كتاب : معجم الأدباء
المؤلف : ياقوت الحموي

تسل عن كل شيءٍ بالحياة فقد ... يهون بعد بقاء الجوهر العرض
يعوض الله مالاً أنت متلفه ... وما عن النفس إن أتلفتها عوض
وقال:
قالوا اقناعة عز والكفاف غنىً ... والذل والعار حرص المرء والطمع
صدقتم من رضاه سد جوعته ... إن لم يصبه فماذا منه يقتنع؟
وقال:
إن لم تكن تجزع من دم ... عي إذا فاض فصنه
أو تكن مجدت يوماً ... سيداً يعفو فكنه
أنا لا أصبر عمن ... لا يجوز الصبر عنه
كل ذنبٍ في الهوى يغ ... فر لي ما لم أخنه
وقال يرثي أخاه أحمد بن عبد الله بن يوسف:
غاية الحزن والسرور انقضاء ... ما لحيٍ من بعد ميتٍ بقاء
لا لبيد بأربدٍ مات حزناً ... وسلت صخراً الفتى الخنساء
مثل ما في التراب يبلى الفتى فال ... حزن يبلي من بعده والبكاء
غير أن الأموات زالوا وأبقوا ... غصصاً لا يسيغها الأحياء
إنما نحن بين ظفرٍ ونابٍ ... من خطوبٍ أسودهن ضراء
وتتمنى وفي المنى قصر العم ... ر فنغدو بما نسر نساء
صحة المرء للسقام طريق ... وطريق الفناء هذا البقاء
بالذي تغتذي نموت ونحيا ... أقتل الداء للنفوس الدواء
ما لقينا من غدر دبيا فلا كا ... نت ولا كان أخذها والعطاء
راجع جودها عليها فمهما ... يهب الصبح يسترد المساء
ليت شعري حلماً تمر بنا الأي ... يام أم ليس تعقل الأشياء
من فسادٍ يجنيه للعالم الكو ... ن فما للنفوس منه اتقاء
قبح الله لذةً لشقانا ... نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفق ... ر فإيجادنا علينا بلاء
وقليلاً ما تصحب المهجة الجس ... م ففيم الأسى وفيم العناء؟
ولقد أيد الإله عقولاً ... حجة العود عندها الإبداء
غير دعوى قومٍ على الميت شيئاً ... أنكرته الجلود والأعضاء
وإذا كان في العيان خلاف ... كيف في الغيب يستبين الخفاء؟
ما دهانا من يوم أحمد إلا ... ظلمات وما استبان ضياء
يا أخي عاد بعدك الماء سماً ... وسموماً ذاك النسيم الرخاء
والدموع الغزار عادت من الأن ... فاس ناراً تثيرها الصعداء
وأعد الحياة غدراً ولو كا ... نت حياةً يرضى بها الأعداء
أين تلك الخلال والحزم أين ال ... عزم أين السناء أين البهاء؟
كيف أودى النعيم من ذلك الظل ... ل وشيكاً وزال ذاك الغناء؟
أين ما كنت تنتضي من لسانٍ ... في مقامٍ ما للمواضي انتضاء؟
كيف أرجو شفاء ما بي؟ وما بي ... دون سكناي في ثراك شفاء
أين ذاك الرواء والمنطق الجز ... ل وأين الحياء أين الإباء؟
إن محا حسنك التراب فما للد ... دمع يوماً من صحن خدي انمحاء
أو تبن لم يبن قديم ودادي ... أو تمت لم يمت عليك الثناء
شطر نفسي دفنت والشطر باقٍ ... يتمنى ومن مناه الفناء
إن تكن قدمته أيدي المنايا ... فإلى السابقين تمضي البطاء
يدرك الموت كل حيٍ ولو أخ ... فته عنه في برجها الجوزاء
ليت شعري وللبلا كل مخلو ... قٍ بماذا تميز الأنبياء؟
موت ذي الحكمة المفضل بالنط ... ق وذي العجمة البهيم سواء
لا غوى لفقده تبسم الأر ... ض ولا للتقي تبكي السماء
كم مصابيح أوجهٍ أطفأتها ... تحت أطباق تربها البيداء

كم بدورٍ وشموسٍ وكم أط ... واد مجدٍ أمست عليها العفاء
كم محا عزة الكواكب غيم ... ثم أخفت ضياءها الأنواء
إنما الناس قادم إثر ماضٍ ... بدء قومٍ للآخرين انتهاء
وقال:
قالوا وقد مات محبوب فجعت به ... وفي الصبا وأرادوا عنه سلواني
ثانيه في الحسن موجود فقلت لهم ... من أين لي في الهوى الثاني صباً ثاني
وقال:
ولو أنني أعطيت من دهري المنى ... وما كل من يعطي المنى بمسدد
لقلت لأيامٍ مضين ألا ارجعي ... وقلت لأيامٍ أتين ألا ابعدي

الحسين بع عبد الله بن رواحة
ابن إبراهيم بن عبد الله بن رواحة أبو عليٍ الأنصاري الحموي، الأديب الفقيه الشاعر المجيد، ولد بحماة ونشأ بها، ورحل إلى دمشق فأقام بها مدةً واشتغل بالفقه، وسمع الحديث من الحافظ أبي القاسم بن عساكر ومن عمه وآخرين.
ورحل إلى مصر فسمع بها وبالإسكندرية. ثم عاد إلى دمشق فشهد واقعة مرج عكا فقتل فيها شهيداً يوم الأربعاء من شعبان سنة خمسٍ وثمانين وخمسمائةٍ. وله من قصيدةٍ مهنئاً بها الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب بعيد النحر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائةٍ، وكان السلطان مخيماً بمرج فاقوس:
لقد خبر التجارب منه حزم ... وقلب دهره ظهراً لبطن
فساق إلى الفرنج الخيل براً ... وأدركهم على بحرٍ بسفن
وقد جلب الجواري بالجواري ... يمدن بكل قدٍ مرجحن
يزيدهم اجتماع الشمل بؤساً ... فمرنان ينوح على مرن
زهت إسكندرية يوم سيقوا ... ودمياط إلى المينا بغبن
يرون خياله كالطيف يسري ... فلو هجعوا أتاهم بعد وهن
أبادهم تخوفه فأمسى ... مناهم لو يبيتهم بأمن
تملك جيشاً شرقاً وغرباً ... فصاروا بين مملوكٍ ورهن
أقام بآل أيوبٍ رباطاً ... رأت منه الفرنجة ضيق سجن
رجا أقصى الملوك السلم منهم ... ولم ير جهده في الحرب يغني
فألقى السلم بعد الحرب كرهاً ... ولم ير من مناه سوى التمني
وقال يرثي الحافظ أبا القاسم بن عساكر، وأنشدها بجامع دمشق سنة إحدى وسبعين وخمسمائةٍ:
ذرا السعي في نيل العلا والفضائل ... مضى من إليه كان شد الرواحل
فقولا لساري البرق إني معينه ... بنار أسىً أو سحب دمعٍ هواطل
وتمزيق جلباب العزاء لفقده ... بزفرة باكٍ أو بحسرة ثاكل
فأعلن به للركب واستوقف السرى ... لقصاده من قبل طي المراحل
وقل غاب بدر التم عن أنجم الدجى ... وأشرق منهم بعده كل آفل
وما كان إلا البحر غار ومن يرد ... سواحله لم يلق غير الجداول
وهبكم رويتم علمه من رواته ... فليس عوالي صحبه بنوازل
فقد فاتكم نور الهدى بوفاته ... ونور التقى منه ونجح الوسائل
وما حظ من قد غره نصل صارمٍ ... رجا نصره من غمده والحمائل
ليبك عليه من رآه ومن حوى ... هداه بأيامٍ لديه قلائل
ويقض أسىً من فاته الفضل عاجلاً ... برؤيته والفوز في كل عاجل
أسفت لإرجائي قدوم أعزةٍ ... عليه وتسويفٍ إلى عام قابل
ولو أنهم فازوا بإدراك مثله ... لأزروا على سن الصبا بالأمائل
فيا لمصائبٍ عم سنة أحمدٍ ... وأحرم منها كل راوٍ وناقل
خلا الشام من خيرٍ خلت كل بلدةٍ ... بها من نظيرٍ للإمام مماثل
وأصبح بعد الحافظ العلم شاغراً ... بلا حافظٍ يهذي به كل باقل
وكم من نبيهٍ ضل مذ مات جاهه ... وقدم لما أن مضى كل خامل
خلت سنة المختار من ذب ناصرٍ ... فأيسر ما لاقته بدعة جاهل

نمى للإمام الشافعي مقالةً ... فأصبح يثني عنه كل مجادل
وأيد قول الأشعري بسنةٍ ... فكانت عليه من أدل الدلائل
وكم قد أبان الحق في كل محفلٍ ... فأورى بما يروي ظماء المحافل
وسد من التجسيم باب ضلالةٍ ... ورد من التشبيه شبهة باطل
وإن يك قد أودى فكم من أسنةٍ ... مركبةٍ من قوله في عوامل
وإن مال قوم واستمالوا رعاعهم ... بإضلالهم عنه فلست بماثل
أرى الأجر في نوحي عليه ولا أرى ... سوى الإثم في نوح البواكي الثواكل
وليس الذي يبكي إماماً لدينه ... كباكٍ لدنياه على فقد راحل
فيا قلب واصله بأعظم رحمةٍ ... ويا عين فاسقيه بأغزر وابل
وحيي ثراه الدهر أهنى تحيةٍ ... مكررةٍ عند الضحى والأصائل
أعني على نوحي عليه فإنه ... قريب ثواءٍ في الثرى والجنادل
ولو لم يكن بالدمع سيل لحبه ... لضن على لحدٍ به كل باخل
مضى من حديث المصطفى كان شاغلاً ... له باجتهادٍ فيه عن كل شاغل
لقد شمل الإسلام فيه رزية ... وكان له بالنصح أفضل شامل
وفضل بين السالفين اطلاعه ... عليهم فذب النقص عن كل فاضل
وأصبح في نقد الرجال مميزاً ... بغير نظيرٍ في الورى ومساجل
وأكمل تاريخاً لجلق جامعاً ... لمن جلها من كل شهمٍ وكامل
فأزرى بتاريخ الخطيب وقد عدا ... بخطيته في الكتب أخطب قائل
ومنها:
طوى الموت منه العلم والزهد والنهي ... وكسب المعالي واجتناب الرذائل
وأفجع فيه العالمين بمقدمٍ ... صبورٍ على حرب الضلال حلاحل
وكان غيوراً ذب عن دين أحمدٍ ... وأدفع عنه من شجاعٍ مقاتل
وأحرم منه الدين أشرف صائنٍ ... له ولدفع الزيغ أعظم صائل
ولم أر نقص الأرض يوماً كنقصها ... بموت إمامٍ عالمٍ ذي فضائل
أبا القاسم الأيام قسمة حاكمٍ ... قضى بالفنا فينا قضية عادل
بماذا أعزي المسلمين ولا أرى ... عزاءً سوى من قد مضى من أفاضل
عليك سلام الله ما انتفع الورى ... بعلمك واستعلى على المتطاول
وقال:
إن كان يحلو لديك قتلي ... فزد من الهجر في عذابي
عسى يطيل الوقوف بيني ... وبينك الله في الحساب
وقال:
لاموا عليك وما دروا ... أن الهوى سبب السعادة
إن كان وصل فالمنى ... أو كان هجر فالشهادة
وعكسه فقال:
يا قلب دع عنك الهوى قسراً ... ما أنت منه حامد أمرا
أضعت دنياك بهجرانه ... إن نلت وصلاً ضاعت الأخرى
وقال:
وللزنبور والبازي جميعاً ... لدى الطيران أجنحة وخفق
ولكن بين ما يصطاد بازٍ ... وما يصطاده الزنبور فرق

الحسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد
الأستاذ مؤيد الدين أبو إسماعيل الأصبهاني المعروف بالطغرائي نسبته إلى من يكتب الطغراء، وهي الطرة التي تكتب ف أعلى المناشير فوق البسملة بالقلم الجلي تتضمن اسم الملك وألقابه، وهي كلمة أعجمية محرفة من الطرة، كان آيةً في الكتابة والشعر، خبيراً بصناعة الكيمياء، له فيها تصانيف أضاع الناس بمزاولتها أموالاً لا تحصى، وخدم السلطان ملك شاه بن ألب أرسلان، وكان منشيء السلطام محمدٍ مدة ملكه متولي ديوان الطغراء، وصاحب ديوان الإنشاء. تشرفت به الدولة السلجوقية، وتشوقت إليه المملكة الأيوبية، وتنقل في المناصب والمراتب، وتولى الاستيفاء وترشح للوزارة، ولم يكن في الدولتين السلجوقية والإمامية من يماثله في الإنشاء سوى أمين الملك أبي نصرٍ العتبي. وله في العربية والعلوم قدر راسخ، وله البلاغة والمعجزة في النظم والنثر.

