كتاب : معجم الأدباء
المؤلف : ياقوت الحموي

وأظهر السر مختارا بلا سبب ... وذاك والله من أوفى الجنايات
أما أتاه عن المختار في خبر ... إن المجالس تغشى بالأمانات
قال السمعاني وأنشدني لنفسه بنيسابور:
لا قدس الله نيسابور من بلد ... ما فيه من صاحب يسلى ولا سكن
لولا الجحيم الذي في القلب من حرق ... لفرقه الأهل والأحباب والوطن
لمت من شدة البرد الذي ظهرت ... آثار شدته في ظاهر البدن
يا قوم دوموا على عهد الهوى وثقوا ... إني على العهد لم أغدر ولم أخن
ولا تدبرت عيشي بعد بعدكم ... إلا تمثلت بيتاً قيل من زمن
فإن أعش فلعل الله يجمعنا ... وإن أمت فقتيل الهم والحزن

على بن الحسن بن إسماعيل
ابن أحمد بن جعفر بن محمد بن صالح بن حسان ابن حصن بن معلى بن أسد بن عمرو بن مالك بن عامر بن معاوية بن عبد الله بن مالك بن عامر بن الحارث بن إنمار بن وديعة بن الكيدي بن أقصى بن عبد القيس ابن أقصى بن دعمى بن جديلة بن لبد بن ربيعة بن نزار ابن معد بن عدنان، أبو الحسن العبدري من أهل البصرة يعرف بابن المقلة، هكذا أملى نسبه على جماعةٍ، وهو شيخ فاضل له معرفة بالأدب والعروض، وله كتب وتصانيف في ذلك، ويقول الشعر ويترسل. مات بالبصرة في رابع عشر شعبان سنة تسعٍ وتسعين وخمسمائةٍ، ومولده سنة أربعٍ وعشرين وخمسمائةٍ، سمع بالبصرة أبا محمد جابر بن محمد الأنصاري، وأبا العز طلحة بن علي بن عمر المالكي، وأبا الحسن على بن عبد الله بن عبد الملك الواعظ، وأبا اسحاق إبراهيم بن عطية الشافعي إمام الجامع بالبصرة وغيره، وقرأ بها الأدب على أبي على الأحمر، وأبي العباس بن الحريري، وأبي العز بن أبي الدنيا، وقدم بغداد مراراً وسمع بها من أبي الكرم المبارك بن الحسن الشهرزوري، وأبي الفضل محمد بن ناصر السلامي، وأبي بكر الزاغوني وغيرهم، وعاد إلى بلده وخرج لنفسه فوائد في عدة أجزاءٍ عن شيخه، وأقرأ الناس الأدب، وكان متحققاً بعلم العروض ونعم الشيخ، وكان محمود الطريقة.
قال أبو عبد الله: أنشدني أبو الحسن على بن الحسن العبدري لنفسه:
شيمتي إن أغض طرفي في ال ... دار إذا ماد خلتها لصديق
وأصون الحديث أودعه صو ... ني سري ولا أخون رفيقي
قال: وأنشدني أيضا لنفسه:
لا تسلك الطرق إذا أخطرت ... لو إنها تفضي إلى المملكة
قد أنزل الله تعالى: ولا ... تلقوا بأيديكم إلى التهلكة
علي بن الحسين المسعودي المؤرخ
أبو الحسن، من ولد عبد الله بن مسعود صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو من أهل المغرب، مات فيما بلغني في سنة ست وأربعين وثلاثمائة بمصر، قال مؤلف الكتاب: وقول محمد بن إسحاق: إنه من أهل المغرب غلط، لأن المسعودي ذكر في السفر الثاني من كتابه المعروف بمروج الذهب وقد عدد فضائل الأقاليم، ووصف هواها واعتدالها ثم قال: وأوسط الأقاليم إقليم بابل الذي مولدنا به، وإن كانت ريب الأيام أنات بيننا وبينه، وساحقت مسافتنا عنه، وولدت في قلوبنا الحنين إليه إذ كان وطننا ومسقطنا، وقد كان هذا الإقليم عند ملوك الفرس جليلاً، وكانوا يشتون بالعراق، ويصيفون بالجبال. فقال أبو دلف العجلي:
إني أمرؤ كسروي الفعال ... أصيف الجبال وأشتو العراق
وقد كانت الأوائل تشبهه بالقلب في الجسد، لأن أرضه هي التي كشفت الآراء عن أهله بحكمة الأمور كما يرتفع ذلك عن القلب، ولذلك اعتدلت ألوان أهله وامتدت أجسامهم، فسلموا من شقرة الروم والصقالبة وسواد الحبشة وغلظ البربر، واجتمعت فيهم محاسن جميع الأقطار، وكما اعتدلوا في الخلقة لطفوا في الفطنة، وأشرف هذه الأقاليم مدينة السلام ويعز على ما أصارتني إليه الأقدار من فراق هذا المصر الذي عن بقعته فصلنا، لكنه الدهر الذي من شيمته التشتيت، والزمن الذي من شريطته الآفات، ولقد أحسن أبو دلف في قوله:
أيا نكبة الدهر التي طوحت بنا ... أيادي سبا في شرقها والمغارب

ومن علامة وفاء المرء: دوام عهده وحنينه إلى إخوانه، وشوقه إلى أوطانه، ومن علامة الرشد: أن تكون النفس إلى مولدها تائقة، وإلى مسقط رأسها شائقة.
فهذا يدلك على إن الرجل بغدادي الأصل، وإنما أنتقل إلى ديار مصر فأقام فيها. وهو يحكي في كتبه كثيراً ويقول: رأيت أيام كوني بمصر كيت وكيت، وله من الكتب: كتاب مروج الذهب ومعادن الجواهر في تحف الأشراف والملوك، كتاب ذخائر العلوم وما كان في سالف الدهور، كتاب الرسائل، كتاب الاستذكار لما مر في سالف الإعصار، كتاب التاريخ في أخبار الأمم من العرب والعجم، كتاب التنبيه والأشراف، كتاب خزائن الملك وسر العالمين، كتاب المقالات في أصول الديانات، كتاب أخبار الزمان ومن أباده الحدثان، كتاب البيان في أسماء الأئمة، كتاب أخبار الخوارج.

علي بن الحسين بن محمد بن الهيثم
ابن عبد الرحمن بن مر وان بن عبد الله بن مر وان بن محمد بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف أبو الفرج الأصبهاني العلامة النساب الأخباري الحفظة، الجامع بين سعة الرواية والحذق في الدراسة، لا أعلم لأحد أحسن من تصانيفه في فنها وحسن استيعاب ما يتصدى لجمعه، وكان مع ذلك شاعراً جيداً، مات في رابع ذي الحجة سنة ست وخمسين وثلاثمائةٍ في خلافة المطيع لله، ومولده سنة أربعٍ وثمانين ومائتين.
روى عن أبي بكر بن در يد وأبي بكر بن الأنباري. والفضل بن الحباب الجمحي، وعلى بن سليمان الأخفش، وإبراهيم نفطوية.
وجدت على الهامش بخط المؤلف تجاه وفاته ما صورته: وفاته هذه فيها نظر وتفتقر إلى التأمل، لأنه ذكر في كتاب أدب الغرباء من تأليفه: حدثني صديق قال: قرأت على قصر معز الدولة بالشماسية يقول فلان بن فلان الهروي، حضرت هذا الموضع في سماط معز الدولة والدنيا عليه مقبلة، وهيبة الملك عليه مشتملة، ثم عدت إليه في سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، فرأيت ما يعتبر به اللبيب يعني من الخراب. وذكر في موضعٍ آخر من كتابه هذا قصة له مع صبيٍ كان يحبه ذكرتها بعد هذا يذكر فيه موت معز الدولة وولاية ابنه بختيار، وكان ذلك في سنة ست وخمسين وثلاثمائة، ويزعم في تلك الحكاية إنه كان في عصر شبابه فلا أدري ما هذا الاختلاف؟ - آخر ما كان على الهامش - .
وقال الوزير أبو القاسم الحسن بن الحسن المغربي، في مقدمة ما أنتخبه من كتاب الأغاني إلى سيف الدولة ابن حمدان فأعطاه ألف دينار، وبلغ ذلك الصاحب أبا القاسم بن عباد فقال: لقد قصر سيف الدولة وإنه يستأهل أضعافها، ووصف الكتاب فأطنب ثم قال: ولقد اشتملت خزائني على مائتين وستة الألف مجلد ما منها ما هو سميري غيره، ولا راقني منها سواه.
قال: وقال أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف كاتب عضد الدولة: لم يكن كتاب الأغاني يفارق عضد الدولة في سفره ولا حضره، وإنه كان جليسه الذي يأنس إليه وخدينه الذي يرتاح نحوه.
قال: وقال أبو محمدٍ المهلبي. سألت أبا الفرج في كم جمعت هذا الكتاب؟ فقال: في خمسين سنةً، قال: وإنه كتبه مرةً واحدةً في عمره، وهي النسخة التي أهداها إلى سيف الدولة.
قال المؤلف: لعمري إن هذا الكتاب لجليل القدر، شائع الذكر، جم الفوائد، عظيم العلم، جامع بين الجد البحت والهزل النحت، وقد تأملت هذا الكتاب وعنيت به، وطالعته مراراً وكتبت به نسخةً بخطي في عشر مجلداتٍ، ونقلت منه إلى كتابي الموسوم بأخبار الشعراء فأكثرت وجمعت تراجمه فوجدته يعد بشيء ولا يفي به في غير موضع منه، كقوله في أخبار أبي العتاهية: وقد طالت أخباره هاهنا وسنذكر خبره مع عتبة في موضع آخر. ولم يفعل، وقال في موضع آخر: أخبار أبي النواس مع جنان إذا كانت سائر أخباره قد تقدمت. ولم يتقدم شيء إلى أشباه لذلك، والأصوات المائة هي تسع وتسعون، وما أظن إلا أن الكتاب قد سقط منه شيء، أو يكون النسيان قد غلب عليه والله أعلم.

قال المؤلف: وتصانيفه كثيرة وهذا الذي يحضرني منها: كتاب الأغاني الكبير، كتاب مجرد الأغاني، كتاب التعديل والانتصاف في أخبار القبائل وإنسابها لم أره، وبودي لو رأيته ذكره هو في كتاب الأغاني، كتاب مقاتل الطالبيين، كتاب أخبار القيان، كتاب الإماء الشواعر، كتاب المماليك الشعراء، كتاب أدباء الغرباء، كتاب الديانات، كتاب تفضيل ذي الحجة، كتاب الأخبار والنوادر، كتاب أدب السماع، كتاب أخبار الطفيليين، كتاب مجموع الأخبار والآثار، كتاب الخمارين والخمارات، كتاب الفرق والمعيار في الأوغاد والأحرار، وهي رسالة عملها في هارون بن المنجم، كتاب دعوة النجار، كتاب أخبار جحظة البرمكي، كتاب جمهرة النسب، كتاب نسب بني عبد شمس، كتاب نسب بني شيبان، كتاب نسب المهالبة، كتاب نسب بني تغلب، كتاب الغلمان المغنين، كتاب مناجيب الخصيان عمله للوزير المهلبي في خصيين مغنيين كانا له. وله بعد تصانيف جياد فيما بلغني كان يصنفها ويرسلها إلى المستولين على بلاد المغرب من بني أمية، وكانوا يحسنون جائزته، ولم يعد منها إلى الشرق إلا القليل والله أعلم.
حدث الرئيس أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابئ في الكتاب الذي ألفه في أخبار الوزير المهلبي واسمه الحسن بن محمد بن هارون ابن إبراهيم بن عبد الله بن زيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة وزير معز الدولة بن بويه الديلمي قال: وكان أبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني من ندماء الوزير أبي محمد الخصيصين به، وكان وسخاً قذراً لم يغسل له ثوباً منذ فصله إلى أن قطعه، وكان المهلبي شديد التقشف عظيم التنطس، وكان يحتمل له ذلك لموضعه من العلم. فقال فيه: كان أبو الفرج على بن الحسين الأصفهاني، أموي النسب عزيز الأدب، عالي الرواية حسن الدراية، وله تصنيفات منها: كتاب الأغاني، وقد أورد فيه ما دل به على اتساع علمه وكثرة حفظه، وله شعر جيد الأ إنه في الهجاء أجود، وإن كان في غيره غير متأخر، وكان الناس في ذلك العهد يحذرون لسانه، ويتقون هجاءه ويصبرون في مجالسته ومعاشرته ومواكلته ومشاربته على كل صعب من أمره، لأنه كان وسخاً في نفسه، ثم في ثوبه ونعله، حتى إنه لم يكن ينزع دراعة الأ بعد إبلائها وتقطيعها، ولا يعرف لشيء من ثيابه غسلاً، ولا يطلب منه في مدة بقائه عوضاً.
فحدثني جدي وسمعت هذا الخبر من غيره لأنه متفاوض متعاود: إن أبا الفرج كان جالساً في بعض لأيام على مائدة أبي محمدٍ المهلبي فقدمت سكباجه وافقت من أبي الفرج سعلةً فبدرت من فمه قطعة من بلغم فسقطت وسط الغضارة، فتقدم أبو محمد برفعها وقال: هاتوا من هذا اللون في غير الصحفة، ولم يبن في وجهه إنكار ولا استكراه، ولا داخل أبا الفرج في هذا الحال استحياء ولا إنقباض. هذا إلى ما يجري هذا المجرى على مضى الأيام، وكان أبو محمد عزوف النفس بعيداً من الصبر على مثل هذه الأسباب، إلا إنه كان يتكلف احتمالها لورودها من أبي الفرج، وكان من ظرفه في فعله ونظافته في مأكله، إنه كان إذا أراد أكل شيء بملعقة كالأرز واللبن وأمثاله وقف من جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين ملعقةً زجاجاً مجروداً، وكان يستعمله كثيراً فيأخذ منه ملعقةً يأكل بها من ذلك اللون لقمةً واحدةً، ثم يدفعها إلى غلامٍ آخر قام من الجانب الأيسر، ثم يأخذ أخرى فيفعل بها فعل الأولى حتى ينال الكفاية، لئلا يعيد الملعقة إلى فيه دفعةً ثانيةً، فلما كثر على المهلبي استمرار ما قدمنا ذكره، جعل له مائدتين: إحداهما كبيرة عامة، وأخرى لطيفة خاصة، وكان يواكله عليها من يدعوه إليها.
قال مؤلف الكتاب: وقد ذكر مثل هذا عن أبي رياش أحمد بن إبراهيم اللغوي وقد ذكرناه في بابه. قال هلال: وعلى صنع أبي محمد بأبي الفرج وما كان يصنعه فما خلا من هجوه حيث قال فيه:
أبعين مفتقر إليك رأيتني ... بعد الغنى فرميت بي من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنني ... أملت للإحسان غير الخالق

قال ابن الصابئ: وحدثني جدي أيضاً قال: قصدت أنا وأبو علي الأنباري وأبو العلاء صاعد دار أبي الفرج لقضاء حقه وتعرف خبره من شيءٍ وجده، وموقعها على دجلة في المكان المتوسط بين درب سليمان ودرب دجلة، وملاصقة لدار أبي الفتح البريدي، وصعد بعض غلماننا لإيذانه بحضورنا، فدق الباب دقاً عنيفاً حتى ضجر من الدق وضجرنا من الصبر، قال: وكان له سنور أبيض يسميه يققا، ومن رسمه إذا قرع الباب قارع إن يخرج ويصيح إلى إن يتبعه غلام أبي الفرج لفتح الباب أو هو نفسه، فلم نر السنور في ذلك اليوم، فأنكرنا الأمر وازددنا تشوقاً إلى معرفة الخبر، فلما كان بعد أمدٍ طويلٍ صاح صائح إن نعم، ثم خرج أبو الفرج ويده متلوثة بما ظنناه شيئاً كان يأكله فقلنا له: عققناك بان قطعناك عما كان أهم من قصدنا إياك. فقال: لا والله يا سادتي، ما كنت ما تظنون، وإنما لحق يققاً يعني سنورة قولنج. فاحتجت إلى حقنه فأنا مشغول بذلك، فلما سمعنا قوله ورأينا الفعل في يده ورد علينا أعظم مورد من أمره لتناهيه في القذارة إلا مالاغاية بعده وقلنا: ما يجوز إن نصعد إلى عندك فنعوقك عن استتمام هاأنت فيه، وإنما جئناك لتعرف خبرك، وقد بلغنا ما أردناه وانصرفنا.
قال: واختاره في كل شيء مريح، وكانت صحبته له قبل الوزارة وبعدها إلى إن فرق بينهما الموت. وكتب أبو الفرج إلى المهلبي يشكر الفأر ويصف الهر:
يا لحدب الظهور قعص الرقاب ... لدقاق الأنياب والأذناب
خلقت للفساد مذ خلق الخل ... ق وللعيث والأذى والخراب
ناقباتٍ في الأرض والسقف والحي ... طان نقباً أعيا على النقاب
آكلاتٍ كل المآكل لاتأ ... منها شارباتٍ كل الشراب
ألفاتٍ قرض الثياب وقد يع ... دلقرض القلوب قرض الثياب
زال همي منهن أزرق تركي ... ي السبالين إنمر الجلباب
ليث غابٍ خلقاً وخلقاً فمن لا ... ح لعينه خاله ليث غاب
ناصب طرفه إزاء الزوايا ... وإزاء السقوف والأبواب
ينتضي الظفر حين يطفر للصي ... د ولا فظفره في قراب
لا يرى أخبثيه عينا ولا يع ... لم ما جنتاه غير التراب
قرطقوه وشنفوه وحلو ... ه أخيراً وأولاً بالخضاب
فهو طوراً يمشي بحلي عروس ... وهو طوراً يخطو على عناب
حبذا ذاك صاحباً وهو في الصح ... بة أوفى من أكثر الأصحاب
وحدث القاضي أبو علي الحسن بن علي التنوخي في كتاب نشوار المحاضرة قال: ومن طريف أخبار العادات إني كنت أرى أبا الفرج على بن الحسن الأصفهاني الكاتب نديم أبي محمد المهلبي صاحب الكتب المصنفة في الأغاني والقيان، وغير ذلك دائماً إذا ثقل الطعام في معدته، وكان أكولاً نهماً، يتناول خمسة دراهم فلفلاً مدقوقاً فلا تؤذيه ولاتدمعه، وأراه يأكل حمصةً واحدةً أو يصطبغ بمرقة قدرٍ فيها حمص فيسرهج بدنه كله من ذلك، وبعد ساعةٍ أو ساعتين يفصد، وربما فصد لذلك دفعتين، وأساله عن سبب ذلك فلا يكون عنده علم منه، وقال لي غير مرةٍ: إنه لم يدع طبيباً حاذقاً على مرور السنين الأ سأله عن سببه، فلا يجد عنده علماً ولا دواءً، فلما كان قبل فالجه بسنواتٍ ذهبت عنه العادة في الحمص فصار يأكله فلا يضره وبقيت عليه عادة الفلفل. ومن كتاب الوزراء لهلال بن المحسن: وحدث أبو الفرج على بن الحسين الأصفهاني قال: سكر الوزير أبو محمد المهلبي ليلةً ولم يبق بحضرته من ندمائه غيري فقال لي: يا أبا الفرج، أنا أعلم إنك تهجوني سرا فاهجني الساعة جهراً. فقلت: الله الله أيها الوزير في، إن كنت قد مللتني انقطعت، وإن كنت تؤثر قتلي فبالسيف إذا شئت. فقال: دع ذا لابد إن تهجوني وكنت قد سكرت فقلت:
أير بغل بلولب
فقال في الحال مجيزا:
في حر أم المهلبي
هات مصراعا آخر: فقلت: الطلاق لازم للأصفهاني إن زاد على هذا وإن كان عنده زيادة، قرأت بخط أبي على المحسن بن هلال الصابئ صاحب الشامة لأبي الفرج الأصفهاني يهجو أبا الحسن طازاد النصراني الكاتب:
طازاد مشتق من الطيز ... فعد عن ذكر فتى الحوز

كان رجليه إذا مامشى ... مخنث يلعب بالشيز
قرأت بخط هلال بن المظفر الكاتب الزنجاني: حدثني الأستاذ أبو المظفر عبد الغفار بن غنيمة قال: كان أبو الفرج الكاتب الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني كاتباً لركن الدولة حظياً عنده محتشماً لديه، وكان يتوقع من الرئيس أبي الفضل بن العميد إن يكرمه ويبجله ويتوفر عليه في دخوله وخروجه، وعدم ذلك منه فقل:
مالك موفور فما باله ... أكسبك التيه على المعدم؟
ولم إذا جئت نهضنا وإن ... جئنا تطاولت ولم تتمم
وإن خرجنا لم تقل مثل ما ... نقول قدم طرفه قدم
إن كنت ذا علم فمن ذا الذي ... مثل الذي تعلم لم يعلم؟
ولست في الغارب من دولة ... ونحن من دونك في المنسم
وقد ولينا وعزلنا كما ... أنت فلم نصغر ولم تعظم
تكافأت أحوالنا كلها ... فصل على الأنصاف أو فاصرم
وقد روى أبو حيان في كتاب الوزيرين من تصنيفه من خبر هذه الأبيات غير هذا، وقد ذكرناها في أخبار ابن العميد من هذا الكتاب: قرأت في بعض المجاميع لأبي الفرج الأصبهاني:
حضرتكم دهراً وفي الكم تحفة ... فما أذن البواب لي في لقائكم
إذا كان هذا حالكم يوم أخذكم ... فما حالكم تالله يوم عطائكم؟
قال ابن عبد الرحيم: حدثني أبو نصر الزجاج قال: كنت جالساً مع أبي الفرج الأصبهاني في دكان في سوق الوراقين، وكان أبو الحسن على بن يوسف بن البقال الشاعر جالساً عند أبي الفتح بن الحراز الوراق وهو ينشد أبيات إبراهيم بن العباس الصولي التي يقول فيها:
رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت
فلما بلغ إليه استحسنه وكرره ورآه أبو الفرج فقال لي: قم إليه فقل له: قد أسرفت في استحسان هذا البيت، وهو كذاك فأين موضع الصنعة فيه، فقلت له ذاك فقال قوله: وكانت قذى عينيه، فعدت إليه وعرفته. فقال: عد إليه فقل له: أخطأت، الصنعة في قوله: من حيث يخفى مكانها. قال عبيد الله الفقير إليه مؤلف هذا الكتاب: وقد أصاب كل واحد منهما حافة من الغرض فإن الموضعين معاً غاية في الحسن وإن كان ما ذهب إليه أبو الفرج أحسن.
قال أبو الفرج في كتاب الغرباء: وخرجت أنا وأبو الفتح أحمد بن إبراهيم بن علي بن عيسى - رحمه الله - ماضيين إلى دير الثعالب في يوم ذكر إنه من سنة خمس وخمسين وثلاثمائة للنزهة ومشاهدة اجتماع النصارى هناك والشرب على نهر يزدجرد الذي يجري على باب هذا الدير ومعه جماعة من أولاد كتاب النصارى من أحداثهم، وإذا بفتاة كأنها الدينار المنقوش تتمايل وتتثنى كغصن الريحان في نسيم الشمال، فضربت بيدها إلى يد أبي الفتح وقالت يا سيدي: تعال أقرأ هذا الشعر المكتوب على حائط هذا الشاهد، فمضينا معها وبنا من السرور بها وبظرفها وملاحة منطقها ما الله به عليم، فلما دخلنا البيت كشفت عن ذراع كأنه الفضة، وأومأت إلى الموضع فإذا فيه مكتوب:
خرجت يوم عيدها ... في ثياب الرواهب
فتنت باختيالها ... كل جاء وذاهب
لشقائي رأيتها ... يوم دير الثعالب
تتهادى بنسوة ... كاعب في كواعب
هي فيهم كأنها ال ... بدر بين الكواكب
فقلت لها: أنت والله المقصودة بهذه الأبيات، ولم نشك أنها كتبت الأبيات ولم نفارقها بقية يومنا وقلت لها هذه الأبيات وأنشدتها إياها ففرحت:
مرت بنا في الدير خمصانة ... ساحرة الناظر فتانة
أبرزها الذكران من خدرها ... تعظم الدير ورهبانه
مرت بنا تخطر في مشيها ... : إنما قامتها بانه
هبت لنا ريح فمالت بها ... كما تثنى غصن ريحانه
فتيمت قلبي وهاجت له ... أحزانه قدماً وأشجانه

وحصلت بينها وبين أبي الفتح عشرة بعد ذلك، ثم خرج إلى الشام وتوفى بها ولا أعرف لها خبرا بعد ذلك. قال أبو الفرج: وكنت انحدرت إلى البصرة منذ سنياتٍ فلما وردتها أصعدت من الفيض إلى سكة قريش أطلب منزلا أسكنه، لأني كنت غريبا لا أعرف أحداً من أهلها الأ من كنت أسمع بذكره، فدلني رجل على خان فصرت إليه واستأجرت فيه بيتاً وأقمت بالبصرة أياماً، ثم خرجت عنها طالباً حصن مهدىٍ وكتبت هذه الأبيات على حائط البيت الذي أسكنه:
الحمد لله على ما أرى ... من صنعتي من بين هذا الورى
أصارني الدهر إلى حالةٍ ... يعدم فيها الضيف عندي القرى
بدلت من بعد الغنى حاجةً ... إلى كلابٍ يلبسون الفرا
أصبح أدم السوق لي مأكلاً ... وصار خبز البيت خبز الشرا
وبعد ملكي منزلاً مبهجاً ... سكنت بيتاً من بيوت الكرى
فكيف ألفى لاهياً ضاحكاً ... وكيف أحظى بلذيذ الكرى؟
سبحان من يعلم ما خلفنا ... وبين أيدينا وتحت الثرى
والحمد لله على ما أرى ... وانقطع الخطب وزال المرا
قال أبو الفرج: وكنت في أيام الشبيبة والصبا آلف فتىً من أولاد الجند في السنة التي توفى فيها معز الدولة وولى بختيار، وكانت لأبيه حال كبيرة ومنزلة من الدولة ورتبة، وكان الفتى في نهاية حسن الوجه وسلامة الخلق وكرم الطبع، ممن يحب الأدب ويميل إلى أهله، ولم يترك قريحته حتى عرف صدراً من العلم، وجمع خزانة من الكتب حسنةً، فمضت لي معه سير لو حفظت لكانت في كتاب مفرد، من مكاتباتٍ ومعاتباتٍ وغير ذلك مما يطول شرحه. منها ما يشبه ما نحن فيه: إنني جئته يوم جمعةٍ غدوةً فوجدته قد ركب إلى الحلبة، وكانت عادته إن يركب إليها في كل يوم ثلاثاء ويوم جمعة، فجلست على دكةٍ على باب أبيه في موضعٍ فسيحٍ كان عمرها وفرشها، فكنا نجلس عليها للمحادثة إلى ارتفاع النهار، ثم يدخل إذا أقمت عنده إلى حجرة لطيفة كانت مفردة له، لنجتمع على الشرب والشطرنج وما أشبههما، فطال جلوسي في ذلك اليوم منتظراً له، فأبطأ وتصبح من أجل رهان كان بين فرسين لبختيار، فعرض لي لقاء صديقٍ لي فقمت لأمضى ثم أعود إليه، فهجس لي إن كتبت على الحائط الذي كنا نستند إليه هذه الأبيات:
يا من أظل بباب داره ... ويطول حبسي لانتظاره
وحياة طرفك واحوراره ... وجمال صدغك في مداره
لاحلت عمري عن هوا ... ك ولو صليت بحر ناره
وقمت فلما عاد قرأ الأبيات وغضب من فعلي، لئلا يقف عليه من يحتشمه، وكان شديد الكتمان لما بيني وبينه، ومطالباً بمثل ذلك مراقبةً لأبيه، الأ إن ظرفه ووكيد محبته لي، وميله إلي لم يدعه حتى أجاب عنها لما كتب تحتها، ورجعت من ساعتي فوجدته في دار أبيه، فاستأذنت عليه، فخرج إلى خادم لهم فقال: يقول لك لا التقينا حتى تقف على الجواب عن الأبيات فإنه تحتها، فصعدت الدكة فإذا تحت الأبيات بخطه: ما هذه الشناعة؟ ومن فسح لك في هذه الإذاعة؟ وما أوجب خروجك عن الطاعة؟ ولكن أنا جنيت على نفسي وعليك، ملكتك فطغيت. وأطعتك فتعديت. وما أحتشم إن أقول هذا تعرض للإعراض عنك والسلام. فعلمت إنني قد أخطأت وسقطت شهد الله قوتي وحركتي، فأخذتني الندامة والحيرة، ثم أذن لي فدخلت فقبلت يده فمنعني وقلت: يا سيدي غلطة غلطتها وهفوة هفوتها، فإن لم تتجاوز عنها وتعف هلكت، فقال لي: أنت في أوسع العذر بعد إن لا يكون لها أخت، وعاتبني على ذلك عتابا عرفت صحته، ولم تمض الأ مديدة حتى قبض على أبيه وهرب فاحتاج إلى الاستتار، فلم يأنس هو وأهله إلا بكونه عندي، فأنا على غفلة إذ دخل في خفة وازار وكادت مرارتي تنفطر فرحا، فلقيه أقبل رجليه وهو يضحك ويقول: يأتيها رزقها وهي نائمة، هذا يا حبيبي بخت من لا يصوم ولا يصلي في الحقيقة، وكان أخف المناس روحا، وأقلعهم لبادرة، وبتنا في تلك الليلة عروسين لانعقل سكرا واصطحبنا وقلت هذه الأبيات:
بت وبات الحبيب ندماني ... من بعد نأي وطول هجران
نشرب قفصية معتقة ... بحانة الشط منذ أزمان
وكلما دارت الكئوس لنا ... ألثمني فاه ثم غناني

الحمد لله لا شريك له ... أطاعني الدهر بعد عصيان
ولم يزل مقيما عندي نحو الشهر حتى استقام أمر أبيه، ثم عاد إلى داره.
وحدث الحسن بن الحسين النعال قال: قال أبو الفرج الأصبهاني: بلغ أبا الحسن جحظة إن مدرك بن محمدٍ الشيباني الشاعر ذكره بسوءٍ في مجلسٍ كنت حاضره وكتب إلى:
أبا فرجٍ أهجي لديك ويعتدى ... علي فلا تحمي لذاك وتغضب
لعمرك ماإنصفتني في مودتي ... فكن معتباً إن الأكارم تعتب
قال أبو الفرج: فكتبت إليه:
عجبت لما بلغت عني باطلا ... وظنك بي فيه لعمرك أعجب
ثكلت إذا نفسي وعزي وأسرتي ... بفقدي ولا أدركت ما كنت أطلب
فكيف بمن لاحظ لي في لقائه ... وسيان عندي وصله والتجنب
فثق بأخ أصفاك محض مودة ... تشاكل منها ما بدا والتغيب
قال غرس النعمة: حدثني أبي قال: حدثني جدي قال: كان أبو القاسم الجهني القاضي - وأظنه من أهل البصرة وتقلد الحسبة بها ومنها عرف أبا محمد المهلبي وصحبه - يشتمل على آداب يتميز بها الأ إنه كان فاحش الكذب، يورد من الحكايات مالا يتعلق بقبولٍ ولا يدخل في معقولٍ، وكان أبو محمدٍ قد ألف ذلك منه وقد سلك مسلك الاحتمال، وكنا لا نخلو عن حديثه من التعجب والاستطراف والاستبعاد، وكان ذلك لايزيده إلا إغراقاً في قوله وتمادياً في فعله، فلما كان في بعض الأيام جرى حديث النعنع وإلى أي حد يطول، فقال الجهنى: في البلد الفلاني يتشجر حتى يعمل من خشبه السلاليم، فاغتاظ أبو الفرج الأصبهاني من ذاك وقال: نعم عجائب الدنيا كثيرة، ولا يدفع مثل هذا وليبس بمستبدع، وعندي ما هو أعجب من هذا وأغرب، وهو زوج حمام راعبي يبيض في نيف وعشرين يوما بيضتين فانتزعتهما من تحته وأضع مكانهما صنجةً مائةً وصنجةً خمسين، فإذا انتهى مدة الحضان تفقست الصنجتان عن طست وإبريق، أو سطل وكرنيب. فعمنا الضحك وفطن الجهنى لما قصده أبو الفرج من الطنز، وانقبض عن كثير مما كان يحكيه ويتسمح فيه، وإن لم يخل من الأيام من الشيء بعد الشيء منه. ومن عجيب مامر بي من الكذب حكاية أوردها غرس النعمة عقيب هذه قال: كان لوالدي تاجر يعرف بأبي طالبٍ، وكان معروفاً بالكذب، فأذكر وقد حكى في مجلسه والناس حضور عنده: إنه كان في معسكر محمود بن سبكتكين صاحب خراسان ببخارى معه وقد جاء من البرد أمر عظيم جمد منه المرى حتى قد وفرى وعملت منه خفاف، وإن الناس كانوا ينزلون في المعسكر فلا يسمع لهم صوت ولاحديث ولاحركة حتى ضرب الطبل في أوقات الصلوات، فإذا أصبح الناس وطلعت الشمس وحميت ذاب الكلام فسمعت الأصوات الجامدة منذ أمس من أصوات الطبول والبوقات وحديث الناس، وصهيل الخيول، ونهيق الحمير ورغاء الإبل. قرأت على ظهر جزءٍ من نسخة بكتاب الأغاني لأبي الفرج: حدث ابن عرسٍ الموصلي وكان المترسل بين عز الدولة وبين أبي تغلب بن ناصر الدولة، وكان يخلف أبا تغلب بالحضرة قال: كتب إلى أبو تغلب يأمرني بابتياع كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني فابتعته له بعشرة آلاف درهمٍ من صرف ثمانية عشر درهماً بدينارٍ، فلما حملته إليه ووقف عليه ورأى عظمة وجلالة ما حوى قال: لقد ظلم وراقه المسكين، وإنه ليساوي عندي عشرة آلاف دينارٍ، ولو فقد لما قدرت عليه الملوك الأ بالرغائب، وأمر أن يكتب له نسخةً أخرى ويخلد عليها اسمه فابتدأ بذلك، فما أدري أتمت النسخة أم لا؟ قال أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد: اتصل بي أن مسودة كتاب الأغاني وهي أصل أبي الفرج أخرجت إلى سوق الوراقين لتبتاع، فأنفذت إلى ابن قرابة وسألته إنفاذ صاحبها لأبتاعها منه لي، فجاءني وعرفني إنها بيعت في النداء بأربعة آلاف درهمٍ، وإن أكثرها في طروسٍ وبخط التعليق وأنها اشتريت لأبي أحمد بن محمد بن حفصٍ فراسلت أبا أحمد فأنكر أنه يعرف شيئاً من هذا فبحثت كل البحث فما قدرت عليها.

كان الراضي بالله في سنة سبعٍ وعشرين وثلاثمائةٍ قد ولى أبا عبد الله البريدي، وكان قد خرج عليه بنواحي البصرة الوزارة، فتحدث الناس أن الراضي إنما قصد بتقليد أبي عبد الله الوزارة طمعاً في إيقاع الحيلة عليه في تحصيله، فقال أبو الفرج على بن الحسين الأصبهاني في ذلك قصيدةً طويلةً تزيد على مائة بيتٍ يهجو فيها أبا عبد الله، ويؤنب الراضي في توليته وطمعه فيه أولها:
يا سماء اسقطي ويا أرض ميدي ... قد تولى الوزارة ابن البريدي
جل خطب وحل أمر عضال ... وبلاء أشاب رأس الوليد
هد ركن الإسلام وأنتهك المل ... ك ومحيث آثاره فهو مودي
أخلقت بهجة الزمان كما أن ... هج طول اللباس وشتى البرود
يقول فيها:
وتوهمت أن سيخدعه ذا ... ك فيغتاله اصطياد الصيود
هو أزنى مما تقدر أما ... ليس مما يصاد بالتقليد
فانتهت هذه القصيدة إلى أبي عبد الله البريدي، فلما بلغ البيت الأخير ضحك وضرب بيديه ورجليه وقال: لو عرف أبو الفرج ما في نفسي وأزال الوحشة وصار إلى، لبالغت في صلته والآفضال عليه من أجل هذا البيت.
قال الحميدي: وقد ذكر صاحب كتاب النشوار أبو علىٍ المحسن بن عليٍ القاضي: أنه حضر مجلس أبي الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني، فتذاكروا موت الفجاءة، فقال أبو الفرج: أخبرني شيوخنا أن جميع أحوال العالم قد اعترت من مات فجاءةً، الأ أنني لم أسمع من مات على منبرٍ.
قال أبو علىٍ المحسن: وكان معنا في مجلس أبي الفرج شيخ أندلسي قدم من هناك لطلب العلم، ولزم أبا الفرج يقال له أبو زكريا يحيى بن مالك بن عائذٍ، وكنت أرى أبا الفرج يعظمه ويكرمه ويذكر ثقته، فأخبرنا أبو زكريا إنه شاهد في المسجد الجامع ببلدةٍ من الأندلس خطيب البلد وقد صعد يوم الجمعة ليخطب، فلما بلغ يسيراً من خطبته خر ميتاً فوق المنبر حتى أنزل به، وطلب في الحال من رقى المنبر فخطب وصلى الجمعة بنا، الأ أن أبا علي قلب نسبة زكريا فقال: يحيى بن عائذ بن مالك الأندلسي: والصواب ما قلنا.
قال الثعالبي: ومن قوله في المهلبي:
ولما انتجعنا عائذين بظله ... أعان وماعنى ومن وما منى
وردنا عليه مقترين فراشنا ... وردنا نداه مجدبين فأخصبنا
وقوله من قصيدة يهنئه بمولود من سريةٍ روميةٍ:
أسعد بمولودٍ أتاك مباركاً ... كالبدر أشرق جنح ليلٍ مقمر
سعد لوقت سعادةٍ جاءت به ... أم حصان من نبات الأصفر
متبجح في ذروتي شرف العلا ... بين المهلب منتماه وقيصر
شمس الضحى قرنت إلى بدر الدجى ... حتى إذا اجتمعا أتت بالمشتري
وأنشد له في عيديةٍ:
إذا ما علا في الصدر والنهى والأمر ... وبثهما في النفع منه وفي الضر
وأجرى ظبا أقلامه وتدفقت ... بديهته كالمستمد من البحر
رأيت نظام الدر في نظم قوله ... ومنشوره الرقراق في ذلك النثر
ويقتضب المعنى الكثير بلفظةٍ ... ويأتي بما تحوي الطوامير في سطر
أيا غرة الدهر ائتنف غرة الشهر ... وقابل هلال الفطر في ليلة الفطر
بأيمن إقبالٍ وأسعد طائرٍ ... وأفضل ما ترجوه من أفسح العمر
مضى عنك شهر الصوم يشهد صادقاً ... بطهرك فيه واجتنابك للوزر
فأكرم بما خط الحفيظان منهما ... وأثنى به المثنى وأطرى به المطري
وزكتك أوراق المصاحف وانتهى ... إلى الله منهما طول درسك والذكر
وقبضك كف البطش عن كل مجرمٍ ... وبطشكها بالعرف والخير والبر
وقد جاء شوال فشالت نعامة ال ... صيام النعيم من الضر
وضجت حبيس الدن من طول حبسها ... ولامت على طول التجنب والهجر
وأبرزها من قعر أسود مظلمٍ ... كإشراق بدر مشرق اللون كالبدر
إذا ضمها والورد فوه وكفه ... فلا فرق بين اللون والطعم والنشر

وتحسبه إذ سلسل الكأس ناظماً ... على الكوكب الدري سمطاً من الدر
وله فيه يهنئه بإبلاله من مرض:
أبا محمدٍ المحمود ياحسن ال ... إحسان والجود يا بحر الندى الطامي
حاشاك من عود عواد إليك ومن ... دواء داءٍ ومن إلمام الأم
وله:
يا فرجة الهم بعد اليأس من فرجٍ ... يافرحة الأمن بعد الروع من وهل
أسلم ودم وابق واملك وانم واسم وزد ... وأعط وامنع وضر وأنفع وصل وصل
وله في القاضي الأيذجي وكان التمس منه عكازةً فيم يعطه إياها:
اسمع حديثي تسمع قصةً عجباً ... لاشيء أظرف منها تبهر القصصا
طلبت عكازةً للوحل تحملني ... ورمتها عند من يخبا العصا فعصا
وكنت أحسبه يهوي عصا عصبٍ ... ولم أكن خلته صباً بكل عصا
وله في قصيدة يستميح المهلبي:
رهنت ثيابي وحال القضا ... ء دون القضاء وصد القدر
وهذا الشتاء كما قد ترى ... عسوف على قبيح الأثر
يغادي بصرٍ من العاصفا ... ت أو دمقٍ مثل وخز الإبر
وسكان دارك ممن أعو ... ل يلقين من برده كل شر
فهذي تحن وهذي تئن ... وأدمع هاتيك تجري درر
إذا ما تململن تحت الظلام ... يعللن منك بحسن النظر
ولاحظن ريعك كالممحلي ... ين شاموا البروق رجاء المطر
يؤملن عودى بما ينتظرن ... كما يرتجى آئب من سفر

