كتاب : معجم الأدباء
المؤلف : ياقوت الحموي

ولو قبلت أرواحنا عنك فدية ... لجدنا بها عند الفداء وقلت
قال أبو حيان: كان ابن عباد يأتى بالسجع فى أثر كلامه، مع روية طويلة، وأنفاس مديدة، وحشرجة صدر، وانتفاخ منخريه، والتواء شدقيه، وتعويج عنقه، واللعب بشاربه وعنفقته، فلو رأيته يقرر المسائل على هذه الأمثلة العجيبة، والبيان الشافي، لرأيت عجبا من العجائب، وضربا من الغرائب.
وقال لى يوما الشابي وقد خرجنا من مجلس الصاحب: كيف رأيت مولانا الصاحب اليوم مع هذا التغرير، وإظهاره البلاغة الحسنة بين الناس، فقلت: السكوت عن مثله إحدى الحسنيين، وأحرق الحاتين، ولكن نعوذ بالله ممن يوين له الشيطان عمله، ويزخرف له قوله. قال لي: كأنه لم يخلق هذا الرجل إلا غيظا لأكباد الأحرار، وشفاء لسقم الأنذال، - لحى الله دهرا آل بنا إليه - ، وأنزلنا عليه، وأحوجنا إلى مقاساته، وألجأنا إلى مجالسته، وأنشد يقول:
يا من تبرمت الدنيا بطلعته ... كما تبرمت الأجفان بالرمد
يمشي على الأرض مجتازا فأحسبه ... من بغض طلعته يمشي على كبدي
لو كان في الأرض جزء من سماجته ... لم يقدم الموت إشفاقا على أحد
قال أبو حيان: قال لي الشابي: أهدي ابن عباد إلى صاحبه وقت وردوهما إلى الأهواز دينارا من ضربه، وزنه ألف مثقال! وكتابته:
وأحمر يحكي الشمس شكلا وصورة ... فأسماؤه مشتقة من صفاته
فإن قيل دينار فقد صدق اسمه ... وإن قيل ألف كان بعض سماته
بديع فلم يطبع على الدهر مثله ... ولا ضربت أضرابه لسراته
وصار إلى شاهانشاه انتسابه ... على أنه مستصغر لعفاته
تفاءلت أن يبقى سنين كوزنه ... لتستمتع الدنيا بطول حياته
تأنق فيه عبده وابن عبده ... وغرس أياديه وكافي كفاته
فقال: أرأيت أكذب منه حيث قال؟. " فلم يطبع على الدهر مثله " ما كان في الدنيا من خدم ملكا بألف دينار، ثم قال: " وكافي كفاته " والله لو كتبت امرأة بمثله إلى زوجها، لكان سمجا قبيحا، فكيف إلى فخر الدولة!! ما أحسن ما كفاه أمر أبي العلاء النصراني حين هزمه بعدد قليل، بعد أن كان في جيش عرمرم ثقيل، ولكن الدنيا حمقاء خرقاء، لا تميل إلا إلى مثلها، لو كتب المطهر أو نصر بن هارون، أو أحد وزراء عضد الدولة إليه بشيء من ذلك، لأحرقه بالنار والنفط، ومن كتاب الروزنامجة: قال الصاحب: ما زال أحداث بغداد يذكروني بابن شمعون المتصوف، وكلامه على الناس في مكان الشبلي، فجمعت يوما في المدينة، وعلى طيلسان ومصمته، ووقعت عليه، وقد لبس فوطة قصب، وقعد على كرسي ساج، بوجه حسن، ولفظ عذب، فرأيته يقطع مسائله بهوس يطيله ويسهب فيه، فقلت: لا بد من أن أسأله عما أقطع به، وابتدرت فقلت: يا شيخ، ما تقول في قد سيكونيات العلم، إذا وقعت قبل التوهم، فورد عليه ما لم يسمع به، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: لم أؤخر إجابتك عجزا عن مسألتك بل لأعطشك إلى الجواب، وأخذ في ضرب من الهذيان، فلما سكت قلت: هذا بعد التوهم، وإنما سألتك قبله إلى أن ضجر، فانصرفت عنه.
قرأت بمصر في نسخة باليتمية للثعالبي، عليها خط يعقوب بن أحمد، بن محمد بالقراءة عليه، يرويها عن مؤلفها الثعالبي، فوجدت فيها زوائد، لا أعرفها فى النسخ المشهورة بأيدي الناس، منها: حدثني عرف بن الحسين، الهمذاني التميمي قال: كنت يوما فى خزانة الخلع للصاحب، فرأيت في ثبت الحسبانات لكاتبها - وكان صديقي - مبلغ عمائم الخز، التي صارت فى تلك الشتوة، في خلع العلويين والفقهاء والشعراء، سوى ما صار فيها في خلع الخدم والحاشية، ثمانمائة وعشرين، قال: وكان يعجبه الخز ويأمر بالاستكثار منه في داره، فنظر أبو القاسم الزعفراني يوما، إلى جميع ما فيها من الخدم والحاشية، عليهم الخزوز الملونة الفاخرة، فاعتزل ناحية وأخذ يكتب شيئا، فسأل الصاحب عنه فقيل له: إنه في مجلس كذا يكتب، فقال: علي به، فاستمهل الزعفراني ريثما يتم مكتوبه، فأعجله الصاحب، وأمر أن يؤخذا ما في يده من الدرج، فقام الزعفراني إليه، وقال: - أيد الله الصاحب - :
إسمعه ممن قال تزدد به ... عجبا فحسن الورد في أعضائه

فقال: هات يا أبا القاسم، فأنشده أبياتا منها:
سواك يعد الغني ما اقتنى ... ويأمره الحرص أن يحزنا
وأنت ابن عباد المرتجى ... تعد نوالك نيل المنى
وخيرك من باسط كفه ... وممن ثناها قريب الجنى
غمرت الورى بصنوف الندى ... فأصغر ما ملكوه الغنى
وغادرت أشعرهم مفحما ... وأشكرهم عاجزا ألكنا
أيا من عطاياه تهدى الغنى ... إلى راحتى من نأى أو دنا
كسوت المقيمين والزائرين ... كسا لم نخل مثلها ممكنا
وحاشية الدار يمشون في ... ضروب من الخز إلا أنا
فقال الصاحب: قرأت في أخبار معن بن زائدة: ان رجلا قال له احملني، فأمر له بفرس وبغلة وحمار وناقة وجارية، ثم قال: لو علمت أن الله خلق مركوبا غيرها لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخز بحبة وقميص، وسراويل وعمامة، ومنديل ومطرف، ورداء وجورب، ولو علمنا لباسا آخر يتخذ من الخز لأعطيناكه، ثم أمر بإدخاله إلى الخزانة، وصيرت تلك الخلع عليه، وسلم ما فضل عن لبسه في الوقت إلى غلامه.
قال: وحدثني أبو عبد الله محمد بن حامد الحامدي قال: عهدي بأبي محمد ماثلا بين يدي الصاحب، ينشده قصيدة أولها:
هذا فؤادك نهى بين أهواء ... وذاك رأيك شورى بين آراء
هواك بين العيون النجل مقتسم ... داء لعمرك ما أبلاه من داء
لا تستقر بأرض أو تسير إلى ... أخرى بشخص قريب عزمه ناء
يوما بجزوى ويوما بالعقيق ويوما ... بالعذيب ويوما بالخليصاء
وتارة تنتحى نجداً وآونة ... شعب العقيق وطورا قصر تيماء
قال: فرأيت الصاحب متقبلا عليه بمجامعه، حسن الإصغاء إلى إنشاده، مستعيدا لأكثر أبياته، مظهرا من الإعجاب به والاهتزاز له، ما يعجب الحاضرين، فلما بلغ إلى قوله:
أدعى بأسماء نبزا في قبائلها ... كأن أسماء أضحت بعض أسمائي
أطلعت شعري فألقت شعرها طربا ... فألفا بين إصباح وإمساء
زحف عن دسته طربا له، فلما بلغ إلى قوله فى المدح:
لو أن سحبان باراه لأسحبه ... على خطابته أذيال فأفاء
أرى الأقاليم قد ألقت مقالدها ... إليه مستبقات أي إلقاء
فساس سبعتها منه بأربعة: ... أمر ونهي وتثبيت وإمضاء
كذاك توحيده ألوى بأربعة: ... كفر وجبر وتشبيه وإرجاء
فجعل يحرك رأسه ويقول: أحسنت أحسنت، فلما أنهى القصيدة، أمر له بجائزة وخلع.
قال الأمير أبو الفضل الميكالي: كتب عامل رقعة إإلى الصاحب في التماس شغل، وفي الرقعة: إن رأى مولانا أن يأمر بإشغالي ببعض أشغاله فعل، فوقع الصاحب تحتها: من كتب لإشغالي لا يصلح لأشغالي.
وحدث هلال بن المحسن: ما رؤى أحد وفي من الإعظام والإكبار بعد موته، ما وفيه الصاحب، فإنه لما جهز ووضع في تابوته، وأخرج على أكتاف حامليه للصلاة عليه، قام الناس بأجمعهم، فقبلوا الأرض بين يديه، وخرقوا عند ذلك ثيابهم، ولطموا وجوههم، وبلغوا في البكاء والنحيب عليه جهدهم، وكان يلبس القباء في حياته تخففا بالوزارة، وانتسابا معها إلى الجندية وحدث عن أبي الفتح بن المقدر قال: كان أبو القاسم بن أبي العلاء الشاعر، من وجوه أهل أصبهان، وأعيانهم ورؤسائهم، فحدثني أنه رأى في منامه قائلا يقول له: لو كاثرت الصاحب أبا القاسم بن عباس، مع فضلك وكثرة علمك، وجودة شعرك، فقلت: أفحمتني كثرة محاسنه، فلم أدر بم أبدأ منها؟ وخفت أن أقصر، وقد ظن بي الاستيفاء لها، فقال: أجز ما أقوله، قلت قل: فقال: ثوى الجود والكافي معا في حفيرة فقلت: ليأنس كل منهما بأخيه فقال: هما اصطحبا حيين ثم تعانقا فقلت: ضجيعين في لحد بباب ذريه فقال: إذا ارتحل الثاوون عن مستقرهم فقلت: أقاما إلى يوم القيامة فيه " باب ذريه: المحلة التى فيها تربته، أو ما يستقبلك من أصفهان "

وحدث في كتاب الروزنامجة، وانتهيت إلى أبي سعيد السيرافي، وهو شيخ البلد، وفرد الأدب، حسن التصرف، ووافر الحظ من علوم الأوائل، فسلمت عليه، وقعدت إليه، وبعضهم يقرأ الجمهرة، فقرأ: ألمقت، فقلت: إنما هو لمقت، فدافعني الشيخ ساعة، ثم رجع إلى الأصل، فوجد حكايتي صحيحة، واستمر القارئ حتى أنشد وقد استشهد:
رسم دار وقفت فى طلله ... كدت أقضى الغداة من جلله
فقلت: أيها الشيخ، هذا لايجوز، والمصراعان على هذا النشيد، يخرجان من بحرين، لأن: " رسم دار وقفت فى طلله " فاعلاتن مفاعلن فعلن " كدت أقضي الغداة من جلله " مفتعلن مفعلات مفتعلن فذاك من الخفيف، وهذا من المنسرح. فقال: لم لا تقول: الجميع من المنسرح؟ والمصراع الأول مخزوم. فقلت: لا يدخل الخزم هذا البحر، لأنه أوله مستفعلن مفاعلن، هذه مزاحفة عنه، وإذا حذفنا متحركا، بقينا ساكنا، وليس فى كلام العرب ابتداء به، وإنما هو: كدت أقضى الغداة من جلله بخفيف الضاد فأمر بتغييره، ورفعني إلى جنبه، وابتدأ فقريء عليه من كتاب المقتضب، باب ما يجزي وما لايجزى، إلى أن ذكر وسحر، وأنه لا ينصرف إذا كان لسحر بعينه، لأنه معدول عن الأول، فقلت: ما علامة العدل فيه؟ فقال: إنا قلنا السحر، ثم قلنا: سحر، فهلمنا أن الثاني معدول عن الأول قلت: لو كان كذلك، لوجب أن تطرد العلة في عتمة، فضجر واحتد، وصاح واربد وادعيت أنه ناقص، والتمس الحاكم، فكتبت رسالة أخذت فيها خطوط أهل النظر، وقد أنفذت درج كتابى نسختها، وفيها خط أبى عبد الله بن رذامر عين مشايخهم، ورأيت الشيخ بعد ذلك عزيزا فاضلا، متوسعا عالما، فعلقت عليه، وأخذت عنه، وحصلت تفسيره لكتاب سيبويه، وقرأت صدرا منه، وهناك أبو بكر ابن مقسم، وما فى أصحاب ثعلب أكثر دراية، وما أصح رواية منه، وقد سمعت مجالسه، وفيها غرائب ونكت، ومحاسن وطرف، من بين كلمة نادرة، ومسألة غامضة، وتفسير بيت مشكل، وحل عقد معضل، وله قيام بنحو الكوفيين وقراءتهم، ورواياتهم ولغاتهم والقاضى أبو بكر ابن كامل، بقية الدنيا فى علوم شتى، يعرف الفقه والشروط والحديث، وما ليس من حديثنا، ويتوسع فى النحو توسعا مستحسنا، وله في حفظ الشعر بضاعة واسعة، وفي جودة التصنيف قوة تامة، ومن كبار رواة المبرد وثعلب، والبحتري وأبي العيناء، وغيرهم. وقد سمعت قدرا صالحا مما عنده، وكنت أحب أن أسمع كلام أهل النظر بالعراق، لما تتابع فى حذقهم من الأوصاف. وذكر أبا زكريا يحيى بن عدي وغيره، ومناظرات جرت هناك يطول شرحها.
وحدث عن أبي نصر بن خواشاذه أنه قال: ما غبطت أحدا على منزلة، كما غبطت الصاحب أبا القاسم بن عباد، فإنا كنا مقيمين بظاهر جرجان، مع مؤيد الدولة على حرب الخراسانية، فدخل الصاحب إلى داره في البلد، آخر نهار يوم لحضور المجلس الذي يعقده لأهل العلم، وتحته دابة رهواء، وقد أرسل عنانه، فرأيت وجوه الديلم وأكابرهم، من أولاد الأمراء يعدون بين يديه، كما تعدو الركابية، وكان عضد الدولة: يخاطب شيخا خطابا لا يشرك معه فيه أحدا، إلا أنه كان يقل مكاتبته، وكانت الكتب من عضد الدولة، إنما ترد على لسان كاتبه أبو القاسم، عبد العزيز بن يوسف.
ولما وجدت الشعراء لبضائعها عند ابن عباد نفاقا وسوقا. أهدوا نتائج أفكارهم إلى حضرته، وساقوها نحوه سوقا. فذكر الثعالبي قال: واحتف به من نجوم الأرض، وأفراد العصر، وابناء الفضل، وفرسان الشعر من يربى عددهم على شعراء الرشيد، ولا يقصرون عنهم فى الأخذ برقاب القوافي، وملك رق المعاني، فإنه لم يجتمع بباب أحد من الخلفاء والملوك، مثل ما اجتمع بباب الرشيد، من فحول الشعراء المذكورين، كأبي نواس، وأبى العتاهية، والعتابي، والنمري، ومسلم بن الوليد، وأبي الشيص، وابن أبي حفصة، ومحمد بن مناذر.

وجمعت حضرة الصاحب بأصبهان، والري، وجرجان، مثل أبي الحسين السلامي، وأبي سعيد الرستمى، وأبى القاسم الزعفرانى، وأبى العباس الضبى، والقاضى الجرجانى وأبى القاسم بن أبي العلاء، وأبي محمد الخازن، وأبي هاشم العلوى، وأبي الحسن الجوهري، وبني المنجم، وابن بابك، وابن القاشاني، والبديع الهمذاني، وإسماعيل الشاشي، وأبى العلاء الأسدي، وأبي الحسن الغويري، وأبى دلف الخزرجي، وأبى حفص الشهرزوري، وأبي معمر الإسماعيلي، وأبى الفياض الطبري، وغيرهم ممن لم يبلغني ذكره، أو ذهب عني اسمه، ومدحه مكاتبة الرضي الموسوي، وأبو إسحاق الصابي، وابن الحجاج، وابن سكرة، وابن نباتة، وغيرهم ممن يطول ذكره.
وكتب أبو حفص الأصفهاني الوراق إلى الصاحب رقعة نسختها: لو لا أن الذكرى - أطال الله بقاء مولانا الصاحب الجليل - تنفع المؤمنين، وهزة الصمصام تعين المصلتين لما ذكرت ذاكرا، ولا هززت ماضيا، ولكن الحاجة تستعجل النجح، وتكد الجواد السمح، وحال عبد مولانا في الحنطة متخلفة، وجرذان داره عنها منصرفة، فإن رأى أن يخلط عبده بمن أخصب رحله، فلم يشد رحله، فعل إن شاء الله تعالى، فوقع على رقعته، أحسنت يا أبا حفص قولا، وسنحسن فعلا، فبشر جرذان دارك بالخصب، وآمنها من الجدب، فالحنطة تأتيك في الأسبوع، ولست عن غيرها من النفقة بممنوع، إن شاء الله تعالى. قال: وحدثني أبو الحسن الدلفي المصيصي قال: انتحل فلان يعنى بعض المتشاعرين بحضرة الصاحب شعرا له، وبلغه ذلك فقال: أبلغوه عني:
سرقت شعري وغيري ... يضام فيه ويجدع
فسوف أجزيك صفعا ... بكد رأس وأخدع
فسارق المال يقطع ... وسارق الشعر يصفع
قال: فاتخذ الليل جملا وهرب من الري.
وحدث عن عون بن الحسين الهمذانى قال: سمعت أبا عيسى بن المنجم يقول: سمعت الصاحب يقول: ما استأذنت على فخر الدولة وهو في مجلس الأنس، إلا وانتقل إلى مجلس الحشمة فأذن لي فيه، وما أذكر أنه تبذل بين يدى، أو مازحنى قط إلا مرة واحدة، فإنه قال لي، بلغنى أنك تقول: إن المذهب مذهب الاعتزال، والنيك نيك الرجال، فأظهرت الكراهة لانبساطه، وقلت بنا من الجد، ما لانفرغ معه للهزل، ونهضت كالمغاضب، فما زال يعتذر إلى مراسلة حتى عاودت مجلسه، ولم يعد بعدها إلى ما يجري مجرى الهزل والمرح. ولما أتت الصاحب البشارة بسبطه عباد بن علي الحسني، " ولم يكن للصاحب ولد غيرها، وكان قد زوجها من أبي الحسن على بن الحسين الهمذاني، وكان شاعرا أديبا بليغا، وله شعر منه هذان البيتان في دار لبعض الملوك بناها:
دار علت دار الملوك بهمة ... كعلو صاحبها على الأملاك
فكأنها من حسنها وبهائها ... " بنيت قواعدها على الأفلاك "
أنشأ الصاحب يقول:
أحمد الله لبشرى ... أقبلت عند العشي
إذ حباني الله سبطا ... هو سبط للنبي
مرحبا ثمت أهلا ... بغلام هاشمي
نبوي علوي ... حسنى صاحبي
ثم قال:
الحمد لله حمدا دائما أبدا ... قد صار سبط رسول الله لي ولدا
وقد ذكرت ذلك الشعراء في أشعارهم، فمن ذلك قول أبي الحسن الجوهري في قصيدة منها:
وكان بعد رسوب الله كافله ... فصار جد بنيه بعد كافله
هلم للخبر المأثور مسنده ... في الطالقان فقرت عين ناقله
فذلك الكنز عباد وقد وضحت ... عنه الإمامة فى أولى مخايله
لما روت الشيعة أن بالطالقان كنزا من ولد فاطمة، يملأ الله به الأرض عدلا، كما ملئت جورا. والصاحب من الطالقان من قرى أصفهان، فلما رزق سبطا فاطميا، تأولوا له هذا الخبر، وأنا برئ من العهدة، هذ الذي ذكر الثعالبي، أن طالقان من قرى أصفهان، والصواب ما تقدم.
قال: وعرض على أبو الحسن الشقيقي البلخي، توقيع الصاحب إليه في رقعته: من نظر لدينه نظرنا لدنياه، فإن آثرت العدل والتوحيد، بسطنا لك الفضل والتمهيد، وإن أقمت على الجبر، فليس لكسرك من جبر، وهذه رسالة كتبها الصاحب إلى أبي على الحسين بن أحمد، في شأن أبي عبد الله محمد بن حامد.

قال الثعالبي: وسمعت الأمير أبا الفضل عبيد الله ابن أحمد الميكالى يسردها، فزادني جريها على لسانه، وصدورها عن فمه إعجابا بها، وهي: كتابي هذا يا سيدي صدر من " سحنة " ، وقد أرخى الليل سدوله، وسحب الظلام ذيوله، ونحن على الرحيل غدا إن شاء الله، إذا مد الصباح غرره، قبل أن يسبغ حجوله، ولو لا ذلك لأطلته، كوقوف الحجيج على المشاعر، ولم أقتصر منه على زاد المسافر، فإن المحتمل له، وسيع الحقوق لدى، حقيق أن أتعب له خاطري ويدي، وهو أبو عبد الله الحامدي، كان وافي مع ذلك الشيخ الشهيد، أبي سعيد الشبيبي السعيد - رفع الله منازله - وقتل قاتله، يكت له فآنسنا بفضله، وأنسنا الخير من عقله، فلما فجع بتلك الصحبة، وبما كان فيها من القربة، لم يرض غير بابي بتلك مشرعاً، وغير جنابي مرتعا، وقطع إلى الطريق الشاق، مؤكدا حقا لا يشق غباره، ولا ينسي على الزمان ذماره، فكتب على جناح هذه النهضة التى بنا لم يستقر نواها، ولم تلق عصاها، فإخراج الحر المبتدئ الأمر، القريب العهد بوطأة الدهر، تحامل عليه بالمركب الوعر، فرددته إليك يا سيدي، لتسهل عليه حجابك، وتمهد له جنابك، ويترصد عملا خفيف النقل، ندى الظل، فإذا اتفق عرضته عليه، ثم فوضته إليه، وهو إلى أن يتسق ذلك ضيفي ذلك ضيفي، وعليك قراه، وعندك مربعه ومشتاه، ويريد اشتغالا بالعلم يزيده استقلاله. إلى أن يأتيه إن شاء الله خبرنا فى الاستقرار، ثم له الخيار، إن شاء أقام على ما وليته، وإن شاء التحق بنا ناشرا ما أوليته، وقد وقعت له إلى فلان بما يعنيه على بعض الانتظار، إلى أن يختار له كل الاختيار، فأوعز إليه بتعجيله، واكفني شغل القلب بهذا الحر، الذي أفردني بتأميله، إن شاء الله تعالى وحده.
وكتب إلى القاضي أبي بشر، الفضل بن محمد الجرجاني، عند وروده باب الري وافدا عليه:
تحدثت الركاب بسير أروي ... إلى بلد حططت به خيامي
فكدت أطير من شوق إليها ... بقادمة كقادمة الحمام
أفحق ما قيل من أمر القادم؟ أم ظن كأماني الحالم؟ لا والله، بل هو درك العيان، وإنه ونيل المنى سيان، فمرحبا أيها القاضي براحلتك ورحلتك، بل أهلا بك وبكافة أهلك، ويا سرعة ما فاح نسيم مسراك، ووجدنا ريح يوسف من رياك فحث المطى تزل غلتى برؤياك، وتزح علتي بلقياك، ونص على يوم الوصول نجعله عيدا مشرفا، ونتخذه موسما ومعرفا، ورد الغلام أسرع من رجع الكلام، فقد أمرته أن يطير على جناح نسر، يترك الصبا في عقال وأسر:
سقى الله دارات مررت بأرضها ... فأذنتك نحوى يا زياد بن عامر
أصائل قرب أرتجي أن أنالها ... بلقياك قد زحزحن حر الهواجر
وقال بعض ندماء الصاحب له يوما: أرى مولانا قد أغار فى قوله:
لبسن برود الوشى لا لتجمل ... ولكن لصون الحسن بين برود
على المتنبيء في قوله:
لبسن الوشى لا متجملات ... ولكن كي يصن به الجمالا
فقال كما أغار هو في قوله:
ما بال هذي االنجوم حائرة ... كأنها العمى ما لها قائد
على العباس بن الأحنف في قوله:
والنجم فى كبد السماء كأنه ... أغمى تحير ما لديه قائد
وللصاحب أيضا:
يقولون لي كم عهد عينك بالكرى ... فقلت لهم مذ غاب بدر دجاها
ولو تلتقي عين على غير دمعة ... لصارمتها حتى يقال نفاها
من قول المهلبي الوزير:
تصارمت الأجفان منذ صرمتني ... فما تلتقي إلا على دمعة تجري
وللصاحب أيضا:
ومهفهف حسن الشمائل أهيف ... يروي النفوس بفترتي عينيه
ما زال يبعدني ويؤثر هجرتي ... فجذبت قلبي من إسار يديه
قالوا: تراجعه فقلت: بديهة ... قولا أقيم مع الروى عليه
والله لا راجعته ولو أنه ... كالبدر أو كالشمس أو كبويه
أخذه من قول ابن المعتز:
والله لا كلمتها ولو انها ... كالبدر أو كالشمس أو كالمكتفي
قال المؤلف: هكذا ذكر الثعالبي، ونسب هذا البيت إلى ابن المعتز، وهو لأبى بكر محمد بن السراج النحوي، وله قصة ظريفة، وهي مذكورة في أخباره من هذا الكتاب.
ومما هجي به الصاحب، قول أبي العلاء الأسدي:

إذت رأيت مسجى في مرقعة ... يأوى المساجد حرا ضره بادي
فاعلم بأن الفتى المسكين قد قذفت ... به الخطوب إلى لؤم ابن عباد
وقال السلامي:
يا ابن عباد بن عباس ... بن عبد الله حرها
تنكر الجبر وأخرجت ... إلى دنياك كرها
ومر أبو العباس بن الضبي، بباب الصاحب بعد موته، فقال:
أيها الباب لم علاك اكتئاب ... أين ذاك الحجاب والحجاب؟؟
أين من كان يفزع الدهر منه ... فهو الآن فى التراب تراب؟
ولأبي القاسم بن العلاء الأصفهاني، يرثي الصاحب من قصيدة:
ما مت وحدك لكن مات من ولدت ... حواء طرا بل الدنيا بل الدين
هذي نواعي العلا مذ مت نادبة ... من بعد ما ندبتك الخرد العين
تبكي عليك العطايا والصلات كما ... تبكي عليك الرعايا والسلاطين
قام السعاة وكان الخوف أقعدهم ... واستيقظوا بعد ما نان الملاعين
لايعجب الناس منهم إن هم انتشروا ... مضى سليمان وانحل الشياطين
وكتب الصاحب إلى أبي العلاء الأسدي من أجود أبياته:
يقر بعيني أن يلم رسولها ... ببابي ويهدي بالعشي سلامها
ورد يا شيخي - أطال الله بقاءك - رسولك بكتاب سبق الأفكار والظنون، وحسدت عليه القلوب العيون، وترك الواصفين بين قاصر ومقصر، ومثل ليالينا بين اللوى فمحجر بكلام كالورق النضير، تتأوه منه الغصون، وكالنور المنير، أفنانه فنون فصاد فني حليفا للشوق أو رهينا، رحنيا على الحنين وساء قرينا، وكيف لا وقد ألفنا القرب حولا، حولنا رياض الأدب ترف، ودوننا رواحل الفضل تزف نملك رقاب المنطق، ونتنازع أطراف الكلام المنمق، ونقطع الليالى تناشدا وتذاكرا، وتحادثا وتسامرا، إلى أن يخلع الظلام ثيابه، ويحدر المصباح نقابه، هذا دأبنا كان، إلى أن جاوزنا الشباب مراحل. ووردنا من المشيب مناهل. ثم حان الفراق، فنحن حتى اليوم منه في جو كدر، ونجم منكدر يقبضنا عن الموارد العذاب.
ويعرضنا على لواعج العذاب، - والله نسأل - إعادة هاتيك الأحوال، وتلك الأيام الخضراء الظلال، و إن كان الله قد زادنا بعدك مناجح ومنائح وأيادي غوادي وروائح، حتى فتحنا الفتوح، وذللنا الصروح، ورنقنا الفتوق، ونسخنا القرون، وأثرنا الآثار، ووطأنا الرقاب، وطلبنا الثار، واصطنعنا الصنائع، وجعلنا ودائع النعم قطائع، وعقدنا في أعناق الأحرار مننا، أحسبها من سبل الإحسان سننا، إنا قد تحملنا مشاق، مالت على القوة بالضعف، وتحاملت على الأشر بالوهن، ودفعت إلى معالجة خطوب، تعجب الدهر من صبرنا عليها فحار، وجبن الزمان عند شجاعتنا لها فحار، وها أنا أحرج ما كنت إلى أن أرفه، ولا أستكره، وقد رميت بسهم الأربعين، وأرميت على شرف الخمسين، مدفوع الأشغال والأثال، إلى متاعب ومصاعب، لو مني بها ابن ثلاثين قويا أزره، طريا جرضه، لقام عجزه، وقعدت به نفسه، وأظنني كنت قديما قلت:
وقائلة: لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم
فقلت: دعيني وما قد عرا ... فإن الهموم بقدر الهمم
وما أنا على الراحة آسف، بل على ألا أكون مشغولا بأخرى، أمهد لها وأكدح، وأدأب لنفسى وأنصح، - اللهم وفق وقدر - ، ومهل ويسر، إنك على ما تشاء قدير. والرسالة طويلة كتبت مقدمتها

ذكر محمد ما فعله الصاحب مع القاضي عبد الجبار ابن أحمد، من حسن العناية والتولية والتمويل، فلما مات الصاحب كان يقول: أنا لا أترحم عليه، لأنه لم يظهر توبته، فطعن عليه في ذلك، ونسب إلى قلة الرعاية، فلا جرم أن فخر الدولة، قبض عليه بعد موت الصاحب، وصادره فيما قيل: على ثلاثة آلاف ألف درهم، وعزله عن قضاء الري، وولى مكانه القاضي أبا الحسن، علي بن عبد العزيز الجرجاني، العلامة، صاحب التصانيف والفضائل الجمة، وقد ذكرته أنا في بابه. فقيل: إن عبد الجبار باع ألف طيلسان مصري في مصادرته، وهو شيخ طائفتهم، يزعم أن المسلم يخلد في النار على ربع دينار، وجميع هذا المال من قضاء الظلمة، بل الكفرة عنده وعلى مذهبه، وإنما ذكرت هذا للاعتبار. وقرأت في كتاب هلال بن المحسن، بن إبراهيم الصابيء قال: وكان الصاحب أبو القاسم يراعي من ببغداد، والحرمين من أهل الشرف، وشيوخ الكتاب والشعراء، وأولاد الأدباء والزهاد والفقهاء، بما يحمله إليهم في كل سنة مع الحاج، على مقاديرهم ومنازلهم، وكان يحمل إلى أبى إسحاق إبراهيم بن هلال خمسمائة دينار، وإلى ألف درهم جبلية، مع جعفر بن شعيب، فأذكر وقد راسله بعد وفاة عضد الدولة، بالاستدعاء إلى حضرته بالرى، وبذل له النفقة الواسعة، والمعونة الشاسعة عند شخوصه، والإرغاب والإكثار عند حضوره. فكانت عقله بالذيل الطويل، والظهر الثقيل، تمنعه من ترك موضعه، ومفارقة موطنه، فيما كتبه إليه بالاعتذار عن التأخير:
نكصت على أعقابهن مطالبى ... وتقاعست عن شأوهن مآربي
وتبلدت مني القريحة بعد ما ... كانت نفاذا كالشهاب الثاقب
وبكيت شرخ شبيبتي فدفنتها ... دفن الأعزة في العذار الشائب
ومنها:
فلو أن لى ذاك الجناح لطار بي ... حتى أقبل ظهر كف الصاحب
وأعيش في سقيا سحائبه التي ... ضمنت سعادة كل جد خائب
وأراجع العادات حول قبابه ... حتى السواد من الشباب الذاهب
وأعد من جلساء حضرته التي ... شحنت بكل مسائل ومجارب
فيقول: من ذا سائل عنى له ... متثبت فيقول هذا كاتبي؟
أترى أروم بهمتي ما فوق ذا ... أنى وخدمته أجل مراتبي
ومنها يعتذر
كثرت عوائقي التى تعتاقني ... من غيث راحته الملث الساكب
ولد لهم ولد وبطن ثالث ... هو رابعي وعشيرتي وأقاربي
والسن تسع بعدها خمسون قد ... شامت بوارق يومها المتقارب
فالجسم يضعفعن تجشم راجل ... والحال يقصر عن ترفه راكب
وعلى للسلطان طاعة مالك ... كانت على المملوك ضربة لازب
وتعطلي مع شهرتي كتصرفي ... كل سواء في الحساب الحاسب
وهي طويلة. فلما كانت سنة أربع وثمانين، التي توفي فيها جدي، أحسن بانقضاء مدته، وحضورمنيته، فكتب إلى الصاحب كتابا يسأله فيه، إقرار هذا الرسم المذكور على ولده، وإجراءه لهم من بعده، وقرن الكتاب بقصيدة أولها:
نحذر منك النائبات فتحذر ... وتذكر للخطب الجسيم فيصغر
وتكسي بك الدنيا ثياب جمالها ... فيرجوك معروف ويخشاك منكر
يقول فيها:
أسيدنا إن المنية أعذرت ... إلي بآيات تروع وتذعر
لها نذر قد آذتني بهجمة ... على مورد ما عته للمرء مصدر
وإنى لأستحلي مرارة طعمه ... إذا كنت بالتقديم لي تتأخر
وحق لنفس كان منك معاشها ... إذا غمضت عينا وعينك تنظر
ومن ورث الأولاد بعد وفاته ... حضانك طابت نفسه حين يقبر
تمرد منك الجود حتى تمردت ... مطالبنا والماجد الحر يصبر
أأطلب منك الرفد عمرى كله ... وأطلبه والجنب منى معفر؟
وليست بأولى بدعة لك في الندى ... لها موقف فيه لك الحمد ينشر
وهي طويلة. قال هلال بن المحسن: وأمرني بأن أنفذ ذلك، فأنفذته، وكتبت عن نفسي كتابا في معناه، ووصل ونفذ من يحمل الرسم على العادة، ثم اتفق أن توفي الصاحب في اول سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، فوقف، وكانت بين وفاتهما شهور.

قال هلال: وسمعت محدثا يحدث أبا إسحاق، أنه سمع الصاحب يقول: ما بقي من أوطاري وأغراضي، إلا أن أملك العراق، وأتصدر ببغداد، وأستكتب أبا اسحاق الصابيء، ويكتب عني وأغير عليه، فقال جدي: ويغير على وإن أصبت.
قال: وحدثني أبو إسحاق جدي قال: حضر الصاحب أبو القاسم بن عباد دار الوزير المهلي، عند وروده إلى بغداد، مع مؤيد الدولة، فحجب عنه لشغل كان فيه، وجلس طويلا، فلما تأخر الإذن، كتب إلى رقعة لطيفة فيها:
وأترك محجوبا على الباب كالخصي ... ويدخل غيري كالأيور ويخرج
فأقرأتها الوزير المهلبي، فأمر بإدخاله.
قال: وكان الصاحب عند دخوله إلى بغداد، قصد القاضي أبا السائب، عتبة بن عبيد لقضاء حقه، فتثاقل في القيام له، وتحفز تحفزا أراه به ضعف حركته، وقصور نهضته، فأخذ الصاحب بضبعه وأقامه، وقال: نعين القاضي على قضاء حقوق إخوانه، فخجل أبو السائب واعتذر إليه.
وذكر القاضي أبو علي التوخي في كتاب نشوار المحاضرة: حدثني أبو منصور عبد العزيز بن محمد بن عثمان، المعروف بابن عمرو الشرابي، حاجب أمير المؤمنين المطيع لله، قال: دخلت في حداثتي يوما على أبي السائب القاضي، فتثاقل في القيام لي، وأظهر لي ضعفا عنه للسن، والعلل المتصلة به، قال: فتطول فجذبت يده بيدي، حتى أقمته القيام التام، وقلت له: أعين قاضي القضاة، - أيده الله - على اكمال البر، وتوفية الإخوان حقوقهم؟ قال: وقد كنت عاتبا عليه في اشياء عاملني بها، وإنما جئته للخصومة، فبدأت لأخذ الكلام، فحين رأى الشر في وجهي قال: تتفضل لاستماع كلمتين؟ ثم تقول ما شئت، فقلت له، فقال: روينا عن ابن عباس، - رضي الله عنه - ، في قوله تعالى: " فاصفح الصفح الجميل " قال: عفو بلا تقريع، فأنت رأيت أن تفعل ذلك، فافعل، فاستحييت من الاستقصاء عليه، وانصرفت.
قال المؤلف: والذي عندي، أن الخبر إنما جرى بين هذا والقاضي، وبلغ أمره الصاحب، فانتحله لنفسه، وحكاه في مجلس أنسه، فشاع عنه، وكان الصاحب - رحمه الله - ممن يحب الفخر، وانتحال الفضائل، التي ربما قصر عنها. ومن أشعار الصاحب:
يا خاطرا يخطر في تيهه ... ذكرك موقوف على خاطري
إن لم تكن آثر من ناظري ... عندى فلا متعت بالناظر
وكتب إلى أبي الحسن الطيب:
إنا رجوناك على انبساط ... والجوع قد أثر فى الأخلاط
فإن عسى ملت إلى التباطي ... صفعت بالتعل قفا بقراط
وله:
بعدت فطعم العيش بعدك علقم ... ووجه حياتي مذ تغيبت أرقم
فمالك قد أدغمت في النوى ... وودك في غير الندار مرخم
وقال لما حضرته الوفاة:
وكم شامت بي عند موتي جهالة ... بظلم يسل السيف بعد وفاتي
ولو علم المسكين ماذا يناله ... من الذل بعدي مات قبل مماتي
وله أيضا:
بدا لنا كالبدر في شروقه ... يشكو غزالا لج في عقوقه
يا عجبي والدهر في طروقه ... من عاشق أحسن من معشوقه
قال أبو بكر الخوارزمي: أنشدنا الصاحب هذه القوافي ليلة وقال: هل تعرفون نظيرا لمعناها فى شعر المحدثين؟ فقلت: لا أعرف إلا قول البحتري:
ومن عجب الدهر أن الأمير ... أصبح أكتب من كاتبه
قال: فقال جودت وأحسنت، هكذا فليكن الحفظ وله ويروق لغيره:
رشأ غدا وجدي عليه كردفه ... وغدا اصطباري في هواه كخصره
وكأن يوم وصاله من وجهه ... وكأن ليلة هجره من شعره
إن ذقت خمرا خلتها من ريقه ... أو رمت مسكا نلته من نشره
وإذا تكبر واستطال بحسنة ... فعذار عارضه يقوم بعذره
وله أيضا:
دب العذار على ميدان وجنته ... حتى إذا كاد أن يسعى به وقفا
كأنه كاتب عز المداد له ... أراد يكتب لاما فابتدا ألفا
وله أيضا:
وخط كأن الله قال لحسنه ... تشبه بمن قد خطك اليوم فائتمر
وهيهات أين الخط من حسن وجهه ... وأين ظلام الليل من صفحة القمر؟؟
وله ايضا:
وشادن قلت له ما اسمكما ... فقال لي بالغنج عباث
فصرت من لثغته ألثغا ... فقلت أين الكاث والطاث

وله يصف الثلج:
هات المدامة يا غلام مصيرا ... نقلي عليها قبلة أو عضة
أو ما ترى كانون ينثر وروده؟ ... وكأنما الدنيا سبائك فضة
وله أيضا:
وصفراء أو حمراء فهي مخيلة ... لرقتها إلا على المتوهم
يشككنا في الكرم أن انتماءه ... إلى الخمر أم هاتا إلى الكرم تنتمي
لك الوصف دون القصف مني فخيمي ... بغير يدي وارضي بما قاله فمى
وكتب إلى أبي الفضل بن شعيب:
يا أبا الفضل لم تأخرت عنا ... فأسأنا بحسن عهدك ظنا؟
كم تمنت نفسي صديقا صدوقا ... فإذا أنت ذلك المتمني
فبعض الشباب لما تثنى ... وبعهد الصبا وإن بان منا
كن جوابي إذا قرأت كتابي ... لاتقل للرسول كان وكنا
وله أيضا:
يا بن يعقوب يا نقيب البدور ... كن شفيعي إلى فتى مسرور
قل له إن الجمال زكاة ... فتصدق بها على المهجور
وله يمدح عضد الدولة:
سعود يحار المشترى في طريقها ... ولا تتأتى في حساب المنجم
وكم عالم أحييت من بعد عالم ... على حين صاروا كالهشيم المحطم
فوالله لو لا الله قال لك الورى ... مقال النصارى في المسيح بن مريم
فحامد لو فضت فغاضت على الورى ... لما أبصرت عيناك وجه مذمم
وكلا ولكن لو حظوا بزكاتها ... لما سمعت أذناك ذكر ملوم
ولو قلت إن الله لم يخلق الورى ... لغيرك لم أحرج ولم أتاثم
وله يهجو:
سبط متوى رقيع سفله ... أبدا يبذل فينا أسفله
إعتز لنا نيكه فى دبره ... فلهذا تلعن المعتزلة
وله في رجل كثير الشرب بطيء السكر: يقال:
لماذا ليس يسكر بعدما ... توالت عليه من نداماه قرقف؟
فقلت:
سبيل الخمر أن تنقص الحجى ... فإن لم تجد شيئا فماذا تحيف
وله أيضا:
شرط الشروطي فتى أير ... وما سواه غير مشروط
أبغى من الإبرة لكنه ... يوهم قوما أنه لوطي
وله أيضا:
تصد أميمة لما رأت ... مشيبا على كارضي قد فرش
فقلت لها: الشيب نقش الشباب ... فقالت: ألا ليته ما نقش
وله أيضا:
ولما تناءت بالأحبة دارهم ... وصرنا جميعا من عيان إلى وهم
تمكن مني الشوق غير مسامح ... كمعتر لي قد تمكن من خصم.