قال الإمام محمد بن الهيثم الأصفهاني: كشف الأستاذ أبو إسماعيل بذكائه سر الكيمياء، وفك رموزها واستخرج كنوزها، وله فيها تصانيف منها: جامع الأسرار وكتاب تراكيب الأنوار، وكتاب حقائق الاستشهادات وكتاب ذات الفوائد، وكتاب الرد على ابن سينا في إبطال الكيمياء، ومصابيح الحكمة، وكتاب مفاتيح الرحمة. وله ديوان شعرٍ وغير ذلك. ولد سنة ثلاثٍ وخمسين وأربعمائةٍ، وقتل في الوقعة التي كانت بين السلطان مسعود بن محمودٍ وأخيه السلطان محمودٍ سنة خمس عشرة وخمسمائةٍ، وقد جاوز الستين، وروي أنه لما عزم السلطان محمود على قتل الطغرائي أمر به أن يشد إلى شجرة وأن يقف تجاهه جماعة بالسهام، وأن يقف إنسان خلف الشجرة يكتب ما يقول. وقال لأصحاب السهام لا ترموه حتى أشير إليكم، فوقفوا والسهام مفوقة لرميه فأنشد الطغرائي في تلك الحالة:
وقد أقول لمن يسدد سهمه ... نحوي وأطراف المنية شرع
والموت في لحظات أحور طرفه ... دوني وقلبي دونه يتقطع
بالله فتش عن فؤادي هل يرى ... فيه لغير هوى الأحبة موضع
أهون به لو لم يكن في طيه ... عهد الحبيب وسره المستودع
فرق له وأمر بإطلاقه، ثم إن الوزير أغراه بقتله بعد حينٍ فقتله. ومن شعر مؤيد الدين الطغرائي قصيدته التي تداولها الرواة وتناقلتها الألسن المعروفة بلامية العجم، وقد رأيت أن أوردها بتمامها إعجاباً بها قال:
أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل
مجدي أخيراً ومجدي أولاً شرع ... والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
فيم الإقامة بالزوراء لا سكني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي
ناءٍ عن الأهل صفر الكف منفرد ... كالسيف عري متناه عن الخلل
فلا صديق إليه مشتكى حزني ... ولا أنيس إليه منتهى جذلي
طال اغترابي حتى حن راحلتي ... ورحلها وقرا العسالة الذبل
وضج من لغبٍ نضوى وعج لما ... يلقى ركابي ولج الركب في عذلي
أريد بسطة كفٍ أستعين بها ... على قضاء حقوقٍ للعلا قبلي
والدهر يعكس آمالي ويقنعني ... من الغنيمة بعد الجد بالقفل
وذي شطاطٍ كصدر الرمح معتقلٍ ... لمثله غير هيابٍ ولا وكل
حلو الفكاهة مر الجد قد مزجت ... بشدة البأس منه رقة الغزل
طردت سرح الكرى عن ورد مقلته ... والليل أغرى سوام النوم بالمقل
والركب ميل على الأكوار من طربٍ ... صاحٍ وآخر من خمر الهوى ثمل
فقلت أدعوك للجلى لتنصرني ... وأنت تخذلني في الحادث الجلل
تنام عيني وعين النجم ساهرة ... وتستحيل وصبغ الليل لم تحل
فهل تعين على غيٍ هممت به ... والغي يزجر أحياناً عن الفشل
إني أريد طروق الحي من إضيمٍ ... وقد حماه رماة من بني ثعل
يحمون بالبيض والسمر اللدان به ... سود الغدائر حمر الحلي والحلل
فسر بنا في ذمام الليل معتسفاً ... فنفخة الطيب تهدينا إلى الحلل
فالحب حيث العدا والأسد رابضة ... حول الكناس لها غاب من الأسل
نؤم ناشئة بالجزع قد سقيت ... نصالها بمياه الغنج والكحل
قد زاد طيب أحاديث الكرام بها ... ما بالكرائم من جبنٍ ومن بخل
تبيت نار الهوى منهن في كبدٍ ... حرى ونار القرى منهم على القلل
يقتلن أنضاء حبٍ لا حراك به ... ويحتوين كرام الخيل والإبل
يشفى لديغ العوالي في بيوتهم ... بنهلةٍ من غدير الخمر والعسل
لعل إلمامةً بالجزع ثانيةً ... يدب منها نسيم البرء في عللي
لا أكره الطعنة النجلاء قد شفعت ... برشقةٍ من نبال الأعين النجل

ولا أهاب الصفاح البيض تسعدني ... باللمح من خلل الأستار والكلل
ولا أخل بغزلانٍ تغازلني ... ولو دهتني أسود الغيل بالغيل
حب السلامة يثني هم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقاً ... في الأرض أو سلماً في الجو فاعتزل
ودع غمار العلا للمقدمين على ... ركوبها واقتنع منهن بالبلل
يرضى الذليل بخفض العيش مسكنةً ... والعز تحت رسيم الأينق الذلل
فادرأ بها في نحور البيد جافلةً ... معارضاتٍ مثاني اللجم بالجدل
إن العلا حدثتني وهي صادقة ... فيما تحدث أن العز في التنقل
لو أن في شرف المأوى بلوغ منىً ... لم تبرح الشمس يوماً دارة الحمل
أهبت بالحظ لو ناديت مستمعاً ... والحظ عني بالجهال في شغل
لعله إن بدا فضلي ونقصه ... لعينه نام عنهم أو تنبه لي
أعلل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
لم أرض بالعيش والأيام مقبلة ... فكيف أرضى وقد ولت على عجل؟
غالى بنفسي عرفاني بقيمتها ... فصنتها عن رخيص القدر مبتذلي
وعادة النصل أن يزهى بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل
ما كنت أؤثر أن يمتد بي زمني ... حتى أرى دولة الأوغاد والسفل
تقدمتني أناس كان شوطهم ... وراء خطوي إذ أمشي على مهل
هذا جزاء امرئٍ لأقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الأجل
وإن علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
فاصبرلها غير محتال ولا ضجرٍ ... في حادث الدهر ما يغني عن الحيل
أعدى عدوك أدنى من وثقت به ... فحاذر الناس واصحبهم على دخل
وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعول في الدنيا على رجل
وحسن ظنك بالأيام معجزة ... فظن شراً وكن منها على وجل
غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت ... مسافة الخلف بين القول والعمل
وشان صدقك عند الناس كذبهم ... وهل يطابق معوج بمعتدل
إن كان ينجع شيءٍ في ثباتهم ... على العهود فسبق السيف للعذل
يا وارداً سؤر عيشٍ كله كدر ... أنفقت صفوك في أيامك الأول
فيم اقتحامك لج البحر تركبه ... وأنت يكفيك منه مصة الوشل؟
ملك القناعة لا يخشى عليه ولا ... يحتاج فيه إلى الأنصار والخول
ترجو البقاء بدارٍ لا ثبات لها ... فهل سمعت بظلٍ غير منتقل؟
ويا خبيراً على الأسرار مطلعاً ... اصمت ففي الصمت منجاة من الزلل
قد رشحوك لأمرٍ لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وقال يسلي معين الملك فضل الله في نكبته ويحضه على الصبر:
تصدى وللحي المنيع ... غزال أحم المقلتين كحيل
تصدى وأمر البين قد جد جده ... وزمت جمال واستقل حمول
وفي الصدر من نار الصبابة جاحم ... وفي الخد من ماء الجفون مسيل
غزال له مرعى من القلب مخصب ... وظل صفيق الجانبين ظليل
تناصف فيه الحسن أما قوامه ... فشطب وأما خصره فنحيل
قريب من الرائين يطمع قربه ... وليس إليه للمحب سبيل
إذا سار لحظ المرء في وجناته ... تضاءل عند الطرف وهو كليل
ولما استقل الحي وانصدعت به ... نوىً عن وداع الظاعنين عجول

تراءى لنا وجه من الخد نير ... وضاءت علينا نضرة وقبول
فصبراً معين الملك إن عن حادث ... فعاقبة الصبر الجميل جميل
ولا تيأسن من صنع ربك إنه ... ضمين بأن الله سوف يديل
فإن الليالي إذ يزول نعيمها ... تبشر أن النائبات تزول
ألم تر أن الشمس بعد كسوفها ... لها منظر يغشي العيون صقيل
وأن الهلال النضو يغمر بعدما ... بدا وهو شخت الجانبين ضئيل
ولا تحسبن السيف يقصر كلما ... تعاوده بعد المضاء كلول
ولا تحسبن الدوح يقلع كلما ... يمر به نفح الصبا فيميل
فقد يعطف الدهر الأبي عنانه ... فيشفي عليل أو يبل غليل
ويرتاش مقصوص الجناحين بعدما ... تساقط ريش واستطار نسيل
ويستأنف الغصن السليب نضارةً ... فيورق ما لم يعتوره ذبول
وللنجم من بعد الرجوع استقامة ... وللحظ من بعد الذهاب قفول
وبعض الرزايا يوجب الشكر وقعها ... عليك وأحداث الزمان شكول
ولا غرو إن أخنت عليك فإنما ... يصادم بالخطب الجليل جليل
وأي قناةٍ لم ترنح كعوبها ... وأي حسامٍ لم يصبه فلول؟
أسأت إلى الأيام حتى وترتها ... فعندك أضغان بها وذحول
وصارفتها فيما أرادت صروفها ... ولولاك كانت تنتحي وتصول
وما أنت السيف يسكن غمده ... ليردى به يوم النزال قتيل
أمالك بالصديق يوسف أسوة ... فتحمل وطء الدهر وهو ثقيل؟
وما غض منك الحبس والذكر سائر ... طليق له في الخافقين زميل
فلا تذعنن للخطب آدك ثقله ... فمثلك للأمر العظيم حمول
ولا تجزعن للكبل مسك وقعه ... فإن خلاخيل الرجال كبول
وصنع الليالي ما عدتك سهامها ... وإن أجحفت بالعالمين جميل
وإن امرأً تعدو الحوادث عرضه ... ويأسى لما يأخذنه لبخيل
وقال:
أما العلوم فقد ظفرت ببغيتي ... منها فما أحتاج أن أتعلما
وعرفت أسرار الخليقة كلها ... علماً أنار لي البهيم المظلما
وورثت هرمس سرحكمته الذي ... ما زال ظناً ف الغيوب مرجما
وملكت مفتاح الكنوز بحكمةٍ ... كشفت لي السر الخفي المبهما
لولا التقية كنت أظهر معجزاً ... من حكمتي تشفي القلوب من العمى
أهوى التكرم والتظاهر بالذي ... علمته والعقل ينهي عنهما
وأريد لا ألقى غبياً موسراً ... في العالمين ولا لبيباً معدما
والناس إما جاهل أو ظالم ... فمتى أطيق تكرما وتكلما؟
وقال:
أيكية صدحت شجواً على فننٍ ... فأشعلت ما خبا من نار أشجاني
ناحت وما فقدت إنساً ولا فجعت ... فذكرتني أوطاري وأوطاني
طليقة من إسار الهم ناعمة ... أضحت تجدد وجد الموثق العاني
تشبهت بي في وجدٍ وفي طربٍ ... هيهات ما نحن في الحالين سيان
ما في حشاها ولا في جفنها أثر ... من نار قلبي ولا من ماء أجفاني
يا ربة البانة الغناء تحضنها ... خضراء تلتف أغصاناً بأغصان
إن كان نوحك إسعاداً لمغترب ... ناءٍ عن الهل ممنيٍ بهجران
فقارضيني إذا ما اعتادني طرب ... وجداً بوجدٍ وسلواناً بسلوان
ما أنت مني ولا يعنيك ما أخذت ... مني الليالي ولا تدرين ما شاني
كلي إلى السحب إسعادي فإن لها ... دمعاً كدمعي وإرناناً كإرناني
وقال:
أقول لنضوي وهي من شجني خلو ... حنانيك قد أدميت كلمي يا نضو

تعالى أقاسمك الهموم لتعلمي ... بأنك مما تشتكي كبدي خلو
تريدين مرعى الريف والبدو أبتغي ... وما يستوي الريف العراقي والبدو
هناك هبوب الريح مثلك لاعب ... ومثلي ماء المزن مورده صفو
ومحجوبةٍ لو هبت الريح أرقلت ... إليها المهارى بالعوالي ولم يلووا
صوت إليها وهي ممنوعة الحمى ... فحتام؟ أصبو نحو من لا له نحو
هوىً ليس يسلى القرب عنه ولا النوى ... وشجو قديم ليس يشبهه شجو
فأسر ولا فك ووجد ولا أسىً ... وسقم ولا برء وسكر ولا صحو
عناء معن وهو عندي راحة ... وسم زعاف طعمه في فمي حلو
ولولا الهوى ما شاقني لمع بارقٍ ... ولا هدني شجو ولا هزني شدو
وقال:
خبروها أني مرضت فقالت ... أضنىً طارفاً شكا أم تليدا؟
وأشاروا بأن تعود وسادي ... فأبت وهي تشتهي أن تعودا
وأتتني في خفيةٍ وهي تشكو ... رقبة الحي والمزار البعيدا
ورأتني كذا فلم تتمالك ... أن أمالت علي عطفاً وجيداً
ثم قالت لتربها وهي تبكي ... ويح هذا الشباب غضا جديدا
زورة ما شفت عليلاً ولكن ... زيدت جمرة الفؤاد وقودا
وتولت بحسرة البين تخفي ... زفراتٍ أبين إلا صعودا
وقال:
أنظر ترى الجنة في وجهه ... لا ريب في ذاك ولا شك
أما ترى فيه الرحيق الذي ... ختامه من خاله مسك

الحسين بن علي بن الحسن
ابن محمد بن يوسف بن بحر بن بهرام بن المرزبان بن ماهان بن باذام بن ساسان بن الحرون من ولد بهرام جور ملك فارس، أبو القاسم المعروف بالوزير المغربي الأديب اللغوي الكاتب الشاعر، ولد فجر يوم الأحد ثالث عشر ذي الحجة، سنة سبعين وثلاثمائةٍ. وحفظ القرآن وعدة كتبٍ في النحو واللغة وكثيراً من الشعر، وأتقن الحساب والجبر والمقابلة، ولم يبلغ العمر أربعة عشر ربيعاً، وكان حسن الخط سريع البديهة في النظم والنثر. ولما قتل الحاكم العبيدي أباه وعمه وأخويه هرب من مصر، فلما بلغ الرملة استجار بصاحبها حسان بن الحسن بن مفرج بن دغفل بن الجراح الطائي ومدحه فأجاره، وسكن جأشه وأزال خوفه ووحشته، فأقام عنده مدةً في خلالها نيته على الحاكم صاحب مصر، ثم رحل عنه متوجهاً إلى الحجاز مجتازاً بالبلقاء من أعمال دمشق، فلما وصل إلى مكة أطمع صاحبها بالحاكم ومملكة الديار المصرية، وجد في ذلك حتى أقلق الحاكم وخاف على ملكه، فاضطر إلى إرضاء ابن الجراح صاحب الرملة واستمالته ببذل الأموال، حيث بايع صاحب مكة أبا الفتوح الحسن بن جعفرٍ بالخلافة، فلما استمال الحاكم ابن الجراح هرب أبو الفتوح إلى مكة، وهرب الوزير أبو القاسم إلى العراق، وقصد فخر الملك أبا غالب بن خلفٍ الوزير فأقام عنده بواسط مكرماً بعد أن رفع عنه طلب القادر بالله له، حيث اتهم أنه ورد لإفساد الدولة العباسية، فلما توفي فخر الملك مقتولاً عاد الوزير المغربي إلى بغداد، ثم شخص إلى الموصل فاتفق وفاة أبي الحسن كاتب قرواش بن هانئ بني عقيلٍ، فتولى الكتابة مكانه ووزر لقرواشٍ، ثم وزر بعد حينٍ لمشرف الدولة بن بويه مكان مؤيد المكل أبي عليٍ، ثم فارق مشرف الدولة وعاد إلى خدمة مخدومه الأول قرواشٍ، ثم تجدد للقادر سوء رأيٍ فيه، ففارق قرواشاً متوجهاً إلى ديار بكرٍ، فوزر فيها لسلطانها أحمد بن مروان، وأقام عنده إلى أن توفي في ثالث عشر من شهر رمضان سنة ثماني عشرة وأربعامائةٍ، وكانت وفاته بميافارقين، وحمل بوصيةٍ منه إلى الكوفة ودفن بها في تربةٍ مجاورةٍ لمشهد عليٍ - رضي الله عنه - واوصى أن يكتب على قبره:
كنت في سفرة الغواية والجه ... ل مقيماً فخان مني قدوم
تبت من كل مأتم فعسى يم ... حى بهذا الحديث ذاك القديم
بعد خمسٍ وأربعين لقد ما ... طلت إلا أن الغريم كريم