علي بن الحسين بن هندو
أبو الفرج الكاتب الأديب المنشئ الشاعر من البراعة، ومستخدمي البراعة، وأعيان أهل البلاغة، له رسائل مدونه وفضائل متعينة مختاره، يفضله أهل بلده على كثير من أقرانه. قال أبو علي التنوخي: كان أحد كتاب الإنشاء في ديوان عضد الدولة قال: وشاهدت عدة كتب كتبها عنه بخطه. وقال أبو الفضل البندنيجي الشاعر: هو من أهل الرى قال: وشاهدته بجرجان في سني بضع عشرة وأربعمائةٍ كاتباً بها، وأنه مشهور في تلك البلاد بجودة الشعر وكثرة الأدب والفضل.
قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن سهل الهروي: كان أبو الفرج ابن هندو صاحب أبوةٍ في بلده، ولسلفه نباهة بالنيابة وخدمة السلطان هناك، وكان متفلسفا قرأ كتب الأوائل على أبي الحسن الوائلي بنيسابور، ثم على أبي الخير أبن الخمار، وورد بغداد في أيام أبي غالب بن خلف الوزير فخر الملك ومدحه واتفق اجتماعي معه وأنسى به، وكان يلبس الدراعة على رسم الكتاب، وأنشدني لنفسه:
لايؤيسنك من مجدٍ تباعده ... فإن للجد تدريجاً وترتيبا
إن القناة التي شاهدت رفعتها ... تنمى وتنبت أنبوباً فأنبوبا
قال أبو الفضل البندنيجي: سمعته ينشد لنفسه:
يا سيف إن تدرك بحاشية اللوى ... ثاراً أكن لمديح طبعك ناظما
أجعل قرابك فضةً مسبوكةً ... وأصغ عليك من الزبرجد قائما
ما أرضعتك صياقلي ماء الردى ... إلا لترضعني الدماء سواجما
قال: وحضرت معه في مجلس أبي غانمٍ القصري الناظر، - كان في الدواوين بجرجان على البريد - فعمل بديهاً ما دفعه إلى المغنى فغنى به:
يا هاجراً لي بغير جرمٍ ... مستبدل الوصل بالصدود
أضنيت جسمي فلم تغادر ... مني دليلاً على الوجود
وله أيضا:
كل مالي فهو رهن ماله ... من فكاكٍ في مساءٍ وابتكار
ففؤادي أبداً رهن هوىً ... وردائي أبداً رهن عقار
فدع التفنيد يا صاح لنا ... إنما الربح لأصحاب الخسار
لو ترى ثوبي مصبوغاً بها ... قلت ذمى تبدى في غيار
ولقد أمرح في شرخ الصبا ... مرح المهرة في ثني العذار
وله أيضا:
ضعت بأهل الرى في أهلها ... ضياع حرف الراء في اللثغة
صرت بها بعد بلوغ المنى ... أحمد إن تبلغ بي البلغة
وله أيضا:
إذا ما عقدنا نعمةً عند جاحدٍ ... ولم نره إلا جموحاً عن الشكر

رجعنا فعفينا الجميل بضده ... كذاك يجازى صاحب الشر بالشر
هذا عكس قول ابن الرومي
أحسن إليه إذا أساء فأنتما ... من ذي الجلال بمسمعٍ وبمنظر
وله أيضاً:
وكافرٍ بالمعاد أمسى ... يخلبني، قوله الخلوب
قال اغتنم لذة الليالي ... وعد عن آجل يريب
ضل هذه وجاء يهدي ... طب لعينيك يا طبيب
أأخطأ العالمون طراً ... وأنت من بينهم مصيب؟
وله أيضاً:
كدأبك كل لا يرى غير نفسه ... فعش واحداً واضربهم بفراق
زمان تجافى أهله فكأنهم ... سياة قسىٍ مالهن تلاقي
وله أيضاً:
تعانقنا لتوديعٍ عشاءً ... وقد شرقت بمدمعها الحداق
وضيقنا العناق لفرط شوقٍ ... فما ندرى عناق أم خناق؟
وتحدث أبو الفضل البندنيجي الشاعر قال: كان بابن هند ضرب من السوداء، وكان قليل القدرة على شرب النبيذ لأجل ذلك، واتفق إنه كان يوماً عند أبي الفتح بن أبي علىٍ حمدٍ كاتب قابوس بن وشمكير وأنا معه على عادةٍ كانت لنا في الاجتماع، فدخل أبو عليٍ إلى الموضع ونظر إلى ما كان بأيدينا من الكتب وتناشد هو وابن هندوالشعر، وحضر الطعام فأكلنا انتقلنا إلى مجلس الشراب، ولم يطق ابن هندوالمساعدة على ذلك، فكتب في رقعةٍ كتبها إليه:
قد كفاني من المدام شميم ... صالحتني النهى وثاب الغريم
هي جهد العقول سمى راحاً ... مثل ما قيل للديغ سليم
إن تكن جنة النعيم ففيها ... من أذى السكر والخمار جحيم
فلما قرأها ضحك وأعفاه من الشرب. وأنشد أبو الفضل له:
قالوا اشتغل عنهم يوماً بغيرهم ... وخادع النفس إن النفس تنخدع
قد صيغ قلبي على مقدار حبهم ... فما لحب سواهم فيه متسع
وحدث أبو الفضل البندنجي قال: أنشدت يوماً أبا الفتح بن أبي عليٍ حمدٍ قول ابن المعتز:
سعى إلى الدن بالمبزال يبقره ... ساقٍ توشح بالمنديل حين وثب
لما وجاها بدت صهباء صافيةً ... كأنما قد سيراً من أديم ذهب
ومثله قول ابن سكرة:
ثم وجاها بشبا مبزلٍ ... فاستل منها وتراً مذهبا
فقال: قول ابن هندو أحسن:
وساقٍ تقلد لما أتى ... حمائل زقٍ ملاه شمولا
فلله درك من فارس ... تقلد سيفاً يقد العقولا
قال: فجاذبت ابن هندو من بعد وقد اجتمعت معه الأبيات وقلت له: إن قولك حمائل الزق فيه بشاعة، وما رأيت أحداً تقلد زقاً فقال: أهل العراق يصرفون الكلام ونحن نورده على أصله.
وحدث أبو الفضل البندنيجي قال: كان ابن هندو يشرب يوماً عند أبي غانمٍ القصري واقتصر على أقداحٍ يسيرةٍ ثم أمسك، فسأله الزيادة فلم يفعل وقال:
أرى الخمر ناراً والنفوس جواهراً ... فإن شربت أبدت طباع الجواهر
فلا تفضحن النفس يوماً بشربها ... إذا لم تثق منها بحسن السرائر
وله أيضا:
تعرض لي الدنيا بلذة مطعمٍ ... وزخرف موشىٍ من اللبس رائق
أرادت سفاهاً إن تموه قبحها ... على فكرٍ خاضت بحار الدقائق
فلا تخدعينا بالسراب فإننا ... قتلنا نهانا في طلاب الحقائق
وحدث البندنيجي قال: كان الناس يظنون بمنوجهر أبن قابوس ما كان في أبيه من الأدب والفضل ولم يكن كذلك، فلما أنتقل الأمر إليه قصد بما يقصد به مثله، وكان لا يوصل إليه إلا القليل، ولا يتقبل ما يمدح به، ولا يهش من هذا الجنس لتباعده عنه، وكان مع هذه الحالة فروقةً قليل البطش، فمدحه ابن هندو بقصيدةٍ وتانق فيها، وأنشده إياها فلم يفهمها ولم يثبه عليها فقال:
يا ويح فضلي أما في الناس من رجل ... يحنو على أما في الأرض من ملك؟
لأكرمنك يا فضلي بتركهم ... وأستهين بالأيام والفلك
فقيل لمنوجهر: إنه قد هجاك، لأن لقبه كان فلك المعالي، فطلبه ليقتله فهرب إلى نيسابور وانفلت منه، وله:
حللت وقاري في شادنٍ ... عيون الأنام به تعقد
غدا وجهه كعبةً للجمال ... ولى قلبه الحجر الأسود

علي بن الحسين بن موسى
ابن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب عليهم السلام، نقيب العلويين أبو القاسم الملقب بالمرتضى، علم الهدى، السيد المشهور بالعلم، المعروف بالفهم، ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائةٍ، ومات سنة ستٍ وثلاثين وأربعمائةٍ، وهو أكبر من أخيه الرضي وقال أبو جعفر الطوسى: توحد المرتضى في علوم كثيرة، مجمع على فضله، مقدم في العلوم مثل علم الكلام والفقه، وأصول الفقه، والأدب، والنحو، والشعر، ومعاني الشعر واللغة وغير ذلك، وله ديوان شعرٍ يزيد على عشرة آلاف بيتٍ، وله من التصانيف ومسائل البلدان شيء كثير يشتمل على ذلك فهرسته غير أني أذكر أعيان كتبه وكبارها منها: كتاب الشافي في الإمامة، كتاب المغني لعبد الجبار بن أحمد وهو كتاب لم يصنف مثله في الإمامة، كتاب الملخص في الأصول لم يتمه، كتاب الذخيرة في الأصول تام، وكتاب جمل العلم والعمل تام، وكتاب الغرر، وكتاب التنزيه، وكتاب المسائل الموصلية الأولى، وكتاب المسائل الموصلية الثانية، كتاب المسائل الموصلية الثالثة، وكتاب المقنع في الغيبة، وكتاب مسائل الخلاف في الفقه لم يتم، كتاب الانتصار فيما انفردت به الأمامية، كتاب مسائل مفرداتٍ أصول الفقه، كتاب المصباح في الفقه لم يتم، كتاب المسائل الطرابلسية الأولى، وكتاب المسائل الطرابلسية الأخيرة، وكتاب مسائل أهل مصر الأولى، وكتاب مسائلهم الأخيرة، وكتاب المسائل الحلبية الأولى، وكتاب المسائل الحلبية الأخيرة، كتاب المسائل الناصرية في الفقه، وكتاب المسائل الجرجانية، وكتاب المسائل الطوسية لم يتم، وكتاب البرق، وكتاب طيف الخيال، وكتاب الشيب والشباب، كتاب تتبع أبيات المعاني للمتنبي التي تكلم عليها ابن جنىٍ في الحكاية والمحكي، وكتاب النقض على ابن جنىٍ في الحكاية والمحكي، وكتاب نص الرواية وإبطال القول بالعدد، وكتاب الذريعة في أصول الفقه، وكتاب تفسير قصيدة السيد، وله مسائل مفردات نحو مائة مسألة في فنون شتى، وكتاب المسائل الصيداوية. قال أبو جعفر الطوسي: قرأت أكثر هذه الكتب عليه وسمعت سائرها. ومن شعره المذكور في تتمة اليتيمة:
يا خليلي من ذؤابة بكرٍ ... في التصابي رياضة الأخلاق
غنياني بذكرهم تطرباني ... واسقياني دمعي بكأس دهاق
وخذا النوم عن جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق
وله في ذم المشيب:
يقولون لا تجزع من الشيب ضلةً ... وأسهمه إياي دونهم تصمى
وما سرني حلم يفئ إلى الردى ... كفاني ما قبل المشيب من الحلم
إذا كان ما يعطيني الحزم سالباً ... حياتي فقل لي كيف ينفعني حزمي؟
وقد جربت نفسي الغداة وقاره ... فماشد وهني ولاسد من ثلمي
وإني مذ أضحى عذارى قراره ... أعاد بلا سقمٍ وأجفى بلا جرم
وله في مرثية:
كم تطيش سهام الموت مخطئةً ... عني وتصمى إخلائي وإخواني
ولو فطنت وقد أردى الزمان أخي ... علمت أن الذي أصماه أصماني
سود وبيض من الأيام لونهما ... لا يستحيل وقد بدلن ألواني
هيهات: حكم فينا أزلم جدع ... يفنى الورى بين جذعان وفرحان
ذكر غرس النعمة أبو الحسن محمد بن هلال بن المحسن الصابئ في كتاب الهفوات قال: اجتاز المرتضى أبو القاسم يوم جمعةٍ على باب جامع المنصور بحيث يباع الغنم، فسمع المنادي يقول: نبيع هذا التيس العلوي بدينار، فظن أنه قصده بذلك، فعاد إلى داره وتألم إلى الوزير مما جرى عليه، فكشف فوجد أن التيس إذا كان في رقبته حلمتان متدليتان سمى علوياً تشبيهاً بضفيرتي العلوي المسبلتين على رقبته.

نقلت من خط الحافظ الإمام أبي نصرٍ عبد الرحيم ابن النفيس بن وهبان - وفقه الله - قال: نقلت من خط الإمام أبي بكرٍ محمد بن منصورٍ السمعاني - رحمه الله - قال: سمعت أبا الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي يقول: سمعت أبا القاسم بن برهان يقول: دخلت على الشريف المرتضى أبي القاسم العلوي في مرضه الذي توفى فيه، فإذا قد حول وجهه إلى الجدار فسمعته يقول: أبو بكرٍ وعمر وليا فعدلا، واسترحما فرحما، فأنا أقول: ارتدا بعد إن أسلما، قال: فقمت وخرجت فما بلغت عتبة الباب حتى سمعت الزعقة عليه، ومن شعره ما نقلته من خط تاج الإسلام في المذيل:
وزارت وسادي في المنام خريدة ... أراها الكرى عيني ولست أراها
تمانع صبحاً أن أراها بناظري ... وتبذل جنحاً إن أقبل فاها
ولما سرت لم تخش وهناً ضلالةً ... ولاعرف العذال كيف سراها
فماذا الذي من غير وعدٍ أتى بها ... ومن ذا على بعد المزار هداها؟
وقالوا عساها بعد زورة باطلٍ ... تزور بلا ريبٍ فقلت عساها
وأنشد له فيه.
وطرقتني وهناً بأجواز الفلا ... وطروقهن على الفلا تخييل
في ليلةٍ وافى بها متمنع ... ودنت بعيدات وجاد بخيل
يا ليت زائرنا بفاحمة الدجى ... لم يأت إلا والصباح رسول
فقليلة وضح الضحى مستكثر ... وكثيرة غبش الظلام قليل
ماعابه وبه السرور زوالهفجميع ما سر القلوب يزول
ومن خطبه: سمعت أبا العلاء أحمد بن محمد بن الفضل الحافظ بأصبهان يقول: ذكر شيخنا أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي الحافظ، ونقلت من خطبه. سمعت الكيا أبا الحسين يحيى بن الحسين العلوي الزيدي وكان من نبلاء أهل البيت ومن المحمودين في صناعة الحديث وغيره من الأصول والفروع يقول: وقد دخل عليه بعض الشعراء فمدحه بقصيدة، فلما خرج قال: يا أبا الفضل، الناس ينظرون إلى وإلى المرتضى ولا يفرقون بين الرجلين، المرتضى يدخل عليه من أملاكه كل سنة أربعة وعشرون ألف دينارٍ، وأنا آكل من طاحونةٍ لأختي ليس لي معيشة غيرها.
قال أبو الفضل المقدسي، وذكر بين يديه يوماً الإمامية فذكرهم بأقبح ذكرٍ وقال: لو كانوا من الدواب لكانوا الحمير، ولو كانوا من الطيور لكانوا الرخم وأطنب في ذمهم، وبعد مدة دخلت على المرتضى وجرى ذكر الزيدية والصالحية أيهما أفضل؟ فقال يا أبا الفضل: تقول أيهما خير ولا تقول أيهما شر، فتعجبت من إمامي الشيعة في وقتهما ومن قول كل واحدٍ منهما في مذهب الآخر فقلت: قد كفى أهل السنة الوقيعة فيكما. قرأت بخط الشيخ أبي محمد بن الخشاب: حدثني الشيخ الصالح أبو صالح قرطاس بن الطنطاش الظفري الصوفي التركي من لفظه قال: سمعت أبا الرملي يقول وكان مسناً: حضرت مجلس أبي القاسم المرتضى وأنا إذ ذاك صبي، فدخل عليه بعض أكابر الديلم فتزحزح له وأجلسه معه على سريره، وأقبل عليه مسائلاً فساره الديلمي بشيءٍ لم نعلم ما هو؟ فقال متضجراً نعم: وأخذ معه في كلامٍ كأنه يدافعه، فنهض الديلمي فقال المرتضى بعد نهوضه: هؤلاء يريدون منا أن نزيل الجبال بالريش، وأقبل على من في مجلسه فقال: أتدرون ما قال هذا الديلمي؟ فقالوا لاياسيدي، فقال: قال: بين لي هل صح إسلام أبي بكر وعمر؟ قلت أنا: - رضي الله عنهما - ، قرأت في بعض كتب الحسن بن جعفر بن عبد الصمد بن المتوكل بخطه.
حدثني الفصيحي النحوي قال: اطلع المرتضى من روشنه فرأى المطرز الشاعر وقد انقطع شراك نعله وهو يصلحه فقال له: فديت ركائبك وأشار إلى قصيدته التي أولها:
سرى مغرما بالعيش ينتجع الركبا ... يسائل عن بدر الدجى الشرق والغربا
على عذبات الجزع من ماء تغلبٍ ... غزال يرى ماء القلوب له شربا
إلى قوله:
إذا لم تبلغني إليكم ركائبي ... فلا وردت ماءً ولارعت العشبا
فقال مسرعاً: أتراها ما تشبه مجلسك وخلعك؟ أشار بذلك إلى أبياته التي أولها:
يا خليلي من ذؤابة قيس
مذكورة في أول ترجمته قبل، وأنه لما خلع وهب النوم. وللمرتضى:
تجاف عن الأعداء بغياً فربما ... كفيت فلم تجرح بنابٍ ولاظفر

ولاتبر منهم كل عودٍ تخافه ... فإن الأعادي ينبتون مع الدهر

على بن الحسين بن علي العبسي
يعرف بابن كوجك الوراق، كان أديباً فاضلاً يورق سمع بمصر من أبي مسلمٍ محمد بن أحمد كاتب أبي الفضل بن حنزابة الوزير. صنف كتباً منها: كتاب الطنبوريين كتاب أعز المطالب إلى أعلى المراتب في الزهد كتب به إلى الشابستي صاحب كتاب الديارات، ومات في أيام الحاكم فرأيته سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، وكان بالشام والساحل، ومدح سيف الدولة لما فتح الحدث فقال:
رام هدم الإسلام بالحدث المؤ ... ذن بنيانها بهدم الضلال
نكلت عنك منه نفس ضعيفٍ ... سلبته القوى رؤس العوالي
فتوقى الحمام بالنفس والما ... ل وباع المقام بالارتحال
ترك الطير والوحوش سغاباً ... بين تلك السهول والأجبال
ولكم وقعةٍ قريت عفاة الطي ... ر فيها جماجم الأبطال
وكان أبوه الحسين بن عليٍ من أهل الأدب والشعر. قال الحافظ أبو القاسم الدمشقي: الحسين بن علي بن كوجك أبو القاسم الكوجكي حدث بطرابلس سنة تسع وخمسين وثلاثمائة عن أبي مسعود كاتب حسنون المصري، وعن أبيه على وأبي القاسم بن المنتاب العراقي. كتب عنه بعض أهل الأدب وأنشد له هذه الأبيات:
وما ذات بعلٍ مات عنها فجاءةً ... وقد وجدت حملاً دوين الترائب
بأرضٍ نأت عن والديها كليهما ... تعاورها الوراث من كل جانب
فلما استبان الحمل منها تنهنهوا ... قليلاً وقد دبوا دبيب العقارب
فجاءت بمولودٍ غلامٍ فحوزت ... تراث أبيه الميت دون الأقارب
فلما غدا للمال ربا ونافست ... لإعجابها فيه عيون الكواعب
وأصبح مأمولاً يخاف ويرتجى ... جميل المحيا ذا عذارٍ وشارب
أتيح له عبل الذراعين مخدر ... جرئ على أقرانه غير هائب
فلم يبق منه غير عظم مجزرٍ ... وجمجة ليست بذات ذوائب
بأوجع مني يوم ولت حدوجهم ... يؤم بها الحادون وادي غباغب
علي بن الحسين بن بلبل العسقلاني
أبو الحسين. من شعره في محبوب أزرق العينين:
تدل بالذابل حسناً وفي ... طرفك ما في طرف الذابل
أزرق كالأزرق يوم الوغى ... كلاهما يوصف بالقاتل
وله أيضا:
شعر الذؤابة والعذار ... قاما بعذري واعتذاري
بأبي الذي في خده ... ماء الصبا ولهيب نار
سكرت لوا حظه وقل ... بي ما يفيق من الخمار
عابوا امتهاني في هوا ... ه كأنني أنا باختياري
ومن الصواب وها عذا ... ري شائب خلع العذار
وله أيضا:
تعرف في وجهه إذا ما ... رأيته نضرة النعيم
كأنما خده حباب ... بت به ليلة السليم
ولي غريم لوى ديوني ... ليت غرامي على غريمي
على بن الحسين الآمدي النحوي
أبو الحسن، ذكره محمد بن إسحاق النديم، وذكر أنه خرج إلى مصر فأقام بها منقطعاً إلى أبي الفضل بن حنزابة الوزير، وخطه صحيح مليح، ولم يثبت له مصنفاً. قلت أنا: وهو من مشايخ عبد السلام ابن الحسين البصري، وجدت بخطه وقد أنشد عنه بيتاً لأبي الهيذام كلاب بن حمزة العقيلي - وهو مذكور في بابه - وقال: أنشدناه جماعة من مشايخنا منهم: أبو الحسن على بن الحسن الآمدي.
وحدث ابن نصرٍ قال: حدثني أبو الحسن المبدع وكنت أعرفه قديماً، ودخل إلى بغداد خضيبا فأنكرته ثم عرفته، فجرى ذكر شعراء المصريين فقلت له: ما رأيت لهم شيئاً ناصعاً فقال لي: كان الآمدي يتولى أرزاق الشعراء والمتعطلين والأشراف والكتاب وكان خضيباً، ولم يسمه لي ولاكناه، ولاأعلم هل هو النحوي صاحب كتاب الموازنة أو غيره؟ إلا أني أذكر ما حكاه قال: منع الحسين بن بشر الكاتب المصري أرزاقه فعمل فيه قطعةً أولها:
إن طغى الآمدى طغيان مثرٍ ... راشه الدهر فالمريش يحص
أيها الآمدى عقلك قد د ... ل على أن آمد اليوم حمص

إن حرصاً يدعو إلى قطعك الأر ... زاق فينا على هلاكك حرص
بسواد السماد تخضب ياشي ... خ فمن ذا سواده مايبص
ألق فيه عفصاً فإنك تحتا ... ج إلى العفص حين يعكس عفص
فقلت: تنشد هذا وأنت خضيب؟ فقال: الجيد يروي وإن كان على الراوي فيه دق الباب

علي بن الحسن بن على الضرير، الأصفهاني النحوي
أبو الحسن الباقولي المعروف بالجامع، ذكره أبو الحسن البيهقي في كتاب الوشاح فقال: هو في النحو و الإعراب كعبة لها أفاضل العصر سدنة، وللفضل فيه بعد خفائه أسوة حسنة، وقد بعث إلى خراسان بيت الفرزدق المشهور في شهور سنة خمسٍ وثلاثين وخمسمائةٍ وهو:
فليست خراسان التي كان خالد ... بها أسداً إذ كان سيفاً أميرها
وكتب كل فاضلٍ من فضلاء خراسان لهذا البيت شرحاً ثم قال: وهذا الإمام استدرك على أبي على الفسوى وعبدج القاهر وله هذه الرتبة، ومن نظر في تصانيفه علم أنه لاحق سبق السابقين، وقيل من منظومه:
أحبب النحو من العلم فقد ... يدرك المرء به أعلى الشرف
إنما النحوى في مجلسه ... كشهاب ثاقب بين السدف
يخرج القرآن من فيه كما ... تخرج الدرة من جوف الصدف
قال البيهقي: وبعد ذلك تحقق أن هذه الأبيات من إنشاده لا من إنشائه. له من التصانيف: كتاب شرح اللمع، وكتاب كشف المشكلات وإيضاح المعضلات في علل القران، قرأت في خاتمة كتاب المشكلات للجامع هذا ماصورته: وقد أمللته بعد تصنيف كتاب الجوهر، وكتاب المجمل كتاب الاستدراك على أبي عليٍ، وكتاب البيان في شواهد القران، وسأجمع لك كتاباً أذكر فيه الأقاويل في معنى الآية دون الإعراب وما يتعلق بالصناعة منها.
علي بن حمزة الكسائي
هو أبو الحسن على بن حمزة بن عبد الله بن عثمان من ولد بهمن بن فيروز مولى بني أسد النحوي. أحد الأئمة في القراءة والنحو واللغة، وأحد السبعة القراء المشهورين، وهو من أهل الكوفة، استوطن بغداد وروى الحديث وصنف الكتب، ومات بالري صحبه الرشي على ما نذكره فيما بعد سنة اثنتين وثمانين ومائة أو ثلاث وثمانين ومائة، وقيل بعد ذلك في سنة تسع وثمانين، وقال مهدى بن سابقٍ: في سنة اثنتين وتسعين ومائة هو محمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي حنيفة، فقال الرشيد: اليوم ذهب الفقه والعربية، قال الخطيب: إن عمر الكسائي بلغ سبعين سنه.
وكان الكسائي مؤدباً لولد الرشيد، وكان أثيراً عند الخليفة حتى أخرجه من طبقة المؤدبين إلى طبقة الجلساء والمؤانسين، وكان الكسائي قد قرأ على حمزة الزيات ثم اختار لنفسه قراءةً. وسمع من سليمان ابن أرقم وأبي بكر بن عياشٍ. وفي القراء آخر يقال له الكسائي الصغير، واسمه محمد بن يحيى، روى عنه ابن مجاهدٍ عن خلف بن هشامٍ النراز.
حدث الخطيب قال: قال الفراء: إنما تعلم الكسائي النحوي على كبرٍ، وسببه أنه جاء إلى قوم من الهباريين وقد أعيا فقال لهم: قد عييت. فقالوا له: أتجالسنا وأنت تلحن؟ فقال: كيف لحنت؟ قالوا: إن كنت أردت من انقطاع الحيلة والتحير في الأمر فقل عييت مخففاً، وإن كنت أردت من التعب فقل أعييت، فأنف من هذه الكلمة، ثم قام من فوره ذلك فسأل من يعلم النحو؟ فأرشدوه إلى معاذٍ الهراء فلزمه حتى أنفد ما عنده، ثم خرج إلى البصرة فلقى الخليل وجلس في حلقته، فقال له رجل من الأعراب: تركت أسد الكوفة وتميمها وعندها الفصاحة وجئت إلى البصرة، فقال للخليل: من أين أخذت علمك هذا؟ قال: من بوادي الحجاز ونجدٍ وتهامة، فخرج ورجع. وقد أنفد خمس عشرة قنينة حبرا في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ، فلم يكن له هم غير البصرة والخليل، فوجد الخليل قد مات وجلس في موضعه يونس النحوي، فمرت بينهما مسائل أقر له يونس فيها، وصدره موضعه.

وحدث الخطيب أيضاً بإسنادٍ رفعه إلى عبد الرحيم ابن موسى قال: قلت للكسائي: لم سميت الكسائي؟ قال: لأني أحرمت في كساءٍ. قال: وقيل فيه قول آخر، وذكر إسناداً رفعه إلى محمد بن يحيى المروزى قال: سألت خلف بن هشام لم سمى الكسائي كسائياً؟ فقال: دخل الكسائي الكوفة فجاء إلى مسجد السبيع وكان حمزة بن حبيب الزيات يقرئ فيه، فتقدم الكسائي مع أذان الفجر، فجلس وهو ملتف بكساء من البرد كان أسود، فلا صلى حمزة قال: من تقدم الوقت يقرأ؟ قيل له الكسائي أول من تقدم يعنون صاحب الكساء، فرمقه القوم بأبصارهم فقال: إن كان حائكاً فسيقرأ سورة يوسف، وإن كان ملاحاً فسيقرأ سورة طه، فسمعهم فابتدأ بسورة يوسف، فلما بلغ إلى قصة الذئب قرأ فأكله الذيب بغير همزٍ، فقال له الزيات: بالهمز، فقال له الكسائي: وكذلك أهمز الحوت في قوله تعالى: (فالتقمه الحوت)، قال: لا قال، فلم همزت الذئب ولم تهمز الحوت؟ وهذا فأكله الذئب، وهذا فالتقمه الحوت. فرفع حمزة بصره إلى خلادٍ الأحوال وكان أجمل غلمانه فتقدم إليه في جماعة من أهل المجلس، فناظروا فلم يصيبوا شيئاً فقال: أفدنا - رحمك الله - ، فقال لهم الكسائي: تفهموا عن الحائك، تقول: إذا نسبت الرجل إلى الذئب قد استذأب الرجل، ولو قلت: قد استذاب بغير همز لكنت إنما نسبته إالى الهزال، تقول: استذاب الرجل: إذا استذاب شحمه بغير همزٍ. وإذا نسبته إلى الحوت تقول: قد استحات الرجل أي كثر أكله، لأن الحوت يأكل كثيرا ولايجوز فيه الهمز، فلتلك العلة همز الذئب ولم يهمز الحوت، وفيه معنىً آخر لاتسقط الهمزة من مفرده ولا من جمعه وأنشدهم:
أيها الذئب وابنه وأبوه ... أنت عندي من أذؤبٍ ضاريات
قال: فسمى الكسائي من ذلك اليوم. وحدث المرزباني فيما رفعه إلى ابن الأعرابي قال: كان الكسائي أعلم الناس على رهق فيه، كان يديم شرب النبيذ ويجاهر باتخاذ الغلمان الروقة إلا أنه كان ضابطاً قارئاً عالماً بالعربية صدوقاً.
وحدث المزرباني فيما رفعه إلى الكسائي قال: أحضرني الرشيد سنة اثنتين وثمانين ومائة في السنة الثالثة من خلافته، فأخرج إلى محمداً الأمين وبعبد الله المأمون كأنهما بدران فقال: امتحنهما بشيءٍ، فما سألتهما عن شيء إلا أحسنا الجواب فيه، فقال لي كيف تراهما؟ فقلت:
أرى قمري أفقٍ وفرعي بشامةٍ ... يزينهما عرق كريم ومحتد
يسدان آفاق السماء بهمةٍ ... يؤيدها حزم ورأى وسؤدد
سليلي أمير المؤمنين وحائزي ... مواريث ما أبقى النبي محمد
حياة وخصب للولى ورحمة ... وحرب لأعداءٍ وسيف مهند
ثم قلت: فرع زكا أصله، وطاب مغرسه، وتمكنت فروعه، وعذبت مشاربه، آواهما ملك أغر، نافذ الأمر، عظيم الحلم، أعلاهما فعلوا، وسما بهما فسموا، فهما يتطاولان بطوله، ويستضيئان بنوره، وينطقان بلسانه، - فأمتع الله - أمير المؤمنين بهما، وبلغه الأمل فيهما، فقال: تفقدهما، فكنت أختلف إليهما في الأسبوع طرفي نهارهما.
وحدث الخطيب بإسنادٍ رفعه إلى سلمة قال: كان عند المهدي مؤدب يؤدب الرشيد، فدعاه المهدي يوماً وهو يستاك فقال له: كيف الأمر من السواك؟ قال: استك ياأمير المؤمنين، فقال المهدي: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قال: التمسوا لنا من هو أفهم من ذا، فقالوا: رجل يقال له علي بن حمزة الكسائي من أهل الكوفة، قدم من البادية قريباً فكتب بإزعاجه من الكوفة، فساعة دخل عليه قال: يا علي بن حمزة، قال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: كيف تأمر من السواك؟ قال: سك يا أمير المؤمنين، قال: أحسنت وأصبت، وأمر له بعشرة آلاف درهم.

وحدث المرزباني عن عبد الله بن جعفر عن ابن قادمٍ عن الكسائي قال: حججت مع الرشيد فقدمت لبعض الصلوات فصليت فقرأت: (ذريةً ضعافاً خافوا عليهم)، فأملت ضعافاً، فلما سملت ضربوني بالنعال والأيدي وغير ذلك حتى غشي علي، واتصل الخبر بالرشيد فوجه بمن استنقذني، فلما جئته قال لي: ما شأنك؟ فقلت له: قرأت لهم ببعض قراة حمزة الرديئة ففعلوا بي ما بلغ أمير المؤمنين، فقال: بئس ما صنعت، ثم ترك الكسائي كثيراً من قراءة حمزة وحدث فيما رفعه إلى الأحمر النحوي قال: دخل أبو يوسف القاضي - وقال عبد الله بن جعفرٍ محمد بن الحسن - على الرشيد وعنده الكسائي يحدثه فقال: يا أمير المؤمنين: قد سعد بك هذا الكوفي وشغلك، فقال الرشيد: النحو يستفرغني، لأنني أستدل به على القران والشعر، فقال محمد بن الحسن، أو أبو يوسف: إن علم النحو إذا بلغ فيه الرجل الغاية صار معلماً. والفقه إذا عرف الرجل منه جملة صار قاضياً. فقال الكسائي: أنا أفضل منك، لأني أحسن ما تحسن، وأحسن مالاتحسن، ثم التفت إلى الرشيد وقال: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن له في جوابي عن مسألة من الفقه، فضحك الرشيد وقال: أبلغت يا كسائي إلى هذا؟ ثم قال لأبي يوسف: أجبه، فقال الكسائي: ما تقول لرجلٍ قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار؟ فقال أبو يوسف: خطأ، إذا فتحت أن فقد وجب الأمر، وإذا كسرت فإنه لم يقع الطلاق بعد. فنظر أبو يوسف بعد ذلك في النحو.
وحدث أيضا عمن سمع الكسائي يقول: اجتمعت أنا وأبو يوسف القاضي عند هارون الرشيد، فجعل أبو يوسف يذم النحو ويقول: وما النحو؟ فقلت - وأردت أن أعلمه فضل النحو - : ما تقول في رجل قال لرجل: أنا قاتل غلامك؟ وقال له آخر: أنا قاتل غلامك، أيهما كنت تأخذ به؟ قال آخذهما جميعا، فقال له هارون: أخطأت، وكان له علم بالعربية، فاستحيا وقال: كيف ذلك؟ قال: الذي يؤخذ بقتل الغلام هو الذي قال: أنا قاتل غلامك بالإضافة، لأنه فعل ماض، وأما الذي قال: أنا قاتل غلامك بالنصب فلا يؤخذ، لأنه مستقبل لم يكن بعد، كما قال الله عز وجل: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله). فلولا التنوين مستقبل ما جاز فيه غداً، فكان أبو يوسف بعد ذلك يمدح العربية والنحو.
وحدث فيما رفعه إلى إبراهيم بن إسماعيل الكاتب قال: سأل اليزيدي الكسائي بحضرة الرشيد قال: انظر، في هذا الشعر عيب؟ وأنشده:
ما رأينا خرباً نق ... ر عنه البيض صقر
لا يكون العير مهراً ... لا يكون، المهر مهر
فقال الكسائي: قد أقوى الشاعر، فقال له اليزيدي انظر فيه، فقال: أقوى لابد ينصب المهر الثاني على أنه خبر كان، قال: فضرب اليزيدي بقلنسوته الأرض وقال: أنا أبو محمدٍ الشعر صواب، وإنما ابتدأ فقال: المهر مهر، فقال له يحيى بن خالدٍ: أتكتني بحضرة أمير المؤمنين وتكشف رأسك؟ والله لخطأ الكسائي مع أدبه، أحب إلينا من صوابك مع سوء فعلك، فقال: لذة الغلبة أنستني من هذا ما أحسن.
حدث المرزباني، حدث محمد بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن أبي سعدٍ الوراق، حدثنا النعمان بن هارون الشيباني قال: كان أبو نواسٍ يختلف إلى محمد بن زبيدة، وكان الكسائي يعلمه النحو فقال أبو نواس: إني أريد إن أقبل محمداً قبلة، فقال له الكسائي: إن علي في هذا وصمة، وأكره أن يبلغ هذا أمير المؤمنين، فقال أبو نواس: إنك إن تركتني أقبله وإلا قلت فيك أبياتاً أرفعها إلى أمير المؤمنين، فأبى عليه الكسائي وظن أنه لا يفعل، فكتب أبو نواس رقعةً:
قل للإمام جزاك الله صالحةً ... لا يجمع الدهر بين السخل والذيب
فالسخل غر وهم الذئب غفلته ... والذئب يعلم مابالسخل من طيب
ودفعها إلى بعض الخدم ليوصلها إلى الرشيد، فجاء بها الخادم إلى الكسائي، فلما قرأها علم أنه شعر أبي نواسٍ فقال له: ويحك، هذا أمر عظيم سأتلطف لك، فغب أياماً ثم احضر وسلم علي وعلى محمد فستبلغ حاجتك، فغاب وتحدث الكسائي إن أبا نواسٍ غائب ثم جاء فقام إليه الكسائي فسلم عليه وعانقه، وسلم أبو نواسٍ على محمدٍ وقبله، فقال أبو نواسٍ:
قد أحدث الناس ظرفاً ... يزهو على كل ظرف
كانوا إذا ماتلاقوا ... تصافحوا بالأكف
فاظهروا اليوم رشف ال ... خدود والرشف يشفى

فصرت تلثم من شئ ... ت من طريق التخفي
قال: وقال ابن أبي طاهر: وهذا الحديث عندي باطل مصنوع من قبل من حدث به ابن أبي سعد عنه لامنه، لأن أبناء الخلفاء كانوا في مثل حال الممنوع أجل مكاناً من أن يعانقوا أحدا من الرعية، ومن قبل أن هذا الشعر الأخير أنشدنيه غير واحدٍ لعبد الصمد ابن المعذل حتى خبرني أبو علىٍ الفضل بن جعفر بن الفضل بن يوسف المعروف بالبصير أنه له، وأنه قاله بالكوفة في حداثةٍ من سنه، وكان بعيداً من الكذب في ادعاء مثل هذا من الشعر والله أعلم.
حدث عبد الله بن جعفر عن محمد بن يزيد عن المازني عن الأصمعي قال: كان الكسائي يأخذ اللغة من أعراب من أعراب الحطمية ينزلون بقطر بل وغيرها من قرى سواد بغداد، فلما ناظر الكسائي سيبويه استشهد بكلامهم، واحتج بهم وبلغتهم على سيبويه. فقال أبو محمد اليزيدي: كنا نقيس النحو فيما مضى - الأبيات - والأبيات في أخبار اليزيدي. ولليزيدي أشعار في الكسائي ذكرت في أخباره، ومن قول اليزيدي فيه:
أفسد النحو الكسائي ... ي وثنى ابن غزالة
وأرى الأحمر تيساً ... فاعلفوا التيس النخالة
وحدث المرزباني عن عبد الله بن جعفرٍ عن محمد بن يزيد عن المازني والرياشي عن أبي زيدٍ قال: لما ورد نعى الكسائي من الري قال أبو زيدٍ: لقد دفن بها علم كثير بالكسائي ثم قال: قدم علينا الكسائي البصرة فلقى عيسى والخليل وغيرهما، وأخذ منهم نحواً كثيراً، ثم صار إلى بغداد فلقى أعراب الحطمية فأخذ عنهم الفساد من الخطأ واللحن، فأفسد بذلك ما كان أخذه بالبصرة كله. قال عبد الله: وذلك إن الكسائي كان يسمع الشاذ الذي لايجوز من الخطأ واللحن وشعر غير أهل الفصاحة والضرورات، فيجعل ذلك أصلا ويقيس عليه حتى أفسد النحو.
قال أبو عبد الله بن مقلة: حدثني أبو العباس أحمد ابن يحيى قال: اجتماع الكسائي والأصمعي عند الرشيد وكانا معه يقيمان بمقامه، ويظعنان بظعنه، فأنشد الكسائي:
أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به ... رئمان أنفٍ إذ ماضن باللبن؟
فقال الأصمعي: رئمان بالرفع، فقال له الكسائي: اسكت ما أنت وهذا؟ يجوز رئماناً ورئمان ورئمان، ولم يكن الأصمعي بصاحب عربيةٍ، فسألت أبا العباس كيف جاز ذلك؟ فقال: إذا رفع رفع بينفع، أي أم كيف ينفع رئمان أنفٍ، وإذا نصب نصب بيعطى، وإذا خفض رده على الهاء في به. قال: والمعنى وما ينفعني إذا وعدتني بلسانك ثم لم تصدقه بفعلك، يقال ذلك للذي يبر ولا يكون منه نفع كهذه الناقة التي تشم بأنفها مع تمنع درها، والعلوق: التي قد علق قلبها بولدها، وذلك أنه نحر عنها ثم حشى جلده تبناً أو حشيشاً وجعل بين يديها حتى تشمه وتدر عليه، فهي تسكن إليه مرة ثم تنفر عنه ثانيةً تشمه بأنفها ثم تأباه مقلتها فيقول: فما ينفع من هذا البو إذا تشممته ثم منعت درها؟ قال أبو العباس: حدثني سلمة قال: قال الفراء: مات الكسائي وهو لا يحسن حد نعم وبئس، ولاحد أن المفتوحة، ولاحد الحكاية، قال: فقلت لسلمة فكيف لم يناظره في ذلك؟ فقال: قد سألته ذلك فقال: أشفقت أن أحادثه فيقول في كلمةً تسقطى فأمسكت قال الفراء: ولم يكن الخليل يحسن النداء، ولا كان سيبويه يدري حد التعجب.