الجزء السابع
إسماعيل بن عبد الله بن محمد، بن ميكال
أبو العباس المكيالي، وقد ذكر هذا النسب في عدة مواضع، مات ليلة الاثنين الخامس عشر من صفر، سنة اثنتين وستين وثلاثمائة بنيسابور، وهو ابن اثنتين وتسعين سنة، ودفن بمقبرة باب باب معمر، وكان شيخ خراسان، ووجهها وعينها في عصره، سمع بنيسابور أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبا العباس محمد بن إسحاق السراج، وأبا العباس أحمد بن محمد الماسرجسي، وبكور الأهواز، عبد ابن أحمد بن موسى الجواليقي الحافظ والحسن بن بهار، سمع منه الحفاظ: مثل أبن علي النيسابوري، وأبي الحسين محمد بن الحجاحجي، وأبي عبد الله، ابن البيع الحافظ، وذكره في التاريخ وقال: ولد أبو العباس بنيسابور، فلما قلد أمير المؤمنين المقتدر بالله، أباه عبد الله بن محمد، للأعمال بكور الأهواز، حمل إلى حضرة أبيه، فاستدعى أبا بكر محمد بن الحسن، ابن دريج لتأديبه، فأجيب إليه إيجاباً له، وبعث بأبي بكر الدريدي إليه، فهو كان مؤدبه وكان واحد عصره، وفي عبد الله بن محمد، بن ميكال، وابنه أبي العباس، قال الدريدي قصيدته المشهورة في الدنيا، التي مدحهم بها.
ثم قال الحاكم: سمعت أبا العباس، وقد سئل عن مقصورة الدريدي يقول: أنشدنيها مؤدبي أبو بكر الدريدي، ثم قرأتها عليه مراراً، فسألناه أن ينشدها فقال: أنشدنا أبو بكر بن دريد إما ترى رأسي حاكي لونه إلى أن بلغ إلى الأبيات، التي مدحهم الدريدي فيها، فقال: هذه الأبيات قد ذكرنا فيها، فلو أنشدها بعضكم؟ فقرأها عليه أبو منصور الفقيه، وأقر بها وهي:

إن العراق لم أفارق أهله ... عن شنآن صدني ولا قلى
إلى أن بلغ قوله:
لا زال شكري لها مواصلاً ... دهري أو يعتاقني صرف الفنا
إلى هنا قرئ عليه ثم أنشدنا لفظاً إلى آخرها، وذلك في شهر رمضان، سنة ست وأربعين وثلاثمائة.
قال الحاكم: سمعت أبا بكر بن محمد ب إبراهيم الجوري الأديب، وهو يحدثنا عن أبي بكر بن دريد، قلت له: أين كتبت عنه؟ ولم تدخل العراق؟ قال: كتبت عنه بفارس لما قدم على عبد الله بن محمد، بن ميكال، لتأديب ولده أبي العباس، فقلت له: أبو العباس إذ ذاك صبي، فقال: لا والله إلا رجل، إمام في الأدب والفروسية، بحيث يشار إليه.
قال: وسمعت أبا عبد الله محمد بن الحسين الوضاحي يقول: سمعت أبا العباس بن ميكال، يذكر صلة الدريدي في إنشائه المقصورة فيهم. قال الوضاحي فقلت له: وإيش الذي وصل إليه من خاصة الشيخ؟ فقال: لم تصل يدي إذ ذاك، إلا إلى ثلاثمائة دينار، صببها في طبق كاغد، ووضعتها بين يديه.
وروى عنه أبو علي الحافظ في مصنفاته، وأبو الحسين الحجاجي ومشايخنا رضي ا لله عنه.
قال الحاكم: سمعت أبا محمد عبد الله بن إسماعيل يقول: لما توفي أبي عبد الله بن ميكال، أمر أمير المؤمنين، أن أقلد الأعمال التي كان يتقلدها أبي، فأمر لي باللواء والخلعة، وأخرج في ذلك خادماً من خواص الخدم، وكوتبت فيه، فبكيت واستعفيت، والناس يتعجبون من ذلك، وقلت: لي بخراسان معاش أرجع إليه، فلما انصرفت إلى نيسابور، جاءني أبو نصر بن أبي حية غداة جمعة، فقالك ينبغي أن تتأهب للركوب إلى الرئيس أبي عمرو الخفاف، فإن هذا رسم مشايخ البلد معه، ركبت معه إليه فلم يتحرك لي، فخرجت من عنده وأنا أبكي فقال لي أبو نصر: ما الذي أبكاك؟ فقلت: سبحان الله، رددت على المقتدر لواء الولاية بفارس، وخوزستان، وانصرفت إلى نيسابور، حتى أزور أبا عمرو الخفاف، فلم يتحرك لي، فقال لي: لا تغتم بهذا، واعمل إلى الخروج إلى هراة، فإن والي خراسان، أحمد بن إسماعيل بها، وإذا رآك وضربك بالصولجان وعلم محلك، أجلسك على رقاب كل من بنيسابور. فتأهبت وأصلحت هدية له وخرت إلى هراة، فوصلت إلى خدمة لاسلطان، ورضي خدمتي، ودعاني إلى الصولجان، ورضي مقامي، فلما استأذنت للانصراف، عرض على أعمالاً جليلة، فامتنعت عنها، فزودني بجهاز وخلع وكان الأمر على ما ذكره أبو نصر بن أبي حية.
قال: وسمعت أبا عبد الله بن أبي ذهل يقول: قال لي الوزير ابو جعفر، أحمد بن الحسين العتبي، لما أجلسني الأمير الرشيد هذا المجلس، نظرت إلى جميع اهل خراسان، ممن يؤهل للجولس معي في مجلس السلطان، أيده الله، فلم أجد فيهم أجل من أبي العباس بن ميكال، فسألت السلطان استحضاره، فلما حضر امتنع منتقلد العمل: فقلت له: ديوان الرسائل هو مثل قضاء القضاة، أمر منوط بالعلم والعلماء، فتقلد ديوان الرسائل صار جليس في مجلس السلطان، وكان على كره من أبي العباس.
قال: وسمعت أبا يحيى حماد بن الحمادى يقول: لما قلد أبو العباس بن ميكال الديوان، أمر أن يغير زيه من التعمم تحت الحنك والرداء وغير ذلك، فلم يفعل، وراجع السلطان فيه حتى أذن فيه، فكان يجلس في الديوا متطلساً متعمماً تحت الحنكة. قال: وسمعت قاضي اقضاة أبا الحسن محمد بن صالح الهاشمي يذكر آثار الميكالية ببغداد، ويصف إنشاء ابن ميكال، فوصف له بعض أحوالهم بخراسان، فقال: آثارهم عندنا بالعراق أكثر منها بخراسان، لأنهم نقالة م عندنا إلى خراسان.

إسماعيل بن ابي ذؤيب السدي الأعور
عبد الرحمن، ابن أبي ذؤيب السدي الأعور وقيل: عبد الرحمن بن أبي كريمة، مولى زينب بنت قيس، بن مخزمة، من بني عبد مناف، حجازي الأصل، سكن الكوفة، مات سنة سبع وعشرين ومائة، في أيام بني أمية، في ولاية مروان بن محمد. روى عن أنس ابن مالك، وعبد خير، وأبي صالح، ورأى ابن عمر، وهو السدي الكبير، وكان ثقة مأموناً، روى عنه الثوري وشعبة، وزائدة، وسماك بن حرب، وإسماعيل بن أبي خزيمة، وسليمان التيمي.

وكان ابن أبي خالد إسماعيل يقول: السدي أعلم بالقرآن من الشعبي، وقال أبو بكر بن مردويه: الحافظ إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، يكنى أبا محمد، صاحب التفسير، إنما سمي السدي، لأنه نزل بالسدة، كان أبوه من كبار أهل أصبهان، أدرك جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم سعد بن أبي وقاص، وأبو سعيد الخدري، وابن عمر، وأبو هريرة، وابن عباس.
وقال غيره: نسب السدي إلى بيع الخمر - يعني المقانع - في سدة الجامع - يعني باب الجامع - وقال الفلكي: إنما سمي السدي، لأنه كان يجلس بالمدينة في موضع يقال له السد. قال يحيى بن سعيد: ما سمعت أحداً يذكر السدي إلا بخير. ومحمد بن مروان بن عبد الله، ابن إسماعيل، بن عبد الرحمن السدي، من أهل الكوفة يروى عن الكلبي صاحب التفسير، وداود بن أبي هند، وهشام بن عروة. روى عنه ابنه علي، ويوسف بن عدي، والعلاء بن عمرو، وأبو إبراهيم الترجماني، وغيرهم. وهو السدي الصغير. وكان يحيى بن معين يقول، السدي الصغير، محمد بن مروان صاحب التفسير، ليس بثقة. وقال البخاري: محمد بن مروان الكوفي، صاحب الكلبي، لا يكتب حديثه ألبتة. وسئل أبو علي صالح جهرة عنه فقال: كان ضعيفاً، وكان يضع الحديث، وكل ضعفه.
وذكر الحافظ أبو نعيم في تاريخ أصبهان، من تصنيفه قال: إسماعيل بن عبد الرحمن الأعور، يعرف بالسدي، صاحب التفسير، كان أبوه عبد الرحنم يكنى أبا كريمة، من عظماء أهل أصبهان، توفي في ولاية مروان، وذكر كما تقدم، وكان عريض اللحية، إذا جلس غطت لحيته صدره قيل: إنه رأى سعد بن أبي وقاص.
وقال أبو نعيم بإسناده: إن السدي قال: هذا التفسير أخذته عن ابن عباس، إن كان صواباً فهو قد قاله: وإن كان خطأً فهو قاله. قال أبو نعيم فيما رفعه إلى السدي: إنه قال: رأيت نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم أبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وابن عمر. كانوا يرون أنه ليس أحد منهم، على الحال التي فارق عليها محمداً، إلا عبد الله بن عمر.

إسماعيل بن عبد الرحمن، بن أحمد
ابن إسماعيل، بن إبراهيم، بن عامر، بن عابد، أبو عثمان الصابوي، مات في ثالث محرم سنة تسع وأربعين وأربعمائة قال عبد الغافر: هو الأستاذ الإمام شيخ الإسلام، أبو عثمان الصابوني الخطيب، المفسر المحدث الواعظ، أوحد وقته في طريقته، وكان أكثر أهل العصر من المشايخ سماعاً وحفظاً، ونشراً لمسموعاته وتصنيفاته، وجمعاً وتحريضاً على السماع، وإقامة لمجالس الحديث.
سمع الحديث بنيسابور، من أبي العباس التابوتي، وأبي سعيد اللسمسار، وبهراة من أبي بكر بكر أحمد بن إبراهيم الفرات، وأبي معاذ شاه بن عبد الرحمن، وسمع بالشام والحجاز، ودخل معرة النعمان، فلقي بها أبا العلاء أحمد ابن سليمان، وسمع بالجبال وغيرها من البلاد، وحدث بنيسابور، وخراسان إلى غزنة، وبلاد الهند وجرجان، وآمل وطبرستان، وبالشام، وبيت المقدس، والحجاز.
روى عنه أبو عبد الله القارئ، وأبو صالح المؤذن.
ومن تاريخ دمشق: أن الصابوني وعظ للناس سبعين سنة.
قال: وله شعر منه:
مالي أرى الدهر لا يسخو بذي كرم ... ولا يجود بمعوان ومفضال
ولا أرى أحداً في الناس مشترياً ... حسن الثناء بإنعام وإفضال
صاروا سواسية في لؤمهم شرعاً ... كأنما نسجوا فيه بمنوال
وذكر من فضله كثيراً ثم قال: ومولده ببوشنج للنصف من جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، وذكر وفاته كما تقدم.
إسماعيل بن بنان الخطيبي
علي، بن إسماعيل بن يحيى، ابن بنان الخطيبي أبو محمد، سمع الحارث بن أبي أسامة، والكريمي، وعبد الله بن أحمد، وغيرهم. وروى عنه الدار قطني، وابن شاهين، وابن زقويه. وكان ثقة فاضلاً نبيلاً، فهما عارفاً بأيام الناس، وأخبار الخلفاء. وصنف تاريخاً كبيراً على ترتيب السنين، وكان عالماً بالأدب، ركيناً عاقلاً، ذا راي يتحرى الصدق. ولد الخطيبي في محرم سنة تسع وتسعين ومائتين، ومات في جمادى الآخرة، سنة خمسين وثلاثمائة، في خلافة المطيع لله.

حدث الخطيب قال: سمعت الأزهري يقول: جاء أبو بكر بن مجاهد، وإسماعيل الخطيبي إلى منزل أبي عبد الصمد الهاشمي، فقدم إسماعيل أبا بكر، فتأخر أبو بكر وقدم إسماعيل، لما استأذن إسماعيل أذن له، فقال له: أدخل ومن أنا معه؟.
وحدث عن الحسن بن رزقويه، عن إسماعيل الخطيبي قال: وجه إلى الراضي بالله ليلة عيد فطر، فحملت إليه راكباً بغلة، فدخلت عليه وهو جالس في الشموع، فقال لي يا إسماعيل: إني عزمات في غدٍ على الصلاة بالناس في المصلى، فما أقول إذا انتهيت في الخطبة إلى الدعاء لنفسي؟ قال: فأطرقت ثم قلت يقول أمير المؤمنين: (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحاً ترضاه، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين)؟ فقال حسبك، ثم أمرني بالانصراف، وأتبعني بخادم، فدفع إلى خريطة فيها أربعمائة دينار، وكانت الدنانير خمسمائة، فأخذ الخادم منها لنفسه مائة أو كما قال.

إسماعيل بن علي الخضيري
من أعمال دجيل، ثم من ناحية نهر تاب، كان فاضلاً متميزاً لسناً، ذا بلاغة وبراعة، وله في ذلك تصانيف معروفة متدولة، إلا أن الخول كان عليه غالباً، قدم بغداد، وقرأ الأدب على أبي محمد إسماعيل ابن أبي منصور، موهوب بن الخضر الجواليقي، وعلى أبي البركات عبد الرحمن، الأنياري، وعلى علي بن عبد الرحيم السلمي بن العصار، وأدرك ابن الخشاب أبا محمد، وأخذ عنه علماً جماً، وقرأ على أبي الغنائم بن حبشي، وكان ورعاً زاهداً تقياً، رحل إلى الموصل، وأقام بها في دار الحديث عدة سنين، ثم اشتاق إلى وطنه، فرجع إلى بغداد، فمات بها في صفر سنة ثلاث وستمائة، وله تصانيف ورسائل مدونة وخطب، وديوان شعر، وكتاب جيد في علم القراءات رأيته.
ومن شعره:
لا عالم يبقى ولا جاهل ... ولا نبيه لا ولا خامل
على سبيل مهيع لاحب ... يودي أخو اليقظة والغافل
إسماعيل بن عيسى، بن العطار أبو إسحاق
من أهل السير، بغدادي، روى عنه الحسن بن علويه، ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: له من الكتب: كتاب المبتدإ.
إسماعيل بن القاسم، بن عيذون، بن هارون
ابن عيسى بن محمد، بن سليمان، المعروف بالفالي، أبو علي البغدادي، مولى عبد الملك بن مروان، ولد بمنازجرد من ديار بكر، ودخل بغداد سنة ثلاث وثلاثمائة، وأقام بها إلى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، مات بقرطبة في ربيع الآخر، سنة ست وخمسين وثلاثمائة، ومولده في سنة ثمانين ومائتين، وفي أيام الحكم المستنصر كانت وفاته، وسمع من أبي القاسم عبد الله بن محمد، بن عبد العزيز البغوي، وأبي سعيد لاحسين بن علي، بن زكريا بن يحيى، بن صالح، بن عاصم، بن زفر العدوي، وأبي بكر بن دريد، وابي بكر بن السراج، وأبي عبد الله نفطويه، وأبي إسحاق الزجاج، وأبي الحسن علي بن سليمان الأخفش، وقرأ كتاب سيبويه على ابن درستويه، وسأله عنه حرفاً حرفاً، وأما نسبته: فهو نسوب إلى قالي قلا، بلد من أعملا أرمينية. قال القالي: لما دخلت بغداد، انتسبت إلى قالي قلا، رجا ء أن أنتفع بذلك، لأنها ثغر من ثغور المسلمين، لا يزال بها المرابطون، فلما تأدب ببغداد، ورأى أنه لاحظ له بالعراق، قصد بلاد الغرب، فوافاها في أيام المتلقب بالحكم، المستنصر بالله عبد الرحمن، بن الحكم، بن هشام بن عبد الرحمن، بن معاوية، بن هشام، بن عبد الملك، بن مروان، بن الحكم، بن أبي العاص، بن أمية، ين عبد شمس، ابن عبد مناف. قالوا: وهذا أول من دعي من هؤلاء بالغرب أمير المؤمنين، إنما كان المتولون قبله يدعو ببني الخلائف. فوفد القالي إلى الغرب، في سنة ثلاثي وثلاثمائة، فأكرمه صاحب الغرب، وأفضل عليه إفضالاً عمه، وانقطع هناك بقية عمره، وهناك أملى كتبه أكثرها عن ظهر قلب، منها كتاب الأمالي، معروف بيد الناس، كثير الفوائد، غاية في معناه.

قال أبو محمد بن حزم: كتاب نوادر أبي علي، مبار لكتاب الكامل، الذي جمعه المبرد، ولئن كان كتاب أبي العباس أكثر نحواً وخبراً، فإن كتاب أبي علي أكثر لغة وشعراً، وكتاب الممدود والمقصور، رتبه على التفعيل، ومخارج الحروف من الحلق، مستقى في بابه، لا يشذ منه شيء في معناه، لم يوضع مثله، كتاب مقاتل الفرسان، كتاب تفسير السبع الطوال، كتاب البارع في اللغة على حرف المعجم، جمع فيه كتب اللغة، يشتمل على ثلاثة آلاف ورقة. قال الزبيدي: ولا نعلم أحداً من المتقدمين ألف مثله.
قرأت بخط أبي بكر محمد بن طرخان، بن الحكم: قال الشيخ الإمام أبومحمد العربي: كتاب البارع لأبي علي القالي، يحتوي على مائة مجلد، لم يصنف مثله في الإحاطة والاستيعاب، إلى كتب كثيرة ارتجلها وأملاها عن ظهر قلب كلها.
قال الحميدي: وممن روى عن القالي أبو بكر محمد ابن الحسين الزبيدي النحوي، صاحب كتاب مختصر العين، وأخبار النحويين، وكان حينئذ إماماً في الأدب، ولكن عرف فضل أبي علي فمال إليه، واختص به استفاد منه، وأقر له.
قال الحميدي: وكان أقام ببغداد خمساً وعشرين سنة، ثم خرج منها قاصداً إلى المغرب، سنة ثمان وعشري وثلاثمائة، ووصل إلى الأندلس، في سنة ثلاثين وثلاثمائة، في أيام عبد الرحمن الناص، وكان ابنه الأمير أبو العاس، الحكم ابن عبد الرحمن، من أحب ملوك الأندلس للعلم، وأكثرهم اشتغالاً به، وحرصاً عليه، فتلقاه بالجميل، وحظي عنده، وقرب منه، وبالغ في إكرامه، ويقال: إنه هو الذي كتب إليه، ورغبه في الوفود عليه، واستوطن قرطبة، ونشر علمه بها.
قال: وكان إماماً في علم العربية، متقدماً فيها، متقناً لها، فاستفاد الناس منه، وعولوا عليه، واتخذوه حجة فيما نقله، وكانت كتبه على غاية التقييد، والضبط والإتقان، وقد ألف في علمه الذي اختص به تآليف مشهورة، تدل على سعة علمه وروايته، وحدث عنه جماعة، منهم أبو محمد عبد الله بن الربيع، بن عبد الله التميمي، ولعله آخر من حدث عنه، وأحمد بن أبان، بن سيد الزبيدي، كما ذكرنا آنفاً. قال: وكان أعلم الناس بنحو البصريين، وأرواهم للشعر مع اللغة.
قال الزبيد: وسألته لم قيل له القالي؟ فقال: لما انحدرنا إلى بغداد، كنا في رفقة فيها أهل قالي قلا، وهي قرية من قرى منازجرد، وكانوا يكرمون لمكانهم من الثغر، فلما دخلت بغداد، نسبت إليهم لكوني معهم، وثبت ذلك علي.
قال الحميدي: وكان الحكم المستنثر قبل ولايته الأمور، وبعد أن صارت إليه، يبعثه على التأليف، وينشطه بواسع العطاء، ويشرح صدره بالإجزال في الإكرام، وكانوا يسمونه بالبغدادي، لكثرة مقامه، ووصوله إليهم منها.
قال السلفي بإسناد له: أخبرنا أبو الحكم، منذر بن سعيد البولطي قال: كتبت إلى أبي علي البغدادي القالي، أستعير منه كتاباً من الغريب وقلت:
بحق رئم مفهف ... وصدغه المتلطف
ابعث إلى بجزء ... من الغريب المصنف
قال: فأجابني وقضى حاجتي،
وحق در تألف ... بفيك أي تألف
ولو بعثت بنفسي ... إليك ما كنت أسرف

ابن صالح، بن إسماعيل
ابن صالح، بن عبد الرحمن، الصفار، أبو علي، علامة بالنحو باللغة، مذكور بالثقة والأمانة، صحب المبرد صحبة اشتهر بها وروى عنه، وسمع الكثير، وروى الكبير، أدركه الدار قطني، وقال: هو ثقة، صام أربعة وثمانين رمضان، وكان متعصباً للسنة، مات فيما ذكره الخطيب، سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، ومولده سنة تسع وأربعين ومائتين، ودفن بقرب قبر معروف الكرخي، بينهما عرض الطريق، دون قبر أبي بكر الآدمي، وأبي عمر الزاهد.
قال أبو عبيد، محمد بن عمران المرزباني: أنشدني الصفار لنفسه:
إذا ظرتكم لاقيت أهلاً ومرحباً ... وإن غبت حولاً لا أرى منكم رسلاً
وإن جئت لم أعدم ألا قد جفوتنا ... وقد كنت زواراً فما بالنا نقلى
أفي الحق أن أرضى بذلك منكم ... بل الضيم أن أرضى بذا منكم فعلا
ولكنني أعطي صفاء مودتي ... لمن لا يرى يوماً على له فضلاً
وأستعمل الإنصاف في الناس كلهم ... فلا أصل الجافي ولا أقطع الحبلا
وأخضع لله الذي هو خالقي ... ولن أعطي المخلوق من نفسي الذلا

إسماعيل بن محمد، بن أحمد الوثابي
أبو طاهر، من أهل أصبهان، له معرفة تامة بالأدب، وطبع جواد بالشعر، مات في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. قال السمعاني: ومن خطه نقلت: ما رأيت بأصفهان في صنعة الشعر والترسل، أفضل منه، أضر في آخر عمره، وافتقر وظهر الخلل في أحواله، حتى كاد أن يختلط، دخلت عليه داره بأصبهان، وما رأيت أسرع بديهة منه في النظم والنثر. افترحت عليه رسالة فقال لي: خذ القلم واكتب، وأملى علي في الحال بلا ترو ولا تفكر، كأحسن ما يكون، إلا أني سمعت الناس يقولون: إنه يخل بالصلوات المفروضة، والله أعلم بحاله.
وأنشد عنه السمعاني أشعاراً له منها:
أشاعوا فقالوا وقفة ووداع ... وزمت مطايا للرحيل سراع
فقلت: وداع لا أطيق عيانه ... كفاني من البين المشتت سماع
ولم يملك الكتمان قلب ملكته ... وعند النوى سر الكتوم مذاع
وأنشد عنه له:
فو الله لا أنسى مدى الدهر قولها ... ونحن على حد الوداع وقوف
وللنار من تحت الضلوع تلهب ... وللماء من فوق الخدود وكيف
ألا قاتل الله الصورف فإنما ... تفرق بين للصاحبين صروف
وأنشد له عنه أيضاً:
طابت لعمري على الهجرا ذكراها ... كأن نفسي ترى الحرمان ذكراها
تحيا بيأس وتفنيها طماعية ... هل مهجة برد يأس الوصل أحياها؟
قامت لها دون دعوى الحب بينة ... بشاهدين أبانا صدق دعواها
إرسال شكوى وإجراء الدموع معاً ... وإن تحقبت مجراها ومرساها
وأنشد عنه له م قصيدة.
فعج صاح بالعوج الطلاح إلى الحمى ... وزر أثلات القاع طال بها العهد
تعوض عيناُ بعد عين أوانساً ... وأوحش أحشاء تضمنها الوجد
وما ساءني وجد ولا ضرني هوى ... كما ساءني هج تعقبه صد
تبصر خليلي من ثنية بارق ... بريقاً كسقط النار عالجه الزند
يدق وأحياناً يرق ويرتقي ... ويخفى كرأي الغمر إمضاؤه رد
فيقضى بها من ذكر حزوى ليانة ... ويطفى بها م نار وجد بها وقد
وإن كان عهد لاوصل أضحى نسيئة ... فهاك أليل البرق إذ عهده نقد
وشم لي نسيم الريح من أفق الحمى ... فقد عبق الوادي وفاح بهالارند
إسماعيل بن محمد، بن عبدوس الدهان
أبو محمد النيسابوري، أنفق ماله على الأدب، وتقدم فيه، وبرع في علم اللغة، والنحو والعروف، وأخذ عن إسماعيل بن حماد الجوهري، فاستكثر منه، وحصل كتابه كتاب الصحاح في اللغة بخطه واتص باالأمير أبي الفضل الميكالي بشعر كثير، ثم أوتي الزهد والإعراض عن الأعراض الدنيا.
وقال لما أزمع الحج والزيارة:
أتيتك راجلاً ووددت أني ... ملكت سواد عيني أمتطيه
ومالي لا أسير على الماقي ... إلى قبر رسول الله فيه
وله أيضاً:
أيا خير مبعوث إلى خير أمة ... نصحت وبلغت الرسالة ولاوحيا
فلو كان في الإمكان سعى بمقلتي ... إليك رسول الله أفنيتها سعيا
وله أيضاً:
عبد عصى ربه ولكن ... ليس سوى واحد يقول
إن لم يكن فعله جميلاً ... فإنما ظنه جميل
وقال لصديق له:
نصحتك يا أبا إسحاق فاقبل ... فإني ناصح لك ذو صداقه
تعلم ما بدا لك من علوم ... فما الإدبار إلا في الوراقه
قال: وسألني أن أردد شيئاً من أشعاره في الغزل والمديح في كتابي هذا، فانتهيت في ذلك إلى رواية...
إسماعيل بن محمد القمي النحوي
ذكره ابن النديم فقال: له من التصانيف، كتاب الهمز. كتاب العلل.
إسماعيل بن محمد، بن عامر، بن حبيب
أبو الوليد الكاتب بإشبيلية فيقال: له ولأبيه قدم في الأدب، وله شعر كثير تقوله بفضل أدبه. وله كتاب في فضل الربيع. مات أبو الوليد ب محمد بن عامر، قريباً من سنة أربعين وأربعمائة بإشبيلية، ومن شعره في الربيع:
أبشر فقد سفر الثرى عن بشره ... وأتاك ينشر ما طوى من نشره

متحصناً من حسنه في معقل ... عقل العيون على رعاية زهره
من بعد ما سحب السحاب ذيوله ... فيه ودر عليه أنفس دره
شهر كأن الحاجب بن محمد ... ألقى عليه مسحة من بشره

إسماعيل بن مجمع الأخباري
ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو أحد أصحاب السير والأخبار، ومعروف بصحبة الواقدي المختص به، مات سنة سبع وعشرين ومائتين. له من التصنيف: كتاب أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، ومغازيه، وسراياه.
إسماعيل بن موهوب، بن أحمد، بن محمد
ابن الخضر، بن الجواليق، يكنى أبا محمد، كان إمام أهل الأدب، بعد أبيه أبي منصور بالعراق، واختص بتأديب ولد الخلفاء، مات في شوال سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وكان مليح الخط، جيد الضبط، يشبه خطه خط والده، وكانت له معرفة حسنة باللغة والأدب، وكانت له حلقة بجامع القصر، يقرئ فيها الأدب كل جمعة. سمع منه ابن الأخضر، وابن حمدون الحسن تاج الدين، وغيرهما. ومولده في شعبان، سنة اثنتي عشرة وخمسمائة. وكان بينه وبين أخيه إسحاق في المولد سنة ونصف، وفي الوفاة ثلاثة أشهر.
حدثت أن أبا الحسن، جعفر بن محمد، بن فطيرا، ناظر واسط والبصرة، وما بينهما من تلك النواحي، دخل يوماً إلى بعض الوزراء في أيام المستضيئ بالله - سقى الله عهوده صوب الرضوان، - فرأى في مجلسه الذي كان بجلسه، رجلاً لم يعرفه، فهابه وجلس بين يدي الوزير، وكان بان فطير معروفاً بالمزاح والنادرة، فتقدم حتى قال للوزير مساراً: يا مولانا، من هذا الذي قد جلس في مجلسي؟ فقال: هذا لاشيخ الأمام أبو محمد بن الجواليقي. فقال: وأي أرباب المناصب هو؟ قال: ليس هو من أرباب المناصب، هذا هو الإمام الذي يصلي بأمير المؤمنين، صلوات الله عليه وسلامه.
قال: فقام مبادراً وأخذ بيده، وأزاحه عن موضعه، وجلس في منصبه، وقال له: أيها الشيخ، أن ينبغي أن تتشامخ على إمام الوزير ومن دونه، فتجلس فوقهم، لأنك أعلى منهم منزلة، فأما على أنا، وأنا ناظر واسط والبصرة وما بينهما، فلا. قال: فما تمالك أهل المجلس من الضحك أن يمسكوه.
إسماعيل بن المبارك اليزيدي
بن أبي محمد يحيى، بن المبارك اليزيدي نذكر نسبه وولادته في ترجمة أبيه يحيى، إن شاء الله تعالى وحده، وكان إسماعيل أحد الأدباء الرواة، الفضلاء من ولج أبيه، وكان شاعراً مصنفاً، صنف كتاب طبقات الشعراء، فنقلت من خط عمر بن محمد، بن سيف الكاتب: أنشدنا اليزيدي أبو عبد الله، يعني محمد بن العباس، بن محمد، بن أبي محمد، بعد فراغه من كتاب الوحوش لعم أبيه، إسماعيل بن أبي محمد اليزيدي:
كلما رابني من الدهر ريب ... فاتكالي عليك يا رب فيه
إن من كان ليس يدري أفي المح ... بوب صنع له أوالمكروه
لحرى بأن يفوض ما يع ... جز عنه إلى الذي يكفيه
الإله البر الذي هو في الرأ ... فة أحنى من أمه وأبيه
قعدت بي الذنوب أستغفر الل ... ه لها مخلصاً وأستعفيه
كم يوالي لنا الكرامة والنع ... مة من فضله وكم نعصيه؟؟
ومن شعره عن المرزباني:
أتت ثمانون فاستمرت ... بالنقص من قوتي وعزمي
فرق جلدي ودق عظمي ... واختل بعد التمام جسمي
ياليت أني صحبت دهري ... صحبة ذي تهمة وحزم
من لم يكن عاملاً بعلم ... رواه لم ينتفع بعلم
وقال يرثي علي بن يحيى المنجم، ومات على في سينة خمس وسبعين وثلاثمائة.
مات السماح ومات الجود والكرم ... إذ ضم شخص علي في الثرى رجم
سقيت من مجدث فابتل ساكنه ... غيثاً ملثا توالي صوبه الديم
عادت لنا بعدك الأيام مظلمة ... وكنت ضوءاً لها تجلى به الظلم
كان لازان فتيا مشرفاً نضراً ... فاليوم أخلقه من بعدك الهرم
قد كنت للخلق في حاجاتهم علماً ... يفرج الهم عنهم ذلك العلم
الأغر أبو الحسن
ذكره أبو بكر الزبيدي في نحاة مصر، وقال: أخذ عن أبي الحسن علي بن حمزة الكسائي، ولقيه قوم من أهل الأندلس، وحملوا عنه في سنة سبع وعشرين ومائتين

أمان بن الصمصامة، ابن الطرماح، بن الحكيم
ابن الحكم، بن نفرن بن قيس، بن جحدر، بن ثعلبة، بن رضا ب مالك، بن أمان، ب عمرو، ابن ربيعت، بن جرول، بن ثعل، بن عمرو، بن الغوث، أبي طئ. والطرماح الشاعر المشهور، ويكنى أمان هذا، أبا مالك. واطرحه با لأغلب، إذ صار إليه الأمر لهجاء جده الطرماح بني تميم. قال أبو الوليد المهدي: أبطأت على أبي مالك وكان مريضاً فكتب إلى:
أبلغ المهدي عن مألكا ... أن دائي قد أصار المخ ريرا
كنت في المرضى مريضاً مطلقاً ... ولقد أصبحت في المرضى أسيراً
فإذا ما مت فانعم سالماً ... وتمل العيش في الدنياكثيرا
وأخذ عنهالمهدي جزءاً من النحو، واللغة، والشعر.
أمية بن عبد العزيز، بن أبي الصلت
من أهل الأندلس، كان أديباً فاضلاً، حكيماً منجماً، مات في سنة تسع وعشري وخمسمائة، في المحرم بالمهدية من بلاد القيروان، وهو صاحب فصاحة بارعة، وعلم بالنحو، والطب. وكان قد ورد إلى مصر في أيام المسمى بالآمر، من ملوك مصر، واتصل بوزيره ومدير دولته، الأفضل شاهنشاه، بن أمير الجيوش بدر، واشتمل عليه رجل من خواص الأفضل، يعرف بمختار، ويلقب بتاج المعالي، وكانت منزلته عند الأفضل عالية، ومكانته بالسعد حالية، فتحسنت حال أمية عنده، وقرب من قلبه، وخدمه بصناعي الطب والنجوم، وأنس تاج المعالي منه بالفضل، الذي لا يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فوصفه بحضرة الأفضل، وأثنى عليه، وذكر ما سمعه من أعيان أهل العلم، وإجماعهم على تقدمه في الفضل وتميزه عن كتاب وقته. وكان كاتب حضرة الأفضل يومئذ، رجل قد حمى هذا الباب، ومنع من أن يمر بمجلسه ذكر أحد م أهل العلم بالأدب، إلا أنه لم يتمكن من معارضة قول تاج المعالي، فأغضى على قذى، وأضمر لأبي الصلت المكروه، وتتابعت من تاج المعالي السقطات، وأفضت إلى تغير الأفضل، والقبض عليه والاعتقال، فوجد حينئذ السبيل إلى أبي الصلت، بما اختلق له من المحال، فحبسه الأفضل في سجن المعونة بمصر، مدة ثلاث سنين وشهر واحد، على ما أخبرني به الثقة عنه، ثم أطلق، فقصد المرتضي أبا طاهر يحيى بن تميم، بن المعز، بن باديس، صاحب القيروان، فحظى عنده، وحسن حاله معه. وقد ذكر ذلك في رسالة لم يذم فيها مصر، ويصف حاله، ويثني على بان باديس، واستشهد فيها بهذه الأبيات في وصف ابن باديس:
فلم أستسغ إلا نداه ولم يكن ... ليعدل عندي ذا الجناب جناب
فما كل إنعام يخف احتماله ... وإن هطلت منه على سحاب
ولكن أجل اصنع ماجل ربه ... ولم يأت باب دونه موحجاب
وما شئت إلا أن أدل عواذلي ... على أن رأيي في هواك صواب
وأعلم قوماً خالفوني وشرقوا ... وغربت أني قد ظفرت وخابوا
ومن شعره أيضاً:
لا غرو إن لحقت لهاك مدائحي ... فتدقت نعماك ملء إنائها
يكسى القضيب ولم يحن إبانه ... وتطوق الورقاء قبل غنائها
ومنه يرثي:
قد كنت جارك والأيام ترهبني ... ولست أرهب غير الله من أحد
فنافستني الليالي فيك ظالمة ... وما حسبت الليالي من ذوي الحسد
ولأبي الصلت من التصانيف: كتاب الأدوية المفردة، كتاب تقويم الذهن في المنطق، كتاب الرسالة المصرية، كتاب ديوان شعره كبير، كتاب رسالة عمر في الأسطرلاب، كتاب الديباجة في مفاخر صنهاجة؟ كتاب ديوان رسائل، كتاب الحديثة ف يمختار من أشعار المحدثين، ومن شعر أمية منقولاً من كتاب سر السرور:
حسبي فقد بعدت في الغي أشواطي ... وطال في اللهو إيغالي وإفراطي
أنفقت في اللهو عمري غير متعظ ... وجدت فيه بوفري غيرمحتاط
فكيف أخلص من بحر الذنوب وقد ... غرقت فيه على بعد من الشاطئ
يا رب مالي ما أرجو رضاك به ... إلا اعترافي بأني المذنب الخاطي
ومنه أيضاً:
لله يومي ببركة الحبش ... والصبح بين الضياء والغبش
والنيل تحت الرياح مضطرب ... كطائر في يمي مرتعش
ونحن في روضة مفوة ... دبج بالنور عطفها ووشي

قد نسجتها يد الربيع لنا ... فنحن من نسجها على فرش
وأثقل الناس كلهم رجل ... دعاه داعي الهوى فلم يطش
فعاطني الراح إن تاركها ... من سورة الهم غير منتعش
وأسقني بالكبار مترعة ... فهن أشفى لشدة العطش
قال محمد بن محمود: حدثني طلحة أن أبا الصلت، اجتمع في بعض متنزهات مصر، مع وجوه أفاضلها، فمال لصبي صبيح الوجه، عديم الشبه، قد نقط نون صدغه على صفحة خده، فاستو صفوه إياه، فقال:
منفرد بالحس والظرف ... بحت لديه بالذي أخفى
لهفي شكوت وهومن تيهه ... في غفلة عني وعن لهفي
قد عوقبت أجفانه بالضنى ... لأنها أضنت وما تشفى
قد أزهر الورد على خده ... لكنه ممتنع القطف
كأنما الخال به نقطة ... قد قطرت من كحل الطرف
قال: وحدثني أبو عبد الله الشامي، وكان قد درس عليه، واقتبس ما لديه، أن الإفضل كان قد تغير عليه وحبسه بالإسكندرية في دار الكتب الحكيم أرسططاليس، قال: وكنت أختلف إليه إذ ذاك، فدخلت إليه يوماً، فصادفته مطرقاً، فلم يرفع رأسه إلى على العادة، فسألته فل يرد الجواب، ثم قال بعد ساعة: اكتب، وأنشدني:
قد كان لي سبب قد كنت أحسب أن ... أحضى به فإذا دائي من السبب
فما مقلم أظفاري سوى قلمي ... ولا كتائب أعدائي سوى كتبي
فكتبت وسألته ع ذلك، فقال: إن فلاناً تلميذي، قد طعن في عند الأمير الأفضل، ثم رفع رأسه إلى السماء، واغرورقت عيناه دمعاً، ودعا عليه، فلم يحل الحول حتى استجيب له.
وأنشدني الشيخ سليمان بن الفياض الإسكندراني - وكان ممن درس عليه، واختلف إليه - في صفة فرس:
صفراء إلا حجول مؤخرها ... فهي مدام ورسغها زيد
تعطيك مجهودها فراهتها ... في الحضر والحضر عندها وخد
وأنشدني له يهجو، وما هو من صناعته:
صاف ومولاته وسيده ... حدود شكل القياس مجموعة
فالشيخ فو الاثنين مرتفع ... والست تحت الاثنين موضوعة
والشيخ محمول ذي وحامل ذا ... بحشمة في الجميع مصنوعة
شكل قياس كانت نتيجته ... غريبة في دمشق مطبوعة
وقرأت في الرسالة المصرية، زيادة على البيتين المتقدم ذكرهما قبل:
وكم تمنيت أن ألقى بها أحداً ... يسلى من الهم أو يعدى على النوب
فما وجدت سوى قوم إذا صدقوا ... كانت مواعيدهم كالآل في الكذب

باب الباء
برزخ بن محمد، أبو محمد العروضي
مولى بجيلة، وقال الصولى: أظنه من موالي كندة، وقال ابن درستويه: ومن علماء الكوفة: برزخ بن محمد العروضي، وهو الذي صنف كتاباً في العروض، نقض فيه العروض - في زعمه - على الخليل، وأبطل الدوائر والألقاب، والعلل التي وضعتها، ونسبها إلى قبائل العرب، وكان كذاباً.
وحدث الصولى: حدث جبلة بن محمد قال: سمعت أبي يقول: كان الناس قد البوا على أبي محمد برزخ ابن محمد العروضي، لكثرة حفظه، فساء ذلك حماداً وجناداً، فدسا إليه من يسقطه، فإذا هو يحدث بالحديث عن رجل فعل شيئاً، ثم يحدث به عن رجل آخر بعد ذلك، ثم يحدث به عن آخر، فتركه الناس حتى كان يجلس وحده. وحدث صعود قال: سمعت سلمة يقول: كاني ونس النحوي يقول: إن لم يكن برزخ أروى الناس، فهو أكذب الناس. قال سلمة: وصدق يونس يقول: إن كان ما أتي به حقاً وإلا فقد كذب، لأنه حدث عن أقوام لا يعرفهم الناس.
وحدث ابن قادم قال: سئل الفراء عن برزخ، فأنشد قول زهير:
أضاعت فلم يغفر لها غفلاتها ... فلاقت بياناً عند آخر معهد
يريد أن الناس اجتنبوه، لشيء استبانوه منه.
وحدث المازني قال: روى برزخ شعراً لامرئ القيس فقال له جناد: عمن رويت هذا؟ قال عني: وحسبك بي، فقال له جناد: من هذا أتيت يا غافل.
وحدث الصولي عن أبي عبد الله، أحمد بن الحسن السكوني قال: كنا نروى لبرزخ أشعاراً منها:
ليس بيني وبين قومي إلا ... أنني فاضل لهم في الذكاء
حسدوني فزخرفوا في قولاً ... تتلقاه ألسن البغضاء

كنت أرجو العلاء فيهم بعلمي ... فأتاني من الرجاء يلائي
شدة قد أفدتها من رخاء ... وانتقاص جنيته من وفاء
وحدث الحارث بن أبي أسامة قال: أنشدني عثمان ابن محمد لأبي حنش، واسمه حضير بن قيس شعراُ، يقوله في برزخ:
أبرزخ قد فقدتك من ثقيل ... فظلك حين يوزن وزن فيل
فماتنفك إنساناً تماري ... جليسك منك في هم طويل
وبالأشعار علمك حين يقضى ... علينا بالسماع المستطيل
يكون كلطم سنور إذا ما ... أثاروه بأكل الرنجبيل
ولبرزخ من التصانيف: كتاب العروض، كتاب بناء الكلام. قال محمد بان إسحاق النديم: رأيته في جلود. وكتاب معاني العروض على حروف المعجم، كتاب النقض على الخليل وتغليظه في العروض، كتاب الأوس في العروض، كتاب تفسير الغريب.