وللوزير أبي القاسم رواية عن الوزير أبي الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات المعروف بابن حنزابة، حكى عنه بسنده إلى المدائني أنه قال: كان رجل بالمدينة من بني سليمٍ يقال له جعدة، كان يتحدث إليه النساء بظهر المدينة فيأخذ المرأة فيعقلها إلى الحيطان ويثبت العقال، فإذا أرادت أن تثب سقطت وتكشفت، فبلغ ذلك قوماً في بعض المغازي فكتب رجل منهم إلى عمر - رضي الله عنه - بهذه الأبيات:
ألا أبلغ أبا حفصٍ رسولاً ... فداً لك من أخي ثقةٍ إزاري
قلائصنا هداك الله إناشغلنا عنكم زمن الحصار
لئن قلص تركن معقلاتٍ ... قفا سلعٍ بمختلف البحار
يعقلهن جعدة من سليمٍ ... وبئس معقل الذود الطوار
يعقلهن لأبيض شيظمي ... معر يبتغي بسط العرار
فلما قرأ عمر الأبيات قال: علي بجعدة من سليمٍ فأتوه به، فكان سعيد يقول: إني لفي الأغيلمة إذا جروا جعدة إلى عمر، فلما رآه قال: أشهد أنك شيظمي كما وصفت، فضربه مائةً ونفاه إلى عمان. ومن شعر الوزير المغربي:
خف الله واستدفع سطاه وسخطه ... وسائله فيما تسأل الله تعطه
فما تقبض الأيلم في نيل حاجةٍ ... بنان فتىً أبدى إلى الله بسطه
زكن بالذي قد خط باللوح راضياً ... فلا مهرب ممما قضاه وخطه
وإن مع الرزق اشتراط التماسه ... وقد يتعدى إن تعديت شرطه
ولو شاء ألقى في فم الطير قوته ... ولكنه أوحى إلى الطير لقطه
إذ ما احتملت العبء فانظر قبيل أن ... تنوء به ألا تروم محطه
وأفضل أخلاق الفتى العلم والحجا ... إذا ما صروف الدهر أخلقن مرطه
فما رفع الدهر امرأً عن محله ... بغير التقى والعلم إلا وحطه
وقال:
حلقوا شعره ليكسوه قبحاً ... غيرةً منهم عليه وشحا
كان صبحاً عليه ليل بهيم ... فنحرا ليله وأبقوه صبحا
وقال:
لي كلما ابتسم النهار تعلة ... بمحدثٍ ما شاء قلبي شأنه
فإذا الدجى وافى وأقبل جنحه ... فهناك يدري الهم أين مكانه؟
وقال:
إذا ما الأمور اضطربن اعتلى ... سفيه يضام العلا باعتلائه
كذا الماء إن حركته يد ... طفا عكر راسب في إنائه
وقال:
أرى الناس في الدنيا كراعٍ تنكرت ... مراعيه حتى ليس فيهن مرتع
فماء بلا مرعىً ومرعً بغير ماء ... وحيث ترى ماءً ومرعىً فمسبع
وقال:
سأعرض كل منزلةٍ ... تعرض دونها العطب
فإن أسلم رجعت وقد ... ظفرت وأنجح الطلب
وإن أعطب فلا عجب ... لكل منيةٍ سبب
وقال:
لو كنت أعرف فوق الشكر منزلةً ... أعلى من الشكر عند الله في الثمن
إذاً منحتكما مني مهذبةً ... حذواً على حذو ما واليت من حسن
وقال:
أقول لها والعيس تحدج للسرى ... عدي لفقدي ما استطعت من الصبر
سأنفق ريعان الشبيبة آنفاً ... على طلب العلياء أو طلب الأجر
أليس من الخسران أن ليالياً ... تمر بلا نفعٍ وتحسب من عمري
وقال:
الدهر سهل وصعب ... والعيش مر وعذب
فاكسب بمالك حمداً ... فليس كالحمد كسب
وما يدوم سرور ... فاغنم وقلبك رطب
وقال:
من بعد ملكي ومتم أن تغدروا ... ما بعد فرقة ما ملكت تخير
ردوا الفؤاد كما عهدتم للحشا ... ولطرفي الساهي الكرى ثم اهجروا
وقال:
لا تشاور من ليس يصفيك وداً ... إنه غير سالكٍ بك قصداً
واستشر في الأمور كل لبيبٍ ... ليس يأتوك في النصيحة جهدا
وقال:
تأمل من أهواه صفرة خاتمي ... فقال بلطفٍ لم تجنبت أحمره؟
فقلت: لعمري كان أحمر لونه ... ولكن سقامي حل فيه فغيره
وقال:

إني أبثك من حديث ... ي و الحديث له شجون
فارقت موضع مرقدي ... ليلاً ففارقني السكون
قل لي فأول ليلةٍ ... في القبر كيف ترى أكون؟

الحسين بن عبد الله بن أحمد
ابن عبد الجبار الأمير أبو الفتح المعروف بابن أبي حصينة المعري، الأديب الشاعر، توفي بسروج في منتصف شعبان سنة سبعٍ وخمسين وأربعمائةٍ وكان سبب تقدمه ونواله الإمارة: أن الأمير تاج الدولة بن مرداسٍ إلى حضرة المستنصر العبيدي رسولاً سنة سبعٍ وثلاثين وأربعمائةٍ، فمدح المستنصر بقصيدةٍ قال فيها:
ظهر الهدى وتجمل الإسلام ... وابن الرسول خليفة وإمام
مستنصر بالله ليس يفوته ... طلب ولا يعتاص عنه مرام
حاط العباد وبات يسهر عينه ... وعيون سكان البلاد نيام
قصر الإمام أبي تميمٍ كعبة ... ويمينه ركن لها ومقام
لولا بنو الزهراء ما عرف التقى ... فينا ولا تبع الهدى الأقوام
يا آل أحمد ثبتت أقدامكم ... وتزلزلت بعداكم الأقدام
لستم وغيركم سواءً، أنتم ... للذين أرواح وهم أجسام
يا آل طه حبكم وولاؤكم ... فرض وإن عذل اللحاة ولاموا
وهي طويلة. ثم مدحه سنة خمسين وأربعمائةٍ، فوعده بالإمارة، وأنجز له وعده سنة إحدى وخمسين، فتسلم سجل الإمارة من بين يدي الخليفة في ربيعٍ الآخر من السنة، فمدحه بقصيدةٍ منها:
أما الإمام فقد وفى بمقالةٍ ... صلى الإله على الإمام وآله
لذنا بجانبه فعم بفضله ... وببذله وبصفوه وجماله
لا خلق أكرم من معدٍ شيمةً ... محمودة في قوله وفعاله
فاقصد أمير المؤمنين فما ترى ... بؤساً وأنت مظلل بظلاله
زاد الإمام على البحور بفضله ... وعلى البدور بحسنه وجماله
وعلا سرير الملك من آل الهدى ... من لاتمر الفاحشات بباله
النصر والتأييد في أعلامه ... ومكارم الأخلاقفي سرباله
مستنصر بالله ضاق زمانه ... عن شبهه ونظيره ومثاله
وكان الذي سعى في تأميره وكتب له سجل الإمارة أبو عليٍ صدقة بن إسماعيل بن فهدٍ الكاتب، فمدحه الأمير أبو الفتح بقصيدةٍ منها:
قد كان صبري عيل في طلب العلا ... حتى استندت إلى ابن إسماعيلا
فظفرت بالخطر الجليل ولم يزل ... يحوي الجليل من استعان جليلا
لولا الوزير أبو عليٍ لم أجد ... أبداً إلى الشرف العلي سبيلا
إن كان ريب الدهر قبح ما مضى ... عندي فقد صار القبيح جميلا
وأجل ما فعل الرجال صلاتهم ... للراغبين العز والتبجيلا
اليوم أدركت الذي أنا طالب ... والأمس كان طلابه تعليلا
وقال يمدح أسد الدولة عطية بن صالح بن مرداسٍ:
سرى الطيف هندٍ والمطي بنا تسري ... فأخفى دجى ليلٍ وأبدى سنا فجر
خليلي فكاني من الهم واركبا ... فجاج البوادي الغبر في النوب الغمر
إلى ملكٍ من عامرٍ لو تمثلت ... مناقبه أغنت عن الأنجم الزهر
إذا نحن أثنينا عليه تلفتت ... إلينا المطايا مصغياتٍ إلى الشكر
وفوق سرير الملك من آل صالحٍ ... فتىً ولدته أمه ليلة القدر
فتىً وجهه أبهى من البدر منظراً ... وأخلاقه أشهى من الماء والخمر
أبا صالحٍ أشكو إليك نوائباً ... عدتني كما يشكو النبات إلى القطر
لتنظر نحوي نظرةً إن نظرتها ... إلى الصخر فجرت العيون من الصخر
وفي الدار خلفي صبية قد تركتهم ... يطلون إطلال الفراخ من الوكر
جنيت على روحي بروحي جنايةً ... فأثقلت ظهري بالذي خف من ظهري

فهب هبةً يبقى عليك ثناؤها ... بقاء النجوم الطالعات التي تسري
قال المير أسامة بن منقذٍ: فلما فرغ من إنشاده أحضر الأمير أسد الدولة القاضي والشهود، وأشهد على نفسه بتمليك الأمير أبي الفتح بن أبي حصينة ضيعةً من ضياعه لها ارتفاق كبير، وأجازه فأحسن جائزته فأثرى وتمول، ولما ملك محمود بن نصر بن صالح بن مرداسٍ حلب سنة اثنتين وخمسين وأربعمائةٍ، مدحه بقصيدة منها:
كفي ملامك فالتبريح يكفيني ... أو جربي بعض ما ألقى ولوميني
برمل يبرين أصبتم فهل علمت ... رمال يبرين أن الشوق يبريني
أهوى الحسان وخوف الله يردعني ... عن الهوى والعيون النجل تغويني
ما بال أسماء تلويني مواعدها ... أكل ذات جمالٍ ذات تلوين؟
كان الشباب إلى هندٍ يقربني ... وشاب رأسي فصار اليوم يقصيني
يا هند إن سواد الرأس يصلح للد ... دنيا وإن بياض الرأس للدين
لست امرءاً غيبة الأحرار من شيمي ... ولا النميمة من طبعي ولا ديني
دعني وحيداً أعاني العيش منفرداً ... فبعض معرفتي بالناس تكفيني
ما ضرني ودفاع الله يعصمني ... من بات يهدمني فالله يبنيني
وما أبالي وصرف الدهر يسخطني ... وسيب نعماك يا ابن الصيد يرضيني
أبا سلامة عش واسلم حليف علاً ... وسؤددٍ بشعاع الشمس مقرون
أشنا عداكم وأهوى أن أدين لكم ... فللعدى دينهم فيكم ولي ديني
فلما أتم إنشادها قال له تمنَّ، قال: أتمنى أن أكون أميراً، فجعله أميراً يجلس مع الأمير، ويخاطب بالأمير وقربه، وقد تقدم أن الإمارة وجهت إليه سنة إحدى وخمسين من ديوان المستنصر بمصر، ولا منافاة بين الروايتين، إذ يمون توجيه الإمارة إليه من الأمير محمود بن نصرٍ تالياً لتوجيهها إليه من جانب المستنصر ومؤكداً مؤيداً له، ووهبه صاحب حلب محمود أيضاً مكاناً بحلب تجاه حمام الواساني فجعله داراً وزخرفها، فلما تم بناؤها نقش على دائرة الذرابزين فيها:
دار بنيناها وعشنا بها ... في دعةٍ من آل مرداس
قوم محوا بؤسي ولم يتركوا ... علي في الأيام من باس
قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليحسن الناس إلى الناس
ولما تكامل البناء عمل دعوةً حضرها الأمير محمود بن نصرٍ، فلما رأى حسن الدار وقرأ الأبيات المتقدمة قال: يا أبا الفتح كم صرفت على بناء الدار؟ قال: يا مولاي هذا الرجل تولى عمارتها. ولا أدري كم صرف عليها؟ فسأل المعمار فقال: غرم عليها ألفا دينارٍ مصريةٍ، فأمر بإحضار ألفي دينارٍ وثوبٍ أطلسٍ وعمامةٍ مذهبةٍ وحصانٍ بطوقٍ مذهبٍ وسرفسارٍ ذهبٍ فسلمها إلى ابن أبي حصينة وقال له:
قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليحسن الناس إلى الناس
وحضر بعد أيامٍ رجل من أهل المعرة يقال له الزقوم من رعاع الناس وأسافلهم، فطلب رزق جنديٍ فأعطى ذلك وجعل من أجناد المعرة، فقال أحمد بن محمدٍ المعروف بابن الزويدة المعري في ذلك:
أهل المعرة تحت أقبح خطةٍ ... وبهم أناخ الخطب وهو جسيم
لم يكفهم تأمير ابن حصينةٍ ... حتى تجند بعده الزقوم
يا قوم قد سئمت لذاك نفوسنا ... يا قوم أين الترك أين الروم؟
فشاعت الأبيات وسمعها الأمير أبو الفتح، فذهب إلى بيت ابن الزويدة فلما دخل عليه قال له ابن الزويدة: الآن والله كان عندي الزقوم وقال لي: والله ما بي من الهجو ما بي من أنك قرنتني بابن أبي حصينة، فقال له ابن حصينة: قبحك الله وهذا وهذا هجو ثانٍ وقال يمدح قريش بن بدران بن المقلد بن المسيب صاحب نصيبين:
أبت عبراته إلا انهمالاً ... عشية أزمع الحي ارتحالا
أجدك كلما هموا بنأيٍ ... ترقرق ماء عينك ثم سالا
تقاضينا مواعد أم عمروٍ ... فضنت أن تنيل وأن تنالا
وسار خيالها الساري إلينا ... فلو علمت لعاقبت الخيالا
ومنها:
إذا بلغت ركائبنا قريشاً ... فقد بلغت بنا الماء الزلالا