وحدث المرزباني في ما رفعه إلى الفراء قال: قدم سيبويه على البرامكة فعزم يحيى بن خالد أن يجمع بينه وبين الكسائي وجعل لذلك يوماً، فلما حضر تقدمت والأحمر فدخل فإذا بمثالٍ في صدر المجلس، فقعد عليه يحيى وقعد إلى جانب المثال جعفر والفضل ومن حضر بحضورهم، وحضر سيبويه فأقبل عليه الأحمر فسأله عن مسألةٍ فأجابه فيها سيبويه فقال له: أخطأت، ثم سأله عن ثانية فأجاب فقال له: أخطأت، ثم سأله عن ثالثة فأجابه فيها فقال له: أخطأت، فقال له سيبويه: هذا سوء أدب. قال الفراء: فأقبلت عليه فقلت: إن في هذا الرجل حدةً وعجلةً، ولكن ماتقول فيمن قال: هؤلاء أبون، ومررت بأبين، كيف تقول على مثال ذلك، وأيت أو أويت؟ قال: فقدر فأخطأ فقلت له: أعد النظر ثلاث مراتٍ تجيب ولاتصيب، فلما كثر عليه ذلك قال: لست أكلمكما أو يحضر صاحبكما حتى أناظره، قال: فحضر الكسائي فأقبل على سيبويه فقال: أتسألني أم أسألك؟ فقال: بل سلني أنت، فقال له الكسائي: كيف تقول: قد كنت أظن إن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي ولايجوز النصب، فقال له الكسائي: لحنت، ثم سأله عن مسائل من هذا النوع خرجت فإذا عبد الله القائم أو القائم، فقال سيبويه: في ذلك كله بالرفع دون النصب، فقال الكسائي: ليس هذا من كلام العرب، العرب ترفع في ذلك كله وتنصب، فدفع سيبويه قوله، فقال يحيى بن خالدٍ: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن ذا يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي: هذه العرب في بابك قد جمعتهم من كل أوبٍ. ووفدت عليك من كل صقعٍ، وهم فصحاء الناس وقد قنع بهم أهل المصرين، وسمع أهل الكوفة وأهل البصرة منهم فيحضرون ويسألون، فقال يحيى وجعفر. قد أنصفت، فأمر بإحضارهم فدخلوا، فهم: أبو فقعسٍ، وأبودثارٍ، وأبو الجراح، وأبوثروان، فسئلوا عن المسائل التي جرت بين الكسائي وسيبويه، فتابعوا الكسائي وقالوا بقوله. فقال: فأقبل يحيى على سيبويه فقال: قد تسمع أيها الرجل؟ فاستكان سيبويه وأقبل الكسائي على يحيى فقال: - أصلح الله الوزير - ، إنه قد وفد عليك من بلده مؤملاً، فإن رأيت ألا ترده خائباً، فأمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج وصير وجهه نحو فارس، فأقام هناك حتى مات ولم يعد إلى البصرة.
قال ثعلب: وإنما أدخل ألفاء في قوله: فإذا هو إياها، لأن فإذا مفاجأة، أي فوجدته ورأيته، ووجدت ورأيت ينصب شيئين ويكون معه خبر، فلذلك نصبت العرب.
قال المؤلف: وقد ذكرنا هذا الخبر في باب سيبويه برواية أخرى، وذكرنا الاحتجاج للبصريين على تصويب قول سيبويه هناك إن شاء الله.
روى الزبيرعن إسحاق الموصلي قال: ما رأيت رجلاً منسوباً إلى العلم أجهل بالشعر من الكسائي وبالإسناد قال: كان الكسائي من أشد خلق الله تسكعاً في تفسير شعرٍ، وما رأيت أعلم بالنحو قط منه، ولا أحسن تفسيراً، ولا أحذق بالمسائل، المسألة تشق من المسألة، والمسألة تدخل على المسألة.
وقرأت في نوادر ابن الأعرابي التي كتبها عنه ثعلب سمعت الكسائي يقول: قلت لأبي زيدٍ وآذاني باللزوم يا هذا، قد أمللتني، كم تلازمنى؟ فقال له أبو زيدٍ: إنما ألزمك لأعلمك، قال: فقلت له فاجلس في بيتك حتى آتيك. قال: وما جربت على الكسائي كذبةً قط. قال أبو عبد الله بن الأعرابي: ولئن كان أبو زيدٍ قال هذا، ما في الأرض أحد قط أخل عقلاً منه.
قال: وكان الكسائي أعلم من أبي زيدٍ بكثيرٍ بالعربية واللغات والنوادر، ولو كان نظر في الأشعار ما سبقه أحد ولا أدركه أحد حده. وقال أبو الطيب اللغوي في كتاب مراتب النحويين عن أبي حاتم قال: لم يكن لجميع الكوفيين عالم بالقران ولا كلام العرب، ولولا أن الكسائي دنا من الخلفاء فرفعوا ذكره لم يكن شيئاً، وعلمه مختلط بلا حججٍ ولاعللٍ إلا حكايات الأعراب مطروحةً، لأنه كان يلقنهم ما يريد، وهو على ذلك أعلم الكوفيين بالعربية والقران، وهو قدوتهم وإليه يرجعون.
وحدث المرزباني في كتابه قال: كتب الكسائي إلى الرشيد وهو يؤدب محمداً الأمين:
قل للخليفة ما تقول لمن ... أمسى إليك بحرمةٍ يدلى؟
مازلت منصار الأمين معي ... عبدي يدي ومطيتي رجلي
وعلى فراشي ماينبهنى ... من نومتي بقيامه قبلي
أسعى برجلٍ منه ثالثةٍ ... نقصت زيادتها عن الرجل

فامنن على بما يسكنه ... عني وأهد الغمد للنصل
قال: فضحك الرشيد وأمر له ببرذونٍ بسرجه ولجامه وبجاريةٍ حسناء بآلتها وخادم وعشرة آلاف درهمٍ. قيل للكسائي: قد أبحت علمك الناس؟ فقال يعين الله عليهم بالنسيان.
من مجالسات ثعلبٍ: وصف ابن الأعرابي الكسائي فقال: كان أعلم الناس على رهقٍ فيه، يريد إتيان ما يكره، لأنه كان يشرب الشراب ويأتي الغلمان. قال: ومن شعر الكسائي:
إنما النحو قياس يتبع ... وبه في كل أمر ينتفع
فإذا ما نصر النحو الفتى ... مر في المنطق مراً فاتسع
فاتقاه جل من جالسه ... من جليسٍ ناطقٍ أو مستمع
وإذا لم ينصر النحو الفتى ... هاب أن ينطق جبناً فانقطع
فتراه يرفع النصب وما ... كان من خفضٍ ومن نصبٍ رفع
يقرأ القران ولا يعرف ما ... صرف الإعراب فيه وصنع
والذي يعرفه يقرؤه ... فإذا ما شك في حرفٍ رجع
ناظراً فيه وفي إعرابه ... فإذا ما عرف اللحن صدع
كم وضيعٍ رفع النحو وكم ... من شريفٍ قد رأيناه وضع
فهما فيه سواء عندكم ... ليست السنة فينا كالبدع
وحدث هارون بن علي بن المنجم في أماليه عن أبي توبه قال: سمعت الفراء يقول: مدحني رجل من النحويين فقال لي: ما اختلافك إلى الكسائي وأنت مثله في النحو؟ فأعجبتني نفسي فأتيته فناظرته مناظرة الأكفاء، فكأني كنت طائراً يغرف من البحر بمنقاره.
وحدث محمد بن إسحاق النديم قال: قرأت بخط أبي الطيب ابن أخي الشافعي قال: أشرف الرشيد على الكسائي وهو لا يراه، فقام الكسائي ليلبس نعله لحاجةٍ يريدها فابتدرها الأمين والمأمون، وكان مؤدبهما فوضعاها بين يديه، فقبل رؤوسهما وأيديهما ثم أقسم عليهما ألا يعاودا، فلما جلس الرشيد مجلسه قال: أي الناس أكرم خدماً؟ قال: أمير المؤمنين - أعزه الله - قال: بل الكسائي يخدمه الأمين والمأمون، وحدثهم الحديث.
حدث السلامي قال: حضر مجلس الكسائي أعرابي وهم يتحاورون في النحو فأعجبه ذلك، ثم تناظروا في التصريف فلم يهتد إلى ما يقولون، ففارقهم وأنشأ يقول:
مازال أخذهم في النحو يعجبني ... حتى تعاطوا كلام الزنج والروم
بمفعل فعلٍ لا طاب من كلمٍ ... كأنه زجل الغربان. واليوم

وقرأ بخط أبي سعيدٍ عبد الرحمن بن علي اليزدادي اللغوي الكاتب في كتاب جلاء المعرفة من تصنيفه قيل: اجتمع إبراهيم النظام وضرار بين يدي الرشيد، فتناظرا في القدر حتى دقت مناظرتهما فلم يفهمهما، فقال لبعض خدمه ومن يثق به ويرضى برأيه: اذهب بهذين إلى الكسائي حتى يتناظرا بين يديه ثم يخبرك لمن الفلح منهما، فلما صارا في بعض الطريق قال إبراهيم النظام لضرارٍ: أنت تعلم أن الكسائي لا يحسن شيئاً من النظر، وإنما معوله على النحو والحساب، ولكن تهيئ له مسألة نحوٍ، وأهيئ له مسألة حسابٍ فنشغله بهما، لأنا لا نأمن إن يسمع منا ما لم يسمعه ولم يبلغه فهمه أن ينسبنا إلى الزندقه، فلما صارا إليه سلما عليه، ثم بدأ ضرار فقال: أسألك - أصلحك الله - عن مسألة من النحو؟ قال: هاتها، قال: ماحد الفاعل والمفعول به؟ قال الكسائي: حد الفاعل الرفع أبداً، وحد المفعول به النصب أبداً، قال: فكيف تقول ضرب زيد؟ فقال: ضرب زيد. قال: فلم رفعت زيداً وقد شرطت أن المفعول به منصوب أبداً؟ قال لأنه لم يسم فاعله، قال له: فقد أخطأت في العبارة، إذ لم تقل إن المفعولين من إذا لم يسم فاعله كان مرفوعاً، ومن جعل لك الحكم بان تجعل الرفع لمن لم يسم فاعله؟ قال: لأنا إذا لم نذكر الفاعل أقمنا المفعول به مقامه، لأن الفعل الواقع عليه غير مستحكم النقص، وعدم النقص مطابق للرفع، فإذا ذكرنا من فعل به وأفصحنا بذلك نصبناه. قال له: فإن كان النصب مطابقا للنقص فمن لم يسم فاعله أولى به، لأنا إذا قلنا: ضرب زيد فقد يمكن إن يكون ضربه مائة رجل، وإذا قلنا ضرب عبد الله زيداً فلم يضربه إلا رجل واحد، فالذي أمكن إن يضربه مائة رجل أولى بالنصب والنقص ممن لم يضربه إلا رجل واحد، فوقف الكسائي فلم يدر مايقول. ثم قال له إبراهيم: أسألك - أصلحك الله - عن مسألةٍ من الحساب؟ قال: قل. قال: كم جذر عشرة. قال: اجتمع الحساب على إنه لاجذر لعشرةٍ. قال: فهل علم الله جذرها؟ قال: الله عالم كل شيء ألقاه إلى نبيٍ من أنبيائه؟ ثم ألقاه ذلك النبي إلى صفيٍ من أصفيائه، فلم يزل ذلك العلم ينمى حتى صار علم جذر عشرةٍ عندي، وأكون أعلم جذرها ولاتعلمه أنت، وتكون مخطئاً فيما قلت، فالتفت الكسائي إلى الغلام وقال: اذهب بهذين إلى أمير المؤمنين فقل: إنهما زنديقان كافران بالله العظيم. قال: وكان الخادم لبيباً حصيفاً فأحسن العبارة عنهما وحسن أمورهما، فأمر بهما بجائزةٍ سنيةٍ وصرفهما.
قال المؤلف: وهذه الحكاية عندي مصنوعة باردة، وإنما كتبتها لكوني وجدتها بخط رجلٍ عالمٍ. وحدث سلمة بن عاصمٍ قال: قال الكسائي: حلفت ألا أكلم عامياً ألا بما يوافقه ويشبه كلامه، وذلك أنني وقفت على نجارٍ فقلت له: بكم ذانك البابان؟ فقال: بلحتان. فحلفت ألا أكلم عاميا إلا بما يصلحه. وحدث الحزنبل قال: أنشدنا يعقوب بن السكيت لأبي الجراح العقيلي يمدح الكسائي:
ضحوك إذا زف الخوان وزوره ... يحيا بأهلاً مرحباً ثم يجلس
أبا حسنٍ ماجئتكم قط مطفئاً ... لظى الشوق إلا والزجاجة تقلس
قال يعقوب: يريد تمتلئ حتى تفيض، ونصب قوله يحيا بأهلاً على الحكاية.
وحدث عبد الله بن جعفر بن علي بن مهدي عن أحمد بن الحارث الخراز قال: كان الكسائي ممن وسم بالتعليم، وكان كسب به مالاً إلا أنه حكى عنه إنه أقام غلاماً ممن عنده في الكتاب وقام يفسق به وجاء بعض الكتاب ليسلم عليه فرآه الكسائي ولم يره الغلام، فجلس الكسائي في مكانه وبقي الغلام قائماً مبهوتاً، فلما دخل الكاتب قال للكسائي: ماشأن هذا الغلام قائماً؟ قال وقع الفعل عليه فأنتصب. وحدث المرزباني فيما أسنده إلى سعدون القارئ قال: رأيت الكسائي وهو يسأل أبا الحسن المروزي وقد أقام أربعين سنة يختلف إلى الكسائي والمروزي يقول: كيف تقول مررت بدجاجةٍ تنقرك أو تنقرك أو تنقرك؟ فقال له الكسائي؟ استحييت لك، بعد أربعين سنة لاتعرف حروف النعت؟ إنها تتبع الأسماء، قل تنقرك من نعت الدجاجة. قال: والكسائي يهزأ به ويعبث وينقر أنفه.

وحدث أيضا بإسناد رفعه إلى نصير الرازي النحوي رجل كان بالري قال: قدم الكسائي مع هارون فاعتل علةً منكرةً فأتاه هارون ماشياً متفرغاً فخرج من عنده وهو مغموم جداً فقال لأصحابه: ما أظن الكسائي إلا ميتاً وجعل يسترجع، فجعل القوم يعزونه ويطيبون نفسه وهو يظهر حزناً فقالوا يا أمير المؤمنين: وماله قضيت عليه بهذا؟ قال: إنه حدثني أنه لقى رجلاً من الأعراب عالماً غزير العلم بموضعٍ يقال له ذو النخيلة، قال الكسائي: فكنت أغدو عليه وأروح أمتاح ماعنده، فغدوت عليه غدوةً من تلك الغدوات فإذا هو ثقيل ورأيت به علةً منكرةً قال: فألقى نفسه وجعل يتنفس ويقول:
قدر أحلك ذا النخيل وقد ترى ... وأبى مالك ذو النخيل بدار
ألا كداركم بذي بقر الحمى ... هيهات ذو بقرٍ من المزدار
قال الكسائي: فغدوت عليه صباحاً فإذا هو لما به: فدخلت الساعة على الكسائي فإذا هو ينشد هذين البيتين، فغمنى ذلك غماً شديداً، فكان كما قال: مات من يومه ودفن بمنزله في سكة حنظلة ابن نصر بالري سنة اثنتين وثمانين ومائة، وفي غير هذه الرواية زيادة في الشعر:
قالت جمال وكلهن جميلة ... ما تأمرون بهولاء السفار
قالوا بنو سفرٍ ولم نشعر بهم ... وهم الذين نريد غير تمارى
لما اتكأت على الحشايا مضمضت ... بالنوم أعينهن بعد غرار
سقط الندى بجنوبهن كأنما ... سقط الندى بلطائم العطار
وكانت وفاته برنبوية، كورة من كور الري هو ومحمد بن الحسن الفقيه في وقتٍ واحدٍ، وكانا خرجا مع الرشيد إليها. فقال الرشيد: دفنت الفقه والنحو برنبوية، فقال أبو محمد اليزيدي يرثيهما:
تصرمت الدنيا فليس خلود ... وماقد ترى من بهجةٍ سيبيد
سيفنيك ما أفنى القرون التي مضت ... فكن مستعداً فالفناء عتيد
أسيت على قاضى القضاة محمدٍ ... فأذريت دمعي والفؤاد عميد
وقلت إذا ما الخطب أشكل من لنا ... بايضاحه يوما وأنت فقيد؟
وأوجعني موت الكسائي بعده ... وكادت بي الأرض الفضاء تميد
وأذهلني عن كل عيش ولذة ... وأرق عيني والعيون هجود
هما عالمانا أوديا وتخرما ... ومالهما في العالمين نديد
وقد روى أن وفاة الكسائي كانت بطوس لا الرى. ولما بلغت هذه الأبيات إلى الرشيد قال يايزيدي: لئن كنت تسيء الكسائي في حياته، لقد أحسنت بعد موته. وقيل بل قال له: أحسنت يابصري، لئن كنت تظلمه في حياته، لقد أنصفته بعد موته. ومات الكسائي وله من التصانيف: كتاب معاني القران، كتاب مختصر في النحو، كتاب القراءات. كتاب العدد. كتاب النوادر الكبير، كتاب النوادر الأوسط، كتاب النوادر الأصغر، كتاب اختلاف العدد، كتاب الهجاء، كتاب مقطوع القران وموصوله، كتاب المصادر، كتاب الحروف، كتاب أشعار المعاياة وطرائقها، كتاب الهاءات المكنى بها في القران.
قرأت بخط الأزهري في كتاب نظم القرآ ن للمنذري: أسمعني أبو بكر عن بعض مشايخه أن الكسائي كان يقوم في المحراب يؤم فتشتد عليه القراءة حتى لا يقوم بقراءة (الحمد لله رب العالمين)، ثم يتحرف فيقبل عليهم فيملي القرآن حفظاً ويفسره بمعانية وتفسيره

علي بن حمزة بن عمارة بن حمزة
ابن يسار بن عثمان الأصبهاني أبو الحسن، وعثمان هذا الذي أنتهت نسبة هذا إليه: هو والد أبي مسلم الخراساني ويسار أخوه، قال ذلك حمزة وقال: كان اسم ابيه قبل أن يسلم بنداد هرمز، فلما أسلم تسمى بعثمان، قال: وأبو مسلم اسمه: بهزادان بن بنداد هرمز، وعلي بن حمزة هذا من أولاد أخيه يسار، وكان أحد أدباء أصبهان المشهورين بالعلم والسعر والفضل والتصنيف، شائع ذلك ذائع عنه، وصنف كتباً منها: كتاب الشعر، وكتاب فقر البلغاء يشتمل على الاختيار من شعر عامة الشعراء، وكتاب قلائد الشرف في مفاخر أصبهان وأخبارها وغير ذلك.

قال حمزة في مقدمة كتابه: وقد كان رجل من كبار أهل الأدب ببلدنا تعاطى عمل كتابٍ في هذا الفن، وهو أبو الحسن على بن حمزة بن عمارة، وسماه قلائد الشرف، فشحنه بأخبار الفرس في السير والأبيات، نبذ بينهما جملاً من أخبار أصبهان تنقص عن السدس من كتابه، وحجمها يكون دون ثلاثين ورقةً، وروى فيما بينها أخباراً كأنها من أحاديث الحكم.
ومن شعر علي بن حمزة يرثى أبا مسلمٍ محمد ابن بحرٍ:
وقالوا ألا ترثي ابن بحر محمداً ... فقلت لهم: ردوا فؤادي واسمعوا
فلن يستطيع القول من طار قلبه ... جريحاً طريحاً بالمصائب يقرع
ومن بان عنه إلفه وخليله ... فليس له إلا إلى البعث مرجع
ومن كان أوفى الأوفياء لمخلصٍ ... ومن حيز في سرباله الفضل أجمع
سجايا كماء المزن شيب به الجنى ... جنى الشهد في صفو المدام يشعشع
وغرب ذكاءٍ واقدٍ مثل جمرةٍ ... وطبع به العضب المهند يطبع
ومن كان من بيت الكتابة في الذرى ... وذا منطقٍ في الحفل لايتتعتع
وله كتبه إلى أبي نجيحٍ أخي أبي سعدٍ الشاعر:
قد عزمنا على الصبوح فبادر ... قبل إن تضحى السماء المخيلة
فلذا الدجن ياخليلي ذمام ... لم أزل مذعقلت أمري خليله
وهو يوم أغر أبلج يهمى ... بحيا يستمد منه سيوله
ودعاني إليه أدهم داجٍ ... قد رحمنا بكاءه وعويله
شبه ليلٍ متى استضيف بليلٍ ... لم يسكن إلى الصباح صهيله
مطفح مهمر بلوع به يس ... تلب المدقع الضنين صليله
راكب نازل يغطمط وأب ... قد سئمنا ركوبه ونزوله
يطرد الجدب كلما جاش أعطى ... سائليه بضيعةً ونشيله
ولدينا من المعسل شيء ... يفثأ الدهر من فؤادي غليله
فتفضل بما سألت فقدماً ... بؤت للخل بالأيادي الجليله
ولك الحكم إن تحكم في الشر ... ب فلا تخف عن قلوب عليله
وفتوٍ كأنهم قضب الهن ... د لهم السن سلاط طويله
قال المؤلف: ولعلى بن حمزة هذا مفاوضات طوال وجوا بات لجماعةٍ من شعراء أصبهان، منهم أبو الحسن طباطبا العلوي وغيره، لم أذكر منها شيئا لطولها ولقلة فائدتها عندي، فشعره على هذا النمط لاطائل فيه إلا أنه عند أهل أصبهان جليل نبيل.

علي بن حمزة البصري اللغوي
يكنى أبا النعيم. كان أحد أعيان أهل اللغة الفضلاء المتحققين العارفين بصحيحها من سقيمها، وله ردود على جماعةٍ من أئمة أهل اللغة كابن دريدٍ والأصمعي وابن الأعرابي وغيرهم. ولما ورد المتنبي إلى بغداد كان بها وفي داره نزل.
قال أبو عليٍ الحسن بن يحيى الفقيه الصقلي يعرف بابن الخزاز في تاريخ صقلية من تصنيفه: وفي رمضان سنة خمسٍ وسبعين وثلاثمائةٍ مات على بن حمزة اللغوي البصري راوية المتنبي بصقلية، وصلى عليه القاضي إبراهيم ابن مالكٍ قاضي صقلية وكبر خمساً في الجامع. وله من التصانيف: كتاب الرد على أبي زيادٍ الكلابي، كتاب الرد على أبي عمرو الشيباني في نوادره، كتاب الرد على أبي حنيفة الدينوري في كتاب النبات، كتاب الرد على أبي عبيد القاسم بن سلامٍ في المصنف، كتاب الرد على ابن السكيت في إصلاح المنطق، كتاب الرد على ابن ولادٍ في المقصور والممدود، كتاب الرد على الجاحظ في الحيوان، كتاب الرد على ثعلبٍ في الفصيح. ورأيت هذه كلها بمصر.
ترجمة ثانية: علي بن حمزة البصري اللغوي أحد الأعلام الأئمة في الأدب، وله تصانيف وردود على أهل الأدب وفق فيها. وقد روى عنه أبو الفتح بن جنىٍ شيئاً من أخبار المتنبي وغيرها، لأن المتنبئ لما ورد بغداد نزل عليه وكان ضيفه إلى أن رحل عنها. فحدث أبو عبد الله محمد بن نصرٍ الحميدي في كتاب جذوة المقتبس في تاريخ الأندلس في ترجمة ثابت بن محمد الجرجاني قال: أخبرني أبو محمدٍ على بن أحمد عن أبي الفتح ثابت بن محمد الجرجاني قال: أخبرني على بن حمزة مضيف المتنبئ قال: - وعنده نزل المتنبئ ببغداد - إن القصيدة التي أولها.
هذي برزت بنا فهجت رسيسا

قالها في محمد بن رزيق الناظر في زواميل ابن الزيات صاحب طرسوس، وأنه وصله عليها بعشرة دراهم فقيل له: إن شعره حسن فقال: ما أدرى أحسن هو أم قبيح؟ ولكن أزيده لقولك عشرة دراهم، فكانت صلته عليها عشرين درهما.

علي بن حمزة الأديب
أبو الحسن مصنف الرسالة الحمارية، قدم دمشق ومدح بها أبا الفتح صالح بن أسدٍ الكاتب في سنة ثلاثين وأربعمائةٍ. روى عنه أبو الحسن على بن عبد السلام الصورى، ومات باطرابلس ذكره ابن عساكر هكذا
على بن حمزة بن علي بن طلحة
ابن علىٍ الرزاي الأصل البغدادي المولد والدار، ويعرف بابن بقشلان مات بمصر، أخبرني الحافظ أبو عبد الله محب الدين محمد بن النجار: إن علي بن حمزة بن طلحة مات في غرة شعبان سنة تسع وتسعين وخمسمائةٍ، ويكنى أبا الحسين، وتلقب بعلم الدين، ولى حجبة الباب في أيام المستضئ بالله ثم نيابة المقام ببغداد، فسافر إلى الشام وتنقل إلى إن حصل بمصر فمات بها، وعلم الدين هذا: هو صاحب الخط المليح الغاية على طريقة على بن هلال بن البواب خصوصاً قلم المصاحف، فإنه لم يكتبه أحد مثله فيمن تقدم أو تأخر، ولذلك ذكرناه في هذا الكتاب، ولما ولى حجبة الباب كان يتقعر في كلامه ويستعمل السجع وحوشى اللغة، فمن ذلك ماحدثني به جماعة أهل بغداد إلا أنني كتبته من لفظ الصدر أبي محمدٍ عبد الله بن الهروي الشاعر قال: لما ولى علم الدين حجبة باب النوبي حظر على العامة سماع الملاهي وشرب الخمر وارتكاب الفواحش، وتشدد في ذلك تشدداً عظيماً، وأرد بعض العامة المثرين ختان ولد له فاستشفع إليه بمن يعز عليه في أن يمكنه من إحضار بعض الملاهي لذلك، فأذن فيه ثم قال: جيئوني به أشرط عليه، فلما مثل بين يديه قال له: قد أذن لك في ختان ولدك على ألايكون عندك مزهر ولا مزمر ولابربط ولادف ولاطنبور ولاعود ولامحظور ولاالشيء الملقب بالشنك، ولا من يجول الغناء له ببالٍ ولايحظر في خيالٍ. فقال له العامي: فيأذن لي مولانا أن أحضر وريدة المخنث يلطم عندي دورين أو ثلاثة. قال: فغضب ابن طلحة وقال له: كأنك من الذين تشرئب نفوسهم إلى ما حرم الله، أيها العوام الجهلة، والوضعاء السفلة، يا أهالي الجهل والغواية. ويا أصحاب الضلالة والعماية: أما فيكم من له عقل يرده؟ ولادين يصده، فينبذ الآثام وراء ظهره، ويسعى إلى الخير بانشراح صدره، تتهافتون على الفواحش والمآثم، ولا تأخذكم في المعصية لومة لائمٍ، بدلني الله بكم غيركم، وكفاني شركم وخيركم. فقال الرجل: الله أكبر، يريد تكبير الصلاة. فقال ابن طلحة: وهذا أيضا من جهلك وقلة معرفتك وعقلك، ارجع إلى الله بقلبك، واستغفر لذنبك، ولاحول ولاقوة إلا بالله.
وكان أبو حمزة بن عليٍ وهو الملقب بكمال الدين ويكنى أبا الفتوح، من الأعيان الأماثل، ولى حجبة الباب للمسترشد، ووكله وكالةً مطلقةً، فلما استخلف المقتضى لأمرالله ولاه صدرية المخزن، وأكثر الحج وجاور بمكة، وهو الذي عمر المدرسة التي بباب العامة لأصحاب الشافعي، تعرف إلى الآن بالكمالية، ووقف على المتفقهين بها ثلث ملكه، ومات في صفرٍ سنة ست وخمسين وخمسمائةٍ ودفن بالحربية
علي بن خليفة بن علي النحوي
يعرف بابن المنقى أبو الحسن من أهل الموصل، كان إماماً فاضلاً تأدب عليه أكثر أهل عصره من أهل بلده، ومات في ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمسمائةٍ، وكان يجلس بالمسجد المعروف بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالموصل، وصنف مقدمةً في النحو سماها المعونة، وكان زاهداً ورعاً مقداماً ذا سورةٍ وغضبٍ. أنشدني أبو الفضل محمد ابن أحمد بن خميسٍ المغربي الوكيل بباب القاضي بحلب، وهو موصلي المولد - مات في جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وستمائةٍ - قال: أنشدني ابن المنقى النحوي الموصلي لنفسه ودخل إليه رجل فقال له: من أين جئت؟ فقال له: من عند علامة الدنيا، يعني سعيد بن الدهان. فقال ارتجالاً:
وقالوا: الأعور الدهان حبر ... يفوق الناس في أدبٍ وكيس
فقلت: بحيس خير منه علماً ... وإن الكلب خير من بحيس
وأنشدني قال: أنشدني ابن المنقى لنفسه وقد طلب منه ملك النحاة حلاوةً بعد كلامٍ جرى بينهما في مجلس تاج الدين بن الشهرزوري:
عندي للشيخ مليك النحاة ... ريح شناجٍ سكنت في خصاه

لاعسل عندي ولاسكر ... فليعذر الشيخ ويأكل خراه
وأنشدني بزان بن سنقر الموصلي قال: أنشدني شيخنا أبو عبد الله الحسين بن علي بن خليفة النحوي الأديب. ومات بباشزى من قرى البقعاء في سنة ثلاثٍ وتسعين وخمسمائةٍ قال: أنشدني والدى على بن خليفة بن المنقى - رحمه الله - لنفسه وقد عتب عليه جمال الدين الأصفهاني الوزير في ترك التردد إليه، ثم قصده بعد ذلك فمنعه البواب من غير أن يعرفه:
إني أتيتك زائراً ومسلماً ... كيما أقوم ببعض حق الواجب
فإذا ببابك حاجب متبظرم ... فعمود دارك في حرام الحاجب
ولئن رأيتك راضياً بفعاله ... فجميع ذلك في حرام الصاحب
وأنشدني بزان قال: أنشدني الحسين بن عليٍ قال: أنشدني والدي لنفسه في بعض الشعراء وقد هجاه:
هجوت ياابن اللئام فاستمع ال ... هجو بلا خيفةٍ ولامللٍ
فأنت من معشرٍ إذا لحظوا ... تنخس منهم محاجر المقل

على بن دبيس النحوي الموصلي
أبو الحسين، قرأ النحو على ابن وحشيٍ صاحب ابن جنىٍ، وأخذ عنه زيد مرزكة الموصلى وهو مذكور في بابه. ولعلي بن دبيسٍ أشعار حسان منها في وصف قوادٍ:
يسهل كل ممتنعٍ شديدٍ ... ويأتي بالمراد على اقتصاد
فلو كلفته تحصيل طيف ال ... خيال ضحىً لزار بلا رقاد
علي بن زيد القاشاني النحوي
أحد أصحاب أبي الفتح بن جنىٍ. وجدت بخطه ما كتبه في سنة إحدى عشرة وأربعمائةٍ. وهو صاحب الخط الكثير الضبط المعقد، سلك فيه طريقه شيخه أبي الفتح.
علي بن زيد

أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي. مات سنة خمسٍ وستين وخمسمائةٍ، قال هو في كتاب مشارب التجارب: أنا أبو الحسن علي بن الإمام أبي القاسم زيد بن الحاكم الإمام أميرك، محمد بن الحاكم أبي علىٍ الحسين بن أبي سليمان الإمام فندق بن الإمام أيوب بن الحسن بن أحمد بن ابن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عمرو بن الحسن بن عثمان ابن أيوب بن خزيمة بن عمرو بن خزيمة بن عمرو بن خزيمة بن ثابت بن ذي الشهادتين صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة بن عامر بن عنان بن عامر ابن خطمة بن جشم بن مالك بن الأوس، ورفع نسبة إلى آدم وذلك يسير كما ذكرناه في عدة مواضع من كتبنا. قال: ومولدي يوم السبت سابع عشرين شعبان سنة تسع وتسعين وأربعمائةٍ، في قصبة السابزوار من ناحية بيهق وهي بلدة بناها ساسان بن ساسان بن بابك ابن ساسان فأسلمني أبي بها إلى الكتاب، ثم رحلنا إلى ناحية ششتمذ من قرى تلك الناحية، ولوالدي بها ضياع، فحفظت في عهد الصبا كتاب الهادي للشاري تصنيف الميداني، وكتاب السامي في الأسامي له، وكتاب المصادر للقاضي الزوزني، وكتاب غريب القران للعزيزي، وكتاب إصلاح المنطق، وكتاب المنتحل للميكالي، وأشعار المتنبي، والحماسة، والسبعيات، وكتاب التلخيص في النحو. ثم بعد ذلك حفظت كتاب المجمل في اللغة، وحضرت في شهور سنة أربع عشرة وخمسمائةٍ كتاب أبي جعفرٍ المقرئ إمام الجامع القديم بنيسابور مصنف كتاب ينابيع اللغة وغير ذلك، وحفظت في كتابه كتاب تاج المصادر من تصنيفه، وقرأت عليه نحو ابن فضالٍ، وفصلاً من كتاب المقتصد، والأمثال لأبي عبيدٍ، والأمثال للأمير أبي الفضل الميكالي، ثم حضرت درس الإمام صدر الآفاضل أحمد بن محمدٍ الميداني في محرم سنة ست عشرة وخمسمائةٍ، وصححت عليه كتاب السامي في الأسامي من تصنيفه، وكتاب المصادر للقاضي، وكتاب المنتحل، وكتاب غريب الحديث لأبي عبيد، وكتاب إصلاح المنطق ومجموع الأمثال من تصنيفه، وكتاب صحاح اللغة للجوهري. وفي أثناء ذلك كنت أختلف إلى الإمام إبراهيم الخراز المتكلم وأقتبس منه أنوار علوم الكلام، وإلى الإمام محمدٍ الفزاري وسمعت منه غريب الحديث للخطابي وغيرهم، ثم مات والدي في سلخ جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وخمسمائةٍ، فانتقلت في ذي الحجة سنة ثماني عشرة إلى مرو، فقرأت على تاج القضاة أبي سعد يحيى بن عبد الملك بن عبيد الله بن صاعدٍ، وكان ملكاً في صورة إنسان، وعلقت من لفظه كتاب الزكاة، والمسائل الخلافية، ثم سائر المسائل على غير الترتيب، وخضت في المناظرة والمجادلة سنةً جردةً حتى رضيت عن نفسي فيه ورضي عني أستاذي، وكنت أعقد جلس الوعظ في تلك المدرسة وفي الجامع، ثم انصرفت عن مرو في ربيعٍ الأول سنة احدى وعشرين وخمسمائةٍ، واشتغلت بمرو بتزويجٍ صدني عن التحصيل صداً، وعدت إلى نيسابور ثم عدت إلى مسقط الرأس وزيارة الوالدة ببيهق، وأقمت بها ثلاثة أشهر وذلك في سنة

إحدى وعشرين، ورجعت إلى نيسابور ثم رجعت إلى بيهق، واتفقت بيني وبين الأجل شهاب الدين محمد ابن مسعودٍ المختار وإلى الري ثم مشرف المملكة مصاهرة، وصرت مشدوداً بوثاق الأهل والأولاد سنين، وفوض إلى قضاء بيهق في جمادى الأولى سنة ستٍ وعشرين وخمسمائةٍ، فبخلت بزماني وعمري على إنفاقه في مثل هذه الأمور التي قصاراها ماقال شريح القاضي: أصبحت ونصف الناس علي غضبان، فضقت ذرعاً ولم أجد بداً من الأنتقال حتى يتقلص عني ظل ذلك الأمر، فقصدت كورة الري ليلة العيد من شوال سنة ست وعشرين وخمسمائةٍ، والوالي بها شهاب الدين صهري، فتلقاني أكابرها وقضاتها وسائر الأجلاء، وأقمت بها إلى السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة سبعٍ وستين وخمسمائةٍ، وكنت في تلك المدة أنظر في الحساب والجبر والمقابلة وطرفاً من الأحكام، فلما رجعت إلى خراسان أتممت تلك الصناعة على الحكيم أستاذ خراسان عثمان بن جاذوكار، وحصلت كتباً من الأحكام، وصرت في تلك الصناعة مشاراً إلى، وانتقلت إلى نيسابور في غرة ربيعٍ الآخر سنة تسعٍ وعشرين وخمسمائةٍ، وكان علم الحكمة عندي غير نضيجٍ وعدت إلى بيهق وفي العين قذىً من نقصان الصناعة، فرأيت في المنام سنة ثلاثين قائلاً يقول: عليك بقطب الدين محمدٍ المروزي الملقب بالطبسي النصيري، فمضيت إلى سرخس وأقمت عنده وأنفقت ما عندي من الدنانير والدراهم، وعالجت جروح الحرص بتلك المراهم، وعدت إلى نيسابور في السابع والعشرين من شوال سنة اثنتين وثلاثين، وأقمت معه بنيسابور حتى أصابه الفالج وذلك في رجبٍ سنة ستٍ وثلاثين، فعدت إلى بيهق في شعبانها فأزعجني عنها حسد الأقارب، فخرجت منها خائفا أترقب في رمضان سنة سبعٍ وثلاثين إلى نيسابور، فأكرمني أكابرها، فكنت أعقد المجلس في يوم الجمعة بجامع نيسابور القديم، ويوم الأربعاء في مسجد المربع، ويوم الاثنين في مسجد الحاج، وتفد على وفود إكرام الوزير ملك الوزراء طاهر بن فخر الملك، وإكرام أكابر الحضرة، فألقيت العصا بنيسابور وأقمت بها إلى غرة رجب سنة تسعٍ وأربعين وخمسمائة، ثم ارتحلت عنها لزيارة والدتي، ومات ولدي أحمد ووالدتي في هذه السنة، وكانت حافظةً للقران عالمة بوجوه تفاسيره.
وهأنا أذكر تصانيفي في هذه المدة: كتاب أسئلة القران مع الأجوبة مجلدة، كتاب إعجاز القرآن

