستعاذته بالله أن يكون من المعترضين، في قوله تعالى: " وأنه أهلك عاداً الأولى، وثمود فما أبقى " الآيات. إن كان الباري سبحانه خلقهم، وهو يعلم أنهم مجرمون، ومن التوبة والإنابة يحرمون، فكان الأولى به، وهو الرؤوف الرحيم، ألا يخلقهم لئلا يعذبهم، وإن كان لا يعلم، فهو كأمثالنا، ولا يدري ما يكون منه. وقول الشيخ بعده: معاذ الله أن نقول ذلك. بل نسلم ونتلو الآية: " من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً " فليس الملحد إذا قال: إن السكر حلو، والخل حامض، لا يقبل منه لكونه ملحداً. وقوله يقتضي جواباً. فإن كان عند الشيخ جواب، فهو الذي نبغي، وإلا فما التسليم في هذا الموضع، إلا التسليم للملحد، لا شيء غيره، وأما إنشاده: " ألمت بالتحية أم عمرو " وما بعده من الأشعار، وذمه من قال ولعنه، فمن الذي اتهمه بشيء من ذلك؟ حاشاه، وما الذي أوجب الإذكار بكفريات شعرهم؟. وأما ختمه الرسالة بقوله: إن الذي حثه على ترك أكل الحيوان، أن الذي له في السنة نيف وعشرون ديناراً، يصير إلى خادمه معظمها ويبقى له أيسرها، فتحمل مئونة القدر الذي يطعمه، لو كان ثقيلاً لوجب تحمله، فكيف وهو الخفيف محمله؟. وقد كاتبت مولاي تاج الأمراء، - حرس الله عزه - ، أن يتقدم بإزاحة العلة، فيما هو بلغة مثله من ألذ الطعام، ومراعاته به على الإدرار والدوام، ليتكشف عنه غاشية هذه الضرورة، ويجري أمره في معيشته على أحسن ما يكون من الصورة، ثم إن قام من الشيخ نشطة لجواب، أعفاني فيه عن قصد الأسجاع، ولزوم ما لا يلزم، فإن ملتمسي فيه المعاني لا الألفاظ.
الجواب من أبي العلاء "

سيدنا الرئيس الأجل، المريد في الدين، عصمة المؤمنين، هدى الله الأمم بهدايته، وسلك بهم طريق الخير على يده، قد بدأ المعترف بجهله، - المقر بحيرته، والداعي إلى الله سبحانه أن يرزقه ما قل من رحمته، في أول ما خاطبه به - ، أن ذكر اعتقاده في سيدنا الرئيس الأجل، المؤيد في الدين، ضوأ الله الظلم ببصيرته، وأذهب شكوك الأفئدة برأيه وحكمته، وما نفسه عليه من الذلة والحقرية عنده، وأنه سحسبها ساكتة في بعض السوام، وعجب أن مثله يطلب الرشد ممن لا رشد عنده، فيكون كالقمر الذي هو دائب في خدمة ربه ليلاً ونهاراً، يطلب الحقيقة ممن أقمر بفلاة يرد الماء على الصائد، ويصيب قلبه بسهم. وقد ذكر - أيد الله الحق بحياته - ، بيتاً من أبيات على الحاء، ذكر وليه ليعلم غيره ما هو عليه من الاجتهاد في التدين، وما حيلته في الآية المنزلة؟ التي هي قوله: " من يهد الله فهو المهتد " وأولها:
غدوت مريض العقل والدين فالقني ... لتعلم أنباء الأمور الصحائح
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالماً ... ولا تبغ قوتاً من غريض الذبائح
ولا يقدر أحد يدفع أن الحيوان البحري، لا يخرج من الماء إلا وهو كاره وإذا سئل المعقول عن ذلك، لم يقبح ترك أكله وإن كان حلالاً، لأن المتدينين لم يزالوا يتركون ما هو لهم حلال مطلق:
وأبيض أمات أرادت صريحة ... لأطفالها دون الغواني الصرائح
والمراد بالأبيض: اللبن، ومشهور أن الأم إذا ذبح ولدها وجدت عليه وجداً عظيماً، وسهرت لذلك ليالي، وقد أخذ لحمه، وتوفر على أصحاب أمه ما كان يرضع من لبنها، وأي ذنب لمن تحرج عن ذبح السليل؟ ولم يرغب في استعمال اللبن، ولا يزعم أنه محرم، وإنما تركه اجتهاداً في التعبد، ورحمة للمذبوح، رغبة أن يجازى عن ذلك بغفران خالق السموات والأرض، وإذا قيل: إن الله سبحانه يساوي بين عباده في الأقسام، فأي شيء أسلفته الذبائح من الخطأ، حتى تمنع حظها من الرأفة والرفق؟
فلا تفجعن الطير وهي غوافل ... بما وضعت فالظلم شر القبائح
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد الليل، وذلك أحد القولين في قوله عليه الصلاة والسلام: " أقروا الطير في وكناتها " ، وفي الكتاب العزيز: " يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم " إلى غيرها من الآي في المعنى، فإذا سمع من له أدنى حس هذا القول، فلا لوم عليه إذا طلب التقرب إلى رب السموات والأرضين، بأن يجعل صيد الحل كصيد الحرم، وإن كان ذلك ليس بمحظور:
ودع ضرب النحل الذي بكرت له ... كواسب من أزهار نبت فوائح
لما كانت النحل تحارب الشائر عن العسل بما تقدر عليه، وتجتهد أن ترده عن ذلك، فلا غرو إن أعرض عن استعماله، رغبة في أن تجعل النحل كغيرها، مما يكره فيه ذبح الأكيل، وأخذ ما كان يعيش به لتشربه النساء، كي يبدن وغيرها من بني آدم، وقد وصفت الشعراء ذلك، فقال أبو ذئب يصف مشتار العسل:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت لوب عواسل
وروى عن علي عليه السلام حكاية معناها: أنه كان له دقيق شعير في وعاء يختم عليه، فإذا كان صائماً لم يختم على شيء من ذلك الدقيق، وقد كان عليه السلام يصل إلى غلة كثيرة، ولكنه كان يتصدق بها، ويقتنع أشد اقتناع، وروي عن بعض أهل العلم أنه قال في بعض خطبه: إن غلته تبلغ في السنة خمسين ألف دينار، وهذا يدل على أن الأنبياء والمجتهدين من الأئمة، يقصرون نفوسهم، ويؤثرون بما يفضل منهم أهل الحاجة.