بشر بن يحيى، بن علي القيني النصيبي
أبو ضياء من أهل نصيبين، شاعر قليل الشعر، وأديب كثير الأدب، وله من الكتب فيما ذكره محمد ابن إسحاق: كتاب سرقات البحتري م أبي تمام، كتاب الجواهر، كتاب الآداب، كتاب السرقات الكبير لم يتم.
بقي بن مخلد الأندلسي، أبو عبد الرحمن
ذكره الحميدي وقال:مات بالأندلس، سنة ست وسبعين ومائتين، في قول أبي سعيد بن يونس. وقال الدار قطني: مات سنة ثلاث وسبعي، والأول أصح. قال الحميدي: وبقي من حفاظ المحدثين، وأئمة الدين، والزهاد الصالحين، رحل إلى المشرق، فروى عن الأئمة، وأعلام السنة، منهم الإمام أبو عبد الله، أحمد بن محمد، بن حنبل، وأبو بكر ابن عبد الله، بن محمد، بن أبي شيبة، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، وخليفة بن خياط، وجماعات أعلام، يزيدون على المائتين، وكتب المصنفات الكبار، والمنثور الكثير، وبالغ في الجمع والرواية، ورجع إلى الأندلس، فملأها علماً جماً، وألف كتباً حساناً، تدل على احتفاله واستكثاره.
قال لنا أبو محمد علي بن أحمد: فمن مصنفات بقي ابن مخلد، كتاب تفسير القرآن، وهو الكتاب الذي أقطع قطعاً لا أستثني فيه، أنه لم يؤلف في الإسلام مثله، ولا تصنيف محمد بن جرير الطبري ولا غيره. ومنها في الحديث: كتاب مصنفه الكبير، الذي رتبه على أسماء الصحابة، فروى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف، ثم رتب حديث كل صاحب على أسماء الفقه، وأبواب الأحكام، فهو مصنف ومسند، وماأعلم هذه الرتبة لأحد قبله، مع ثقته وضبطه، وإتقانه واحتفاله في الحديث، وجودة شيوخه. فإنه روى ع مئاة رجل وأربعة وثمانين رجلاً، ليس فيه عشر ضعفاء، وسائرهم أعلام مشاهير، ومنها كتاب في فتاوى الصحابة والتابعين ومن دونهم، الذي أربى فيه على مصنف أبي بكر، بن أبي شيبة وغيره، فصارت تصانيفه قواعد الإسلام، لا نظير لها، وكان بحراً لا يقلد أحداً، وكان خاصاً بأحمد بن حنبل، وجارياً في مضمار البخاري ومسلم. كل هذا من كتاب الحميدي، وإما ذكرته لتصنيفه كتاباً في تفسير القرآن.
وذكر له ترجمة أخرى فقال فيها: ولد بقي بن مخلد الأندلسي في رمضان، سنة إحدى وثمانين، وتوفى ليلة الثلاثاء، لتسع وعشرين لية مضت من جمادى الآخرة، سنة ست وسبعين ومائتين، ودفن في المقبرة المنسوبة إلى بني العباس، وكانت له رحلتان، أقام في إحداهما نحو العشرين عاماً، وفي الثانية نحو الأربعة عشر عاماً، فأخبرني أبي أنه كان يطوف في الأمصار على أهل الحديث، فإذا أتي وقت الحج، أتي إلى مكة فحج، هذا كان فعله كل عام في رحلتيه جميعاً، وكان يلتزم صيام الدهر، فإذا أتي يوم جمعةٍ أفطر وكانت له عبادات كثيرة، من قراءة القرآن، وغيرها من الصلوات، ونشر العلم.

قال: أما مشايخه الذين سمع منهم، فكانوا مائتي رجل، وأربعة وثمانين رجلاً، هكذا ذكر في هذه الترجمة، فما أدري أيهما الصحيح؟ أخبرني أسم بن عبد العزيز، أخبرني أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد قال: لما وضعت مسندي، أتاني عبيد الله بن يحيى، ومعه أخوه إسحاق، فقالا لي: بلغنا أنك وضعت مسنداً، قدمت فيه أبا مصعب وابن بكير، وأخرت أبانا، فقال بقي: أما تقديمي لأبي مصعب، فإني قدمته لقول رسول الله عليه وسلم: (فقدموا قيش ولا تقدموها). وأما ابن بكير، فإني قدمته لسنه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر كبر)، مع أنه سمع الموطأ من مالك سبع عشرة مرة، ولم يسمعه أبوكما إلا مرة واحدة قال بقي: فخرجا عني، ولم يعودا إلى بعد ذلك، وخرجاإلى حد المداوة.
حدثنا قالسم بن أصبغ قال: خرجت من الأندلس ولم أرو عن بقي شيئاً، فلما دخلتالعراق وغيره من البلدان، سمعت من فضائله وتعظيمه، ما اندمني على ترك الرواية عنه، وقلت: إذا رجعت لزمته حتى أروي جميع ما عنده، فأتانا نعيه ونحن بإطرابلس.
وحدثنا قاسم بن أصبغ قال: سمعت أحمد بن أبي خيثمة يقول: وذكر بقي بن مخلد فقال: ما كنا نسميه إلا المكنسة، وهل احتاج بلد بقي أن يأتي إلى ههنا منه أحد؟ فقلنا له: ولا أنت تحدثنا عن رجال ابن أبي شيبة؟ فقال: ولا أنا.
وذكر بقي أنه أدرك جماعةً من أصحاب سفيان الثوري، فلم يرو عنهم، وروى عن رجلين: عن سفيان الثوري قال: وحدثت عن بقي أنهقال يوماً لطلبته، أنتم تطلبون العم؟ وهكذا يطلب العلم؟ إنما أحدكم إذا لم يكن عليه شغل يقول: أمضى أسمع العلم، إني لأعرف لاجلاً تمضي عليه الأيام في وقت طلبه للعلم، لا يكون له عيش ألام ورق الكرنب الذي يلقيه الناس، وإني لأعرف رجلاً باع سراويله غير مرة في شرى كاغد حتى يسوق الله عليه من حيث يخلفها.
قال الحميدي: أخبرنا أبو القاسم، عبد الكريم ابن هزازن القشيري، في أجازة وصلت إليه، وذكر إسناداً وقال: جاءت امرأة إلى بقي بن مخلد فقالت: إن ابني قد أسره الروم، ولا أقدر على مال أكثر من دويرة ولا أقدر على بيعها، فلو أشرت إلى من يفديه بشيء، فإنه ليس لي ليل ولا نهار، ولا نوم ولا قرار، فقال: أنصرفي حتى أنظر في أمره إن شاء الله، وأطرق الشيخ وحرك شفيته قال: ولبثنا مدة، فجاءت المرأة ومعها ابنها، فأخذت تدعو له وتقول: قد رجع سالماً، وله حديث يحدثك به، فقال الشاب: كنت في يدي بعض ملوك الروم، مع جماعة من الأساري، وكان له إنسان يستخدمنا كل يوم، يخرجنا إلى الصحراء للخدمة، ثم يردنا وعلينا قيودنا، فبينا نحن نجئ من العمل مع صاحبه، الذي كا يحفظنا، إذ انفتح القيد من رجلي، ووقع على الأرض، ووصف اليوم والساعة، فوافق الوقت الذي جاءت المرأة، ودعاء الشيخ. قال: فنهض إلى الذي كان يحفظني، وصاح علي: كسرت القيد؟ فقلت: لا، إلا أنه سقط من رجلي. قال فتحيروا في أمري، ودعوا رهبانهم فقالوا لي: ألك والدة؟ قلت لهم نعم. فقالوا: وافق داؤها الإجابة، وقالوا: أطلقك الله، ولا يمكننا تقييدك، فزودوني وأصحبوني إلى ناحية المسليمين.

بكر بن حبيب السهمي، والد عبد الله
ابن بكر، المحدث، ذكره الزبيدي وغيره في النحويين.
أخذ عن ابن أبي إسحاق، وقال ابن أبي إسحاق لبكر بن حبيب: ما ألحن في شيء، قال نفعل؟ فقال له: فخذ على كلمة، قال: هذه واحدة، قل كلمة، وقربت منه سنورة، فقال: لها اخسي، فقال له: أخطأت، إنما هو اخسئ.
وحدث أبو أحمد، الحسين بن عبد الله العسكري في كتاب النصحيف، له عن أبيه، عن عسل بن ذكوان عن الرياشي قال: توفى ابن لبعض المهالبة، فأتاه شبيب ابن شيبة المنقري يعزيه، وعنده بكر بن حبيب السهمي فقال شبيب: بلغنا أن الطفل لا يزال محبنطئاً، على باب الجنة يشفع لأبويه. فقال بكر بن حبيب: إنما هو محبنطياً غير مهموز. فقال له شبيب: أتقول لي هذا؟ وما بين لابتيها أفصح مني. فقال بكر: وهذا خطأ ثان، ما للبصرة وللوب، لعلك غرك قولهم: ما بين لابتي المدينة، يريدنون الحرة.
قال أبو أحمد: والحرة أرض تركبها حجارة سود وهي الللابة، وجمعها لابات، فإذا كسرت فهي اللوب والللاب، وللمدينة لابتان من جانبيها، وليس للبصرة لابة ولا حرة.
قال أبو عبيدة: المحبنطي بغير همزة: هو المنتصب المستبطئ للشيء، والمحبنطيئ بالهمز: العظيم البطن المنتفخ.

وقال أبو عبد الله المرزباني في كتاب المعجم: بكر بن حبيب السهمي من بالهلة، أحد مشايخ المحدثين قال النه عبد الله بن بكر، كان أبي يقول البيتين والثلاثة، وهو القائل:
سير النواعج في بلاج مضلة ... يمسي الدليل بها على ملمال
خير من الطمع الدنئ ومجلس ... بفناء لا طلق ولا مفضال
فاقصد لحاجتك المليك فإنه ... يغنيك عن مترفع مختال
وحدث التاريخي عن أبي خالد، يزيد بن محمد المهلبي، عن البجلي، عن قتب بن بشر قال: كنت مع بكر بن حبيب السهمي بموضع، يقال له قصر زربي، ونحن مشرفون على المربد، إذ مر بنا يونس بن حبيب النحوي، فقال: أمر بكم الأمير؟ قال بكر: نعم، مر بنا عاصباً فوه، فرمى يونس بعنانه على عنق حماره، ثم قال: أف أف. فقال له بكر: انظر حسناً، ثم قال نعم.
وإنما ظن يونس بن حبيب النحوي، أنه قد لحن، وأنه كان يجب أ يوقل عاصباً فاه، فلما تبين أنه أراد عصب الفم صوبه.
قال: ومر بكر بن حبيب بدار فسمع جلبة فقال: ما هذه الجلبة؟ أعرس أم خرس؟ أم إعذار أم توكير؟ فقال له قوم: قد عرفنا العرس، فأخبرنا ما سوى ذاك، قال: الخرس: الطعام على الولادة، و الإعذار: الختان، و التوكير: أن يبني الرجل القبة، ويحدث القدر الجماع، فيقال: وكر لنا طعاماً. قال: والقدر: الجماع الكبيرة.
وقال ثعلب: الوكيرة: مأخوذ من الوكر، وهي الوليمة، التي يصنعها الرجل عند بناء المنزل.

أبو بكر بن عياش،الخياط
بن سالم، الكوفي الخياط مولى واصل بن حيان الأسدي الأحدب، واختلف في اسمه، فقيل: اسمه قتيبة، وقيل شعبة، وقيل عبد الله، وقيل محمد، وقيل مطرف، وقيل سالم، وقيل عنترة، وقيل أحمد، وقيل عتيق، وقيل رؤبة، وقيل حماد، وقيل حسين، وقيل قاسم، وقيل لا يعرف له اسم، وأظهر ذلك شعبة ومطرف، قال الهيثم بن عدي: اسم أبي بكر مطرف بن النهشلي ومات ابن عياش في سنة ثلاث وتسعين ومائة، في السنة التي مات فيها الرشيد بن المهدي قبله بشهر، وفيها مات غندر، وعبد الله بن إدريس.
وروى أن اب عياش مات في سنة اثنتين وتسعين، والأول أظهر.
ومولده سنة سبع وتسعين، في أيام سليمان بن عبد الملك، وروى سنة أربع وتسعين، وروى سنة خمس وتسعين، وكان ابن عياش يقول: أنا نصف الإسلام.
وقال الحسين بن فهم: وقد ذكر جماعة لا تعرف أسماؤهم، منهم أبو بكر بن أبي مريم، وأبو بكر ابن أبي سبرة، وأبو بكر بن محمد، بن عمرو، بن حزم، وأبو بكر بن عبد الرحمن،وأبو بكر بن عياش، وأبو بكر بن أبي العرامس. وقال أبو الحسن الأهوازي المقرئ في كتابه: وإنما وقع هذا الاختلاف في اسم أبي بكر،لأنه كان رجلاً مهيباً، فكانوا يهابونه أن يسألوه، فروى كل واحد على ما وقع له قلت: وقد روى المرز باني في كتابه: أن جماعة من أهل العلم، سألوه عن اسمه، واختلفت أقوالهم على ما تقدم، ولولا كراهة الإطالة لذكرته. وكان ابن عياش معظماً عند العلماء وقد لقي الفرزدق، وذا الرمة، وروى عنهما شيئاً من شعرهما.
حدث المرز باني: حدثنا أحمد بن عيسى، عن أحمد بن أبي خيثمة، حدثنا محمد بن يزيد قال: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: كان أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن. قال عزوجل: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم)، إلى قوله: (أولئك هم الصادقون)، فهؤلاء سموه خليفة رسول الله، وهؤلاء لا يكذبون.
وحدث المرزباني بإسناده إلى زكريا بن يحيى الطائي قال:سمعت أبا بكر بن عياش يقول: إني أريد أن أتكلم اليوم بكلام، لا يخالفني فيه أحد إلا هجرته ثلاثاً. قالوا: قل يا أبا بكر. قال: ما ولد لآدم عليه السلام، مولود بعد النبيين و المرسلين، أفضل من أبي بكر الصديق. قالوا: صدقت يا أبا بكر، ولا يوشع بن نون وصي موسى عليه السلام؟ قال: ولا يوشع بن نون، إلا أن يكون نبياً. ثم فسره فقال: قال الله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير هذه الأمة أبو بكر).

قال زكريا بن يحيى: وسمعت ابن عياش يقول: لو أتاني أبو بكر وعمر وعلي - رضي الله عنهم - في حاجة، لبدأ بحاجة علي قبل حاجة أبي بكر وعمر، لقرابته من رسول الله، ولأن أخر من السماء إلى الأرض، أحب إلي من أن أقدمه عليهما. وكان يقدم علياً على عثمان، ولا يغلو ولا يقول إلا خيراً. وحدث المرزباني بإسناده عن أبي بكر بن عياش، عن ذر، عن عبد الله قال: إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلبه، فوجد قلوب أصحابه، خير القلوب، بعد قلبه فجعلهم وزراء نبيه صلى الله عليه وسلم، يقاتلون عن دينه، فما رأى المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً، فهو عند الله سيئ قال أبو بكر ابن عياش: وأنا أقول: إنهم رأوا أن يولوا أبا بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدث المرزباني، حدثنا أبو محمد بن مخلد، حدثنا أبو عمر العطاري قال: بعث أبو بكر بن عياش، إلى أبي يوسف الأعشى، فمضيت مع أبي يوسف، ومع عبد الوهاب ابن عمر، والعباس بن عمير، فدخلنا إليه وهو في علية له فقال لأبي يوسف: قد قرأت علي القرآن مرتين. وقد نقلت عني القرآن، فاقرأ علي آخر الأنفال، واقرأ علي من رأس المائة من براءة، واقرأ علي كذا، واقرأ كذا فقال له أبو يوسف: يا أبا بكر، هذا القرآن، والحديث، والفقه، وأكثر الأشياء أفدتها بعد ما كبرت، أو لم تزل فيه مذ كنت؟ ففكر هنيهة ثم قال: بلغت وأنا ابن ست عشرة سنة، فكنت فيما يكون فيه الشبان مما يعرف وينكر سنتي، ثم وعظت فسي وزجرتها، وأقبلت على الخير وقراءة القرآن، فكنت أختلف إلى عاصم في كل يوم، وربما مطرنا ليلاً، فأنزع سراويلي وأخوض الماء إلى حقوي، فقال له أبو يوسف: ومن أين هذا الماء كله؟ قال: كنا إذا مطرنا، جاء ماء الحيرة إلينا، حتى يدخل الكوفة.
وكنت إذا قرأت على عاصم، أتيت الكلبي فسألته عن تفسيره، وأخبرني أبو بكر أن عاصماً أخبره أنه كان يأتي زر بن حبيش، فيقرئه خمس آيات لا يزيد عليها شيئاً، ثم يأتي أبا عبد الرحمن السلمي، فيعرضها عليه، فكانت توافق قراءة زر، قراءة أبي عبد الرحمن، وكان أبو عبد الرحمن، قرأ على علي عليه السلام، وكان زر بن حبيش الشكري العاطردي قرأ على عبد الله بن مسعود القرآن كله، في كل يوم آية واحدة، لا يزيده عليها شيئاً، فإذا كانت آية قصيرة استقلها زر من عبد الله، فيقول عبد الله: خذها، فوالذي نفسي بيده، لهي خير من الدنيا وما فيها، ثم يقول أبو بكر، وصدق والله، ونحن نقول كما قال أبو بكر بن عياش، إذ حدثنا عن عاصم عن زر، عن عبد الله قال: هذا والله الذي لا إله إلا هو حق، كما أنكم عندي جلوس، والله ما كذبت، والله ما كذب عاصم بن أبي النجود، والله ما كذب زر، والله ما كذب عبد الله بن مسعود، وإن هذا لحق كما أنكم عندي جلوس.
وحدث عمن أسنده إلى أحمد بن عبد الله بن يونس قال: ذكر النبيذ عند العباس بن موسى، فقال: إن ابن إدريس يحرمه، فقال أبو بكر بن عياش: إن كان النبيذ حراماً، فالناس كلهم أهل ردة.
وحدث المرزباني قال: قال عبد الله بن عياش: كنت أنا وسفيان الثوري وشريك، نتماشى بين الحيرة والكوفة، فرأينا شيخاً أبيض الرأس واللحية، حسن السمت والهيئة، فظننا أن عنده شيئاً من الحديث، وأنه قد أدرك الناس، وكان سفيان أطلبنا للحديث، وأشدنا بحثاً عنه، فتقدم إليه وقال: يا هذا، عندك شيء من الحديث؟ فقال: أما حديث فلا، ولكن عندي عتيق سنتين، فنظرنا فإذا هو خمار. وحدث أبو بكر بن عياش قال: الفرزدق بالكوفة ينعي عمر بن عبد العزيز، - رضي الله عنه - ، فقال:
كم من شريعة عدل قد سننت لهم ... كانت أميتت وأخرى منك تنتظر
يا لهف نفسي ولهف اللاهفين معي ... على العدول التي تغتالها الحفر
وحدث بإسناده عن ابن كناسة قال: حدثني أبو بكر ابن عياش قال: كنت إذ أنا شاب إذا أصابتني مصيبة، تصبرت ورددت البكاء، فكان ذلك يوجعني ويزيدني ألماً، حتى رأيت بالكناسة أعرابياً واقفاً، وقد اجتمع الناس حوله فأنشد:
خليلي عوجا من صدور الرواحل ... بجهور حزوى وابكيا في المنازل
لعل انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي نجي البلابل

فسألت عنه، فقيل: ذو الرمة. قال: فأصابتني بعد ذلك مصائب، فكنت أبيك فأجد راحة، فقلت في نفسي: - قاتل الله - الأعرابي، ما كان أبصره وأعلمه!!.
وحدث المرزباني، عن الحسن النحوي، عن محمد بن عثمان، بن أبي شيبة قال: سمعت عمي القاسم بن محمد يقول: حدثني يحيى بن آدم قال: لما قدم هارون الرشيد الكوفة، نزل الحيرة، ثم بعث إلى أبي بكر ابن عياش، فحملناه إليه، وكنت أنا أقتاده بعد ذهاب بصره، فلما انتهينا إلى باب الخليفة، ذهب الحجاب يأخذون أبا بكر مني، فأمسك أبو بكر بيدي وقال: هذا قائدي لا يفارقني، فقالوا: ادخل أنت وقائدك يا أبا بكر، قال يحيى: فدخلت به، وإذا هارون جالس وحده، فلما دنا منه أنذرته، فسلم عليه بالخلافة، فأحسن هارون الرد، فأجلسته حيث أمرت، ثم خرجت فقعدت في مكان أراهما وأسمع كلامهما، قال: فجعلت أنظر إلى هارون يتلمح أبا بكر قال: وكان أبو بكر رجلاً قد كبر، وضعفت رقبته، فاتكأ ذقنه على صدره، فسكت هارون عنه ساعة، ثم قال له: يا أبا بكر، فقال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: إني سائلك عن أمر فأسألك بالله لما صدقتني عنه، قال: إن كان علمه عندي، قال: إنك قد أدركت أمر بني أمية وأمرنا، فأسألك بالله، أيهما كان أقرب إلى الحق؟ قال يحيى: فقلت في نفسي: اللهم وفقه وثبته، قال: فأطال أبو بكر في الجواب، ثم قال له: يا أمير المؤمنين، أما بنو أمية فكانوا أنفع للناس منكم، وأنتم أقوم بالصلاة منهم. قال: فجعل هارون يشير بيده ويقول: إن في الصلاة، إن في الصلاة.
قال: ثم خرج فتبعه الفضل بن الربيع، فقال: يا أبا بكر: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بثلاثين ألفاً، فقال أبو بكر: فما لقائدي؟ فضحك الفضل وقال: لقائدك خمسة آلاف. قال يحيى: فأخذت الخمسة آلاف قبل أن يأخذ أبو بكر الثلاثين.
وحدث بإسناد رفعه إلى أبي بكر بن عياش، قال: دخلت على هارو أمير المؤمنين، فسلمت وجلست، فدخل فتىً من أحسن الناس وجهاً، فسلم وجلس. فقال لي هارون: يا أبا بكر: أتعرف هذا؟ قلت: لا، قال: هذا ابني محمد، ادع الله له، فقلت: يا أمير المؤمنين، حدثنا هشام بن حسان عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله فاتح عليكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمال ذلك الزمان في النار إلا من اتقى، وأدى الأمانة). فانتفض وتغير، وقال يا مسرور: اكتب، ثم سكت ساعة، وقال: يا أبا بكر، ألا تحدثني، فقلت: يا أمير المؤمنين، حدثنا هشام بن حسان عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدري ما قال عمر بن الخطاب للهروان؟ قال: وما قال له؟ قلت: قال له ما يمنعك من حب المال؟ وأنت كافر القلب، طويل الأمل، قال: لأني قد علمت أن الذي لي سوف يأتيني، والذي أخلفه بعدي يكون وباله علي. ثم قال يا مسرور: اكتب ويحك. ثم قال: ألك حاجة يا أبا بكر؟ قلت: تردني كما جئت بي، قال: ليست هذه حاجة، سل غيرها، قلت: يا أمير المؤمنين: لي بنات أخت ضعاف، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لهن بشيء، قال: قدر لهن، قلت: يقول غيري، قال: لا يقول غيرك، قلت: عشرى آلاف، قال: لهن عشرة آلاف، وعشرة آلاف، وعشرة آلاف، وعشرة آلاف، وعشرة آلاف، يا فضل اكتب بها إلى الكوفة، وألا تحبس عليه. ثم قال: اصنرف ولا تنسنا من دعائك.
وحدث بإسناده عن العباس بن بنان قال: كنا عند أبي بكر بن عياش، يقرأ علينا كتاب مغيرة، فغمض عينيه فحركه جهور، وقال له: تنام يا أبا بكر؟ فقال لا، ولك مر ثقيل فغمضت عيني. وحدث أبو هاشم الدلال قال: رأيت أبا بكر بن عياش مهموماً، فقلت له: مالي أراك مهموماً؟ قال: سيف كسرى لا أدري إلى من صار. وقال محمد بن كناسة: يذكر أصحاب أبي بكر بن عياش:
لله مشيخة فجعت بهم ... كانت تزيغ إلى أبي بكر
سرج لقوم يهتدون بها ... وفضائل تنمى ولا تجري
وحدث المدائني قال: كان أبو بكر بن عياش أبرص، وكان رجل من قريش يرمى بشرب الخمر، فقال له أبو بكر ابن عياش يداعبه، زعموا أن نبياً قد بعث بحل الخمر. فقال له القرشي، إذاً لا أومن حتى يبرئ الأكمه والأبرص.
أنشد أبو بكر بن عياش اتلمحدث، ويقال إنهما له:
إن الكريم الذي تبقى مودته ... ويكتم السر إن صافى وإن صرما
ليس الكريم الذي إن زل صاحبه ... أفشى، وقال عليه كل ما علما

بكر بن محمد، بن بقية المازني
أبو عثمان النحوي، وقيل: هو بكر بن محمد، بن عدي، بن حبيب، أحد بني مازن بن شيبان، بن ذهل، ابن ثعلبة، بن عكاية، بن صعب، بن علي، بن بكر، ابن وائل. قال الزبيدي: قال الخشني: المازي مولى بني سدوس، نزل في بني مازن ب شيبان، فنسب إليهم، وهو من أهل البصرة، وهو أستاذ المبرد. روى عن أبي عبيدة والأصمعي، وأبي زيد الأصاري. وروى عنه الفضل ب محمد اليزيدي، والمبرد، وعبد الله بن سعد الوراق، وكان إمامياً يرى رأي ابن ميثم، ويقول بالإرجاء، وكان لا يناظره أحد إلا قطعه، لقدرته على الكلام، وكان المبرد يقول: لم يكن بعد سيبويه أعلم من أبي عثمان بالنحو، وقد ناظر الأخفش في أشياء كثيرة فقطعه، وهو أخذ عن الأخفش.
وقال حمزة: لم يقرأ على الأخفش، إنما قرأ على الجرمي، ثم اختلف إلى الأخفش وقد برع، وكان يناظره ويقدم الأخفش وهو حي، وكان أبو عبيدة يسميه بالمتدرج، والنقار. مات أبو عثمان فيما ذكره الخطيب، في سنة تسع وأربعين ومائتي، أو ثمان وأربعين ومائتين، وذكر ابن واضح: أنه مات سنة ثلاثين ومائتين.
حدث المبرد عن المازني قال: كنت عند أبي عبيدة، فسأله رجل فقال له: كيف تقول عنيت بالأمر؟ قال: كما قلت عنيت بالأمر، قال: فكيف آمر منه؟ قال فغلط، وقال: اعنُ بالأمر، فأومأت إلى الرجل، ليس كما قال: فرآني أبو عبيدة، فأمهلني قليلاً، فقال: ما تصنع عندي؟ قلت: ما يصنع غيري، قال: لست كغيرك، لا تجلس إلي، قلت ولم؟ قال: لأني رأيتك مع إنسان خوزي سرق مني قطيفة، قال: فانصرفت وتحملت عليه بإخواه، فلما جئته قال لي: أدب نفسك أولاً، ثم تعلم الأدب. قال المبرد: الأمر من هذا باللام، لا يجوز غيره، لأك تأمر غير من بحضرتك، كأنه ليفعل هذا. وقال حماد يهجو المازني:
كادني المازني عند أبي العب ... باس والفضل ما علمت كريم
يا شبيه النساء في كل فن ... إن كيد النساء كيد عظيم
جمع المازني خمس خصال ... ليس يقوى بحملهن حليم
هو بالشعر والعروض وبالنح ... و وغمز الأيور طب عليم
ليس ذنبي إليك يا بكر إلا ... أن أيرى عليك ليس يقوم
وكفاني ما قال يوسف في ذا ... إن ربي بكيدكن عليم
وحدث المبرد قال: عزى المازني بعض الهاشميين، ونحن معه فقال:
إني أعزيك لا أني على ثقة ... من الحياة ولكن سنة الدين
ليس المعزى بباق بعد ميته ... ولا المعزى وإن عاشا إلى حين
وقد روي عن المبرد: أن يهودياً بذل للمازي مائة دينار، ليقرئه كتاب سيبويه، فامتنع من ذلك، فقيل له: لم امتنعت مع حاجتك وعيلتك؟ فقال: إن في كتاب سيبويه كذا كذا آية من كتاب الله، فكرهت أن أقرئ كتاب الله للذمة، فلم يمض على ذلك مديدة، حتى أرسل الواثق في طلبه، وأخلف الله عليه أضعاف ما تركه لله. كما حدث أبو الفرج، علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب الأغاني، بإسناد رفعه إلى أبي عثمان المازني قال: كان سبب طلب الواثق لي، أن مخارقاً غناه في شعر الحارث بن خالد المخزومي:
أظليم إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحية ظلم

فلحنه قوم، وصوبه آخرون فسأل الواثق عمن بقي من رؤساء النحويين، فذكرت له، فأمر بحملي وإزاحة عللي. فلما وصلت إليه، قال لي: ممن الرجل؟ قلت: من بني مازن. قال: من مازن تميم؟ أم مازن قيس؟ أم مازن ربيعة؟ أم مازن اليمن. قلت: من مازن ربيعة، قال لي با اسمك؟ يريد ما اسمك، وهي لغة كثيرة في قومنا، فقلت على القياس: اسمي مكر، وفي رواية فقلت: اسمي بكر. فضحك وأعجبه ذلك، وفطن لما قصدت، فإنني لم أجرؤ أن أواجهه بالمكر، فضحك وقال: اجلس فاطبئن، أي فاطمئ، فجلست فسألني عن البيت، فقلت: صوابه إن مصابكم رجلاً، قال: فأين خبر إن؟ قلت: ظلم، وهو الحرف في آخر البيت، والبيت كله متعلق به، لا معنى له حتى يتم بقوله: ظلم، ألا ترى أنه لو قال: أظليم إن مصابكم رجلاً، أهدى السلام تحية، فكأنه لم يفد شيئاً، حتى يقول ظلم، ولو قال أظليم إن مصابكم رجل، أهدى السلام تحية، لما احتاج إلى ظلم ولا كان له معني إلا أن تجعل التحية بالسلام ظلماً، وذلك محال. ويجب حينئذ: أظليم إن مصابكم رجل، أهدى السلام تحية ظلماً، ولا معنى لذلك، ولا هو لو كان له وجه مراد الشاعر. فقال: صدقت، ألك ولد؟ قلت: بنية لا غير قال: فما قالت لك حين ودعتها. قلت: أنشدتني قول الأعشى:
تقول ابنتي حي جد الرحيل ... أرانا سواء ومن قد يتم
أبانا فلا رمت من عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم
أرانا إذا أضمرتك البلاد ... نجفى ويقطع منا الرحم
فقال الواثق: كأني بك، وقد قلت لها قول الأعشى أيضاً:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً ... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاعتصمي ... يوماً فإن لجنب المرء مضطجعا
فقلت: صدق أمير المؤمنين. قلت لها ذلك، وزدتها قول جرير:
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح
فقال: ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى، إن ههنا قوماً يختلفون إلى أولادنا فامتحهم، فمن كان عالماً ينتفع به، ألزمناهم إياه، ومن كان بغير هذه الصفة، قطعناهم عنه قال: فامتحنتهم، فما وجدت فيهم طائلاً، وحذروا ناحيتي. فقلت: لابأس على أحد منكم، فلما رجعت إليه قال: كيف رأيتهم؟ فقلت يفضل بعضهم بعضاً في علوم، ويفضل الباقو في غيرها. وكل يحتاج إليه. فقال الواثق: إني خاطبت منهم رجلاً، فكان في نهاية الجهل في خطابه وظره. فقلت: يا أمير المؤمنين، أكثر من تقدم فهم بهذه الصفة، وقد أنشدت فيهم:
إن المعلم لايزال مضعفاً ... ولو ابتنى فوق السماء سماء
من علم الصبيان أضنوا عقله ... مما يلاقي بكرة وعشاء
قال: فقال لي: لله درك، كيف لي بك؟ فقلت يا أمير المؤمنين: إن الغنم لفي قربك، والنظر إليك، والأمن والفوز لديك، ولكي ألفت الوحدة، وأنست بالافراد، ولي أهل يوحشني البعد عنهم، ويضر بهم ذلك، ومطالبة العادة أشد من مطالبة الطباع. فقال لي: فلا تقطعنا وإن لم نطلبك. فقلت: السمع والطاعة، وأمر لي بألف دينار، وفي رواية بخمسمائة دينار وأجرى علي في كل شهر مائة دينار. وزاد الزبيدي قال وكنت بحضرته يوماً، فقلت لابن قادم، أو ابن سعدان، وقد كابرني، كيف تقول نفقتك ديناراً أصلح من درهم؟ فقال: دينار بالرفع. قلت: فكيف تقول: ضربك زيداً يخر لك، فتنصب زيداً، فطالبته بالفرق بينهما فانقطع. وكان ابن السكيت حاضراً فقال الواثق: سله عن مسألة. فقلت له: ما وز نكتل من الفعل فقال: نفعل. فقال الواثق: غلطت. ثم قال لي: فسره، فقلت: ونكتل تقديره نفتعل، وأصله نكتيل، فانقلبت الياء ألفاً لفتحة ما قبلها، فصار لفظها نكتال، فأسكنت اللام للجزم، لأنه جواب الأمر، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين. فقال الواثق: هذا الجواب، لا جوابك يا يعقوب. فلما خرجنا قال لي يعقوب: ما حملك على هذا وبيي وبينك المودة الخاصلة؟ فقلت: والله ما قصدت تخطئتك، ولم أظن أنه يعزب عنك ذلك. ولهذا البيت قصة أخرى في أخبار ابن السكيت.
قال المبرد: سألت المازني عن قول الأعشى:
هذا النهار بدا لها من همها ... ما بالها بالليل زال زوالها
فقال: نصب النهار على تقدير، هذا الصدود بدا لها النهار، واليوم والليلة. والعرب تقول: زال وأزال: بمعنى، فتقول: زال زوالها.