مجلد، كتاب الإفادة من كلمة الشهادة مجلدة، كتاب المختصر من الفرائض مجلد، كتاب الفرائض بالجدول مجلد، كتاب أصول الفقه مجلد، كتاب قرائن آيات القران مجلد، كتاب معارج نهج البلاغة وهو شرح الكتاب مجلد، كتاب نهج الرشاد في الأصول مجلد، كتاب كنز الحجج في الأصول مجلد، كتاب جلاء صدأ الشك في الأصول، كتاب إيضاح البراهين في الأصول مجلد، كتاب الإفادة في إثبات الحشر والإعادة مجلد، كتاب تحفة السادة مجلد، كتاب التحرير في التذكير مجلدان، كتاب الوقيعة في منكر الشريعة مجلد، كتاب تنبيه العلماء على تمويه المتشبهين بالعلماء، كتاب أزاهير الرياض المريعة وتفسير ألفاظ المحاورة والشريعة مجلد، كتاب أشعاره مجلد، كتاب درر السخاب ودرر السحاب في الرسائل مجلد، كتاب ملح البلاغة مجلد، كتاب البلاغة الخفية مجلد، كتاب طرائق الوسائل إلى حدائق الرسائل مجلد، كتاب الرسائل بالفارسي مجلد، كتاب رسائله المتفرقة مجلد، كتاب عقود اللآلئ مجلد، كتاب غرر الأمثال مجلدان، كتاب الانتصار من الأشرار مجلد، كتاب الاعتبار بالإقبال والإدبار مجلد، كتاب وشاح دمية القصر مجلد ضخم، كتاب أسرار الاعتذار مجلد، كتاب شرح مشكلات المقامات الحريرية مجلد، كتاب درة الوشاح مجلد خفيف، كتاب العروض مجلد، كتاب أزهار أشجار الأشعار مجلد، كتاب عقود المضاحك بالفارسي مجلد، كتاب نصائح الكبراء بالفارسية مجلد، كتاب آداب السفر مجلدة، كتاب مجامع الأمثال وبدائع الأقوال أربع مجلدات، كتاب مشارب التجارب أربع مجلداتٍ، كتاب ذخائر الحكم مجلدة، كتاب شرح الموجز المعجز مجلد، كتاب أسرار الحكم مجلدة، كتاب عرائس النفائس مجلدة، كتاب أطعمة المرضى مجلد، كتاب المعالجات الاعتبارية مجلد، كتاب تتمة صوان الحكمة مجلد، كتاب السموم مجلد، كتاب الحساب مجلد، كتاب خلاصة الزيجة مجلد، كتاب أسامي الأدوية وخواصها ومنافعها مجلد وهو معنون بتفاسير العقاقير مجلد ضخم، كتاب جوامع الأحكام ثلاث مجلدات، كتاب أمثلة الأعمال النجومية مجلد، كتاب مؤامرات الأعمال النجومية مجلد، كتاب غرر الأقيسة مجلد، كتاب معرفة ذات الحلق والكرة والأصطرلاب مجلد، كتاب أحكام القرانات مجلد، كتاب ربيع العارفين مجلد، كتاب رياحين العقول مجلد، كتاب الإراحة عن شدائد المساحة مجلد، كتاب حصص الأصفياء في قصص الأنبياء على طريق البلغاء بالفارسية مجلدان، كتاب المشتهر في نقض المعتبر الذي صنفه الحكيم أبو البركات مجلد، كتاب بساتين الأنس ودساتين الحدس في براهين النفس مجلد، كتاب مناهج الدرجات في شرح كتاب النجاة ثلاث مجلدات، كتاب الأمانات في شرح الإشارات، كتاب رقيات التشبيهات على خفايا المختلطات بالجداول مجلد، كتاب شرح رسالة الطر مجلد، كتاب شرح الحماسة مجلد، كتاب رسالة العطارة في مدح بني الزنارة، كتاب تعليقات فصول بقراط، كتاب شرح شعر البحتري وأبي تمام مجلد، كتاب شرح شهاب الأخبار مجلد.
قال المؤلف: هذا ماذكره في كتاب مشارب التجارب، ووجدت له تاريخ بيهق بالفارسية، وكتاب لباب الأنساب.
قال المؤلف: وقفت بنيسابور عند أول ورودي إليها في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة وستمائةٍ على كتاب وشاح الدمية فقال فيه: إن أبا القاسم الباخرزي فرغ من تصنيف كتاب دمية القصر في جمادى الآخرة سنة ستٍ وستين وأربعمائةٍ، وإنه هو بدأ بتصنيف الوشاح في غرة جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وخمسمائةٍ، وفرغ منه في رمضان سنة خمسٍ وثلاثين.
وأنشد لنفسه في كتاب الوشاح أشعاراً منها في مخلص الدين أبي الفضل محمد بن عاصمٍ كاتب الإنشاء في ديوان السلطان سنجر قال: وهو ابن أخت أبي إسماعيل الطغرائى:
كريم علا أوج النجوم علاه ... وأيقظ نوام المديح نداه
سرى واهتدى طبعي بنجم كما له ... وأحمد في وقت الصباح سراه
له روضة أبدت من الفضل نرجساً ... وغصناً من الإقبال طاب جناه
أعاد رساغ القلب في حبل وده ... وغادر قلبي في صراع هواه
يفرق أشجان الأفاضل يمنه ... ويجمع كل الصيد جوف فراه
لقد زرت أشراف الزمان وإنما ... أبى الفضل إلا أن أزور فناه

وذكره العماد الأصفهاني في كتاب الخريدة ووصفه بالرياسة والشرف وقال: حدثني والدي أنه لما مضى إلى الري عقيب النكبة أصبح ذات يومٍ وشرف الدين البيهقي قد قصده في مركبه وهو حينئذٍ والي الري ونقله إلى منزله وتكفل بتسديد خلله، وكان حينئذٍ يترشح لوزارة السلطان وهو كبير الشان، ومازالا بالري مقيمين متوانسين حتى فرق بينهما محتوم البين، وذلك في سنة ثلاثٍ وثلاثين وخمسمائةٍ.
قال: وأظنه نكب في وقعة السلطان سنجر مع الكفار الخطائية، وكان والدي يثني عليه أبدا ويقول: إنه ما نظر إلى نظيره، ولامثلت لعينه عين مثله، صنف كتاب وشاح الدميه، ذيله على كتاب أبي الحسن الباخرزي وهو موجود بخراسان، وأورد فيه لنفسه:
تراجعت الأمور على قفاها ... كما يتراجع البغل الرموح
وتستبق الحوادث مقدماتٍ ... كما يتقدم الكبش النطوح
وقوله:
يشير بأطرافٍ لطافٍ كأنها ... أنابيب مسكٍ أو أساريع إسحل
وتومي بلحظٍ فاتر الطرف فاتنٍ ... بمرود سحرٍ بابليٍ مكحل
ينم على مابيننا من تجاذبٍ ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
وله:
يا خالق العرش حملت الورى ... لما طغى الماء على جارية
وعبدك الآن طغى ماؤه ... في صلبه فاحمل على جارية
قال المؤلف: هكذا ذكر العماد في كتابه، وإذا عارضت قوله بما ذكره البيهقي عن نفسه في كتبه الذي نقلت لفظه منه من خطة، وجدت فيه اختلافاً في التاريخ وغيره والله أعلم.
ومن شعر أبي الحسن البيهقي الذي أورده لنفسه في كتاب الوشاح في عزيز الدين أبي الفتوح على بن فضل الله المستوفي الطغرائي ونقلته من خطه:
شموسي في أفق الحياه هلال ... وأمنى من صرف الزمان محال
وأطلب والمطلوب عز وجوده ... وأرجو وتحقيق الرجاء محال
إلى كم أرجى من زماني مسرةً ... وقد شاب من رأس الزمان قذال
وبال الطاووس ألوان ريشه ... وعلم الفتى حقاً عليه وبال
وللدهر تفريق الأحبة عادة ... وللجهل داء في الطباع عضال
لقد ساد بالمال المصون معاشر ... وأخلاقهم للمخزيات عيال
وبينهم ذل المطامع عزة ... وعندهم كسب الحرام حلال
وله:
ضجيعي في ليلى جوىً ونحيب ... وإلفى في نومي ضنىً ولغوب
دجا ليل آمالي وأبطأ صبحه ... وللمنذرات السود فيه نعيب
وتلسعني الأيام فهي أراقم ... وتخدعني الآمال فهي كذوب
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وباعي في ظل الوصال رحيب؟
خليلي لاتركن إلى الدهر آمناً ... فإحسانه بالسيئات مشوب
وكم جاهلٍ قد قال لي أنت ناقص ... فهيج ليث الحقد وهو غضوب
وعيرني بالعلم والحلم والنهى ... قبائل من أهل الهوى وشعوب
فقلت لهم: لاتعذلوني فإنني ... لصفو زجاجات العلوم شروب
وماضرني أني عليم بمشكلٍ ... وقد مس أهل الدهر منه لغوب
لئن عد علم المرء جرماً لديكم ... فذلك جرم لست منه أتوب
كفى حزناً أني مقيم ببلدةٍ ... بها صاحب العلم الرصين غريب
وذكر أيضاً في هذا الكتاب قال: دخلت على الأمير يعقوب بن اسحاق المظفر بن نظام الملك، فأكرمني وقابلني بالتعظيم والتفخيم فقلت بديهةً:
يعقوب يظهر دائماً في لفظه ... عسلاً لديه يطمه يعسوبه
وغدا بحمد الله صدراً مكرماً ... يعلو نطاق المشتري عرقوبه
فسقى أنامله حدائق لفظه ... وجرى على نهج العلا يعبوبه
قد غاب يوسف خاطري عن مصره ... ويشم ريح قميصه يعقوبه
فأشار إلى وقال: هل لك أن تنسج على منوالي فيما قلت؟ فأنشدني لنفسه:
أعاذل مهلاً ليس عذلك ينفع ... وقولك فينا دائماً ليس ينجع
وهل يصبر الصب المشوق على الجوى ... وفي الوصل مشتاق وفي الهجر مجزع؟

يقولون: إن الهجر يشفي من الجوى ... وإن فؤاد الصب في القرب أجزع
بكل تداوينا فلم يشف مابنا ... على أن قرب الدار أجدى وأنفع
تحن إلى ظلٍ من العيشٍ وارفٍ ... وعهدٍ مضى منه مصيف ومربع
فقلت أيها الصدر: ليس للخل حلاوة العسل، وللتكحل طلاوة الكحل، ومن أين للسراج نور الشمس؟ وللكون سبق الخيل الشمس؟ ومن أين للضباب منفعة السحاب؟ فقال: لابد من ذلك، فجمعت العجالة والبداهة هنالك، وقلت في الحال في مقام الارتحال، وكتبت بقلم الارتحال على قرطاس الاستعجال:
سرى طيفه وهناً ولى فيه مطمع ... وبرق الأماني في دجى الهجر يلمع
ويأبى حقين الهجر عذرة طيفه ... فلم أدر في مهوى الهوى كيف أصنع؟
لقد يحمد القوم السرى في صباحهم ... زمان تلاقٍ عنده الشمل يجمع
وهانا أسرى في ظلامي وإنني ... أذم صباحي والخلائق هجع
أقول لصبري أنت ذخرى لدى النوى ... وذخر الفتى حقاً شفيع مشفع
وأسكن ماء العين نارى وإنما ... هواء الهوى من تربة الطيف أنفع
رأيت معيدي الخيال فقال من ... جهينة أخبار المعيدي تسمع
دعوت إلى جيش الهوى جندب الهوى ... فولى وطرف العين في النوم يرتع
وقال لنفسي: لاتموتي صبابةً ... لعل زماناً قد مضى لك يرجع
ولم يبق مني غير ماقلت منشداً ... حشاشة نفسٍ ودعت يوم ودعوا
فلاذ بشمس الدين يعقوب من له ... نجوم لها في مشرق المجد مطلع
أجلك يا يعقوب عن كنه مدحتي ... لأنك عن مدحي أجل وأرفع
قال: ثم شرفني بعد ذلك بقصيدةٍ أولها: ألا أبلغ إلى سلمى السلاما فأجبت وقلت بعد الجواب علاوةً للتصديع والإبرام، على طريق أداء شكر المنعم اللائق بأحوال الخدم:
يا صاحبي كسدت أسواق أشواقي ... والتفت الساق يوم الهجر بالساق
باليت شعري هل سعد يساعدني ... أم هل لداء الهوى من الناس من راق؟
أم هل سبيل إلى سلوان مكتئبٍ ... أم هل طريق إلى إيناس مشتاق؟
يا نجل اسحاق يا من ثوب سودده ... قد جل في الدهر عن وهي ابن اسحاق
فما تمهلت في يومي وغىً وندىً ... إلا قضيت بآجالٍ وأرزاق
وكل ذكرٍ وإن طال الزمان به ... فانٍ وذكرك في نادي الندى باق

علي سليمان الأديب البغدادي
أبو الحسن، أحد الفضلاء المبرزين والظراف المشهورين قرأت بخط أبي سعدٍ قال: ذكر أبو المظفر محمد بن العباس الأبيوردي في كتاب تعلة المشتاق من تصنيفه قال فيه: وقد صممت العزم على معاودة الحضرة الرضوية بخراسان لأنهى إليها ماقاسيته في التأخر عن الخدمة، وعلم الأديب أبو الحسن علي بن سليمان صرى عزمى، فجشم إلى قدمه، وجرى على عادته الرضية في رعاية جانبي تمهيداً لما استمر بيننا من أواصر المودة، ولعمر الفضل إني لم أجد في غربتي هذه فاضلاً يباريه، ولاظريفاً يجاريه، ومن وصف البغدادي بالفضل والظرف فقد كساه الثناء المختصر، وحمل التمر إلى هجر، ومن مليح ماأسمعنيه أنه قال: سألنا أبا القاسم عبد العزيز بن أحمد بن ناقيا البغدادي قلت هكذا، قال عبد العزيز، وصوابه عبد الله ذكرناه في بابه من هذا الكتاب، عن المتنبئ وابن نباته والرضي فقال: إن مثلهم عندي مثل رجلٍ بنى أبنيةً شاهقةً وقصوراً عاليةً وهو المتنبى، فجاء آخر وضرب حولها سرادقات وخيماً، وهو ابن نباته، ثم جاء الرضي ينزل تارةً عند هذا، وتارةً عند ذاك، قلت فأنشدني قال: أنشدني أسبهدوست بن محمد بن أسفارٍ الديلمي قال: أنشدني أبو الفرج الببغاء لنفسه:
أشقيتني فرضيت أن أشقى ... وملكتني فقتلتني عشقا
وزعمت أنك لاتكلمني ... عشراً فمن لك أنني أبقى؟
ليس الذي تبغيه من تلفى ... متعذراً فاستعمل الرفقا
قال الأبيوردى: وبهذا الإسناد قال: أنشدني ابن الحجاج لنفسه:
ياصروف الدهر حسبي ... أي ذنبٍ كان ذنبي؟

علة عمت وخصت ... لحبيبٍ ومحب
أنا أشكو حر حبٍ ... وهو يشكو برد حبي
قال الأبيوردي: فقل في محبوبٍ حربٍ، وعاشقٍ طربٍ.

علي بن سليمان
يلقب حيدرة اليمنى النحوي التميمي، كان من وجوه أهل اليمن وأعيانهم علماً ونحواً وشعراً، وصنف كتباً منها: كتاب في النحو سماه كشف المشكل في مجلدين، وقال فيه يمدحه:
صنفت للمتأدبين مصنفاً ... سميته بكتاب كشف المشكل
سبق الأوائل مع تأخر عصره ... كم آخرٍ أزرى بفضل الأول
قيدت فيه كل ماقد أرسلوا ... ليس المقيد كالكلام المرسل
ومولده ببلاد بكيلٍ من أعمال ذمار، ومات سنة تسعٍ وتسعين وخمسمائةٍ، ومن شعره يحصره جمع التكسير:
سألت عن التكسير فاعلم بانها ... ثمانية أوزان جمع المكسر
فأربعة أوزان كل مقللٍ ... وأربعة أوزان كل مكثر
فعال وأفعال وفعل وأفعل ... وأفعلة منها وفعلات فانظر
ومنها فعول ياأخي وفعلة ... وتمثيلها إن كنت لما تصور
جمال وأفراس وأسد وأكبش ... وأكسية حمر لفتيان حمير
أتونا عشاء في ربوع لفتيةٍ ... من التغلبيين الكرام ويشكر
وكل خماسيٍ إذا ماجمعته ... فآخره فاحذف ولاتتعثر
فتجمع قرطعباً قراطع سالكاً ... به مسلك الجمع الرباعي المكثر
قلت أنا: هذا عجب ممن صنف كتاباً كبيراً في النحو يقول: جمع المكثر أربعة أوزان وهي على نحوٍ من خمسين وزناً.
علي بن سليمان بن الفضل الأخفش
أبو الحسن، وهو الأخفش الصغير، وهناك الأخفش الأكبر، وهو أبو الخطاب عبد الحميد وقد ذكر، والأوسط وهو أبو الحسن سعيد بن مسعدة وقد مر في بابه، وهناك أخفش آخر، وهو عبد العزيز بن أحمد المغربي الأندلسي، وقد ذكر في بابه أيضا وغيرهم. ومات علي بن سليمان هذا في شعبان سنة خمس عشرة وثلاثمائةٍ، ودفن بمقبرة قنطرة البردان، وذكر ذلك المزرباني. قال المزرباني في كتاب المقتبس: ذكر جماعة لقيناهم من النحويين وأهل اللغة. منهم علي بن سليمان بن الفضل الأخفش، ولم يكن بالمتسع في الرواية للأخبار والعلم بالنحو، وما علمته صنف شيئاً ألبته ولاقال شعراً، وكان إذا سئل عن مسائل النحو ضجر وأنتهر كثيرا من يواصل مساءلته ويتابعها، ثم ذكر وفاته كما تقدم قال: وشهدته يوماً وصار إليه رجل من حلوان كان يلزمه فحين رآه قال له:
حياك ربك أيها الحلواني ... ووقاك ما يأتي من الأزمان
ثم التفت إلينا وقال: ما نحن من الشعر إلا هذا وماجرى مجراه. هكذا ذكر أبو عبيدة الله تلميذه وصاحبه. وقال الجوهرى: الأجلع: الذي لاتنضم شفتاه على أسنانه، وكان الأخفش الأصغر النحوي أجلع. ووجدت في كتاب فهرست ابن النديم بخط مؤلفه، وذكر الأخفش هذا فقال: له من التصانيف: كتاب الأنواء، وكتاب التثنية والجمع، وكتاب شرح سيبويه حدثني الصاحب الوزير جلال الدين القاضي الأكرم أبو الحسن علي بن يوسف القفطي - أدام الله أيامه - أنه ملكه في خمسة أجلادٍ. وكتاب تفسير رسالة كتاب سيبويه رأيته في نحو خمس كراريس، وكتاب الحداء، ووجدت أهل مصر ينسبون إليه كتاباً في النحو هذبه أحمد بن جعفرٍ الدينوري وسماه المهذب. وحدث أبو عبيدة الله: حضرت يوماً أبا الحسن الأخفش ودفع كتاباً إلى بعض من كان في مجلسه ليكتب عليه اسمه، فقال له أبو الحسن: خفش خفش يريد اكتب الأخفش ثم قال: أنشدنا أبو العباس المبرد:
لاتكرهن لقباً شهرت به ... فلرب محظوظٍ من اللقب
قد كان لقب مرة رجل ... بالوائلي فعد في العرب
قال الأخفش: دعاتي سوار بن أبي شراعة فتأخرت عنه وكتب إلى:
مضى النور واشتبهم الأغطش ... وأخلفني وعده الأخفش
وحال وحالت به شيمة ... كما حال عن لونه البرقش
أبا حسن كنت لي مألفاً ... فمالك عن دعوتى تطرش
وكنت لأعدائك الشانئيك ... سماماً كما نفث الأرقش
وكنت بقربك في روضةٍ ... فها أنا والبلد المعطش

إذا قلت قرطست في صاحبٍ ... نزعت كما ينزع المرعش
وسيان عندي من عقني ... عقوقك والحية الحربش
أقول وماحلت عن عهده ... رأيتك كالناس إذ فتشوا
وحدث - أخلي في الأصل - قال: كان ابن الرومي كثير الهجاء للأخفش، وذاك أن ابن الرومي كان كثير الطيرة وكان الأخفش كثير المزاح، وكان يباكره قبل كل أحدٍ فيطرق الباب على ابن الرومي فيقول: من بالباب؟ فيقول الأخفش: حرب بن مقاتلٍ، وما أشبه ذلك، فقال ابن الرومي يهجوه ويتهدده:
قل لنحوينا أبي حسنٍ ... إنى حسام متى ضربت مضى
لاتحسبن الهجاء يحفل بال ... رفع ولاخفض خافضٍ خفضا
كأنني بالشقي معتذرا ... إذا القوافي أذقنه مضضا
ينشدني العهد يوم ذاك ولل ... عهد خضاب أزاله فنضا
قال المزرباني: فحدثني المظفر بن يحيى قال: حدثني أبو عبد الله النحوي أن الأخفش قال يوما لابن الرومي: إنما كنت تدعى هجاءٍ مثقالٍ، فلما مات مثقال انقطع هجاؤك. قال فاختر على قافيةً. قال: على روى قصيدة دعبلٍ الشينية، فقال قصيدته التي يهجوه فيها ويجود حتى لايقدر أحد أن يدفعه عن ذلك، ويفحش حتى يفرط أولها:
ألا قل لنحويك الأخفش ... أنست فأقصر ولاتوحش
وماكنت عن غيةٍ مقصراً ... وأشلاء أمك لم تنبش
قال فيها:
أما والقريض ونقاده ... ونجشك فيه مع النجش
ودعواك عرفان نقاده ... بفضل النقى على الأنمش
لئن جئت ذا بشرٍ حالكٍ ... لقد جئت ذا نسبٍ أبرش
وماواحد جاء من أمه ... بأعجب من ناقدٍ أخفش
كأن سنا الشتم في عرضه ... سنا الفجر في السحر الأغبش
أقول وقد جاءني أنه ... ينوش هجائي مع النوش
إذا عكس الدهر أحكامه ... سطا أضعف القوم بالأبطش
وماكل من أفحشت أمه ... تعرض للقذع الأفحش
وهي قصيدة طويلة، ولما سار هجاؤه في الأخفش، جمع الأخفش جماعةً من الرؤساء، وكان كثير الصدق، فسألوا ابن الرومي أن يكف عنه، فأجابه إلى الصفح عنه، وسألوه أن يمدحه بما يزيل عنه عار هجائه فقال فيه:
ذكر الأخفش القديم فقلنا: ... إن للأخفش الحديث لفضلا
فإذا ماحكمت والروم قومي ... في كلامٍ معربٍ كنت عدلا
أنا بين الخصوم فيه غريب ... لا أرى الزور للمحاباة أهلا
ومتى قلت باطلاً لم ألقب ... فيلسوفاً ولم أسمى هرقلا
وذكر الزبيدي أن الأخفش كان يتحفظ هجاء ابن الرومي له ويمليه في جملة مايملي، فلما رأى ابن الرومي أنه لم يألم لهجائه ترك هجوه. وكان الأخفش قد قرأ على ثعلبٍ والمبرد وأبي العيناء واليزيدي.
وحدث الأخفش قال: استهدى إبراهيم بن المدبر المبرد جليساً يجمع إلى تأديب ولده الاستمتاع بإيناسه ومفاكهته، فندبني إليه وكتب معي: قد أنفذت إليك - أعزك الله - فلاناً وجملة أمره:
إذا زرت الملوك فإن حسبي ... شفيعاً عندهم أن يخبروني
وقدم الأخفش هذا مصر في سنة سبعٍ وثمانين ومائتين، وخرج منها سنة ثلاثمائةٍ إلى حلب مع علي ابن أحمد بن بسطام صاحب الخراج فلم يعد إلى مصر.
وحدث أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابئ في كتابه كتاب الوزراء قال:

حكى لي أبو الحسن ثابت بن سنان قال: كان أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش مواصل المقام عند أبي علي بن مقلة ويراعيه أبو علي ويبره. فشكا إليه في بعض الأيام الإضاقة، وسأله أن يكلم أبا الحسن على بن عيسى وهو يومئذٍ وزيره في أمره، وسأله إجراء رزقٍ عليه في جملة من يرتزق من أمثاله، فخاطبه أبو علي وسأل أن يجري عليه رزقاً في جملة الفقهاء، فأنتهره علي بن عيسى انتهاراً شديداً وأجابه جواباً غليظاً، وكان ذلك في مجلسٍ حافلٍ، ومجمعٍ كاملٍ فشق على أبي عليٍ وماعامله به، وقام من مجلسه وقد اسودت الدنيا في عينيه، وصار إلى منزله لائماً لنفسه على سؤال علي بن عيسى ما سأله، وحلف أنه يجرد في السعي عليه، ووقف الأخفش على الصورة واغتم وانتهت به الحال إلى أن أكل الشلجم النييء، وقيل إنه قبض على قلبه فمات فجأة، وكان موته في شعبان سنة خمس عشرة وثلاثمائةٍ.

علي بن سهل بن العباس
أبو الحسن النيسابوري المفسر العالم العابد الدين، ذكره عبد الغفار في السياق وقال: مات في ثالث عشر ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وأربعمائةٍ، ووصفه فقال: نشأ في طلب العلم وتبحر في العربية، وكان من تلامذة أبي الحسن الواحدي
علي بن طاهر بن جعفر
ٍ
أبو الحسن السلمى النحوي. نقلت من خط ابن اللبان قال: نقلت من خط السمعاني قال: أخبرني أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الحافظ الدمشقي أنه سمع عبد الله بن سلوان وغيره، وكان ثقةً ديناً وقلما يكون النحوي ديناً، ذكر ابن الأكفاني أنه مات في الحادي والعشرين من شهر ربيعٍ الأول سنة خمسمائةٍ، وذكر الحافظ في تاريخ دمشق قال: علي بن طاهر بن جعفر بن عبد الله أبو الحسن القيسي السلمي النحوي، سمع أبا عبد الله ابن سلوان وأبا القاسم بن الشمشاطي، وأبا نصرٍ أحمد ابن علي بن الحسن الكفرطابي وذكر جماعةً قال: وروى عنه غيث بن علي.
وحدثنا عنه الفقيه أبو الحسن السلمي، وخالي القاضي أبو المعالي، وجميل بن تمامٍ، وحفاظ بن الحسن، وكان ثقةً وكانت له حلقة في الجامع، وقف فيها خزانةً فيها كتبه. ذكر أبو محمد بن صابرٍ أنه سأله عن مولده فقال: سنة إحدى وثلاثين وأربعمائةٍ. وذكر ابن الأكفاني أن أبا الحسن بن طاهرٍ النحوي مات يوم الحادي والعشرين من شهر ربيعٍ الأول سنة خمسمائةٍ.
علي بن طلحة بن كردان النحوي
أبو القاسم. قال أبو غالب بن بشران: كان ابن كردان يعرف بابن الصحناتي ولم يبع قط الصحناة، وإنما كان أعداؤه يلقبونه بذلك فغلب عليه قال: وهذا الشيخ أول الشيوخ الذين قرأت عليهم الأدب: قال السلفي الحافظ: سألت خميس بن عليٍ الحوزي عن ابن كردان فقال: صحب أبا علي الفارسي وعلي بن عيسى الرماني، وقرأ عليهما كتاب سيبويه، والواسطيون يفضلونه على ابن جنىٍ والربعي، صنف كتاباً كبيراً في إعراب القران، قال لي شيخنا أبو الفتح: كان يقارب خمسة عشر مجلداً، ثم بدا له فيه فغسله قبل موته، مات سنة أربعٍ وعشرين وأربعمائةٍ، وكان متنزهاً متصوناً، ركب إليه فخر الملك أبو غالبٍ محمد بن علي ابن خلفٍ وزير ابن بهاء الدولة وهو سلطان الوقت، وبذل له فلم يقبل، وكان قد جرت بينه وبين القاضي أبي تغلب أحمد بن عبيد الله العاقولي صديق الوزير المغربي وخليفة السلطان والحكام على واسط في وقته خصومة، وكان معظماً مفخماً، فقال له ابن كردان: إن صلت علينا بمالك صلنا عليك بقناعتنا. وآخر من حدث عنه أبو المعالي محمد بن عبد السلام بن شاندة، وذكره أبو عبد الله محمد بن سعيد الدبيني في نحاة واسط فقال: علي بن طلحة بن كردان النحوي أبو القاسم الواسطى المولد والدار، أخذ النحو عن أبي علي الفارسي وأبي بكر بن الجراح صاحب ابن الأنباري، قال ابن بشران: هو أول شيخٍ قرأت عليه ووصفه بالفضل والمعرفة، وعنه أخذ النحو أبو الفتح محمد بن محمد ابن مختار وغيره من الواسطيين وكان شاعرا، ومن شعره ذم واسط:
سئم الأديب من المقام بواسطٍ ... إن الأديب بواسطٍ مهجور
يابلدةً فيها الغنى مكرم ... والعلم فيها ميت مقبور
لاجادك الغيث الهطول ولااجتلى ... فيك الربيع ولاعلاك حبور
شر البلاد أرى فعالك ساتراً ... عني الجميل، وشرك المشهور

حدث أبو الجوائز الحسن بن علي بن باري الكاتب الواسطي قال: اجتمع معنا في حلقة شيخنا أبي القاسم علي بن كردان النحوي سيدوك الشاعر ونحن في الجامع بواسط بعد صلاة الجمعة وجرى في عرض المذكرات ذكر من أحال على قلبه بالعشق، ومن أحال على ناظره به أيضاً ومضت أناشيد في ذلك، فقال أبو طاهرٍ سيدوك: قد حضرني في هذا المعنى شيء وأنشدنا:
ياقلب من هذا حذرت عليكا ... ذق ما جنيت فكم نصحت اليكا
إنضج بنارك لاأراحك حرها ... فلطالما ضاع العتاب لديكا
لما أطعت الطرف ثم عصيتني ... علق الهوى ياقلب من طرفيكا
وسمعت أذان العصر فقلت لشيخنا: أكتبها قبل إقامة الصلاة أو إذا صلينا؟ قال: اكتبها ولوأن الإمام على المنبر، وأنشدنا حينئذ لنفسه:
أبصرت في المأتم مقدودةً ... تقضى ذماماً بتكاليفها
تشير باللطم إلى وجنةٍ ... ضرجها مبدع تأليفها
إذا تبدى الصبح من وجهها ... جمشة ليل تطاريفها
وحدث أبو غالب بن بشران النحوي. قال: أنشدني أبو القاسم على بن طلحة بن كردان النحوي قال: أنشدني أبو طاهر سيدوك لنفسه وكان يعرض على شعره، وقد ابتكر معنى غريباً وإن كان اللفظ قريباً:
إن دائي الغداة أبرح داء ... وطبيبي سريرة ماتبوح
يحسبوني إذا تكلمت حياً ... ربما طار طائر مذبوح
قال ابن كردان وأنشدني سيدوك أيضاً لنفسه:
أستودع الله من بانوا فلا نظري ... مني ولاأذنى عندي ولابصري
عهدي بنا ورداء الوصل يشملنا ... والليل أطوله كاللمح بالبصر
والآن ليلى مذ غابوا فديتهم ... ليل الضرير وصبحي غير منتظر

علي بن ظافر بن الحسين الأزدي
وكنية ظافرٍ أبو المنصور، وهو مصري وزر للملك الأشرف موسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان نعم الرجل، له علوم جمة وفضائل كثيرة، ثم ترك الوزارة وعاد إلى مصر فتوفى بها في منتصف شعبان سنة ثلاث عشرة وستمائةٍ عن ثمان وأربعين سنةً.
وله من التصانيف: كتاب بدائع البدائة فيمن قال شعراً على البديهة، وكتاب مكرمات الكتاب، وكتاب أخبار الشجعان، وكتاب من أصيب بمن اسمه علي وابتدأ بعلي بن أبي طالبٍ عليه السلام، وكتاب الدول المنقطعة، وكتاب التشبيهات، وكتاب أساس السياسة، وكتاب أخبار السلجوقية.
علي بن العباس النوبختي
أبو الحسن، أحد مشايخ الكتاب وأهل الأدب المشاهير والمروءة. روى من أخبار البحتري وابن الرومي قطعةً حسنةً، ومات سنة تسع وعشرين وثلاثمائةٍ بعد سن عاليةٍ، وهو القائل لابن عمه أبي سهل اسماعيل بن عليٍ النوبختي وشرب دواءً:
يامحي العارفات والكرم ... وقاتل الحادثات والعدم
كيف رأيت الدواء وأعقبك ال ... له شفاءً به من السقم؟
لئن تخطت إليك نائبة ... حطت بقلبي ثقلاً من الألم
شربت فيها الدواء مرتجياً ... دفع أذى من عظامك العظم
والدهر لابد محدث طبعاً ... في صفحتي كل صارمٍ خذم
علي بن عبد الله بن سنان الطوسي
أبو الحسن التيمي أحد أعيان علماء الكوفة، أخذ عن ابن الأعرابي، وكان عدواً لابن السكيت لأنهما أخذا عن نصران الخراساني واختلفا في كتبه بعد موته، - أخلي في الأصل - ذكره المرزباني فقال: حدثنا محمد بن يحيى عن إبراهيم بن المعلى الباهلي قال: أكثرت يوماً سؤال الطوسي فقال متمثلاً:
يسر ويعطى كل شيء سألته ... ومن يكثر التسآل لابد يحرم
قال: ووجه بإنسان في حاجةٍ فقصر فقال:
نحلت وكلفناك مالم تقم به ... وهل تحمل الفصلان أحمال بزل؟
قال محمد بن إسحاق: كان الطوسي راويةً لأخبار القبائل وأشعار الفحول، ولقى مشايخ البصريين والكوفيين.
قال: ولامصنف له. وكان شاعراً ذكر له المزرباني قوله:
هجم البرد ولاأم ... لك إلا رواية العربية
وقميصاً لو هبت الريح لم يب ... ق على عاتقي منه بقية
هل يفل الفناء عني فنون ال ... علم إن أعصفت شمال عرية؟

قال: وقال أحمد بن أبي طاهرٍ يرثي الطوسي الراوية بقصيدةٍ طويلةٍ منها:
من عاش لم يخل من همٍ ومن حزن ... بين المصائب من دنياه والمحن
والموت قصد امرئ مد البقاء له ... فكيف يسكن من عيشٍ إلى سكن
وإنما نحن في الدنيا على سفر ... فراحل خلف الباقي على الظعن
ولا أرى زمناً أردى أبا حسنٍ ... وخان فيه على حرٍ بمؤتمن
لقد هوى جبل للمجد لو وزنت ... به الجبال الرواسي الشم لم تزن
وأصبح الحبل حبل الدين منتثراً ... وأدرج العلم والطوسي في كفن
من لم يكن مثله في سالف الزمن ... ولم يكن مثله في غابر الزمن؟

علي بن عبد الله بن علي بن الحسين
ابن زيد بن علي بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبٍ عليهم السلام، أبو القاسم العلوي المعروف بالشبيه. سمع محمد بن المظفر، وكتب عنه علي بن أحمد الحافظ وقال: كان ديناً حسن الاعتقاد يورق بأجرةٍ ويأكل من كسب يده، ويواسي الفقراء من كسبه، سألته عن مولده فقال: ولدت في ليلة عيد الأضحى سنة ستين وثلاثمائةٍ، ومات في العشر الأول من رجبٍ سنة إحدى وأربعين وأربعمائةٍ.
قال الشريف أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن محمدٍ العلوي العمري النسابة في كتاب الشافي في النسب من تصنيفه: ومنهم - يعني من ولد الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام - زيد النسابة الجليل صاحب كتاب المبسوط، - ويلقب الشبيه - ابن علي بن الحسين بن زيدٍ الشهيد عليه السلام، فمن ولده ببغداد أبو الفضل الحسن صاحب العوجاء، وأخوه أبو القاسم علي الموضح الناسخ، له خط مليح ابنا أبي محمد عبد الله ابن عبد الله الحسين النقيب بن علي بن الحسين بن زيد الشبيه، به يعرفون، - وله بقية - . وجدت على ظهر ديوان عروة بن الورد بخط ابن الشبيه وكان الديوان كله بخطه:
ديوان عروة العبسي أوضحه ... خط امرئ زاده حسنا وتبيينا
تجل الأكارم من آل الشبيه فتى ... بجده ختم الله النبينا
صلى الإله عليه مادجا غسق ... ويرحم الله عبدا قال آمينا
علي عبد الله بن أحمد النيسابوري

المعروف بابن أبي الطيب، مولده بنيسابور، وموطنه قصبة سابزوار، وكان له معرفة تامة بالقران وبتفسيره، مات في ثامن شوالٍ سنة ثمان وخمسين وأربعمائةٍ، ودفن في مقبرة سابزوار، وقد عمل أبو القاسم علي بن محمد أبن الحسين بن عمروٍ من دهاقين وميمولان مدرسةً باسمه في محلة اسفريس في رمضان سنة عشرٍ وأربعمائةٍ، وأثرها إلى الآن باقٍ، وكان له تلاميذ كثيرة منهم أبو القاسم علي بن محمد بن الحسن بن عمروٍ وغيره، وله عدة تصانيف في تفسير القران المجيد منها: كتاب التفسير الكبير في ثلاثين مجلداً، وكتاب التفسير الأوسط أحد عشر مجلداً، وكتاب التفسير الصغير ثلاث مجلداتٍ. وكان يملي ذلك من حفظه، ولما مات رحمه الله لم يوجد في خزانة كتبه إلا أربع مجلداتٍ، أحدها فقهي، وآخر أدبي، ومجلدان في التاريخ، ودفن في مقبرة سابزوار، وعنده دعوة مستجابة مجربة، وحمل في سنة أربع عشرة وأربعمائةٍ إلى السلطان محمود بن سبكتكين، فلما دخل عليه جلس بغير إذنٍ وشرع في رواية خبرٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير أمرٍ من السلطان، فقال السلطان لغلامٍ: يا غلام ده رأسه، فلكمه على رأسه لكمةً كانت سبباً إلى قلة سمعه وطرشه، ثم عرف السلطان منزلته من الدين والعلم والنزاهة والورع فاعتذر إليه وأمر له بمالٍ فلم يقبله وقال: لاحاجة لى في المال، فإن استطعت أن ترد على ماأخذته مني قبلته وهو سمعي، فقال له السلطان: أيها الرجل، إن للملك صولةً وهو مفتقر إلى السياسة، ورأيتك قد تعديت الواجب فجرى مني ماجرى، والآن فأحب أن تجعلني في حلٍ. فقال: الله بيني وبينك بالمرصاد، ثم قال له: إنما أحضرتني لسماع الواعظ وأخبار الرسول والخشوع، لالإقامة قوانين الملك واستعمال السياسة، فإن ذلك يتعلق بالملوك وأمثالهم لابالعلماء، فخجل السلطان وجبذ برأسه إليه وعانقه. ومن كلامه في خطبة التفسير: الزمان زمان سفهاء السفل، والقران قران انقلاب النحل والفضل في أبنائه فضول، وطلوع التمييز فيهم أفول، والدين دين، والدنيا عين، وإن تحلى أحدهم بالعلوم، وادعى أنه في الخصوص من العموم، فغايته أن يقرأ القران وهو غافل عن معانيه، ويتحلى بالفضل وهو لايدانيه، ويجمع الأحاديث والأخبار، وهو فيها مثل الحمار يحمل الأسفار. وله ديوان شعرٍ ومن شعره في دمية القصر:
فلك الأفاضل أرض نيسابور ... مرسى الأنام وليس مرسى بور
دعيت أبرشهر البلاد لأنها ... قطب وسائرها رسوم السور
هي قبة الإسلام نائرة الصوى ... فكأنها الأقمار في الديجور
من تلق منهم تلقه بمهابةٍ ... زفت عليه بفضله الموفور
لهم الأوامر والنواهي كلها ... ومدى سواههم رتبة المأمور
نقلت جميع ذلك من تاريخ بيهق لأبي الحسن بن أبي القاسم البيهقي مصنف كتاب وشاح الدمية.