وقد عدل سيدنا الرئيس إلى الإيماء بأن من ترك أكل اللحم ذميم، ولو أخذ بهذا المذهب، لوجب على الإنسان ألا يصلي صلاة إلا ما افترض عليه، لأن ما زاد على ذلك، أداه إلى كلفة، والله تبارك وتعالى لا يريد ذلك، ولوجب أن الذي له مال كثير، إذا أخرج عن الذهب ربع العشر، لا يحسن به أن يزيد على ذلك، وقد حث الناس على النفقات في غير موضع من الكتاب الأشرف. والعبد الضعيف العاجز، قد افتقر إلى مثل ذلك، ولو مثل بحضرته السامية، لعلم أنه لم يبق فيه بقية لأن يسأل ولا أن يجيب، لأن أعضاءه متخاذلة، وقد عجز عن القيام في الصلاة، فإنما يصلي قاعداً، والله المستعان. وكيف له أن يكون يصل إلا أن يدب على عكاز؟. ثم استشهد على عجزه بأشعار العرب، وإني لأعجز إذا اضطجعت عن القعود، فربما استعنت بإنسان، فإذا هم بإعانتي، وبسط يديه لنهضتي، ضربت عظامي، لأنهن عاريات من كسوة كانت عليهن. وأما استشهاده ببيت أبي الطيب، فمن استرشد بمثل العبد الضعيف العاجز، مثله مثل من طلب في القتادة ثمر النخلة، وإنما حمل سائله على ذلك حسن الظن، الذي هو دليل على كرم الطبع، وشرف النفس، وطهارة المولد، وخالص الخيم.
وأما ما ذكره من المكاتبة في توسيع الرزق علي، فيدل على إفضال ورثه عن أب فأب، وجد في إثر جد، حتى يصل النسب إلى التراب، فالعبد الضعيف العاجز، ما له رغبة في التوسع، ومعاودة الأطعمة. وتركها صار له طبعاً ثانياً. وإنه ما أكل شيئاً من حيوان خمساً وأربعين سنة.
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه
وقد علم أن السيد الأجل، تاج الأمراء، فخر الملك، عمدة الإمامة، وعدة الدولة ومجدها، ذا الفخرين، نصيف أولاد سام وحام ويافث، وود العبد الضعيف العاجز، لو أن قلعة حلب، وجميع جبال الشام جلعها الله ذهباً، لينفقه تاج الأمراء، نصير الدولة النبوية، على إمامها السلام. وكذلك على الأئمة الطاهرين من آبائه، من غير أن يصير إلى العبد الضعيف من ذلك قيراط، وهو يستحي من حضرة تاج الأمراء، أن ينظر إليه بعين من رغب في العاجلة بعد ما ذهب، وهو رضي أن يلقى الله جلت قدرته، وهو لا يطالب إلا بما فعل من اجتناب اللحوم، فإن وصل إلى هذه الرتبة فقد سعد. ثم اعتذر عن السجع بأخبار أوردها، واحتجاجات ذكرها. وسيدنا الرئيس الأجل، المؤيد في الدين، لازالت حجته باهرة، ودولته عالية، كما قال ثعلبة بن صعير:
ولرب قوم المين ذوي شذى ... تغلي صدورهم بهتر هاتر
لاقيتهم مني بما قد ساءهم ... وخسأت باطلهم بحق ظاهر
ولو ناظر أرسطاليس لجاز أن يفحمه، أو أفلاطون لنبذ حججه خلفه، والله يجمل بحياته الشريعة، وينصر بحججه الملة، وحسبي الله ونعم الوكيل.