وحدث الزبيدي قال: قال المازني: وحضرت يوماً عند الواثق وعنده نحاة الكوفة، فقال لي الواثق: يا مازني: هات مسألة، فقلت: ما تقولون في قوله تعالى: (وما كانت أمك بغياً). لم لم يقل بغية، وهي صفة لمؤنث فأجابوا بجوابات غير مرضية. فقال الواثق: هات ما عندك. فقلت: لو كان بغي على تقدير فعيل بمعنى فاعلة، لحقتها الهاء، مثل كريمة وظريفة، وإنما تحذف الهاء إذا كانت في معنى مفعولة، نحو: المرأة قتيل وكف خضيب، وبغي ههنا ليس بفعيل، إنما هو فعول، وفعول لا تلحقه الهاء في وصف التأنيث، نحو: امرأة شكور، وبئر شظون، إذا كانت بعيدة الرشاء، وتقدير بغي بغوي، قلبت الواو ياء، ثم أدغمت في الياء، فصارت ياء ثقيلة: نحو سيد وميت. فاستحسن الجواب.
قال المازني: ثم انصرفت إلى البصرة، فكان الوالي يجري علي المائة دينار في كل شهر، حتى مات الواثق، فقطعت عني. ثم ذكرت للمتوكل فأشخصني، فلما دخلت إليه، رأيت من العدد والسلاح، والأتراك ما راعني، والفتح بن خاقان بين يديه، وخشيت إن سئلت عن مسألة ألا أجيب فيها. فلما مثلت بين يديه وسلمت، قلت: يا أمير المؤمنين، أقول كما قال الأعرابي؟:
لا تقلواها وادلواها دلوا ... إن مع اليوم أخاه غدوا
قال أبو عثمان: فلم يفهم عني ما أردت، واستبردت فأخرجت. والقلو: رفع السير، والدلو: إدناؤه.
ثم دعاني بعد ذلك فقال: أنشدني أحسن مرثية قالت العرب. فأنشدته قول أبي ذؤيب:
أمن المنون وريبها تتوجع؟
وقصيدة متمم بن نويرة:
لعمري وما دهري بتأبين هالك
وقول كعب الغنوي:
تقول سليمى ما لجسمك شاحباً
وقصيدة محمد بن مناذر:
كل حي لاقى الحمام فمودي
فكان كلما أنشدته قصيدة يقول: ليست بشيء. ثم قال: من شاعركم اليوم بالبصرة؟ قلت: عبد الصمد ابن المعذل، قال: فأنشدني له، فأنشدته أبياتاً قالها في قاضينا ابن رباح:
أيا قاضية البص ... رة قومي فارقصي قطره
ومري بروشنك ... فماذا البرد والفتره
أراك قد تثيرين ... عجاج القصف يا حره
بتجذيفك خديك ... وتجعيدك للطره
قال: فاستحسنها واستطار لها، وأمر لي بجائزة. قال: فجعلت أتعمل له أن أحفظ أمثالها، فأنشده إذا وصلت إليه، فيصلني.
وكان المازني يفضل الواثق. وللمازني شعر قليل، ذكر منه المرزباني:
شيئان يعجز ذو الرياضة عنهما ... رأي النساء وإمرة الصبيان
أما النساء فإنهن عواهر ... وأخو الصبا يجري بكل عنان
ولما مات المازني، اجتازت جنازته على أبي الفضل الرياشي فقال متمثلاً:
لا يبعد الله أقواماً رزئتهم ... أفناهم حدثان الدهر والأبد
نمدهم كل يوم من بقيتنا ... ولا يئوب إلينا منهم أحد
قال محمد بن إسحاق: وللمازني من الكتب: كتاب في القرآن كبير، كتاب علل النحو صغير، كتاب تفاسير كتاب سيبويه، كتاب ما يلحن فيه العامة، كتاب الألف واللام، كتاب التصريف، كتاب العروض، كتاب القوافي، كتاب الديباج في جوامع كتاب سيبويه، قرأت بخط الأزهري منصور، في كتاب نظم الجمان، تصنيف الميداني قال: سئل المازني عن أهل العلم، فقال: أصحاب القرآن فيهم تخليط وضعف، وأهل الحديث فيهم حشو ورقاعة، والشعراء فيهم هوج، وأصحاب النحو فيهم ثقل، وفي رواية الأخبار الظرف كله، والعلم هو الفقه. وتصانيف المازني كلها لطاف، فإنه كان يقول: من أراد أن يصنف كتاباً كبيراً في النحو، بعد كتاب سيبويه فليستح، ويحوي كتاب سيبويه في كنهه عدة كتب.

حدث محمد بن رستم الطبري قال: أنبأنا أبو عثمان المازني قال: كنت عند سعيد بن مسعدة الأخفش، أنا وأبو الفضل الرياشي، فقال الأخفش: إن منذ إذا رفع بها، فهي اسم مبتدأ وما بعدها خبرها، كقولك: ما رأيته منذ يومان، فإذا خفض بها، كقولك: ما رأيته منذ اليوم فحرف معنى ليس باسم. فقال له الرياشي: فلم لا يكون في الموضعي اسماً؟ فقد نرى الأسماء تخفض وتنصب، كقولك هذا ضارب زيداً غداً، وضارب زيد أمس، فلم لا تكون بهذه المنزلة؟ فلم يأت الأخفش بمقنع. قال أبو عثمان: فقلت له: لا يشبه منذ ما ذكرت، لأنا لم نر الأسماء هكذا تلزم موضعاً، إلا إذا ضارعت حروف المعاني، نحو أين، وكيف، فكذلك منذ هي مضارعة لحروف المعاني، فلزمت موضعاً. واحداً.
قال الطبري: فقال ابن أبي زرعة للمازي: أفرأيت حروف المعاني، تعمل عملين مختلفين متضادين؟ قال نعم، كقولك قام القوم حاشا زيد وحاشا زيداً، وعلى زيد ثوب، وعلا زيد الفرس، فتكون مرة حرفاً، ومرة فعلاً بلفظ واحد.
وحدث المبرد قال: سمعت المازني يقول: معنى قولهم: إذا لم تستح فاصنع ما شئت. أي إذا صنعت ما لا يستحى من مثله، فاصنع منه ما شئت، وليس على ما يذهب العوام إليه. قلت: وهذا تأويل حسن جداً.
قال أبو القاسم الزجاجي: أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن رستم الطبري قال: حضرت مجلس أبي عثمان المازني وقد قيل له: لم قلت روايتك عن الأصمعي؟ قال: رميت عنده بالقدر، والميل إلى مذاهب أهل الاعتزال، فجئته يوماً وهو في مجلسه، فقال لي: ما تقول في قول الله عز وجل: (إنا كل شيء خلقناه بقدر). قلت: سيبويه يذهب إلى أن الرفع فيه أقوى من النصب في العربية، لاستعمال الفعل المضمر، وأنه ليس ههنا شيء هو بالفعل أولى، ولكن أبت عامة القراء إلا النصب، ونحن نقرؤها كذلك اتباعاً، لأن القراءة سنة. فقال لي: فما الفرق بين الفع والنصب في المعنى؟ فعلمت مراده، فخشيت أن تغرى بي العامة فقلت: الرفع بالابتداء، والنصب بإضمار فعل، وتعاميت عليه.
فقال: حدثني جماعة من أصحابنا أن الفرزدق قال يوماً لأصحابه: قوموا بنا إلى مجلس الحسن لابصري، فإني أريد أن أطلق النوار، وأشهده على نفسي. فقالوا له: لا تفعل، فلعل نفسك تتبعها وتندم. فقال: لابد من ذلك، فمضوا معه، فلما وقف على الحس قال له: يا أبا سعيد، تعلمنم أن النوار طالث ثلاثاً، قال: قد سمعت، فتتبعتها نفسه بعد ذلك، وندم وأنشأ يقول:
ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقة نوار
وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لكان علي للقدر الخيار
ثم قال: والعرب تقول: لو خيرت لاخترت، تحيل على القدر، وينشدون:
هي المقادير فلمني أو فذر ... إن كنت أخطأت فلم يخط القدر
ثم أطبق نعليه وقال: نعم القناع للقدري، فأقللت غشيانه بعد ذلك.
قال المبرد: حدثني المازني قال: مررت ببي عقيل، فإذا رجل أسود قصير، أعور أبرص أكشف، قائم على تل سماد وهو يملأ جواليق معه من ذلك المساد، وهو يغني بأعلى صوته:
فإن تصرمي حبلي وتستكرهي وصلي ... فمثلك موجود ولن تجدي مثلي
فقلت: صدقت والله، ومتى تجد ويحك مثلك؟ فقال: - بارك الله عليك - واسمع خيراً، ثم اندفع لينشد:
يا ربة المطرف والخلخال ... ما أنت من همي ولا أشغالي
مثلك موجود ومثلي غالي

بندار بن عبد الحميد الكرخي الأصبهاني
يعرف بابن لرة، ذكره محمد بن إسحاق في الفهرست فقال: أخذ عن أبي عبيد القاسم بن سلام، وأخذ عنه ابن كيسان.
وقال ابن الأنباري عن ابنه القاسم: كان بندار يحفظ سبعمائة قصيدة، أول كل قصيدة بانت سعاد.
قال المؤلف: وبلغني عن لاشيخ الإمام أبي محمد الخشاب أنه قال: أمعنت التفتيش والتنقير فلم أقع على أكثر من ستي قصيدة، أولها بانت سعاد. وفي كتاب أصبهان: كان بندار بن لرة، متقدماً في علم اللغة ورواية الشعر، وكان مم استوط الكرخ، ثم خرج منها إلى العراق، فظهر هناك فضله، وكان الطوسي صاحب ابن الأعرابي، يوصي أصحابه بالأخذ عن بندار، ويقول: هو أعلم مني ومن غيري، فخذوا عنه.

قال: وحدث أبو بكر بن الأنباري في أماليه ببغداد قال: سمعت أبا العباس الأموي يقول: كان بندار بن لرة الأصبهاني، أحفظ أهل زمانه للشعر، وأعلمهم به. أنشدني عن حفظه ثمانين قصيدة، أول كل قصيدة بانت سعاد.
قال حمزة: وحدثني النوشجان بن عبد المسيح قال: سمعت المبرد يقول: كان سبب غناي بندار بن لرة الأصبهاني، وذلك أني حين فارقت البصرة، وأصعتدت إلى سامراً، وردتها في أيام المتوكل، فآخيت بها بندار بن لرة، وكان واحد زمانه في رواية دواوين شعر العرب، حتى كان لا يشذ عن حفظه، من شعر شعراء الجاهلية والإسلام إلا القليل، وأصح الناس معرفة باللغة، وكان له كل أسبوع دخلة على المتوكل، فجمع بيني وبين النحويين في داره في مجالس، ومرت ليلة، فرفع حديثي إلى الفتح بن خاقان، ثم توصل إلى أن وصفني للمتوكل، فأمر بإحضاري مجلسه.
وكان المتوكل يعجبه الأخبار والأنساب، ويروي صدراً منها، يمتح من يراه بما يقع فيها من غريب اللغة، فلما دنوت من طرف بساطه، استدناني حتى صرت إلى جانب بندار، فأقبل علينا وقال: يا بن لرة، ويا بن يزيد، ما معى هذه الأحرف التي جاءت في هذا الخبر؟ ركبت الدجوجى، وأمامي قبيلة، فنزلت ثم شربت الصباح، فمررت وليس أمامي إلا نجيم، فركضت أمامي النحوص والمسحل والعمردن فقنصت ثم عطفت ورائي إلى قلوب فلم أزل به حتى أذقته الحمام، ثم رجعت ورائي، فلم أزل أمارس الأغضف في قتله، فحمل علي، وحملت عليه حتى خر صريعاً. قال المبرد: فبقيت متحيراً، فبدر بندار وقال: يا أمير المؤمنين، في هذا نظر وروية، فقال: قد أجلتكما بياض يومي، فانصرفا وباكراني غداً، فخرجنا من عنده، فأقبل بندار علي وقال: إن ساعدك الجد ظفرت بهذا الخبر، فاطلب فإني طالبه، فانقلبت إلى منزلي، وقلبت الدفاتر ظهراً لبطن، حتى وقفت على هذا الخبر، في أثناء أخبار الأعراب، فتحفظته، وباكرت بنداراً فأنضهته معي وصحبناه، وبدأت فرويت الخبر، ثم فسرت ألفاظه، فالتفت إلى بندار وقال: ابن يزيد فوق ما وصفتم. ثم قال للغلام: علي بالخازن، فحضر فقال له: اخرج إلى ابن يزيد، وقل للحاجب: يسهل إذنه علي، فصار ذلك أصل مالي. وكان بندار - رحمه الله - أصله وسببه.
قرأت بخط عبد السلام البصري، في كتاب عقلاء المجانين، لأبي بكر بن محمد الأزهري: حدثنا محمد ابن أبي الأزهر قال: كنت يوماً في مجلس بندار بن لرة الكرخي، بحضرة منزله، في درب عبد الرحيم الرزامي بدكان الأبناء، وعنده جماعة من أصحابه، إذ هجم علينا المسجد بردعة الموسوس، ومعه مخلاة فيها دفاتر، وجزازات، وقد تبعه الصبيان، فجلس إلى جانب بندار، وكأن بنداراً فرق منه، فقال له: اطرد ويلك هؤلاء الصبيان عني، فقال لهم: اطردوهم عنه، فوثبت أنا من بين أهل المجلس، فصحت عليهم وطردتهم فجلس ساعة، ثم وثب فنظر هل يرى منهم أحداً، فلما لم يرهم، رجع فجلس ساعة ثم قال: اكتبوا: حدثني محمد ابن عسكر، عن عبد الرزاق، عن معمر قال: سئل الشعبي ما اسم امرأة إبليس؟ فقال: هذا عرس لم أشهد إملاكه. ثم أقبل على بندار، فقال: يا شيخ، ما معنى قول الشاعر؟:
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
فقال لا بندار: أجيبوه. فقال: يا مجنون، أسألك ويجيب غيرك! فقال بندار: يقول إنه لما رآها فعلت ما فعلته من سفورها، ولم يكن يعهد منها، علم أنها قد حذرته من بحضرتها، ليحجم عن كلامها، وانبساطه إليها، فضحك ومسح يده على رأس بندار وقال: أحسنت يا كيس، وكان بندار قد قارب في ذلك الوقت تسعين سنة.

بهزاد بن يعقوب، بن خرزاد
أبي يعقوب، يوسف بن يعقوب، بن خرزاد النجيرمي، راوية نحوي في طبقة أبيه، مات قبل أبيه بما يقارب الثلاثة شهور بمصر، وذلك لسبع خلون من شوال، سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، قال السمعاني في كتاب الأنساب: نجيرم، محلة بالبصرة، إليها ينسب النجيرميون.
باب التاء
تمام بن غالب بن عمرو، يعرف بابن التيان
أبو غالب المرسي الأندلسي. بخط بن يحلم، قال سعد الخير: مرسية بلدة حسنة من بلاد الأندلس، كثيرة التين، يجلب منها إلى سائر البلدان، فلعله نسب إليه لبيع التي.

ذكره الحميدي فقال: كا إماماً في اللغة، وثقة في إيرادها، مذكوراً بالديانة والورع، مات بالمرية في جمادى، سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وله كتاب تلقيح العين في اللغة، لم يؤلف مثله اختصاراً وإكثاراً، وله فيه قصة تدل على فضله، وذلك أن الأمير أبا الجيش، مجاهد بن عبد الله العامري، وهو أحد المتغلبين على تلك النواحي، وجه إلى أبي غالب هذا - أيام غلبته على مرسية وأبو غالب ساكن بها - ألف دينار أندلسية، على أن يزيد في ترجمة هذا الكتاب مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد. فرد الدنانير ولم يفعل، وقال: والله لو بذل لي ملء الدنيا ما فعلت، ولا استجزت الكذب، فإني لم أجمعه له خاصة، لكن لكل طالب عامة.
قال الحميدي: فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها واعجب لنفس هذا العالم وزاهتها: وقال أبو القاسم، خلف بن عبد الملك، بن بشكوال الأنصاري الأندلس: في كتاب الصلة من تصنيفه، وهو كتاب وصل به كتاب ابن الفرضي في تاريخ الأندلسيين، قال ابن حبان: وله كتاب جامع في اللغة، سماه تلقيح العين، جم الإفادة، وكان بقية شيوخ اللغة الضابطين لحروفها، الحاذقين بمقاييسها وكان ثقة صدوقاً عفيفاً، وذكر وفاته كما تقدم.

توفيق بن محمد، بن الحسين، بن عبيد الله
ابن محمد، بن زريق، أبو محمد الإطرابلسي النحوي، كان جده محمد بن زريق، يتولى أمر الثغور من قبل الطائع لله، وانتقل ابنه عبيد الله إلى الشام، وولد توفيق بإطرابلس، وسكن دمشق، وكان أديباً فاضلاً، شاعراً، وكان يتهم بقلة الدين، والميل إلى مذاهب الأوائل، ومن شعره:
وجلنار كأعراف الديوك على ... خصر يميس كأذاب الطواويس
مثل العروس تجلت يوم زينتها ... حمراء تجلى على خضر الملابيس
في مجلس لعبت أيدي السرور به ... لدى عريش يحاكي عرش بلقيس
سقى الحيا أربعاً تحيا النفوس بها ... ما بين مقري إلى باب الفراديس
مات في صفر، سنة عشرة وخمسمائة، ودفن بمقبرة باب الفراديس.
باب الثاء
ثابت بن الحسين، بن شراعة
أبو طالب التميمي الأديب، ذكره شيرويه فقال: روى عن ابن سلمة، وابن عيسى وأبي الفضل، محمد ابن عبد الله الرشيدي، ومنصور بن رامش، والريحاني وغيرهم. سمعت منه، وكان صدوقاً. توفي في العشر الأخير من صفر، سنة تسع وستين وأربعمائة.
ثابت بن أبي ثابت، علي بن عبد الله الكوفي
قال الزبيدي: كان من أمثل أصحاب أبي عبيد القاسم بن سلام، وقيل: اسم أبي ثابت سعيد.
وقال النديم: قال السكري: اسم أبي ثابت محمد، لغوي، لقي فصحاء الأعراب، وأخذ عنهم، وهو من كبار الكوفيين. قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب خلق الإنسان، كتاب الفرق: كتاب الزجر والدعاء، كتاب خلق الفرس، كتاب الوحوش، كتاب مختصر العربية، كتاب العروض.
ثابت بن أبي ثابت، عبد العزيز اللغوي
الذي له كتاب خلق الإنسان، من علماء اللغة. يروي عن أبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي الحسن علي ابن المغيرة الأثرم، واللحياني، وأبي نصر أحمد بن حاتم، وسلمة بن عاصم التميمي، وأبي عبد الله محمد بن زياد وآخرين، روى عنه أبو الفوارس داود بن محمد، ابن صالح المروزي النحوي، المعروف بصاحب ابن السكيت، وابنه عبد العزيز بن ثابت. واسم أبي ثابت أبيه، عبد العزيز، من أهل العراق، جليل القدر، موثوق به، مقبول القول في اللغة، يعرف بوراق أبي عبيد.
ثابت بن سنان،الصابئ
،
بن ثابت، بن قرة، بن مروان الصابئ،أبو الحسن، الطبيب المؤرخ، مات فيما ذكره هلال ابن المحسن، لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، سنة خمس وستين وثلاثمائة، وكان قد ذكر في تاريخه إلى آخر سنة ستين، ووصل هلال بن المحسن من أول سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وكان أبو الحسن طبيباً حاذقاً، وأديباً بارعاً، وله كتاب التاريخ، الذي ابتدأ به من أول أيام المقتدر، وله كتاب مفرد في أخبار الشام ومصر، مجلد واحد. وقال أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابئ، يرثي خاله أبا الحس، ثابت بن سنان، ابن ثابت، بن قرة:
أسامع أنت يا من ضمه الجدف ... نشيج باك حزين دمعه يكف
وزفرة من صميم القلب مبعثها ... يكاد منها حجاب الصدر ينكشف

أثابت بن سنان دعوة شهدت ... لربها أنه ذو غلة أسف
ما بال طبك ما يشفي وكنت به ... تشفي العليل إذا ما شفه الدنف
غالتك غول المنايا فاستكنت لها ... وكنت ذائدها والروح تختطف
فارقتني كفراق الكف صاحبها ... أطنها ضارب من زندها نطف
فتت في عضدي يا من غنيت به ... أفت في عضد الباغي وانتصف
ثوى بمغناك في لحد سكنت به ... الدين والعقل والعلياء والشرف
لهفي عليك كريماً في عشيرته ... ممهداً جسمه من عمة ترف
قد أسلموه إلى غبراء يشمله ... فيها التراب فمنها الفرش واللحف

ثابت بن محمد الجرجاني
أبو الفتوح، ذكره الحميدي في كتاب الأندلسيين فقال: دخل إلى الأندلس وجال في أقطارها، وبلغ إلى ثغورها، واجتمع بملوكها، وكان إماماً في العربية، متمكناً في علم العرب.
قال ابن بشكوال: قتل في محرم سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، قتله باديس بن حيوس، أمير صنهاجة، لتهمة لحقته عنده، في القيام عليه مع اب عمه بيدر بن جباسة. ومولده سنة خمسين وثلاثمائة. وكان مع تحققه بالأدب. قيماً بعلم المنطق، ودخل بغداد وأقام بها طالباً، وأملى بالأندلس كتاب شرح الجمل للزجاج. روى ببغداد عن اب جني، وعلي بن عيسى الربعي، وعبد السلام بن الحسين البصري، وروى كثيراً من علم الأدب.
وحدث الحميدي عن أبي محمد علي بن أحمد، عن البراء ابن عبد الملك الباجي قال: لما ورد أبو الفتوح الجرجاني الأندلس، كان أول من لقي من ملوكها، الأمير الموفق أبا الجيش مجاهداً العامري، فأكرمه وبالغ في إكرامه، فسأله عن رفيقه، من هذا معك؟ فقال:
رفيقان شتى ألف الدهر بيننا ... وقد يلتقي الشتى فيأتلفان
قال أبو محمد: ثم لقيت بعد ذلك أبا الفتوح، فأخبري عن بعض شيوخه: أن ابن الأعرابي رأى في مجلسه رجلي يتحادثان، فقال لأحدهما: من أين أنت؟ فقال: من إسبيجاب، وقال للآخر: من أين أنت؟ فقال: من الأندلس، فعجب ابن الأعرابي، فأنشد البيت المقدم، ثم أنشدني تمامها:
نزلت على قيسية يمنية ... لها نسب في الصالحي هجان
فقالت وأرخت حانب الستر دوننا ... لأية أرض أم من الرجلان؟
فقلتُ لها: أما رفيقي فومه ... تميم وأما أسرتي فيماني
رفيقان شتى ألف الدهر بيننا ... وقد يلتقي الشتى فيأتلفان
أبو ثروان العكلي
أحد بني عكل، وعكل: اسم امرأة حضنت ولد عوف بن وائل، بن قيس، بن عوف، بن عبد مناف، ابن أد، بن طابخة، بن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان. وهي أمة لهم، وأمهم بنت ذي اللحية ابن حمير، وكان ثطاً فسمي بضد صفته، وبنو عوف ابن وائل: الحارث، وجشم، وسعد، وعلي، وقيس درج ولا عقب له، فكل من ولده واحد من هؤلاء، كان عكلياً. وكان أبو ثروا أعرابياً بدوياً، تعلم في البادية لدى، ذكره يعقوب بن السكيت، ووجد بخطه، وكان فصيحاً. قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب خلق الفرس، كتاب معاني الشعر.
باب الجيم
جبر بن علي، بن عيسى
،
ابن الفرج، بن صالح، أبو البركات الربعي الزهيري، ووالده أبو الحسن علي بن عيسى، هو النحوي المشهور، صاحب أبي علي الفارسي، وكان أبو البركات هذا، أحد الأدباء البلغاء الفصحاء.
قال محمد بن عبد الملك الهمذاني، كان ينوب عن الوزراء ببغداد، وله اليد الطولى في الكتابة، وجن في شبيبته، فكان يتعمم بحبل البئر، وادعى النبوة في ذلك الوقت، وعولج حتى برأ. وللبصروي وغيره فيه مدائح. ومات في سنة تسع وأربعي وأربعمائة.
جعفر بن أحمد المروزي
أبو العباس، ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو أحد جماعي ومؤلفي الكتب، في أنواع من العلم، وكتبه كثيرة جداً، وهو أول من ألف كتاباً في المسالك والممالك، ولم يتم. مات بأهواز وحملت كتبه إلى بغداد، وبيعت في طاق الحراني سنة أربع وسبعين ومائتين. فمن كتبه: كتاب المسالك والممالك، كتاب الآداب الكبير، كتاب الآداب الصغير، كتاب الناجم، كتاب تاريخ القرآن لتأييد كتب السلطان، كتاب البلاغة والخطابة.

جعفر بن أحمد، بن عبد الملك، بن مروان
اللغوي، أبو مروان الإشبيلي، يعرف بابن الغاسلة، روى عن القاضي أبي بكر بن زرب، وأبي عو ابنه، والمعيطي، والزبيدي، وكان بارعاً في الأدب واللغة، ومعاني الشعر والخبر، ذا حظ من علم السنة. توفي سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، ومولده سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.
جعفر بن أحمد،السراج
بن الحسين، بن أحمد، بن جعفر السراج أبو محمد القارئ البغدادي، سمع أبا علي بن شاذان، وأبا القاسم بن شاهين، وأبا محمد الخلال، وأبا الفتح بن شيطا، وأبا الحسي التوزي، وأبا القاسم التنوخي.
قال ابن عساكر: قرأت بخط غيث بن علي الصوري: جعفر بن أحمد بن الحسين، ذو طريقة جميلة، ومحبة للعلم والأدب، وله شعر لابأس به، وخرج له شيخنا الخطيب فوائد، وتكلم عليها في خمسة أجزاء، وكان يسافر إلى مصر وغيرها، وتردد إلى صور عدة دفعات، ثم قطن بها زماناً، وعاد إلى بغداد، وأقام بها إلى أن توفي. كتب عنه ولم يكن به بأس. وله تصانيف: منها مصارع العشاق، كتاب زهد السودان. ونظم أشعاراً كثيرة في الزهد، والفقه، وغير ذلك.
قال الصوري: قال لي: ولدت سنة تسع عشرة وأربعمائة، وسمعت الحديث، ولي خمس سنين. وقرأت بخط أبي المعمر الأنصاري: توفي جعفر السراج، في حادي عشر من صفر، سنة خمسمائة، ودفن بمقبرة باب أبرز، وكان ثقة. وقال السمعاني: مولده سنة سبع عشرة، أو ست عشرة. ومن شعره:
أفلح عبد عصى هواه ... وفاق في دينه وكاسا
ولم يرح مدمناً لخمر ... ينهل طاساً ويعل كاسا
ومن شعره:
يا من إذا ما رضيته حكماً ... جار عليا في حكمه وسطا
قد مدح الله أمة جعلت ... في محكم الذكر أمة وسطا
وقال جعفر بن أحمد السراج نقلاً من كتاب الخريدة:
قضت وطراً من أرض نجد وأمت ... عقيق الحمى مرخىً لها في الأزمة
وخبرها الرواد أن لحاجر ... حياً نورت منه الرياض فحنت
ولاح لها برق من الغور موهناً ... كشعلة نار للطوارق شبت
فميلن بالأعناق عند وميضه ... تراقص في أرسانها واستمرت
وغنى لها الحادي فأذكرها الحمى ... وأيامها فيه وساعات وجرة
وقد شركتني في الحنين ركائبي ... وزدن علينا رة بعد رنة
أقول لركب مجهشين تطوحوا ... وعز بهم ماء ردوا ماء عبرتي
ألا ليت شعري هل تعود رواجعاً ... ليالي لاصبا من بعد ما قد تولت
قرأت بخط الحسن بن جعفر، بن عبد الصمد، بن المتوكل في كتابه: حدثني الشيخ أبو الفضائل بن الخاضبة قال: دخل الشيخ أبو سعد بن أبي عمامة الواعظ، إلى المسجد المعلق، مقابل دار الخلافة، وكان فيه الشيخ أبو محمد بن السراج ليسلم عليه، فالتقاه الشيخ أبو بكر بالرحب والسعة، وتعانقا، وجلسا يتذاكران، فجاء الشيخ أبو نصر الأصبهاني، فصعد إليهما، وقد كان في الحمام، فكشف رأسه، وقعد يستريح من كرب الحمام، فقال له الشيخ أبو محمد: غط رأسك لا ينالك الهوى، فتتأذى، فقال الشيخ أبو سعد: لعله يجد فيه راحة.
أنبأنا أبو محمد عبد العزيز بن الأخضر شيخنا - رحمه الله - قال: سمعت أبا الكرم المبارك بن الحسن، ابن الشهرزوري المقرئ يقول: كنت أقرأ على أبي محمد جعفر، بن محمد السراج، وأسمع منه، فضاق صدري منه لحاله، فانقطعت عنه، ثم ندمت وقلت: يفوتني منه بانقطاعي عنه فوائد كثيرة، فقصيدته في مسجده المعلق، الحاذي لباب النوبي، فلما وقع نظره علي، رحب بي وأنشدني لنفسه:
وعدت بأن تزوري بعد شهر ... فزوري قد تقضى الشهر زوري
وموعد بيننا نهر المعلى ... إلى البلد المسمى شهر زور
فأشهر صدك المحتوم حق ... ولكن شهر وصلك شهر زور
ومن شعره:
دع الدمع بالوكف ينكى الخدودا ... فإن الأحبة أضحوا خمودا
دعا بهم هاتف الحادثات ... فبدلهم بالقصور اللحودا
دنت منهم نوب للردى ... فأفنت ضعيفهم والشديدا
دموع يكفكفهن الأسى ... عليهم غزار تروى الصعيدا

دجاهم وصبحهم واحد ... وقد مزق الدود منهم جلودا
وجعل كتاب مصارع العشاق أجزاء، وكتب على كل جزء أبياتاً من قوله، فكان على الجزء الأول:
هذا كتاب مصارع العشاق ... صرعتهم أيدي نوى وفراق
تصنيف من لدغ الفراق فؤاده ... وتطلب الراقي فعز الراقي
وأنشد له السمعاني في المزيد:
حبذا طيف سليمى إذ طوى ... حذر الواشي السري من ذي طوى
وأتى الحي طروقاً وهم ... بين أجزاع زرود فاللوى
بت أشكو ما ألاقيه إلى ... طيفها الطارق من مس الجوى
أشكر الأحلام لما جمعت ... بيننا وهناً على رغم النوى
أيها العاذل دعني والهوى ... ليس مشغول وخال بالسوى
وأنشد له:
حبذا نجد بلاداً لم نجد ... راحة للقلب في أرض سواها
فإذا ما لاح منها بارق ... هاج أشواقي أو هبت صباها
لست أنسى إذ سليمى جارة ... تبذل الود وتصفينا هواها
ثم لما شطت الدار بها ... ورماها البين من حيث رماها
أرسلت طيف كرىً لكنه ... زارنا والعين قد زال كراها
ومن شعره أيضاً:
وقفنا وقد شطت بأحبابنا النوى ... على الدار نبكيها سقي ربعها المز
وزادت دموع الواكفين برسمها ... فلو أرسلت سفن بها جرت السف
ولم يبق صبر يستعان على النوى ... به بعد توديع الخليط ولا جفن
سألنا الصبا لما رأينا غرامنا ... يزيد بسكان الحمى والهوى يدنو
أفيك لحمل الشوق يا ريح موضع ... فقد ضعفت عن حمل أشواقنا البدنُ

جعفر بن إسماعيل، بن القاسم القالي
هو ولد أبي علي القالي الذي تقدم ذكره، وأبو علي والده. هو صاحب الأمالي وغيرها من التصانيف المشهورة، وكان جعفر هذا أيضاً، أديباً فاضلاً أريباً، وهو القائل في المنصور محمد بن أبي عامر، أمير الأندلس يمدحه:
وكتيبة للشيب جاءت تبتغي ... قتل الشباب ففر كالمذعور
فكأن هذا جيش كل مثلث ... وكأن تلك كتيبة المنصور
جعفر بن الفضل، بن جعفر
،
بن محمد، بن موسى ابن الحسن، بن الفرات، أبو الفضل المعروف بابن حنزابة، وحنزابة اسم أمهم، كانت جارية، وكانت حنزابة حماة المحسن بن الفرات بمصر، وكان وزيراً فاضلاً بارعاً كاملاً، وزر بمصر لأنوجور بن أبي بكر الأخسيد، ثم لأخيه أبي الحسن علي، ثم لكافور إلى أن انقضت دولة الأخشيدية، وإليه رحل أبو الحسن الدارقطني، حتى صنف له ما صنف في مصر. مات في سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، ومولده سنة ثمان وثلاثمائة.
وفي تاريخ أبي محمد أحمد بن الحسين، بن أحمد، ابن أحمد، بن محمد، بن عبد الرحمن الروذباري: أن ابن حنزابة، مات في ثالث عشر من صفر، سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، في أيام الحاكم، وفي سنة تسع وتسعين، قتل الحاكم ابنه أبا الحسين بن جعفر، بن الفضل، بن الفرات، وكان يلقب بسيدوك. وفي سنة خمس وأربعمائة، ولي وزارة الحاكم أبو العباس، الفضل ابن جعفر بن الفضل، بن الفرات ابنه الآخر، وضمن ما لم يعرفه، فقتل بعد خمسة أيام من ولايته.
ويروى لأبي الفضل جعفر هذان البيتان، ولا يعرف له شعر غيره:
من أحمل النفس أحياها وروحها ... ولم يبت طاوياً منها على ضجر
إن الرياح إذا اشتدت عواصفها ... فليس ترمي سوى العالي من الشجر

قال يحيى بن مندة: قدم أبو الفضل بن حنزابة أصفهان، وسمع من عبد الله بن محمد، بن عبد الكريم، ومحمد بن حمزة بن عمارة، والحسن بن محمد الداركي، وسمع ببغداد، من محمد بن هارون الحصري، ومن في طبقته. وهو أحد الحفاظ حسن العقل، كثير السماع، مائل إلى أهل العلم والفضل، نزل مصر، وتقلد الوزارة لأميرها كافور، وكان أبوه وزير المقتدر بالله. وبلغني أنه كان يذكر أنه سمع من عبد الله بن محمد البغوي مجلساً، ولم يك عنده. وكان يقول: من جاءني به أغنيته، وكان عالي الحديث بمصر، وإليه خرج أبو الحسن الدارقطني إلى هناك، لأنه يريد أن يصنف مسنداً، فخرج الدارقطني إليه، وأقام عنده مدة فصنف له المسند، وحصل له من جهته مال كثير.
وروى عنه الدارقطني في كتاب المذبح، قال ابن مندة: سمعت أبا القاسم، إسماعيل بن مسعدة الجرجاني قال: قال حمزة بن يوسف السهمي: سألت أبا الحسن علي ب عمر الحافظ الدارقطي، عن محمد بن محمد، بن سليمان الباغندي، فحكى عن الوزير أبي الفضل بن الفرات، المعروف بابن حنزابة حكاية، قال الشيخ حمزة: ثم دخلت مصر، وسألت الوزير أبا الفضل جعفر بن الفضل عن الباغندي، وحكيت له ما كنت سمعته من الدارقطني، فقال لي الوزير: لحقت الباغندي محمد بن محمد بن سليمان، وأنا ابن خمس سنين، ولم أكن سمعت منه شيئاً، وكان للوزير الماضي - رحمه الله - حجرتان، إحداهما للباغندي، يجيئه يوماً ويقرأ له، والأخرى لليزيدي.
قال أبو الفضل: سمعت أبي - رحمه الله - يقول: كنت يوماً مع الباغندي في الحجرة، يقرأ لي كتب أبي بكر بن أبي شيبة، فقام الباغندي إلى الطهارة، فمددت يدي إلى جزء معه من حديث أبي بكر، فإذا على ظهره مكتوب مربع ولا باقي محكوك، فرجع الباغندي فرأى الجزء في يدي فتغير وجهه. وسألته وقلت: إيش هذا؟ مربع؟ فتغير إذ ذاك ولم أفطن له، لأني أول من كنت دخلت في كتبة الحديث، ثم سألت عنه، فإذا الكتاب لمحمد بن إبراهيم، بن مربع، سمعه من أبي بكر بن أبي شيبة.
قرأت في تاريخ لابن زولاق الحسن بن إبراهيم، في أخبار سيبويه الموسوس قال: ورأى سيبويه جعفر ابن الفضل ب الفرات بعد موت كافور، وقد ركب في موكب عظيم. فقال: ما بال أبي الفضل قد جمع كتابه، ولفق أصحابه، وحشد بين يديه حجابه، وشمم أنفه، وساق العساكر خلفه، أبلغه أن الإسلام طرق؟ أو أن ركن الكعبة سرق؟ فقال له رجل: هو اليوم صاحب الأمر، ومدبر الدولة. فقال: يا عجباً، أليس بالأمس نهب الأتراك داره؟ ود كد كوا آثاره، وأظهروا عواره، وهم اليوم يدعونه وزيراً، ثم قد صيروه أميراً. ما عجبي منهم كيف نصبوه، بل عجبي كيف تولى أمر عدوهم ورضوه.
قال الحافظ أبو القاسم: ذكر بعض أهل العلم، وأظنه محمد بن أبي نصر الحميدي: أن الوزير أبا الفضل بن حنزابة حدث بمصر، سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، مجالس إملاء خرجها الدارقطني، وعبد الغني ابن سعيد، وكانا كاتبيه ومخرجيه، وكان كثير الحديث، جم السماع، مكرماً لأهل العلم، مطعماً لأهل الحديث، استجلب الدارقطني من بغداد وبر إليه، وخرج له المسند، وقد رأيت عند أبي إسحاق الجباني من الأجزاء التي خرجت له جملة كثيرة جداً، وفي بعضها الموفى ألفاً من مسند كذا، والموفى خمسمائة من مسند كذا، وهكذا هي سائر المسندات. وقد أعطى الدارقطني مالاً كثيراً، وأنفق عليه نفقة واسعة، ولم يزل في أيام عمره يصنع شيئاً من المعروف عظيماً، ويفق نفقات كثيرة على أهل الحرمين، من أصناف الأشراف وغيرهم، إلى أن تم له أن اشترى بالمدينة داراً إلى جانب المسجد، من أقرب الدور إلى القبر، ليس بينها وبين القبر إلا حائط وطريق في المسجد، وأوصى أن يدفن فيها، وقرر عند الأشراف ذلك، فسمحوا له بذلك، وأجابوه إليه. فلما مات حمل تابوته من مصر إلى الحرمين، فخرجت الأشراف من مكة والمدينة لتلقيه والنيابة في حمله، إلى أن حجوا به، وطافوا ووقفوا بعرفة، ثم ردوه إلى المدينة، ودفنوه في الدار التي أعدها لذلك.