علي بن عبد الله بن محمد بن الهيصم
الهروي الإمام صدر الإسلام مات - انقطع في الأصل - ذكره أبو الحسن البيهقي في كتاب الوشاح فقال: قد بلغ من العلم أطوريه، فلا فضل إلا وهو منسوب إليه، ورست بالفصاحة قواعده، واشتد بالزهادة ساعده، وقد اختلفت مدةً مديدةً إليه، وقرأت ماشئت من دقائق العلوم عليه، ووجدته حالاً عقود المشكلات، فاتق رتوق المعضلات، ولعمري إنه - رحمه الله - كشف عن العلوم نقابها، ورفع عن الحقائق حجابها، فلم يكن في عصره فاضل إلا وقد اغترف من بحاره، واقتبس من أنواره، وتصانيفه كثيرة، وسعيه مشهور، وسعى الناظر فيه مشكور، ومن تصانيفه: كتاب مفتاح البلاغة، كتاب البسملة، كتاب نهج الرشاد، كتاب عقود الجواهر، كتاب لطائف النكت، كتاب تصفية القلوب، كتاب ديوان شعره، ومن منظومه:
ضحك الربيع بعبرة الأنداء ... ومن العجائب ضاحك ببكاء
خرجت له نحو الشتاء كتيبة ... ذعرت مواكبه عن الصحراء
ركبت فوارسه الهواء فجردت ... سيف جلا جيش الدجى بضياء
رق الربيع لها فأرسل نحوها ... بشرى بغيم في نسيم هواء
والغصن قرط أذنه بدراهمٍ ... مضروبةٍ من فضةٍ بيضاء
والروض ألبس حلةً موشيةً ... أحسن بها من صنعة الأنداء
قضبان نخلٍ أخرجت ذهباً لنا ... أعجب بها من صيرفٍ معطاء

وشقائق النعمان تشبه صارخاً ... متظلماً متشحطاً بدماء
والزعفران كأنما فرشت به ... ديباجة نسجت من القمراء
ساءلتها هلا برزت لناظرٍ ... صبٍ كشيبٍ هائمٍ بكاء؟
فأبت وآلت لايحل نقابها ... إلا مجير الدولة الغراء
وله:
هنيئاً لك العيد المبارك ياصدر ... وساعدك الإقبال واليمن والنصر
إذا ماأعاد العيد للناس نضرةً ... فقد ألبس الأعياد من وجهك البشر
وإن نشرت أعلام دين محمدٍ ... فذكرك في أقصى البلاد له نشر
وإن أحرم الحجاج عن جل حالهم ... فأحرم عمن دونك الفضل والفخر
وإن كان لبى للزيارة محرم ... فلبى إلى أوصافك النظم والنثر
وإن جمعوا فرضين ثم وقصروا ... فللدين والدنيا بك الجمع والقصر
وإن طوفوا بالبيت سبعاً وأحرموا ... فما طاف إلا بابك الأنجم الزهر
وإن ضحت الأقوام بالبدن سنةً ... فضح بمن عاداك ماانفلق الفجر

علي بن عبد الله بن وصيف الناشئ
الحلاء، ويكنى أبا الحسين. قال ابن عبد الرحيم: حدثني أبو عبد الله الخالع قال: حدثني الناشئ قال: كان جدي وصيف مملوكا، وكان عبد الله أبي عطاراً في الحضرة بالجانب الشرقي، وكنت لما نشأت معه في دكانه كان ابن الرومي يجلس عندنا وأنا لاأعرفه، وكان يلبس الدراعة وثيابه وسخة، وانقطع عنا مدةً فسألت عنه أبي وقلت: مافعل ذلك الشيخ الوسخ الثياب الذي كان يجلس الينا؟ فقال: ويحك ذاك ابن الرومي وقد مات، فندمت إن لم أكن أخذت عنه شيئاً ولاعرفته في حال حضوره وتشاغلت بالصنعة عن طلب العلم، ثم لقيت ثعلباً ولم آخذ عنه إلا أبياتا منها:
إن أخا الإخوان من يسعى معك ... ومن يضر نفسه لينفعك
قال الخالع: وكان الناشئ قليل البضاعة في الأدب قئوماً بالكلام والجدل، يعتقد الإمامة ويناظر عليها بأجود عبارةٍ، فاستنفد عمره في مديح أهل البيت حتى عرف بهم، وأشعاره فيهم لاتحصى كثرةً، ومدح مع ذلك الراضي بالله وله معه أخبار، وقصد كافوراً الإخشيدي بمصر وامتدحه، وامتدح ابن حنزابة وكان ينادمه، وطرى إلى البريدي بالبصرة، وإلى أبي الفضل بن العميد، بأرجان، وعضد الدولة بفارس، وكان مولده على ماخبرني به سنة إحدى وسبعين ومائتين، ومات يوم الاثنين لخمسٍ خلون من صفرٍ سنة خمسٍ وستين وثلاثمائةٍ، وكنت حينئذٍ بالري فورد كتاب ابن بقية إلى ابن العميد بخبره، وقيل: إنه شيع جنازته ماشيا وأهل الدولة كلهم، ودفن في مقابر قريشٍ وقبره هناك معروف.
قال الخالع: ولم يخلف عقباً ولاعلمت أنه تزوج قط، وكان يميل إلى الأحداث ولايشرب النبيذ، وله في المجون والولع طبقة عالية، وعنه أخذ مجان باب الطاق كلهم هذه الطريقة، وكان يخلط بجدله ومناظرته هزلاً مستلمحاً ومجوناً مستطاباً يعتمد به إخجال خصمه وكسر حده، وله في ذلك أخبار مشهورة، وكانت له جارية سوداء تخدمه، فدخل يوماً إلى دارأخته وأنامعه، فرأى صبياً صغيراً أسود فقال لها: من هذا؟ فسكتت فألح عليها فقال: ابن بشارة، فقال: ممن؟ فقالت من أجل هذا أمسكت، فاستدعى الجارية وقال لها: هذا الصبي من أبوه؟ فقالت ماله أب، فالتفت إلى فقال: سلم إذاً على المسيح عليه السلام.
قال ابن عبد الرحيم: حدثني الخالع قال: حدثني الناشئء قال: أدخلني ابن رائقٍ على الراضي بالله، وكنت مداحاً لابن رائق ونافقاً عليه، فلما وصلت إلى الراضي قال لي: أنت الناشئ الرافضي؟ فقلت خادم أمير المؤمنين الشيعي. فقال: من أي الشيعة؟ فقلت: شيعة بني هاشمٍ: فقال: هذا خبث حيلةٍ. فقلت: مع طهارة مولدٍ. فقال هات مامعك. فأنشدته فأمر أن يخلع على عشر قطع ثياباً، وأعطى أربعة آلاف درهم، فأخرج إلى ذلك وتسلمته وعدت إلى حضرته فقبلت الأرض وشركته وقلت: أنا ممن يلبس الطيلسان. فقال: هاهنا طيالس عدنية، أعطوه منها طيلساناً، وأضيفوا إليها عمامة خزٍ ففعلوا. فقال: أنشدني من شعرك في بني هاشم فأنشدته:
بني العباس إن لكم دماءً ... أراقتها أمية بالدخول
فليس بهاشميٍ من يوالي ... أمية واللعين أبا زبيل

فقلت مابينك وبين أبي زبيلٍ؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم. فابتسم وقال: انصرف. قال الخالع: وشاهدت العمامة والطيلسان معه وبقيا عنده إلى أن مات. قال: وحدثني الخالع قال: كان أبو الحسن شيخاً طويلاً جسيماً عظيم الخلقة، عريض الألواح، موفر القوة، جهوري الصوت، عمر نيفاً وتسعين سنةً، لم تضطرم أسنانه، ولاقلع سناً منها ولامن أضراسه. وكان يعمل الصفر ويخرمه، وله فيه صنعة بديعة. قال: ومن عمله قنديل بالمشهد بمقابر قريشٍ مربع غاية في حسنه.
قال الخالع: ومن مجونه في المناظرات وغيرها: أنه ناظر أبا الحسن على بن عيسى الرماني في مسألةٍ فانقطع الرماني وقال: أعاود النظر، وربما كان في أصحابي من هو أعلم مني بهذه المسألة، فإن ثبت الحق معك وافقتك عليه، فأخذ يندد به. ودخل أبو الحسن علي بن كعب الأنصاري أحد المعتزلة فقال: في أي شيء أنتم ياأبا الحسن؟ فقال: في ثيابنا، فقال: دعنا من مجونك وأعد المسألة، فلعلنا أن نقدح فيها فقال: كيف تقدح وحراقك رطب؟ ومنه حكايته المشهورة مع الأشعري الذي ناظره فصفعه فقال: ماهذا ياأبا الحسين؟ فقال: هذا فعل الله بك، فلم تغضب مني؟ فقال: مافعله غيرك، وهذا سوء أدب وخارج عن المناظرة، فقال: ناقضت. إن أقمت على مذهبك فهو من فعل الله، وإن انتقلت فخذ العوض، فانقطع المجلس بالضحك وصارت نادرةً.
قال عبيد الله الفقير إليه تعالى مؤلف هذا الكتاب: لو كان الأشعري ماهراً لقام إليه وصفعه أشد من تلك ثم يقول له: صدقت، تلك من فعل الله بي، وهذه من فعل الله بك، فتصير النادرة عليه لا له.
قال الخالع: فأنشدني يوماً لنفسه من قصيدةٍ:
تجاه الشظا جنب الحمى فالمشرف ... حيال الربى فالشاهق المتشرف
فقلت له بم ارتفعت هذه الأسماء وهي ظروف؟ فقال بما يسوءك، وبعد هذا البيت:
طلول أطال الحزن لي حزن نهجها ... وألزمني وجداً عليها التأسف
فإذا حمل ماقاله على أن يجعل تلك الظروف هي الطلول، وهي: ماشخص من الأرض، وجعلت شخوصاً جاز الرفع على هذا التأويل، وإن جعلت محال للطلول فليس إلا النصب، ومن هذه القصيدة:
وقفت على أرجائها أسأل الربى ... عن الخرد الأتراب والدار صفصف
وكيف يجيب السائلين مرابع ... عفتها شآبيب من المزن وكف؟
ومنها وصف الخمر:
دنان كرهبان عليها برانس ... من الخزد كن يوم فصحٍ تصفف
ينظم منها المزج سلكاً كأنه ... إذا مابدا في الكأس در منصف
ومن مجون الناشئ: أنه ناظر بعض المجبرة فحرك الجبري يده فقال للناشئ: هذه من حركها؟ فقال الناشئ: من أمه زانية. فغضب الرجل فقال له: ناقضت، إذا كان المحرك غيرك فلم تغضب؟ قال عبيد الله الفقير إليه: وهذا أيضاً كفر وبهت، لأن المحرك لها على اعتقاد الناشئ مناظره، فيكون قد أساء العشرة مع جليسه، وعلى مذهب صاحبه الخالق، فيكون قد كفر، فعلى كل حال هو مسيء. وسمع يوماً رجلاً ينادي على لحم البقر: أين من حلف ألا يغبن؟ فقال له: إيش تريد منه؟ تريد أن تحنثه؟ ولقب رجلاً من باب الطاق بالأبعد، ولقب آخر بالآخر وهاتان لفظتان جامعتان لكل سبٍ وقذفٍ، لأن الناس مغرون بإلحاق كل قبيحٍ فظيعٍ بهما، على سبيل الكناية والاستراحة في الكلام إليهما.
قال الخالع: وحدثني الناشئ قال: لما وفدت على سيف الدولة وقع في أبو العباس النامي وقال: هذا يكتب التعاويذ. فقلت لسيف الدولة: يتأمل الأمير فإن كان يصلح أن يكتب مثله على المساجد بالربج فالقول كما قال: فأنشدته قصيدة أولها:
الدهر أيامه ماضٍ ومرتقب
وقلت فيها:
فارحل إلى حلبٍ فالخير منحلب ... من نيل كفك إن لاحت لنا حلب
فقال أبا الحسين: بيت جيد لكنه كثير اللبن وأنشدته قصيدة أخرى أقول فيها:
كان مشيبي إذ يلوح عقارب ... وأقتل ماأبصرت بيض العقارب
كأن الثريا عوذة في تميمةٍ ... وقد حليت واستودعت حرز كاعب
وحدث الخالع قال: حدثني أبو الحسن الناشئ قال: كنت بالكوفة في سنة خمسٍ وعشرين وثلاثمائةٍ وأنا أملي شعري في المسجد الجامع بها والناس يكتبونه عني، وكان المتنبي إذ ذاك يحضر معهم وهو بعد لم يعرف ولم يلقب بالمتنبي، فأمليت القصيدة التي أولها:

بآل محمد عرف الصواب ... وفي أبياتهم نزل الكتاب
وقلت فيها:
كأن سنان ذابله ضمير ... فليس عن القلوب له ذهاب
وصارمه كبيعته بخمٍ ... مقاصدها من الخلق الرقاب
فلمحته يكتب هذين البيتين، ومنها أخذ ماأنشدتموني الآن من قوله:
كأن الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد
وقد صغت الأسنة من همومٍ ... فما يخطرن إلا في فؤاد
قال الخالع: وأصل هذا لأبي تمامٍ:
من كل أزرق نظارٍ بلا نظرٍ ... إلى المقاتل مافي متنه أود
كأنه كان ترب الحب مذ زمنٍ ... فليس يعجزه قلب ولاكيد
وعليه وقع المتنبي وسبق إلى ذلك ديك الجن أيضاً في قوله:
قناً تنصب في ثغر التراقي ... كما ينصب في المقل الرقاد
وأبيات المتنبي أمثل من الجميع إذا تركت العصبية قال ابن عبد الرحيم: حدثني الخالع قال: كنت مع والدي في سنة ستٍ وأربعين وثلاثمائةٍ وأنا صبي في مجلس الكبوذي في المسجد الذي بين الوراقين والصاغة وهو غاص بالناس، وإذا رجل قد وافى وعليه مرقعة وفي يده سطيحة وركوة ومعه عكاز وهو شعث فسلم على الجماعة بصوتٍ يرفعه ثم قال: أنا رسول فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، فقالوا: مرحباً بك وأهلاً ورفعوه فقال: أتعرفون لي أحمد المزوق النائح؟ فقالوا: هاهو جالس، فقال: أتعرفون لي أحمد المزوق النائح؟ فقالوا: هاهو جالس، فقال: رأيت مولاتنا عليها السلام في النوم فقالت لي: امض إلى بغداد واطلبه وقل له نح علي ابني بشعر الناشئ الذي يقول فيه:
بني أحمدٍ قلبي لكم يتقطع ... بمثل مصابي فيكم ليس يسمع
وكان الناشئ حاضراً فلطم لطماً عظيماً على وجهه وتبعه المزوق والناس كلهم. وكان أشد الناس في ذلك الناشئ ثم المزوق، ثم ناحوا بهذه القصيدة في ذلك اليوم إلى أن صلى الناس الظهر وتقوض المجلس، وجهدوا بالرجل أن يقبل شيئاً منهم فقال: والله لو أعطيت الدنيا ما أخذتها، فإنني لاأرى أن أكون رسول مولاتي عليها السلام ثم آخذ عن ذلك عوضاً وانصرف ولم يقبل شيئاً. قال: ومن هذه القصيدة وهي بضعة عشر بيتاً:
عجبت لكم تفنون قتلاً بسيفكم ... ويسطو عليكم من لكم كان يخضع
كأن رسول الله أوصى بقتلكم ... وأجسامكم في كل أرضٍ توزع
قال: وحدثني الخالع قال: اجتزت بالناشئ يوماً وهو جالس في السراجين فقال لي: قد عملت قصيدةً وقد طلبت وأريد أن تكتبها بخطك حتى أخرجها فقلت: أمضى في حاجة وأعود، وقصدت المكان الذي أردته وجلست فيه فحملتني عيني فرأيت في منامي أبا القاسم عبد العزيز الشطرنجي النائح فقال لي: أحب أن تقوم فتكتب قصيدة الناشئ البائية فإنا قد نحنا بها البارحة بالمشهد، وكان هذا الرجل قد توفي وهو عائد من الزيارة، فقمت ورجعت إليه وقلت: هات البائية حتى أكتبها فقال: من أين علمت أنها بائية؟ وماذكرت بها أحداً، فحدثته بالمنام فبكى وقال: لاشك أن الوقت قد دنا فكتبتها فكان أولها:
رجائي بعيد والممات قريب ... ويخطئ ظني والمنون تصيب
ومن شعر الناشئ:
وليل توارى النجم من طول مكثه ... كما ازور محبوب لخوف رقيبه
كأن الثريا فيه باقة نرجسٍ ... يجيء بها ذو صبوةٍ لحبيبه
وله:
وكان عقرب صدغه وقفت ... لما دنت من نار وجنته
قرأت بخط بديع بن عبد الله الهمذاني فيما قرأه علي ابن فارسٍ اللغوي: سمعت أبا الحسين الناشئ علي بن عبد الله بن وصيفٍ بمدينة السلام قال: حضرت مجلس أبي الحسين بن المغلس الفقيه فانقلبت محبرة لبعض من حضرعلى ثيابي، فدخل أبو الحسين وحمل إلى قميصا دبيقياً ورداءً حسناً. قال: فأخذتهما ورجعت إلى بيتي وغسلت ثيابي ولبستهما ورددت القميص والرداء إلى أبي الحسين. فلما رآهما غضب غضباً شديداً وقال: ألبسهما لولا أنك تتوشح بالأدب لجفوتك.
وهذه حكاية وجدتها بعد أخبار الناشئ بخط المصنف:

قرأت في كتاب محمد بن أبي الأزهر في عقلاء المجانين: حدثني علي بن ابراهيم بن موسى الكاتب قال: كنت يوماً جالساً في صحن داري إذا حجارة قد سقطت بالقرب مني، فبادرت هارباً وأمرت الغلام بالصعود إلى السطوح والنظر من أين أتتنا الحجارة؟ فرجع إلى وقال لي: يامولاي امرأة من دار ابن الرومي الشاعر تقول: الله الله فينا، اسقونا ماء وإلا متنا عطشاً، فإن الباب علينا مقفل منذ ثلاثة أيامٍ بسبب تطير صاحبنا، فإنه يلبس ثيابه في كل يوم ويتعوذ ويقرأ ثم يصير إلى الباب والمفتاح معه، فيضع عينه على خللٍ من الباب فتقع على جار له نازلٍ بإزائه وكان أعور، فإذا بصر به رجع وخلع ثيابه وترك الباب على حاله سائر يومه وليلته. فدفع إليها ماطلبته، فلمامات كان من غدٍ وجهت بخادم لي اسمه طاهر، وكان ابن الرومي يعرف وأمرته أن يجلس على بابه وتقدمت إلى بعض الغلمان في المصير إلى الأعور برسالتي ومسألته المصير إلى، فلما زال الرجل عن موضعه دق الخادم الباب على ابن الرومي وخاطبه وسأله المصير إلى أيضا. قال الخادم: فخرج فوضع عينه على ذلك الموضع فوقعت عينه علي ولم ير جاره ففتح الباب وخرج لاتقلع عينه عن النظر إلى، ولايصرف كلامه إلا إلى ناحيتي.
قال علي بن ابراهيم: فإني لجالس أنتظره، وقد انصرف الأعور إذ وافاني أبو خديجة الطرسوسي، وكان في ناحية اسماعيل بن اسحاق القاضي، وقد دفع إليه المعتضد برذعة ليوصله إلى الحسن ابنه ليتولى تسليمه إلى ابن راشدٍ، فنحن نتحدث إذ دخل ابن الرومي مع الخادم علينا، فلما تخطى عتبة باب الصحن عثر فانقطع شسع نعله فأخذها بيده ودخل مذعوراً، فقلت له: أيكون شيء ياأبا الحسن أحسن من خروجك من منزلك على وجه خادمي؟ فقال: لقد لحقني مارأيت من العثرة لأني أفكرت إن به عاهةً، قلت: وماهي؟ قال: هو مجبوب، فقال برذعة الموسوس: وشيخنا يتطير؟ قلت: نعم ويفرط، قال: ومن هو؟ قلت: هذا علي بن الرومي الكاتب، قال: الشاعر؟ قلت: نعم، فأقبل عليه فقال:
ولما رأيت الدهر يؤذن صرفه ... بتفريق مابيني وبين الحبائب
رجعت إلى نفسي فوطنتها على ... ركوب جميل الصبر عند النوائب
ومن صحب الدنيا على جور حكمها ... فأيامه محفوفة بالمصائب
فخذ خلسةً من كل يومٍ تعيشه ... وكن حذراً من كامنات العواقب
ودع عنك ذكر ألفاً والزجر واطرح ... تطير جارٍ أو تفاؤل صاحب
فرأيت ابن الرومي شبيهاً بالباهت ولم أدر أنه قد شغل قلبه بحفظ الأبيات، ثم نهض برذعه وأبو خديجة معه فقال له ابن الرومي: والله لاتطيرت بعد هذا، فأقام عندي وكتبت هذه الأبيات من حفظه وزالت عنه الطيرة.

الجزء الرابع عشر
علي بن عبد الله بن موهب الجذامي
أبو الحسن. له تأليف عظيم في تفسير القرآ ن، روى عن ابن عبد البر وغيره، مات في سادس عشر جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائةٍ، ومولده سنة إحدى وأربعين وأربعمائهٍ.
علي بن عبد الله بن محمد
ابن عبد الباقي بن أبي جرادة العقيلي أبو الحسن الأنطاكي من أهل حلب يسكن باب أنطاكية، غزير الفضل، وافر العقل، دمث الأخلاق، حسن العشرة، له معرفة بالأدب واللغة والحساب والنجوم، ويكتب خطاً حسناً، وله أصول حسنة، ورد بغداد سنة سبع عشرة وخمسمائةٍ وسمع بها وغيرها، وسمع بحلب أبا الفتح عبد الله بن اسماعيل بن أحمد بن أبي عيسى الحلبي، وأبا الفتيان محمد بن سلطان بن حبوسٍ الغنوى.
قال ابن السمعاني: قرأت عليه بحلب وخرجت يوماً من عنده فراني بعض الصالحين فقال لي: أين كنت؟ قلت عند أبي الحسن بن أبي جرادة، قرأت عليه شيئاً من الحديث فأنكر علي وقال: ذاك يقرأ عليه الحديث؟ قلت: ولم؟ هل هو إلا متشيع يرى رأي الحلبيين؟ فقال لي: ليته اقتصر على هذا، بل يقول بالنجوم ويروى رأي الأوائل، وسمعت بعض الحلبيين يتهمه بذلك. وسألته عن مولده فقال: في محرمٍ سنة إحدى وستين وأربعمائةٍ بحلب، وأنشدني لنفسه:
يا ظباء البان قولاً بيناً ... من لنا منكم بظبيٍ ملنا؟
يشبه البدر بعاداً وسنا ... من نفى عن مقلتي الوسنا؟
فتكت ألحاظه في مهجتى ... فتك بيض الهند أو سمر القنا

يصرع الأبطال في نجدته ... إن رمي عن قوسه أو إن رنا
دان أهل الدل والحسن له ... مثل ما دأنت لمولانا الدنا
قال: ومات سنة نيفٍ وأربعين وخمسمائة. قلت: وكان لأبي الحسن هذا ابن فاضل أديب شاعر اسمه الحسن؟ وكنيته أبو عليٍ، سافر إلى مصر في أيام ابن رزيك ومدحه وحظى عنده، ثم مات بمصر سنة احدى وخمسين وخمسمائةٍ وهو القائل:
يا صاحبي أطيلا في مؤانستي ... وذكراني بخلانٍ وعشاق
وحدثاني حديث الخيف إن به ... روحاً لقلبي وتسهيلاً لأخلاقي
ما ضر ريح الصبا لو ناسمت حرقي ... واستنقذت مهجتي من أسر أشواقي
داء تقادم عندي، من يعالجه؟ ... ونفثه بلغت منى، من الراقي؟
يفنى الزمان وآمالي مصرمة ... ممن أحب على مطلٍ وإملاق
واضيعه العمر لا الماضي أنتفعت به ... ولاحصلت على أمرٍ من الباقي

علي بن عبد الجبار بن سلامة
ابن عيذون الهذلي اللغوي أبو الحسن التونسي ذكره السلفي فقال: أنشدني أبو محمد الشواذلي القيرواني قال: أنشدني أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن تميمٍ الحصري لنفسه بالقيروان:
قالوا اطرح أبداً كاف الخطاب ففي ... خط الكتاب بها حط من الرتب
فقلت من كان في نفسي تصوره ... فكيف أنزله في منزل الغيب؟
قال: وسألته عن مولده فقال: سنة ثمان وعشرين وأربعمائةٍ يوم عيد النحر بتونس، وتوفي رحمه الله في ذي الحجة سنة تسع عشرة وخمسمائة بالإسكندرية، وكان إماماً في اللغة حافظاً لها حتى إنه لو قيل لم يكن في زمانه ألغى منه لما استبعد، وكانت له قدرة على نظم الشعر، وله إلى قصائد وقد أجبته عنها.
ومن جملة شعره قصيدة في الرد على المرتد البغدادي، فيها أحدعشر ألف بيتٍ على قافيةٍ واحدةٍ، وفيها فوائد أدبيه. وسمعته يقول: رأيت أبا بكرٍ محمد بن علي ابن عبد البر اللغوي بمدينة مازر من جزيرة صقلية، وكنت عزمت على أن أقرأ عليه لما اشتهر من فضله وتبحره في اللغة، فاتصل بابن منكودٍ صاحب البلد أنه يشرب وكان يكرمه، فشق عليه وصار يكرهه وأنفذ إليه وقال: المدينة أكبر والشراب بها أكثر، فأحوجته الضرورة إلى الخروج منها ولم أقرأ عليه شيئاً.
وأما أبو عليٍ الحسن بن رشيق الأزدي القيرواني، فقد رأيته أيضا بمازر، وأنشدني شيئاً ولم أر قط أحفظ للعربية واللغة من أبي القاسم بن القطاع الصقلي، وقرأت عليه كثيراً.
علي بن عبد الرحمن الخزاز السوسي
أبو العلاء اللغوي من سوس خوزستان من أهل الأدب واللغة سمع المحاملي أبا عبد الله، وروى عنه أبو نصرٍ السجزي الحافظ، ولا أعلم من حاله غير هذا.
علي بن عبد الرحيم بن الحسن
ابن عبد الملك ابن ابراهيم السلمي المعروف بابن العصار اللغوي من أهل الرقة، ورد بغداد فقرأ بها العلم وأقام بالمطبق من دارالخلافة المعظمة، ومات في ثالث المحرم سنة ستٍ وسبعين وخمسمائةٍ، ومولده في سنة ثمان وخمسمائةٍ. انتهت إليه الرياسة في معرفة اللغة العربية. قرأ على أبي منصورٍ الجواليقي ولازمه حتى برع في فنه، وسمع الحديث من أبي العز أحمد بن عبيد الله بن كادش، والقاضي أبي بكرٍ محمد بن عبد الباقي قاضي البيمارستان، وأبي الوقت السجزي وغيرهم. وتخرج به جماعة منهم الشيخ أبو البقاء عبدالله بن الحسن العكبري الضرير، وكان تاجراً موسراً ضابطاً سافر الكثير إلى الديارالمصرية وأخذ عن أهلها وروى عنهم، وخطه المرغوب فيه المتنافس في تحصيله، فإنه مليح الخط جيد الضبط، ولا أعرف له مصنفاً ولا سمعت له شعراً
علي بن عبد العزيزالبغوي

بن المزربان بن سابور أبو الحسن البغوي الجوهري، عم أبي القاسم البغوي نزيل مكة، صاحب أبي عبيدٍ القاسم بن سلامٍ وروى عنه غريب الحديث، وكتاب الحيض، وكتاب الطهوروغير ذلك. وحدث عن أبي نعيمٍ، وحجاج بن المنهال، ومحمد بن كبيرٍ العبدي، وسلمة بن إبراهيم الأزدى، والقعنبي، وعاصم بن عليٍ وغيرهم، وصنف المسند. حدث عنه ابن اخيه عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، ودعلج السجزي، وسليمان بن أحمد الطبراني. وحدث بالمسند عنه أبوعليٍ حامد بن محمدٍ الرفاء الهروي. سئل عنه الدار قطني فقال: ثقة مأمون. وقال ابن أبي حاتمٍ: وهو صدوق.
حدث أبو بكر السني سمعت أبا عبد الرحمن النسائي، وسئل عن علي بن عبد العزيز المكي فقال: قبح الله علي ابن عبد العزيز ثلاثاً، فقيل له يا أبا عبد الرحمن: أتروى عنه؟ فقال لا، فقيل له يا أبا عبد الرحمن: أتروي عنه؟ فقال لا، فقيل له: أكان كذابا؟ فقال: لا، ولكن قوماً اجتمعوا ليقرءوا عليه وبروه بما سهل، وكان فيهم إنسان غريب فقير لم يكن في جملة من بره، فأبى أن يقرأ عليهم وهو حاضر حتى يخرج أو يدفع كما دفعوا، فذكر الغريب أن ليس معه إلا قصيعة فأمره بإحضارها، فلما أحضرها حدثهم.
وعن القاضي أبي نصر بن الكسار سمعت أبا بكرٍ السني يقول: بلغني أن علي بن عبد العزيز كان يقرأ كتب أبي عبيدٍ بمكة على الحاج بالأجر، فإذا عاتبوه على الأخذ قال: يا قوم أنا بين الأخشبين، إذا خرج الحاج نادى أبو قبيسٍ قعيقان من بقى؟ يقول: بقي المجاورون فيقول: أطبق.
وقال أبو الحسين أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله ابن المنادى فيمن مات في سنة سبعٍ وثمانين ومائتين. وجاءنا الخبر بموت على بن عبد العزيز صاحب ابي عبيدٍ من مكة مع الحاج، وأنه توفي قبل الموسم.
وحدث أبو سعدٍ السمعاني بإسنادٍ رفعه إلى أبي الحسين محمد بن طالبٍ النسفي قال: سمعت علي بن عبد العزيز بمكة في المسجد الحرام يقول: كنت عند مؤدبي الذي علمني الخط فجيء ببنيةٍ له صغيرةٍ يقال لها وسناء وعليها ثوب حريرٍ، فأجلسها في حجره وأنشأ يقول:
وما الوسناء إلا شبه درٍ ... ولاسيما إذا لبست حريرا
فأحسن زيها ثوب نظيف ... تكفن فيه ثم أرى سريرا
تهادى بين أربعةٍ عجالٍ ... إلى قبرٍ فتملؤنا سرورا

علي بن عبد العزيزالجرجاني
بن الحسن بن علي، ابن اسماعيل الجرجاني أبو الحسن قاضي الري في أيام الصاحب بن عبادٍ وكان أديباً أريباً كاملاً. مات بالري يوم الثلاثاء لستٍ بقين من ذي الحجة، سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائةٍ وهو قاضي القضاة بالري حينئذٍ، وذكره الحاكم في تاريخ نيسابور وقال: ورد نيسابور سنة سبعٍ وثلاثين وثلاثمائةٍ مع أخيه أبي بكرٍ، وأخوه إذ ذاك فقيه مناظر، وأبو الحسن قد ناهز الحلم، فسمعا معاً الحديث الكبير، ولم يزل أبو الحسن يتقدم إلى أن ذكر في الدنيا. وحمل تابوته إلى جرجان فدفن بها، وصلى عليه القاضي أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد، وحضر جنازته الوزير الخطير أبوعليٍ القاسم بن علي بن القاسم وزير مجد الدولة، وأبو الفضل العارض راجلين، ووقع الاختيار بعد موته على أبي موسى عيسى بن أحمد الديلمي فاستدعى من قزوين، وولى قضاء القضاة بالري وله يقول الصاحب بن عبادٍ: وقد أنشأ عهداً للقاضي عبد الجبار عليٍ قاضي الري:
إذا نحن سلمنا لك العلم كله ... فدعنا وهذي الكتب نحسن صدورها
فإنهم لا يرتضون مجيئنا ... بجزعٍ إذا نظمت أنت شذورها
وكان الشيخ عبد القاهر الجرجاني قد قرأ عليه واغترف من بحره، وكان إذا ذكره في كتبه تبخبخ به، وشمخ بانفه بالأنتماء إليه. وطوف في صباه البلاد وخالط العباد، واقتبس العلوم والآداب، ولقى مشايخ وقته وعلماء عصره. وله رسائل مدونه وأشعار مفننة، وكان جيد الخط مليحاً يشبه بخط ابن مقلة. ومن شعره:
أفدى الذي قال وفي كفه ... مثل الذي أشرب من فيه
الورد قد أينع في وجنتي ... قلت: فمي باللثم يجنيه
ومنه:
يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً في موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزة النفس أكرما

وما زلت منحازاً بعرضي جانباً ... من الذم أعتد الصيانى مغنما
إذا قيل هذا مشرب قلت قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما
وما كل برقٍ لاح لي يستفزني ... ولا كل أهل الأرض أرضاه منعما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا طمع صيرته لي سلما
ولم ابتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلةً ... إذن فابتياع الجهل قد كان أحزما؟
ولوأن أهل العلم صانوه صانهم ... ولوعظموه في النفوس تعظما
ولكن أدلوه جهاراً ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما
ومنه:
وقالوا: اضطرب في الأرض فالرزق واسع ... فقلت: ولكن مطلب الرزق ضيق
إذا لم يكن في الأرض حر يعينني ... ولم يك لي كسب فمن أين أرزق؟
ومنه:
أحب اسمه من أجله وسميه ... ويتبعه في كل أخلاقه قلبي
ويجتاز بالقوم العدا، فأحبهم ... وكلهم طاوى الضمير على حربي
ومنه:
قد برح الشوق بمشتاقك ... فأوله أحسن أخلاقك
لا تجفه وارع له حقه ... فإنه خاتم عشاقك
وللقاضي عدة تصانيف منها: كتاب تفسير القران المجيد، كتاب تهذيب التاريخ. كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه، وفي هذا الكتاب يقول بعض أهل نيسابور:
أيا قاضياً قد دنت كتبه ... وإن أصبحت داره شاحطه
كتاب الوساطه في حسنه ... لعقد معاليك كالواسطة
ومن شعره:
ما تطعمت لذ العيش حتى ... صرت للبيت والكتاب جليسا
ليس شيء أعز عندي من العل ... م فلم أبتغي سواه أنيسا؟
إنما الذل في مخالطة أتلن ... ناس فدعهم وعش عزيزاً رئيسا
ومن سائر شعره قوله:
إذا شئت إن تستفرد المال منفقاً ... على شهوات النفس في زمن العسر
فسل نفسك الأنفاق من كنز صبرها ... عليك وإنظاراً إلى زمن اليسر
فإن فعلت كنت الغنى وإن أبت ... فكل منوعٍ بعدها واسع العذر
وحدث الثعالبي عن أبي نصرٍ التهذيبي قال: سمعت القاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز يقول: انصرفت يوماً من دار الصاحب وذلك قبيل العيد فجاءني رسوله بعطر الفطر ومعه رقعة بخطه فيها هذا البيتان:
يا أيها القاضي الذي نفسي له ... مع قرب عهد لقائه مشتاقه
أهديت عطراً مثل طيب ثنائه ... فكأنما أهدى له أخلاقه
قال: وسمعته يقول: إن الصاحب يقسم لي من إقباله وإكرامه بجرجان أكثر مما يتلقاني به في سائر البلاد، وقد استعفيته يوماً من فرط تحفيه بي وتواضعه لي فأنشدني:
أكرم أخاك بأرض مولده ... وأمده من فعلك الحسن
فالعز مطلوب وملتمس ... وأعزه ما نيل في الوطن
ثم قال: قد فرغت من هذا المعنى في العينية، فقلت لعل مولانا يريد قولي:
وشيدت مجدى بين قومي فلم أقل ... ألا ليت قومي يعلمون صنيعي؟
فقلت: ما أردت غيره، والأصل فيه قوله تعالى: (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين).

قال الثعالبي: القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز حسنة جرجان وفرد الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقة العلم، ودرة تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، يجمع خط ابن مقلة إلى نثر الجاحظ ونظم البحتري: وينظم عقد الإتقان والإحسان في كل ما يتعاطاه، - وأنشد بيت الصاحب المقدم ذكره - وقد كان في صباه خلف الخضر في قطع عرض الأرض وتدويخ بلاد العراق والشام وغيرهما، واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار به في العلماء علماً، وفي الكمال عالماً، ثم عرج على حضرة الصاحب فألقى بها عصا المسافر، فاشتد اختصاصه به وحل منه محلاً بعيداً في رفعته، قريباً في أسرته، وسير فيه قصائد أخلصت على قصدٍ، وفرائد، أتت من فردٍ، وما منها إلا صوب العقل وذوب الفضل، وتقلد قضاء جرجان من يده، ثم تصرفت به أحوال في حياة الصاحب وبعد وفاته من الولاية والعطلة، وترقى محله إلى قضاء القضاة بالري، فلم يعزله إلا موته رحمه الله تعالى.
وعرض أبو نصرٍ المصعبي كتاباً للصاحب بخطه إلى حسام الدولة أبي العباس تاش الحاجب، في معنى القاضي أبي الحسن نسخته بعد التصدير والتشبيب: قد تقدم من وصفي للقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز فيما سيق إلى حضرة الأمير الجليل صاحب الجيش - دام علوه - من كتبي ما أعلم إني لم أؤد فيه بعض الحق وإن كنت دللته على جملة تنطق بلسان الفضل، وتكشف عن أنه من أفراد الدهر في كل قسمٍ من أقسام الأدب والعلم، فأما موقعه مني: فالموقع الذي تخطبه هذه المحاسن وتوجبه هذه المناقب، وعادته معي ألا يفارقني مقيما وظاعناً ومسافراً وقاطناً، وقد احتاج الآن إلى مطالعة جرجان بعد أن شرطت عليه تصيير المقام كالإلمام فطالبني مكانه بتعريف الأمير مصدره ومورده، فإن عن له ما يحتاج إلى عرضه وجد من شرف إسعافه ما هو المعتاد من فضله، ليتعجل إنكفاؤه إلي بما رسم - أدام الله أيامه - من مظاهرته على ما يقدم الرحيل ويفسح السبيل من بذرقةٍ إن احتاج إلى الاستظهار بها، ومخاطبةٍ لبعض من في الطريق بتعرف النهج فيها، فإن رأى الأمير أن يجعل من حظوظي الجسيمة عنده تعهد القاضي أبي الحسن بما يعجل رده فإني ما غاب كالمضل الناشد، وإذا عاد كالغانم الواجد، فعل إن شاء الله.
ولما عمل الصاحب رسالته المعروفة في إظهار مساوئ المتنبي، عمل القاضي أبوالحسن كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه في شعره، فأحسن وأبدع، واطال وأطاب، وأصاب شاكلة الصواب، واستولى على الأمد في فصل الخطاب، وأعرب عن تبخره في الأدب وعلم العرب، وتمكنه من جودة الحفظ وقوة النقد، فسار الكتاب مسير الرياح، وطار في البلاد بغير جناحٍ.
وقال فيه بعض النيسابوريين البيتين المقدم ذكرهما ومن شعره:
إنثر على خدى من وردك ... أو دع فمى يقطفه من خدك
ارحم قضيب البان وارفق به ... قد خفت أن ينقد من قدك
وقل لعينيك بنفسي هما ... يخففان السقم عن عبدك
وله:
وفارقت حتى ما أسر بمن دنا ... مخافة نأيٍ أو حذار صدود
فقد جعلت نفسي تقول لمقلتيوقد قربوا خوف التباعد جودي
فليس قريباً من يخاف بعاده ... ولا من يرجى قربه ببعيد
وله يستطرد:
من عاذري من زمنٍ ظالم ... ليس بمستحيٍ ولا راحم؟
يفعل بالإخوان أحداثه ... فعل الهوى بالدنف الهائم
كأنما أصبح يرميهم ... عن جفن مولاي أبي القاسم
وقال يذكر بغداد ويتشوقها:
يا نسيم الجنوب بالله بلغ ... مايقول المتيم المستهام
قل لأحبابه فداكم فؤاد ... ليس يسلو ومقلة لا تنام
بنتم فالرقاد عندي سهاد ... مذ نأيتم والعيش عندي لمام
فعلى الكرخ فالقطيعة فال ... شط فباب الشعير منى السلام
يا ديار السرور لازال يبكي ... بك في مضحك الرياض غمام
رب عيشٍ صحبته فيك غضٍ ... وجفون الخطوب عني نيام
في ليال كانهن أمان ... من زمان كأنه أحلام
وكأن الأوقات فيها كئوس ... دائرات وأنسهن مدام
زمن مسعد وإلف وصول ... ومني يستلذها الأوهام

كل أنس ولذةٍ وسرورٍ ... بعد ما بنتم على حرام
وله في ذلك:
سقى جانبي بغداد أخلاف مزنةٍ ... تحاكى دموعي صوبها وانحدارها
فلي منهما قلب شجاني اشتياقه ... ومهجة نفسٍ ما أمل ادكارها
سأغفر للأيام كل عظيمةٍ ... لئن قربت بعد البعاد مزارها
وله في ذلك:
أراجعة تلك الليالي كعهدها ... إلى الوصل أم لا يرتجى لي رجوعها؟
وصحبة أحباب لبست لفقدهم ... ثياب حدادٍ يستجد خليعها
إذا لاح لي من نحو بغداد بارق ... تجافت جفوني واستطير هجوعها؟
وإن أخلفتها الغاديات رعودها؟ ... تكلف تصديق الغمام دموعها
سق جانبي بغداد كل غمامة ... يحاكي دموع المستهام هموعها
معاهد من غزلان أنسٍ تحالفت ... لواحظها ألا يداوى صريعها
بها تسكن النفس النفور ويغتدى ... بانس من قلب المقيم نزيعها
يحن إليها كل قلب كأنما ... يشاد بحبات القلوب ربوعها
فكل ليالي عيشها زمن الصبا ... وكل فصول الدهر فيها ربيعها
وله في ذلك:
بجانب الكرخ من بغداد لي سكن ... لولا التجمل لم أنفك أندبه
وصاحبٍ ما صحبت الصبر مذ بعدت ... دياره وأراني لست أصحبه
في كل يومٍ لعيني ما يؤرقها ... من ذكره ولقلبي ما يعذبه
ما زال يبعدني عنه وأتبعه ... ويستمر على ظلمي وأعتبه
حتى أوت لي النوى من طول جفوته ... وسهلت لي سبيلاً كنت أرهبه
وما البعاد دهاني بل خلائقه ... ولا الفراق شجاني بل تجنبه
وله في التخلص:
أو ما انثنيت عن الوداع بلوعة ... ملأت حشاك صبابةً وغليلا؟
ومدامعٍ تجري فتحسب أن في ... آماقهن بنان اسماعيلا
وله من قصيدةٍ في الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير:
ولما تداعت للغروب شموسهم ... وقمنا لتوديع الفريق المغرب
تلقين أطراف السجوف بمشرقٍ ... لهن وأعطاف الخدور بمغرب
فما سرن إلا بين دمعٍ مضيعٍ ... ولاقمن إلا بين قلبٍ معذب
كأن فؤادي قرن قابوس راعه ... تلاعبه بالفيلق المتأشب
وله في الصاحب من قصيدةٍ:
وما بال هذا الدهر يطوي جوانحي ... على نفس محزونٍ وقلب كئيب
تقسمني الأيام قسمة جائرٍ ... على نضرةٍ من حالها وشحوب
كأني في كف الوزير رغيبة ... تقسم في جدوى أغر وهوب
وله من قصيدةٍ في الصاحب:
ولا ذنب للأفكار أنت تركتها ... إذا احتشدت لم ينتفع باحتشادها
سبقت بأفراد المعاني وألفت ... خواطرك الألفاظ بعد شرادها
وإن نحن حاولنا اختراع بديعةٍ ... حصلنا على مسروقها ومعادها
وله في الصاحب من قصيدة يهنئه بالبرء من المرض:
بك الدهر يبدي ظله ويطيب ... ويقلع عما ساءنا ويتوب
ونحمد آثار الزمان وربما ... ظللنا وأوقات الزمان ذنوب
أفي كل يومٍ للمكارم روعة ... لها في قلوب المكرمات وجيب؟
تقسمت العلياء جسمك كله ... فمن أين فيه للسقام نصيب؟
إذا ألمت نفس الوزير تألمت ... لها أنفس تحيا بها وقلوب
ووالله لا لاحظت وجهاً أحبه ... حياتي وفي وجه الوزير شحوب
وليس شحوباً ما أراه بوجهه ... ولكنه في المكرمات ندوب
فلا تجزعن تلك السماء تغيمت ... وعما قليل تبتدي فتصوب
تهلل وجه المجد وابتسم الندى ... وأصبح غصن الفضل وهو رطيب
فلا زالت الدنيا بملكك طلقة ... ولازال فيها من ظلالك طيب
وله:
على مهجتي تجني الحوادث والدهر ... فأما اصطباري فهو ممتنع وعر