" الجواب من ابن أبي عمران "

ما فاتحت الشيخ - أحسن الله توفيقه - بالقول، إلا مفاتحة متناكر عليه فيه، مؤثر لأن يخفي من أين جاء السؤال؟ فيكون الجواب عنه باستدلال ورفض حشمة، وحذف تكلف للخطاب بسيدنا والرئيس، وما يجري هبذا المجرى، إذ كان حكم ما يتجارى فيه، موجباً ألا يتخلله شيء من زخارف الدنيا، ولأني أعتقد أن سيدي بالحقيقة، من تستقل دون يده يداي، صداً منه للدنيا، أو تمتار نفسي من نفسه، استفادة من معالم الأخرى، فما أدري كيف انكشفت الحال؟، حتى صار الشيخ - أدام الله تأييده - يخاطبني بسيدنا والرئيس، ولست مفضلاً عليه في دنيا ولا دين، بل شاد راحلتي إليه الاستفادة، إن وردت موردها، أو صادفت نهراً أو علالتها، قابلتها بالشكر لنعمته، والإسجال على نفسي بأستاذيته، وبعد، فإني أعلمه - أدام الله سلامته - أني شققت جيب الأرض، من أقصى دياري إلى مصر، وشاهدت الناس بين رجلين، إما منتحل لشريعة صبا إليها، ولهج بها، إلى الحد الذي إن قيل له من أخبار شرعه: إن فيلاً طار، أو جملاً باض، لما قابله إلا بالقبول والتصديق، ولكان يكفر من يرى غير رأيه فيه، ويسفهه ويلعنه، والعقل عند من هذه سبيله في مهواة وفي مضيعة، فليس يكاد ينبعث أن هذه الشريعة التي هو منتحلها، لم يطوق طوقها، ولم يسور سوارها، إلا بعد بلوغ نور العقل منه، فكيف يصح توليه أولاً، وعزله آخراً؟. فلما رمت بي المرامي إلى الشام، وسمعت أن الشيخ - وفقه الله - يفضل في الأدب والعلم، وقد اتفقت عليه الأقاويل، ووضح به البرهان والدليل، ورأيت الناس فيما يتعلق بدينه مختلفين، وفي أمره مبتلين، فكل يذهب فيه مذهباً، وحضرت مجلساً جليلاً أجري فيه ذكره، فقال الحاضرون فيه غثاً وسميناً فحفظته في الغيب، وقلت: إن المعلوم من صلابته في زهده، يحميه من الظنة والريب، وقام في نفسي أن عنده من حقائق الله سراً قد أسبل عليه من البقية ستراً، وأمراً يميز به عن قوم يكفر بعضهم بعضاً، ولما سمعت البيت " غدوت مريض العقل " توثقت من خلدي فيما حدثت عقوده، وتأكدت عهوده، وقلت: إن لساناً يستطيع بمثل هذه الدعوى نطقاً، ويفتق من هذا الفخر العظيم رتقاً، للسان صامت عنده كل ناطق، من ذروة من جبل العلم شاهق، فقصدته قصد موسى للطور، أقتبس منه ناراً، وأحاول أن أرفع بالفخر مناراً، لمعرفة ما تخلف عن معرفته المتخلفون، واختلف في حقيقته المختلفون، فأدليت دلوي بالمسألة الخفيفة، التي سألت عنها، ترقياً من دون إلى فوق، وتدرجاً من صغرى إلى كبير فكان جوابه، أنه يصغر عن أن يكون للاسترشاد محلاً، فقلت: هذه زيادة في فضله، وما يجوز صدور مثله عن مثله، ثم انتهى إلى الإحالة على كون الناس ممن تقدم أو تأخر، في وادي الحيرة تائهين، وفي أذياله متعثرين، من قائل يقول: إن الخير والشر من الله، ومجيب يجيبه، هل كان ما كان يستعيذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم من وعث السفر؟ وكل مستعاذ منه، خيراً أو شراً. فإن كان خيراً فالاستعاذة منه باطلة، وإن كان شراً والله مريده، فالاستعاذة منه كذلك فضول وزيادة في المعنى، وسؤال من يسأل: هل كان سم الحسن وقتل الحسين، عليهما السلام خيراً أو شراً؟ فإن كان خيراً فاللعنة على القاتل من أي جهة؟ وإن كان شراً والله مريده، زال اللوم عن القاتل. وقائل يقول: إن الخير من الله، والشر من غيره، ومجيب يجيب بالجواب الذي يقطع به الأسباب، وغيره مما أطال به الخطاب، من أشعار الملحدة وأقوالهم، فكان جوابي - أدام الله سلامته - أنني من هؤلاء الذين ذكرتهم، تبريت إليك، وتطايحت عليك. وإن كلامهم عندي قبل أن عللته عليل، وهو على مسامع القبول مني ثقيل، فافتح لي إلى ما عندك باباً، وأفسح لي من لدنك جناباً، فلم يفعل، ثم خاطبته على امتناعه من أكل اللحوم، فاحتج بكونه متحرجاً من قصدها - أعني البهائم - بالمضرة والإيلام، متعففاً عنها لهذه الجهة، فقطعت لسان حجته بعد تناهيها، وقلت: إذا كان الله تعالى سلط بعضها لتأكل بعضاً، وهو أعرف بوجوه الحكمة، وأرأف باخليقة، فلا يكون أرأف بها من ربها، ولا أعدل فيها من خالقها، ثم عدل إلى قصور يد الاستطاعة دون ذلك، إذ كان القدر الذي هو له في السنة منصرفاً إلى من يتولى خدمته أكثره، وخالصاً له أقله، فقطعت الحجة في هذا الباب أيضاً، وعينت له على جهة كريمة، من الذين لا يتعبون ما أنفقوا مناً ولا أذى، ما يقوم