قرأت بخط الشريف النسابة، محمد بن أسعد بن علي الجواني المعروف بابن النحوي، كان الوزير جعفر بن الفضل بن الفرات، المعروف بابن حنزابة، يهوى النظر إلى الحشرات من الأفاعي، والحيات والعقارب، وأم أربعة وأربعين، وما يجري هذا المجرى وكان في داره التي تقابل دار الشنتكاني ومسجد ورشٍ. - وكانت للماذرائي قبل ذلك - قاعة لطيفة مرخمة، فيها سلل الحيات، ولها قيم فراش حاو من الحواة، ومعه مستخدمون برسم الخدمة، ونقل السلل وحطها، وكان كل حاو في مصر وأعمالها يصيد له ما يقدر عليه من الحيات، ويتباهون في ذوات العجب من أجناسها، وفي الكبار وفي الغريبة المنظر، وكان الوزير يثيبهم في ذلك أوفى الثواب، ويبذل لهم الجزيل حتى يجتهدوا في تحصيلها، وكان له وقت يجلس فيه على دكة مرتفعة، ويدخل المستخدمون والحواة، فيخرجون ما في السلل ويطرحونه في ذلك الرخام، ويحرشون بين الهوام، وهو يتعجب من ذلك ويستحسنه.
فلما كان ذات يوم، أنفذ رقعة إلى الشيخ الجليل ابن المدبر الكاتب، وكان من أعيان كتاب آبائه ودولته، وكان عزيزاً عنده، وكان يسكن في جوار دار ابن الفرات، يقول له فيها: نشعر الشيخ الجليل، - أدام الله سلامته - ، أنه لما كان البارحة، وعرض علينا الحواة الحشرات، الجاري بها العادات، انساب إلى داره منها الحية البتراء، وذات القرنين الكبرى، والعقربان الكبير وأبو صوفة، وما حصلوا لنا إلا بعد عناء ومشقة، وبجملة بذلناها للحواة، ونحن نأمر الشيخ - وفقه الله تعالى - بالتوقيع إلى حاشيته وصبيته، بصو ما وجد منها، إلى أن ننفذ الحواة لأخذها وردها إلى سللها، فلما وقف ابن المدبر على الرقعة قلبها وكتب في ذيلها: أتاني أمر سيدنا الوزير - أدام الله نعمته وحرس مدته - بما أشار إليه في أمر الحشرات، والذي يعتمد عليه في ذلك، أن الطلاق يلزمه ثلاثاً إن بات هو أو واحد من أولاده في الدار، والسلام.
أنشدني أبو بكر بن عبد البر القيرواني التميمي، لصالح بن مؤنس المصري، يمدح بعض آل الفرات:
قد مر عيد وعيد ... ما اخضر لي فيه عود
وكيف يخضر عود ... والماء منه بعيد
يا من له عدد المج ... د كلها والعديد
آل الفرات نداهم ... على الفرات يزيد
وأنت فضلك فيهم ... عليك منه شهود
وكل يوم لغيري ... من راحتيك مديد
هل لي إلى الرزق ذنب ... فكان منه صدود
ما الناس إلا شقي ... في دهرنا وسعيد
قال ابن الأكفاني: أنبأنا أبو محمد عبد الله بن الحسين بن النحاس، حدثنا أبو محمد عبد الله بن يوسف ابن نصر من لفظه قال: حضرت عند أبي الحسين المهلبي في داره بالقاهرة فقال لي: كنت منذ أيام حاضراً دار الوزير، يعني أبا الفرج بن كلس، فدخل عليه أبو العباس، الفضل بن أبي الفضل، الوزير ابن حنزابة، وكان قد زوجه ابنته، وأكرمه وأجله، فقال له: يا أبا العباس يا سيدي، ما أنا بأرجل من أبيك، ولا بأعلم ولا بأفضل، وزاد في وصفه وإكرامه، ثم قال: أتدري ما أقعد أباك خلف الباب؟ شيل أنفه، وأخرج يده فعلا بها رأسه، وشال أنفه إلى فوق وقال له: بالله يا أبا العباس لا تشل أنفك، تدري ما الإقبال؟ نشاط وتواضع، تدري ما الإدبار؟ كسل وترافع.
قرأت فيما جمعه أبو علي صالح بن رشد قال: كان أبو الفضل جعفر بن الفضل الوزير، قد خرج إلى بستانه بالمقس فكتب إليه أبو صر بن كشاجم على تفاحة بماء الذهب وأنفذها إليه:
إذا الوزير تخلى ... للنيل في الأوقات
فقد أتاه سمي ... اه جعفر بن الفرات

قال محمد بن طاهر المقدسي: سمعت أبا إسحاق الحبال يقول: لما قصد هؤلاء مصر وزولا قريباً منها، لم يبق أحد من الدولة العباسية، إلا خرج للاستقبال والخدمة، غير الوزير أبي الفضل بن حنزابة فإنه لم يخرج، فلما كان في الليلة التي صبيحتها الدخول، اجتمع إليه مشايخ البلد، وعاتبوه في فعله. وقيل له: إنك تغري بدماء أهل السنة، ويجعلو تأخرك عنهم سبباً للانتقام. قال: الآن أخرج فخرج للسلام، فلما دخل عليه أكرمه وبجله، وأجلسه وفي قلبه شيء، وكان إلى جنبه ابنه وولي عهده، وغفل الوزير عن التسليم عليه، فأراد أن يمتحنه بسبب يكون إلى الوقيعة به. فقال له: حج الشيخ؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وزرت الشيخين؟ فقال: شغلت بالنبي صلى الله عليه وسلم عنهما، كما شغلت بأمير المؤمنين عن ولي عهده، السلام عليك يا ولي عهد المسلمين ورحمة الله وبركاته. فأعجب من فطنته، وتداركه ما أغفله، وعرض عليه الوزارة فامتنع. فقال: إذا لم تل لنا شغلاً فيجب ألا تخرج عن بلادنا، فإنا لا نستغني أن يكون في دولتنا مثلك، فأقام بها ولم يرجع إلى بغداد.
قال: وسمعت أبا إسحاق الحبال يقول: كان يعمل للوزير أبي الفضل الكاغد بسمرقند، ويحمل إليه إلى مصر في كل سنة، وكان في خزانته عدة من الوراقين، فاستعفى بعضهم، فأمر بأن يحاسب ويصرف، فكمل عليه مائة دينار، فعاد إلى الوراقة، وترك ما كان عزم عليه من الاستعفاء..
قال: وسمعت أبا إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال يقول: خرج أبو صر السجزي الحافظ على أكثر من مائة شيخ، لم يبق منهم غيري، وكان قد خرج له عشرين جزءاً في وقت الطلب، وكتبها في كاغد عتيق فسألت الحبال عن الكاغد، فقال: هذا من الكاغد الذي كان يحمل للوزير من سمرقند، وقعت إلي من كتبه قطعة، فكنت إذا رأيت فيها ورقة بيضاء قطعتها إلى أن اجتمع هذا، فكتبت فيه هذه الفوائد.

جعفر بن قدامة، بن زياد الكاتب
أبو القاسم، ذكره الخطيب فقال: هو أحد مشايخ الكتاب وعلمائهم، وكان وافر الأدب، حس المعرفة. وله مصنفات في صنعة الكتابة وغيرها، حدث عن أبي العيناء الضرير، وحماد بن إسحاق الموصلي، والمبرد، ومحمد ابن عبد الله بن مالك الخزاعي، ونحوهم. روى عنه أبو الفرج الأصفهاني.
ونقلت من خط أبي سعيد مع بن خلف البستي، مستوفي بيت الزرد والفرش السلطاني الملكشاهي، بتولية نظام الملك قال: قال جعفر بن قدامة الكاتب:
استمع بالله يا ابن ال ... ملك والنجدة مني
يومنا في الحسن والبه ... جة قد جاز التمي
فأزري نفسك الح ... رة أولا فاستزرني
ومن خطه قال: نقلت من خط عبد الرحمن بن عيسى الوزير لجعفر بن قدامة:
كيف يخفى وإن أتاني نهاراً ... كسف الشمس بالجمال البهي
فكلا حالتيه يفضح سري ... وينادي بكل أمر خفي
بأبي أحسن الأنام جميعاً ... تاه عقلي به وحق النبي
وقال أبو محمد عبيد الله بن أبي القاسم، عبد المجيد ابن بشران الأهوازي في تاريخه: مات أبو القاسم جعفر ابن قدامة، بن زياد يوم الثلاثاء، لثمان بقين من جمادى الآخرة، سنة تسع عشرة وثلاثمائة. قال ابن بشران: وفي سنة عشرة وثلاثمائة، أخرج علي بن عيسى الوزير إلى اليمن منفياً، فقال أبو القاسم، جعفر بن قدامة الكاتب في ذلك:
أصبح الملك واهي الأرجاء ... وأمور الورى بغير استواء
منذ نادت نوى علي بن عيسى ... واستمرت به إلى صنعاء
فوحق الذي يميت ويحيي ... وهو الله مالك الأشياء
لقد اختل بعده كل أمر ... واستبانت كآبة الأعداء
ثم صاروا بعد العداوة والل ... ه جميعاً في صورة الأولياء
يتألون كلهم في علي ... إنه قد خلا من النظراء
ومن شعره أيضاً:
تسمع مت قبلك بعض قولي ... ولا تتسلل مني لواذا
إذا أسقمت بالهجران جسمي ... ومت بغصتي فيكون ماذا؟
ومن كتاب الوزراء لهلال ب المحسن: ولجعفر بن قدامة يمدح ابن الفرات:
يا ابن الفرات ويا كري ... م الخيم محمود الفعال
ضيعت بعدك واطرح ... ت وبان للناس اختلالي

وتغيرت مذ غيرت ... أحوالك الأيام حالي
لهفاً أبا حس على ... أيامك الغر الخوالي
لهفاً عليها إنها ... بليت بأحوال بوالي
قرأت في كتاب المحاضرات لأبي حيان قال: وقلت للعروضي: أراك منخرطاً في سلك ابن قدامة، ومنصباً إليه، ومتوفراً عليه، وكيف يتفق بينكما، وكيف تأتلفان ولا تختلفان. فقال: إعلم أن الزمان وقت الاعتدال، والرجل كما تعرف على غاية البرد والغثاثة، وخساسة الطبع، وأنا كما تعرفني وتثبتني، فاعتدلنا إلى أن يتغير الزمان، ثم نفترق ونختلف ولا نتفق. وأنشأ يقول:
وصاحب أصبح من برده ... كالماء في كانون أو في شباط
ندمائه من ضيق أخلاقه ... كطأنهم في مثل سم الخياط
نادمته يوماً فألفيته ... متصل الصمت قليل النشاط
حتى لقد أوهمني أنه ... بعض التماثيل التي في البساط

جعفر بن محمد، بن أحمد، بن حذار
الكاتب أبو القاسم، ذكره الصولي في كتاب أخبار شعراء مصر قال: لم يك بمصر مثله في وقته، كثير الشعر حسن البلاغة عالم، له ديوان شعر، ومكاتبات كثيرة حسنة.
قال: وكان العباس بن أحمد بن طولو، قد خرج على أبيه في نواحي برقة، عند غيبة أبيه بالشام، وتابعه أكثر الناس، ثم غدر به قوم، وخرج عليه آخرون من نواحي القيروان، فظفر به أبوه، وكان جعفر بن حذار وزير العباس وصاحب أمره. قال ابن زولاق مؤرخ مصر: قبض على العباس بنواحي الإسكندرية، وأدخل إلى الفسطاط على قتب على بغل مقيداً، في سنة سبع وستين ومائتين، ونصب لكتابه ومن خرج بهم إلى ما خرج إليه دكة عظيمة رفيعة السمك، في يوم الأربعاء، لا أعرف موقعه من الشهر، وجلس أحمد بن طولو في علو يوازيها، وشرع من ذلك العلو إليها طريقاً، وكان العباس قائماً بين يدي أبيه في خفخاف ملحم وعمامة وخف، وبيده سيف مشهور، فضرب ابن حذار ثلاثمائة سوط، وتقدم إليه البعاس فقطع يديه ورجليه من خلاف، وألقي من الدكة إلى الأرض، وفعل مثل ذلك بالمنتوف وبأبي معشر، واقتصر بغيرهم على ضرب السوط. فلم تمض أيام حتى ماتوا.
وقال لاصولي: مثل أحمد بن طولون بابن حذار لما قتله. يروى أنه تولى قطع يديه ورجليه بيده. ومن شعر ابن حذار إلى صديق له من أبيات:
يا كسروياً في القدي ... م وهاشمياً في الولاء
يا ابن المقفع في البيا ... ن ويا إياساً في الذكاء
يا ناظراً في المشكلا ... ت المعضلات ويا ضيائي
إيهاً، جعلت فداك في ... م طويتني طي الرداء
وتركتني بين الحجا ... ب أعوم في بحر الجفاء
ورغبت عما كنت تر ... غب فيه من لطف الإخاء
من بعد أني كنت عن ... دك وابن أمك بالسواء
فوحق كفك إنها ... كف كأخلاف السماء
لأخلينك والهوى ... ولأصبرن عن اللقاء
ولأشكونك ما استطع ... ت إلى حفاظك والوفاء
ولأصبر على رق ... يك في ذرى درج العلاء
فهناك أجني ما غرس ... ت إليك من ثمر الرجاء
ومن شعره أيضاً:
جاءت بوجه كأنه قمر ... على قوام كأ،ه غصن
ترنو بعين إذا تعاينها ... حسبت أن في جفونها وسن
حتى إذا ما استوت بمجلسها ... وصار فيه من حسنها وثن
غنت فلم يبق في جارحة ... إلا تمنيت أها أذن
ومن شعره أيضاً:
زارني زور ثكلتهم ... وأصيبوا حيثما سلكوا
أكلوا حتى إذا شبعوا ... حملوا الفضل الذي تركوا
جعفر بن محمد،الأخباري
بن الأزهر، ابن عيسى الأخباري أحد أصحاب السير، ومن عني بجمع الأخبار والتواريخ. مات سنة تسع وسبعين ومائتين. ومولده سنة مائتين، سمع من ابن الأعرابي وطبقته، وله من الكتب: كتاب التاريخ على السنين، وهو من جيد الكتب، ذكر ذلك محمد بن إسحاق.
جعفر بن محمد، بن خالد، بن ثوابة

أبو الحسين الكاتب، أحد البلغاء الفصحاء، قال أبو علي: حدثني أبو الحسين بن قيراط قال: حدثني أبو الحسن الإيادي الكاتب، صديق الكرخيين، قال أبو محمد عبد الوهاب، بن الحسن، بن عبيد الله، بن سليمان ابن وهب، وعبيد الله بن سليمان، هما الوزيران قال: كان إلى والدي الحسن بن عبيد الله ديوان الرسائل، وديوان المعاون وجملة الدواوين التي كانت إليه في أيام وزارة أبيه للمعتضد فأمر عبيد الله ابنه، أن يستخلف أبا الحسين ابن ثوابة على ديوان الرسائل، وديوان المعاون، فصار كالمتقلد له من قبل الوزير، لكثرة استخدامه له فيه، ثم مات أبي، فأقره جدي الوزير عبد الله على الديوان رياسة، وبقي عليهم يتوارثونه، مرة رياسة ومرة خلافة، إلى أن تسلمه الصابئ أبو إسحاق من ابن ابنه أحمد.
وكتب جعفر بن محمد هذا، رقعة إلى عبيد الله بن سليمان الوزير في نسختها: قد فتحت للمظلوم بابك، ورفعت عنه حجابك، فأا أحاكم الأيام إلى عدلك، وأشكو صرفها إلى عطفك، وأستجير من لؤم غلبتها بكرم قدرتك، فإنها توخرني إذا قدمت، وتحرمني إذا قسمت، فإن أعطت أعطت يسيراً، وإن ارتجعت ارتجعت كثيراً، ولم أشكها إلى أحد قبلك، ولا أعددت لإنصافها إلا فضلك، ودفع زمام المسألة وحق الظلامة حق التأميل، وقدم صدق الموالاة والمحبة، والذي يملأ يدي من النصفة، ويسبغ العدل علي، حتى تكون إلي محسناً، وأكون بك للأيام معدياً، أن تخلطني بخواص خدمك، الذين نقلتهم من حال الفراغ إلى الشغل ومن الخمول إلى النباهة والذكر، فإن رأيت أن تعديني فقد استعديت، وتجيرني فقد عذت بك، وتوسع علي كنفك، فقد أويت إليه، وتشملني بإحسانك، فقد عولت عليه، وتستعمل بدني ولساني فيما يصلحان لخدمتك فيه، فقد درست كتب أسلافك، وهم الأئمة في البيان، واستضأت برأيهم، واقتفيت آثارهم اقتفاء جعلني بين وحشي كلام وأنيسه، ووقفني منه على جادة متوسطة، يرجع غليها الغالي، ويسمو نحوها المقصر، فعلت إن شاء الله تعالى، فكانت هذه الرقعة سبب استخلافه لأبي.

جعفر بن محمد، بن حمدان الموصلي
،
أبو القاسم لافقيه الشافعي، ذكره محمد بن إسحاق فقال: هو حسن التأليف، عجيب التصنيف، شاعر أديب فاضل، ناقد للشعر، كثير لارواية، مات سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، ومولده سنة أربعين ومائتين. له عدة كتب في الفقه على مذهب الشافعي. فأما كتبه في الأدب فهي: كتاب الباهر في أشعار المحدثين، عارض به الروضة للمبرد، كتاب الشعر والشعراء لم يتم، ولو تم لكان غاية في معناه، كتاب السرقات لم يتم أيضاً، وهو كتاب جيد في معناه، كتاب محاس أشعار المحدثين لطيف.
قال أبو عبد الله الخالع: كان أبو القاسم، جعفر بن محمد، بن حمدان الموصلي، ممن عمر طويلاً، وكانت بينه وبين البحتري مراسلة، ورثاه بعد وفاته. ومدح القاسم ابن عبيد الله، وأدرك أبا العباس النامي، وتكاتبا بالشعر.
وقال أبو علي بن أبي الزمزام: كان ابن حمدان كبير المحل من أهل الرياسات بالموصل، ولم يكن بها في وقته من ينظر إليه، ويفضل في العلوم سواه، متقدماً في الفقه، معروفاً به، قوياً في النحو فيما يكتبه، عارفاً بالكلام والجدل مبرزاً فيه، حافظاً لكتب اللغة، راوية للأخبار، بصيراً بالنجوم، عالماً مطلعاً على علوم الأوائل، عالي الطبقة فيها، وكان صديقاً لكل وزراء عصره، مداحاً لهم، آنساً بالمبرد وثعلب وأمثالهما، من علماء الوقت، مفضلاً عندهم، وكانت له ببلده دار علم قد جعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم، وقفاً على كل طالب للعلم، لا يمنع أحد من دخولها إذا جاءها غريب يطلب الأدب، وإن كان معسراً أعطاه ورقاً وورقاً. تفتح في كل يوم، ويجلس فيها إذا عاد من ركوبه، ويجتمع إليه الناس فيملي عليهم من شعره وشعر غيره ومصنفاته، مثل الباهر وغيره من مصنفاته الحسان، ثم يملي من حفظه من الحكايات المستطابة، وشيئاً من النوادر المؤلفة، وطرفاً من الفقه وما يتعلق به.

وكان جماعة من أهل الموصل حسدوه على محله وجاهه عند الخلفاء والوزراء والعلماء، وكان قد جحد بعض أولاده وزعم أ،ه ليس منه، فعاندوه بسببه، وزعموا أنه نفاه ظلماً، واجتهدوا أن يلحقوه به، فما تم لهم، فاجتمعوا وكتبوا فيه محضراً، وشهدوا عليه فيه بكل قبيح عظيم، ونفوه عن الموصل، فانحدر هارباً منهم إلى مدينة السلام، ومدح المعتضد بقصيدة يشكو فيها ما اله منهم، ويصف ما يحسنه من العلوم، ويستشهد بثعلب والمبرد وغيرهما. أولها:
أجدك ما ينفك طيفك سارياً ... مع الليل مجتاباً إليا الفيافيا
يذكرنا عهد الحمى وزماننا ... بنعمان والأيام تعطي الأمانيا
ليالي مغنى آل ليلى على الحمى ... ونعمان غاد بالأوانس غانيا
وعهد الصبي منهن فينان مورق ... ظليل الضحى من حائط اللهو دانيا
قريب المدى نائي الجوى داني الهوى ... على ما يشاء المستهام مؤاتيا
حلفت بأخياف المخيم من منى ... ومن حل جمعاً والرعان المتاليا
وبالركب يأتمون بطحاء مكة ... على أركب تحكى القسى حوافيا
طواهن طي البيد في غلس الدجى ... ونشر الفيافي والفيافي كما هيا
ولو أني أبثثت ما بي من الجوى ... شماريخ رضوى أو شمام رثى ليا
وإن أطو ما تطوي الجوانح من هوى ... عن الناس تخبرهم بحالي حاليا
أأدخل تحت الضيم والبيد والسرى ... وأيدي المطايا الناعجات عتاديا؟
سأخرج من جلباب كل ملمة ... خروج المعلى والمنيح ورائيا
إذا أنا قابلت الإمام مناجياً ... له بالذي من ريب دهري عنانيا
رميت بآمالي إلى الملك الذي ... أذلت ماسعيه الأسود الضواريا
وما هي إلا روحة وادلاجة ... تنيل الأماني أو تقيم البواكيا
ولي في أمير المؤمنين مدائح ... ملأت بها الآفاق حسن ثنائيا
وأمت بي الآمال لا طالباً جدىً ... ولا شاكياً إنفاض حالي وماليا
ولكنني أشكو عدواً مسلطاً ... على عداني بغيه عن مجاليا
أيا ابن الولاة الوارثين محمدا ... خلافته دون الموالي مواليا
إذا ما اعتزمت الأمر أبرمت فتله ... ولم تك عن إمضائك العزم وانيا
فلا تك للمظلوم ناداك في الدجى ... لغربته والدفع للظلم ناسيا
وهي مائة وخمسون بيتاً، فيها بعد المدح: ما يحسنه من العلوم الدينية والأدبية، ويتبجح بمعرفته إقليدس وأشكاله، وزيادات زادها في أعماله، وله في صفة الليل:
رب ليل كالبحر هولاً وكالده ... ر امتداداً وكالمداد سوادا
خضته والنجوم توقدن حتى ... أطفأ الفجر ذلك الإيقاد
قال ابن عبد الرحيم: ونقلت من خط جعفر بن محمد الموصلي، من قصيدة في أبي سليمان داود ب حمدان:
أعيجي بنا قبل انبتات حبالك ... جمالك إن الشوق شوق جمالك
قفي وقفة تتلو عليك أوامها ... جوانح لا تروى بغير نوالك
فقد طلعت شمس الضحى بأوارها ... على مستظلات بفيئ ظلالك
ومنها:
بأبناء حمدان الذين كأنهم ... مصابيح لاحت في ليال حوالك
لهم نعم لا أستقل بشكرها ... وإن كنت قد سيرته في المسالك
وخلفت فيه من قريض بدائعاً ... ترى خلفاً من كل باق وهالك
وله من قصيدة في القاسم بن عبيد الله:
ما شأن دارك يا ليلى نناجيها ... فما تجيب ولا ترعى لداعيها
إنا عشية عجنا بالمطي بها ... كنا نحييك فيها لا نحييها
لا ترسلي الطيف إن الطرف في شغل ... عن الكرى بدموع بات يجريها
لأضربن بآمالي إلى ملك ... يقل في قدره الدنيا بما فيها
يا بن الوزارة والمأمول بعد لها ... في سائر الأرض دانيها وقاصيها

ما بال ما اجتاب عرض الأرض من مدحي ... إليك يسري مع الركبان ساريها
لم يأتني نبأ عنها ولا خبر ... واليوم كالحول لي مما أراعيها
وله أيضاً:
وما الموت قبل الموت غير أنني ... أرى ضرعاً بالعسر يوماً لذي اليسر
فدع قولهم ليس الثراء من العلا ... فما الفخر إلا أن يقال هو المثري
إذا أنت لم تبل الصديق فلا تكن ... له آمناً فيما يجن من الأمر
فإن سترت حال امرئ لؤم أصله ... أبي اللؤم إلا أن يبين مع الستر
وله أيضاً:
على الخيف من أكناف برقة أطلال ... دوارس عفتها ببرقة أحوال
ومبني خيام من فريق تفرقوا ... أيادي سبا والبين للشمل مغتال
وهن نجوم للنجوم ضرائر ... وهن لأكدار الحنادس إقبال
ألا إن تجوال الظباء سوانحاً ... لمن عالج الوجد المبرح آجال
إلى ابن أبي العباس جاذبنا المنى ... ومن دونه بيد يخب بها الآل
ومازالت الأيام تضحك عنهم ... وتشرق عنهم بالمكارم أفعال
أولئك أرباب العلى وبنو الندى ... وقوال فصل يوم مجد وفعال
هم ورثوه الجود والبذل والندى ... فزاد على ما ورثوه ولم يال
وله يرثي البحتري:
تعولت البدائع والقصيد ... وأودي الشعر مذ أودي الوليد
وأظلم جانب الدنيا وعادت ... وجوه المكرمات وهن سود
فقل للدهر يجهد في الرزايا ... فليس وراء فجعته مزيد
وله من قصيدة:
تمكن حب علوة من فؤادي ... وملك أمر غيي والرشاد
فوالي بين دمعي والمآقي ... وعادى بين جفي والرقاد
وقد طلب السلامة في سليمى ... زماناً والسعادة في سعاد
فلا هاتيك أحمدها وصالاً ... ولا هذي ارتضاها في الوداد
وله أيضاً:
أيها القرم الذي أع ... وزنا فيه النديد
وأعانته على المج ... د مساع وجدود
عجل النجح فإن ال ... مطل بالوعد وعيد
قال عبيد الله الفقير إليه مؤلف هذا الكتاب: هذا معنى عن لي من قبل أن أقف على هذه الأبيات، وكنت أعجب كيف فات الأوائل لاشتماله على مطابقة التجنيس وحسن المعنى مدة، حتى وقفت على ما ههنا، فعلمت أن أكثر ما ينسب إلى الشعراء من السرقات، إنما هو توارد الخواطر، ووقوع حافر على حافر. وأما أبياتي فهي:
يا سيداً بذ من يمشي على قدم ... علماً وحلماً وآباء وأجدادا
ماذا دعاك إلى وعد تصيره ... بالخلف والمطل والتسويف إيعادا
لا تعجلن بوعد ثم تخلفه ... فيثمر المطل بعد الود أحقادا
فالوعد بزر ولطف القول منبته ... وليس يجدي إذا لم يلق حصادا

جعفر بن موسى، يعرف بابن الحداد
أبو الفضل النحوي، كتب الناس عنه شيئاً من اللغة وغريب الحديث، وما كان من كتب أبي عبيدة مما سمعه من أحمد بن يوسف التغلبي، وغير ذلك من ثقات المسلمين وأحبارهم. مات لثلاث خلون من شعبان، سنة تسع وثمانين ومائتين، ودفن بقرب منزله ظهر قنطرة البردان.
جعفر بن هارون، بن النحوي، الدينوري
أبو محمد. روى عنه ابن شاذان، في شوال سنة أربع وأربعي وثلاثمائة.
جلد بن جمل الراوية
ما رأيت أحداً من أهل التصنيف، والرواية والتأليف، ذكره في كتاب ترجمة، إلا أن الإسناد إليه كثير، والرواية عنه ظاهرة شهيرة، وكان فيما تدل عليه الأخبار التي يرويها، علامة بأخبار العرب وأشعارها عارفاً بأيامها وأنسابها.
جناد بن واصل الكوفي
أبو محمد، ويقال: أبو واصل، مولى بني عاضدة، من رواة الأخبار والأشعار، لا علم له بالعربية، وكان يصحف ويكسر الشعر، ولا يميز بين الأعاريض المختلفة، فيخلط بعضها ببعض. وهو من علماء الكوفيين القدماء، وكان كثير الحفظ في قياس حماد الراوية.

وحدث المرزباني قال: قال عبد الله بن جعفر: أخبرنا أبو عمرو أحمد بن علي الطوسي عن أبيه قال: ما كانوا يشكون بالكوفة في شعر، ولا يعزب عنهم اسم شاعر، إلا سألوا عنه جناداً، فوجدوه لذلك حافظاً، وبه عارفاً على لحن كان فيه، وكان كثير اللحن جداً، فوق لحن حماد، وربما قال من الشعر البيت والبيتين.
وقال الثوري: اتكل أهل الكوفة على حماد وجناد، ففسدت رواياتهم من رجلين، كانا يرويان لا يدريان، كثرت رواياتهما وقل علمهما. وحدث عبد الله بن جعفر عن جبلة بن محمد الكوفي، عن أبيه قال: مررت بجناد مولى العاضديين وهو ينشد:
إعلم بأن الحق مركبه ... إلا على أهل التقى مستصعب
فاقدر بذرعك في الأمور فإنما ... رزق السلامة من لها يتسبب
فقلت: أبرقت يا جناد؟ قال: وأني ذلك؟ قلت: في هذين البيتين. قال: فلم يستبن ذلك، فتركته وانصرفت.
قال عبد الله: وإنما أنكر عليه أن البيت الأول ينقص من عروضه وتد، والثاني تام فكسره ولم يعلم. والعرب لا تغلط بمثل هذا، وإنما يغلطون بأن يدخلوا عروضين في ضرب واحد من الشعر لتشابههما.. فأما هذا: فالصواب فيه أن يقول:
إعلم بأن الحق مركب ظهره ... إلا على أهل التقى مستصعب
ومعنى قوله أبرقت: خلطت بيتاً مكسوراً ببيت صحيح، فصار كالحبل الأبرق على لوين. والبرقاء من الأرض والحجارة: ذات لونين: سواد وبياض.

جنادة بن محمد بن الحسين الهروي
،
أبو أسامة اللغوي النحوي، عظيم القدر، شائع الذكر، عارف باللغة، أخذ عن أبي منصور الأزهري، وروى عن أبي أحمد العسكري وروى عنه كتبه، ثم قدم مصر فأقام بها، إلى أن قتله الحاكم من الملوك المصرية، المنتسبة إلى العلويين، في سنة تسع وتسعين وثلاثمائة. ذكر ذلك أبو محمد أحمد بن الحسين، بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الروذباري في تاريخه، الذي ألفه في حوادث مصر. وأخذ عنه بمصر أبو سهل الهروي وغيره من أهل مصر وغيرهم، وكان مجلسه بمصر في جامع المقياس، وهو الذي فيه العمود، الذي يعتبرون به زيادة النيل من نقصه.
واتفق في بعض السنين، أن النيل لم يزد زيادة تامة، فقيل للحاكم حينئذ: إن جنادة رجل مشئوم، يقعد في المقياس ويلقي النحو، ويعزم على النيل فلذلك لم يزد. وكان من حدة الحاكم وتهوره، وما عرف من سوء سيرته، لا يتثبت فيما يفعله، ولا يبحث عن صحة ما يبلغه، فأمر من ساعته بقتله، فقتله - رحمه الله - سمعت هذا الحديث في مصر مفاوهة، حكوه عن الأثير بن البيساني، أخي القاضي الفاضل وغيره، واللفظ يزيد يونقص، والله أعلم.
جهم بن خلف المازني الأعرابي
،
من مازن تميم، له اتصال في النسب بأبي عمرو بن العلاء المازني المقرئ، وكان جهم راوية، علامة بالغريب والشعر، وكان في عصر خلف الأحمر، والأصمعي، وكانوا ثلاثتهم متقاربين في معرفة الشعر. ولجهم شعر مشهور في الحشرات والجوارح من الطير. وقيل: إن ابن مناذر قال يمدح جهماً:
سميتم آل العلاء لأنكم ... أهل العلاء ومعدن العلم
ولقد بنى آل العلاء لمازن ... بيتاً أحلوه مع النجم
وجههم القائل في رواية المازني يصف الحمامة:
مطوقة كساها الل ... ه طوقاً لم يكن ذهباً
جمود العين مبكاها ... يزيد أخا الهوى نصبا
مفجعة بكت شجواً ... فبت بشجوها وصبا
على غص تميل به ... جنوب مرة وصبا
ترن عليه إما ما ... ل من شوق أو انتصاب
وما فغرت فماً وبكت ... بلا دمع لها انسكبا
قال: لوه يخاطب المفضل الضبي لما قدم البصرة:
أنت كوفي ولا يح ... فظ كوفي صديقا
لم يكن وجهك يا كو ... في للخير خليقا
جودي بن عثمان
مولىً لآل يزيد بن طلحة العنبسيين، من أهل مورور من بلاد الغرب، ذكره الحميدي والزبيدي، رحل إلى المشرق، فلقي الكسائي والفراء وغيرهما. وهو أول من أدخل كتاب الكسائي إلى الغرب، وسكن قرطبة بعد قدومه من المشرق، وفي حلقته أنكر على عباس بن ناصح قوله:
يشهد بالإخلاص يؤتيها ... لله فيها وهو نصراني

فلحن حيث لم يشدد ياء النسب. وكان بالحضرة رجل من أصحاب عباس بن ناصح، فساءه ذلك، فقصد عباساً وكان مسكنه بالجزيرة، فلما طلع على عباس قال له: ما أقدمك - أعزك الله - في هذا الأوان؟ قال: أقدمني لحنك. قال له عباس: وأي لحن؟ فأعلمه. فقال له: ألا أنشدهم قول عمران ابن حطان:
يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدناني
فلما سمع البيت كر راجعاً. فقال له عباس: لو نزلت فأقمت عندنا. فقال: ما بي إلى ذلك من حاجة، ثم قدم قرطبة، واجتمع بجودي وأصحابه، فأعلمهم ما قال ووافقوه.

باب الحاء
حبشي بن محمد، بن شعيب الشيباني
أبو الغنائم النحوي الضرير، من أهل واسط، من ناحية تعرف بالأفشولية. مات في ذي القعدة، سنة خمس وستين وخمسمائة. وكان قد ورد واسط، وقرأ بها القرآن وشيئاً من النحو، ثم قدم بغداد وأقام بها، وقرأ على ابن الشجري العلوي، واللغة على الشيخ أبي منصور الجواليقي، وسمع منهما ومن قاضي المارستان. وكان عارفاً بالنحو واللغة والعربية، تخرج به جماعة من أهل الأدب، كمصدق بن شبيب، وكان يحسن الثاء عليه ويقول: به تخرجت، لأن الشيخ ابن الخشاب، كان مشغولاً عنا، ويض علينا بعلمه، فكان انعكافنا على حبشي. وكان مع هذا العلم، إذا خرج إلى الطريق بغير قائد لا يهتدي كما يهتدي العميا، حتى سوق الكتب الذي كان يأتيه في كل ليلة عشرين سنة، ولم يكن بعيداً عن منزله.
حبيش بن عبد الرحمن أبو قلابة
وقيل: حبيش بن منقذ. كان أحد الرواة الفهمة. وكان بينه وبين الأصمعي مماظة لأجل المذهب، لأن الأصمعي - رحمه الله - كان سنياً حسن الاعتقاد، وكان أبو قلابة شيعياً رافضياً، ولما بلغته وفاة الأصمعي شمت به وقال:
أقول لما جاءني نعيه ... بعداً وسحقاً لك من هالك
يا شر ميت خرجت نفسه ... وشر مدفوع إلى مالك.
وله أيضاً فيه:
لعن الله أعظماً حملوها ... نحو دار البلى على خشبات
أعظماً تبغض النبي وأهل البي ... ت والطيبين والطيبات
وكان أبو قلابة صديقاً لعبد الصمد بن المعذل، وبينهما مجالسة وممازحة، وله معه أخبار.
حدث المرزباني قال: قال أنشدت أبا قلابة قولي فيه:
يا رب إن كان أبو قلابة ... يشتم في خلوته الصحابهْ
فابعث عليه عقرباً دبابهْ ... تلسعه في طرف السبابهْ
واقرن إليه حية منسابهْ ... وابعث على جوخانه سنجابهْ
قال: وابو قلابة ساكت. فلما قلت: وابعث على جوخانه سنجابه، قال: الله الله، ليس مع ذهاب الخير عمل. حدث المبرد في الروضة، حدثني عبد الصمد ابن المعذل قال: جئت أبا قلابة الجرمي، وهو أحد الرواة الفهمة، ومعه الأرجوزة التي نسبت إلى الأصمعي، وهي:
تهزأ مني أخت آل طيسلهْ ... قالت أراه كاللقي لا شيء لهْ
قال: فسألته أن يدفعها إلي، فأبى. فعملت أرجوزتي التي أولها:
تهزأ مني وهي رود طلهْ ... أن رأت الأحناء مقفعلهْ
قالت أرى شيب العذار احتلهْ ... والورد من ماء اليرنا حلهْ
قال: ودفعتها إليه على أنها لبعض الأعراب، وأخذت منه تلك، ثم مضى أبو قلابة إلى الأصمعي يسأله عن غريبها. فقال له: لمن هذه؟ قال: لبعض الأعراب. فقال له: ويحك، هذه لبعض الدجالين دلسها عليك، أما ترى فيها كيت وكيت وكيت؟ قال: فخزي أبو قلابة واستحي.
حبيش بن موسى الضبي
صاحب كتاب الأغاني الذي ألفه للمتوكل، وذكر في هذا الكتاب أشياء لم يذكرها غسحاق، ولا عمرو بن نانة، وذكر من أسماء المغنيين والمغنيات في الجاهلية والإسلام كل طريف غريب. وله: كتاب الأغاني على حروف المعجم، وكتاب مجيدات المغنيات.
حسان بن مالك،اللغوي الأندلسي

بن أبي عبيدة، اللغوي الأندلسي كنيته أبو عبدة الوزير، من أئمة اللغة والأدب، وأهل بيت جلالة ووزارة. مات عن سن عالية. قيل: سنة عشرين وثلاثمائة. له كتاب على مثال كتاب أبي السري سهل بن أبي غالب، الذي ألفه في أيام الرشيد، وسماه كتاب ربيعة وعقيل، وهو من أحسن ما ألف في هذا المعنى، وفيه من أشعاره ثلاثمائة بيت. وذاك أنه دخل على المنصور بن أبي عامر، وبين يديه كتاب السري، وهو معجب به، فخرج من عنده وعمل هذا الكتاب، وفرغ منه تأليفاً ونسخاً، وجاء به في مثل ذلك اليوم من الجمعة الأخرى، وأراه إياه، فسر به ووصله عليه. وكتب أبو عبدة للمستظهر عبد الرحمن ابن هشام، بن عبد الجبار، بن عبد الرحمن التاجر، المسمى بالخلافة أيام الفتنة، وكان استوزره:
إذا غبت لم أحضر وإن جئت لم أسل ... فسيان مني مشهد ومغيب
فأصبحت تيمياً وما كنت قبلها ... لتيم ولكن الشبيه نسيب
أشار في هذا لابيت إلى قول الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يسأذنون وهم شهود
قال ابن خاقان: وكان لأبي عبدة أيام الفتنة حين أدجت الفتنة ليلها، وأزجت إبلها وخيلها. اغتراب كاغتراب الحارث بن مضاض، واضطراب بين الموالي والمواض، كالحية النضناض، ثم اشتهر بعد، وافتر له السعد، وفي تلك المدة يقول يتشوق إلى أهله:
سقى بلداً أهلي به وأقاربي ... غواد بأثقال الحيا وروائح
وهبت عليهم بالعشي وبالضحى ... نواسم من برد الظلال فوائح
تذكرتهم، والنأي قد حال دونهم ... ولم أنس لكن أوقد القلب لافح
ومما شجاني هاتف فوق أيكة ... ينوح ولم يعلم بما هو نائح
فقلت: اتئد يكفيك أني نازح ... وأن الذي أهواه عني نازح
ولي صبية مثل الفراخ بقفرة ... مضى حاضناها فاطحتها الطوائح
إذا عصفت ريح أقامت رؤوسها ... فلم تلقها إلا طيور بوارح

الحسن بن إبراهيم بن زولاق
أبو محمد، هو الحسن بن إبراهيم، بن الحسين، بن الحسن ابن علي، ب خلف، بن راشد، بن عبد الله، بن سليمان، ابن زولاق المصري الليني، من أعيان علماء أهل مصر، ووجوه أهل العلم فيهم. وله عدة تصانيف في تواريخ المصرية. مات يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة، سنة ست وثمانين وثلاثمائة، في أيام المتلقب بالعزيز بالله. وقيل: إنه مات في ذي القعدة، سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، في أيام الحاكم، والأول أظهر. وكان لمحبته للتواريخ، والحرص على جمعها وكتبها، كثيراً ما ينشد:
مازلت تكتب في التاريخ مجتهداً ... حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا

وله من الكتب: كتاب سيرة محمد بن طفج الأخشيد، كتاب سيرة جوهر، كتاب سيرة الماذرائيين، كتاب التاريخ الكبير على السنين، كتاب فضائل مصر، كتاب سيرة كافور، كتاب سيرة المعز، كتاب سيرة العزيز، وغير ذلك. وكان قد سمع الحديث ورواه، فسمع منه عبد الله بن وهبان، بن أيوب، بن صدقة وغيره وحدث ابن زولاق في كتاب سيرة العزيز المتغلب على مصر، المتسب إلى العلويين من تصنيفه، حاكياً عن نفسه قال: لما خلع على الوزير يعقوب بن كلس، وكان يهودياً فأسلم، وكان مكيناً من العزيز، فلما أسلم قلده وزارته، وخلع عليه. قال ابن زولاق: وكنت حاضراً مجلسه، فقلت: أيها الوزير، روى الأعمش عن زيد ابن وهب، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: حدثني الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه). وهذا علو سماوي. فقال الوزير: ليس الأمر كذلك، وإنما أفعالي وتوفيراتي وكفايتي، ونيابتي ونيتي وحرصي، الذي كان يهجى ويعاب. وقد مات قوم ممن كان، وبقي قوم، وكان هذا القول بحضرة القوم الذين حضروا قراءة السجل، الذي خرج من العزيز في ذكر تشريفه. قال ابن زولاق: فأمسكت وقلت: - وفق الله الوزير - ، إنما رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً صحيحاً، وقمت وخرجت وهو ينظر إلي، وانصرف الوزير إلى داره بما حباه العزيز به. قال: فحدثني أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم الحسيني الزينبي قال: عاتبت الوزير على ما تكلم به وقلت: إنما روى حديثاً صحيحاً بجميع طرقه، وما أراد إلا الخير. فقال لي: خفي عنك، إنما هذا مثل قول المتنبئ:
ولله سر في علاك وإنما ... كلام العدى ضرب من الهذيان
وأجمع الاس على أن ذلك هجو في كافور، لأنه أعلمه أنه تقدم بغير سبب. وابن زولاق هجاني على لسان صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، فما أمكني السكوت. وكان في نفسي شيء، فجعلت كلامه سبباً. قال أبو عبد الله الزينبي: فأشهد أن الوزير لم ينقض يومه، حتى تكلم بمثل كلامي، الذي أوردته عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أن رجلاً عرض عليه رقعة فقال: كم رقاع، كم حرص هو ذا الرجل، يطوف البلدان، ويتقلب في الدول ويسافر فلا ينجح وآخر يأتيه أمله عفواً، قد فرغ الله من الأرزاق والآجال، والمراتب، ومن الشقاوة والسعادة، ثم التفت إلي وضحك، وقطع كلامه. قال ابن زولاق: وكنت هنأت ابن رشيق بهذه التهنئة، في مجلس عظيم حفل، حي جاءته الخلع من بغداد والتقليد وألبسوه. ورويت له هذا الخبر، فبكى وشكر، وحسدني على ذلك أكثر الحاضرين، وكافأني عليه أحسن مكافأة.