فتىً لو مد نحو الجو باعاً ... وهم بأن ينال الشهب نالا
إذا انتسب ابن بدرانٍ وجدنا ... مناسبه الملية لا تعالى
تتيه بها إذا ذكرت معد ... وتكسب كل قيسيٍ جمالا
أيا علن الهدى نجوى محبٍ ... يحبكم اعتقاداُ لا انتحالا
مننت فلم تجشمني عناءً ... وجدت فلم تكلفني سؤالا
إذا عدم الزمان مسيبياً ... أتاح الله للدنيا وبالا
وهي طويلة اكتفينا منها بما ذكرناه.
وقال يرثي زعيم الدولة أبا كاملٍ بركة بن المقلد بن المسيب. وتوفي بتكريت سنة ثلاثٍ وأربعين وأربعمائةٍ:
من عظيم البلاء موت العظيم ... ليتني مت قبل موت الزعيم
يا جفوني سحي دماً أو فحمي ... صحن خدي بعبرةٍ كالحميم
بعد خرقٍ من الملوك كريمٍ ... ما زمان أودى به بكريم
جعفري النصاب من صفوة الصف ... وة في الفخر والصميم الصميم
يا أبا كاملٍ برغمي أن يشقي ... ك سكنى التراب بعد النعيم
أو تبيت القصور خاليةً من ... ك ومن وجهك الوضيء الوسيم
وانقراض الكرام من شيم الده ... ر ومن عادة الزمان اللئيم
قد بكت حسرةً عليه المذاكي ... وشكت فقده بنات الرسيم
وهي قصيدة طويلة، وقال يرثي أبا العلاء المعري:
العلم بعد أبي العلاء مضيع ... والأرض خالية الجوانب بلقع
أودى وقد ملأ البلاد غرائباً ... تسري كما تسري النجوم الطلع
ما كنت أعلم وهو يودع في الثرى ... أن الثرى فيه الكواكب تودع
جبل ظننت وقد تزعزع ركنه ... أن الجبال الراسيات تزعز
وعجبت أن تسع المعرة قبره ... ويضيق بطن الأرض عنه الأوسع
لو فاضت المهجات يوم وفاته ... ما استكثرت فيه فكيف الأدمع؟
تتصرم الدنيا ويأتي بعده ... أمم وأنت بمثله لا تسمع
لا تجمع المال العتيد وجد به ... من قبل تركك كل شيءٍ تجمع
وإن استطعت فسر بسيرة أحمدٍ ... تأمن خديعة من يضر ويخدع
رفض الحياة ومات قبل مماته ... متطوعاً بأبز ما يتطوع
عين تسهد للعفافوللتقى ... أبداً وقلب للمهيمن يخشع
شيم تجمله فهن لمجده ... تاج ولكن بالثناء يرصع
جادت ثراك أبا العلاء غمامة ... كندى يديك ومزنة لا تقلع
ما ضيع الباكي عليك دموعه ... إن البكاء على سواك مضيع
قصدتك طلاب العلوم ولا أرى ... للعلم باباً بعد بابك يقرع
مات النهى وتعطلت أسبابه ... وقضى العلا والعلم بعدك أجمع
وقال يرثي أبا يعلى حمزة بن الحسين بن العباس الحسيني الدمشقي، وكان يوم وفاته بدمشق:
هوى الشرف العالي بموت أبي يعلى ... ولا غرو أن جلت رزية من جلى
سيصلى بنار الحزن من كان آمناً ... به أنه في الحشر بالنار لا يصلى
تحلت به الدنيا فحل به الردى ... فعطلها من ذلك الحلي من حلى
فقدناه فقد الغيث أقلع وبله ... عن الأرض لما أنفدت ذلك الوبلا
لقد فل منه الدهر حد مهندٍ ... تركنا به كل حدٍ له فلا
فلست أبالي بعده أي عابرٍ ... من الناس أملى الله مدته أم لا
تقل دموعي والهموم كثيرة ... كذاك دخان النار إن كثرت قلا
وآنف أن أبكي عليك بعبرةٍ ... إذا لم يكن غرباً من الدمع أو سجلا
وقال يرثي معتمد الدولة قرواش بن المقلد بن المسيب العقيلي صاحب الموصل، توفى مسجوناً بقلعة الجراحية. وقيل: قتله ابن أخيه قريش في مستهل رجبٍ سنة أربعٍ وأربعين وأربعمائةٍ، ودفن بتل توبة من مدينة نينوى:

أمثل قرواشٍ يذوق الردى ... يا صاح ما أوقح وجه الحمام
حاشا لذاك الوجه أن يعرف ال ... بؤس وأن يحثى عليه الرغام
وللجبين الصلت أن يسلب ال ... بهجة أو يعدم حسن الوسام
يا أسف الناس على ماجدٍ ... مات فقال الناس مات الكرام
غير بعيدٍ يا بعيد الندى ... ولا ذميم يا وفي الذمام
زلت فلا القصر بهي ولا ... بابك معمور كثير الزحام
ولا الخيام البيض منصوبة ... بوركت يا ناصب تلك الخيام
قبحاً لدنيا حطمت أهلها ... وآخذتهم باكتساب الحطام
تأخذ ما تعطي فما بالنا ... نكثر فيما لا يدوم الخصام
يا قبر قرواشٍ سقيت اليا ... ولا تعدتك غوادي الغمام
قضى ولم أقض على إثره ... إني لمن ترك الوفا ذو احتشام
أنظم شعراً والجوى شاغلي ... يا عجباً كيق استقام الكلام
ولما وصل أرمانوس ملك الروم إلى حلب سنة إحدى وعشرين وأربعمائةٍ، ومعه ملك الروس وملك البلغار والألمان و البلجيكوالخزر والأرمن في ستمائة ألفس من الفرنج، قاتلهم شبل الدولة نصربن صالحٍ صاحب حلب. فهزمهم وتبعهم إلى عزازٍ وأسر جماعةً من أولاد ملوكهم، وغنم المسلمون منهم غنائم عظيمةً، فقال ابن أبي حصينة في ذلك وأنشدها شبل الدولة بظاهر قنسرين:
ديار الحي مقفرة يباب ... كأن رسوم دمنتها كتاب
نأت عنها الرباب وبات يهمي ... عليها بعد ساكنها الرباب
تعاتبني أمامة في التصابي ... وكيف به وقد فات الشباب؟
نضا مني الصبا ونضوت منه ... كما ينضو من الكف الخضاب
زمنها:
إلى نصرٍ وأي فتىً كنصرٍ ... إذا حلت بمغناه الركاب
أمنتهك الفرنج غداة ظلت ... حطاماً فيهم السمر الصلاب؟
جنودك لا يحيط بهن وصف ... وجودك لا يحصله حساب
وذكرك كله ذكر جميل ... وفعلك كله فعل عجاب
وأرمانوس كان أشد بأساً ... وحل به على يدك العذاب
أتاك يجر بحراً من حديدٍ ... له في كل ناحيةٍ عتاب
إذا سارت كتائبه بأرضٍ ... تزلزلت الأباطح والهضاب
فعاد وقد سلبت الملك عنه ... كما سلبت عن الميت الثياب
فما أدناه من خيرٍ مجيء ... ولا أقصاه عن شرٍ ذهاب
فلا تسمع لطنطنة الأعادي ... فإنهم إذا طنوا ذباب
ولا ترفع لمن عاداك رأساً ... فإن الليث تنبحه الكلاب
وقال:
أشد من فاقة الزمان ... مقام حرٍ على هوان
فاسترزق الله واستعنه ... فإنه خير مستعان
وإن نبا منزل بحرٍ ... فمن مكانٍ إلى مكان
وقال:
بكت على غداة البين حين رأت ... دمعي يفيض وحالي حال مبهوت
فدمعي ذوب ياقوتٍ على ذهبٍ ... ودمعها ذوب درٍ فوق ياقوت
وقال:
لا تخدعنك بعد طول تجاربٍ ... دنيا تغر بوصلها وستقطع
أحلام نومٍ أو كظلٍ زائلٍ ... إن اللبيب بمثلها لا يخدع
وقال يمدح ثابت بن شمال بن صالح بن مرداسٍ:
لو أن داراً أخبرت عن ناسها ... لسألترامة عن ظباء كناسها
بل كيف تخبر دمنة ما عندها ... علم بوحشتها ولا إيناسها؟
ممحوة العرصات يشملها البلى ... عن ساحبات المرط فوق دهاسها
ومنها:
وزمان لهوٍ بالمعرة مونقٍ ... بشياتها وبجانبي هرماسها
أيام قلت لذي المودة اسقني ... من خندريس حناكها أو حاسها
حمراء تغنينا بساطع لونها ... في الليلة الظلماء عن نبراسها
وكأنما حبب المزاج إذا طفا ... در ترصع في جوانب طاسها
رقت فما أدرى زجاجها ... في جسمها أم جسمها في كأسها؟؟

وكأنما زرجونة جاءت بها ... سقيت مذاب التبر عند غراسها
فأتت مشعشعةً كجذوة قابسٍ ... راعت أكف القوم عند مساسها
لله أيام الصبا ونعيمها ... وزمان جدتها ولين مراسها
مالي تعيب البيض بيض مفارقي ... وسبيلها تصبو إلى أجناسها
نور الصباح إذا الدجنة أظلمت ... أبهى وأحسن من دجى أغلاسها
إن الهوى دنس النفوس فليتني ... طهرت هذي النفس من أدناسها
ومطامع الدنيا ولا أرى ... شيئاً أعز لمهجةٍ من ياسها
من عف لم يذمم ومن تبع الخنا ... لم تخله التبعات من أوكاسها
زين خصالك بالسماح ولا ترد ... دنيا تراك وأنت بعض خساسها
ومتى رأيت يد امرئٍ ممدودةً ... تبغي مؤاساة الكريم فواسها
خير الأكف السابقات بجودها ... كف تجود عليك في إفلاسها
ومنها في المدح:
أما نزار فكلها لكريمة ... لكن أكرمها بنو مرداسها
وقال:
إذا المرء لم يرض ما أمكنه ... ولم يأت من أمره أحسنه
فدعه فقد ساء تدبيره ... سيضحك يوماً ويبكي سنه
وقال:
الدهر خداعة خلوب ... وصفوه بالقذى مشوب
فلا تغرنك الليالي ... فبرقها خلب كذوب
وأكثر الناس فاعتزلهم ... قوالب مالها قلوب

الحسين بن عبد الرحيم بن الوليد
ابن عثمان بن جعفرٍ، أبو عبد الله الكلابي المعروف بابن الزلازل من بني جعفر بن كلابٍ اللغوي الأديب الكاتب الشاعر. أخذ عن أبي القاسم الزجاجي وأبي بكرٍ الخرائطي وغيرهما. توفي سنة أربعٍ وخمسين وثلاثمائةٍ.
وله مصنفات منها: كتاب أنواع الأسجاع، ابتدأ بتأليفه في دمشق سنة ثلاثٍ وأربعين وثلاثمائةٍ، وروى فيه عن شيوخه وغيرهم، وهو كتاب ممتع أجاد وضعه وتأليفه.
ومن شعر ابن أبي الزلازل:
لقد عرفتك الحادثات نفوسها ... وقد أدبت إن كان ينفعك الأدب
ولو طلب الإنسان من صرف دهره ... دوام الذي يخشى لأعياه ما طلب
وقال:
فتىً لرغيفه قرط وشنف ... وإكليلان من خزرٍ وشزر
إذا كسر الرغيف بكى عليه ... بكا الخنساء إذ فجعت بصخر
وقال مهنئاً بعض الأمراء بالعيد:
عيد يمنٍ مؤكد بأمان ... من تصاريف طارق الحدثان
جعل الله عيد عامك هذا ... خير عيدٍ وذاك خير التهاني
ثم لا زلت من زمانك في صف ... وٍ ومن شرب صرفه في أمان
آخذاً ذمةً من الدهر لا تخ ... فر معقودةً بأوفى ضمان
نافذ الأمر عالي القدر محمو ... د المساعي مؤيد السلطان
وقال:
ثمانية قام الوجود بها فهل ... ترى من محيصٍ للورى عن ثمانيه؟
سرور وحزن واجتماع وفرقة ... وعسر ويسر ثم سقم وعافيه
بهن انقضت أعمار أولاد آدمٍ ... فهل من رأى أحوالهم متساويه؟
الحسين بن عبد السلام
أبو عبد الله المصري المعروف بالجمل، الشاعر المشهور، كان شاعراً مفلقاً مدح الخلفاء والأمراء. توفي في ربيع الآخر سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين. قدم دمشق وافداً على أحمد بن المدبر، وكان أحمد يقصده الشعراء، فمن مدحه بشعرٍ جيدٍ أجزل صلته، ومن مدحه بشعرٍ رديءٍ وجه به مع خادمٍ له إلى الجامع فلا يفارقه حتى يصلي مائة ركعةٍ ثم يصرفه. فدخل عليه الجمل وأنشده:
أردنا في أبي حسنٍ مديحاً ... كما بالمدح تنتجع الولاة
فقالوا أكرم الثقلين طراً ... ومن جدواه دجلة والفرات
وقالوا يقبل الشعراء لكن ... أجل صلات مادحه الصلاة
فقلت لهم وما يغني عيالي ... صلاتي؟ إنما الشأن الزكاة
فيأمر لي بكسر الصاد منها ... فتصبح لي الصلاة هي الصلات

وروى الجمل عن بشر بن بكرٍ عن الأوزاعي أنه قال: كان قوم كسالى ينامون تحت شجرة كمثرى يقولون: إن سقط في أفواهنا شيء أكلنا وإلا فلا، فسقطت كمثراة إلى جانب أحدهم، فقال له الذي يليه: ضعها في فمي. قال: لو استطعت أن أضعها في فمك وضعتها في فمي. قال ابن يونس في تاريخ مصر: كان الجمل شرهاً في الطعام دنئ النفس وسخ الثوب هجاءً، ولد قبل سنة سبعين ومائةٍ، وعلت سنه، ومدح المأمون بمصر لما ورد إليها لجوب البيمارستان، ومدح الأمراء مثل عبد الله بن طاهرٍ وغيرهم، وتوفي في ربيعٍ الآخر سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين، ومن شعر الجمل أيضاً:
إذا أظمأتك أكف اللئام ... كفتك القناعة شبعاً وريا
فكن رجلاً رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا
أبيا لنائل ذي ثروةٍ ... تراه بما في يديه أبيا
فإن إراقة ماء الحيا ... ة دون إراقة ماء المحيا