بقدر كفايته، من أطيب ما يأكلون، وأزكى ما في البيوت يدخرون فتجافت نفسه - وقاها الله السوء - عن هذا الباب أيضاً، وكتب في الجواب الثاني بأنه لا يؤثر ذلك، ولا يرغب فيه، ولا يخرق عادته المستمرة في الترك، وابتدأ يقول: إني طلبت الرشد ممن لا رشد عنده، وإن البيت الذي قاله مما تعلقت به، وجعلته محجة إلى استقراء طريقته ومذهبه، إنما أراد الإعلام باجتهاده في التدين، وما حيلته في الآية المنزلة " من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً " فجمع بين المتضادين في كلمة واحدة، لأنه إن كانت الآية حقاً، كان الاجتهاد باطلاً. وقال: إن لله سبحانه أسراراً لا يقف عليها إلا الأولياء، فنحن على ذلك السر ندور، وعلى باب من هو عنده نطوف، فإن قلنا: إنه - حرسه الله - من أصحابه، بدعوى صحته في دينه وعقله ومرض الناس على موجب قوله، قال: لا رشد عندي، فنظمه في هذا المعنى يناقض نثره، ونثره يخالف نظمه، فكيف الحيلة؟ ثم قال: إن البيت المقول:ر كفايته، من أطيب ما يأكلون، وأزكى ما في البيوت يدخرون فتجافت نفسه - وقاها الله السوء - عن هذا الباب أيضاً، وكتب في الجواب الثاني بأنه لا يؤثر ذلك، ولا يرغب فيه، ولا يخرق عادته المستمرة في الترك، وابتدأ يقول: إني طلبت الرشد ممن لا رشد عنده، وإن البيت الذي قاله مما تعلقت به، وجعلته محجة إلى استقراء طريقته ومذهبه، إنما أراد الإعلام باجتهاده في التدين، وما حيلته في الآية المنزلة " من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً " فجمع بين المتضادين في كلمة واحدة، لأنه إن كانت الآية حقاً، كان الاجتهاد باطلاً. وقال: إن لله سبحانه أسراراً لا يقف عليها إلا الأولياء، فنحن على ذلك السر ندور، وعلى باب من هو عنده نطوف، فإن قلنا: إنه - حرسه الله - من أصحابه، بدعوى صحته في دينه وعقله ومرض الناس على موجب قوله، قال: لا رشد عندي، فنظمه في هذا المعنى يناقض نثره، ونثره يخالف نظمه، فكيف الحيلة؟ ثم قال: إن البيت المقول:
غدوت مريض العقل والدين فالقني ... لتعلم أنباء العقول الصحائح
يؤدي معناه البيت الثاني:
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالماً ... ولا تبغ قوتاً من غريض الذبائح
فكأن مرض الدين والعقل من جهة أكل اللحوم، وشرب الألبان، وتناول العسل، فمن ترك هذه المطاعم، كان صحيحاً دينه وعقله، وهو يعلم أن صحة الأديان والعقول لا تقوم بذلك، ولا يجوز أن يكون هذا البيت الثاني، ناسخاً لحكم الأول، فيكون محصول دعواه في فقر الناس، إلى أن يصح دينهم وعقلهم، هو أن يقول لهم: لا تأكلوا اللحم واللبن!!! وأما قوله: إن الحيوان البحري كاره أن يخرج إلى البر، وإنه ليس يقبح في العقول ترك أكله وإن كان حلالاً، لأن المتدينين لم يزالوا يتركون ما لهم طلقاً، فما من حيوان بحري ولا بري، هو أجل من هذا الإنسان الحي العاقل، وهو كاره للموت فيموت، وكاره لأن يأكله شيء، والدود يأكله في قبره، فإن كان ذلك صاندراً عن موضع حكمة، كان ما ذكره من الحيوان البري والبحري جارياً في مضمار هذا، مثلاً بمثل، وإن كان معدولاً به عن وجه الحكمة، كان محالاً أن يكون صانعي سفيهاً، وأكون - وأنا مصنوعه - حكيماً.
وأما قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى إلى أن تقرحت قدماه، فقيل له فيه، فقال: أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟ فما هذا مما نحن عليه في شيء، والإنسان له أن يصلي ما شاء من الصلوات، في الأوقات التي تجوز فيها الصلاة، على ألا يزيد في الفرائض ولا ينقص منها، وهذا الكلام شرعي، وكانت القضية للتكلم على العقليات.
وأما قوله: إنه عليه الصلاة والسلام، حرم صيد الحرم، وإن لغيره أن يحرم صيد الحل تقرباً إلى الله سبحانه، فليس لأحد أن يحلل أو يحرم غيره، وأما قوله: إن علياً عليه السلام: لما قدم إليه الخبيص سأل: هل أكل النبي صلى الله عليه وسلم منه؟ فلما قالوا لا: رفعه ولم يأكله، فهذه الحجة عليه لا له، فإن الناس مجمعون على أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يفارق أكل اللحم، وهو يهجره دهره، وذلك بالضد سواء، ولو أنه - حرسه الله - لم يستظهر علي بالشريعة، ولم يتجاوز نصبة العقل، لصنته عن هذا الجواب الذي عسى أن يستغل سره. ويعز علي ذلك.