الحسن بن أحمدبابن الحائك الهمداني
،
بن يعقوب، يعرف بابن الحائك الهمداني ومن مفاخرها. له: كتاب الإكليل في مفاخر قحطان، وذكر اليمن. وله قصيدة سماها الدامغة في فضل قحطان، أولها:
ألا يا دار لولا تنطقيا ... فإنا سائلوك فخبرينا
وله كتاب جزيرة العرب وأسماء بلادها، وأوديتها ومن يسكنها. وقرأت بخط الأمير عبد الكريم بن علي البيساني، أخي الفاضل عبد الرحيم في فهرست كتبه، وذكر خبراً من كتاب الإكليل في أنساب حمير وأخبارها، تصيف الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني، وكان في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة.
الحسن بن أحمد،الفارسي

بن عبد الغفار، ابن سليمان الفارسي،أبو علي الفارسي لامشهور في العالم اسمه، المعروف تصنيفه ورسمه، أوحد زمانه في علم العربية. كان كثير من تلامذته يقول: هو فوق المبرد. قال أبو الحسن علي ابن عيسى الربعي: هو أبو علي الحسن، بن أحمد، بن عبد الغفار، بن محمد، بن سليمان، بن أبان الفارسي، وأمه سدوسية من سدوس، شيبان من ربيعة الفرس. مات ببغداد، سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، في أيام الطائع لله، عن نيف وتسعين سنة. أخذ النحو عن جماعة من أعيان أهل هذا الشأن، كأبي إسحاق الزجاج، وأبي بكر بن السراج، وأبي بكر مبرمان، وأبي بكر الخياط. وطوف كثيراً في بلاد الشام، ومضى إلى طرابلس، فأقام بحلب مدة، وخدم سيف الدولة بن حمدان، ثم رجع إلى بغداد، فأقام بها إلى أن مات. حدث الخطيب قال: قال التنوخي: ولد أبو علي الفارسي بفسا، وقدم قغداد واستوطها، وعلت منزلته في النحو حتى قال قوم من تلامذته: هو فوق المبرد وأعلم منه. وصنف كتباً عجيبة حسنة لم يسبق إلى مثلها، واشتهر ذكره في الآفاق، وبرع له غلمان حذاق، مثل عثما بن جني، وعلي بن عيسى الربعي وخدم الملوك ونفق عليهم، وتقدم عند عضد الدولة فكان عضد الدولة يقول: أنا غلام أبي علي النحوي في النحو، وغلام أبي الحسين الرازي الصوفي في النجوم. وكان متهماً بالاعتزال.
وذكر أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي، في كتاب شرح الجمل للزجاجي، في باب التصريف منه: يحكى عن أبي علي الفارسي: أنه حضر يوماً مجلس أبي بكر الخياط، فأقبل أصحابه على أبي بكر يكثرو عليه المسائل، وهو يجيبهم ويقيم عليها الدلائل. فلما أنفدوا أقبل على أكبرهم سناً، وأكبرهم عقلاً، وأوسعهم علماً عند نفسه. فقال له: كيف تبني من سفرجل مثل عنكبوت؟ فأجابه مسرعاً سفرروت. فحي سمعها قام من مجلسه وصفق بيديه، وخرج وهو يقول: سفرروت. فأقبل أبو بكر على أصحابه، وقال: - لا بارك الله فيكم، ولا أحسن جزاءكم - ، خجلاً مما جرى، واستحياء من أبي علي.
ومما يشهد بصفاء ذهنه وخلوص فهمه: أنه سئل - قبل أن ينظر في العروض - عن خرم متفاعلن، فتفكر وانتزع الجواب فيه من النحو فقال: لا يجوز، لأن متفاعلن ينقل إلى مستفعلن إذا أضمر، فلو خرم لتعرض للابتداء بالساكن. إذا الخرم: حذف الحرف الأول من البيت. والإضمار تسكين ثانية. ولما خرج عضد الدولة لقتال ابن عمه عز الدولة، بختيار بن معز الدولة، دخل عليه أبو علي الفارسي فقال له: ما رأيك في صحبتنا؟ فقال له: أنا من رجال الدعاء لا من رجال اللقاء، - فخار الله للملك في عزيمته، وأنجح قصده في نهضته، وجعل العافية زاده، والظفر تجاهه، والملائكة أنصاره - . ثم أنشده:
ودعته حيث لا تودعه ... نفسي ولكنها تسير معه
ثم تولى وفي الفراد له ... ضيق محل وفي الدموع سعهْ
فقال له عضد الدولة: - بارك الله فيك - فإني واثق بطاعتك، وأتيقن صفاء طويتك، وقد أنشدنا بعض أشياخنا بفارس:
قالوا له إذ سار أحبابه ... فبدلوه البعد بالقرب
والله ما شطت نوى ظاعن ... سار من العين إلى القلب

فدعا له أبو علي، وقال: أيأذن مولانا في نقل هذين البيتين؟ فأذن فاستملاهما منه. وكان مع عضد الدولة يوماً في الميدان فسأله: بماذا ينتصب الاسم المستثنى، في نحو قام القوم إلا زيداً؟ فقال أبو علي: ينتصب بتقدير أستثني زيداً. فقال له عضد الدولة: لم قدرت أستثي زيداً. فقال له عضد الدولة: لم قدرت أستثني زيداً فنصبت؟ هلا قدرت امتنع زيد. فرفعت، فقال أبو علي: هذا الذي ذكرته جواب ميداني، فإذا رجعت قلت لك الجواب الصحيح. وقد ذكر أبو علي في كتاب الإيضاح: أنه انتصب بالفعل المتقدم بتقوية إلا. قالوا: ولما صنف أبو علي كتاب الإيضاح، وحمله إلى عضد الدولة، استقصره عضد الدولة، وقال له: ما زدت على ما أعرف شيئاً، وإنما يصلح هذا للصبيان. فمضى أبو علي، وصنف التكملة، وحملها إليه. فلما وقف عليها عضد الدولة قال: غضب الشيخ، وجاء بما لا نفهمه نحن ولا هو. وحكى ابن جني عن أبي علي أنه كان يقول: أخطئ في مائة مسألة لغوية، ولا أخطئ في واحدة قياسية. قال أبو الفتح بن جني: قال لي أبو علي الفارسي: قرأ علي علي بن عيسى الرماني كتاب الجمل وكتاب الموجز لابن السراج في حياة ابن السراج. وكان أبو طالب العبدي يقول: لم يكن بين أبي علي وبين سيبويه، أحد أبصر بالنحو من أبي علي. قرأت بخط سلامة بن عياض النحوي ما صورته: وقفت على نسخة من كتاب الحجة لأبي علي الفارسي، في صفر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة بالري، في دار كتبها التي وقفها الصاحب ابن عباد - رحمه الله - وعلى ظهرها بخط أبي علي ما حكايته هذه: - أطال الله بقاء سيدنا الصاحب الجليل، أدام الله عزه ونصره وتأييده وتمكينه - ، كتابي في قراء الأمصار، الذين بينت قراءتهم في كتاب أبي بكر أحمد بن موسى، المعروف بكتاب السبعة، فما تضمن من أثر وقراءة ولغة، فهو عن المشايخ الذين أخذت ذلك عنهم، وأسندته إليهم، فمتى أثر سيدنا الصاحب الجليل - أدام الله عزه ونصره وتأييده وتمكينه - حكاية شيء منه عنهم، أو عني لهذه المكاتبة فعل. وكتب الحسن بن أحمد الفارسي بخطه: ولأبي علي من التصانيف: كتاب الحجة، كتاب التذكرة، قد ذكرت حاله في ترجمة محمد ابن طوس القصري، كتاب أبيات الإعراب، كتاب الإيضاح الشعري، كتاب الإيضاح النحوي، كتاب مختصر عوامل الإعراب، كتاب المسائل الحلبية، كتاب المسائل البغدادية، كتاب المسائل الشيرازية، كتاب المسائل القصرية، كتاب الأغفال، وهو مسائل أصلحها على الزجاج، كتاب المقصور والممدود، كتاب نقص الهاذور كتاب الترجمة، كتاب المسائل المنثورة، كتاب المسائل الدمشقية، كتاب أبيات المعاني، كتاب التتبع لكلام أبي علي الجبائي في التفسير، نحو مائة ورقة، كتاب تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة)، كتاب المسائل البصرية، كتاب المسائل العسكرية، كتاب المسائل المصلحة من كتاب ابن السراج، كتاب المسائل المشكلة، كتاب المسائل الكرمانية، ذكر المعري في رسالة الغفران: أن أبا علي الفارسي كان يذكر أن أبا بكر بن السراج، عمل من الموجز النصف الأول لرجل بزاز، ثم تقدم إلى أبي علي الفارسي بإتمامه. قال: وهذا لا يقال إنه من إنشاء أبي علي، لأن الموضوع في الموجز، هو منقول من كلام ابن السراج في الأصول وفي الجمل، فكأن أبا علي جاء به على سبيل النسخ، لا أنه ابتدع شيئاً من عنده نقلت من خط الشيخ أبي سعيد مع ب خلف البستي، مستوفي بيتي الزرد والفرس الملكشاهي بتوليته من نظام الملك، من كتاب ألفه بخطه، وكان عالماً فاضلاً حاسباً.

قال الأستاذ أبو العلاء الحسين بن محمد، بن مهرويه في كتابه الذي سماه أجناس الجواهر: كنت بمدينة السلام أختلف إلى أبي علي الفارسي النحوي - رحمه الله - وكان السلطان رسمل له أن ينتصب لي كل أسبوع يومين، لتصحيح كتاب التذكرة، لخزانة كافي الكفاة، فكنا إذا قرأنا أوراقاص منه تجارينا في فنون الآداب، واجتنينا من فوائده ثمار الألباب ورتعنا في رياض ألفاظه ومعانيه، والتقطنا الدر المنثور من سقاط فيه، فأجرى يوماً بعض الحاضرين ذكر الأصمعي، وأسرف في الثناء عليه، وفضله على أعيان العلماء في أيامه، فرأيته - رحمه الله - كالمنكر لما كان يورده، وكان فيما ذكر من محاسنه، ونشر من فضائله أن قال: من ذا الذي يجسر أن يخطئ الفحول من الشعراء غيره؟ فقال أبو علي: وما الذي رد عليهم؟ فقال الرجل: أنكر على ذي الرمة مع إحاطته بلغة العرب ومعانيها، وفضل معرفته بأغراضها وماميها، وأنه سلك نهج الأوائل في وصف المفاوز، إذا لعب السراب فيها، ورقص الآل في نواحيها، ونعت الجريال وقد سبح على جدله، والظليم وكيف ينفر من ظله؟. وذكر الركب وقد مالت طلاهم من غلبة المنام، حتى كأنهم صرعتهم كؤوس المدام، فطبق مفصل الإصابة في كل باب، وساوى الصدر الأول من أرباب الفصاحة، وجارى القروم البزل من أصحاب البلاغة، فقال له الشيخ أبو علي: وما الذي أنكر على ذي الرمة؟ فقال قوله: وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم لأنه كان يجب أن ينونه، فقال: أما هذا فالأصمعي مخطئ فيه، وذو الرمة مصيب، والعجب أن يعقوب ب السكيت قد وقع عليه هذا السهو في عبض ما أنشده. فقلت: إن رأى الشيخ أن يصدع لنا بجلية هذا الخطإ تفضل به، فأملى علينا: أنشد ابن السكيت لأعرابي من بني أسد:
وقائلة أسيت فقلت جير ... أسى إنني من ذاك إنه
أصابهم الحمى وهم عواف ... وكن عليهم نحساً لعنه
فجئت قبورهم بدءاً ولما ... فناديت القبور فلم يجبنه
وكيف يجيب أصداء وهام ... وأبدان بدرن وما نخرنه
قال يعقوب: قوله جير أي حقاً، وهي مخفوضة غير منوة، فاحتاج إلى التوين: قال أبو علي: هذا سهو منه، لأن هذا يجري منه مجرى الأصوات، وباب الأصوات كلها، والمبنيات بأسرها لا ينون، إلا ما خص منها لعلة الفرقان فيها، بين نكرتها ومعرفتها، فما كان منها معرفة جاء بغير تنوين، فإذا نكرته نونته، ويكون من ذلك أنك تقول في الأمر: صه ومه، تريد السكوت يا فتى، فإذا نكرت قلت: صه ومه، تريد سكوتاً. وكذلك قول الغراب: غاق أي الصوت المعروف من صوته، وقول الغراب غاق، أي صوتاً، وكذلك إيه يا رجل، تريد الحديث، وإيه تريد حديثاً.
وزعم الأصمعي: أن ذا الرمة أخطأ في قوله: وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم. وكان يجب أن ينونه ويقول إيه منونة، وهذا من أوابد الأصمعي، فاحتاج إلى التنوين. قال أبو لعي: هذا سهو من غير علم. فقوله جير بغير تنوين، في موضع قوله الحق، وتجعله نكرة في موضع آخر فتنونه، فيكون معناه: قلت حقاً. ولا مدخل للضرورة في ذلك، إنما التنوين للمعنى المذكور، وبالله التوفيق. وتنوين هذا الشاعر على هذا التقدير.
قال يعقوب: قوله: أصابهم الحمى: يريد الحمام. وقوله بدرن: أي طعن في بوادرهم بالموت. والبادرة: النحر. وقوله: فجئت قبورهم بدءاً: أي سيداً، وبدء القوم: سيدهم. وبدء الجزور: خير أنصبائها. وقوله: ولما أي ولم أك سيداً إلا حين ماتوا فإني سدت بعدهم.
قرأت في معجم الشعراء للسلفي: أنشدني أبو جعفر، أحمد بن محمد بن كوثر، المحاربي الغرناطي بديار مصر، قال: أنشدنا أبو الحسن علي أحمد بن خلف النحوي لنفسه بالأندلس، في كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي النحوي:
أضع الكرى لتحفط الإيضاح ... وصل الغدو لفهمه برواح
هو بغية المتعلمين ومن بغى ... حمل الكتاب يلجه بالمفتاح
لأبي علي في الكتاب إمامة ... شهد الرواة لها بفوز قداح
يفضي إلى أسراره بنوافذ ... من علمه بهرت قوى الأمداح
فيخاطب المتعلمين بلفظه ... ويحل مشكله بومضة واحي
مضت العصور فكل نحو ظلمة ... وأتى فكان النحو ضوء صباح

أوصى ذوي الإعراب أن يتذاكروا ... بحروفه في الصحف والألواح
فإذا هم سمعوا النصيحة أنجحوا ... إن النصيحة غبها لنجاح
وكتب الصاحب إلى أبي علي في الحال المقدم ذكرها: كتابي - أطال الله بقاء الشيخ، وأدام جمال العلم والأدب بحراسة مهجته، وتنفيس مهلته - ، وأنا سالم ولله حامد، وإليه في الصلاة على النبي وآله راغب، ولبر الشيخ - أيده الله - بكتابه الوارد شاكر.
فأما أخونا أبو الحسين قريبه - أعزه الله - فقد ألزمي بإخراجه إلى أعظم منة، وأتحفني من قربه بعلق مضنة، لولا أنه قلل المقام، واختصر الأيام. ومن هذا الذي لا يشتاق ذلك المجلس؟ وأنا أحوج من كل حاضريه إليه، وأحق منهم بالمثابرة عليه، ولكن الأمور مقدرة، وبحسب المصالح ميسرة، غير أا ننتسب إليه على البعد وقتبس فوائده عن قرب، وسيشرح هذا الأخ هذه الجملة حق الشرح بإذن الله. والشيخ - أدام الله عزه - يبرد غليل شوقي إلى مشاهدته، بعمارة ما افتتح من البر بمكاتبته، ويقتصر على الخطاب الوسط دون الخروج في إعطاء الرتب إلى الشطط، كما يخاطب الشيخ المستفاد منه التلميذ الآخذ عنه، ويبسط في حاجاته، فإني أظنني أجدر إخوانه بقضاء مهماته، إن شاء الله تعالى. قد اعتمدت على صاحبي أبي العلاء - أيده الله - لاستساخ التذكرة، وللشيخ - أدام الله عزه - رأيه الموفق في التمكين، من الأصل والإذن بعد النسخ في العرض - بإذن الله تعالى - .
قال حدثني علم الدين، أبو محمد القاسم بن أحمد الأندلسي - أيده الله تعالى - قال: وجدت في مسائل نحوية، ننسب إلى ابن جني قال: لم أسمع لأبي علي شعراً قط، إلى أن دخل إليه في بعض الأيام رجل من الشعراء، فجرى ذكر الشعر، فقال أبو لعي: إني لأغبطكم على قول هذا الشعر، فإن خاطري لا يواتيني على قوله، مع تحققي للعلوم التي هي من موارده. فقال له ذلك الرجل: فما قلت قط شيئاً منه ألبته؟ فقال: ما أعهد لي شعراً إلا ثلاثة أبيات قلتها في الشيب، وهي قولي:
خضبت الشيب لما كان عيباً ... وخضب الشيب أولى أن يعابا
ولم أخضب مخافة هجر خل ... ولا عيباً خشيت ولا عتابا
ولكن المشيب بدا ذميماً ... فصيرت الخضاب له عقابا
فاستحسناها وكتبناها عنه، أو كما قال. لأني كتبتها عن المفاوهة، ولم أنقل ألفاظها. أخبر أبو الحسن علي بن عمر الفراء، عن أبي الحسين، نصر بن أحمد، بن نوح المقرئ، قال: أنبأا أبو الحسن علي بن عبيد الله السمسمي اللغوي ببغداد، أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد، بن عبد الغفار الفارسي النحوي، قال: جئت إلى أبي بكر السراج لأسمع منه الكتاب. وحملت إليه ما حملت، فلما انتصف الكتاب عسر علي في تمامه، فانقطعت عنه لتمكني من الكتاب، فقلت لنفسي بعد مدة: إن سرت إلى فارس، وسئلت عن تمامه، فإن قلت نعم، كذبت، وإن قلت لا، سقطت الرواية والرحلة. ودعتني الضرورة، فحملت إليه رزمة، فلما ابصرني من بعيد أنشد:
وكم تجرعت من غيظ ومن حزن ... إذا تجدد حزن هو الماضي
وكم غضبت فما باليتم غضبي ... حتى رجعت بقلب ساخط راضي
قرأت بخط الشيخ أبي محمد ب الخشاب: كان شيخنا، يعني أبا منصور موهوب بن الخضر الجواليقي قلما ينبل عنده ممارس للصناعة النحوية، ولو طال فيها باعه، ما لم يتمكن من علم الرواية، وما تشتمل عليه من ضروبها، ولا سيما رواية الأشعار العربية، وما يتعلق بمعرفتها من لغة وقصة، ولهذا كان مقدماً لأبي سعيد السيرافي، على أبي علي الفارسي - رحمهما الله - . وأبو علي أبو علي في نحوه. وطريقة أبي سعيد في النحو معلومة. ويقول: أبو سعيد أروى من أبي علي، وأكثر تحققاً بالرواية، وأثرى منه فيها: وقد قال لي غير مرة: لعل أبا علي لم يكن يرى ما يراه أبو سعيد، من معرفة هذه الأخباريات والأنساب، وما جرى في هذا الأسلوب - كبير أمر - .

قال الشيخ أبو محمد: ولعمري إنه قد حكي عنه، أعني أبا علي أنه كان يقول: لأ أخطئ في خمسين مسألة مما بابه الرواية، أحب إلي من أن أخطئ في مسألة واحدة قياسية. هذا كلامه أو معناه، على أنه كان يقول: قد سمعت الكثير في أول الأمر، وكنت أستحي أن أقول: أثبتوا اسمي. قال الشيخ أبو محمد وكثيراً ما تحصي السقطات على الحذاق من أهل الصناعة النحوية، لتقصيرهم في هذا الباب، فمنه يذهبون، ونم جهته يؤتو. تمام هذا الكلام في أخبار ابن الخشاب.
وقرأت في تاريخ أبي غالب بن مهذب المعري، قال: حدثني الشيخ أبو العلاء، أن أبا علي مضى إلى العراق، وصار له جاه عظيم عند الملك فناخسرو. فوقعت لبعض أهل المعرة حاجة في العراق، احتاج فيها إلى كتاب من القاضي أبي الحسن سليمان، إلى أبي علي. فلما وقف على الكتاب قال: إني قد نسيت الشام وأهله، ولم يعره طرفه.
وذكر شيخنا أبو علي: أن بعض إخوانه سأله بفارس إملاء شيء من ذلك، فأملى عليه صدراً كثيراً، وتقصى القول فيه، وأنه هلك في جملة ما فقده، وأصيب به من كتبه. قال عثمان بن جي - رحمه الله - : وإن وجدت نسخة وأمكن الوقت، عملت بإذن الله كتاباً أذكر فيه جميع المعتلات في كلام العرب، وأميز ذوات الهمزة من ذوات الواو والياء، وأعطي كل جزء منهما حظه من القول، مستقصى - إن شاء الله تعالى - .
وحدثني أيضاً أنه وقع حريق بمدينة السلام، فذهب به جميع علم البصريين قال: وكنت قد كتبت ذلك كله بخطي، وقرأنه على أصحابنا، فلم أجد من الصندوق الذي احترق شيئاً ألبتة، إلا نصف كتاب الطلاق عن محمد ابن الحسن. وسألته عن سلوته وعزائه، فنظر إلي عاجباً ثم قال: بقيت شهرين لا أكلم أحداً حزناً وهماً، وانحدرت إلى البصرة لغلبة الفكر علي، وأقمت مدة ذاهلاً متحيراً انقضى كلامه في هذا الفصل.
قرأت في المسائل الحلبية، نسخة كتاب كتبه أبو علي إلى سيف الدولة جواباً عن كتاب ورد عليه منه، يرد فيه على ابن خالويه في أشياء أبلغها سيف الدولة عن أبي علي نسخته: قرأ - أطال الله بقاء سيدنا الأمير سيف الدولة - عبد سيدنا الرقعة النافذة من حضرة سيدنا، فوجد كثيراً منها شيئاً لم تجر عادة عبده به، ولاسيما مع صاحب الرقعة، إلا أنه يذكر من ذلك ما يدل على قلة تحفظ هذا الرجل فيما يقوله، وهو قوله: ولو بقي عمر نوح ما صلح أن يقرأ على السيرافي، مع علمه بأن ابن هزاذ السيرافي يقرأ عليه الصبيان ومعلموهم، أفلا أصلح أن أقرأ على من يقرأ عليه الصبيان؟ هذا ما لاخفاء به. كيف وهو قد خلط فيما حكاه عني؟ وأني قلت: إن السيرافي قد قرأ علي ولم أقل هذا. إنما قلت: تعلم مني أو أخذ عني هو وغيره ممن ينظر اليوم في شيء من هذا العل. وليس قول القائل: تعلم مني مثل قرأ علي، لأنه قد يقرأ عليه من لا يتعلم منه وقد يتعلم منه من لا يقرأ عليه. وتعلم ابن بهزاذ مني في أيام محمد بن السري وبعده، لا يخفى على من كان يعرفني ويعرفه، كعلي بن عيسى الوراق، ومحمد بن أحمد اب يونس. ومن كان يطلب هذا الشأن من بي الأزرق الكتاب وغيرهم. وكذلك كثير من الفرس الذين كانوا يرونه يغشاني في صف شويز، كعبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي، لأنه كان جاري بيت بيت قبل أن يموت الحسن بن جعفر أخوه، فينتقل إلى داره التي ورثها عنه في درب الزعفراني.
وأما قوله إني قلت: إن ابن الخياط كان لا يعرف شيئاً، فغلط في الحكاية، كيف أستجيز هذا وقد كلمت ابن الخياط في مجالس كثيرة؟. ولكني قلت: إنه لا لقاء له، لأنه دخل إلى بغداد بعد موت محمد بن يزيد، وصادف أحمد بن يحيى وقد صم صمماً شديداً، لا يخرق الكلام معه سمعه، فلم يمكن تعلم النحو منه، وإنما كان يعول فيما كان يؤخذ عنه، على ما يمله دون ما كان يقرأ عليه، وهذا الأمر لا ينكره أهل هذا الشأن ومن يعرفهم. وأما قوله: قد أخطأ البارحة في أكثر ما قاله. فاعتراف بما إن استغفر الله منه كان حسناً، والرقعة طويلة فيها جواب عن مسائل أخذت عليه. كانت النسخة غير مرضية، فتركتها إلى أن يقع ما أرتضيه. وأكثر النسخ بالحلبيات لا توجد هذه الرقعة فيها.

قرأت بخط أبي الفتح عثمان بن جني الذي لا أرتاب به قال: وسألته - يعني أبا علي - فقلت: أقرأت أنت على أبي بكر؟ فقال: نعم قرأته عليه، وقرأه أبو بكر على أبي سعيد يعني السكري. قال: وكان أبو بكر قد كتب من كتب أبي سعيد كثيراً، وكتب أبي زيد. قال: وذاكرته بكتب أبي بكر وقلت: لو عاش لظهر من جهته علم كثير، وكلاماً هذا نحوه فقال: نعم، إلا أنه كان يطول كتبه. وضرب لذلك مثلاً قد ذهب عني، أظنه - بارك الله لأبي يحيى في كتبه - أو شيئاً نحو ذلك.
قال: وفارقت أبا بكر قبل وفاته وهو يشغل بالعلة التي توفي فيها، ورجعت إلى بلاد فارس، ثم عدت وقد توفي. ورأيت في آخر كتابه في معاني الشعر خطي الذي كان يمله علي لأكتبه فيه، فعلمت أنه لم يزد فيه شيئاً. قال: وكان الأصمعي يتهم في تلك الأخبار التي يرويها. فقلت له: كيف هذا؟ وفيه من التورع ما دعاه إلى ترك تفسير القرآن ونحو ذلك. فقال: كان يفعل ذلك رياء وعناداً لأبي عبيدة، لأنه سبقه إلى عمل كتاب في القرآن، فجنح الأصمعي إلى ذلك.

الحسن بن أحمد، أبو محمد الأعرابي
المعروف بالأسود الغندجاني اللغوي النسابة. وغندجان: بلد قليل الماء، لا يخرج منه إلا أديب أو حامل سلاح. وكان الأسود صاحب دنيا وثروة، وكان علامة نسابة عارفاً بأيام العرب وأشعارها، قيماً بمعرفة أحوالها، وكان مستنده فيما يرويه عن محمد بن أحمد أبا الندى، وهذا رجل مجهول لا معرفة لنا به.
وكان أبو يعلى بن الهبارية الشاعر يعيره بذلك ويقول: ليست شعري، من هذا الأسود الذي قد نصب نفسه للرد على العلماء؟ وتصدى للأخذ على الأئمة القدماء، بماذا نصحح قوله؟ ونبطل قول الأوائل ولا تعويل له فيما يرويه إلا على أبي الندى، ومن أبو الندى في العالم؟ لا شيخ مشهور، ولا ذو علم مذكور. قال المؤلف: ولعمري إن الأمر لكما قال أبو يعلى: هذا رجل يقول: أخطأ ابن الأعرابي في أن هذا الشعر لفلان، إنما هو لفلان بغير حجة واضحة، ولا أدلة لائحة، أكثر من أن يكون ابن الأعرابي قد ذكر من القصيدة أبياتاً يسيرة فينشد هو تمامها، وهذا ما لا يقوم به حجة على أن يكون أعلم من ابن الأعرابي الذي كان يقاوم الأصمعي، وقد أدرك صدراً من العرب الذين عنهم أخذ هذا العلم، ومنهم استمد أولو الفهم. وكان الأسود لا يقنعه أن يرد على أئمة العلم رداً جميلاً، حتى يجعله من باب السخرية والتهكم، وضرب الأمثال والطير. والحكاية عنه مستفاضة في أنه كان يتعاطى تسويد لونه، وأنه كان يدهن بالقطرا، ويقعد في الشمس ليحقق لنفسه التلقيب بالأعرابي، وكان قد رزق في أيامه سعادة، وذاك أنه كان في كنف الوزير العادل أبي منصور بهرام ابن مافنة، وزير الملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة، بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه صاحب شيراز، وقد خطب له ببغداد بالسلطنة. فكان الأسود إذا صنف كتاباً جعله باسمه، فكان يفضل عليه إفضالاً جماً، فأثرى من جهته. ومات أبو منصور الوزير في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
وقرأت في بعض تصانيفه: أنه صنف في شهور سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. وقرئ عليه في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. وللأسود من التصانيف: كتاب السل والسرقة، كتاب فرجة الأديب في الرد على يوسف ب أبي سعيد السيرافي في شرح أبيات سيبويه، كتاب ضالة الأديب في الرد على ابن الأعرابي في النوادر التي رواها ثعلب، كتاب قيد الأوابد في الرد على ابن السيرافي أيضاً في شرح أبيات إصلاح المنطق، كتاب الرد على النمري في شرح مشكل أبيات الحماسة، كتاب نزهة الأديب في الرد على أبي علي في التذكرة، كتاب الخليل مرتب على حروف المعجم، كتاب في أسماء الأماكن:
الحسن بن أحمد، بن عبد الله، بن البناء
أبو علي المقرئ، المحدث الحنبلي. ولد سنة ستوتسعين وثلاثمائة. وقرأ القرآن على أبي الحسن الحمامي وغيره. وسمع الحديث من ابن بشران وغيرهما، وتفقه على القاضي أبي يعلى ب الفراء. ومات في خامس رجب سنة إحدى وسبعين وأربعمائة. وصنف في كل فن حتى بلغت تصانيفه مائة وخمسين مصنفاً. منها: كتاب شرح الإيضاح لأبي علي الفارسي في النحو، رأيته وكان له حلقة بجامع القصر، يفتي فيها ويقرأ الحديث وحلقة بجامع المنصور.

وحدث السمعاني قال: سمعت أبا القاسم بن السمرقندي يقول: كان واحد من أصحاب الحديث اسمه الحسن بن أحمد بن عبد الله النيسابوري، وكان سمع الكثير، وكان ابن البناء يكشط من التسميع بوري ويمد السين، وقد صار الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البنا قال: كذا قيل إنه كان يفعل. قال أبو الفرج: وهذا القول بعيد من الصحة، فإنه قال: كذا قيل ولم يحك عن علمه بذلك، فلا يثبت هذا. والثاني أن الرجل مكثر لا يحتاج إلى الاستزادة لما يسمع، ومتدين ولا يحسن أن يظن بالمتدين الكذب. والثالث أنه قد اشتهرت كثرة رواية أبي علي بن البنا، فأين هذا الرجل الذي يقال له: الحسن بن أحمد بن عبد الله النيسابوري؟ ومن ذكره ومن يعرفه؟ ومعلوم أن من اشتهر سماعه لا يخفى. وقال السمعاني ونقلته من خطه: الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البنا المقرئ الحافظ أبو علي، أحد الأعيان، والمشار إليهم في الزما، له في علوم القرآ والحديث والفقه والأصول والفروع عدة مصنفات. حكى بعض أصحاب الحديث عنه أنه قال: صنفت خمسمائة مصنف، وكان حلو العبارة.
قال السمعاني: وقرأت بخط الإمام والدي: سمعت أبا جعفر محمد بن أبي علي الهمذاني بها يقول: سمعت أبا علي ابن البنا ببغداد. وقال: ذكرني أبو بكر الخطيب في التاريخ بالصدق أو بالكذب؟ فقالوا: ما ذكرك في التاريخ أصلاً فقال: ليته ذكرني ولو في الكذابين.
قال السمعاني: أنبأنا أبو عثمان العصائدي، أنبأنا أبو علي بن البنا قال: كتب إلي بعض إخواني من أهل الأدب كتاباً وضمنه قول الخليل بن أ؛مد:
إن كنت لست معي فالقلب منك معي ... يراك قلبي وإن غيبت عن بصري
العين تبصر ما تهوى وتفقده ... وباطن القلب لا يخلو من النظر
فكتب إليه أبو علي لنفسه:
إذا غيبت أشباحنا كان بيننا ... رسائل صدق في الضمير تراسل
وأرواحنا في كل شرق ومغرب ... تلاقي بإخلاص الوداد تواصل
وثم أمور لو تحققت بعضها ... لكنت لنا بالعذر فيها تقابل
وكم غائب والصدر منه مسلم ... وكم زائر في القلب منه بلابل
فلا تجزعن يوماً إذا غاب صاحب ... أمين فما غاب الصديق المجامل

الجزء الثامن
الحسن بن أحمد الأستراباذي
أبو علي النحوي اللغوي، الأديب الفاضل، حسنة طبرستان، وأوحد ذلك الزمان، وله من التصانيف: كتاب شرح الفصيح. كتاب شرح الحماسة.
الحسن بن أحمد، بن الحسن، بن أحمد
ابن محمد، بن سهل، بن سلمة، بن عثكل، بن حنبل، بن إسحاق العطار الحافظ أبو العلاء الهمذاني، المقرئ من أهل همذان. مات في تاسع عشر جمادى الأولى سنة تسع وستين وخمسمائة. وذكره بعض الثقات من أهل العلم، فذكر له مناقب كثيرة، وذكر نسبه وولادته فقال: هو أبو العلاء الحسن بن أحمد بن الحسن، بن أحمد، ابن محمد، بن سهل، بن سلمة، بن عثكل، بن إسحاق العطار الهمذاني. وكان عثكل من العرب. وأما ولادته: فإنها كانت يوم السبت قبل طلوع الشمس الرابع عشر من ذي الحجة، سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. بهمذان وذكر من مناقبه قال: سمعته - رحمه الله - يقول: سلمت في صغري إلى رجل معلم. قال: سماه ونسيت اسمه قال: وكنت أحفظ عليه القرآن، فحفظت عليه إلى سورة يوسف، ثم أجرى الله لساني بحفظ الباقي من القرآن دفعة واحدة، من غير تحفظ وتكرار، فضلاً منه جل جلاله. قال: وسار في ليلة واحدة في طلب الحديث من جرباذقان إلى أصفها.
وسمعته يقول: لما حججت كنت أمشي في البادية راجلاً قدام القافلة، أحياناً مع الدليل، وأحياناً أخلف الدليل، حتى عرفني الدليل واستأنس بي ومال إلي، وهو يسير على ناقة له تكاد ترد الريح، وكنت أرى الدليل يتعجب من قوتي على السير، وكان أحياناً يضرب ناقته ويمعن في السير، وكت لا أخلي الناقة تسبقي. فقال لي الدليل يوماً: تقدر أن تسابق ناقتي هذه؟ فقلت: نعم. فضربها وعدوت معها فسبقتها.
قال: وكان كثير الحفظ للعلوم، كثير المجاهدة في تحصيلها، فسمعته يقول - رحمه الله - : حفظت كتاب الجمل في النحو لعبد القاهر الجرجاني، في يوم واحد من الغداة إلى وقت العصر.