كأني ألاقي كل يوم ينوبني ... بذنبٍ وما ذنبي سوى أنني حر
فإن لم يكن عند الزمان سوى الذي ... أضيق به ذرعاً فعندي له الصبر
وقالوا: توصل بالخضوع إلى الغنى ... وماعلموا أن الخضوع هو الفقر
وبيني وبين المال بابان حرما ... على الغنى: نفسي الأبية والدهر
إذا قيل: هذا اليسر عاينت دونه ... مواقف خير من وقوفي بها العسر
إذا قدموا بالوفر قدمت قبلهم ... بنفس فقيرٍ كل أخلاقه وفر
وما إذا على مثلي إذا خضعت له ... مطامعه في كف من حصل التبر
وله:
سقى الغيث أو دمعي وقل كلاهما ... لها أربعاً، جور الهوى بينها عدل
بحيث استرق الدعص وأنبسط النقى ... وحيث تناهت الحقف وانقطع الرمل
أكثر من أوصافها وهي واحد ... ولكن أرى أسماءها في فمي تحلو
وفي ذلك الخدر المكلل ظبية ... لكل فؤادٍ عند أجفانها ذحل
إذا خطرات الريح بين سجوفها ... أباحت لطرف العين ما حظر البخل
تلقت بأثناء النصيف لحاظنا ... وقالت لأخرى: ما لمستهترٍ عقل؟
أفي مثل هذا اليوم يمرح طرفه ... وأعداؤنا حول وحسادنا قبل؟
ومدت لإسبال السجوف بنانها ... فغازلنا عنها الشمائل والشكل

علي بن عبد العزيز بن إبراهيم
ابن بناء بن حاجب النعمان، أبو الحسن. قد ذكرت معنى تسميتهم بحاجب النعمان في ترجمة أبيه، وله ديوان شعر كبير الحجم، وكان أبوه يكتب لأبي محمدٍ المهلبي وزير معز الدولة، وكتب أبو الحسن للطائع لله، ثم للقادر بالله بعده في شوالٍ سنة ست وثمانين وثلاثمائة، وخوطب برئيس الرؤساء، وخدم خليفتين أربعين سنةً، ومولده سنة أربعين وثلاثمائةٍ، ومات في رجبٍ سنة ثلاثٍ وعشرين وأربعمائةٍ، وولى ابنه أبوالفضل مكانه فلم يسد مسده فعزل بعد شهورٍ.
وحدث ابن نصرٍ قال: حدثني أبو الفتح أحمد بن عيسى الشاعر المعروف بحمدية قال: لما قبض القادر بالله على أبي الحسن بن حاجب النعمان واستكتب أبا العلاء ابن تريكٍ وهي النظر وقل رونقه، واتفق أن دخل يوماً إلى الديوان فوجد على مخاده قطعةً من عذرةٍ يابسةٍ، فانخزل وتلاشى أمره فقبض عليه وأعيد أبو الحسن إلى رتبته، وكانت بيني وبين أبي العلاء من قبل مماظة في بعض الأمور، فامتدحت أبا الحسن بقصيدةٍ أولها:
زمت ركائبهم فاستشعر التلف
حتى بلغت منها إلى قولي:
يا من إذا ما رآه الدهر سألمه ... وظل معتذراً مما جنى وهفا
قد رام غيرك هذا الطرف يركبه ... فما استطاع له جريا بلى وقفا
لم يرجع الطرف عنه من تبظرمه ... حتر رأينا على دستٍ له طرفا
فدفع إلى صورة عنقاء فضةً مذهبةً كانت بين يديه فيها طيب وقال: خذ هذه الطرفة فإنها أطرف من طرفتك. وقرأ في المفاوضة: حدثني الوزير أبو العباس عيسى ابن ماسرجيس قال: كنت أخلف الوزارة ببغداد مشاركاً لأبي الحسن على بن عبد العزيز بن حاجب النعمان، فدعاني يوما إلى داره ببركة زلزلٍ وتجمل واحتشد ودعا بكل من يشار إليه بحذق في الغناء من رجالٍ وإماءٍ مثل علية الخاقانية وغيرها من نظرائها في الوقت، وحضر القاضي أبو بكر بن الأزرق نسيبه وانتقلنا من الطعام إلى مجلس الشراب، فلما دارت الكأس أدواراً قال لي: ما أراك تحلف على القاضي ليشرب معنا ويساعدنا وإن كان لا يشرب إلا قارصاً. قلت: أنا غريب ومحتشم له وأمره بك أمس وأنت به أخص. قال: فاستدعى غلاماً وقال: امض إلى إسحاق الواسطى واستدع منه قارصاً وتول خدمة القاضي - أيده الله - فمضى الغلام وغاب ساعةً ثم أتى ومعه خماسية فيها من الشراب الصريفيني الذي بين أيدينا إلا أن على رأسها كاغداً وختماً وسطراً فيه مكتوب: قارص من دكان إسحاق الواسطي. قال: فتأمله القاضي وأبصر الخط والختم ثم أمر فسقى رطلاً، فلما شربه واستوفاه قال للغلام: ويلك ما هذا؟ قال: يا سيدي هذا قارص. قال لا، بل والله الخالص، ثم ثنى له وثلث، فاضطرب أمر القاضي علينا وأنشأ يقول:

ألا فاسقني الصهباء من حلب الكرم ... ولاتسقني خمراً بعلمك أوعلمي
أليست لها أسماء شتى كثيرة ... ألا فاسقنيها واكن عن ذلك الإسم
فكان كلما أتاه بالقدح سأله عنه فيقول تارةً: مدام، وتارةً خندريس وهويشرب، فإذا قال له: خمر حرد واستخف به فيتوارى بالقدح ساعةً ثم يعيده ويقول: هذه قهوة فيشرب به، فلم يشرب القاضي إلا بمقدار ستة أسماءٍ أو سبعةٍ من أسماء الخمر حتى انبطح في المجلس ولف في طيلسان أزرق عليه وحمل إلى داره.

علي بن عبد الغني الأندلسي
القروي الحصري الأندلسي قال صاحب كتاب فرحة الأنفس: - وهو محمد بن أيوب بن غالبٍ الغرناطي - يكنى أبا الحسن، كان من أهل العلم بالنحو وشاعراً مشهوراً وكان ضريراً، طاف الأندلس ومدح ملوكها، فمن ذلك قوله للمعتمد بن عبادٍ عند موت أبيه المعتضد أبي عمرو وعباد بن محمدٍ:
مات عباد ولكن ... بقي النجل الكريم
فكأن الميت حي ... غير أن الضاد ميم
ومدح بعض الملوك الأندلس فغفل عنه إلى أن حفزه الرحيل فدخل عليه وأنشده:
محبتي تقتضي ودادي ... وحالتي تقتضي الرحيلا
هذان خصمان لست أقضي ... بينهما خوف أن أميلا
ولا يزالان في اختصامٍ ... حتى ترى رأيك الجميلا
ودخل على المعتصم محمد بن معن بن صمادح فأنشده قصيدةً، فلما انصرف تكلم المعتصم في أمره مع وزرائه وكتابه ليرى رأيهم فيه، فنقل إليه عن الكاتب أبي الأصبغ بن أرقم كلام أحفظه، فانصرف ودخل علي ابن صمادحٍ وأنشده:
يأيها السيد المعظم ... لاتطع الكاتب ابن أرقم
لأنه حية وتدري ... مافعلت بأبيك آدم
وحكى أبو العباس البلنسي الأعمى أيضاً عنه وكان من تلاميذه، وهذان البيتان متنازعان بينهما لا أدرى لمن منهما؟
وقالوا: قد عميت فقلت: كلا ... وإني اليوم أبصر من بصير
سواد العين زاد سواد قلبي ... ليجتمعا على فهم الأمور
وذكره الحميدي وقال: دخل الأندلس بعد الخمسين وأربعمائةٍ وأنشدني بعضهم له:
ولما تمايل من سكره ... ونام دببت لأعجازه
فقال ومن ذا؟ فجاوبته ... عم يستدل بعكازه
علي بن أبي طالب
أمير المؤمنين - صلوات الله عليه وسلامه - واسم أبي طالب عبد مناف - بن عبد المطلب، - واسم عبد المطلب عامر وهو شيبة الحمد لقب له - بن هشام - واسمه عمرو - بن عبد مناف - وهو المغيرة - بن قصي - واسمه زيد - بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.
أخباره عليه السلام كثيرة، وفضائله شهيرة، إن تصدينا لاستيعابها وانتخاب محاسنها كانت أكبر حجماً من جميع كتابنا هذا. مات صلوات الله عليه يوم الجمعة لسبع عشرة ليلةً خلت من شهر رمضان سنة أربعين للهجرة، وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر، ومدة عمره فيها خلاف على ما نذكره فيما بعد، ولا بد من ذكر جملٍ من أمره على سبيل التاريخ يستدل بها على مجاري أموره، ونتبعها بذكر ولده ومن أعقب منهم ومن لم يعقب، وذكر شيء مما صح من شعره وحكمه.
وكان عليه السلام أول من وضع النحو وسن العربية، وذلك أنه مر برجل يقرأ: (إن الله بريء من المشركين ورسوله) بكسر اللام في رسوله، فوضع النحو وألقاه إلى أبي الأسود الدؤلي، وقد استوفينا خبر ذلك في باب أبي الأسود.
قرأت بخط أبي منصورٍ محمد بن أحمد الأزهري اللغوي في كتاب التهذيب له: قال أبو عثمان المازني: لم يصح عندنا أن علي بن أبي طالب عليه السلام تكلم من الشعر بشيء غير هذين البيتين:
تلكم قريش تمناني لتقتلني ... ولا وجدك ما بروا ولا ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمتي لهم ... بذات روقين لا يعفو لها أثر

قال: ويقال: داهية ذات روقين، وذات ودقين: إذا كانت عظيمةً. كان قد بويع له يوم قتل عثمان بن عفان رضي اله عنه، ثم كانت وقعة الجمل بعد ذلك بخمسة أشهرٍ وأحدٍ وعشرين يوماً، وعدة من قتل في وقعة الجمل ثمانية آلاف، منهم من الأزد خاصةً أربعة آلاف، ومن ضبة ألف ومائة، وباقيهم من سائر الناس وقيل: أقل من ذلك. ومن أصحاب علىٍ صلوات الله عليه نحو ألفٍ. وكانت الوقعة لعشرٍ خلون من جمادى الأولى سنة ستٍ وثلاثين، وكان بين وقعة الجمل والتقائه مع معاوية بصفين سبعة أشهرٍ وثلاثة عشر يوماً، وكان أول يومٍ وقعت الحرب بينهم بصفين غرة صفرٍ سنة سبعٍ وثلاثين، واختلف في عدة أصحابهما فقيل: كن علي في تسعين ألفاً، وكان معاوية في مائةٍ وعشرين ألفاً، وقيل: كان معاوية في تسعين ألفاً، وعلي عليه السلام في مائةٍ وعشرين ألفاً، منهم خمسة وعشرون من الصحابة، وقتل من أصحاب معاوية خمسة وأربعون ألفاً. وقيل: غير ذلك، وكان الماقم بصفين مائة يومٍ وعشرة أيامٍ، وكانت الوقائع تسعين وقعةً، وبين وقعة صفين والتقاء الحكمين وهما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص بدومة الجندل خمسة أشهرٍ وأربعة وعشرون يوماً، وبين التقائهما وخروج علي عليه السلام إلى الخوارج بنهروان وقتله إياهم سنة وشهران، وكان الخوارج أربعة آلافٍ عليهم عبد الله بن وهبٍ الراسبي من الأزد، وليس براسب بن جرم بن ريان، وليس في العرب غيرهما، فلما نزل علي عليه السلام تفرقوا فبقي منهم ألف وثمانمائةٍ، وقيل: ألف وخمسمائةٍ، فقتلوا إلا نفراً يسيراً، وكان سبب تفرق الخوارج عنه، أنهم تنازعوا عند الإحاطة بهم فقالوا: أسرعوا الروحة إلى الجنة، فقال عبد الله بن وهبٍ ولعلها إلى النار، فقال: من فارقه، ترانا نقاتل مع رجلٍ شاكٍ. وبين خروجه إلى الخوارج وقتل ابن ملجمٍ له لعنه الله تعالى سنة وخمسة أشهرٍ وخمسة أيامٍ.
واختلف في مدة عمره، فقال قوم: إنه استشهد وله ثمان وستون سنةً في قول من يذهب إلى أنه أسلم وله خمس عشرة سنةً، وقيل: ست وستون وهو قول من يذهب إلى أنه أسلم وله ثلاث عشرة سنةً، وقيل: ثلاث وستون وهو قول من يرى أنه أسلم وله عشر سنين، وقيل: ثمان وخمسون وهو قول من زعم أنه أسلم وله خمس سنين، وهذا أقل ما قيل في مقدار عمره.
واختلف في موضع قبره، فقيل: بالفرى وهو الموضع المشهور اليوم، وقيل: بمسجد الكوفة، وقيل: برحبة القصر بها وقيل: حمل إلى المدينة فدفن مع فاطمة صلوات الله عليها وسلامه، وكان أسمر عظيم البطن أصلع أبيض الرأس واللحية، أدعج عظيم العينين، ليس بالطويل ولا القصير، تملأ لحيته صدره، ولا يغير شيبه، وكان له من البنين أحد عشر، الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية - وأمه خولة بنت جعفر سبية - وعمر - أمه أم حببٍ الصهباء بنت ربيعة تغلبية - ، والعباس - أمه أم البنين بنت خزام بن خالدٍ من بني عامر بن صعصعة - ، وعبد الله يكنى أبا بكرٍ، وعثمان وجعفر ومحمد الأصغر، وقيل: هو الذي يكنى أبا بكرٍ، وعبيد الله ويحيى. المعقبون منهم خمسة: الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وعمر والعباس عليهم السلام. وله من البنات ست عشرة: منهن زينب وأم كلثومٍ التي تزوجها عمر بن الخطاب، وأمهما فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليهما وسلم، فالعقب للحسن بن علي عليهما السلام من زيد والحسن، والعقب لزيدٍ من الحسن بن زيدٍ، والعقب للحسن بن الحسن من جعفرٍ وداود وعبد الله والحسن وابراهيم. والعقب لمحمد بن الحنفية من جعفرٍ وعليٍ وعونٍ وابراهيم، والعقب لجعفر بن محمدٍ من عبد الله، ولعلى بن محمدٍ من عونٍ، ولعون بن محمدٍ ولإبراهيم بن محمدٍ.
فأما أبو هاشمٍ عبد الله بن محمد بن الحنفيه وهو أكبر ولده، فقد ظن قوم أنه أعقب وليس الأمر كذلك. والعقب لمحمد بن علي بن أبي طالب من محمد ابن عمر، والعقب لمحمد بن عمر لعمر وعبد الله وجعفرٍ. والعقب للعباس من عبيد الله بن العباس، والعقب لعبيد الله من الحسين وعبد الله عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
ومما يروى أن معاوية كتب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ عليه السلام: إن لي فضائل، كان أبي سيداً في الجاهلية، وصرت ملكاً في الإسلام، وأنا صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخال المؤمنين وكاتب الوحي. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أبالفضائل تفتخر علي يا ابن آكلة الأكباد؟ اكتب إليه يا غلام:

محمد النبي أخي وصهري ... وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يضحي ويمسي ... يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمدٍ سكني وعرسي ... مشوب لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمدٍ ولداي منها ... فأيكم له سهم كسهمي؟
سبقتكم إلى الإسلام طراً ... صغيراً ما بلغت أوان حلمي
فقال معاوية: أخفوا هذا الكتاب لا يقرؤه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي طالبٍ.
قرأت في كتاب الأمالي لأبي القاسم الزجاج قال: حدثنا أبو جعفرٍ أحمد بن محمد بن رستم الطبري صاحب أبي عثمان المازني قال: حدثنا أبو حاتمٍ السجستاني عن يعقوب بن إسحاق الخضري قال: حدثنا سعيد ين سلمٍ الباهلي قال: حدثني أبي عن جدي عن أبي الأسود الدؤلي، أو قال: عن جدي عن ابن أبي الأسود الدؤلي عن أبيه قال: دخلت على أمير المؤمنين عليٍ بن أبي طالب عليه السلام، فرأيته مطرقاً مفكراً فقلت: فيم تفكر يا أمير المؤمنين؟ قال: إني سمعت ببلدكم هذا لحناً فأردت أن أضع كتاباً في أصول العربية. فقلت: إن فعلت هذا يا أمير المؤمنين أحييتنا وبقيت فينا هذه اللغة، ثم أتيته بعد أيامٍ فألقى إلى صحيفةً فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: الكلام كله اسم وفعل وحرف، والاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسمٍ ولا فعلٍ. ثم قال لي: تتبعته وزد فيه ما وقع لك، واعلم يا أبا الأسود أن الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وشئ ليس بظاهرٍ ولا مضمرٍ. قال: فجمعت منه أشياء وعرضتها عليه وكان من ذلك حروف النصب، فكان منها إن وأن وليت ولعل وكأن ولم أذكر لكن. فقال لي: لم تركتها؟ فقلت: لم أحسبها منها. فقال: بل هي منها فزدها فيها. قال: أبو القاسم: قوله عليه السلام: الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهرٍ ولا مضمرٍ، فالظاهر رجل وفرس وزيد وعمرو وما أشبه ذلك، والمضمر نحو، أنا وأنت والتاء في فعلت والياء في غلامي والكاف في ثوبك وما أشبه ذلك. وأما الشيء الذي ليس بظاهرٍ ولا مضمرٍ فالمبهم، نحو هذا وهذه وهاتا وتا ومن وما والذي وأي وكم ومتى وأين وما أشبه ذلك.

علي بن عبد الملك بن العباس القزويني
أبو طالبٍ النحوي، كان أبوه أبو عليٍ عبد الملك من أهل العلم ورواة الحديث، وسمع أبو طالبٍ جماعةً منهم: مهروية، وأبو الحسن علي بن إبراهيم القطان. قال الخليلي: وهو إمام في شانه قرانا عليه وأخذ عنه الخلق، ومات في آخر سنة ثمان وتسعين وثلاثمائةٍ. وخلف أولاداً صغاراً اشتغلوا بما لا يعنيهم فقتلوا. وأخوه أبو الحسن علي سمع الحديث لكنه كان كاتباً فلم يسمع منه. وأبو عليٍ ابنه سمع الحديث وقرأ الفقه، ثم اشتغل بالكتابة فمات في الغربة وقد انقطع نسله.
علي بن عبيدة الريحاني
أحد البلغاء الفصحاء، من الناس من يفضله على الجاحظ، في البلاغة وحسن التصنيف مات - أخلي مكانه - وكان له اختصاص بالمأمون ويسلك في تأليفاته وتصنيفاته طريقة الحكمة، وكان يرمى بالزندقة، وله مع المأمون أخبار منها: أنه كان بحضرة المأمون فجمش غلاما فرآهما المأمون فأحب أن يعلم هل علم علي أم لا؟ فقال له: أرأيت؟ فأشار علي بيده وفرق أصابعه أي خمسة وتصحيف خمسةٍ جمشة، وغير ذلك من الأخبار المتعلقة بالفطنة والذكاء.
وقال جحظة في أماليه: حدثني أبو حرملة قال: قال علي بن عبيدة الريحاني: حضرني ثلاثة تلاميذ لي فجرى لي كلام حسن فقال أحدهم: حق هذا الكلام أن يكتب بالغوالي على خدود الغواني. وقال الأخر: بل حقه إن يكتب بانامل الحور على النور. وقال الآخر: بل حقه أن يكتب بقلم الشكر في ورق النعم. ومن مستحسن أخباره المطربة أنه قال: أتيت باب الحسن ابن سهلٍ فأقمت ببابه ثلاثة أشهرٍ لا أحظى منه بطائلٍ فكتبت إليه:
مدحت ابن سهل ذا الأيادي وماله ... بذاك يد عندي ولا قدم بعد
وما ذنبه والناس إلا أقلهم ... عيال له إن كان لم يك لي جد
سأحمده للناس حتى إذا بدا ... له في رأي عاد لي ذلك الحمد

فبعث إلى: - باب السلطان يحتاج إلى ثلاث خلالٍ: مالٍ وعقلٍ وصبرٍ - فقلت للواسطة: تؤدي عني؟ قلت تقول له: ولو كان لي مالي لأغناني عن الطلب منك، أو صبر لصبرت على الذل ببابك، أو عقل لاستدللت به على النزاهة عن رفدك، فأمر لي بثلاثين ألف درهمٍ. قرأت بخط أبي الفضل العباس بن علي بن بردٍ الخباز: أخبرني أبو الفضل أحمد بن طاهرٍ قال: كنت في مجلس بعض أصدقائي يوماً وكان معي علي بن عبيدة الريحاني في المجلس، وفي المجلس جارية كان علي يحبها فجاء وقت الظهر فقمنا إلى الصلاه وعلي والجارية في الحديث فأطال حتى كادت الصلاه تفوت، فقلت له يا أبا الحسن: قم إلى الصلاه فأومأ بيده إلى الجارية وقال: حتى تغرب الشمس، أي حتى تقوم الجارية. قال: فجعلت أتعجب من حسن جوابه وسرعته وكنايته. وله من الكتب: كتاب المصون، كتاب التدرج، كتاب رائد الرد، كتاب المخاطب، كتاب الطارف، كتاب الهاشمي، كتاب الناشئ، كتاب الموشح، كتاب الجد، كتاب شمل الألفة، كتاب الزمام، كتاب المتحلي، كتاب الصبر، كتاب سباريها، كتاب مهرزاد خشيش، كتاب صفة الدنيا، كتاب روشنائدل، كتاب سفر الجنة، كتاب الأنواع، كتاب الوشيج، كتاب العقل والجمال، كتاب أديب جوانشير، كتاب شرح الهوى، كتاب الطارس، كتاب المسجى، كتاب أخلاق هارون، كتاب الأسنان، كتاب الخطب، كتاب الناجم، كتاب صفة الفرس، كتاب النبيه، كتاب المشاكل، كتاب فضائل إسحاق، كتاب صفة الموت، كتاب السمع والبصر، كتاب اليأس والرجاء، كتاب صفة العلماء، كتاب أنيس الملك، كتاب المؤمل والمهيب، كتاب ورودٍ وودودٍ الملكتين، كتاب النملة والبعوضة، كتاب المعاقبات، كتاب مدح النديم، كتاب الجمل، كتاب خطب المنابر، كتاب النكاح، كتاب الإيقاع، كتاب الأوصاف، كتاب امتحان الدهر، كتاب الأجواد، كتاب المجالسات، كتاب المنادمات.
قال: سأل المأمون يحيى بن أكثم وثمامة بن أشرس وعلي بن عبيدة الريحاني عن العشق ما هو؟ فقال علي بن عبيدة الريحاني عن العشق ما هو؟ فقال علي بن عبيدة: العشق ارتياح في الخلقة، وفكرة تجول في الروح، وسرور منشؤه الخواطر، له مستقر غامض، ومحل لطيف المسالك، يتصل بأجزاء القوى، ينساب في الحركات. وقال يحيى: العشق سوانح تسنح للمرء فيهتم لها ويؤثرها. قال ثمامة: يا يحيى، إنما عليك أن تجيب في مسألةٍ في الطلاق أو عن محرم يصطاد ظبياً، وأما هذه فمسألتنا. قال له المأمون: فما العشق يا ثمامة؟ فقال: إذا تقادمت جواهر النفوس بوصف الشكالة أحدثت لمع برقٍ ساطعٍ تستضيء به نواظر العقول، وتشرق له طبائع الحياه فيتولد من ذلك البرق نور خاص بالنفس متصل بجوهريتها يسمى عشقاً. قال المأمون: يا ثمامة أحسنت، وأمر له بآلاف دينارٍ.

علي بن عبيد الله بن الدقاق
أبو القاسم الدقيقي النحوي. أحد الأئمة العلماء هذا الشان، أخذ عن أبي عليٍ الفارسي وأبي سعيدٍ السيرافي وأبي الحسن الرماني، وكان مباركاً في التعليم، تخرج عليه خلق كثير لحسن خلقه وسجاحة سيرته، وكان مولده سنة خمسٍ وأربعين وثلاثمائة، ومات فيما ذكره هلال ابن المحسن في تاريخه، في سنة خمس عشرة وأربعمائةٍ. وله تصانيف منها: كتاب شرح الإيضاح رأيته منسوباً إليه، وأنا أظنه شرح علي بن عبيد الله السمسمي لأنه محشو بقوله: قال السمسماني. وما أدرى الدقاق ممن أخذ عن السمسماني وهو أكبر سناً منه، ومشايخهما ووفاتهما واحدة، ولكن اشتبه الأسم فنسب إلى هذا لشهرته بالنحو. وللدقيقي أيضاً كتب شرح الجرمي كتاب العروض رأيته، كتاب المقدمات.
وذكر القاضي أبو المحاسن بن مسعرٍ قال: أبو القاسم علي بن عبيد الله الدقيقي صاحب أبي الحسن علي بن عيسى الرماني، قرأ عليه كتاب سيبويه قراءة تفهمٍ، وأخذ بذلك خطه عليه وأنتفع الناس به، وعنه أخذت، وعلى روايته عولت.
علي بن عبيد الله السمسمي
أبو الحسن اللغوي النحوي. كان جيد المعرفة بفنون علم العربية، صحيح الخط غايةً في إتقان الضبط، قرأ على أبي عليٍ الفارسي وأبي سعيدٍ السيرافي. وكان ثقةً في روايته، مات في المحرم سنة خمس عشرة وأربعمائةٍ في خلافة القادر بالله.

حدث ابن نصرٍ قال: حدثني الشيخ أبو القاسم بن برهان النحوي قال: قال لنا أبو الحسن السمسمي - وقد سأله رجل مسألةً من مسائل النوكي - وحضر مجلس أبي عبيدة رجل فقال: - رحمك الله - أبا عبيدة ما العنجيد؟ قال: - رحمك الله - ما أعرف هذا، قال: سبحان الله أين يذهب عن قول الأعشى؟:
يوم تبدى لنا قتيله عن جي ... دٍ تليعٍ يزينه الأطواق
فقال: - عافاك الله - عن حرف جاء لمعنىً. والجيد: العنق. ثم قام آخر في المجلس فقال: أبا عبيدة - رحمك الله - ما الأودع؟ قال: - عافاك الله - ما أعرفه. قال: سبحان الله أين أنت عن قول العرب زاحم بعودٍ أودع؟ فقال: ويحك، هاتان كلمتان. والمعنى أو اترك أو ذر، ثم استغفر الله وجعل يدرس فقام رجل فقال: - رحمك الله - أخبرني عن كوفا، أمن المهاجرين أم من الأنصار؟ قال: قد رويت أنساب الجميع وأسماؤهم ولست أعرف فيهم كوفا. قال: فأين أنت عن قوله تعالى؟: (والهدى معكوفاً). قال: فأخذ أبو عبيدة نعليه واشتد ساعياً في مسجد البصرة يصيح بأعلى صوته: من أين حشرت البهائم على اليوم؟. ورأيت جماعةً من أهل العلم يزعمون أن النسبة إلى السمسمي والسمسماني واحد يقال هذا ويقال هذا. وكان أبو الحسن هذا مليح الخط صحيح الضبط حجةً فيما يكتبه، ومن هذا البيت جماعة كتاب مجيدون نذكر منهم في مواضعهم من يقع إلينا حسب الطاقة.
وحدث غرس النعمة بن الصابئ في كتاب الهفوات قال: كان أبو الحسن السمسماني متطيراً فخرج يوم عيدٍ من داره فلقيه بعض الناس فقال له مهنئاً: عرف الله سيدنا الشيخ بركة هذا اليوم فقال: وإياك يا سيدي، وعاد فأغلق بابه ولم يخرج يومه. وجدت في بعض الكتب هذه الأبيات المنسوبة إلى أبي الحسن السمسمي:
دع مقلتي تبكي عليك بأربع ... إن البكاء شفاء قلب الموجع
ودع الدموع تكف جفني في الهوى ... من غاب عنه حبيبه لم يهجع
ولقد بكيت عليك حتى رق لي ... من كان فيك يلومني وبكى معي
ووجدت بخط أبي الحسن السمسماني على ظهر كتاب المزني صاحب الشافعي رحمهما الله أنه كان كثيراً ما يتمثل:
يصون الفتى أثوابه حذر البلى ... ونفسك أحرى يا فتى لو تصونها
فمن ذاك الذي يرعاك بالغيب أو يرى ... لنفسك إكراماً وأنت تهينها؟
قرأت بخط الشيخ أبي محمد بن الخشاب النحوي، أنشدنا أبو بكر الخطيب، أنشدنا علي بن عبيد الله السمسمي النحوي:
أترى الجيرة الذين تنادوا ... بكرةً للنزال قبل الزوال؟
علموا أنني مقيم وقلبي ... معهم راحل أمام الجمال
مثل صاع العزيز في أرحل القو ... م ولا يعلمون ما في الرحال

علي بن عساكر بن المرحب
أبو الحسن المقريء النحوي، المعروف بالبطائحي الضرير. كان يزعم أنه من عبد القيس، وهو من قريةٍ من قرى البطائح تعرف بالمحمدية قريبةٍ من الصليق، مات ببغداد في ثامن عشر من شعبان سنة اثنتين وسبعين وخمسمائةٍ، ومولده سنة تسعٍ وأربعمائةٍ، وكان قد قدم بغداد واستوطنها إلى حين وفاته، وقرأ القران على أبي العز القلانسي الواسطي، وأبي عبد الله البارع بن الدباس، وأبي بكر بن المرزقي، وأبي محمد ابن بنت الشيخ. وقرأ النحو على البارع وغيره، وسمع الحديث من جماعةٍ. وأقرأ الناس مدةً وحدث الكثير، وكان ثقةً مأموناً. قال صدقة بن الحسين بن الحداد في تاريخه: كان سبب وفاة البطائحي أنه ظهر به باصور مما يلي تحت كتفه فبقي به مدةً طويلةً ينز إلى خارج البدن، ثم انفتح إلى باطنه فهلك به، وأوصى لطغندي صاحبه الذي كان يقرأ عليه الحديث ويقربه من جهة النساء بثلث ماله، ووقف كتبه على مدرسة الشيخ عبد القادر الجليلي، وخلف مقدار أربعمائة دينارٍ وداراً في دار الخلافة
علي بن علي
ٍ
أبو الحسن البرقي. قال الحافظ أبو الحسن علي بن الفضل المقدسي: في ربيعٍ الأول سنة اثنتين وعشرين وخمسمائةٍ مات علي بن عليٍ أبو الحسن البرقي النحوي الشاعر، ولم يذكر غير ذلك
علي بن عراقٍ الصناري

أبو الحسن الخوارزمي، مات سنة تسعٍ وثلاثين وخمسمائةٍ بمذانة قريةٍ من قرى خوارزم، ذكر ذلك أبو محمد محمود بن محمد بن أرسلان في تاريخ خوارزم وقال: كان نحوياً لغوياً عروضياً فقيهاً مفسراً مذكوراً، قرأ الأدب على الشيخ أبي عليٍ الضرير النيسابوري، والفقه بخوارزم على الإمام أبي عبد الله الوبري، ثم ارتحل في الفقه إلى بخارى فتفقه بها على مشايخها، ثم عاد إلى جرجانية خوارزم فتكلم في مسائل مع أئمتها، ثم تحول إلى قرية مذانة وتوطنها، وكان يعظ في المسجد الجامع بها غداة الجمعة وكان يحفظ اللغات الغريبة والأشعار العويصة، وصنف كتاب شماريخ الدرر في تفسير القران، ولما فرغ منه كتب في آخره:
فرغنا من كتابته عشياً ... وكان الله في عوني ولياً
وقد أدرجته نكتاً حساناً ... ومعنى يشبه الرطب الجنيا
قال: وقرأت بخط أبي عمرو البقال: كان من لطائف الصناري إذا نام واحد من أهل الرستاق في مجلسه ناداه من على المنبر بأعلى صوته: يأيها التيس المذاني، أترك المنام واسمع الكلام، ثم ينشده:
وصاحب نبهته لينهضا ... إذا الكرى في عينه تمضمضا
فقام عجلان وما تأرضا ... وثم بالكفين وجهاً أبيضا
ثم يقول تمضمض من النعاس: إذا دب في عينيه، ومنه المضمضة في الوضوء، سميت بذلك لأن الغاسل يمضمض الماء في فمه: أي يديره ويجريه فيه

علي بن عيسى أبو الحسن الصائغ
النحوي الرامهرمزي، قال القاضي أبو عليٍ التنوخي: حدثني أبو عمر أحمد بن محمد بن حفصٍ الخلال قال: كان أبو الحسن الصائغ النحوي الرامهرمزي واسع العلم والأدب مليح الشعر، وهوصاحب القصيدة التي أولها - من الأصل - وفيها تجوز كثير وأمر بخلاف الجميل قالها على طريق التخالع والتطايبب، وكان صالحاً معتقداً للحق لا عن اتساعٍ في العلم - يعني علم الكلام - ولكنه كان واسع المعرفة بالنحو واللغة والأدب، وأبو الحسن الصائغ هذا هو أستاذ أبي هاشم بن أبي بكر المبرمان في النحو، قرأ عليه لما ورد بالبصرة واستفاد منه حتى بلغ أعلى مراتب النحو حتى قال ابن درستوية: اجتمعت مع أبي هاشمٍ فألقى إلي بمائتي مسألةٍ من غريب النحو ما سمعت بها قط ولا كنت أحفظ جوابها، وقد ذكرت قصته مع أبي هاشم بكمالها في ترجمة أبي هاشمٍ عبد السلام.
وقال أبو عمر الخلال: أنفذ بي الصيدلاني أبو عبد الرحمن المعتزلي غلام أبي عليٍ الجبائي إلى أبي الحسن الرامهرمزي وقال لي: قل له: إني قرأت البارحة في كتاب شيخنا أبي عليٍ في تفسير القران في قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً) أي بينا لكل نبيٍ عدوه، فجعل جعل بمعنى بين. ولست أعرف هذا في اللغة، فاحفظ جوابه وجئني به. قال: فجئت إلى أبي الحسن فأخبرته بذلك عن عبد الرحمن فقال: نعم، هذا معروف في لغة العرب. وقد قال العريفي العنسي - بالنون - :
جعلنا لهم نهج الطريق فأصبحوا ... على ثبتٍ من أمرهم حيث يمموا
قال: فعدت إلى عبد الرحمن فعرفته ذلك. - قلت هكذا وجدت هذا الخبر، والكلمة المسئول عنها غير مبينةٍ، فمن عرفها وكان من أهل العلم فله أن يصلحها - .
وقال أبو محمدٍ عبيد الله بن أبي القاسم عبد المجيد ابن بشران الخوزستاني: وفي سنة اثنتي عشرة وثلاثمائةٍ مات أبو الحسن علي بن عيسى الصائغ الرامهرمزي الشاعر، وقد كان شخص إلى ابراهيم المسمعي، ثم عدل إلى دركٍ بسيراف، فخرج مع دركٍ في هيجٍ كان من العامة بها، وقد رموه بالمقاليع فأصاب علي بن عيسى حجر فهلك، وكان شاعراً عالماً. فمن شعره:
سهادى غير مفقود ... ونومي غير موجود
وجرى الدمع في الخد ... كنظم الدر في الجيد
لفعل الشيب في اللم ... مة لا للخرد الغيد
لقد صار بي الشيب ... إلى لومٍ وتفنيد
وما المرء إذا شاب ... لديهن بمودود
وهي طويلة مدح فيها أهل البيت وكان لهم مداحاً.
علي بن عيسى بن داود بن الجراح

أبو الحسن الوزير. كانت منزلته من الرياسة ومعرفته بالعدل والسياسة تجل عن وصفها، ومن حسن الصناعة والكفاية ما هو مشهور مذكور، وزر للمقتدر بالله دفعتين، ومات في ليلة اليوم الذي عبر معز الدولة في صبيحته إلى بغداد، وهو يوم الجمعة انتصاف الليل من سلخ ذي الحجة سنة أربعٍ وثلاثين وثلاثمائةٍ، ودفن في داره وعمره تسع وثمانون سنةً ونصف، وحم يوماً واحداً، ومولده في جمادى الآخرة سنة خمسٍ وأربعين ومائتين، وله كتاب جامع الدعاء، كتاب معاني القران وتفسيره، أعانه عليه أبو الحسين الواسطي وأبو بكر بن مجاهدٍ، كتاب رسائله. كان تقلده للوزارة الأولى في المحرم سنة إحدى وثلاثمائةٍ، وبقي فيها أربع سنين غير شهرٍ، والأخرى في صفرٍ سنة خمس عشرة وثلاثمائةٍ، وبقي فيها سنةً وأربعة أشهرٍ ويومين، وكان يستغل ضياعة في السنة بسبعمائة ألف دينارٍ، يخرج منها في وجوه البرستين وستمائة ألف دينارٍ، وينفق أربعين ألف دينارٍ على خاصته، وكانت غلته عند عطلته ولزومه بيته نيفاً وثمانين ألف دينارٍ، يخرج منها في وجوه البر نيفاً وأربعين ألفاً، وينفق ثلاثين ألفاً على نفسه، وكان يرتفع لابن الفرات وهو متعطل ألف ألف دينارٍ. قال: الصولي ولا أعلم أنه وزر لبنى العباس وزير يشبهه في زهده وعفته وحفظه للقران وعلمه بمعانيه، وكان يصوم نهاره ويقوم ليله.
قال الصولي: ولا أعلم أنني خاطبت أحداً أعرف منه بالشعر، وكان يوقع بيده في جميع ما يحتاج إليه مما كان يوقع فيه أصحاب الدواوين في وزارته، فسألت أبا العباس أحمد بن طومار الهاشمي عن السبب فقال: قد اقتصر في نفقته وأجرى الفاضل على أولاد الصحابة بالمدينة، وجلس للمظالم فأنصف الناس وأخذ للضعيف من القوي، وتناصف الناس بينهم، ولم يروا أعف بطناً ولساناً وفرجاً منه، ولما عزل في وزارته الثانية وولى ابن الفرات لم يقنع المحسن ابن ابي الحسن بن الفرات إلا بإخراجه عن بغداد، فخرج إلى مكة فأقام بها مهاجراً وقال في نكبته:
ومن يك عني سائلاً لشماتةٍ ... لما نابني أو شامتاً غير سائل
فقد أبرزت مني الخطوب ابن حرةٍ ... صبوراً على أهوال تلك الزلازل
إذا سر لم يبطر وليس لنكبةٍ ... إذا نزلت بالخاشع المتضائل
ولما جلس كان يلبس ثيابه ويتوضأ للصلاة ويقوم ليخرج لصلاة الجمعة، فيرده المتوكلون فيرفع يده إلى السماء ويقول: اللهم أشهدك أنني أريد طاعتك ويمنعني هؤلاء، وأشار على المقتدر أن يقف العقار ببغداد على الحرمين والثغور، وغلتها ثلاثة عشر ألف دينارٍ في كل شهرٍ، والضياع الموروثة بالسواد وارتفاعها نيف وثمانون ألف دينارٍ سوى الغلة، ففعل ذلك وأشهد على نفسه الشهود، وأفرد لهذه الوقوف ديواناً سماه ديوإن البر. ورأى آثار سعيه لآخرته في دنياه، فإنه سلم من جميع البلاء على كثرة من عاداه وقصده، ومنع حواشي المقتدر من المحالات وحملهم على السيرة الحميدة، فأفسدوا أمره حتى اعتقل ثمانية عشر شهراً، ثم نفى إلى مكة واليمن ومصر، ثم عاد ووزر بعد ذلك، واحتاج إلى المشي في بعض أسفاره فجعل يتمثل:
قد علمت إخوتنا كلاب ... أنا على دقتنا صلاب
وكان الديلم عند دخولهم إلى بغداد إذا اجتازوا على محلته تجنبوها ويقولون: هاهنا دار الوزير الصالح، وكانت داره على دجلة وهي المعروفة بالستيني، واحتاجت مسناتها إلى مرمةٍ فقدروا لها صناعها ثلاثة آلاف دينارٍ، فلما أحضر الدنانير قال: صرفها إلى الصدقة أولى، فليس اليوم على دجلة بين البلد والمعزية غيرها وهي مشهورة ببغداد إلى يومنا هذا. قد عمل عليها عدة دواليب لسقي مزارع الزاهر، ونزل يوماً في طيارةٍ فاجتمع عليه قوم يسألونه توقيعاً فقال: نعم وكرامةً حتى أرجع وأوقع، ثم قال: ومن لي بان أرجع؟ ووقع لهم قائماً ثم قال: افتديت في هذا الفعل بعمر بن عبد العزيز، فإنه وقف على متظلمٍ وأطال الوقوف حتى قضى حاجته وقال: إن الخير سريع الذهاب، وخشيت إن أفوته نفسي.
ولما ورد البريدي إلى بغداد مستولياً عليها متغلباً خوف منه وقيل: الصواب أن تهرب إلى الموصل فقال: أيهرب مخلوق إلى مخلوقٍ؟ أصرفوا ما أعددته لنفقة الطريق إلى الفقراء.