الحسين بن عقيل بن محمد
ابن عبد المنعمبن هاشمٍ البزار الواسطي القرشي. كان أديباً شاعراً وله عناية بالحديث، روى عنه الخطيب البغدادي، والحافظ أبو القاسم بن عساكر. توفي سنة إحدى وسبعين وأربعمائةٍ، ومن شعره:
لقد كمل الرحمن شخصك في الورى ... فلا شاب شيئاً من كمالك بالنقص
ومن جمع الآفاق في العين قادر ... على جمع أشتات الفضائل في شخص
وقال:
ولما حدا البين المشت بشملنا ... ولم يبق إلا أن تثار الأيانق
ولم نستطع عند الوداع تصبراً ... وقد غالنا دمع عن الوجد ناطق
وقفنا لوديعٍ فكادت نفوسنا ... لأجسادنا قبل الوداع تفارق
فباكٍ لما يلقاه من فقد إلفه ... وشاكٍ له قلب به الوجد عالق
وقال:
أقلي النهار إذا أضاء صباحه ... وأظل أنتنظر الظلام الدامسا
فالصبح يشمت بي فيقبل ضاحكاً ... والليل يرثي لي فيدبر عابسا
وقال:
على لام العذار رأيت خالاً ... كنقطة عنبرٍ بالمسك أفرط
فقلت لصاحبي هذا عجيب ... متى قالوا بأن اللام تنقط؟
الحسين بن علي بن أحمد
ابن عبد الواحد بن بكر بن شبيبٍ النصيبي النديم، نديم المستنجد بالله، ولد سنة خمسمائةٍ، وتوفي سنة ثمانين وخمسمائةٍ، كان أديباً كاتباً شاعراً له اليد الطولى في حل الألغاز العويصة، تفاوض أبو منصورٍ محمد بن سليمان بن قتلمش وأبو غالب بن الحصين في سرعة خاطر ابن شبيبٍ وتقدمه في حل الألغاز، فعمل ابن قتلمش أبياتاً على صورة الألغاز، ولم يلغز فيها بشيءٍ وأسلاها إلى ابن شبيبٍ يمتحنانه بها وهي:
وما شيءٍ له في الرأس رجل ... وموضع وجهه منه قفاه؟
إذا أغمضت عينك أبصرته ... وإن فتحت عينك لا تراه
ونظم أيضاً:
وجارٍ وهو تيار ... ضعيف العقل خوار
بلا لحمٍ ولا ريشٍ ... وهو في الرمز طيار
بطبعٍ باردٍ جداً ... ولكن كله نار
فكتب ابن شبيبٍ على الأول: هو طيف الخيال، وكتب على الثاني: هو الزئبق. فجاء أبو غالبٍ وأبو منصورٍ إليه وقالا: هب اللغز الأول طيف الخيال، والبيت الثاني يساعدك على ما قلت، فكيف تعمل بالبيت الأول؟ فقال: لأن المنام يفسر بالعكس، لأن من بكى يفسر بكاؤه بالضحك والسرور، ومن مات يفسر موته بطول العمر.
وأما اللغز الثاني: فغن أصحاب صناعة الكيمياء يرمزون للزئبق بالطيار والفرار والآبق وما أشبه ذلك، لأنه يناسب صفته، وأما برده فظاهر، ولإفراط برده ثقل جسمه وجرمه، وكله نار لسرعة حركته وتشكله في افتراقه والتئامه، وعلى كل حالٍ ففي ذلك تسامح يجوز في مثل هذه الصور الباطلة إذا طبقت على الحقيقة.
ودخل ابن شبيبٍ يوماً على الخليفة المستنجد بالله فقال الخليفة: أإبن شبيبٍ؟ فقال: عبدك يا أمير المؤمنين، فأعجبه هذا التصحيف منه. ومن شعر ابن شبيبٍ في المستنجد:
أنت الإمام الذي يحكي بسيرته ... من ناب بعد رسول الله أو خلفا
أصبحت لب بني العباس كلهم ... إن عددت بحروف الجمل الخلفا
فإن جمل حروف لب اثنان وثلاثون، والمستنجد هو الثاني والثلاثون من الخلفاء. ومن شعره أيضاً:

ومحترسٍ من نفسه خوف زلةٍ ... تكون عليه حجةً هي ما هيا
يصون عن الفحشاء نفساً كريمةً ... أبت شرفاً إلا العلا والمعاليا
صبور على ريب الزمان وصرفه ... كتوم لأسرار الفؤاد مداريا
له همة تعلو على كل همةٍ ... كما قد علا البدر النجوم الدراريا
وقال:
أغصان وردٍ زينت درر الندى ... أجيادها بمخانقٍ وعقود
فتوهجت كمسارجٍ وتأرجت ... كنوافجٍ وتدبجت كبرود
وتبلجت ككواكبٍ وتبرجت ... ككواعبٍ وتضرجت كخدود
وقال:
تبوح بسرك ضيقاً به ... وتبغي لسرك من يكتم
وكتمانك السر ممن تخاف ... ومن لاتخاف هو الأحزم
وإن ذاع سرك من صاحبٍ ... فأنت وإن لمته ألوم

الحسين بن علي بن محمد
ابن ممويه أبو عبد الله المعروف بابن قمٍ الزبيدي اليمني، ولد سنة ثلاثين وخمسمائةٍ، وتوفي سنة إحدى وثمانين وخمسمائةٍ، كان أديباً كاتباً شاعراً من أفاضل اليمن المبرزين في النظم والنثر والكتابة، ومن شعره:
أأحبابنا من بالقطيعة أغراكم ... وعن مستهام في المحبة ألهاكم
صددتم وأنتم تعلمون بأننا ... لغير التجني والصدود وددناكم
كشفت لكم سري على ثقةٍ بكم ... فصرت بذاك السر من بعض أسراكم
جعلناكم للنائبات ذخيرة ... فحين طلبناكم لها ما وجدناكم
قطعتم وصلناكم نسيتم ذكرناكم ... عققتم بررناكم أضعتم حفظناكم
وفي النفس سر لا تبوح بذكره ... ولو تلفت وجداً إلى يوم لقياكم
فإن تجمع الأيام بيني وبينكم ... غفرت خطاياكم لحرمة رؤياكم
وقال:
خير ما ورث الرجال بنيهم ... أدب صالح وحسن ثناه
ذاك خير من الدنانير والأو ... راق في يوم شدةٍ ورخاء
تلك تفنى والدين والأدب الص ... صالح لا يفنيان حتى اللقاء
ولابن قمٍ رسالة كتب بها إلى أبي حمير سبأ بن أبي السعود أحمد بن المظفر بن عليٍ الصليحي اليماني بعد انفصاله عن اليمن، ورواها الحافظ أبو طاهرٍ السلفي سنة ثمانٍ وستين وخمسمائةٍ وهي:

كتب عبد حضرة السلطان الأجل مولاي ربيع المجدبين، وقريع المتأدبين، جلوة الملتبس، وجذوة المقتبس، شهاب المجد الثاقب، ونقيب ذوي الرشد والمناقب، - أطال الله بقاءه، وأدام علوه و ارتقاءه، ما قدمت العارية للمستعير، ولزمت الياء للتصغير، - وجعل رتبته في الأولية عالية المقام كحرف الاستفهام، وكالمبتدأ إن تأخر في البنية فإنه مقدم في النية، ولا زالت حضرته من الحادثات حمىً، وللوفود مزدحماً وملتزماً، حتى يكون في العلا بمنزلة حرف الاستعلا وهو من حروف اللين في حصونٍ، وما جاورها من الإمالة مصون، ولا زال عدوه كالألف حالها يختلف، تسقط في صلة الكلام ولاسيما مع اللام، فإنه - أدام الله علوه - أحسن من إلى ابتداءً، ونشر علي من فضله رداءً، أراد أن يخفى وكيف يخفى؟ لأن من شرف الإحسان، سقوط ذكره عن اللسان، كالمفعول رفع رفع الفاعل الكامل، لما حذف من الكلام ذكر الفاعل، يهدي إليه سلاماً ما الروض ضاحكه النوض، غرس وحرس وسقي ووقي وغيب وصيب، فأخذ من كل نوء بنصيبٍ، زهاه الزهر، وسقاه النهر، جاور الأضا، فحسن وأضا، رتع فيه الشحرور ومرح العصفور، فنظر إلى أقاحيه تفتر في نواحيه وإلى البهار، يضاحك شمس النهار، فجعل فجعل يلثم من ورده خدوداً، ويضم من أغصانه قدوداً، ويقتبس النار من الجلنار ويلتمس العقيق من الشقيق، فتثنى ثملاً، وغنى خفيفاً ورملاً، بأطيب من نفحته المسكية، وأعطر من رائحته الذكية، وإني وإن أهديته في كل أوانٍ، من أداء ما يجب غير وانٍ، أعد نفسي السكيت في السبق لتقصيري لما علي من الحق، أثرت فعثرت، وجهدت فما سعدت، فأنا بحمد الله بخنوعٍ وقنوعٍ، وجنابٍ عن غين العين ممنوعٍ، فارقت المثول ولا أزال، ولزمت الخمول والاعتزال، سعيي سعي الجاهد، وعيشي عيش الزاهد، ببلدٍ الأديب فيه غريب، والأريب مريب، إن تكلم استثقل، وإن سكت استقلل، منزله كبيوت العناكب، ومعيشته كعجالة الراكب، فهو كما قال أبو تمامٍ:
أرض الفلاحة لو أتاها جرول ... أعني الحطيئة لاغتدى حراثا
ما جئتها من أي بابٍ جئتها ... إلا حسبت بيوتها أجداثا
تصدا بها الأفهام بعد صقالها ... وترد ذكران العقول إناثا
أرض خلعت اللهو خلعي خاتمي ... فيها وطلقت السرور ثلاثا
وأما حال عبده بعد فراقه في الجلد. فما حال أم تسعةٍ من الولد ذكورٍ، كأنهم عقبان وصقور، كنوا في وكور، اخترم منهم ثمانية، وهي على التاسع حانية، نادى النذير: العربان في البادية للعادية يا للعادية، فلما سمعت الداعي، ورأت الخيل وهي سراع، جعلت تنادي ولدها الأناة الأناة، وهو ينادي العياة العياة:
بطل كأن ثيابه في سرحةٍ ... يحذى نعال السبت ليس بتوأم
فحين رأته يختال في غصون الزرد المصون. أنشأت تقول:
نشدت أضبطاً يميل ... بين طرفاء وغيل
لباسه من نسج دا ... ود كضحضاح يسيل
فعرض له في البادية أسد هصور. كأن ذرعه مسد مضفور:
فتطاعنا وتوافقت خيلاهما ... وكلاهما بطل اللقاء مقنع
فلما سمعت صياح الرعيل، برزت من الخدر بصبرٍ قد عيل. فسألت عن الواحد. فقيل لها لحده اللاحد.
فكرت تبتغيه فصادفته ... على دمه ومصرعه السباعا
عبثن به فلم يتركن إلا ... أديماً قد تمزق أو كراعا
بأشد من عبدك تأسفاً. ولا أعظم كمداً ولا تلهفاً، وإنه ليعنف نفسه دائماً، ويقول لها لائماً، لو فطنت لقطنت. ولو عقلت لما انتقلت. ولو قنعت لرجعت وما هجعت.
يقيم الرجال الموسرون بأرضهم ... وترمي النوى بالمقترين المراميا
وما تركوا أوطانهم عن ملالةٍ ... ولكن حذاراً من شملتي الأعاديا
أيها السيد: أمن العدل والإنصاف. ومحاسن الشيم والأوصاف. إكرام المهان. وإذلال جواد الرهان يشبع في ساجوره كلب الزبل ويسغب في خيسه أبو الشبل:
إذا حل ذو نقصٍ مكانة فاضلٍ ... وأصبح رب الجاه غير وجيه
فإن حياة الحر غير شهيةٍ ... إليه وطعم الموت غير كريه

أقول لنفسي الدنية هبي طال نومك، واستيقظي لا عز قومك، أرضيت بالعطاء المنزور؟ وقنعت بالمواعيد الزور، يقظةً فإن الجد قد هجع، ونجعةً فمن أجدب انتجع. أعجزت في الأدباء عن خلق الحرباء؟ ولي لسان كالرشاء. تنسم أعلى السماء. ناط همته بالشمس، مع نعدها عن اللمس، أنف من ضيق الوجار، ففرخ في الأشجار، فهو كالخطيب على الغصن الرطيب.
وإن صريح الرأي والحزم لمرئٍ ... إذا بلغته الشمس أن يتحولا
وقد أصحب عبده هذه الأسطر شعراً يقصر فيه عن واجب الحمد، وإن بنيت قافيته على المد، وما يعد نفسه إلا كمهدي جلد السبتي الأسمر إلى الديباج الأحمر. أين ذو الحباب من ثغور الأحباب؟. وأين السراب من الشراب؟. والركي البكي من الواد ذي المواد. أتطلب الفصاحة من الغنم؟ والصباحة من المغتم؟ غلط من رأى الآل في القي فشبهه بهلهال الدبيقي. هيهات مناسج الرياط. تسبق تنيس ودمياط. ولا أقول كما قال القائل:
من يساجلني يساجل ماجداً ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب
بل أضع نفسي في أقل المواضع، وأقول لمولاي قول الخاضع:
فأسبل عليها ستر معروفك الذي ... سترت به قدماً مخازي عوراتي
وها هي هذه:
فيك برحت بالعذول إباء ... وعصيت اللوام والنصحاء
فانثنى العاذلون أخيب مني ... يوم أزمعتم الرحيل رخاء
من مجيري من فاتر اللحظ ألمي ... جمع النار خده والماء؟
فيه لليل والنهار صفات ... فلهذا سر القلوب وساء
لازم شيمة الخلاف فإن لذ ... ت قسا أو دنوت منه تناءى
يا غريب الصفات حق لمن كا ... ن غريباً أن يرحم الغرباء
من صدودٍ ولوعتي وتجني ... ه وإشماته بي الأعداء
وإذا ما كتمت ما بي من وج ... دٍ أذاعته مقلتاي بكاء
كعطايا سبأ بن أحمد يخفي ... ها فترداد شهرةً ونماء
نرتجيه بهذه المدح الجو ... د وإن لم نمدحه جاد ابتداء
ألمعي يكاد ينبيك عما ... كان في الغيب فطنةً وذكاء
وإذا أخلف السماء بأرضٍ ... أخلفت راحتاه ذاك السماء
بندىً يخجل الغيوث انهمالاً ... وجدىً ينهل الرماح الظماء
ما أبالي إذ أحسن الدهر فيه ... أحسن الدهر للورى أم أساء
أيها المجدب الضريك انتجعه ... فعطاياه تسبق الأنواء
تلق منه المهذب الماجد الند ... ب الكريم السميذع الأباء
راحة في الندى تنيل نضاراً ... وحسام في الروع يهمي دماء
يا أبا حميرٍ دعوتك للده ... ر فكنت امرأً يجيب الدعاء
فأبى البخل أن يكون أماماً ... وأبى الجود أن يكون وراء
أنا أشكو إليك جور زمانٍ ... دأبه أن يعاند الأدباء
أهملتني صروفه وكأني ... ألف الوصل ألغيت إلغاء
إن سطا أرهب الضراغم في الآ ... جام أو جاد بخل الكرماء
شيم من أبيه أحمد لا ين ... فك عنها تتبعاً واقتفاء
قد تعاطى في المجد شأوك قوم ... عجزوا واحتملت فيه العناء
شرفاً شامخاً ومجداً منيفاً ... حميرياً وغيرةً قعساء
مال عني بما أؤمل فيه ... كلما قلت سوف يأسو أساء
رهن بيتٍ لو استقر به البر ... بوع لم يرضه له نافقاء
نفضتني نفض المرجم حتى ... خلتني في فم الزامن نداء
منعتني من التصرف منع ال ... تعلل التسع صرفها الأسماء
يا أبا حميرٍ وحرمة إحسا ... نك عندي ما كان حبي رياء
ما ظننت الزمان يبعدني عن ... ،ك إلى أن أفارق الأحياء
غير أني فدتك نفسي من السو ... ء وإن قلت أن تكون فداء