قال: وسمعت الشيخ أبا حفص عمر بن الحسين الوشاء المقرئ يقول: سمعت الإمام الحافظ - رحمه الله - يقول: حفظت يوماً ثلاثين ورقة من القراءة. قال: وسمعت الإمام الحافظ أبا بكر محمد بن شيخ الإسلام الحافظ أبي العلاء قال: سمعت الشيخ الصالح إبراهيم المرجي قال: سمعت الشيخ - رحمه الله - يقول: ولو أن أحداً أتاني بحديث واحد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبلغني لملأت فاه ذهباً. قال: وكان الشيخ - رحمه الله - حفظ الجمهرة لأبي بكر بن دريد، وكتاب المجمل لابن فارس، وكتاب النسب للزبير بن بكار.
قال: وبلغي عن الثقة أن الحافظ أبا جعفر - رحمه الله - كان يقول: لو أن الله تعالى يقول لي يوم القيامة: ماذا أتيتني به؟ أقول ربي وسيدي، أتيتك بأبي العلاء العطار. قال: وكان الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد ابن الفضل الجوزي - رحمه الله - ، يملي يوماً في الجامع بأصفهان وعنده جماعة من المحدثين، إذ دخل الشيخ الحافظ أبو العلاء - رحمه الله - من باب الجامع، فلما نظر الحافظ أبو القاسم إليه أمسك عن الإملاء، ونظر إلى أصحابه وقال: أيها القوم: إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، وهذا الرجل المقبل من جملتهم، قوموا نسلم عليه، فقاموا واستقبلوه، وسلموا عليه واعتنقوه. قال: وكان يقرأ على الشيخ أبي العز المقرئ القلانسي الواسطي - رحمه الله - ، وكان يفضله على أصحابه، فشق ذلك عليهم، فاجتمع بعضهم يوماً وفيهم الشيخ أبو العلاء - رحمه الله - ، فسألهم الشيخ أبو العز عن اختلاف القراء. في قوله تعالى: (كوكب دري يوقد) وأقاويل الأئمة فيها، فسقط في أيديهم، وتاهوا في شرحها، وما أجابوا بطائل. ثم أقبل الشيخ أبو العز على الشيخ - رحمه الله - وقال: تكلم أنت فيها يا أبا العلاء، فشرع فيها الشيخ وعد فيها بضعة عشر قولاً، وأدى فيها حقاً بأحسن إشارة، وأبلغ عبارة. فلما فرغ، نظر الشيخ أبو العز إلى أصحابه الحاضرين وقال: بهذا أفضله عليكم، لو أمهلتكم مدة لما قدرتم على الذي ذكر هو بديهة من غير عزيمة سابقة، وروية سالفة.
قال: وكان محترماً عند الخلفاء والسلاطين. كتب إليه المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين كتاباً من جملته: وبعد، فإن الأب القديس النفيس، خامس أولي العزم، وسابع السبعة على الحزم، وارث علم الأنبياء، حافظ شرع المصطفى أبا العلاء، ثم ذكر كلاماً واستدعى منه الدعاء. قال: وسمعت ولده أبا محمد عبد الغني ابن الشيخ الحافظ أبي العلاء - رحمه الله - يقول: لما دخل أبي على أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله - رضي الله عنه - بعد استدعاء أمير المؤمنين إياه، كان يأمره خواص الخليفة بتقبيل الأرض في المواضع، وكان يأبى ذلك، فلما أكثروا عليه قال: دعوني، إنما السجود لله تعالى، فكفوا عنه حتى وصل إليه، وسلم بالخلافة عليه، فقام له أمير المؤمنين وأجلسه، ثم كلمه ساعة وسأل نمه الدعاء، فدعا وأذ له في الرجوع فرجع، وكانوا قد أحضروا الخلعة والصلة فاستعفى من ذلك فأعفي، وخرج من بغداد حذراً من فتنة الدنيا وآفاتها.
وحدثني غير واحد، أن السلطان محمداً لما دخل عليه داره، نصحه كثيراً ووعظه، وكان السلطان جالساً بين يديه، مقبلاً عليه بوجهه، مصغياً إلى كلامه فلما قام ليخرج، أمره بتقدمة رجله اليمنى، وأخذه الطريق من الجانب الأيمن.
وسمعت الإمام أبا بشر - رحمه الله - يقول: سمعت عبد الغني بن سرور المقدسي يقول: كنت يوماً في خدمة الحافظ أبي طاهر السلفي بثغر الإسكندرية، تقرأ الحديث، فجرى ذكر الحفاظ إلى أن انتهى الكلام إلى ذكر الحافظ أبي العلاء - رحمه الله - ، فأطرق الحافظ أبو طاهر عند ذكره ساعة، ثم رفع رأسه وقال: قدمه دينه، قدمه دينه.
قال: وسمعت أبا بشر محمد بن محمد، بن محمد ابن منصور المقرئ الخطيب بشيراز، يذكر الحافظ أبا العلاء - رضي الله عنه - ويثني عليه، ثم أنشد يقول:
فسار مسير الشمس في كل موطن ... وهب هبوب الريح في الشرق والغرب

قال: وسمعت الإمام أبا نصر أحمد بن الإمام الحافظ أبي الفرج بن عبد الملك بن الشعار يقول: سمعت الإمام أبا الحسن الحراني يقول: كنت أطوف بالكعبة، فرأيت شيخاً في الطواف، فلما نظرت إليه تفرست فيه الخير والصلاح، فانتظرته حتى قضى طوافه، فدنوت منه، وسلمت عليه فرد علي السلام، فسألته عن الوطن، فسمى لي موطناً بعيداً، ذكره أبو الحسن، ونسيه أبو نصر. قال أبو الحسن: فقلت: أي شيء المقصد بعد بلوغك بيت ربك؟ فقال: مقصدى الحافظ أبو العلاء، فتعجبت في نفسي وقلت: ستظفر إن شاء الله بمقصودك، وتنال مطلوبك، وبكيت حتى غلبي البكاء. فقال لي: ومم بكاؤك؟ فقلت: إن الحافظ أبا العلاء الذي تقصده وتأمل بلوغه، قد كنت مستفيداً منه كذا وكذا سنة، قرأت عليه القرآن ختماً، وسمعت منه الحديث الكثير، فتعجب من قولي وقام إلي، وقبل بين عيني، وهو يفديني بأبيه وأمه، وغاب عني.
قال: وسمعت أبا بشر يقول: لما دخلت على الإمام أبي المبارك المقرئ بشيراز، جعل يذكر شيخ الإسلام الحافظ أبا العلاء الهمذاني - رحمه الله - ويثني عليه. ثم أنشد متمثلاً:
فسار مسير الشمس في كل موطن ... وهب هبوب الريح في الشرق والغرب
قال: رحل إليه رجل من أقصى المغرب، وكان له حظ في كل علم، ومدحه بقصيدة هي من غرر القصائد، وذكر أحواله في سفرته، وما أصابه من التعرب والمشاق. ومن شعره فيه أيضاً:
سعى إليك على قرب ومن بعد ... من كان ذا رغبة في العلم والسند
حتى أناخ بمغناك الكريم وقد ... كلت ركائبه في العنف والسند
لذاك أثرى وما أوعت أنامله ... لكن وعى قلبه ما شاء من مدد
وما أناخ بمغنى غيركم أحد ... إلا ونودي، ما بالربع من أحد
وقد قصدتك من أقصى المغارب لا ... أبغي سواك لوحى الواحد الصمد
وما امتطيت سوى رجلي راحلة ... وقد غنيت عن العيرانة الأجد
وهذه رحلة بكر كشفت لها ... عن ساق ذي عزمات غير متئد
عناية لم تكن قبلي لذي طلب ... وحظوة لم تكن في غابر الأبد
هل كان قبلك حبر أمه رجل؟ ... وسار مدة حول سير مجتهد
أبا العلاء الكل إنك في ... أقصى العراق مقيم منه في بلد
وقد فشا لك ذكر في البلاد كما ... فاحت أزاهر روض للغمام ندى
قال: وسمعت الشيخ - رحمه الله - يقول يوماً لمن حضره: إن خلف أبو العلاء ديناراً أو درهماً بعد موته، فلا تصلوا عليه. وقد كان - رحمه الله - لا يبقى على الذهب والفضة، وكل ما آتاه الله منها يصرفه في اليوم، وينفقه في قضاء الديون ومراعاة الناس، فمات ولم يخلف ديناراً ولا درهماً، حتى بيعت داره وقضى منه دينه. قال: وكان - رحمه الله - شديد التمسك بسن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لا يسمع باطلاً أو يرى منكراً إلا غضب لله، ولم يصبر على ذلك ولم يداهن فيه. قال: سمعت أبا رشيد راشد بن إسماعيل المعدل يقول: كنت عند الشيخ يوماً فدخل عليه أبو الحسين العبادي الواعظ زائراً، وجلس عنده زماناً وجعل يكلم الشيخ إلى أن جرى في كلامه، وقد عزمت غير مرة على الإتيان إلى الخدمة، لكن منعني كون الكوكب الفلاني في البرج الفلاني، فزجره الشيخ وقال: السنة أولى أن تتبع، فقام العبادي خجلاً وخرج.

وكان من ورعه في رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ما كان يترجم الحديث للعامة رعاية منه للصدق، واستدعى منه بهمذان أن يفسر للناس حديثاً واحداً فأجاب، وقعد لذلك، فلما شرع في الكلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في الدولة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغفر ثم رجع وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدعى منه ثانياً بالكرخ كذلك، فروى حديثاً في فضائل الأعمال وفي بعض ألفاظه (حتى يدخل الجنة)، ففسر لفظة الجنة قبل أن يفسر لفظة (حتى يدخل) كأنه قدم لفظة (الجنة) على لفظة (حتى يدخل) في ترجمته، فاستغفر ورجع، وأتى بها على الوجه المنطوق به في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان - رحمه الله - يتحرج عن القصص والكلام فيه والتنمق والتكلف حذراً من الزيادة والنقصان. ولما قصد السلطان محمد بغداد، وحاصرها وخالف الإمام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين رضي الله عنه. كان الشيخ - رحمه الله - يقرأ صحيح البخاري بهمذان على الشيخ عبد الأول - رحمه الله - على أسلوب. يحضره لسماع الكتاب عامة أهل البلد، من الأمراء والفقهاء والعلماء، والصوفية والعوام، فصرح بالقول قائماً على المنبر، بأن السلطان ومن معه من جنوده خارجة مارقة. ثم قال: لو أن رجلاً من عسكر أمير المؤمنين رمى رجلاً من أصحاب السلطان بسهم، وجاءه آخر من غير الفريقي، فنزع السهم من جراحه، يكون هو أيضاً خارجياً باغياً، وكرر القول في ذلك مراراً. قال: وسئل الشيخ - رحمه الله - عن سبب أكثر اشتغاله بعلم الكتاب والسنة فقال: إني نظرت في ابتداء أمري فرأيت أكثر الناس عن تحصيل هذين العلمين معرضين، وعن دراستهما لاهين، فاشتغلت بهما، وأنفقت عمري في تحصيلها حسبة قال: ورأى - رحمه الله - قلة رغبة الخلق في تحصيل العلم، والرحلة ولقاء الشيوخ، فاتخذ مهداً وعزم على المضي إلى بغداد وأصفهان للرواية، ورفع مناور العلم وإحياء السنة حسبة، فمنعه الضعف والكبر، وأدركته المنية وهو على هذه النية. قال: سمعت الثقة يقول: سمعت الشيخ - رحمه الله - يقول: كنت واقفاً يوماً على باب دار الشيخ أبي العز القلانسي - رحمه الله - في حر شديد أنتظر الإذن، فمر بي إنسان فرآني على تلك الحال واقفاً فقال لي: أيها الرجل، لو أنك تصير إماماً يقرأ عليك، ويقتدى بك، أهكذا كنت تفعل أنت بطلبة العلم ومن يأتيك من الغرباء؟ فذرفت عيناي فقلت: لا إن شاء الله، وأشهدت الله تعالى في نفسي في تلك الحال، على أني لا آخذ على التعليم والإقراء والتحديث أجراً، ولا أبخل بعلمي على أحد، وأبذله حسبة، فكان كما قال، ويقعد لطلبة العلم من أول النهار إلى آخره.
قال: وكان الشيخ - رحمه الله - لا يرى طول هاره إلا كاتباً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو مطالعاً له، أو مشتغلاً به، أو مصغياً إلى قراءة القرآن وطلبة العلم. هكذا كان دأبه بالنهار، ويجعل ليلته ثلاثة أثلاث، يكتب في ثلث، ويتفكر في ثلث، وينام في ثلث، وكان كثيراً ما يقول عند انتباهه من النوم: يا كريم يا كريم أكرمنا وكان من كرامته على الاس وإقبال الخلق عليه، وتبركهم به، أنه كان يصعب عليه المرور يوم الجمعة في مضيه ورجوعه، لازدحام الخلق عليه. وكان جماعة من الشبا يتحلقون حواليه، يدفعو عنه زحمة الناس وهو يمر في وسطهم مطرقاً، لا يشتغل بأحد وهو يقول: يا من أظهر الجيمل وستر على القبيح.
قال: سمعت العدل عمر بن محمد يقول: دخلنا على الإمام الحافظ أبي العلاء - رضي الله عنه - وهو يكتب، فقعدنا عنده ساعة، فوضع ما في يده، وقام ليتوضأ فنظرا فيما كتب، فإذا هو قد بيض كل موضع فيه اسم من أسماء الله تعالى، أو ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعجبنا من ذلك، فلما رجع سألناه عن ذلك فقال: إني لما كنت أكتب ذلك شككت في الوضوء، فما جوزت أن أكتب بيدي أسماء الله تعالى، أو ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وأنا شاك في الوضوء.

وكان الشيخ - رحمه الله - إذا نزل بالناس شدة أو بلاء، يجيء إليه الناس ويسألونه الدعاء فيقول: اللهم إني أخاف على نفسي أكثر مما يخافون على أنفسهم. وكان كثيراً ما يقول: ليتني كنت بقالاً أو حلاجاً، ليتني نجوت من هذا الأمر رأساً برأس، لا علي ولا ليا. قال: وسمعت والدي يحكي عن الإمام عبد الهادي بن علي - رحمة الله عليه - أنه قال: كنت أمشي يوماً مع الشيخ الإمام الحافظ - رحمه الله - في الشتاء في وحل شديد في رجليه مداس خفيف، يكاد يدخل فيها الطي، فقلت له يا أخي: لو لبست مداساً غير هذا يصلح للشتاء فقال: إذا لبست غيرها لهت عيني عن النظر إليها، فربما نظرت إلى منكر أو فاحشة، وفي دوام نظري إليها وحفظي لها عن الوحل، شغل عن ذلك وحفظ للبصر. قال: وكراماته مشهورة بين الناس، منها ما كتب به إلى الشيخ أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المقرئ قال: سمعت الأستاذ بهلة الطحا يقول: حملت أحمال الحنطة من دار الشيخ - رضي الله عنه - لأطحنها لأهله، فلما طحنتها ووضعت بعضها على بعض، قصد بعض من في الطاحونة من المستحقين أن يأخذ شيئاً من ذلك الدقيق، ليخبز منه رغيفاً، فصحت عليه ومنعته من الأخذ، فلما رددت الأحمال إلى دار الشيخ من الغد، تبسم الشيخ في وجهي وقال: ويلك يا بهلة، لم منعت الرجل أن يأخذ قبضات من الدقيق؟ فتحيرت من قوله: وقبلت في الحال رجليه، وتبت على يديه، واستغفرت الله عز وجل عما سلف مني من الذنوب، وصرت معتقداً في كرامات أولياء الله تعالى.
قال: سمعت أبا محمد عبد الله بن عمر يقول: كنت يوماً في خدمة الشيخ - رضي الله عنه - نأكل الغداء، فدق الباب داق، فقمت وفتحت له الباب. فإذا بالشيخ الصالح مسعود النعال، فاستأذنت له، فدخل وقعد عند الشيخ إلى الطعام. فلما كان بعد ساعة نظر إلى مسعود وقال يا مسعود: لو أن النطفة التي قدر الله عز وجل في سابق علمه، أن يخلق منها خلقاً صبت على الأرض، لظهر من ذلك الخلق. فلما سمع مسعود النعال هذا الكلام انزعج وبكى وصاح. فتعجبنا من تلك الحالة فلما سكن، سألته عن سبب انزعاجه وتواجده من كلام الشيخ. فقال لي: اعلم أني تزوجت امرأة منذ سنين كثيرة، وما رزقت منها ولداً، وأني جئت اليوم لأسأل منه الدعاء، حتى يرزقي الله عز وجل ولداً صالحاً. فقبل سؤالي إياه حدثني بما في قلبي، وأظهر لي سري، وأسمعني ما سمعتم، قال: ثم دعاه الشيخ - رضي الله عنه - ودعا له، وسأل الله عز وجل له الولد، وناوله شيئاً من بقية طعامه وقال: أطعمها أهلك. قال: ثم رأيته بعد ذلك بمدة، فقال لي: قد رزقني الله عز وجل، والحمد لله ابناً وبنتاً ببركة دعاء الشيخ وهمته.
قال: وسمعت الشيخ أبا بكر عبد الغفار. بن محمد بن عبد الغفار، وكان خال ولد الشيخ - رضي الله عنه - يقول لي: هل علمت سبب وفاة أختي، يعني التي كانت حليلة الشيخ - رحمة الله عليهما - قلت: لا. قال: قالت أختي: كان للشيخ في الدار بيت مختص به لا يدخله غيره، وكا يأذن لي في بعض الليالي بدخولي فيه، وفي أكثر الأوقات وأغلب الليالي، يغلق الباب على نفسه ويخلو فيه بنفسه، وأبيت أنا في الدار وحدي، فاشتد ذلك علي، حتى أفلق نهاري، وأسهر ليلي. فبينا أنا متفكرة في بعض تلك الليالي، إذ قلت في نفسي: لم لا أقوم فأرتقي الرواق، وأنظر إليه من كوة البيت لأقف على حاله؟ فقمت وارتقيت الرواق، فقبل بلوغي الكوة رأيت نوراص عظيماً، وضياء ساطعاً من البيت أضاء منه كل شيء، فتقدمت ونظرت في البيت، فرأيت الشيخ جالساً في مكانه، وحوله جماعة يقرءون عليه، وكنت أرى سوادهم، وأسمع حسهم، غير أني لا أرى صورهم. فهالني ذلك، ووقعت مغشياً علي لا أشعر شيئاً، إلا أني رأيت الشيخ واقفاً على رأسي، فأقامني وتلطف بي، وقال لي: ماذا دهاك؟ فقصصت عليه قصتي. فقال لي: كفي عن هذا، ولا تخبري بما رأيت أحداً من الناس، إن كنت تريدين رضاي. فقبلت منه ذلك، وكتمت سره حتى أمرضني، وحملت مريضة إلى دار أبي.
قال الإمام أبو عبد الله: وقال لي الشيخ أبو بكر، واشتد عندا مرضها، وكنا نسألها عن سبب مرضها، وكانت تعلل بأشياء إلى أ وقعت في هول الموت، وسياق النزع فنظرت إلينا وبكت، ثم قالت: أوصيكم بزوجي أبي العلاء واسترضائه، والآن بدا لي أن أخبركم بسبب موتي، ثم قصت علينا هذه القصة، وفارقت الدنيا - رحمها الله - .

قال: وسمعت الشيخ أبا العلاء أحمد بن الحسن الحداد العارف يقول: سمعت الشيخ عمر بن سعد بن عبد الله بن حذيفة، من نسل حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - يقول: كنت مع الحافظ جزءاً من مسموعه وقرأه عليه، ثم سلمنا عليه وارتحلنا من عنده، فوصلنا إلى نهر عظيم، فلما عبرنا النهر، وقع ذلك الجزء منا وضاع، وضاق قلب الحافظ لذلك ضيقاً شديداً. فلما كان بعد ذلك بأيام، استقبلنا رجل حسن الوجه، حسن الشارة، وسلم علينا، ثم أقبل على الحافظ وقال: ما الذي أصابك؟ وما سبب حزنك؟ فقص عليه الحافظ قصة الجزء وكيفية ضياعه، فقال: خذ القلم واكتب عني جميع ما ضاع عنك في ذلك الجزء، وأخذ الحافظ القلم متعجباً ينظر إليه، وهو يملي والحافظ يكتب إلى أن فرغ، فلما فرغ الحافظ أخذ ببعض ثيابه فقال: أنشدك الله من أنت؟ فقال: أنا أخوك الخضر، وبعثت إليك لهذا الأمر. ثم غاب عنا فلم نره.
سمعت الشيخ الصالح سنقر بن عبد الله غلام شيخنا أبي طاهر محمد بن الحسن، بن أحمد العطار - رحمه الله - ابن الشيخ - رضي الله عنه - يقول: إني خدمت الشيخ - رضي الله عنه - سنين كثيرة، فرأيت العجائب الكثيرة في خلواته. منها. أنه قام ليلة ليتوضأ، فقال لي استق الماء من البئر فجئت وأرسلت الدلو فيها، فلما بلغ الدلو إلى رأس البئر نظرت فيها، فإذا الدلو مملوء ذهباً أحمر، أضاء الدار حمرته، فصحت صيحة عظيمة. فقال لي أيها الشيخ: ماذا أصابك؟ فأريته الدلو، فاسترجع ثم استغفر، وقال لي: اقلب الدلو في البئر، فإا نطلب الماء لا الذهب. قال: فقلبتها ثم أخذ الدلو من يدي واستقى الماء وقال لي: يا سنقر، إياك إياك أن تخبر بما رأيت أحداً من الناس ما دمت حياً.
قال: رأيت بخط الثقة ذكر أنه نقل من خط الشيخ أبي الفتح محمد بن الحسين بن وهب: سمعت الشيخ أبا عبد الله الحسين بن إبراهيم، بن الحسين بن جعفر الجوزقاني يقول: كنت نائماً ذات ليلة، فرأيت فيما يرى النائم، كأن الناس يهرعون إلى رباط أبي الفرج، أحمد بن علي المقرئ - رحمة الله عليه - قال: فسألت ما لهؤلاء؟ فقالوا: إن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، نزل في رباط المقرئ، ففرحت وأسرعت، وقصدت الإمام الحافظ أبا العلاء وأخبرته بذلك، فلما سمع مني فرح ونشط، وقام وأخذ جزءاً واحداً من أحاديث أس بن مالك - رضي الله عنه - وجاء معي حتى دخلنا الرباط، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في الرباط، ورأينا أنس بن مالك عن يساره، فقدمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلمنا عليه، وجلسنا بين يديه، فاستأذنه أبو العلاء في قراءة ذلك الجزء عليه، فأذن له فابتدأ أبو العلاء بالقراءة، وقرأ ذلك الجزء قراءة حسنة مبينة صحيحة، ورأيته صلى الله عليه وسلم يتبسم من الفرح مرة إلى وجهه، ومرة إلى وجهي فلما قرأ الجزء انتبهت من النوم، فقمت وتوضأت وصليت الصلاة شكراً لله تعالى على ما رأيت في المنام.
قال: وسمعت الشيخ عمر بن أبي رشيد بن طاهر الزاهد يقول: رآني يوماً الشيخ علي الشاذاني صاحب الكرامات الظاهرة. فقال لي يا عمر: اذهب إلى الحافظ أبي العلاء وقبل جبنينه عني، فإني رأيت الليلة في المنام أن من قبل جبهته موقناً محتسباً - غفر الله له - .
قال: وسمعت الشيخ الزاهد وكان من الأبدال، إن شاء الله يقول: سمعت الشيخ سعيداً المتقي وكان من الصالحين يقول: رأيت جنات عدن مفتوحة أبوابها، وإذا الناس كلهم وقوف ينظرون دخول شخص، فلما قرب من الباب وكاد يدخل جنة عدن، سألت من هذا الشخص الذي يدخل جنة عدن قبل دخول الخلائق؟ فقالوا: الحافظ أبو العلاء ومن كان يحبه في الله عز وجل، فتضرعت وبكيت وقلت: وأنا أيضاً ممن يحبه في الله عز وجل، دعوني أدخل. فقال شخص: صدق: دعوه يدخل، فدخلت مع القوم وهم يقولون: (أدخلوها بسلام آمنين).

قال المصنف: وحكى لي الشيخ الإمام أبو عبد الله زبير بن محمد بن زبير المشكاني - رحمه الله - فقال: رأيت ليلة من الليالي في المنام كأن الإمام أبا العلاء - رضي الله عنه - يمشي إلى الحج، وهو جالس في المهد مربع، والمهد يمشي في الهواء بين السماء والأرض، فعدوت خلفه، فنزل المهد من السماء إلى الأرض وشيء مثل الوتد، وخرج من ذلك المهد فتعلقت به، فقام المهد يمشي في الهواء وأنا متعلق به حتى وصلنا الفرات، فأخذني العطش فقلت للحافظ: إني عطشان أريد أن أشرب، فقال لي: تعال حتى تشرب من زمزم، فمشيا حتى وصلنا مكة فدخلت الحرم، وشربت من ماء زمزم، ورأيت في الحرم خلقاً كثيراً، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الحافظ أبي العلاء، جالساً على تل في الحرم أعلى من سطح الحرم، وما معهما أحد غيرهما، وهما يستقبلان الكعبة، وينظران إلى فوق، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم مع أحد نحو فوق الكعبة، وإذا أراد أن يتكلم قام إليه، ورأيت شيخنا الحافظ أبا العلاء شاخصاً ببصره إلى الذي يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فوق الكعبة، ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً، فقلت في نفسي: أذهب فأبصر من الذي يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم معه؟ ويظر إليه الحافظ أبو العلاء، فتقدمت وظرت إلى فوق الكعبة، فرأيت عرش الرحمن - جل جلاله - واقفاً فوق الكعبة، ورأيت الرحمن - جل جلاله - عليه، فأشار إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن اسأل الله تبارك وتعالى، فسألت الله تعالى أربع حاجات، فسمعته يقول بالفارسية كردم وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة ففعل، فنويت الرجوع، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفارسية: شكرانه كو. فوقفت وقرأت (قل هو الله أحد) خمسمائة مرة. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن، فرجعت وتركت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً مع الحافظ أبي العلاء على ذلك التل، وينظران إلى الله عز وجل.
وقد مدحه أفاضل عصره بأشعار كثيرة، منهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله المغربي، وقد خرج الشيخ فحجبت الشمس غيماً فقال في ذلك:
ظهرت فأخفت وجهها الشمس هيبة ... وشوقاً إلى مرآك أسبلت الدمعا
ولما رأت مسعاك كفت شؤونها ... لئلا ترى شيئاً يصدك عن مسعى
وقد كان ذاك القطر أيضاً دلالة ... على أن مولى الجمع قد رحم الجمعا
ولا شك أن الله يرحم أمة ... حللت بها قطعاً أقول بذا قطعا
وقد مدحه أبو عبد الله المغربي هذا بقصائد حسان، وقد أفردها الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن محمود، بن أبراهيم، بن الفرج، مؤلف هذه المناقب، - رحمه الله - والأصل يشتمل على ستة أجزاء بخطه كلها - رحمه الله - وقد ذكر فيه بعد ذكر القصائد التي ذكرتها: سمعت أبا بشر محمد بن محمد، بن محمد بن هبة الله، بن عبد الله بان سهل - رحمه الله - يقول: كان أبو عبد الله المغربي بأصفهان في مدرسة النظام وهو يقرأ القرآن، فلما بلغ قوله - عز وجل - (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) قام وصرخ، وترك أمتعته وكتبه، وأقبل إلى الصحراء هائماً، وما ربي بعد ذلك، ولا سمع له خيرلا ولا أثر.
وأنشد موفق بن أحمد المكي الخطيب الحافظ في مدحه:
حفظ الإمام أبي العلاء الحافظ ... بالرجل ينكت هام حفظ الجاحظ
عمرو بن بحر بحره من جدول ... متشعب من بحر بحر الحافظ
ما إن رأينا قبل بحرك من له ... بحر طفوح كالأتي اللافظ
أحييت ما قد غاض من سنن العلا ... والعلم قبلك باليراع الغائظ
بهظ البرايا عبء أدنى علمه ... أعظم به من عبء علم باهظ
كم واعظ، لي أن أجاوز هجره ... لو كان ينجع في وعظ الواعظ
غاظ الأعادي جاهه لعلومه ... فرددت غيظهم بهذا القائظ
وأنشد أيضاً في مدحه:
وليس اعتراف الحاسدين بفضله ... لشيء سوى أن ليس يمكنهم جحد
بدا كعمود الفجر ما فيه شبهة ... فهل لهم من أن يقروا به، بد؟
وأنشد الإمام العلامة أفضل الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الملك، بن عبيد الله بن أحمد بن سعيد الدمانجير الكرخي، - رحمة الله عليه - في مدحه:

صبراً فأيام الهموم تزول ... والدهر يعطيك المنى وينيل
ويئوب من فلك السعادة ثاقباً ... قمر الآماي والحوس أفول
لا تيأسن إذا ألم ملمة ... إن الشدائد تعتري وتحول
والفضل لا يزرى به عدم الغنى ... أوليس يحسن في الرماح ذبول
ما إن يضر الغضب بعد مضائه ... يوم القراع إذا عرته فلول
لا تشتغل بالعسر واطو مشمراً ... بسط الفيافي والشباب مقيل
والبس سواد الليل مرتدياً به ... إن التجلد للرجال جميل
حتى تنيخ العيس في كنف العلا ... حيث التحرم بالنجي كفيل
كنف الإمام القرم قطب الدين من ... جوب الفلا إلا إليه فضول
صدر الزمان أبي العلاء سميدع ... غر المعالي في ذراه تقيل
وهي طويلة.
ولموفق الدين مكي خطيب خوارزم أشعار كثيرة في مدحه. منها:
بقيت بقاء الدهر في الناس خالداً ... أيا خير من في الأرض خالاً ووالدا
لتروي أحاديث النبي محمد ... وتحيي مسانيداً وتزوي معاندا
فهذا دعائي بالحجون وبالصفا ... وهذا مرامي حيثما كنت ساجدا
قال: وسمعت الثقة يقول: سمعت الشيخ - رضي الله عنه - يقول: لما مات فلان أحد أصدقائه ذكر اسمه ونسيه: شق علي موته، وأثر في وفاته، فكنت بعد ذلك أكتب كل سنة كتاب الوصية، وأنا سمعت منه حينئذ صغيراً وهو يقول: غداً من شهر رجب شهر الله الأصم، وأنا أريد أن أجدد مع ربي عهداً، وهذا كتاب وصيته: " بسم الله الرحمن الرحيم " أخبرنا عبد القادر اليوسفي، وهبة الله بن أحمد الشيباني قالا: أخبرنا أبو علي الحسن بن علي التميمي، أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي، حدثا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل - رضي الله عنهما - ، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عنده). وأخبرنا الشيخ أبو القاسم، زاهر بن طاهر بن محمد بن محمد بن محمد الحافظ، أخبرنا أبو عثمان سعد بن محمد النجيرمي، أخبرنا أبو الخير الحنبلي، وأبو بكر محمد ابن أحمد بن عقيل قالا: أخبرنا أبو بكر محمد بن حفص بن جعفر، حدثنا إسحاق بن إبراهيم العصبي، حدثنا خالد بن يزيد الأنصاري، حدثي محمد بن أبي ذئب، عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لا يحسن الوصية عند الموت، كان نقصاً في مروءته وعقله). قيل: وكيف يوصي؟ قال: يقول: (اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، إني أعهد إليك في دار الدنيا، إني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم عبدك ورسولك، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، والحساب والقدر حق، والميزان حق، وأن الدين كما وصفت، وأن الإسلام كما شرعت، وأن القول كما حدثت، وأن القرآن كما أنزلت، جزى الله محمداً صلى الله عليه وسلم عنا خير الجزاء، وحيا محمداً منا بالسلام. اللهم يا عدتي عند كربتي، ويا صاحبي عند شدتي، ويا ولي نعمي إلهي وإله آبائي، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، فإنك إن تكلني إلى نفسي أقرب من الشر، وأتباعد من الخير، فآنسني في قبري من وحشتي، واجعل لي عهداً يوم ألقاك).

ثم يوصي بحاجته. وتصديق هذه الوصية في القرآن: (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً). فهذا عهد الميت. وهذه وصيته سنة إحدى وعشري وخمسمائة. وقلتها من خطه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسن بن أحمد بن الحسن، بن أحمد بن محمد العطار، طوعاً في صحة عقله وبدنه، وجواز أمره، أوصى وهو يشهد (أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين). ويشهد أن محمداً عبده ورسوله (أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون). صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً، ويشهد أن الجنة حق، والنار حق، والبعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. وأنه جل وعز جامع الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، ويشهد أن صلاته ونسكه، ومحياه ومماته لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمر وهو من المسلمين، وأنه رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالقرآن إماماً، وبالمؤمنين إخواناً، وأنه يدين لله عز وجل بمذهب أصحاب الحديث، ويتضرع إلى الله عز وجل، ويتوسل إليه بجميع كتبه المنزلة، وأسمائه الحسنى، وكلماته التامات، وجميع ملائكته المقربين، وأنبيائه المرسلين أن يحييه على ذلك حيا، ويميته على ذلك إذا توفاه، وأن يبعثه عليه يوم الدي، وأوصى نفسه وخاصته وقرابته، ومن سمع وصيته بتقوى الله، وأن يعبدوه في العابدين، ويحمدوه في الحامدين، ويذكروه في الذاكرين، ولا يموتن إلا وهم مسلمون، وأوصى إلى الشيخ أبي مسعود إسماعيل بن أبي القاسم الخاز في جميع تركته، وما يخلفه بعده، وفي قضاء ديونه، واقتضاء ديونه وإنفاذ وصاياه، وذكره في ذلك بتقوى الله وإيثار طاعته، وحذره أن يبدل شيئاً من ذلك أو يغيره، وقد قال الله تعالى: (فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلوه، إن الله سميع عليم).
وكتب هذه الوصية موصيها الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن العطار، في يوم الثلاثاء السابع من ذي الحجة، سنة إحدى وعشري وخمسمائة.
قال: وحدثني من شهد قبض روح الشيخ - رضي الله عنه - قال: كنا قعوداً في ذلك الوقت، وكنا نحب أن نلقنه كلمة الشهادة رعاية للسنة، ومع هذا كنا نخشى من هيبته، ونحذر سوء الأدب، فبقينا متحيرين حتى قلنا للرجل من أصحاب الشيخ: اقرأ أنت سورة يس. فرفع الرجل صوته يقرأ السورة، وكنا ننظر إليه ونراقب حاله، فدهش القارئ وأخطأ في القراءة، ففتح الشيخ عينه ورد عليه، فسررنا لذلك وحمدا الله عز وجل، ثم جئ إليه بقدح فيه شيء من الدواء، ووضع القدح على شفته، فولى وجهه ورد القدح بفيه، وفتح عينه وقال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، رافعاً بها صوته وفاضت نفسه - رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه، وجعل أعلى الجنان مأواه - . وكان ذلك قبيل العشاء الآخرة ليلة الخميس، التاسع عشر من جمادى الأولى، عام تسع وتسعين وخمسمائة، ودفن يوم الخميس في مسجده، وصلى عليه ابنه الإمام ركن الدين شيخ الإسلام أبو عبد الله أحمد، القائم مقامه، وخليفته على أولاده، وأصحابه وأتباعه. - رحمه الله - .
والكتاب الذي يشتمل على مناقبه، كتاب ضخم جليل. وإنما كتبت هذه النبذة ليستدل لها على فضله ومرتبته - رحمة الله عليه - ، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه محمد وآله أجمعين.

الحسن بن أبي عباد، اليمني النحوي
من وجوه اليمن، كان يصجب الفقيه يحيى بن أبي الخير، وعمه إبراهيم بن أبي عباد نحوي أيضاً يذكر في موضعه. وصنف الحسن هذا مختصراً في النحو مشهوراً بالمن، يقرؤه المبتدئون وهو قريب العهد، تقارب وفاته سنة تسعين وخمسمائة. وهو القائل:
لعمرك ما اللحن من شيمتي ... ولا أنا من خطأ ألحن
ولكنني قد عرفت الأنا ... م فخاطبت كلاً بما يحسن
الحسن بن أسد بن الحسن الفارقي

أبو نصر، شاعر رقيق الحواشي، مليح النظم، متمكن من القافية، كثير التجنيس، قلما يخلو له بيت من تصنيع وإحسان وبديع. كان في أيام نظام الملك والسلطان ملكشاه، وشمله منهما الجاه، فخلصه الكامل الطبيب في أيام نظام الملك، بعد أن قبض عليه وأساء إليه، فإنه كان مستولياً على آمد وأعمالها، مستبداً باستيفاء أموالها. وكان نحوياً رأساً. وإماماً في اللغة يقتدى به. وصنف في الآداب تصانيف تقوم له مقام شاهدي عدل بفضله، وعظم قدره. منها: كتاب شرح اللمع كبير كتاب الإفصاح في شرح أبيات مشكلة.
حدثني الشيخ الإمام موفق الدين أبو لابقاء يعيش ابن لعي بن يعيش النحوي قال: حدثي قاضي عسكر نور الدين محمود بن زنكي قال: قدم على ابن مروان صاحب ديار بكر شاعر من العجم يعرف بالغساني. وكان من عادة ابن مروان إذا قدم عليه شاعر يكرمه وينزله، ولا يجتمع به إلى ثلاثة أيام ليستريح من سفره، ويصلح شعره، ثم يستدعيه. واتفق أن الغصاني لم يكن أعد شيئاً في سفره، ثقة بقريحته، فأقام ثلاثة أيام فلم يفتح عليه بعمل بيت واحد وعلم أنه يستدعى ولا يليق أن يلقى الأمير بغير مديح، فأخذ قصيدة من شعر ابن أسد لم يغير فيها إلا اسمه. وعلم ابن مروان بذلك، فغضب من ذلك وقال: يجئ هذا العجمي فيسخر منا؟ ثم أمر بمكاتبة ابن أسد، وأمر أن يكتب القصيدة بخطه ويرسلها إليه، فخرج بعض الحاضرين، فأنهى القضية إلى الغساني وكان هذا بآمد. وكان له غلام جلد فكتب من ساعته إلى ابن أسد كتاباً يقول فيه: إي قدمت على الأمير، فأرتج علي قول الشعر مع قدرتي عليه، فادعيت قصيدة من شعرك استحساناً لها وعجباً بها، ومدحت بها الأمير. ولا أبعد أن تسأل عن ذلك، فإن سئلت فرأيك الموفق في الجواب فوصل غلام الغساني قبل كتاب ابن مروان. فجحد ابن أسد أن يكون عرف هذه القصيدة، أو وقف على قائلها قبل هذا. فلما ورد الجواب على ابن مروان، عجب من ذلك واساء إلى الساعي وشتمه وقال: إنما قصدكم فضيحتي بين الملوك، وإنما يحملكم على هذا الفعل الحسد منكم لمن أحسن إليه؟ ثم زاد في الإحسان إلى الغساني، وانصرف إلى بلاده، فلم يمض على ذلك إلا مديدة حتى اجتمع أهل ميافارقين إلى ابن أسد، ردعوه إلى أن يؤمروه لعيهم، ويساعدوه على العصيان، وإقامة الخطبة للسلطان ملكشاه وحده، وإسقاط اسم ابن مروان من الخطبة، فأجابهم إلى ذلك، وبلغ ذلك ابن مروان، فحشد له وزل على ميافارقين محاصراً فأعجزه أمرها، فأفذ إلى نظام الملك والسلطان يستمدهما فأنفذا إليه جيشاً ومدداً مع الغساني الشاعر المذكور آنفاً، وكان قد تقدم عند نظام الملك والسلطان، وصار من أعيان الدولة، وصدقوا في الزحف على المدينة حتى أخذوها عنوة، وقبض على ابن أسد، وجئ به إلى ابن مروان فأمر بقتله فقام الغساني وشدد العناية في الشفاعة فيه، فامتنع ابن مروان امتناعاً شديداً من قبول شفاعته وقال: إن ذنبه وما اعتمده من شق العصا، يوجب أن يعاقب عقوبة من عصى، وليس عقوبة غير القتل. فقال: بيني وبين هذا الرجل ما يوجب قبول شفاعتي فيه، وأنا أتكفل به ألا يجري منه بعد شيء يكره. فاستحيى منه وأطلقه له، فاجتمع به الغساني وقال له: أتعرفني؟ قال: لا والله، ولكنني أعرف أنك ملك من السماء، من الله بك علي لبقاء مهجتي. فقال له: أنا الذي ادعيت قصيدتك وسترت علي، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان. فقال ابن أسد: ما رأيت ولا سمعت بقصيدة جحدت فنفعت صاحبها أكثر من نفعها إذا ادعاها غير هذه. - فجزاك الله عن مروءتك خيراً - ، وانصرف الغساني من حيث جاء.
وأقام اب أسد مدة ساءت حاله، وجفاه إخوانه، وعاداه أعوانه، ولم يقدم أحد على مقاربته ولا مرافدته، حتى أضر به العيش، فعمل قصيدة مدح بها ابن مروان، وتوصل حتى وصلت إليه. فلما وقف ابن مروان عليها غضب وقال: ما يكفيه أن يخلص منا رأساً برأس، حتى يريد منا الرفد والمعيشة، لقد أذكرني بنفسه، فاذهبوا به فاصلبوه، فذهبوا به فصلبوه، - رحمه الله - .
ومن شعر الحسن بن أسد الفارقي - رحمه الله - :
بنتم فما كحل الكرى ... لي بعد وشك البين عينا
ولقد غدا كلفي بكم ... أذناً علي لكم وعينا
فأسلت بعد فراقكم ... من ناظري بالدمع عينا
فحكت مدامعها الغزا ... ر من الغيوم الغر عينا