وأما ما شكاه من ضعفه، وقصور حركته، وأنه لم يبق فيه بقية لأن يسأل ولا أن يجيب، فما هو - حرسه الله - على علاته من الضعف والقوة، إلا من محاسن الزمان، وممن سارت بذكر فضله الركبان، إلا أنه على عدوان الدهر عليه، عدا على نفسه، بحرمانها ملاذ دنياها، فإن وثقت نفسه بملاذ تعتاض عنها، مما هو خير وأبقى منها، فما خسرت صفقته، وقام مصداق قوله بالبيت المقدم ذكره، وإن كان يوسم بميسم الشح بمنع المنتجعين، ورد السائلين. وإن كان شق على نفسه من غير بصيرة كما يدعيه الآن، خوضاً مع الخائضين، وتحيراً مع أمثالنا من المتحيرين، فقد أضاعها وجنى عليها، وادعى في البيت المقدم ذكره ما لا برهان له، والغرض في السؤال والجواب الفائدة، وإذا عدمت فقد خفف الله عنه أن يتكلف جواباً.
وأما الأسجاع ومساءلتي التخلي عنها، فما كانت إلا ضحاً بالمعاني أن تضل بتتبعها، ولأنني إذا تتبعت فضله، بصنعاته في الأدب والشعر، وجدت في أرضه مراغماً كثيراً وسعة، ومن أين لي، أن أظهر على مكنون جواهر علوم دينه؟ كظهوري على مصنفات أدبه وشعره، وقبل وبعد، فأنا أعتذر عن سر له - أدام الله حراسته - أذعته، وزمان منه بالقراءة والإجابة شغلته، لأنني من حيث ما نفعته ضررته، والله تعالى يعلم، أني ما قصدت به غير الاستفادة من علمه، والاغتراف من بحره، والسلام.
وكنا بحضرة القاضي الأكرم، الوزير جمال الدين، أبي الحسن علي بن يوسف، بن إبراهيم الشيباني - حرس الله مجده - وفيه جماعة من أهل الفضل والأدب، فقال أبو الحسن، علي بن عدلان النحوي الموصلي: حضرت بدمشق عند محمد بن نصر، بن عنين الشاعر، وزير المعظم، فجاءته رقعة طويلة عريضة، خالية من معنى، فارغة من فائدة، فألقاها إلي قائلاً: هل رأيت قط رقعة أسقط أو أدبر من هذه، مع طول وعرض؟ فتناولتها فوجدتها كما قال، وشرعت أخاطبه، فأومأ إلي بالسكوت وهو مفكر، ثم أنشدني لنفسه:
وردت منك رقعة أسأمتني ... وثنت صدري الحمول ملولا
كنهار المصيف ثقلاً وكرباً ... وليالي الشتاء برداً وطولا
فاستحسن أهل المجلس هذه البديهة، وعجبوا من حسن المعنى، فقال القاضي الأكرم: مازلت أستحسن كلاماً وجدته على ظهر كتاب ديوان الأعشى، في مدينة قفط سنة خمس وثمانين، يتضمن لأبي العلاء المعري شعراً، يشبه ما في هذين البيتين من المقابلة، ضداً بضد في موضعين، ولعل هذين البيتين يفضلان على ذلك، فقلنا له: وما ذلك الكلام؟ فقال: حكي أن صالح بن مرداس صاحب حلب، نزل على معرة النعمان محاصراً، ونصب عليها المجانيق، واشتد في الحصار لأهلها، فجاء أهل المدينة إلى الشيخ أبي العلاء، لعجزهم عن مقاومته، لأنه جاءهم بما لا قبل لهم به، وسألوا أبا العلاء تلافي الأمر، بالخروج إليه بنفسه. وتدبير الأمر برأيه، إما بأموال يبذلونها، أو طاعة يعطونها، فخرج ويده في يد قائده، وفتح الناس له باباً من أبواب معرة النعمان، وخرج منه شيخ قصير يقوده رجل، فقال صالح: هو أبو العلاء، فجيئوني به، فلما مثل بين يديه، سلم عليه، ثم قال: الأمير - أطال الله بقاءه - ، كالنهار الماتع، قاظ وسطه، وطاب أبرداه، أو كالسيف القاطع، لان متنه، وخشن حداه، " خذ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين " فقال صالح: " لا تثريب عليكم اليوم " قد وهبت لك المعرة وأهلها، وأمر بتقويض الخيام والمجانيق، فنقضت ورحل، ورجع أبو العلاء وهو يقول:
نجى المعرة من براثن صالح ... رب يعافي كل داء معضل
ما كان لي فيها جناح بعوضة ... الله ألحفهم جناح تفضل
قال أبو غالب بن مهذب المعري في تاريخه، في سنة سبع عشرة وأربعمائة:

صاحت امرأة يوم الجمعة في جامع المعرة، وذكرت أن صاحب الماخور أراد أن يغتصبها نفسها، فنفر كل من في الجامع، وهدموا الماخور، وأخذوا خشبه ونهبوه، وكان أسد الدولة في نواحي صيدا، فوصل الأمير أسد الدولة، فاعتقل من أعيانها سبعين رجلاً، وذلك برأي وزيره تادرس بن الحسن الأستاذ، وأوهمه أن في ذلك إقامة للهيبة، قال: ولقد بلغني أنه دعي لهؤلاء المعتقلين بآمد وميا فارقين على المنابر، وقطع تادرس عليهم ألف دينار، وخرج الشيخ أبو العلاء المعري إلى أسد الدولة صالح، وهو بظاهر المعرة، وقال له الشيخ أبو العلاء: مولانا السيد الأجل، أسد الدولة، ومقدمها وناصحها، كالنهار الماتع، اشتد هجيره، وطاب أبرداه، وكالسيف القاطع، لان صفحه، وخشن حداه، " خذ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين " .
فقال صالح: قد وهبتهم لك أيها الشيخ، ولم يعلم أبو العلاء، أن المال قد قطع عليهم، وإلا كان قد سأل فيه، ثم قال الشيخ أبو العلاء بعد ذلك شعراً وهو:
تغيبت في منزلي برهة ... ستير العيون فقيد الحسد
فلما مضى العمر إلا الأقل ... وحم لروحي فراق الجسد
بعثت شفيعاً إلى صالح ... وذاك من القوم رأي فسد
فيسمع مني سجع الحمام ... وأسمع منه زئير الأسد
فلا يعجبني هذا النفاق ... فكم نفقت محنة ما كسد

أحمد بن عبد الرحمن بن نخيل الحميري
أبو العباس الشنتمري يقول فيه أبو العباس، أحمد بن عبد العزيز، بن غنزوان الكاتب الشنتمري، وقد حضر القراءة عليه هو وجماعة من طلبة شنتمرية:
ومجلس ليس لشر به ... باع وباع الخير فيه مديد
وربما تقضى حياة به ... وينثني العالم فيه بليد
يزينه في جمعه فتية ... غر كما تدري صباح الخدود
ما منهم في جمعهم واحد ... إلا أخو نبل وذهن حديد
تجمعوا حول فقيه حوى ... حلماً وعلماً مع رأي سديد
إن خانك التفكير في مشكل ... فآت من يبلغ ما قد تريد
وإن يقل كان الذي قاله ... ولم يكن فيه لخلق مزيد
كأنه بين تلاميذه ... بدر بدا بين نجوم السعود
أحمد بن عبد الله المهاباذي الضرير
من تلاميذ عبد القاهر الجرجاني، له شرح كتاب اللمع.
أحمد بن عبد السيد بن علي
يعرف بابن الأشقر، النحوي أبو الفضل، متأخر من ساكني قطيعة باب الأزج، ذكره أبو عبد الله بن الدبيثي في كتابه، الذي ذيله على تاريخ السمعاني وقال: هو أديب فاضل، قرأ على أبي زكريا، يحيى بن علي الخطيب التبريزي، ولازمه حتى برع في فنه، وسمع على علو سنه، من أبي الفضل محمد بن ناصر السلامي، قال: وسمعت من يذكر أنه رأى أبا محمد بن الخشاب النحوي بالقطيعة، من باب الأزج، وهو يسأله عن مسائل من النحو ويباحثه، وقد روى الأشقر: وأقرأ العربية، إلا أن الروايات عنه قليلة.
أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن عبد الملك
ابن عمر، بن محمد، بن عيسى، بن شهيد أبو عامر، أشجعي النسب، من ولد الوضاح، بن رزاح، الذي كان مع الضحاك يوم المرج، ذكره الحميدي وقال: إنه مات في جمادى الأولى سنة ست وعشرين وأربعمائة بقرطبة، ومولده سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة وأبو عبد الملك بن أحمد، شيخ من شيوخ وزراء الدولة العامرية، ومن أهل الأدب، وكان في أيام عبد الرحمن الناصر، له شعر وبديهة، ولم يخلف لنفسه نظيراً في علمي النظم والنثر. قال: وهو من العلماء بالأدب، ومعاني الشعر، وأقسام البلاغة، وله حظ من ذلك بسق فيه، ولم ير لنفسه في البلاغة أحداً يجاريه، وله كتاب حانوت عطار في نحو من ذلك.
وسائر رسائله وكتبه نافعة الجد، كثيرة الهزل، وشعره كثير مشهور، وقد ذكره أبو محمد علي بن أحمد مفتخراً به، فقال: ولنا من البلغاء أحمد بن عبد الملك، بن شهيد. وله من التصرف في وجوه البلاغة وشعابها مقدار، ينطق فيه بلسان مركب من لساني عمرو وسهل، ومن شعر أبي عامر المختار:
وما ألان قناتي غمز حادثة ... ولا استخف بحلمي قط إنسان
أمضي على الهول قدماً لا ينهنهني ... وأنثني لسفيهي وهو حردان

ولا أقارض جهالاً بجهلهم ... والأمر أمري والأيام أعوان
أهيب بالصبر والشحناء ثائرة ... وأكظم الغيظ والأحقاد نيران
وقوله:
ألمت بالحب حتى لو دنا أجلي ... لما وجدت لطعم الموت من ألم
وذادني كرمي عمن ولهت به ... ويلي من الحب أو ويلي من الكرم
قال: وقال أبو محمد علي بن أحمد: ولم يعقب أبو عامر، وانقرض عقب الوزير أبيه بموته، وكان جواداً لا يليق شيئاً، ولا يأسى على فائت، عزيز النفس، مائلاً إلى الهزل، وكان له من علم الطب نصيب وافر.