ضاع سعيي وخبت خابت أعا ... ديك ومن يبتغي لك الأسواء
واحتملت الزمان والنقص وال ... إبعاد والذل والعنا والجفاء
وتجملت واضطربت فما أب ... قى على عودي الزمان لحاء
أعلى هذه المصيبة صبر ... لا ولو كنت صخرةً صماء؟
ولو أني لم أعتمد دون غيري ... لتأسيت أن أموت وفاء
غير أن التصريح ليس بخافٍ ... عند من كان يفهم الإيماء
غير أني متنٍ عليك وما لم ... ت على ما لقيت إلا القضاء
وسيأتيك في البعاد وفي القر ... ب مديح يستوقف الشعراء
فبشكرٍ رحلت عنك وألقا ... ك به إن قضى الإله لقاء
ليس يبقى في الدهر غير ثناءٍ ... فاكتسب ما استطعت ذاك الثناء
وقال:
تشكي المحبون الصبابة ليتني ... تحملت ما يلقون من بينهم وحدي
فكانت لنفسي لذة الحب كلها ... فلم يدرها قبلي محب ولا بعدي
وقال:
هدايا الناس بعضهم لبعضٍ ... تولد في قلوبهم الموده
وتزرع في النفوس هوىً وحباً ... لصرف الدهر والحدثان عده
وتصطاد القلوب بلا شراكٍ ... وتسعد حظ صاحبها وجده

الحسين بن محمد بن عبد الوهاب
ابن محمد نب الحسين بن عبيد الله بن القاسم بن عبد الله ابن الوزير سليمان بن وهبٍ الحارثي البكري الدباس المعروف بالبارع البغدادي، كان لغوياً نحوياً مقرئاً قرأ القرآن على أبي علي بن البناء وغيره، وأقرأ خلقاً كثيراً. وسمع القاضي أبي يعلى الموصلي وغيره وروى عنه الحافظ أبو القاسم بن عساكر، وكان حسن المعرفة بصنوف الآداب فاضلاً، وله مصنفات حسان في القراءات وغيرها، وله ديوان شعرٍ جيدٍ. وهو من بيت الوزارة، فإن جده القاسم بن عبيد الله كان وزير المعتضد والمكتفي بعده، وعبيد الله بن القاسم كان وزير المعتضد أيضاً قبل ابنه القاسم. وكان بين البارع وابن الهبارية الأديب الشاعر مداعبات، فإنهما كانا رفيقين منذ نشأا، وأضر البارع في آخر حياته، وسمع منه الحافظ أبو الفرج بن الجوزي، وأبو عبد الله الحسيني بن علي بن مهجلٍ الضرير الباقدرائي، وقرأ عليه بالروايات أبو جعفرٍ عبد الله بن أحمد بن جعفرٍ الواسطي المقرئ الضرير وغيره. وكان مولده سنة ثلاثٍ وأربعين وأربعمائةٍ ببغداد، وتوفي صبيحة يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة سنة أربعٍ وعشرين وخمسمائةٍ، ومن شعره:
لم لا أهيم إلى الرياض وحسنها ... وأظل منها تحت ظلٍ ضافي؟
والزهر حياني بثغرٍ باسمٍ ... والباء وافاني بقلبٍ صافي
وقال:
يوم من الزمهرير مقرور ... عليه ثوب الضباب مزرور
كأنما حشو جوه إبر ... وأرضه فرشها قوارير
وشمسه حرة مخدرة ... ليس لها من ضبابه نور
وحج البارع بن الدباس، فلما رجع من الحج ذهب إليه الشريف أبو يعلى بن الهبارية مرةً فلم يجده، فكتب إليه بقصيدةٍ طويلةٍ يعاتبه بها مطلعها:
يابن ودي وأين مني ابن ودي ... غيرت طبعه الرياسة بعدي؟
وفيها مداعبة بلغت حد السخف، فأجابه البارع بقصيدةٍ طويلةٍ أيضاً مطلعها:
وصلت وقعة الشريف أبي يع ... لى فحلت محل لقياه عندي
فتلقيتها بأهلاً وسهلاً ... ثم ألصقتها بعيني وخدي
وفضضت الختام عنها فما ظن ... نك بالصاب إذ يشاب بشهد
بين حلوٍ من العتاب ومرٍ ... هو أولى به وهزلٍ وجد
وتجنى علي من غير جرمٍ ... بملامٍ يكاد يحرق جلدي
يدعي أنني احتجبت وقد زا ... ر مراراً حاشاه من قبح رد
دعك من ذمك الرياسة والحج ... ج وقل لي بغير حلٍ وعقد
فبماذا علمت بالله أني ... قد تنكرت أو تغير عهدي؟
من تراني أعامل أم وزير ... لأميرٍ أم قائد جيش جند؟

أنا ذاك الخل الخليع الذي تع ... رف أرضي ولو بخبزٍ ودردي
وإذا صح لي نديم فذاك ال ... يوم عيدي وصاحب الدست عبدي
أتراني لو كنت في النار مع ها ... مان أنساك أو بجنة خلد؟
أو لو أتى عصبت بالتاج أسلو ... ك ولو كنت غائباً عن رشدي
أنا أضعاف ما عهدت على العه ... د وإن كنت لا تكافي بود
وفي القصيدة أبيات تتضمن سخفاً فاحشاً ضربنا عن ذكرها صفحاً. ومنها:
أم لأني قنعت من سائر النا ... س بفردٍ بين الأكارم فرد
صان وجهي عن اللئام وأولا ... ني جميلاً منه إلى غير حد
أم لأني قنعت حتى لقد صر ... ت بقنعي نسيج دهري ووحدي
أم لأني أنفت مع ذا من الكد ... ية أين الكرام قل لي لأكدي؟
وقال:
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ... ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي ... دعته إليه من حلاوة عاجل
وقال أيضاً:
أفنيت ماء الوجه من طول ما ... أسأل من لا ماء في وجهه
أنهي إليه حالي الذي ... يا ليتني مت ولم أنهه
فلم ينلني أبداً رفده ... ولم أكد أسلم من جبهه
والدهر إذ مات مماريده ... قد مد أيديه إلى بلهه
وقال:
تنازعني النفس أعلى مقامٍ ... ولست من العجز لا أنشط
ولكن بقدر علو المكان ... يكون هبوط الذي يسقط

الحسين بن محمد
بن جعفر
ابن محمد بن الحسين الرافقي المعروف بالخالع، أحد كبار النحاة، كان إماماً في النحو واللغة والأدب، وله شعر. توفي سنة ثمانٍ وثمانين وثلاثمائةٍ، أخذ عن أبي عليٍ الفارسي وأبي الحسن السيرافي وغيرهما. ويقال إنه من ذرية معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - وله من التصانيف: كتاب الأودية والجبال والرمال، وكتاب الأمثال، وكتاب تخيلات العرب، وشرح شعر أبي تمامٍ، وكتاب صناعة الشعر وغير ذلك. ومن شعره:
رأيت العقل لم يكن انتهاباً ... ولم يقسم على قدر السنينا
فلو أن السنين تقسمته ... خوى الآباء أنصبة البنينا
وقال:
خطرت فقلت لها مقالة مغرمٍ ... ماذا عليك من السلا؟ فسلمي
قالت بمن تعنى؟ فحبك بين ... من سقم جسمك قلت بالمتكلم
فتبسمت فبكيت قالت لا ترع ... فلعل مثل هواك بالمتبسم
قلت اتفقنا في الهوى فزيارةً ... أو موعداً قبل الزيارة قدمي
فتضاحكت عجياً وقالت يا فتىً ... لو لم أدعك تنام بي لم تحلم
وقال:
أما لظلام ليلي من صباحٍ ... أما للنجم فيه من براح
كأن الأفق سد فليس يرجى ... به نهج إلى كل النواحي
كأن الشمس قد مسخت نجوماً ... تسير مسير روادٍ طلاح
كأن الصبح مهجور طريد ... كأن الليل مات صريع راح
كأن بنات نعشٍ متن حزناً ... كأن النسر مكسور الجناح
وقال:
لا تعبسن بوجه عافٍ سائلٍ ... خير المواهب أن ترى مسؤولاً
لا تجبهن بالرد وجه مؤملٍ ... فبقاء عزك أن ترى مأمولا
يلقى الكريم فيستدل ببشره ... ويرى العبوس على اللئيم دليلا
واعلم بأنك لا محالة صائر ... خبراٍ فكن خبراً يروق جميلا
الحسين بن محمد

ابن الحسين بن حيٍ التجيبي القرطبي. كان أديباً فاضلاً عالماً بالهندسة والهيئة، كلفاً بصناعة التعديل، أخذ علم العدد والهندسة والهيئة عن أبي عبد الله محمد بن عمر بن محمدٍ المعروف بابن برغوثٍ الرياضي الفلكي المتوفى سنة أربعٍ وأربعين وأربعمائةٍ. ولحق بمصر بعد أن نالته بالأندلس وفي طريقه بالبحر محن شديدة، ثم رحل من القاهرة إلى اليمن واتصل بأميرها الصليحي القائم بالدعوة للمنتصر بالله معد بن الظاهر عليٍ، فحظي عنده وبعثه رسولاً إلى أمير المؤمنين القائم بأمر الله الخليفة العباسي في هيئةٍ فخمةٍ، فنال إقبالاً ودنيا عريضةً. وتوفي باليمن بعد انصرافه من بغداد إليها سنة ستٍ وخمسين وأربعمائةٍ. وله من التصانيف: زيج مختصر على طريقة السند هند وغير ذلك. ومن شعره:
تأمل. صورة العدد ... فمن ينظر إليه هدى
كما الأعداد راجعة ... وإن كثرت إلى الأحد
كذاك الخلق مرجعهم ... لربٍ واحدٍ صمد
وقال:
تحفظ من لسانك فهو عضو ... أشد عليك من وقع السنان
فلا والله ما في الخلق خلق ... أحق بطول سجنٍ من لسان
وقال:
ورأيت السماء كالبحر إلا ... أن ما سطه من الدر طافي
فيه ما يملأ العيون كبير ... وصغير ما بين ذلك صافي
وقال:
ودعته حيث لا تودعه ... وحي ولكنها تسير معه
ثم تولى وفي العيون له ... ضيق مجالٍ وفي القلوب سعه
وقال:
إذا ما كثرت عى صاحب ... وقد كان يدنيك من نفسه
فلا بد من مللٍ واقعٍ ... يغير ما كان من أنسه

الحسين بن محمد
أبو عليٍ السهواجي أديب شاعر لبيب مشهوروسهواجمن قرى مصر، صنف كتاب القوافي، وتوفي بمصر سنة أربعمائةٍ - رحمه الله تعالى - ، ومن شعره:
وقد كنت أخشى الحب لو كان نافعي ... من الحب أن أخشاه قبل وقوعه
كما حذر الإنسان من نوم عينيه ... ونام ولم يشعر أوان هجوعه
وقال:
كرام المساعي في اكتساب محامدٍ ... وأهدى إلى طرق المعالي من القطا
وأبوابهم معمورة بعفاتهم ... وأيديهم لا تستريح من العطا
ومن شعره أيضاً:
وهتوفٍ أيكيةٍ ذات شجوٍ ... سجعت ثم رجعت ترجيعا
ذكرت إلفها فحنت إليه ... فبكينا من الفراق جميعا
ومنه أيضاً:
قوم كرام إذا سلوا سيوفهم ... في الروع لم يغمدوها في سوى المهج
إذا دجا الخطب أو ضاقت مذاهبه ... وجدت عندهم ما شئت من فرج
وقال:
شخوص الفتى عن منزل الضيم واجب ... وإن كان فيه أهله والأقارب
وللحر أهل إن نأى عنه أهله ... وجانب عزٍ إن نأى عنه جانب
ومن يرض دار الضيم داراً لنفسه ... فذلك في دعوى التوكل كاذب
وقال:
توخ من الطرق أوساطها ... وعد عن الجانب المشتبه
وسمعك صن عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن النطق به
فإنك عند سماع القبيح ... شريك لقائله فانتبه
الحسين بن محمدٍ أبو الفرج
النجوي المعروف بالمستور، كان نحوياً لغوياً أديباً شاعراً. توفي سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائةٍ، ومن شعره:
أمسى يحن لوجهه قمر الدجا ... وغدا يلين للحنه الجلمود
فإذا بداف كأنما هو يوسف ... وإذا شدا فكأنه داود
وقال:
فكأنما الشمس المنيرة إذ بدت ... والبدر يجنح للغروب وما غرب
متحاربان لذا مجن صاغه ... من فضةٍ ولذا مجن ممن ذهب
وله مزدوجة أنشدها بعض الدمشقيين سنة خمسٍ وثمانين وثلاثمائةٍ:
الحب بحر زاخر ... راكبه مخاطر
جنوده المحاجر ... والحدق السواحر
ركبته على غرر ... وخطرٍ على خطر
في واضحٍ يحكي القمر ... وكان حتفي في النظر
حلفته لما بدا ... كغصنٍ غب ندى
ريان بالحسن ارتدى ... وبالبها تفردا

بحق بيت المقدس ... والبلد المقدس
وبالتي لم تدنس ... لا تك منك مؤيسي
بحق قدس مريم ... وبطرس المعظم
بعادلٍ لم يظلم ... رق لصبٍ مغرم
بالدير بالرهبان ... بحرمة القربان
ببولصٍ ذي الشان ... كن حسن الإحسان
بالطور بالزبور ... بساكن القبور
بشاهدٍ مشهور ... إعطف على المهجور
بحرمة المسيح ... وبالفتى الذبيح
بالفصح بالتسبيح ... أبق علي روحي
بليلة الميلاد ... وحرمة الأعياد
ولابسي السواد ... إجعل رضاك زادي
وهي طويلة اكتفينا منها بهذا المقدار. ومن شعره أيضاً:
كانت بلهنية الشبيبة سكرة ... فصحوت واستبدلت سيرة مجمل
وقعدت أنتظر الفناء كراكبٍ ... عرف المجل فيات دون المنزل