فلما دخل البريدي لم يكرم أحداً غيره، وكثر الموتان ببغداد في أيام البريدي، فكفن علي بن عيسى من الغرباء والفقراء ما لا يحصى كثرةً، حتى نفذ ما كان عنده فاستدان لذلك أموالاً كثيرةً، وكان يجري على خمسةٍ وأربعين ألف إنسان جراياتٍ تكفيهم، وخدم السلطان سبعين سنةً لم يزل فيها نعمةً عن أحدٍ، وأحصى له في أيام وزارته نيف وثلاثون ألف توقيعٍ من الكلام السديد، ولم يقتل أحداً ولا سعى في دمه، فبقيت عليه نعمته وعلى ولده بعد أن شحذت له المدى مراراً، فدفع الله عنه وأهلك ظالمه، ولم يهتك حرمةً قط لأحدٍ فلم يهتك الله له حرمةً مع كثرة نكباته، وكان على خاتمه مكتوب:
لله صنع خفي ... في كل أمرٍ يخاف
وكان له ابن يكنى أبا نصرٍ واسمه إبراهيم، وزر للمطيع في شهر ربيعٍ الأول سنة سبعٍ وأربعين، ومات في جمادى الأولى سنة خمسين وثلاثمائةٍ فجأةً. وابن يكنى أبا القاسم واسمه عيسى بن عليٍ كتب للطائع لله.
ودخل علي بن عيسى على أبي نصرٍ وأبي محمدٍ ولدى القاضي أبي الحسن عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف يعزيهما بموت أبيهما، فلما أرد الانصراف التفت إليهما وقال: مصيبة قد وجب أجرها، خير من نعمةٍ لا يؤدى شكرها. وهذا عندي من حر الكلام وفصل الخطاب.

علي بن عيسى الرماني
بن علي بن عبد الله الرماني أبو الحسن الزوراق، كذا قال الزبيدي. وقال التنوخي: وهو يعرف بالإخشيدي. قال التنوخي: وممن ذهب في زماننا إلى أن علياً عليه السلام أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعتزلة: أبو الحسن علي بن عيسى النحوي المعروف بابن الرماني الإخشيدي. قال المؤلف: أرى أنه كان تلميذ ابن الإخشيد المتكلم أو على مذهبه، لأنه كان متكلماً على مذهب المعتزلة، وله من ذلك تصانيف مأثورة، وكان إماماً في علم العربية علامةً في الأدب، في طبقة أبي علىٍ الفارسي وأبي سعيدٍ السيرافي. وكان قد شهد عند أبي محمد بن معروفٍ. مات في حادي عشر جمادى الأولى سنة أربعٍ وثمانين وثلاثمائةٍ في خلافة القادر بالله. ومولده في سنة ستٍ وسبعين ومائتين. أخذ عن ابن السراج وابن دريدٍ والزجاج. وله تصانيف في جميع العلوم من النحو واللغة والنجوم والفقه والكلام على رأي المعتزلة كما ذكرنا، وكان يمزج كلامه في النحو بالمنطق حتى قال أبو عليٍ الفارسي: إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معه منه شيء، وكان يقال: النحويون في زماننا ثلاثة: واحد لا يفهم كلامه وهو الرماني، وواحد يفهم بعض كلامه وهو أبو علي الفارسي، وواحد يفهم جميع كلامه بلا أستاذٍ وهو السيرافي.
وللرماني من التصانيف الأدبية: كتاب تفسير القران المجيد، كتاب الحدود الأكبر، كتا ب الحدود الأصغر، كتاب معاني الحروف، كتاب شرح الصفات، كتاب شرح الموجز لابن السراج، كتاب شرح الألف واللام للمازني، كتاب شرح مختصر الجرمي، كتاب إعجاز القران، كتاب شرح أصول ابن السراج، كتاب شرح سيبوبه، كتاب المسائل المفردات من كتاب سيبويه، كتاب شرح المدخل للمبرد، كتاب التصريف، كتاب الهجاء، كتاب الإيجاز في النحو، كتاب الاشتقاق الكبير، كتاب الاشتقاق الصغير، كتاب الألفات في القران، كتاب شرح المقتضب، كتاب شرح معاني الزجاج.
قرأت بخط أبن حيان التوحيدي في كتابه الذي ألفه في تقريظ الجاحظ - وقد ذكر العلماء الذين كانوا يفضلون الجاحظ - فقال: ومنهم علي بن عيسى الرماني فإنه لم ير مثله قط بلا تقيهٍ ولا تحاشٍ ولا اشمئزازٍ ولا استيحاشٍ علماً بالنحو، وغزارةً في الكلام وبصراً بالمقالات، و استخراجاً للعويص وإيضاحاً للمشكل، مع تألهٍ وتنزهٍ ودينٍ ويقينٍ وفصاحةٍ، وفقاهةٍ وعفافةٍ ونظافةٍ.
وقرأت بخط أبي سعدٍ: سمعت أبا طاهرٍ السنجي، سمعت أبا الكرم بن الفاخر النحوي، سمعت القاضي أبا القاسم علي بن المحسن التنوخي، سمعت شيخنا أبا الحسن على ابن عيسى الرماني النحوي يقول وقد سئل، فقيل له: لكل كتب ترجمه، فما ترجمة كتاب الله عز وجل؟ فقال: (هذا بلاغ للناس ولينذروا به).
وقال أبو حيان: سمعت علي بن عيسى يقول لبعض أصحابه: لا تعادين أحداً وإن ظننت أنه لن ينفعك، فإنك لا تدري متى تخاف عدوك أو تحتاج إليه؟ ومتى ترجو صديقك أو تستغني عنه؟ وإذا اعتذر إليك عدوك فاقبل عذره، وليقل عيبه على لسانك.

قال أبو حيان: ورأيت في مجلس علي بن عيسى النحوي رجلاً من مرو يسأله عن الفرق بين من وما، ومن ومم، فأوسع له الكلام وبين، وقسم وفرق، وحدومثل، وعلق كل شيءٍ منه بشرطه من غير أن فهم السائل أو تصور، وسأل إعادته عليه وإبانته له، ففعل ذلك مراراً من غير تصورٍ حتى أضجره، ومن حد الحلم أخرجه. فقال له: أيها الرجل، يلزمنى أن أبين للناس وأصور لمن ليس بناعسٍ، وما علي أن أفهم البهم والشقر والدهم، مثلك لا يتصور هذه المسألة بهذه العبارة وهذه الأمثلة، فإن أرحتنا ونفسك فذاك، وإلا فقد حصلنا معك على الهلاك، قم إلى مجلسٍ آخر ووقتٍ غير هذا. فأسمعه الرجل ما ساء الجماعة، وعاد بالوهن والغضاضة، ووثب الناس لضربه وسحبه، فمنعهم من ذلك أشد منعٍ بعد قيامه من صدر مجلسه ودفع الناس عنه وأخرجه صاغراً ذليلاً مهيناً والتفت إلى أبي الحسن الدقاق وقال له: متى رأيت مثل هذا فلا يكونن منك إلا التؤدة والاحتمال؟ وإلافتصير نظيراً لخصمك، وتعدم في الوسط فضل التمييز. وأنشا يقول:
ولولا أن يقال هجا نميراً ... ولم يسمع لشاعرها جوابا
رغبنا عن هجاء بني كليبٍ ... وكيف يشاتم الناس الكلابا؟

علي بن عيسى الربعي
بن الفرج بن صالحٍ الربعي الزهيري أبو الحسن النحوي، أحد أئمة النحويين وحذاقهم، أجيدي النظر الدقيق الفهم والقياس، أخذ عن أبي سعيد السير أفي وهاجر إلى شيراز فأخذ عن أبي عليٍ الفارسي ولازمه عشرين سنةً، فقال أبو عليٍ: ابقي شيء تحتاج إليه، ولوثرت من الشرق إلى الغرب لم تجد أعرف منك بالنحو، ثم رجع إلى بغداد فأقام بها إلى أن مات سنة عشرين وأربعمائةٍ عن نيفٍ وتسعين سنةً، وصنف تصاني منها: كتاب شرح الإيضاح لأبي عليٍ، كتاب شرح مختصر الجرمي، كتاب البديع في النحو، كتاب شرح البالغة، كتاب ما جاء من المبني على فعال، كتاب التنبيه على خطأ ابن جنيٍ في تفسيرٍ شعر المتنبي، كتاب شرح سيبويه إلا أنه غسله، وذاك أن أحد بني رضوان التاجر نازعه في مسألةٍ فقام مغضباً وأخذ شرح سيبويه وجعله في إجانةٍ وصب عليه الماء وغسله، وجعل يلطم به الحيطان ويقول: لا أجعل أولاد البقالين نحاةً. وكان مبتلىً بقتل الكلاب وكسر سوقهم ويقول: ما الذي يمنعهم من نزول الشط؟ فقيل له: يمنعهم كلاب القصابين وسأل يوماً أولاد الأكابر الذين يحضرون مجلسه أن يمضوا معه إلى كلواذي فظنوا ذلك لحاجة عرضت له مناك، فركبوا خيولا وجعل وهو يمشي بين أيديهم وسألوه الركوب فأبى عليهم، فلما صار بخرابها وقفهم على ثلم وأخذ كساء وعصا، وما زال يعدو إلى كلب هناك والكلب يثب عليه تارة ويهرب منه أخرى حتى أعياه، نوه حتى أمسكوه وعض على الكلب بأسنانه عضا شديدا والكلب يستغيث ويزعق، فما تركه حتى اشتفى وقال: هذا عضني منذ أيام وأريد إن أخالف قول الأول:
شاتمني كلب بني مسمع ... فصنت عنه النفس والعرضا
ولم أجبه لاحتقاري له ... من ذا يعض الكلب إن عضا؟
وكان يوما يمشي على شاطئ دجلة والرضى والمرتضى العلويان في زيزي ومعهما أبو الفتح عثمان بن جنىٍ فقال لهما: من أعجب أحوال الشريفين أن يكون عثمان بن جنىٍ فقال لهما: من أعجب أحوال الشريفين أن يكون عثمان جالساً معهما في الزبزب وعلي يمشي على الشط بعيداً منهما. حدث أبو غالبٍ محمد بن بشران النحوي الواسطي قال: قدم علينا علي بت عيسى الربعي النحوي الى واسط ونزل في حجرة في جوار شيخنا أبي إسحاق يوماً: قد انعكفت على هذا المجنون؟ فقلت له: إنه يحكي النحو عن أبي عليٍ كما أنزل. فقال: صدقت، وهو يحكي النحو عن أبي عليٍ كما أنزل. وحدث ابن بشكوال في كتاب الصلة في أخبار علماء الأندلس قال: قال الربعي: كان عبد الله بن حمودٍ الزبيدي الأندلسي قد قرأ يوماً على أبي عليٍ في نوادر الأصمعي: أكأت الرجل: إذا رددته عنك، فقال أبو عليٍ: ألحق هذه الكلمة بباب أجأ فإني لم اجد لها نظيراً غيرها، فسارع من حوله إلى كتابتها. وقال الربعي: فقلت أيها الشيخ: ليس أكأت من أجأ في شيءٍ. قال: وكيف ذلك؟ قال: قلت لأن إسحاق بن إبراهيم الموصلي وقطرباً النحوي حكيا إنه يقال: كيأ الرجل: إذا جبن، فخجل الشيخ وقال: إذا كان كذا فليس منه، فضرب كل واحدٍ منهم على ما كتب.

قرأت بخط هلال بن المظفر الريحاني في كتابٍ ألفه: ذكر غير واحدٍ من أهل زنجان أن رجلاً منها يعرف بجابر بن أحمد خرج إلى بغداد متأدباً، فحين دخل قصد بن عيسى النحوي بعد أن لبس ثياباً فاخرةً عطرةً وتجمل وتزين ودخل عليه وسلم. فقال له علي بن عيسى: من أين الفتى؟ قال: من الزنجان بألفٍ ولامٍ، فعلم الربعي أن الرجل خالٍ من الفضل فقال: متى وردت؟ قال: أمس. فقال: جئت راجلاً أم راكباً؟ فقال: بل راكباً. قال: المركوب مكترىً أم مشترىً؟ قال: بل مكترىً. فقال الشيخ: مر واسترجع الكرى فإنه لم يحمل شيئاً، ثم أنشد الشيخ:
وما المرء إلا الأصغران لسانه ... ومعقوله والجسم خلق مصور
فإن طرة راقتك فاخبر فربما ... أمر مذاق العود والعود أخضر
قال علي بن عيسى الربعي: استدعاني عضد الدولة وبين يديه الحماسة فوضع يده على باب الأضياف وقال: ما تقول في هذه الأبيات؟:
ومستنبحٍ بات الصدى يستتيهه ... إلى كل صوتٍ وهو في الرجل جانح
فقلت لأهلي: ما بغام مطيةٍ ... وسارٍ أضافته الكلاب النوابح؟
فقلت: هذا قول عقبة بن بجير الحارث، ومعناه: أن العرب كانت إذا ضلت في سفر وصارت بحيث تظن أنها قريبة من حلةٍ نبحت لتسمعها الكلاب فتجيبها، فيعرفون به موضع القوم فيقصدونه ويستضيفون فيضافون فقال: إن قوماً يتشبهون بالكلاب حتى يضافوا لأدنياء النفوس، فوجمت بين يديه وأنا واقف وهو ينظر إلي، وكان من عاداتنا أنه ما دام ينظر إلى أحدنا لم يزل واقفاً بين يديه حتى يرد طرفه. قال: ثم فكر فقال: لا بل إن أقواماً يستنبحون في هذا القفر والمكان الجدب فيستضيفون فيضافون مع الإقلال والعدم لقوم كرامٍ وأمر لي بجائزةٍ فدعوت له وانصرفت.
قرأت بخط ابي الكرم المبارك بن الفاخر بن محمد ابن يعقوب: قال لنا الرئيس أبو البركات جبر بن علي ابن عيسى الربعي: قال لي أبي: أخرج إلى عضد الدولة بيده مجلداً بأدمٍ مبطنٍ بديباجٍ أخضر في أنصاف السلطاني مذهبٍ مفصولٍ بالذهب بخطٍ أحسن، فيه شعر مدبر وحسن ليس له معنىً. فقال لي: كيف ترى هذا الشعر؟ فقلت: شعر مدبر والذي قاله خرب البيت مسود الوجه، ثم يمضي على ذلك زمان، ودخلت إليه فأومأ إلى خادم وقال له: امض إلى مرقدنا وجئنا بشعرنا، فمضي وجاء بالمجلد بعينه وهو هو فأبلست فقال: كيف تراه؟ وتلجلج لساني وربا في فمي، فقلت حسناً جيداً، ولم ير في ذلك شيئاً ألبته.
قرأت بخط الشيخ أبي محمد بن الخشاب: جاريت الشيخ أبا منصورٍ موهوب بن الجواليقي ذكر أبي الحسن علي بن عيسى بن صالح بن الفرج الربعي صاحب أبي علي الفارسي، فأخذت في تقريظه وتفضيله وقال لي: كان يحفظ الكثير من أشعار العرب مما لم يكن غيره من نظرائه يقوم به، إلا أن جنونه لم يكن يدعه يتمكن منه أحد في الأخذ عنه والإفادة منه. قال: وقال لي الشيخ أبو زكرياء: سألت أبا القاسم بن برهان فقلت له: يا سيدنا، تترك الربعي والأخذ عنه مع إدراكك إياه وتأخذ عن أصحابه؟ فقال لي: كان مجنوناً وأنا كما ترى، فما كنا؟ قال: ولقد مر يوماً بسكران ملقي على قارعة الطريق فحل سرواله يعني سروال الربعي، وجلس على أنفه وجعل يضرط ويشمه السكران ويقول له:
تمتع من شميم عرار نجدٍ ... فمابعد العشية من عرار

علي بن عيسىيعرف بابن وهاش
ٍ
بن حمزة بن وهاس، أبي الطيب يعرف بابن وهاشٍ، من ولد سليمان بن حسن بن علي ابن أبي طالب عليه السلام. وذكر العماد في موضعٍ آخر عن دهمس بن وهاس بن عتود بن حازم بن وهاس الحسني: أن علي بن عيسى مات بمكة في سنة نيفٍ وخمسمائةٍ. وكان في عشر الثمانين، وكان أصله من اليمن من مخلاف ابن سليمان، وكان شريفاً جليلاً هماماً من أهل مكة وشرفائها وأمرائها، وكان ذا فضلٍ غزيرٍ. وله تصانيف مفيدة وقريحة في النظم والنثر مجيدة، قرأ على الزمخشري بمكة وبرز عليه، وصرفت أعنة طلبة العلم إليه، وتوفي في أول ولاية الأمير عيسى بن فليته أمير مكة في سنة نيفٍ وخمسين وخمسمائةٍ، وكان الناس يقولون: ما جمع الله لنا بين ولاية عيسى وبقاء علي بن عيسى.
وله شعر منه في مرثية الأمير قاسمٍ جد الأمير عيسى:
يا حادي العيس على بعدها ... وخادةً تسحب فضل النعال

رفه عليهن فلا قاسماً ... لها على الأين وفرط الكلال
غاض النمير العذب يا وارداً ... وحال عن عهدك ذاك الزلال
إن يمض لا يمض بطئ القرى ... أو يود لا يود ذميم الفعال
وله مدح في الزمخشري ذكرته في ترجمته. ومن شعره:
صلى حبل الملاءمة أو فبتى ... وكفى من عتابك أو أشتى
هي الأنضاء عزمة ذي همومٍ ... فحسبك والملام ولا هبلت
إليك فلست ممن يطبيه ... ملام أو يريع إذا أهبت
حلفت بها تواهق كالحنايا ... بقايا ما بها كثمال قلت
سواهم كالحنايا زاحراتٍ ... تركع من وجىً ودباً وعنت
جوازع بطن نخلة عابراتٍ ... تؤم البيت من خمسٍ وستٍ
أزال أديب أنضاءً طلاحاً ... بكل ملمع القفرات مرت
وأرغب عن محل فيه أضحت ... حبال المجد تضعف عند متى
أما جربت يا أيام منى ... فروك تجمعٍ وحليف شت
أبي ما عجمت صفاه إلا ... وأثر في نيوبك ما عجمت
ورب أخٍ كريم المجد محضٍ ... يراع لدعوتي كالسيف صلت
أبت نفسي فلم تسمح إليه ... بشكوى غير ما جلدٍ وصمت
أقول لنفسي المشفاق مهلاً ... أليس على الزرية ما صبرت؟
لئن فارقت خير عراً لأهلٍ ... فخيربني أبيك به نزلت
وكتب إلى عمته وقد أرسلت تقول له: كم هذا البعد عنا والتغرب؟:
ومهدية عندي على نأى دراها ... رسائل مشتاقٍ كريمٍ وسائله
تقول: إلى كم يا بن عيسى تجنباً ... وبعداً وكم ذا عنك ركباً نسائله؟؟
فيوشك أن تودى وما من حفيةٍ ... عليك ولا بالٍ بما أنت فاعله
فقلت لها: في العيس والبعد راحة ... لذي الهم إن أعيت عليه مقاتله
وفي كاهل الليل الخدارى مركب ... وكم مرةٍ نجى من الضيم كاهله
إذا لم تعادلك الليالي بصاحب ... ولاسمحت بالنجح عفواً أنامله
فلا خير في أن ترأم الضيم ثاوياً ... وغيظاً على طول الليالي تماطله
ذريني فلي نفس أبي إن يدرها ... عصاب وقلب يشرب اليأس حامله
إذا سيم ورداً بعد خمس تشمرت ... عن الماء خوف المقذعات ذلاذله

علي بن فضال بن علي
بن غالب بن جابر بن عبد الرحمن ابن محمد بن عمرو بن عيسى بن حسن بن زمعة بن هميم بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم - هكذا وجدته هميم والمعروف همام، وهو الفرزدق الشاعر، لأن ابن فضال يعرف بالفرزدقي - القيرواني النحوي أبو الحسن المجاشعي، هجر مسقط رأسه ورفض مألوف نفسه، وطفق يدوخ بسيط الأرض ذات الطول والعرض، يشرق مرةً ويغرب أخرى، ويركب القفار ويأوي إلى ظل الأمصار برهةً حتى ألم بغزنة فألقى عصاه بها، ودرت له أخلافها فلقى وجه الأماني، وصنف عدة تصانيف بأسامي أكابر غزنة سارت في البلاد، ثم عاد إلى العراق وانخرط في سلك خدمة نظام الملك مع أفاضل العراق، ولم تطل أيامه حتى نزل به حمامة، وكان إماماً في النحو واللغة والتصنيف والتفسيروالسير. صنف كتاب التفسير الكبير الذي سماه البرهان العميدي في عشرين مجلداً، وكتاب النكت في القران، وكتاب شرح بسم الله الرحمن الرحيم وهو كتاب كبير، وكتاب إكسير الذهب في صناعة الأدب والنحو في خمسة مجلداتٍ، وكتاب العوامل والهوامل في الحروف خاصةً، وكتاب الفصول في معرفة الأصول، وكتاب الإشارة في تحسين العبارة، وكتاب شرح عنوان الأعراب، وكتاب المقدمة في النحو، وكتاب العروض، وكتاب شرح معاني الحروف، وكتاب الدول في التاريخ.

رأيت في الوقف السلجوقي ببغداد منه ثلاثين مجلداً ويعوزه شيءآخر، وكتاب شجرة الذهب في معرفة أئمة الأدب. وقيل إنه صنف كتاباً في تفسير القران في خمسٍ وثلاثين مجلداً سماه كتاب الإكسير في علم التفسير، وكتاب معارف الأدب كبير نحو ثمانية مجلداتٍ. وله غير ذلك من الكتب في فنونٍ من العلم، وأقام ببغداد مدةً وأقرأ بها النحو واللغة، وحدث بها عن جماعةٍ من شيوخ المغرب. وذكر هبة الله السقطي أنه كتب عن ابن فضالٍ أحاديث قال: فعرضتها على عبد الله بن سبعون القيرواني لمعرفته برجال الغرب فأنكرها وقال: أسانيدها مركبة على متونٍ موضوعةٍ، واجتمع عبد الله بن سبعون في جماعةٍ من المحدثين وأنكروا عليه فاعتذر وقال: إني وهمت فيها. وذكره عبد الغفار الفارسي فقال: ورد نيسابور واختلفت إليه فوجدته بحراً في علمه. ما عهدت في البلديين ولا في الغرباء مثله في حفظه ومعرفته وتحقيقه، فأعرضت عن كل شيء وفارقت المكتب ولزمت بابه بكرةً وعشيةً وكان على وقارٍ.
قال السمعاني: سمعت ابن ناصرٍ يقول: مات ابن فضالٍ في ثاني عشر ربيعٍ الأول سنة تسعٍ وسبعين وأربعمائةٍ، ودفن بباب أبرز، قال شجاع الذهلي: أنشدنا ابن فضالٍ لنفسه:
لا عذر للصب إذا لم يكن ... يخلع في ذاك العذار العذار
كأنه في خده إذ بدا ... ليل تبدى طالعاً من نهار
تخاله جنح الظلام وقد ... صاح به ضوء صباحٍ فحار
وقال أبو الحسن المبارك بن عبد الجبار الصيرفي: أنشدنا ابن فضالٍ لنفسه:
كأن بهرام وقد عارضت ... فيه الثريا نظر المبصر
ياقوته يعرضها بائع ... في كفه والمشتري مشتري
ومن شعره:
أخذ العلم عن رواية واجتلب الهدى ... وإن كان راوية أخا عملٍ زارى
فإن رواة العلم كالنخل يانعاً ... كل التمر منه واترك العود للنار
قال عبد الغفار بن اسماعيل: وأنشدني ابن فضالٍ لنفسه:
يا يوسفي الجمال عبدك لم ... يبق له حيلة من الحيل
إن قد فيه القميص من دبرٍ ... قد قد فيه الفؤاد من قبل
وأنشد السمعاني بإسناده لعلي بن فضالٍ المجاشعي في ترجمة صاعد بن سيارٍ الهروي:
وإخوانٍ حسبتهم دروعاً ... فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهاماً صائباتٍ ... فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا: قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادي
وأنشد له صاحب الوشاح في نظام الملك:
دوراس أيٍ ما تكاد تبين ... عفا هن دمع للسحاب هتون
وقفنا بها مستلهمين فلم يزل ... لسان البلى عن عجمهن يبين
وما خفت أن تبدى خفي سرائري ... مواثل أمثال الجماجم جون
على حين عاصيت الصبا وهو طائع ... وأرخصت علق اللهو وهو ثمين
أرى المزن يهوى رسم من قد هويته ... فلي وله دمع به وحنين
سقى الله حيث الظاعنون سحائباً ... فقلبي حيث الظاعنون رهين
فكم ضمنت أحداجهم من جآذرٍ ... أوانس ينضوها جآذر عين
وأقمار تمٍ لم ير الناس قبلها ... بدوراً تثنى تحتهن غصون
يجردن من ألحاظهن صوارماً ... مهندةً: أجفانهن جفون
وأنشد له:
والله إن الله رب العباد ... وخالص النية والإعتقاد
ما زادني صدك إلاهوى ... وسوء أفعالك إلا وداد
وإنني منك لفي لوعةٍ ... أقل ما فيها يذيب الجماد
فكن كما شئت فأنت المنى ... واحكم كما شئت فأنت المراد
وما عسى تبلغه طاقتي ... وإنما بين ضلوعي فؤاد
ومما نقلته من السمعاني لابن فضالٍ:
فتنتني أم عمروٍ ... وكذاك الصب مفتون
قلت: جودى لكئيبٍ ... مستهامٍ بك محزون
فلوت عني وقالت: ... أترى ذا المرء مجنون
ما رأى الناس جميعاً ... في كتاب الله يتلون
لن تنالوا البر حتى ... تنفقوا مما تحبون؟

وفي كتاب سر السرور لابن فضالٍ:
ما هذه الألف التي قد زدتموا ... فدعوتم الخوان بالإخوان
وزادني الحافظ شمس الدين أبو نصرٍ عبد الرحيم بن وهبان:
ما صح لي أحد فأجعله أخاً ... في الله محضاً أو ففي الشيطان
إما مولٍ عن ودادي ما له ... وجه وإما من له وجهان
وحدث محمد بن طاهرٍ المقدسي وكان كما علمت وقاعةً في كل من انتسب إلى مذهب الشافعي لأنه كان حنبلياً. سمعت ابراهيم بن عثمان الأديب الغزي بنيسابور يقول: لما دخل أبو الحسن بن فضالٍ النحوي نيسابور واقترح عليه الأستاذ أبو المعالي بن الجويني أن يصنف باسمه كتاباً في النحو وسماه الإكسير وعده إن يدفع إليه ألف دينارٍ، فلما صنفه وفرغ منه ابتدأ بقراءته عليه، فلما فرغ من القراءة انتظر أياماً أن يدفع إليه ما وعده أو بعضه فلم يدفع شيئاً، فأنفذ إليه الأستاذ: عرضي فداؤك ولم يدفع إليه حبةً واحدةً. قلت أنا: وبلغني عقيب ذلك ورد بغداد وأقام بها ولم يتكلم بعد في النحو وصنف كتابه في التاريخ. ومن شعره الذي أورده السمعاني:
أحب النبي وأصحابه ... وأبغض مبغض أزواجه
ومهما ذهبتم إلى مذهبٍ ... فمالي سوى قصد منهاجه
قال السلفي: قال الرئيس أبو المظفر: أنشدني أبو القاسم ابن ناقيا في ابن فضالٍ المجاشعي المغربي قال: ودخلت دار العلم ببغداد وهو يدرس شيئاً من النحو في يومٍ باردٍ فقلت:
أليوم يوم قارس بارد ... كأنه نحو ابن فضال
لا تقرءوا النحو ولا شعره ... فيعتري الفالج في الحال

علي بن الفضل المزني
أبو الحسن النحوي نقلت من خط أبي سعيد عبد الرحمن بن عليٍ اليزدادي في كتابه المسمى: جلاء المعرفة، تعرض فيه للمأخذ على العلماء قال: وكان قرئ كتاب الكرماني في النحو على أبي الحسن المزني، وقرأة هو على أبيه، وأبوه على الكرماني، وفضل أبي الحسن في عصره على من كانت تضرب إليه آباطل الأبل في العراق لاقتباس العلم منه. وكان ابن جريرٍ يحثه أبداً على قصد العراق علماً منه بانه لو دخل بغداد لقبل فوق قبول غيره، ولكان الأستاذ المقدم، وبلغ من فضل علمه أنه صنف كتاباً في علم بسم الله الرحمن الرحيم، وسماه البسملة ويقع في ثلاثمائة ورقةٍ، وله في النحو والتصريف مصنفات لطيفة نافعة، وقد روى المزني عن اسحاق بن مسلمٍ، عن أبي سعيد الضرير.
علي بن القاسم القاشاني
الكاتب أبو الحسن ذكره الثعالبي فقال: بقية مشيخة الكتاب المتقدمين في البراعة، المالكين أزمة البلاغة، المتوقلين في هضبات المجد، المترقين في درجات الفضل والرسائل الجيدة، والأشعار الرائقة. فمن رسائله: كتابي - أطال الله بقاء مولاي - وأنا متردد بين جذلٍ لتجدد بره في خطابه، وبين خجل من قوارع زجره وعتابه، فإذا خليت عنان أنسي في رياض مبارة فرتعت، جاذبيته لاعج الإشفاق من سوء ظنه ففرغت، ولو كنت جانياً لاعتذرت، أو كان سوء ظنه بي صادقاً لاعترفت، ولعذت منه بحقوى كريمٍ لا يبهضه اغتفار الجرائر، ولا يتعاظمه الصفح عن الكبائر.
فصل: علقت هذه المخاطبة والأشغال تكتنفني، وكد الخاطر بأسبابٍ شتى يقتسمني، ووراء ذلك كلال الذهن بارتقاء السن، ونقصان الخواطر بزيادة الشواغل، واستمرار البلادة لمفارقة العادة، ومولاي - والله يعيذه من السوء - مقتبل الشباب، زائد الأسباب، مؤتنف المخائل، متجدد الفضائل، إلى علمٍ لا يدرك مضماره، ولا يشق غباره، فإذا حملني على مساجلته فقد عرضني للتكشف، وإن عرضني على محنة التتبع فقد سلبني ثوب التجمل.
فصل: وصل كتاب مولاي:
فكم فرحةٍ أدى وكم كربةٍ جلى ... وكم بهجةٍ أولى وكم غمةٍ سلا
وسألت الله واهب خصال الفضل له، وجامع خلال النبل فيه، وحائز جمال المروءة للزمان ببقائه، ومانح كمال المزية للإخوان بمكانه، أن يتولى حفظ النعم النفيسة، ويديم حياطة هذه المنائح الخطيرة بصيانة تلك الشيم العلية، حتى تستوفي المكارم أعلى حظها في أيامه، وتجوز الفضائل أقصى غاياتها في مضماره:
فينجح ذو فضلٍ ويكمد ناقص ... ويبهج ذو ودٍ ويكبت حاسد

فصل: وما أرتضي نفسي لمخاطبة مولاي إلا إذا كنت منفي الشواغل فارغ الخواطر، مخلى الجوارح مطلق الإسار سليم الأفكار، فكيف بي مع كلال الحد وانغلاق الفهم، واستبهام القريحة واستعجام الطبيعة، والمعول على النية وهي لمولاي بظهر الغيب مكشوفة، والمرجع إلى العقيدة وهي بالولاء المحض معروفة، ولا مجال للعتب بين هذه الأحوال، كما لا مجاز للعذر وراء هذه الخلال، وكتب إلى الصاحب أبي القاسم بن عبادٍ قصيدةً منها:
إذا الغيوم ارجحن باسقها ... وحف أرجاءها بوارقها
وابتسمت فرحةً لوامعها ... واحتفلت عبرةً حمالقها
وقيل: طوبى لبلدةٍ نتجت ... بجو أكنافها بوارقها
فليسق غيث الندى أبا القاسم ال ... قرم وزير الأنام وادقها
وهي طويلة ثم قال: هذه - أطال الله بقاء مولاي - نتائج أريحيةٍ أثارتها مخاطبات مولاي، التي هي أنقع لغلتي من برد الشراب، وأعجب إلى من برد الشباب، فجاش الصدر بما أبرأ إليه من عهدته، وأسكنه ظل أمانته وذمته، ليسبل عليه ستر مودته، ويتأمله بعين محبته. نعم وقد محا الزمان آثار اساءته إلي، بما أسعفني به من إقبال مولاي علي، وتتابع بره في مخاطباته لدى، فكل ذنبٍ لهذه النعمة مغفور، وكل جنايةٍ بهذا الإحسان مغمور. وأجابه الصاحب بكتابٍ صدره بأبياتٍ منها:
بدت عذارى مدت سرادقها ... وأقسم الحسن لا يفارقها؟
كواعب أخرست دمالجها ... عنا وقد أقلقت مناطقها؟
أم روضة أبرزت محاسنها ... ومايني قطرها يعانقها؟
أم أشرقت فقرةً بدائعها ... حديقة زانها طرائقها؟
لله حلف العلا أبو حسنٍ ... وقد جرت للعلا سوابقها
لله تلك الألفاظ حاملةً ... غو معان تعيا دقائقها
يكاد إعجازها يشككنا ... في سورٍ أنها توافقها
وهي طويلة، هذه - أطال الله عمر مولاي - أبيات علقتها والروية لم تعتلقها، وأعنقت فيها و الفكرة لم تعتنقها، لاثقةً بالنفس ووفائها، وسكوناً إلى القريحة وصفائها، بل علماً باني وإن أعطيت الجهد عنانه، وفسحت للكد ميدانه، لم أدان ما ورد من ألفاظٍ أيسرما أصفها به الامتناع على الوصف أن يتقصاها، والبعد عن الإطناب أن يبلغ مداها، ولقد قرع سمعي منها ما أراني العجز يخطر بين أفكاري، والقصور يتبختر بين إقبالي وإدباري، إلى أن فكرت في أن فضيلة المولى تشتمل عبده، وتخيم وإن تصرفت عنده، فثاب إلى خاطر نظمت به ما إن طالعه صفحاً وجوداً رجوت إن يحظى بطائل القبول، وإن تتبعه نقداً تراجع على أعقاب الخمول، هذا ولا عار على من سبقه سباق الأقران المستولى على قصب الرهان. ومن شعر القاشاني المشهور:
وإني وإن أقصرت عن غير بغضةٍ ... لراعٍ لأسباب المودة حافظ
وما زال يدعوني إلى الصد ما أرى ... فآبى ويثنيني إليك الحفائظ
وأنتظرالعتبى وأغضى على القذى ... ألاين طوراً في الهوى وأغالظ

علي بن القاسم السنجاني أبو الحسن
وسنجان قصبة خواف. ذكره الباخرزي فقال: هو صاحب كتاب مختصر العين، ومحله من الأدب محل العين من الإنسان، ومحل الإنسان من العين، وقد سهل طريق اللغة على طالبيها، وأدنى قطوفها من متناوليها باختصاره كتاب العين، ولا تكاد ترى جحورالمتأدبين منه خاليةً، وله شعر الزهاد وقد جرى فيه على سمت العباد، ونسجه على منوال أولى الاجتهاد، فمما وقع إلى منه قوله:
خليلي قوما فاحملا لي رسالةً ... وقولا لدنيانا التي تتصنع
عرفناك يا خداعة الخلق فاعزبي ... ألسنا نرى ما تصنعين ونسمع؟
فلا تتحلى للعيون بزينةٍ ... فإنا متى ما تسفرى نتقنع
نغطي بثوب اليأس منا عيوننا ... إذا لاح يوماً من مخازيك مطمع
وهل أنت إلامتعة مستعارة؟ ... فلم يهننا مما رعيناه مرتع
فأنت خلوب كالغمامة كلما ... رجاها مرجى الغيث ظلت تقشع
طلوع قبوع كالمغازلة التي ... تطلع أحياناً وحيناً تقبع
وله يرثي نفسه:

دبت إلى بنات الأرض مسرعةً ... حتى تمشين في قلبي وفي كبدي
والعين من فويق الخد سائلة ... وطالما كنت أحميها من الرمد

علي بن المبارك اللحياني
وقيل على بن حازم ويكنى أبا الحسن، أخذ عن الكسائي، وأخذ عنه أبو عبيدٍ القاسم بن سلامٍ. وله كتاب النوادر. قال أبو الطيب اللغوي في كتاب مراتب النحويين: وممن أخذ عن الكسائي أبو الحسن علي بن حازم الختلي اللحياني من بني الحيان بن هذيل بن مدركة ابن إلياس بن مضر صاحب كتاب النوارد، وقيل سمى اللحياني لعظم لحيته.
حدثني أبو عمر الزاهد عن أبي عمرو بن الطوسي عن أبيه عن اللحياني قال أبو عمر: وسمعت ثعلباً يقول: قال الأحمر: خرجت من عند الكسائي ذات يوم فإذا اللحياني جالس فقال لي: أحب أن تدخل فتشفع لي إلى الكسائي لأقرأ عليه هذه النوادر. قال: فدخلت إلى الكسائي فقلت له. فقال: هو بغيض ثقيل الروح. قال الأحمر: وكان اللحياني ورعاً. قال: فقلت له: أحب أن تفعل فأجابني فخرجت الى اللحياني فقلت له: قد قال كذا وكذا فلم لا تنبسط معه؟ فقال: دعني وإياه. قال اللحياني: فدخلت عليه وهو جالس على كرسيٍ ملوكيٍ وعليه بغداديه مشهرة على رأسه بطيخية وبيده كسرة سميدٍ وهو يفتها للحمام. قال ثعلب: وكان السلطان قد أفسده. قال: فقال لي: ما تقول في النبيذ؟ قلت أنا؟ قال: نعم، قلت أحسوه ثم أفسوه. قال: فضحك مني وقال: أنت ظريف فاكتم ما سمعت وأقرأ ما شئت، فقرأت عليه وخرجت فإذا الحجارة تأخذ كعبي فالتفت أقول من ذا؟ فإذا هو من منظر له يقول: من كنت تقرأ عليه حتى صدعته اليوم. قال أبو الطيب: وقد أخذ اللحياني عن أبي زيدٍ وأبي عمرو الشيباني وأبي عبيدة والأصمعي وعمدته على الكسائي، وكذلك أهل الكوفة كلهم يأخذون عن البصريين، وأهل البصرة يمنعون من الأخذ عنهم، لأنهم لا يرون الأعراب الذي يحكون عنهم حجةً.
قال ابن جنىٍ في الخصائص: ذاكرت يوماً أبا علي بنوادر اللحياني فقال: كناسة. قال: وكان أبو بكرٍ محمد ابن الحسن بن مقسمٍ يقول: إن كتابه لا يصله به رواية وقدحا فيه وغضا منه.
علي بن المبارك ابي المعالي بن علي
ابن المبارك بن عبد الباقي بن بانوية أبو الحسن المعروف بابن الزاهدة النحوي صاحب ابن الخشاب وليس بابن الزاهد، فإن في اصحاب ابن الخشاب آخر يعرف بابن الزاهد بغير هاء، وهو أحمد بن هبة الله مذكور في بابه. والزاهدة هذه التي يعرف بها أمه، واسمها أمة السلام المباركة بنت ابراهيم بن علي بن أبي الحسن بن أبي الحربش، وكانت واعظةً مشهورةً روت الحديث، مات ابن الزاهدة هذا في ثالث ذي الحجة سنة أربعٍ وتسعين وخمسمائةٍ، ودفن عند والدته برباط لهم بدرب البقر بمحلة الظفرية، وكان أيضاً يسكن بالظفرية في حياته، وكانت له معرفة جيدة بالنحو، قرأ على الشريف أبي السعادات بن الشجري، ثم على الشيخ أبي محمد ابن الخشاب، وأقرأ العربية مدةً وسمع منه الطلبة وأنشدت له:
إذا سام بمعنى الوقت يبنى لأنه ... يضمن معنى الشرط موضعه نصب
ويعمل فيه النصب معنى جوابه ... ومابعده في موضع الجر يا ندب
وله في كتاب الخريدة من قصيدةٍ كتبها إلى صلاح الدين:
ألا حييا بالرقمتين المعالما ... وإن كن قد أصبحن درساً طواسما
ومن مديحها:
إذا كانت الأعداء فعلاً مضارعاً ... أصار مواضيه الحروف الجوازما
علي بن المحسن أبو القاسم التنوخي
قال السمعاني في كتاب النسب: هو أبو القاسم علي ابن المحسن بن علي بن محمد بن أبي الفهم، واسم أبي الفهم داود بن ابراهيم بن تميم بن جابر بن هانئ بن زيد بن عبيد بن مالك بن مربط بن شرح بن نزار بن عمرو بن الحارث بن عمرو بن فهم بن تيم بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن الحاف بن قضاعة. سمع أبا الحسن علي بن أحمد بن كيسان النحوي، واسحاق بن سعد بن الحسن بن سفيان النسوي، وروى عنه الخطيب فأكثر، وكان قد قبلت شهادته عند الحكام في حداثته، مات فيما ذكره عبد الله بن علي بن الآبنوسي في سنة سبع وأربعين وأربعمائةٍ في محرمها. قال الخطيب: وسألته عن مولده فقال: ولدت بالبصرة في النصف من شعبان سنة سبعين وثلاثمائةٍ.