أحمد بن عبد الملك بن علي بن أحمد
ابن عبد الصمد، بن بكر المؤذن، أبو صالح النيسابوري، الحافظ الأمين، لافقيه المفسر، المحدث الصوفي، نسيج وحده، في طريقته وجمعه وإفادته، ولد في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، ومات لتسع خلون من شهر رمضان سنة سبعين وأربعمائة، وكان أبو سعد السمعاني في المزيد فقال: ومن خطه نقلت، كان عليه الاعتماد في الودائع من كتب الحديث، المجموعة في الخزائن، الموروثة عن المشايخ، الموقوفة على أصحاب الحديث، وكان يصونها، ويتعهد حفظها، ويتولى أوقاف المحدثين، من الحبر والكاغد وغير ذلك، ويقوم بتفرقتها عليهم، وإيصالها إليهم، وكان يؤذن على منارة المدرسة البيهقية سنين احتساباً، ووعظ المسلمين وذكرهم، وكان يأخذ صدقات الرؤساء والتجار، ويوصلها إلى ذوي الحاجات، ويقيم مجالس الحديث، وكان إذا فر، جمع وصنف وأفاد، وكان حافظاً ثقة ديناً، خيراً كثير السماع، واسع الرواية، جمع بين الحفظ والإفادة والرحلة، وكتب الكثير بخطه.
ثم ذكر أبو سعد جماعة كثيرة، ممن سمع عليه، بجرجان، والري، والعراق، والحجاز، والشام، ثم قال كما ينطق به تصانيفه وتخريجاته، ولم يتفرغ للإملاء، لاشتغاله بالمهمات التي هو بصددها، ثم ذكر جماعة رووا عنه. ثم قال: وصنف التصانيف، وجمع الفوائد، وعمل التواريخ، منها: كتاب التاريخ لبلدنا مرو، ومسودته عندنا بخطه، وأثنى عليه ثناء طويلاً.
وذكر أن الخطيب أبا بكر ذكره في تاريخه، وأنه كتب عنه، وكتب هو عن الخطيب، ووصفه بالحفظ والمعرفة، والذب عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم روى عنه أخباراً وأسانيد كثيرة، منها ما أسنده إليه، وقال: أنشد الشريف أبو الحسن عمران ابن موسى المغربي لنفسه:
حذيت وفائي منك غدراً وخنتني ... كذاك بدور التم شيمتها الغدر
وحاولت عند البدر والشمس سلوة ... فلم يسلني يا بدر شمس ولا بدر
وفي الصدر مني لوعة لو تصورت ... بصورة شخص ضاق عن حملها الصدر
أمنت اقتدار البين من بعد بينكم ... فما لفراق بعد فرقتكم قدر
أحمد بن عبد الوهاب بن هبة الله
ابن محمد، بن علي، بن الحسين، بن يحيى، بن السيني، أبو البركات، بن أبي الفرج، مؤدب الخلفاء، كانت له معرفة حسنة بالآداب، ومات في سادس عشر من المحرم، سنة أربع عشرة وخمسمائة، عن ست وخمسين سنة، وثلاثة أشهر.
قال أبو الفرج بن الجوزي: كان أبو البركات يعلم أولاد المستظهر، وكان له أنس بالمسترشد، فلما قبض على ابن الجوزي صاحب المخزن، ولي ابن السيني مكانه النظر في المخزن سنة وثمانية أشهر، وكان عالماً بالأدب والشعر، كثير الإفضال على أهل العلم، وخلف من المال ما حزر بمائة ألف دينار. وقف وقوفاً على مكة والمدينة.
أحمد بن عبيد بن ناصح بن بلنجر
أبو جعفر النحوي الكوفي، يعرف بأبي عصيدة. ديلمي الأصل، من موالي بني هاشم، حدث عن الواقدي، والأصمعي، وأبي داود الطيالسي، وزيد بن هارون، وغيرهم. وروى عنه القاسم بن محمد، بن بشار الأنباري، وأحمد بن حسن، بن شهير، ومات فيما ذكره أبو عبد الله، محمد ابن شعبان بن هارون، بن بنت الغرياني في تاريخ الوفيات له، في سنة ثلاث وسبعين ومائتين.
قالوا: وكان ضعيفاً فيما يرويه، وله من التصانيف: كتاب المقصور والممدود، وكتاب المذكر والمؤنث، وكتاب الزيادات في السفر لابن السكيت في إصلاحه، وكتاب عيون الأخبار والأشعار.