الحسين بن مطير بن مكمل
ٍ
الأسدي مولى بني أسد بن خزيمة، وكان جده مكمل عبداً فعتق وقيل كوتب. وابن مطيرٍ من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، فصيح متقدم في الرجز والقصيد يعد من فحول المحدثين، يشبه كلامه كلام الأعراب وأهل البادية، وفد على الأمير معن بن زائدة الشيباني لما ولي اليمن، فلما دخل عليه أنشده:
أتيتك إذ لم يبق غيرك جابر ... ولا واهب يعطي اللها والرغائبا
فقال له: يا أخا بني ليس أسدٍ هذا بمدحٍ، إنما المدح قول نهار بن توسعة في مسمع بن مالكٍ:
قلدته عرى الأمور نزار ... قبل أن يهلك السراة البحور
فغدا إليه بأرجوزةٍ يمدحه بها فاستحسنها وأجزل صلته. وحدث جعفر بن منصورٍ قال: حدثني أبي قال: حج المهدي فنزل زبالة فدخل الحسين بن مطيرٍ الأسدي عليه فقال:
أضحت يمينك من جودٍ مصورةً ... لا بل يمينك منها صورة الجود
من حسن وجهك تضحي الأرض مشرقةً ... ومن بنانك يجري الماء في العود
فقال المهدي كذبت، قال ولم يا امير المؤمنين؟ قال: هل تركت في شعرك موضعاً لأحدٍ بعد قولك في معنٍ بن زائدة:
ألما على معنٍ وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا
فيا قبر معنٍ أنت أول حفرةٍ ... من الأرض خطت للمكارم وضجعا
ويا قبر معنٍ كيف واريت جوده ... وقد كان من البر والبحر مترعا؟
بلى قد وسعت الجود والجود ميت ... ولو كان حياً ضقت حتى تصدعا
ولما مضى معن مضى الجود وانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا
وما كان إلا الجود صورة وجهه ... فعاش ربيعاً ثم ولى وودعا
وكنت لدار الجود يا معن عامراً ... وقد أصبحت قفراً من الجود بلقعا
فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
تمنى أناس شأوه من ضلالهم ... فأضحوا على الأّذقان صرعى وظلما
تعز أبا العباس عنه ولا يكن ... جزاؤك من معنٍ بأن تتضعضعا
أبى ذكر معنٍ أن يميت فعاله ... وإن كان قد لاقى حماماً ومصرعها
فما مات من كنت ابنه لا ولا الذي ... له مثل ما أبقى أبوك وما سعى
فقال: يا أمير المؤمنين إنما معن حسنة من حسناتك، وفعلة من فعلاتك، فأمر لع بألف دينارٍ ثم قال: سل حاجتك فقال:
بيضاء تسحب من قيامٍ فرعها ... وتغيب فيه وهو جعد أسحم
فكأنها منه نهار مشرق ... وكأنه ليل عليها مظلم
قال: خذ بيدها لجاريةٍ كانت على رأسه فأولدها مطير بن الحسين بن مطيرٍ.
وقال الرياشي: حدثني أبو العالية عن أبي عمران المخزومي قال: أتيت مع أبي والياً كان بالمدينة من قريشٍ، وعنده ابن مطيرٍ، وإذا بمطرٍ جودٍ، فقال له الوالي: صف لي هذا المطر، قال: دعني أشرف عليه، فأشرف عليه ثم نزل فقال:
كثرت لكثرة قطره أطباؤه ... فإذا تحلب فاضت الأطباء
وله رباب هيدب لدفيفه ... قبل التبعق ديمة وطفاء

وكأن ريقه ولما يحتفل ... ودق السماء عجاجة كدراء
وكأن بارقه حريق تلتقي ... ريح عليه عرفج وألاء
مستضحك بلوامعٍ مستبصر ... بمدامعٍ لم تمرها الأقذاء
فله بلا حزنٍ ولا بمسرةٍ ... ضحك يؤلف بيته وبكاء
حيران متبع صباه تقوده ... وجنوبه كنف له ووعاء
غدق ينتج في الأباطح فرقاً ... تلد السيول وما لها أسلاء
غر محجلة دوالج ضمنت ... حمل اللقاح وكلها عذراء
سحم فهن إذا كظمن سواجم ... سود وهن إذا ضحكن وضاء
لو كان من لجج السواحل ماؤه ... لم يبق في لجج السواحل ماء
وقال ابن دريدٍ: أنشدنا أبو حاتمٍ السجستاني، وعبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن عمه للحسين بن مطيرٍ الأسدي، وقال عبد الرحمن قال عمي: لو كان شعر العرب هكذا ما أثم منشده:
ألا حبذا البيت الذي أنت هاجره ... وأنت بتلماحٍ من الطرف ناظره
لإنك من بيتٍ لعيني معجبٍ ... وأملح في عيني من البيت عامره
أصد حياء أن يلم بي الهوى ... وفيك المنى لولا عدو أحذره
وفيك حبيب النفس لو تستطيعه ... لمات الهوى والشوق حين تجاوره
فإن آته لم أنج إلا بظنةٍ ... وإن يأته غيري تنط بي جزائره
وكان حبيب النفس للقلب واتراً ... وكيف يحب القلب من هو واتره
فإن يكن الأعداء أحموا كلامه ... علينا فلن يحمى علينا مناظره
أحبك يا سلمى على غير ريبةٍ ... ولا بأس في حبٍ تعف سرائره
ويا عاذلي لولا نفاسة حبها ... عليك لما باليت أنك خائره
بنفسي من لا بد أني هاجره ... وما أنا في الميسور والعسر ذاكره
ومن قد لحاه الناس حتى اتقاهم ... ببغضي إلا ما تجن ضمائره
أحبك حباً لن أعنف بعده ... محباً ولكني إذا ليم عاذره
لقد مات فبلي أول الحب فانقضى ... ولو مت أضحى الحب قد مات آخره
كلامك يا سلمى وإن قل نافعي ... فلا تحسبي أني وإن قل حاقره
ألا ل أبالي أي حيٍ تحملوا ... إذا أثمد البرقاء لم يخل حاضره
وحدث المرزباني عن الأخفش قال: أنشدنا أبو العباس ثعلب عن ابن الأعرابي لحسين بن مطيرٍ الأسدي:
لقد كنت جلداً قبل أن توقد النوى ... على كبدي ناراً بطيئاً خمودها
ولو ترتكت نار الهوى لتصرمت ... ولكن شوقاً كل يومٍ وقودها
وقد كنت أرجو أن تموت صبابتي ... إذا قدمت أيامها وعهودها
فقد جعلت في حبة القلب والحشا ... عهاد تولاها بشوقٍ يعيدها
بمرتجة الأرداف هيف خصورها ... عذاب ثناياها عجاف قيودها
وصفر تراقيها وحمر أكفها ... وسود نواصيها وبيض خدودها
مخصرة الأوساط زانت عقودها ... بأحسن مما زينتها عقودها
يمنينا حتى ترف قلوبنا ... رفيف الخزامى بات طل يجودها
وفيهن مقلاق الوشاح كأنها ... مهاة بتزبانٍ طويل عقودها
وكنت أذود العين أن ترد البكا ... فقد وردت ما كنت عنه أذودها
هل الله عافٍ عن ذنوبٍ تسلفت ... أم الله إن لم يعف عنها معيدها؟
وقال:
رأت رجلاً أودى بوافر لحمه ... طلاب المعالي واكتساب المكارم
خفيف الحشا ضرباً كأن ثيابه ... على قاطعٍ من جوهر الهند صارم
فقلت لها لا تعجبن فإنني ... أرى سمن الفتيان إحدى المشائم
وأنشد له ابن قتيبة:
يضعفني حلمي وكثرة جهلهم ... علي وأني لا أصول بجاهل
دفعتكم عني وما دفع راحةٍ ... بشيءٍ إذا لم تستعن بالأنامل
وأنشد له المبرد:

ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروح؟
أباها على الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علةٍ بصحيح؟

الحسين بن هبة الله ضياء الدين
أبو علي بن زاهرٍ الموصلي الملقب بدهن الخصا، أحد نحاة العصر، تصدر لإقراء العربية في بلده، وتقدم عند صاحب الموصل، ثم تغير عليه فرحل إلى الملك الناصر صلاح الدين، ثم وفد على ابنه في حلب فقربه ورتب لع معلوماً على إقراء العربية، وكان أديباً شاعراً متفنناً لقيته بحلب وبها مات سنة ثمانٍ وستمائةٍ. ومن شعره:
مرضت ولي جيرة كلهم ... عن الرشد في صحبتي حائد
فأصبحت في النقص مثل الذي ... ولا صلة لي ولا عائد
وقال:
يبتهج الناس بأعيادهم ... لأجل ذبحٍ أو لإفطار
وإنما عظم سروري بها ... للثم من أهوى بلا عار
أرقبها حولاً إلى قابلٍ ... لأنها غاية أوطاري
وقال:
وإني وإن أخرت عنكم زيارتي ... لعذرٍ فإني في المودة أول
فما الود تكيري الزيارة دائماً ... ولكن على ما في القلوب المعول
الحسين بن هداب بن محمد
ابن ثابت الديري الأصل، نسبة إلى الدير، قرية من قرى النعمانية، ويعرف بالنوري، والنورية قرية من قرى الحلة السيفية من سيف الفرات، نزل بها أبو عبد الله الضرير. توفي يوم الأربعاء ثاني عشر رجب سنة اثنتين وستين وخمسمائةٍ، كان نحوياً لغوياً مقراً فقيهاً شاعراً متفنناً، قرأ بالروايات على أبي العز محمد بن الحسين بن بندارٍ الواسطي، وأبي بكرٍ محمد بن الحسين بن عليٍ المزرفي. سكن بغداد منعكفاً على نشر العلم والإقراء، فكان يقرئ النحو واللغة والقراءات، وكان يحفظ عدة دواوين من شعر العرب، وكان كثير الإفادة والعبادة، عفيفاً ديناً، وله شعر جيد منه:
فيك يا أغلوطة الفكر ... تاه عقلي وانقضى عمري
سافرت فيك العقول فما ... ربحت إلا عنا السفر
رجعت حسرى وما وقفت ... لا على عينٍ ولا أثر
وقال:
بأبي رئم تبلج لي ... عن رضىً في طيه غضب
وأراني صبح طلعته ... بظلام الصدغ ينتقب
وسقى بالكأس مترعةً ... صهباء مثل الشمس تلتهب
فهي شمس في يدي قمرٍ ... وكلا عقديهما الشهب
ولها من ذاتها طرب ... ولهذا يرقص الجبب
وقال:
قال لي من رأى صباح مشيبي ... عن شمال من لمتي ويمين؟
أي شيءٍ هذا فقلت مجيباً ... ليل شكٍ محاه صبح يقين
الحسين بن الوليد بن نصر
ٍ

أبو القاسم المعروف بابن العريف، النحوي الأديب الشاعر، له شرح كتاب الجمل في النحو للزجاج، وكتاب الرد على أبي جعفرٍ النحاس في كتابه الكافي، وغير ذلك، وكان مقدماً في العربية إماماً فيها، عارفاً بصنوف الآداب، أخذ العربية عن ابن القوطية وغيره، ورحل إلى المشرق فأقام بمصر مدةً طويلةً، وسمع فيها من الحافظ بن رشيقٍ، وأبي طاهرٍ الذهلي وغيرهما، ثم عاد إلى الأندلس فاختاره المنصور محمد بن أبي عامرٍ صاحب الأندلس مؤدباً لأولاده، وكان يحضر مجالسه، ومناظرته مع أبي العلاء صاعدٍ اللغوي البغدادي مشهورة، فمن ذلك أن المنصور جلس يوماً وعنده أعيان مملكته من أهل العلم، كالزبيدي صاحب الطبقات، والعاصمي وابن العريف صاحب الترجمة وغيرهم فقال لهم المنصور: هذا الرجل الوافد علينا يزعم أنه متقدم في هذه العلوم، وأحب أن يمتحن، فوجه إليه، فلما مثل بين يديه والمجلس قد غص بالعلماء والأشراف، خجل صاعد واحتشم، فأدناه المنصور ورفع محله، وأقبل عليه وسأله عن أبي سعيدٍ السيرافي، فزعم أنه لقيه وقرأ عليه كتاب سيبويه، فبادره العاصمي بالسؤال عن مسألة من الكتاب فلم يحضره جوابها، واعتذر بأن النحو ليس جل بضاعته، فقال له الزبيدي: فما تحسن أيها الشيخ؟ فقال: حفظ الغريب. قال: فما وزن أولق؟ فضحك صاعد وقال: أمثلي يسأل عن هذا، إنما يسأل عنه صبيان المكتب. قال الزبيدي: قد سألناك ولا نشك أنك تجهله، فتغير لونه فقال: وزنه أفعل. فقال الزبيدي: صاحبكم ممخرق فقال له صاعد: إخال الشيخ صناعته الأبنية، فقال له: أجل، فقال صاعد: وبضاعتي أنا حفظ الأشعار ورواية الأخبار وفك المعمى وعلم الموسيقى. قال فناظره ابن العريف - صاحب الترجمة - فظهر عليه صاعد وجعل لا يجري في المجلس كلمة إلا أنشد عليها شعراً شاهداً وأتى بحكايةٍ تناسبها، فأعجب المنصور فقربه وقدمه، وكان يوماً بمجلس المنصور أيضاً فأحضرت إليه وردةً في غير أوانها لم يكمل فتح وراقها، فقال فيها صاعد مرتجلاً:
أتتك أبا عامرٍ وردة ... يذكرك المسك أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر ... فغطت بأكمامها رأسها
فسر بذلك المنصور، وكان ابن العريف حاضراً فحسده وجرى إلى مناقضته، وقال للمنصور هذاالبيتان لغيره، وقد أنشدنيهما بعض البغداديين لنفسه بمصر وهما عندي على ظهر كتابٍ بخطه، فقال له المنصور: أرنيه، فخرج ابن العريف وركب وحرك دابته حتى أتى مجلس ابن بدرٍ، وكان أحسن أهل زمانه بديهةً فوصف له ما جرى، فقال ابن بدرٍ هذهالأبيات ودس فيها بيتي صاعدٍ:
غدوت إلى قصر عباسةٍ ... وقد جدل النوم حراسها
فألفيتها وهي في خدرها ... وقد صدع السكر أناسها
فقالت أسرت على هجعةٍ ... فقلت بلى فرمت كاسها
ومدت يديها إلى وردةٍ ... يحاكي لك الطيب أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر ... فغطت بأكمامها رأسها
وقالت خف الله لا تفضح ... ن في ابنة عمك عباسها
فوليت عنها على خجلةٍ ... وما خنت ناسي ولا ناسها
فطار ابن العريف بها وعلقها على ظهر كتابٍ بخطٍ مصريٍ ومدادٍ أشقر ودخل بها على المنصور، فلما رآها اشتد غيظه وقال للحاضرين غداً أمتحنه،فإن فضحه الامتحان أخرجته من البلاد ولم يبق في موضعٍ لي عليه سلطان. فلما أصبح أرسل إليه فأحضر وحضر جميع الندماء والجلساء فدخل بهم إلى مجلسٍ قد أعد فيه طبقاً عظيماً فيه سقائف مصنوعة من جميع النواوير ووضع على السقائف لعب من ياسمينٍ في شكل الجواري وتحت السقائف بركة ماءٍ قد ألقى فيها اللآلئ مثل الحصباء وفي البركة حية تسبح، فلما دخل صاعد ورأى الطبق قال له المنصور: إن هذا يوم إما أن تسعد فيه معنا وإما أن تشقى، لأنه قد زعم هؤلاء القوم أن كل ما تأتي به دعوى، وهذا طبق ما توهمت أنه حضر بين يدي ملكٍ قبلي شكله، فصفه بجميع ما فيه، فقال له صاعد على البديهة:
أبا عامرٍ هل غير جدواك واكف ... وهل غير من عاداك في الأرض خائف
يسوق إليك الدهر كل غريبةٍ ... وأعجب ما يلقها عندك واصف
وشائع نورٍ صاغها هامر الحي ... على حافتيها عبقر ورفارف