قال: وكان معتزلياً، قال: وكان عنده كتاب القدر لجعفر الفريابي، وكان أصحاب الحديث يتحاشون من مطالبته بإخراجه، فطالبته به وقرأته عليه، وسمعوا أو كما قال. وكان التنوخي ساكتاً لم يعترض على شيء من تلك الأحاديث.
قال: وكان دخل التنوخي كل شهرٍ من القضاء ودار الضرب وغيرهما ستين ديناراً، فيمر الشهر وليس له شيء، وكان ينفق على أصحاب الحديث، وكان الخطيب والصوري وغيرهما يبيتون عنده، وكان ثقة في الحديث متحفطاً في الشهادة محتاطاً صدوقاً، وتقلد قضاء عدة نواحٍ منها المدائن وأعمالها ودرزيجان والبردان وقرميسين.
وحدثنا الهمذاني في تاريخه بعد ذكر مولده ووفاته كما تقدم ثم قال: وكان ظريفاً نبيلاً فاضلاً جيد النادرة.
قال القاضي أبو عبد الله بن الدامغاني: دخلت على القاضي أبي القاسم التنوخي قبل موته بقليلٍ وقد علت سنه فأخرج إلى ولده من جاريته، فلما رآه بكى فقلت: تعيش إن شاء الله وتربيه ويقر الله عينك به، فقال: هيهات والله ما يتربى إلا يتيماً وأنشد:
أرى ولد الفتى كلاً عليه ... لقد سعد الذي أمسى عقيما
فاما أن يخلفه عدوا ... واما أن يربيه يتيما
ثم قال: أريد أن تزوجني من أمه - فإنني قد أعتقتها - على صداق عشرة دنانير ففعلت، وكان كما قال تربى يتيما، وهو أبو الحسن محمد بن علي بن المحسن. قبل القاضي أبو عبد الله شهادته، ثم مات سنة أربعٍ وتسعين وأربعمائة وانقرض بيته.
قال أبو الحسن بن أبي الحسين: ولد لأبي القاسم التنوخي ولد في سنة نيفٍ وأربعين وأربعمائةٍ. فقال له رئيس الرؤساء: أيها القاضي، كنت منذ شهورٍ قريبةٍ قلت لي: إنك لا تعرف هذا الشأن، الذي يكون منه الأولاد منذ سنين، وإنه لا حاسة بقيت لك ولا شهوة ولا قدرة على هذا الفن، وأنت اليوم تقر عندي بولدٍ رزقته، ففي أي القولين أنت كاذب أيها القاضي؟ فقال: اللهم غفراً، اللهم غفراً، وخجل وقام. قال: واجتاز يوماً في بعض الدروب فسمع امرأةً تقول لأخرى: كم عمر بنتك يا أختي؟ فقالت لها: رزقتها يوم شهر بالقاضي التنوخي وضرب بالسياط، فرفع رأسه إليها وقال: يا بظراء صار صفعي تاريخك وما وجدت تاريخاً غيره؟ وكان أعمش العينين لا تهدأ جفونه من الانخفاض والارتفاع والتغميض والانفتاح، فقال فيه أبو القاسم بن بابك الشاعر:
إذا التنوخي انتشا ... وغاض ثم انتعشا
أخفى عليه إن مشي ... ت وهو يخفى إن مشا
فلا أراه قلةً ... ولايراني عمشا
وكان تولى دار الضرب فقال البصروي فيه:
وفي أمض الأعمال قاضٍ ... ليس بأعمى ولا بصير
يقضم ما يجتبى إليه ... قضم البراذين للشعير
قال غرس النعمة: حدثت أنه جاء رجل إلى التنوخي على الطريق وهو راكب حماره وأعطاه رقعةً وبعد مسرعاً ففتحها وإذا فيها:
إن التنوخي به أبنة ... كأنه يسجد للفيش
له غلامان ينيكانه ... بعلة التزويج في الخيش
فلما قرأها قال: ردوا ذاك زوج القحبة الذي أعطاني الرقعة، فعدوا وراءه فقال: هذه الرقعة منك؟ فقال: لا، أعطانيها بعض الناس وأمرني أن أوصلها اليك، قال: قل له: يا كشخان يا قرنان يا زوج ألف قحبةٍ، هات زوجتك وأختك وأمك إلى داري، وانظر ما يكون مني إليهم، واحكم ذلك الوقت بما حكمت به في رقعتك أو بضده، قفاه قفاه، فصفعوه وافترقا.
قال غرس النعمة: حدثني أبو سعدٍ الماندائي قال: دخلت يوماً على القاضي أبي القاسم التنوخي وكانت عينه رمدةً أتعرف خبره فقال لي: حدثني من رأيت وما رأيت في طريقك؟ فقلت: رأيت منسفاً فيه نحو عشرين رطلاً رطباً أزاذاً لقاطاً ما رأيت مثله. فقال لغلامه: يا أحمد، علي بالمنسف الساعة، فمضى أحمد وابتاعه وجاء به فحل عينه وغسلها من الدواء الذي فيها وقال لي: كل حتى آكل، فقلت يا سيدي عينك رمدة فكيف تأكل رطبا؟ فقال: كل فعيني تهدأ والرطب يفنى، فأكل والله منه حتى وقف.

قال: وحدثني قال: كنت ليلةً بائتاً عنده فهبت ريح شديدة فما زال طرف النطع الذي تحته يصعد وينزل ويصفع رأسه فقال: هذا سقوط الساعة أم مصافعة؟ فقلت: ممن يا سيدنا؟ فقال: فضولك وضحكنا. قال: وحدثني قال: حدثني القاضي قال: كنت يوماً وقت القيلولة نائماً فاجتاز واحد غث يصيح صياحاً أزعجني وأيقظني: شراك النعال، شراك النعال. فقلت لأحمد الغلام: خذ كل نعلٍ لي ولمن في داري وأخرجها إلى هذا الرجل ليرمها ويشتغل بها ففعل، ونمت إلى إن اكتفيت ثم انتبهت وصليت العصر وأعطيته أجرته ومضى، فلما كان من غدٍ في مثل ذلك الوقت جاء وأنا نائم فصاح وأنبهني فقلت للغلام: أدخله، فأدخله فقلت: يا ماص كذا وكذا من أمه، أمس في هذا الوقت أصلحت كل نعلٍ لنا. وعدت اليوم تصيح على بابنا، أبلغك أننا البارحة تصافعنا بالنعال وقطعناها؟ وقد عدت اليوم لعملها وإصلاحها، قفاه. فقال يا سيدنا القاضي: أو أتوب الأ أدخل هذا الدرب؟ قلت: فما تتركني أنام ولا أهدأ ولا أستقر؟ فحلف ألا يعود إلى الدرب وأخرجته إلى لعنة الله. قال: ورأيته يوماً عند الرئيس الوالد - رضي الله عنهما - وهو يشكو إليه قبح أبي القاسم بن المسلمة رئيس الروساء وقصده له وغضه منه، وتناهى غضبه إلى إن أخذ الدواة من بين يدي الرئيس ورفعها إلى فوق رأسه وقال: والله لقد بال في حجري وعلى ثيابي بعدد الرمل والحصا والتراب، وحط الدواة فضرب بها الأرض فكسرت، فلما رأى ذلك قام وانصرف وقد استحيا وبقينا متعجبين منه.
قال: وحدثني أبو سعدٍ الماندائي قال: كنت مع القاضي التنوخي وقد خرج يوماً من دار الخلافة ليعبر إلى داره بالجانب الغربي، فلما بلغنا مشرعة نهر معلى صاح به الملاحون: يا شيخ يا شيخ، تعال هنا تعال هنا، فوقف وقال لهم: كل مردىٍ معكم ومجذاف في كذا وكذا من نسائكم، ما فيكم إلا من يعرفني ويعلم أنني القاضي التنوخي يا كذا وكذا، ثم نزل وهو يسبهم ويشتمهم والملاحون وأنا قد متنا بالضحك. وجاءه غلام قد تزوج وكتب كتاباً بمهر يشهده فيه واستحيا الغلام من ذلك فجذب طاقةً من حصير القاضي وجعل يقطعها لحيائه وخجله، ولحظه القاضي فقال يا هذا: أنا أشهد لك في كتابٍ يقتضي أن يحمل به إليك القماش والجهازاللذان يعمران بيتك ويجملأن أمرك، وأنت مشغول بقطع حصيري وتخيب بيتي؟ وشق الكتاب قطعاً ولم يشهد فيه ورمى به إليه، فأخذه وانصرف متعجباً.
قال: وحدثني الرئيس أبو الحسين والدي قال: شهد القاضي أبو القاسم - منذ سنة أربعٍ وثمانين وثلاثمائةٍ، إلى أن توفي في المحرم سنة سبعٍ وأربعين وأربعمائةٍ، وكان مولده يوم الثلاثاء النصف من شعبان سنة خمسٍ وستين وثلاثمائةٍ، إلى أن توفي في المحرم سنة سبعٍ وأربعين وأربعمائةٍ، وكان مولده يوم الثلاثاء النصف من شعبان سنة خمسٍ وستين وثلاثمائةٍ - ، نيفاً وستين سنةً ما وقف له على زلةٍ ولا غلطةٍ. وأذكر له حكايةً وهي: أنه شهد مع جماعةٍ من الشهود على زوجة أبي الحسن بن أبي تمامٍ الهاشمي نقيب النقباء في اقرارٍ أقرت به، فلما سمعوا اقرارها من وراء الستارة لم يقنعهم ذاك، وأرداوا من يشهد عندهم أن المقرة هي المذكورة في الكتاب بعينها، وأن يشاهدوها حتى يسلموا له، ويصح أن يشهدوا عليها بالمعرفة، فلم يقدموا على ذلك وخطاب أبي تمام فيه، فخرج ولده منها فقام له التنوخي وأخذه إلى حجره وقبل رأسه وقال له: قليلاً قليلاً، من هذه التي تكلمنا من وراء الستارة وتحدثنا وتشهدنا عليه؟ فقال له: ستي، فالتفت إلى الجماعة وقال لهم: اشهدوا يا سادة، فأنا أشهد عندكم أن المقرة عندنا من وراء الستارة هي المذكورة في الكتاب بعينها، فشهدوا وشهد معهم. وقال من بعد: هذا صبي لا يعرف ما نحن فيه، ولو كان خلف الستارة غير ستة لقال، ولما كانت هي بعينها قال: هي ستي. ولعمري لقد كان أبو الحسن أجل من أن يفعل هذا معنا.

قال أبو الحسن: كان لنا غلام يعرف بجميلة فابتاع ألف سابلٍ سرجيناً من ملاحٍ يعرف بالدابة ليحمله إلى قراحنا المشجر في نهر عيسى ليطرح في أصول الشجر، فلما ذكر جميلة ذاك للرئيس رضي الله عنه قال له: اكتب عليه خطاً وأشهد فيه يعني المعلم في الدار ومن يجري مجراه، فكتب جميلة على الملاح رقعةً ومضى بها لا يلوي على شيءٍ إلى أن عاد التنوخي بين الصلاتين وهو جائع حاقن تعب والزمان صاف، فقام إليه ودعا له وقال له: من أنت؟ قال غلام فلان. قال: ما لك؟ قال: شهادة. قال له: اقعد ودخل فخلع ثيابه ودخل بيت الطهارة وأطال والغلام يصيح يا سيدنا أنا قاعد من ضحوة النهار إلى الساعة، فقال له: ويلك؟ أصبر حتى أخرا، أصبر حتى أخرا، اصبر حتى أخرا، ثم توضأ ليصلي فلم يهنئه فقال: ادخل دخلت بطنك الشمس، فقد والله حيرتني وجننتني، فلما دخل أعطاه الرقعة فقرأها وقال: ويلك، ما اسم هذا الملاح؟ فقال: الدابة يا سيدي، فقال: وأي شيء يقربه؟ ويلك فما أقف عليه، أرى خمسة آلاف سابلٍ سرقين. فقال له: وما السرقين؟ فقال: خرء البقر والغنم.
قال: يا ماص بظر أمه، أنا شاهد الخرء؟ ونهض إليه وهو مغتاظ فأخذ ينتف ذقنه ويضرب رأسه وفكه إلى إن جرى الدم من فيه وأخرجه، وجاء إلى الرئيس رحمه الله فحدقه بما جرى عليه فقال: يا هذا، الشهود يستشهدون في الخرا؟ أنت بالله أحمق. وجاءنا القاضي بعد العصر يشكو من جميلة أزه له وتوكله به، ويعتذر مما جره جنونه عليه، وما انتهى معه إليه، فضحكنا عليه ومرت لنا ساعة طيبة بما أورده عليه.
قال: وحدثني الرئيس أب والحسن - رضي الله عنه - قال: حضر عندي القاضي أبو القاسم التوخي يوماً وقد هرب الكافي أبو عبد الله إلقائي ببغداد، وخرج إلى الأنبار، ونظر أبا سعد محمد بن الحسين بن عبد الرحيم وكان التنوخي مائلاً إلى بني عبد الرحيم ونابياً عن أضدادهم. فبدأ بذكر القنائي - وكان لي صديقاً - بقبيحٍ وزاد وخشن وخبط، فغمض عيني واستلقيت على مخدتي لعله يكف ويقطع، فعلم ذاك مني فقفز إلى يحركني ويقول: والله ما أنت نائم، ولكنك ما تحب أن تسمع في القنائي قبيحاً. فقلت: ما أحب أن أسمع في القنائي ولا في غيره قبيحاً، وقد تناومت لتقطع فلم تفعل ومضى، وبلغ القنائي المجلس بعينه. وعاد القنائي إلى بغداد ناظراً، ودخل التنوخي إليه مسلماً وخادماً فقال له: يا قاضي، ما فعلت بك قبيحاً يقتضي ذكرك لي وطعنك في، فقال: يا مولانا أنا مجنون. قال: إذا كنت مجنوناً فالمارستان لمثلك عمل، وفي حملك إليه ومداواتك فيه ثواب ومصلحة وكف لك عن الناس وأذاهم بجنونك وخباطك، يا أنصاري - للعريف على باب - احمله إلى المارستان واحبسه مع إخوانه المجانين، فأخذ وحمل إلى المارستان وحبس فيه، قال الرئيس: وعرفت القصة فركبت إلى القتائي ولحقني المرتضى والرؤساء من الناس ولم نفارقه حتى أفرج عنه وأطلقه. واجتاز القاضي أبو القاسم يوماً فرأى في طريقه كلباً رابضاً فقال له: اخسأ اخسأ اخسأ فلم يبرح، فقال اخسأ، وعاد عنه ومضى. قال أبو الحسن: لقيته يوماً بنت ابن العلاف زوجة أبي منصور بن المزرع، وكانت عاهرةً إلى الحد الذي تلبس الجبة المضربة، وتتعمم بالقياد وتأخذ السيف والدرقة، وتخرج ليلاً فتمشي مع العيارين وتشرب إلى أن تسكر وتعود سحراً إلى بيتها، وربما انتهى بها السكر إلى الحد الذي لا تملك معه أمر نفسها فيحملها العيارون إلى دار زوجها على تلك الحال. فقال له يا قاضي: ما معنى هذه التاء التي تكتبها على الدراهم؟ وكان إليه العيار في دار الضرب، فقال لها: هذا شيء يعملونه كالعلامة، أن التنوخي متولي العيار فيأخذون التاء من أول نسبتي، فقالت: كذبت وأثمت أيها القاضي، تريد أن أقول لك معناها؟ فقال لها: قولي تاست النساء، فقالت: معناها يا قاضي: تنيكها يا قاضي، فضرب حماره ومضى وهو يقول لها: لحية زوجك في حجري، لحية زوجك في حجري. قال: ولقيه إنسان ومعه كتاب في الطريق فأعطاه إياه وسأله أن يشهد فيه فقال: هات دواةً ومحبرةً. فقال: ما معي، فقال ويحك ما صبرت أن أنزل إلى داري وأشهد عليك بدواتي؟ بل اعترضتني في الطريق وليس معك ما تكتب منه ويلك، من يريد أن ينيك في الدهليز يجب أن يكون أيره قائماً مثل دستك الهاون وتركه ومضى.

علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف

المدائني أبو الحسن مولى سمرة بن حبيب بن عبد شمس ابن عبد منافٍ، بصرى سكن المدائن ثم اتنقل عنها إلى بغداد، فلم يزل بها إلى حين وفاته. روى عنه الزبير ابن بكارٍ وأحمد بن أبي خيثمة، وأحمد بن الحارث الخزاز، والحارث أبن أبي أسامة وغيرهم.
حدث أبو قلابة قال: حدثت أبا عاصمٍ النبيل لحديث فقال: عمن؟ فإنه حسن، فقلت: ليس له إسناد ولكن حدثينه أبو الحسن المدائني. فقال لي: سبحان الله، أبو الحسن إسناد.
ولد المدائني سنة خمسٍ وثلاثين ومائةٍ، ومات سنة خمسٍ وعشرين ومائتين.
قال الحارث بن أسامة: سرد المدائني الصوم قبل موته بثلاثين سنةً، وإنه كان قد قارب المائة سنة فقيل له في مرضه: ما تشتهي؟ قال: أشتهي أن أعيش، وكان مولده ومنشؤه البصرة، ثم صار إلى المدائن بعد حينٍ، ثم صار إلى بغداد فلم يزل بها إلى أن مات، واتصل بإسحاق بن إبراهيم الموصلي فكان لا يفارق منزله، وفي منزله كانت وفاته، وكان ثقةً إذا حدث عن الثقات.
نقلت من خط عمر بن محمد بن سيفٍ الكاتب البغدادي، حدثنا اليزيدي أبوعبد الله محمد بن العباس ابن محمد بن أبي محمدٍ قال: حدثني أحمد بن زهير بن حربٍ قال: كان أبي ويحيى بن معينٍ ومصعب الزبيدي يجلسون العشيات على باب مصعبٍ قال: فمر عشيةً من العشيات على باب مصعبٍ رجل على حمارٍ فارهٍ وبزةٍ حسنةٍ، فسلم وخص بمسائله يحيى ابن معينٍ. فقال له يحيى: إلى أين يا أبا الحسن؟ فقال: الى هذا الكريم الذي يملأ كمي من أعلاه إلى أسفله دنانير ودراهم. فقال: ومن هذا يا أبا الحسن؟ قال: أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلي. قال: فلما ولى قال يحيى بن معينٍ: ثقة ثقة ثقة. قال: فسألت أبي فقلت من هذا الرجل؟ فقال المدائني.
وحدث أبو أحمد العسكري في كتاب التصحيف له عن أحمد بن عمارٍ عن بن أبي سعدٍ الوراق قال: العباس بن ميمون قال: قال لي ابن عائشة: جاءني أبو الحسن المدائني فتحدث بحديث خالد بن الوليد حين أراد إن يغير على طرفٍ من أطراف الشام، وقول الشاعر في دليله رافعٍ:
لله در رافعٍ أني اهتدى ... فوز من قراقرٍ إلى سوى
خمساً إذا ما سارها الجيش بكى
فقال: الجيش فقلت: لو كان الجيش لكان بكوا، وعلمت إن علمه من الصحف. قال العسكري: أما قول ابن عائشة إن الرواية: الجيش بكى، فهو كما قال، وهو صحيح، وأما قوله لو كان الجيش لكان بكوا فقد وهم في هذا، ويجوز للجيش بكى فيحمل على اللفظ، وقد قال طفيل الغنوي أو أوس بن حجرٍ:
إن يك عار بالقنان أتيته ... فراري فإن الجيش قد فر أجمع
وحدث محمد بن إسحاق النديم قال: قرأت بخط ابن الإخشيد: كان المدائني متكلماً من غلمان معمر بن الأشعث قال: وحفص الفرد وأبو شمرٍ وأبو الحسن المدائني وأبو بكرٍ الأصم وأبو عامرٍ وعبد الكريم بن روحٍ ستة كانوا غلمان معمر بن الأشعث.
حدث المدائني قال: أمر المأمون أحمد بن يوسف بإدخالي عليه، فلما دخلت ذكرعلي بن أبي طالبٍ عليه السلام، فحدثته فيه بأحاديث إلى أن ذكر لعن بني أمية له، فقلت: حدثني أبو سلمة المثنى بن عبد الله أخو محمد بن عبد الله الأنصاري قال: قال لي رجل: كنت بالشام فجعلت لا أسمع أحداً يسمى علياً ولا حسناً ولا حسيناً، وإنما أسمع معاوية ويزيد والوليد، قال: فمررت برجلٍ جالسٍ على باب داره وقد عطشت فاستسقيته فقال: يا حسن اسقه، فقلت له: أسميت حسناً؟ فقال: أي والله، إن لي أولاداً أسماؤهم حسن وحسين وجعفر، فإن أهل الشام يسمون أولادهم بأسماء خلفاء الله ولا يزال أحدنا يلعن ولده ويشتمه، وإنما سميت أولادي بأسماء أعداء الله، فإذا لعنت إنما ألعن أعداء الله فقلت له: ظننتك خير أهل الشام، وإذا جهنم ليس فيها شر منك. فقال المأمون: لا جرم، قد ابتعث الله عليهم من يلعن أحياءهم وأمواتهم، ويلعن من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، يعني الشيعة. فهرست كتب المدائني نقلاً من كتاب ابن النديم.
وذكر أنه نقله من خط ابن الكوفي

كتبه في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم: كتاب أمهات النبي عليه الصلاة والسلام، كتاب صفة النبي عليه الصلاة والسلام، كتاب أخبار المنافقين، كتاب عهود النبي عليه الصلاة والسلام، كتاب تسمية المنافقين، ومن نزل فيه القرآن منهم ومن غيرهم، كتاب تسمية الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وتسمية المستهزئين، كتاب رسائل النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، كتاب آيات النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب إقطاع النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب فتوح النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب صلح النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب خطب النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب عهود النبي صلى الله عيه وسلم، كتاب المغازي. وزعم أبو الحسن بن الكوفي أنها عنده في ثمانية أجزاء جلود بخط ابن عباسٍ اليابس، وزعم تحت هذا الفصل وأخرى في جزأين تأليف أحمد بن الحارث الخزاز. كتاب سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتاب الوفود يحتوي على وفود اليمن، ووفود مضر، ووفود ربيعة، كتاب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب خبر الإفك، كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب السرايا، كتاب عمال النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقات، كتاب ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتاب حجة أبي بكرٍ رضي الله عنه، كتاب خطب النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب الخاتم والرسل، كتاب من كتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً أو أماناً، كتاب أموال النبي صلى الله عليه وسلم وكتابه ومن كان يرد عليه الصدقة من العرب.
أخبار قريش: كتاب نسب قريشٍ وأخبارها، كتاب العباس بن عبد المطلب، كتاب أخبار أبي طالبٍ وولده، كتاب خطب علي بن أبي طالبٍ كرم الله وجهه، كتاب عبد الله ابن عباسٍ رضي الله عنهما. كتاب علي بن عبد الله بن العباس، كتاب آل أبي العاص، كتاب أبي العيص، كتاب خبر الحكم بن أبي العاص، كتاب عبد الرحمن بن سمرة، كتاب ابن أبي عتيقٍ، كتاب عمرو بن الزبير، كتاب فضائل محمد بن الحنيفة، كتاب فضائل بن أبي جعفر بن أبي طالب، كتاب فضائل الحارث بن عبد المطلب، كتاب عبد الله ابن جعفرٍ، كتاب معاوية بن عبد الله بن جعفر، كتاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفرٍ، كتاب أمر محمد بن عليٍ بن عبد الله بن عباسٍ، كتاب العاص بن أمية، كتاب عبد الله بن عامر بن كريزٍ، كتاب بشر ابن مروان بن الحكم، كتاب عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، كتاب هجاء حسان لقريشٍ، كتاب فضائل قريشٍ، كتاب عمرو بن سعيد بن العاص، كتاب يحيى بن عبد الله ابن الحارث، كتاب أسماء من قتل من الطالبيين، كتاب أخبار زياد ابن أبيه، كتاب مناكح زيادٍ وولده ودعوته، كتاب الجوابات ويحتوي على جوابات قريشٍ، وجوابات مضر، وجوابات ربيعة، وجوابات الموالى، وجوابات اليمن.
كتبه في أخبار مناكح الأشراف وأخبار النساء: كتاب الصداق، كتاب الولائم، كتاب المناكح، كتاب النواكح، كتاب المغتربات، كتاب القينات، كتاب المرادفات من قريشٍ، كتاب من جمع بين أختين، ومن تزوج ابنه امرأته، ومن جمع أكثر من أربعٍ، ومن تزوج مجوسيةً، كتاب من كرهت مناكحته، كتاب من قتل عنها زوجها، كتاب من نهيت عن تزويج رجلٍ فتزوجته، كتاب من تزوج من الأشراف في كلفٍ، كتاب من هجاها زوجها أو شكاها، كتاب مناقضاتٍ الشعراء وأخبار النساء، كتاب من تزوج في ثقيفٍ من قريشٍ، كتاب الفاطميات، كتاب من وصف امرأةً فأحسن، كتاب الكلبيات، كتاب العواتك.
كتبه في أخبار الخلفاء: كتاب من تزوج من نساء الخلفاء، كتاب تسمية الخلفاء وكناهم وأعمارهم، كتاب تاريخ أعمار الخلفاء، كتاب حلي الخلفاء، كتاب أخبار الخلفاء الكبير ابتدأه بأخبار أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه، وختمه بأخبار المعتصم.

كتبه في الأحداث: كتاب الردة، كتاب الجمل، كتاب الغارات، كتاب النهروان، كتاب الخوارج، كتاب خبر ضابئ بن الحارث البرجمي، كتاب توبه بن مضرسٍ، كتاب بني ناجيه ومصقلة ابن هبيرة، كتاب مختصر الخوارج، كتاب خطب علي كرم الله وجهه وكتبه إلى عماله، كتاب عبد الله بن عامرٍ الحضرمي، كتاب اسماعيل بن هبار، كتاب عمرو ابن الزبير، كتاب مرج راهط، كتاب الربذة ومقتل خبيشٍ، كتاب أخبار الحجاج ووفاته، كتاب عباد بن الحصين، كتاب حرة واقمٍ، كتاب ابن الجارود برستقباذ، كتاب مقتل عمرو بن سعيد ين العاص، كتاب زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي، كتاب خلاف عبد الجبار الأزدي ومقتله، كتاب سلم بن قتيبة وروح بن حاتمٍ، كتاب المسور بن عمر بن عبادٍ الحبطي وعمرو بن سهلٍ، كتاب مقتل ابن هبيرة، كتاب يوم سنبيل، كتاب الدولة العباسية، وهو كتاب كبير يشتمل على عدة كتب لم يذكره ابن النديم، ووقع إلى بخط السكري بعضه وقد قرأه على الحارث بن أسامة.
كتبه في الفتوح: كتاب فتوح الشام منذ أيام أبي بكرٍ وإلى أيام عثمان رضي الله عنهما، كتاب فتوح العراق منذ أيام أبي بكر وإلى آخر أيام عمر رضي الله عنهما، كتاب خبر البصرة وفتوحها وفتوح ما يقاربها من دهستان والأهواز وماسبذان وغير ذلك، كتاب فتوح خراسان وأخبار أمرائها كقتيبة ونصر بن سيارٍ وغيرهما، كتاب نوادر قتيبة بن مسلمٍ، كتاب ولاية أسد بن عبد الله القسري، كتاب ولاية نصر بن سيارٍ، كتاب ثغر الهند، كتاب أعمال الهند، كتاب فتوح سجستان، كتاب فارس، كتاب فتح الأبلة، كتاب أخبارأرمينية، كتاب كرمان، كتاب كابل وزابلستان، كتاب القلاع والأكراد، كتاب عمان، كتاب فتوح جبال طبرستان أيام الرشيد، كتاب فتوح مصر، كتاب الري وأمر العلوي، كتاب أخبار الحسن بن زيدٍ وما مدح به من الشعر وعماله، كتاب فتوح الجزيرة، كتاب فتوح البامياني، كتاب فتوح الأهواز، كتاب أمر البحرين، كتاب فتح شهر كند، كتاب فتح برقة، كتاب فتح مكران، كتاب فتوح الحيرة، كتاب موادعة النبوة، كتاب خبر سارية بن زنيمٍ، كتاب فتوح الري، كتاب فتوح جرجان وطبرستان.
كتبه في أخبار العرب: كتاب البيوتات، كتاب الجيران، كتاب أشراف عبد القيس، كتاب أخبار ثقيفٍ، كتاب من نسب إلى أمه، كتاب من سمي باسم أمه، كتاب الخيل والرهان، كتاب بناء الكعبة، كتاب خبر خزاعة، كتاب المدينة وجبالها وأوديتها.
كتبه في أخبار الشعراء وغيرهم: كتاب أخبار الشعراء، كتاب من نسب إلى أمه من الشعراء، كتاب العمائر، كتاب الشيوخ، كتاب الغرماء، كتاب من هادن أوغزا، كتاب من اقترض من الأعراب في الديوان فندم وقال شعراً، كتاب المتمثلين، كتاب من تمثل بشعرٍ في مرضه، كتاب الأبيات التي جوابها كلام، كتاب النجاشي، كتاب من وقف على قبر فتمثل بشعر، كتاب من بلغه موت رجلٍ فتمثل بشعرٍ، كتاب من بلغه موت رجلٍ فتمثل شعراً أو كلاماً، كتاب من تشبه من النساء بالرجال، كتاب من فضل الأعرابيات على الحضريات، كتاب من قال شعراً على البديهة، كتاب من قال شعراً في الأوابد، كتاب الاستعداء على الشعراء، كتاب من قال شعراً فسمى به، كتاب من قال في الحكومة من الشعراء، كتاب تفضيل الشعراء بعضهم على بعضٍ، كتاب من ندم على المديح ومن ندم على الهجاء، كتاب من قال شعراً فأجيب بكلامٍ، كتاب الأسود الدؤلي، كتاب خالد بن صفوان، كتاب مهاجاة عبد الرحمن بن حسان للنجاشي، كتاب قصيدة خالد بن يزيد في الملوك والأحداث، كتاب أخبار الفرزد ق، كتاب قصيدة عبد الله بن اسحاق بن الفضل بن عبد الرحمن، كتاب خبر عمران بن حطان.

ومن كتبه المؤلفة: كتاب الأوائل، كتاب المتيمين، كتاب التعازي، كتاب المنافرات، كتاب الأكلة، كتاب المسيرين، كتاب اللواطين، كتاب القيافة والفأل والزجر، كتاب من جرد الأشراف، كتاب المروءة، كتاب الحمقى، كتاب اللواطين، كتاب الجواهر، كتاب المغنين، كتاب المسمومين، كتاب كان يقال، كتاب ذم الحسد، كتاب من وقف على قبرٍ، كتاب الخيل، كتاب من استجيبت دعوته، كتاب قضاة أهل المدينة، كتاب قضاة أهل البصرة، كتاب أخبار رقبة بن مصقلة، كتاب مفاخرة العرب والعجم، كتاب مفاخرة أهل البصرة والكوفة، كتاب ضرب الدراهم والصرف، كتاب أخبار إياس بن معاوية، كتاب خبر أصحاب الكهف، كتاب خطبة واصلٍ، كتاب إصلاح المال، كتاب آداب الإخوان، كتاب البخل، كتاب المقطعات المتخيرات، كتاب أخبار ابن سيرين، كتاب الرسالة إلى ابن داؤدٍ، كتاب النوادر، كتاب المدينة، كتاب مكة، كتاب المخضرمين، كتاب المراعي والجراد ويحتوي على الكور والطساسيج وجباياتها.

علي بن محمد بن وهب المسعري
صاحب أبي عبيدٍ القاسم بن سلام. روى عن أبي عبيد أنه قال: هذا الكتاب - يعني غريب الحديث المصنف - أحب إلى من عشرة آلاف دينارٍ، وعدد أبوابه على ما ذكره ألف بابٍ، وفيه من شواهد الشعر ألف ومائتا بيتٍ.
علي بن محمد بن نصر بن بسام
ٍ
أبو الحسن العبرتائي الكاتب. وأمه أخت أحمد بن حمدون بن إسماعيل النديم لأبيه وأمه. وقال المزرباني: أمه بنت النديم، وله مع خاله أبي عبد الله حمدون أخبار. وكان حسن البديهة شاعراً ماضياً أديباً لا يسلم من لسانه أحد، وهو معدود في العققة وكان يصنع الشعر في الرؤساء وينحله ابن الرومي وغيره. مات فيما ذكره ابن المزرباني بعد سنة ثلاثمائةٍ بسنتين.
وقال ثابت بن سنانٍ: مات على بن محمد بن بسامٍ في صفر سنة اثنتين وثلاثمائةٍ عن نيفٍ وسبعين سنةً، واستفرغ شعره في هجاء والده محمد بن بسامٍ والخلفاء والوزراء، وكان مع فصاحته وبيانه لاحظ له في التطويل، إنما تحسن مقطعاته وتندر أبياته، وهو من أهل بيت الكتابة، وكان جده نصر بن منصورٍ يتولى ديوان الخاتم والنفقات والأزمة في أيام المعتصم، وكان هو السبب في نكبة الفضل بن مروان، وكان قد هجا الوزير علي بن عيسى بن داود بن الجراح لما نفى إلى مكة، فلما ردت الوزارة جلس يوماً للمظالم فمرت في جملة القصص رقعة فيها مكتوب:
وافى ابن عيسى وكنت أضغنه ... أشد شيءٍ على أهونه
ما قدر الله ليس يدفعه ... وماسواه فليس يمكنه
فقال علي بن عيسى: صدق هذا ابن بسامٍ، والله لا ناله مني مكروه أبداً، وكان الغالب على ابن بسامٍ الشعر، ومن حقه أن يذكر مع الشعراء، وإنما حملنا على ذكره هاهنا رسائله وماله من التصانيف وهي: كتاب أخبار عمر بن أبي ربيعة تصنيف جيد بالغ في معناه، وجدت أخبار عمر بن أبي ربيعة تصنيف علي بن محمد أبن نصر بن منصور بن بسامٍ وقد روى فيه عن الزبير ابن بكارٍ، وعمر بن شبة، وحماد بن اسحاق، ويعقوب بن أبي شيبة، وأحمد بن الحارث الخزاز، ومحمد بن حبيبٍ وسليمان بن أبي شيخٍ وخاله أحمد بن حمدون، كتاب المعاقرين كتاب ديوان رسائله. كتاب مناقضاتٍ الشعراء، كتاب أخبار الأحوص. ومن شعره الذي قاله ونحله ابن الرومي قوله يخاطب عبيد الله بن سليمان الوزير وقد مات ابنه أبو محمد في سنة أربعٍ وثمانين:
قل لأبي القاسم المرجى ... قابلك الدهر بالعجائب
مات لك ابن وكان زيناً ... وعاش ذو الشين والمعايب
حياة هذا كفقد هذا ... فلست تخلو من المصائب
فبلغت الأبيات عبيد الله فساءته، فدعا البسامي وقال: يا علي، كيف قلت؟ فعلم البسامي أنه مغضب فقال: قلت أيها الوزير:
قل لأبي القاسم المرجى ... لن يدفع الموت كف غالب
لئن تولى بمن تولى ... وفقده أعظم المصائب
لقد تخطت لك المنايا ... عن حاملٍ عنك للنوائب

يعني ابنه ابا الحسين، فسكت عبيد الله ولها عنه. وذكر الصولي في كتاب الوزراء قال: قال أبو الحارث النوفلي الشاعر: كنت أبغض القاسم بن عبيد الله لكفره، ولمكروهٍ نالني منه، فلما قرأت شعر ابن المعتز، وهو شعر - رثى به الحسين أبا محمدٍ - مذكور في أخباره، وشعر ابن بسامٍ، وكان ابن بسامٍ قد قال:
معاذ الله من كذبٍ ومين ... لقد أبكت وفاتك كل عين
ولكن قد تنسينا الرزايا ... ويعضدنا بقاء أبي الحسين
قلت على لسان ابن بسامٍ وأشعتها عليه وأنفذتها إليه: قل لأبي القاسم المرجى الأبيات.
وحدث السلامي عن أبي القاسم المجمع بن محمد بن المجمع قال: حدثني ابن حمدون النديم قال: كان المعتضد أمر بعمارة البحيرة واتخاذ رياضٍ حواليها، وإنفق على الأبنية بها ستين ألف دينارٍ، وكان يخلو فيها مع جواريه، وفيهن جارية يقال لها دريرة، فقال البسامي:
ترك الناس بحيرة ... وتخلى في البحيرة
قاعداً يضرب بالز ... رب على حر دريره
وبلغت الأبيات المعتضد، فلم يظهر لأحدٍ أنه سمعها، وأمر بتخريب ما استعمره من تلك العمارات والأبنية. قال أحمد بن حمدون: فكنت ألاعب المعتضد بالشطرنج ذات يومٍ إذ دخل عليه القاسم بن عييد الله وهو وزيره، فاستأمره في شيء وانصرف، فلما ولى أنشد المعتضد قول البسامي في القاسم:
حياة هذا كموت هذا ... فلست تخلو من المصائب
وجعل يكرر هذا البيت، وعاد القاسم إليه في شغل والمعتضد مشغول باللعب، ولم يعلم بحضوره وهو يردد البيت، فاحتلت حتى أعلمته حضوره، فرفع رأسه إليه واستحيا منه حتى تبين ذلك في وجهه ثم قال: يا أبا الحسين: - وهو أول ما كناه للخجل الذي تداخله - لم لا تقطع لسان هذا الماجن وتدفع شره عنك؟ فانصرف القاسم مبادراً إلى مجلسه ومنتهزاً للفرصة في ابن بسامٍ وأمر بطلبه.
قال ابن حمدون: فدهشت وارتعشت يدي في اللعب خوفاً مما يلحق ابن بسامٍ للقرابة التي بيني وبينه: فقال المعتضد: ما لك؟ قلت: يا أمير المؤمنين، القاسم بن عبيد الله لا يصطلى بناره، وكأني به وقد قطع لسان البسامي حنقاً عليه، وهو أحد النبلاء الشعراء فيكون ذلك سبةً على أمير المؤمنين، فأمر بإحضار القاسم وسأله عما فعله في أمر ابن بسامٍ فقال: قد تقدمت إلى مؤنسٍ باحضاره لأقطع لسانه، فقال: يا أبا الحسين، إننا أمرناك أن تقطع لسانه بالبر والصلة والتكرمة ليعدل عن هجائك إلى مدحك. فقال يا أمير المؤمنين: لو عرفته حق المعرفة وعلمت ما قاله لاستجزت قطع رأسه، عرض بما قاله في المعتضد ودريرة، فتبسم المعتضد وقال: يا أبا الحسين، إنما أمرنا بتخريب البحيرة لذلك، فتقدم أنت بإحضاره وأخرج ثلاثمائة دينارٍ فإن ذلك أولى وأحسن من غيره. قال: فأحضره القاسم بعد ثالثةٍ وخلع عليه وولاه بريد الصيمرة وما والاها، فبقي في عمله إلى آخر أيام المعتضد، ثم جمح به طبعه إلى إعادة الإساءة فقال:
أبلغ وزير الإمامعني ... وناد يا ذا المصيبتين
يموت حلف الندى ويبقى ... حلف المخازي أبو الحسين
فأنت من ذاعميد قلبٍ ... وأنت من ذا سخين عين
حياة هذا كموت هذا ... فالطم على الرأس باليدين
قال جحظة: كان ابن بسامٍ يفخر بقوله في:
يا من هجوناه فغنانا ... أنت وحق الله أهجانا
فقلت: هذا معنى لم يسبق إليه خاطر ابن بسامٍ وإن كان قد أتى به مطبوعاً، وإنما أخذه من قول الرومي في هجائه شنطف:
وفي قبحها كافٍ لنا من كيادها ... ولكنها في فعلها لم تردد
ولو علمت ما كايدتنا لقبحها ... بأنفاسها والوجه والطبل واليد
وقال ابن بسام في الوزير الخاقاني:
وزير ما يفيق من الرقاعة ... يولى ثم يعزل بعد ساعة
إذا أهل الرشا صاروا إليه ... فأحظى القوم أوفرهم بضاعه
فلا رحماً تقرب منه خلقاً ... سوى الورق الصحاح ولا شفاعة
وليس بمنكرٍ ذا الفعل منه ... لأن الشيخ أفلت من مجاعه

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15