وحدث محمد بن إسحاق النديم قال: كان أبو عصيدة وابن قادم يؤدبان ولد المتوكل، قال: لما أراد المتوكل أن يتخذ المؤدبين لولده، جعل ذلك إلى إيتاخ، فأمر إيتاخ كاتبه أن يتولى ذلك، فبعث إلى الطوال، والأحمر، وابن قادم، وأبي عصيدة هذا، وغيرهم من أدباء ذلك العصر، فأحضرهم مجلسه، وجاء أبو عصيدة، فقعد في آخر الناس، فقال له من قرب منه: لو ارتفعت، فقال: بل أجلس حيث انتهى بي المجلس، فلما اجتمعوا، قال لهم الكاتب: لو تذاكرتم وقفنا على موضعكم من العلم، واخترنا. فألقوا بينهم بيت ابن عنقاء الفزاري:
ذريني إنما خطئي وصوبي ... علي وإنما أنفقت مال
فقالوا: ارتفع مال بإنما، إذا كانت ما بمعنى الذي، ثم سكتوا، فقال لهم أحمد بن عبيد من آخر الناس: هذا الإعراب، فما المعنى؟ فأحجم الناس عن القول، فقيل له: فما المعنى عندك؟ قال: أراد ما لومك إياي؟ وإن ما أنفقت مال، ولم أنفق عرضاً، فالمال لا ألام على إنفاقه، فجاءه خادم من صدر المجلس فأخذ بيده، حتى تخطى به إلى أعلاه، وقال له: ليس هذا موضعك، فقال: لأن أكون في مجلس أرفع منه إلى أعلاه، أحب إلي من أن أكون في مجلس أحط عنه. فاختير هو وابن قادم، بخط عبد السلام البصري.
حدثنا أبو الحسن محمد بن يوسف، بن يوسف، بن موسى سبط فلان، قال: حدثنا أبو القاسم عبيد الله، ابن محمد، بن جعفر الأزدي قال: سمعت أحمد بن عبيد، بن ناصح يقول: لما أراد المتوكل أن يعقد للمعتز ولاية العهد، حططته عن مرتبته قليلاً، وأخرت غداءه عن وقته، فلما كان وقت الانصراف، قلت للخادم احمله، فضربته من غير ذنب، فكتب بذلك إلى المتوكل: فأنا في الطريق منصرفاً، إذ لحقني صاحب رسالة فقال: أمير المؤمنين يدعوك، فدخلت على المتوكل وهو جالس على كرسي، والغضب يبين في وجهه، والفتح قائم بين يديه متكئاً على السيف، فقال: ما هذا الذي فعلته يا أبا عبد الله؟ قلت: أقول يا أمير المؤمنين؟ فقال: قل، إنما سألتك لتقول، قلت: بلغني ما عزم عليه أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - فدعوت ولي عهده وحططت منزلته، ليعرف هذا المقدار، فلا يعجل بزوال نعمة أحد، وأخرت غداءه، ليعرف هذا المقدار من الجوع، فإذا شكي إليه الجوع عرف ذلك، وضربته من غير ذنب، ليعرف مقدار الظلم، فلا يعجل على أحد، قال: فقال أحسنت، وأمر لي بعشرة آلاف درهم، ثم لحقني رسول قبيحة بعشرة آلاف أخرى، فانصرفت بعشرين ألفاً. قال: وحدثنا أبو القاسم الأزدي قال: سمعت أحمد بن عبيد، بن ناصح يحدث قال: قال لي المعتز يوماً: يا مؤدبي، تصلي جالساً؟ وتضربني قائماً؟ فقلت له: وضربك من الفروض، ولا أودي فرضي إلا قائماً، وقال عبد الله بن عدي الحافظ: أحمد بن عبيد، أبو عصيدة النحوي، كان بسر من رأى يحدث عن الأصمعي، ومحمد بن مصعب القرقساني بمناكير، وقال أبو أحمد الحافظ النيسابوري وذكره فقال: لا يتابع على جل حديثه قال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري: أنشدني أبي قال: أنشدنا أحمد ابن عبيد:
ضعفت عن التسليم يوم فراقنا ... فودعتها بالطرف والعين تدمع
وأمسكت عن رد السلام فمن رأى ... محباً بطرف العين قبلي يودع؟
رأيت سيوف البين عند فراقنا ... بأيدي جنود الشوق بالموت نلمع
عليك سلام الله مني مضاعفاً ... إلى أن تغيب الشمس من حيث تطلع

أحمد بن عبيد الله بن محمد
ابن عمار أبو العباس الثقفي الكاتب المعروف بحمار العير، كذا قال الخطيب، قال: وله مصنفات في مقاتل الطالبيين وغير ذلك، وكان يتشيع، ومات في سنة أربع عشرة وثلاثمائة. حدث عن عثمان بن أبي شيبة، وسليمان بن أبي شيخ، وعمر ابن شبة، ومحمد بن داود بن الجراح، وغيرهم. ورى عنه القاضي الجابي، وابن زنجي الكاتب، وأبو عمرو بن حيويه، وأبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني، وغيرهم. وفيه يقول ابن الرومي:
وفي ابن عمار عزيرية ... يخاصم الله بها والقدر
ما كان لم كان؟ وما لم يكن ... لم لم يكن؟ فهو وكيل البشر
لا بل فتى خاصم في نفسه ... لم لم يفز قدماً وفاز البقر
وكل من كان له ناظر ... صاف فلا بد له من نظر
هذا ما ذكره الخطيب.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15