جادت على أثر شفى ... عيناً لهم لم تلق عينا
من كل واضحة الترا ... ئب سهلة الخدين عينا
غراء تحسب وجهها ... للشمس حين تراه عينا
أمسيت في حبي لها ... عبداً أضام وكنت عيا
لا قر ركب بالركا ... ئب إذ يهن سرين عينا
غاظ الحسود لنا الوصا ... ل فلا رعاه الله عينا
فذممت حرفاً عاينت ... عيناي في أولاه عينا
كانت تناصفنا بصا ... في الود لا ورقاً وعينا
لهفي وقد أبصرت في ... ميزان ذاك الوصل عينا
كم من أخ فينا وعى ... ما لم نكن فيه وعينا
ومصاحب صنفت في ... غدراته للعين عينا
وقال في الشمعة:
ونديمة لي في الظلام وحيدة ... مثل مجاهدة. كمثل جهادي
فاللون لوني، والدموع كأدمعي ... والقلب قلبي، والسهاد سهادي
لا فرق فيما بيننا لو لم يكن ... لهبي خفياً وهو منها بادي
وله أيضاً:
أريقاً من رضابك أم رحيقا ... رشفت فلست من سكري مفيقا
وللصهباء أسماء ولك ... جهلت بأن في الأسماء ريقا
حمتني عن حميا الكأس نفس ... إلى غير المعالي لن تتوقا
وما تركي لها شح ولكن ... طلبت فما وجدت لها صديقا
وله أيضاً:
وإخوان بواطنهم قباح ... وإن كانت ظواهرهم ملاحا
حسبت مياه ودهم عذاباً ... فلما ذقتها كانت ملاحا
وله أيضاً:
ووقت غنمناه من الدهر مسعد ... معار، وأوقات السرور عواري
معانيه مما نبتغيه جميعها ... كواس ومما لا نريد عواري
أدار علينا الكاس فيه ابن أربع ... وعشر له بالكاس أي مدار!
تناولتها منه بكف كأنما ... أناملها تحت الزجاج مداري
وله أيضاً:
تيم قلبي شادن أغيد ... ملك فالناس له أعبد
لو جاز أن يعبد في حسنه ... وظرفه كنت له أعبد
وله أيضاً:
هويت بديع الحسن للغصن قده ... وللظبي عيناه وخداه للورد
غزال من الغزلان لكن أخافه ... وإن كنت مقداماً على الأسد الورد
وله أيضاً:
ولرب دان منك يكره قربه ... وتراه وهو عناء عينك والقذى
فاعرف وخل مجرباً هذا الورى ... واترك لقاءك ذا كفافاً والق ذا
وله أيضاً:
أيا ليلة زار فيها الحبيب ... أعيدي لنا منك وصلاً وعودي
فإني شهدتك مستمتعاً ... به بين رنة ناي وعود
وطيب حديث كزهر الرياض ... تضوع ما بين مسك وعود
سقتك الرواعد من ليلة ... بها اخضر يابس عيشي وعودي
وفي لي بوعد ولا تخلف ... يه إخلاف دهر به في وعودي
فلما تقضيت أمرضتني ... فزوري مريضك يوماً وعودي
وله أيضاً:
يا من حكى ثغره الدر النظيم ومن ... تخال أصداغه السود العناقيدا
إعطف على مستهام ضم من أسف ... على هواك وفي حبل العناقيدا
وله أيضاً:
بنتم فما لحظ الطرف الولوع بكم ... شيئاً يسر به قلبي ولا لمحا
فلو محا فيض دمع من تكاثره ... إنسان عين إذاً إنسانه لمحا
وله أيضاً:
أياكم أعاني الوجد في كل صاحب ... ولست أراه لي كوجدي واجدا
إذا كنت ذا عدم فحرب مجانب ... وتلقاه لي سلماً إذا كنت واجداً
أحاول في دهري خليلاً مصافياً ... وهيهات خلا صافياً لست واجدا
وله أيضاً:
بعدت فأما الطرف مني فساهد ... لشوقي وأما الطرف منك فراقد
فسل عن سهادي أنجم الليل إنها ... ستشهد لي يوماً بذاك الفراقد
قطعتك إذ أنت القريب لشقوتي ... وواصلني قوم إلى أباعد

فيأهل ودي إن أبي وعد قربنا ... زمان، فأنتم لي به إن أبي عدوا
وله أيضاً:
لا يصرف الهم إلا شدو محسنة ... أو منظر حسن تهواه أو قدح
والراح للهم أنفاها فخذ طرفاً ... منها ودع أمة فس شربها قدحوا
بكر تخال إذا ما المزج خالطها ... سقاتها أنهم زنداً بها قدحوا
وله أيضاً:
بعدت فقد اضرمت ما بين أضلعي ... ببعدك ناراً شجو قلبي وقودها
وكلفت نفسي قطع بيداء لوعة ... تكل بها هوج المهاري وقودها
وله أيضاً:
تجلد على الدهر واصبر لكل ما ... عليك الإله من الرزق أجرى
ولا يسخطنك صرف القضاء ... فتعدم إذ ذاك حظاً وأجرا
فما زال رزق امرئ طالب ... بعيداً إليه دجى الليل يسرى
توقع إذا ضاق أمر علي ... ك خيراً فإن مع العسر يسرا
وله أيضاً:
قد كان قلبي صحيحاً كالحمى زمناً ... فمذ أباح الهوى منه الحمى مرضا
فكم سخطت على من كان شيمته ... وقد أبحت له فيك الحمام رضا
يا من إذا فوقت سهماً لواحظه ... أضحى لها كل قلب قلب غرضا
أنا الذي إن يمت حباً يمت أسفاً ... وما قضى فيك من أغراضه غرضا
ألبست ثوب سقام فيه صار له ... جسمي لرقته من سقمه حرضا
وصرت وقفاً على هم يجاذبني ... أيدي الصبابة فيه كلما عرضا
ما إن قضى الله شيئاً في خليقته ... أشد من زفرات الحب حين قضى
فلا قضى كلف نحباً فأوجعني ... أن قيل إن المحب المستهام قضى
وله أيضاً:
نراك يا متلف جسمي ويا ... مكثر إعلالي وأمراضي
من بعد ما أضنيتني ساخطاً ... علي في حبك أم راضي؟

الحسن بن بش بن الآمدي، النحوي الكاتب
أبو القاسم صاحب كتاب الموازنة بي الطائيي. كان حسن الفهم، جيد الدراية ولارواية، سريع الإدراك. رأيت سماعه على كتاب القوافي لأبي العباس المبرد، وقد سمعه على نفطويه سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، ثم وجدت خطه على كتاب تبيين قدامة بن جعفر وفي نقد الشعر، وقد ألفه لأبي الفضل محمد بن الحسين بن العميد وقد قرأه عليه، وكتب خطه في سنة خمس وستين وثلاثمائة. وقال ابن النديم في الفهرست الذي ألفه في سة سبع وسبعين وثلاثمائة. هو من أهل البصرة، قريب العهد، وأحسبه يحيا إلى الآن، ثم وجدت كتاب القوافي للمبرد بخط أبي منصور الجواليقي ذكر في إسناده: أن عبد الصمد بن حنيش النحوي قرأه على أبي القاسم الآمدي في سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. وفي تاريخ هلال بن المحسن في هذه السنة يعني في سنة سبعين: مات الحسن ابن بشر الآمدي بالبصرة.
وقال أبو القاسم المحسن التنوخي: حدثني أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي، كاتب القضاء من بني عبد الواحد بالبصرة، وله شعر حسن، واتساع تام في الأدب، ودراية وحفظ، وكتب مصنفة قال: حدثني أبو إسحاق الزجاج قال: كنا ليلة بحضرة القاسم بن عبيد الله نشرب وهو وزير، فغنت بدعة جارية عريب:
أدل فأكرم به من مدل ... ومن ظالم لدمى مستحل
إذا ما تعزز قابلته ... بذل وذلك جهد المقل
وأسلمت خدي له خاضعاً ... ولولا ملاحته لم أذل

فأدت فيه صنعة حسنة جداً، فطرب القاسم عليه طرباً شديداً، واستحسن الصنعة جداً والشعر فأفرط. فقالت بدعة يا مولاي: إن لهذا الشعر خبراً حسناً أحسن منه، قال: وما هو؟ قالت هو لأبي حازم القاضي. قال: فعجبنا من ذلك مع شدة تقشف القاضي أبي حازم وورعه وتقبضه. فقال الوزير: بالله يا أبا إسحاق، اركب إلى أبي حازم واسأله عن هذا الشعر وسببه. فباكرته وجلست حتى خلا وجهه ولم يبق إلا رجل بزي القضاة عليه قلنسوة، فقلت: بيننا شيء أقوله على خلوة؟ فقال: ليس هذا ممن أكتمه شيئاً. فقصصت عليه الخبر، وسألت عن الشعر والخبر، فتبسم ثم قال: هذا شيء كان في الحداثة قلته في والدة هذا، وأومأ إلى القاضي الجالس، وإذا هو ابنه وكنت إليها مائلاً، وكانت لي مملوكة، ولقلبي مالكة، فأما الآن، فلا عهد لي بمثله منذ سنين، ولا عملت شعراً منذ دهر طويل، وأنا أستغفر الله مما مضى. قال: فوجم الفتى حتى ارفض عرقاً، وعدت إلى القاسم فأخبرته، فضحك من خجل الإبن وقال: لو سلم من العشق أحد لكان أبا حازم مع تقبضه، وكنا نتعاود ذلك زماناً.
قال المؤلف: كان هذا الخبر بترجمة إسحاق الزجاج أحرى، إلا أن في أوله من إيضاح حال الآمدي ما ساق باقي الحديث.
قال أبو علي: كان قد ولي القضاء بالبصرة - في سنة نيف وخمسين وثلاثمائة - رجل لم يكن عندهم بمزلة من صرف به، لأنه ولي صارفاً لأبي الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي، فقال فيه أبو القاسم الحسن ابن بشر الآمدي، كاتب القاضيين أبي القاسم جعفر، وأبي الحسن محمد بن عبد الواحد:
رأيت قلنسوة تستغي ... ث من فوق رأس تنادي خذوني
وقد قلعت وهي طوراً تمي ... ل من عن يسار ومن عن يمين
فطوراً تراها فويق القفا ... وطوراً تراها فويق الجبين
فقلت لها أي شيء دهاك؟ ... فردت بقول كئيب حزين
دهاني أن لست في قالبي ... وأخشى من الناس أن يبصروني
وأن يعبثوا بمزاح معي ... وإ فعلوا ذاك بي قطعوني
فقلت لها مر من تعرفين ... من المنكرين لهذي الشؤون
ومن كان يصفع في الدين لا ... يملء ويشتد في غير لين
ويلمح ملئك كيل التما ... م إما على صحة أو جنون
ففارقها ذلك الإنزعاج ... وعادت إلى حالها في السكون
وحدث ابن نصر قال: حدثت يوماً أبا الفرج الببغا الشاعر: أن أبا الفرج منصور بن بشر النصراني الكاتب، كان منقطعاً إلى أبي العباس بن ماسرجس، فأنفذه مرة إلى أبي عمر إسماعيل بن أحمد عامل البصرة في بعض حاجاته، فعاد من عنده مغضباً لأنه لم يستوف له القيام عند دخوله، وأراد أبو العباس إنفاذه بعد أيام، فأبى وقال: لو أعطيتني زورق ابن الخواستيني مملوءاً كيميا، كل مثقال منه إذا وضع على ألف مثقال صفراً صار ذهباً إبريزاً ما مضيت إليه، فأمسك عنه مغيظاً. وهذا زورق معروف بالبصرة، وحمله ثلاثمائة ألف رطل، وقد رأيت دواتي أبي العباس سهل بن بشر. وقد حكى له أن ابن علان قاضي القضاة بالأهواز، ذكر أنه رأى قبجة وزنها عشرة أرطال فقال: هذا محال. فقيل له: ترد قول ابن علان؟ قال: فإن قال ابن علان: إن على شاطئ جيحون نخلاً يحمل غضاراً صينياً مجزعاً بسواد أقبل منه؟ وقلت لأبي الفرج: وللناس عادات في المبالغات، وهذا من أعجبها. فقال لي: كان الآمدي النحوي صاحب كتاب الموازنة، يدعي هذه المبالغات على أبي تمام، ويجعلها استطراداً لعيبه إذا ضاق عليه المجال في ذمه، وأورد في كتابه قوله من قصيدته التي أولها: من سجايا الطلول ألا تجيبا
خضبت خدها إلى لؤلؤ العق ... د دماً أن رأت شواتي خضيبا
كل داء يرجى الدواء له إل ... لا الفظيعين ميتة ومشيبا

ثم قال: هذه من مبالغاته المسرفة. ثم قال أبو الفرج: هذه والله المبالغة التي يبلغ بها السماء. وله من الكتب: كتاب المختلف والمؤتلف في أسماء الشعراء، كتاب نثر المنظوم، كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري، كتاب في أن الشاعرين لا يتفق خواطرهما، كتاب ما في عيار الشعر لابن طباطبا من الخطإ، كتاب فرق ما بين الخاص والمشترك من معاني الشعر، كتاب تفضيل شعر امرئ القيس على الجاهليين، كتاب في شدة حاجة الإنسان إلى أن يعرف نفسه، كتاب تبيين غلط قدامة بن جعفر في كتاب نقد الشعر، كتاب معاني شعر البحتري، كتاب الرد على ابن عمار فيما خطأ فيه أبا تمام، كتاب فعلت وأفعلت غاية لم يصنف مثله، كتاب الحروف من الأصول في الأضداد رأيته بخطه في نحو مائة ورقة، كتاب ديوا شعره نحو مائة ورقة. وقرأت في كتاب ألفه أحد بني عبد الرحيم الوزراء الذي مدحهم مهيار وغيره ولم يذكر اسمه قال: أخبرني القاضي أبو القاسم التنوخي عن أبيه أبي علي المحسن: أن مولد أبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي بالبصرة، وأنه قدم بغداد يحمل عن الأخفش، والحامض، والزجاج، وابن دريد، وبان السراج وغيرهم اللغة والنحو. وروى الأخبار في آخر عمره بالبصرة. وكان يكتب بمدينة لاسلام لأبي جعفر هارون بن محمد الضبي خليفة أحمد بن هلال صاحب عمان، بحضرة المقتدر بالله ووزارته، ولغيره من بعده. وكتب بالبصرة لأبي الحسن أحمد، وأبي أحمد طلحة بن الحسن بن المثنى، وبعدهما لقاضي البلد أبي جعفر بن عبد الواحد الهاشمي على الوقوف التي تليها القضاة ويحضر به في مجلس حكمه، ثم لأخيه أبي الحسن محمد بن عبد الواحد لما ولي قضاء البصرة، ثم لزم بيته إلى أن مات. وكان كثير الشعر، حس الطبع، جيد الصنعة، مشتهراً بالتشبيهات.
ولأبي القاسم تصانيف كثيرة جيدة مرغوب فيها. منها: كتاب الموازنة بين البحتري وأبي تمام في عشرة أجزاء، وهو كتاب حسن وإ كان قد عيب عليه في مواضع منه، ونسب إلى الميل مع البحتري فيما أورده، والتعصب على أبي تمام فيما ذكره. والناس بعد فيه على فريقين: فرقة قالت برأيه حسب رأيهم في البحتري وغلبة حبهم لشعره. وطائفة أسرفت في التقبيح لتعصبه، فإنه جد واجتهد في طمس محاسن أبي تمام، وتزيين مرذول البحتري. ولعمري إن الأمر كذلك، وحسبك أنه بلغ في كتابه إلى قول أبي تمام: أصم بك الناعي وإن كان أسمعا وشرع في إقامة البراهين على تزييف هذا الجوهر الثمين فتارة يقول: هو مسروق، وتارة يقول: هو مرذول، ولا يحتاج المتعصب إلى أكثر من ذلك إلى غير ذلك من تعصباته، ولو أنصف وقال في كل واحد بقدر فضائله، لكان في محاسن البحتري كفاية عن التعصب بالوضع من أبي تمام. وله أيضاً: كتاب الخاص والمشترك، تكلم فيه على الفرق بين الألفاظ والمعاني التي تشترك العرب فيها، ولا ينسب مستعملها إلى السرقة وإن كان قد سبق إليها، وبين الخاص الذي ابتدعه الشعراء وتفردوا به ومن اتبعهم، وما قصر في إيضاح ذلك وتحقيقه إلى غير ذلك من تصانيفه التي ذكرنا منها ما قدرنا عليه فيما تقدم. ومن شعره:
يا واحداً كان في الزمان ... لا من يجاريه أو يداني؟
دعني من نائل جزيل ... يعجز عن شكره لساني
فلست والله مستميحاً ... ولا أخا مطمع تراني
وهب إذا كنت لي وهوباً ... من بعض أخلاقك الحسان
وقال في أبي محمد المافروخي وكان عالماً فاضلاً لا يجارى، لكنه كان تمتاماً:
لا تنظرن إلى تتعتعه إذا ... رام الكلام ولفظه المعتاص
وانظر إلى المحكم التي يأتي بها ... تشفيك عند تطلق وخلاص
فالدر ليس يناله غواصه ... حتى تقطع أنفس الغواص

وفي النشوار: حدثني أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي قال: قال أبو أحمد: طلحة بن الحسين بن المثنى، وقد تجارينا على خلوة للحديث عما كان بينه وبين أبي القاسم البريدي، وتدبير كل واحد منهما لصاحبه في القبض عليه، وأشرت عليه بأ يهرب من البصرة ولا يقيم، وأنه يجب أن يغير زيه فقال: لست أفكر في هذا الرجل لأمور كثيرة، منها: رؤيا رأيتها منذ ليال كثيرة. فقلت: ما هي؟ فقال: رأيت ثعباناً عظيماً قد خرج من هذا الحائط، وأوأ بيده إلى حائط في ملجسه وهو يريدني فطلبته فأتيته في الحائط. فتأولت ذلك أن الثعبا البريدي وأني أغلبه. قال: فحين قال: فأتيته في الحائط، سبق إلى قلبي أن البريدي هو الثابت، وأن الحائط حياطة له دون أبي أحمد. فأردت أن أقول له: إن الخبر مستفيض لما كان عبد الملك رأى في منامه، كأنه وابن الزبير اصطرعا في صعيد من الأرض، فطرح ابن الزبير عبد الملك تحته على الأرض، وأوتده بأربعة أوتاد فيها، وأنه أنفذ راكباً إلى البصرة، حتى لقي ابن سيرين، فقص عليه الرؤيا كأنها له، وكتم ابن الزبير. فقال له ابن سيرين: هذه الرؤيا ليست رؤياك، فلا أفسرها لك، فألح عليه فقال له: هذه للرؤيا يجب أن تكون لعبد الملك، فإن صدقتني فسرتها لك، فقال: هو كما وقع لك. فقال: قل له: إن صحت رؤياك هذه فستغلب ابن الزبير على الأرض، ويملك الأرض من صلبك أربعة ملوك. فمضى الرجل إلى عبد الملك فأخبره، فعجب من فطنة ابن سيرين فقال: ارجع إليه فقل له: من أين قلت ذلك؟ فرجع الرجل إليه، فقال له: إن الغالب في النوم هو المغلوب، وتمكنه على الأرض غلبه عليها، والأوتاد الأربعة التي أوتدها في الأرض: هم ملوك يتمكنو من الأرض كما تمكنت الأوتاد.
قال أبو القاسم الآمدي: فأردت أن أقول لأبي أحمد هذا، وما وقع لي من القياس عليه في تفسير رؤياه، فكرهت ذلك لأنه كان يكون سوء أدب وقباحة عشرة، وعياً لنفسه، فما مضت الأيام حتى قبض البريدي عليه، وكان من أمره ما كان.

أبو الحسن البوراني
معتزلي نحوي، ذكره المقدر عند ذكره لجماعة من المعتزلة النحويين فقال: وأبو الحسن البوراني، ناهيك تدقيقاً في مسائل الكتاب، وكان في أيام أبي علي الفارسي وطبقته.
الحسن بن الحسين بن عبيد الله
ابن عبد الرحمن، ابن العلاء بن أبي صفرة، المعروف بالسكري، أبو سعيد النحوي اللغوي، الراوية الثقة المكثر. مات في سنة خمس وسبعين ومائتين، ومولده في سنة اثنتي عشرة ومائتي. سمع يحيى بن معين، وأبا حاتم السجستاني، والعباس بن الفرج الرياشي، ومحمد بن حبيب، والحارث اب أبي أسامة، وأحمد بن الحارث الخزاز وخلقاً سواهم. وأخذ عنه محمد بن عبد الملك التاريخي وكان ثقة صادقاً يقرئ القرآن، وانتشر عنه من كتب الأدب ما لم ينتشر عن أحد من نظرائه. وكان إذا جمع جمعاً فهو الغاية في الاستيعاب والكثرة.
حدث أبو الكرم خميس بن علي الحوزي النحوي الحافظ الواسطي في أماليه، - وله في هذا الكتاب باب - قال: قدم أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري بغداد، فحضر مجلس أبي زكريا الفراء وهو يومئذ شيخ الناس بها، فأملى الفراء باباً في التصغير قال فيه: العرب تقول: هو الهن وتصغيره الهنى وتثنيته في الرفع الهنيان، وفي النصب والجر الهنيين، وأنشد عليه قول القتال الكلابي:
يا قاتل لله صلعاناً تجئ بهم ... أم الهنيين من زند لها وارى
فأمسك أبو سعيد حتى إذا انقضى المجلس، ولم يبق فيه أحد سوى الفراء، تقدم أبو سعيد حتى جلس بين يديه وقال له: - أكرمك الله - أنا رجل غريب وقد مر شيء، أتأذن لي في ذكره؟ فقال اذكره. فقال: إنك قلت هو الهن، وتثنيته في الرفع الهنيان، وفي النصب والجر الهنيين، وهذا جميعه كما قلت، ثم أنشدت قول الكلابي:
يا قاتل الله صلعاناً تجئ بهم ... أم الهنيين من زد لها وارى
وليس هكذا أنشدناه أشياخنا. قال الفراء: ومن أشياخك؟ قال: أبو عبيدة، وأبو زيد، والأصمعي. قال الفراء: وكيف أنشده أشياخك؟ فقال: زعموا أن الهنبر بوزن الخنصر: ولد الضبع. وأن القتال قال:
يا قاتل الله صلعاناً تجئ بهم ... أم الهنيبر من زد لها وارى
على التصغير. ففكر الفراء ساعة وقال: - أحسن الله عن الإفادة بحسن الأدب جزاءك - .

قال المؤلف ياقوت بن عبد الله: هكذا وجدت هذا الخبر في أمالي اجوزي، وهو ما علمت من الحفاظ، إلا أنه غلط فيه من وجوه، وذلك أن السكري لم يلق الأصمعي ولا أبا عبيدة، ولا أبا زيد، وإنما روى عمن روى عنهم: كابن حبيب، وابن أبي أسامة، والخزاز وطبقتهم. ثم إن السكري ولد في سنة اثنتي عشرة ومائتين. وأبو عبيدة مات سنة تسع عشرة ومائتين وأبو زيد مات سنة خمس عشرة ومائتين. والأصمعي مات في سنة ثلاث عشرة ومائتين، أو خمس عشرة ومائتين، فمتى قرأ عليهم؟ وهذه الجماعة المذكورة هم في طبقة الفراء، لأن الفراء مات في سنة سبع ومائتين، ولعل هذه الحكاية عن غير السكري، وأوردها خميس عنه سهواً، وأوردتها أنا كما وجدتها.
وللسكري من الكتب على ما ذكره محمد بن إسحاق النديم: كتاب أشعار هذيل، كتاب النقائص، كتاب النبات، كتاب الوحوش جود في تصنيفه، كتاب المناهل والقرى، كتاب الأبيات السائرة. وعمل أشعار جماعة من الشعراء، منهم: امرؤ القيس، النابغة الذيباني، النابغة الجعدي، زهير، الحطيئة، لبيد، تميم بن مقبل، دريد بن الصمة، الأعشى، مهلهل، متمم بن نويرة، أعشى باهلة، الزبرقان بن بدر، بشر بن أبي حازم، المتلمس، الراعي، الشماخ، الكميت، ذو الرمة، الفرزدق. ولم يعمل شعر جرير، وعمل شعر أبي نواس، وتكلم على معانيه وغريبه في نحو ألف ورقة ولم يتم، وإنما عمل مقدار ثلثيه.
قال محمد بن إسحاق النديم: ورأيته بخط الحلواني، وكان الحلواني قريب أبي سعيد السكري. وعمل شعر قيس بن الخطيم، وهدبة بن خشرم، وابن أحمر العقيلي، والأخطل، وغير هؤلاء.
وأما أشعار القبائل فإنه عمل منهم: أشعار بني هذيل، أشعار بني شيبان، وبني ربيعة، أشعار بني يربوع، أشعار بني طيء، أشعار بني كنانة، أشعار بني ضبة، أشعار بجيلة، أشعار بني العين، أشعار بني يشكر، أشعار بني حنيفة، أشعار بني محارب، أشعار الأزد، أشعار بني نهشل، أشعار بني عدي، أشعار بني أشجع، أشعار بني نمير، أشعار بني عبد ود، أشعار بني مخزوم، أشعار بني سعد، أشعار بني الحارث، أشعار الضباب، أشعار فهم وعدوان، أشعار مزينة.
وحدث الصولي قال: كنت عند أحمد بن يحيى ثعلب فنعي إليه السكري فتمثل:
المرء يخلق وحده ... ويموت يوم يموت وحده
والناس بعد هالك ... هل من رأيت الناس بعده

الحسن بن الخطير
أبو علي الفارسي المعروف بالظهير، كان فقيهاً لغوياً نحوياً، مات بالقاهرة من الديار المصرية في شهور سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. حدثني بجميع ما أورده عنه ههنا من خبره ووفاته، تلميذه الشريف أبو جعفر محمد بن عبد العزيز الإدريسي، الحسني الصعيدي بالقاهرة في سنة إثنتي عشرة وستمائة قال: كا الظهير يكتب على كتبه في فتاويه - الحسن النعماني - ، فسألته ع هذه النسبة فقال: أنا نعماني، أنا من ولد النعمان بن المنذر، ومولدي بقرية تعرف بالنعمانية، ومنها ارتحلت إلى شيراز، فتفقهت بها فقيل لي الفارسي، وأنتحل مذهب النعمان وأنتصر له فيما وافق اجتهادي. وكان عالماً بفنون من العلم، كان قارئاً بالعشر والشواذ، عالماً بتفسير القرآن وناسخه ومنسوخه، والفقه والخلاف، والكلام والمنطق، والحساب والهيئة والطب، مبرزاً في اللغة والنحو، والعروض والقوافي، ورواية أشعار العرب وأيامها وأخبار الملوك من العرب والعجم. وكان يحفظ في كل فن من هذه العلوم كتاباً، فكان يحفظ في علم التفسير كتاب لباب التفسير لتاج القراء، وفي الفقه كتاب الوجيز للغزالي، وفي فقه أبي حنيفة كتاب الجامع الصغير لمحمد بن الحسن الشيباني نظم النسفي، وفي الكلام كتاب نهاية الإقدام للشهرستاني، وفي اللغة كتاب الجمهرة لابن دريد، كان يسردها كما يسرد القارئ الفاتحة.
وقال لي: كنت أكتب ألواحاً وأدرسها كما أدرس القرآن، فحفظتها في مدة أربع عشرة سنة، وكان يحفظ في النحو كتاب الإيضاح لأبي علي وعروض الصاحب بن عباد، وكان يحفظ في المننطق أرجوزة أبي علي بن سينا، وكان قيماً بمعرفة قانو الطب له، وكان عارفاً باللغة العبرانية، ويناظر أهلها بها، حتى لقد سمعت بعض رؤساء اليهود يقول له: لو حلفت أن سيدنا كان حبراً من أحبار اليهود لحلفت، فإنه لا يعرف هذه النصوص بالعبرانية إلا من تدرب بهذه اللغة.

وكان الغالب عليه علم الأدب، حتى لقد رأيت الشيخ أبا الفتح عثمان بن عيسى النحوي البلطي، وهو شيخ الناس يومئذ بالديار المصرية، يسأله سؤال المستفيد عن حروف من حوشي اللغة، وسأله يوماً بمحضري عما وقع في ألفاظ العرب على مثال شقحطب، فقال: هذا يسمى في كلام العرب المنحوت، ومعناه: أن الكلمة منحوتة من كلمتين، كما ينحت النجار خشبتين، ويجعلهما واحداً فشقحطب منحوت من شق وحطب. فسأله البلطي أن يثبت له ما وقع من هذا المثال ليعول في معرفتها عليه، فأملاها عليه في نحو عشرين ورقة من حفظه، وسماها كتاب تنبيه البارعي على المنحوت من كلام العرب.
قال: ورأيت السعيد أبا القاسم هبة الله بن الرشيد جعفر بن سناء الملك، يسأله عن وجه الامتحان عن كلمات من غريب كلام العرب، وهو يجيب عنها بشواهدها وكان القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني قد وضعه على ذلك.
قال: وحدثني عن نفسه قال: لما دخلت خوزستان لقيت بها المجير البغدادي تلميذ الشهرستاني، وكان مبرزاً في علوم النظر فأحب صاحب خوزستان أن يجمع بيننا للمناظرة في مجلسه، وبلغني ذلك، فأشفقت من الانقطاع لمعرفتي بوفور بضاعة المجير من علم الكلام، وعرفت أن بضاعته من اللغة نزرة، فلما جلسنا للمناظرة والمجلس غاص بالعلماء، فقلت له: نعرض الكلام إذاً أفرأيت الطلة إلى قرينها فارهاً في وبصان، أو الجساد إذا تأشب بأبي المغبث؟ فاحتاج إلى أن يستفسر ما قلت، فشنعت عليه وقلت: انظر إلى المدعي رتبة الإمامة يجهل لغة العرب، التي بها نزل كلام رب العالمين، وجاء حديث سيد المرسلي، والمناظرة: إنما اشتقت من النظير، وليس هذا بنظيري لجهله بأحد العلوم التي يلزم المجتهد القيام بها، وكثر لغط أهل المجسل، وانقسموا فريقين فرقة لي، وفرقة علي، وانفض المجلس على ذلك، وشاع في الناس أني قطعته. وكان الظهير قد أقام بالقدس مدة، فاجتاز به الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف، فرآه عند الصخرة يدرس، فسأل عنه فعرف منزلته من العلم، فأحضره عنده، ورغبه في المصير معه، ليقمع به شهاب الدين أبا الفتح الطوسي لشيء نقمه عليه، فورد معه إلى القاهرة، وأجرى عليه كل شهر ستين دياراً، ومائة رطل خبزاً وخروفاً وشمعة كل يوم، ومال إليه الناس من الجند وغيرهم من العلماء، وصار له سوق قائم، إلى أن قرر العزيز المناظرة بينه وبين الطوسي في غد عيد، وعزم الظهير أن يسلك مع الطوسي وقت المناظرة طريق المجير من المغالطة، لأن الطوسي كان قليل المحفوظ، إلا أنه كان جريئاً مقداماً شديد المعارضة، واتفق أن ركب العزيز يوم العيد، وركب معه الظهير والطوسي، فقال الظهير للعزيز في أثناء الكلام: أنت يا مولانا من أهل الجنة، فوجد الطوسي السبيل فوجد الطوسي السبيل إلى مقتله فقال: وما يدريك أنه من أهل الجنة؟ وكيف تزكي على الله تعالى؟ فقال له الظهير: قد زكى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة. فقال: أبيت يا مسكين إلا جهلاً، ما تفرق بين التزكية عن الله، والتكية على الله؟ وأنت من أخبرك أن هذا من أهل الجنة؟ ما أنت إلا كما زعموا: أن فأرة وقعت في دن خمر، فشربت فسكرت، فقالت أين القطاط؟ فلاح لها هر، فقالت: لا تؤاخذ السكارى بما يقولو. وأنت شربت من خمر دن نعمة هذا الملك فسكرت فصرت تقول خالياً: أين العلماء؟ فأبلس ولم يجد جواباً وانصرف، وقد انكسرت حرمته عند العزيز، وشاعت هذه الحكاية بين العوام، وصارت تحكى في الأسواق والمحافل. فكان مآل أمره أن انضوى إلى المدرسة التي أنشأها الأمير تركون الأسدي، يدرس بها مذهب أبي حنيفة إلى أن مات. وكان قد أملى كتاباً في تفسير القرآن، وصل منه بعد سنين إلى تفسير قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) في نحو مائتي ورقة، ومات ولم يختم تفسير سورة البقرة. وله: كتاب في شرح الصحيحين على ترتيب الحميدي سماه كتاب الحجة، اختصره من كتاب الإفصاح في تفسير الصحاح للوزير ابن هبيرة، وزاد عليه أشياء وقع اختياره عليها، وكتاب في اختلاف الصحابة والتابعين وفقهاء الأنصار ولم يتم. وله خطب وفصول وعظية مشحونة بغريب اللغة وحوشيها.

الحسن بن داود الرقي

أبو علي، لا أعرف من أمره إلا ما وجدته بخط أبي الحسن علي بن عبيد الله الشمسي اللغوي. حدثنا النيسابوري قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن يوسف الناقط قال: حدثنا الناقط قال: حدثنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل بن خلف بن شجرة قال: قال لي أبو أحمد محمد بن موسى البردي: سمعت من الحسن بن داود أبي علي الرقي بسر من رأى، سنة ثمان وثلاثين ومائتين كتابه الذي يسميه كتاب الحلي، وكان وقت كتبنا عنه قد جاز الثمانين، وأخرج إلى أبو أحمد الكتاب، فإذا هو الكتاب الذي سماه أ؛مد بن يحيى فصيح الكلام. قال أبو الحسن الناقط: قال ابن كامل: وكان الحسن بن داود مؤدب عبيد الله ابن سليمان بن وهب وزير المعتضد.

الحسن بن داود بن الحسن القرشي
المعروف بالبقار المقرئ، يكنى أبا علي، أموي كوفي، قرأ على أبي محمد القاسم بن أحمد، المعروف بالخياط التميمي، المعروف بابن القملي أيضاً - عن أبي جعفر محمد ابن حبيب الشموني الكوفي، عن أبي يوسف يعقوب بن خليفة الأعشى، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم - قراءة عاصم. ومات بالكوفة سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة. وصنف كتباً منها: كتاب قراءة الأعشى، كتاب اللغة في مخارج الحروف وأصول النحو، ذكر الحافظ أبو العلاء الهمذاني في كتاب القراءات العشر له في نسب البقار: الحسن بن داود بن الحسن بن عون بن منذر بن صبيح القرشي النحوي، وكان موصوفاً بحسن القراءة وطيب النغم جداً.
وقال ابن النجار في تاريخ الكوفة: ومن خيار رجال عاصم محمد بن غالب الصيرفي، وبينه وبين القملي اختلافات في حروف يسيرة، وقرأ عليه جماعة من أهل الكوفة منهم: أبو علي الحسن بن داود البقار، وكان حاذقاً بالنحو، لفاظاً بالقرآن، صاحب ألحان، وكان يصلي بالناس التراويح بالجامع بالكوفة، وصلى فيه ثلاثاً وأربعين سنة، وكان أ؛د المجودين.
الحسن بن رشيق القيرواني
مولى الأزد، كان شاعراً أديباً، نحوياً لغوياً حاذقاً عروضياً، كثير التصنيف، حسن التأليف، وكان بينه وبين ابن شرف الأديب مناقضات ومحاقدات، وصنف في الرد عليه عدة تصانيف. كان أبوه رشيق رومياً، ذكر ذلك هو في الرد على ابن شرف، بعد ذكره نسب ابن شرف: هو اسم امرأة نائحة ثم قال: وأما أنا - فنضر الله وجه هذا الشيخ في، وأتم به النعمة علي - ، فما أبغي به أبا، ولا أرضى بمذهبه مذهباً، رضيت به رومياً، لا دعياً، ولا بدعياً.
تأدب ابن رشيق على أبي عبد الله بن جعفر القزاز، القيرواني النحوي اللغوي، وغيره من أهل القيروان. ومات بالقيروان سنة ست وخمسين وأربعمائة: عن ست وستين سنة، ذكر ابن رشيق هذا نفسه في كتابه الذي صنفه في شعراء عصره، ووسمه بالنموذج فقال في آخره: صاحب الكتاب هو حسن بن رشيق، مولى من موالي الأزد، ولد بالمحمدية سنة تسعين وثلاثمائة، وتأدب بها يسيراً. وقدم إلى الحضرة سنة ست وأربعمائة، وامتدح سيدنا - خلد الله دولته - .
قال المؤلف يعني المعز بن باديس بن المنصور سنة عشر بقصيدة أولها:
ذمت لعينك أعين الغزلان ... قمر أقر لحسنه القمران
ومشت ولا والله ما حقف النقا ... مما أرتك ولا قضيب البان
وثن الملاحة غير أن ديانتي ... تأبى علي عبادة الأوثان
منها:
يا بن الأعزة من أكابر حمير ... وسلالة الأملاك من قحطان
من كل أبلج واضح بلسانه ... يضع السيوف مواضع التيجان
قال: ومن مدحه القصيدة التي دخل بها في جملته، ونسب إلى خدمته، فلزم الديوان وأخذ الصلة والحملان:
لدن الرماح لما يسقي أسنتها ... من مهجة القيل أو من ثغرة البطل
لو أثمرت من دم الأعداء سمرقناً ... لأورقت عنده سمر القنا الذبل
إذا توجه في أولى كتائبه ... لم تفرق العين بي السهل والجبل
فالجيش ينفض حوليه أسنته ... نفض العقاب جناحيه من البلل
يأتي الأمور على رفق وفي دعة ... عجلان كالفلك الدوار في مهثل
قال: ومن رثائه:
أما لئن صح ما جاء البريد به ... ليكثرن من الباكي أشياعي
مازلت أفزع من يأس ومن طمع ... حتى ترفع يأسي فوق أطماعي

فاليوم أنفق كنز العمر أجمعه ... لما مضى واحد الدنيا بإجماع
قال: ومن هجائه:
قالوا رأينا فراتاً لي سوجعه ... ما يوجع الناس من هجو إذا قذفا
وله من كتاب سر السرور:
معتقة يعلو الحباب متونها ... فتحسبه فيها نثير جمان
رأت من لجين راحة لمديرها ... فطافت له من عسجد ببنان
ومن غير كتابه له:
ومن حسنات الدهر عندي ليلة ... من العمر لم تترك لأيامها ذنبا
خلونا بها ننفي القذا عن عيوننا ... بلؤلؤة مملوءة ذهباً سكبا
وملنا لتقبيل الثغور ولثمها ... كميل جناح الطير يلتقط الحبا
قال الأبيوردي: هذا أحس من قول ابن المعتز:
كم من عناق لنا ومن قبل ... مختلسات حذار مرتقب
نقر العصافير وهي خائفةمن النواطير يانع الرطب
وله أيضاً:
قد حنكت مني التجا ... رب كل شيء غير جودي
أبداً أقول لئن كسب ... ت لأقبضن بيدي شديد
حتى إذا أثريت عد ... ت إلى السماحة من جديد
إن المقام بمثل حا ... لي لا يتم مع القعود
لا بد لي من رحلة ... تدي من الأمل البعيد
وله أيضاً:
في الناس من لا يرتجى نفعه ... إلا إذا مس بإضرار
كالعود لا يطمع في طيبه ... إن أنت لم تمسسه بالنار
ومما أورده ابن رشيق لنفسه في النموذج:
أقول كالمأسور في ليلة ... ألقت على الآفاق كلكالها
يا ليلة الهجر التي ليتها ... قطع سيف الهجر أوصالها
ما أحسنت جمل ولا أجملت ... هذا وليس الحسن إلا لها
وأنشد لنفسه أيضاً:
أحب أخي وإ أعرضت عنه ... وقل على مسامعه كلامي
ولي في وجهه تقطيب راض ... كما قطبت في وجه المدام
ورب تجهم من غير بغض ... وضغن كامن تحت ابتسام
وله أيضاً:
من جفاني فإنني غير جاف ... صلة أو قطيعة في عفاف
ربما هاجر الفتى من يصافي ... ه ولاقى بالبشر من لا يصافي
وأنشد لنفسه في كتاب فسح اللمح:
المرء في فسحة كما علموا ... حتى يرى شعره وتأليفه
فواحد منهما صفحت له ... عنه وجازت له زخاريفه
وآخر نحن منه في غرر ... إن لم يوافق رضاك تثقيفه
وقد بعثنا كيسي ملؤهما ... نقد امرئ حاذق وتزييفه
فانظر وما زلت أهل معرفة ... يا من لنا علمه ومعروفه
ثم قال في ورقة أخرى تمام الأبيات العينية، وما وجدتها أعني الأبيات التي هذه تمامها:
ولو غيرك الموسوم عندي بريبة ... لأعطيت فيه مدعي القوم ما ادعى
فلا تتخالجك الظنون فإنها ... مآثم واترك للصنائع موضعا
فوالله ما طولت باللوم فيكم ... لساناً ولا عرضت للذم مسمعا
ولا ملت عنكم بالوداد ولا انطوت ... حبالي ولا ولى ثنائي مودعا
بلى ربما أكرمت نفسي فلم تهن ... وأجللتها عن أن تذل وتخضعا
فباينت لا أن العداوة باينت ... وقاطعت لا أن الوفاء تقطعا
وختم كتاب العمدة بهذه الأبيات:
إن الذي صاغت يدي وفمي ... وجرى لساني فيه أو قلمي
مما عنيت بسبك خالصه ... واخترته من جوهر الكلم
لم اهده إلا لتكسوه ... ذكراً يجدده على القدم
لسنا نزيدك فضل معرفة ... لكنهن مصايد الكرم
فاقبل هدية من أشدت به ... ونسخت عنه آية العدم
لا تحسن الدنيا أبا حسن ... تأتي بمثلك فائق الهمم

الحسن بن أبي الحسن صافي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15