ولما تناهى الحسن فيها تقابلت ... عليها بأنواع الملاهي وصائف
كمثل الظباء المستكنة كنساً ... تظللها بالياسمين السقائف
وأعجب منها أنهن نواظر ... إلى بركةٍ ضمت إليها الطرائف
حصاها اللآلئ سابح في عبابها ... من الرقش مسموم الثعابين زواحف
ترى ما تراه العين في جنباتها ... من الوحش حتى بينهن السلاحف
فاستغربوا له تلك البديهة في مثل ذلك الموضع، وكتبها المنصور بخطه، وكان إلى ناحيته نت تلك السقائف سفينة فيها جارية من النوار تجذف بمجاذيف من ذهبٍ لم يرها صاعد، فقال له المنصور: أحسنت إلا أنك أغفلت ذكر السفينة والجارية، فقال للوقت:
وأعجب منها غادة في سفينةٍ ... مكللة تصبو إليها الهواتف
إذا راعها موج من الماء تتقي ... بسكانها ما هيجته العواصف
متى كانت الحسناء ربان مركبٍ ... تصرف في يمنى يديه المجاذف
ولم تر عيني في البلاد حديقةً ... تنقلها في الراحتن الوصائف
ولا غرو أن أنشت معاليك روضةً ... وشتها أزاهير الربا والزخارف
فأنت امرؤ لو رمت نقل متالعٍ ... ورضوى ذرتها من سطاك نواسف
إذا قلت قولاً أو بدهت بديهةً ... فكلني له لمجدك واصف
فأمر له المنصور بألف دينارٍ ومائة ثوبٍ، ورتب له في كل شهرٍ ثلاثين ديناراً وألحقه بندمائه. توفي أبو القاسم ابن العريف بطليطلة في رجبٍ سنة تسعين وثلاثمائةٍ.

حرملة بن المنذر بن معد يكرب
ابن حنظلة بن النعمان بن حبة بن سعنة بن الحارث بن ربيعة، ويتصل نسبه بيعرب بن قحطان أبو زبيدٍ الطائي شاعر معمر عاش خمسين ومائة سنة، وعداده في المخضرمين، أدرك الإسلام ولم يسلم ومات نصرانياً.

وكان أبو زبيدٍ طزالاً من الرجال ينتهي إلى ثلاثة عشر شبراً، وكان حسن الصورة فكان إذا دخل مكة دخلها متنكراً لجماله. وكان أبو زبيدٍ يزور الملوك وملوك العجم خاصةً، وكان عالماً بسيرهم، ووفد على الحارث بن أبي شمر الغساني والنعمان بن المنذر. حدثعمارة بن قابوس قال: لقيت أبو زبيدٍ الطائي فقلت له: يا أبا زبيدٍ هل أتيت النعمان بن المنذر؟ قال: إي والله لقد لقد أتيته وجالسته. قلت: فصفه لي فقال: كان أحمر أزرق أبرش قصيراً. فقلت له: أيسرك أنه سمع مقالتك هذه وأن لك حمر النعم؟ قال: لا والله ولا سودها، فقد رأيت ملوك حمير في ملكها، ورأيت ملوك غسان في ملكها، فما رأيت أشد عزاً منه. كان ظهر الكوفة منبت الشقائق فحمى ذلك المكان فنسب إليه، فقيل سقائق النعمان. فجلس ذات يومٍ هناك وجلسنا بين يديه كأن على رؤوسنا الطير، فقام رجل من الناس فقال له: أبيت اللعن، أعطني فإني محتاج، فتأمله طويلاً ثم أمر به فأدني حتى قعد بين يديه، ثم دعا بكنانةٍ فاستخرج منها مشاقص فجعل يجأبها وجهه حتى سمعنا قرع العظام وخضب بالدم، ثم أمر به فنحي. ومكثنا ملياً فنهض رجل آخر فقال له: أبيتاللعن، أعطني فتامله ساعةً ثم قال: أعطوه ألف درهمٍ فأخذها وانصرف، ثم التفت النعمان عن يمينه ويساره وخلفه فقال: ما قولكم في رجلٍ أزرق أحمر يذبح على هذه الأكمة؟ أترون دمه سائلاً حتى يجري في هذا الوادي؟ فقلنا له: أنت - أبيت اللعن - أعلى برأيك فدعا برجلٍ على هذه الصفة فأمر به فذبح ثم قال: ألا تسألوني عما صنعت؟ فقلنا: ومن يسألك عن أمرك وما تصنع؟ فقال: أما الأول فإني خرجت مع أبي نتصيد فممرنا به وهو بفناء بابه وبين يديه عس من لبنٍ فتناولته لأشرب منه، فثار إلي فهراق الإناء فملأ وجهي وصدري فأعطيت الله عهداً لئن أمكنني من لأخضبن لحينه وصدره من دم وجهه. وأما الآخر فكانت له عندي يد فكافأته بها. وأما الذي ذبحته فإن عيناً لي بالشام كيب علي: أن جبلة بن الأيهم بعث إليك برجلٍ صفته كذا وكذا ليقتلك، فطلبته فلم أقدر عليه حتى كان اليوم فرأيته بين القوم فأخذته. وكان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يقرب أبا زبيدٍ ويدني مجلسه لمعرفته بسير من أدركهم من ملوك العرب والعجم، فدخل عليه يوماً وعنده المهاجرون والنصار، فتذاكروا مآثر العرب وأخبارها وأشعارها، فالتفت إليه عثمان وقال له: يا أخا تبع المسيح أسمعنا بعض قولك، فقد أنبئت أنك تجيد الشعر، فأنشده قصيدته التي أولها:
من مبلغ قومنا النائين إذ شحطوا ... أن الفؤاد إليهم شيق ولع

ووصف فيها الأسد فقال له عثمان: تالله تفتأ تذكر الأسد ما حييت، والله إني لأحسبك جباناً هداناً. قال: كلا يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت منه منظراً وشهدت مشهداً لا يبرح يتجدد في قلبي، ومعذور أنا بذلك يا أمير المؤمنين غير ملومٍ. فقال له عثمان: وأين كان ذلك وأنى؟ فقال: خرجت في صيابةٍ من أشراف العرب وفتيانهم ذوي هيبةٍ وشارةٍ حسنةٍ ترمي بنا المهري بأكسائها والقيروانات على قنو البغال تسوقها العبدان، ونحن نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام، فاخروط بنا السير في حمارة القيظ، حتى إذا عصبت الأفواه وذبلت الشفاه وشالت المياه، وذكت الجوناء والمعزاء، وذاب الصيهب وصر الجندب، وضاف العصفور الضب في وجره وجاوره في جحره. قال قائل: أيها الركب تغوروا بنا في ضوج هذا الوادي، وإذا وادٍ قد بدا لنا كثير الدغل، دائم الغلل، صحراؤه مغنة، وأطياره مرنة، فحططنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلاتٍ، وأصبنا من فضلات المزاود وأتبعناها الماء البارد. فلما انتصف حر يومنا ذلك، وبينما نحن كذلك إذ صر أقصى الخيل أذنيه، وفحص الأرض بيديه، فوالله ما لبث أن حال، ثم حمحم فبال، ثم فعل فعله الذي يليه واحداً فواحداً، فتضعضعت الخيل، وتكعكعت الإبل، وتقهقرت البغال، فمن نافرٍ بشكاله، وشاردٍ بعقاله، فعلمنا أنه السبع، ففزع كل منا إلى سيفه فسله من قرابه، ثم وقفنا رزدقاً فأقبل أبو الحارث من أجمته يتظالع في مشيته كأنه مجنون، أو في وجار مسجون، لطرفه وميض ولصدره شحيط، ولبلعومه غطيط، ولأرساغه قضيض كأنما يخبط هشيماً، أو يطأ رميماً، له هامة كالمجن، وخد كالمسن، وعينان سجروان كأنهما سراجان يتقدان، وقصرة ربلة، ولهزمة رهلة، وكتد معبط، وزند مفرط، وساعد مجدول، وعضد مفتول، وكف شثنة البراثن، إلى مخالب كالمحاجن، فضرب بيديه فأرهج، وكشر فأفرج عن أنيابٍ كالمعاول مصقولةٍ غير مفلولةٍ، وفمٍ أشدق كالغار الأخرق، ثم تمطى بيديه وحفز بوركيه حتى صار ظله مثيله، ثم أقعى فاقشعر، ثم أقبل فاكفهر، ثم تجهم فازبأر، فلا وذو بيته في السماء، ما اتقيناه إلا بأخٍ لنا من فزارة، كان ضخم الجزارة، فوقصه فوقصه ثم نفضه نفضةً فقضقض متنيه وجعل يلغ في دمه فذمرت أصحابي، فبعد لأيٍ ما استقدموا فجهجهنا به، فكر مقشعراً بزبرته كأن به نهماً حولياً فاختلج رجلاً أعجر ذا حوايا، فنفضه نفضة تزايلت بها مفاصله، ثم همهم ففرفر وزفر فبربر، ثم زأر فجرجر، ثم لحظ فأشزر، فوالله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه من شماله ومن يمينه، فأرعشت الأيدي واصطكلت الأرجل وأطت الأضلاع، وارتجت الأسماع وشخصت العيون، وساءت الظنون، فظنت المنون فقال له عثمان: اسكت قطع الله لسانك، فقد أرعبت قلوب المسلمين. وقال يصف الأسد:
فباتوا يدلجون وبات يسري ... بصير بالدجى هادٍ هموس
إلى أن عرسوا وأغب عنهم ... قريباً ما يحس له حسيس
خلا أن العتاق من المطايا ... حسين به فهن إليه شوس
فلما أن رآهم قد تدانوا ... أتاهم بين رحلهم يريس
فثار الزاجرون فزاد قرباً ... إليهم ثم واجهه ضبيس
بنصل السيف ليس له مجن ... فصد ولم يصادفه جسيس
فيضرب بالشمال إلى حشاه ... وقد نادى وأخلفه النيس
يشتر كالمحملق في عيونٍ ... تقيه الأرض الربيس
فخر السيف واختلجت يداه ... وكان بنفسه وقيت نفوس
وطار القوم شتىً والمطايا ... وغودر في مكرهم الرسيس
وجال كأنه فرس صنيع ... يجر جلاله ذيل شموس
كأن بنحره و بساعديه ... عبيراً بات تعبؤه عروس
فذلك إن تلاقوه تفادوا ... ويحدث عنكم أمر شكيس
وقال ابن الأعرابي: كان لأبي زبيدٍ كلب يقال له الأكدر، وكان له سلاح يلبسه إياه فكان لا يقوم له الأسد، فخرج ليلةً ولم يلبسه سلاحه فلقيه الأسد فقتله، فقال أبو زبيدٍ:
أجال أكدر مشياً لا كعادته ... حتى إذا كان بين البئر والطعن
لاقى لدى ثلل الأطواء داهيةً ... سرت وأكدر تحت الليل في قرن

حفت به شيمة ورهاء تطرده ... حتى تناهى إلى الجولان في سنن
إلى مقابل فتل الساعدين له ... فوق السراة كذفرى الفالج القمن
ريبال غابٍ فلا قحم ولا ضرع ... كالفيل يختطم الفحلين في شطن
وهي قصيدة طويلة، فلامه قومه على كثرة وصفه للأسد وقالوا: قد خفنا أن تسبنا العرب بوصفك له. فقال: لو رأيتم منه ما رأيت، أو لقيتم منه ما لقي أكدر لما لمتموني، ثم أمسك عن وصفه حتى مات. وقال ابن الأعرابي: مان أبو زبيدٍ يقيم أكثر أيامه في أخواله بني تغلب، وكان له غلام يرعى إبله فغزت بهراء وهم من قضاعة بني تغلب، فمروا بغلامه فدفع إليهم إبل أبي زبيدٍ وانطلق معهم يدلهم على عورة القوم ويقاتل معهم، فهزمت تغلب بهراء وقتل الغلام. فقال أبو زبيدٍ في ذلك:
هل كنت في منظرٍ ومستمعٍ ... في نصر بهراء غير ذي فرس
تسعى إلى فتية الأراقم واس ... تعجلت قبل الجمان والقبس
في عارضٍ من جبال بهرائها ال ... ألى مرين الحرون عن درس
فبهرة إذ لقوا حسبتهم ... أحلى وأشهى من بارد الدبس
لا ترة عندهم فتطلبها ... ولا هم نهزة لمختلس
جود كرام إذا هم ندبوا ... غير لئام ضجرٍ ولا خسس
صمت عظام الحلوم إن سكتوا ... من غير عيٍ بهم ولا خرس
تقود أفراسهم نساؤهم ... يزجون أجمالهم مع الغلس
صادقت لما خرجت منطلقاً ... جهم المحيا كباسلٍ شرس
تخال في كفه مثقفةً ... تلمع فيها كشعلة القبس
بكف حران ثائرٍ بدمٍ ... طلاب وترٍ في الموت منغمس
إما تقاذفبك الرماح فلا ... أبكيك إلا للدلو والمرس
حمدت أمري ولمت إذ ... أمسك جلز السنان بالنفس
وقد تصليت حر نارهم ... كما تتصلى المقرور من قرس
تذب عنه كف بها رمق ... طيراً عكوفاً كزور العرس
عما قليلٍ علون جثته ... فهن من والغٍ ومنتهس
فلما بلغ شعره بني تغلب بعثوا إليه بدية غلامه وما نهب من إبله. فقال في ذلك:
ألا بلغ بني عمرو رسولاً ... فإني في مودتكم نفيس
فما أنا بالضعيف فتظلموني ... ولا حقي اللفاء ولا خسيس
أفي حقٍ مواساتي أخاكم ... بمالي ثم يظلمني السريس
وحدث ابن الأعرابي قال: كان أبو زبيدٍ الطائي نديماً للوليد بن عقبة والي الكوفة من قبل عثمان، فلما شهدوا عليه بشرب الخمر وعزل عن عمله وخرحمن الكوفة قال أبو زبيدٍ:
من يرى العير لابن أروى على ظه ... ر المرورى حداتهن عجال
مصعداتٍ والبيت بيت أبو وه ... بٍ خلاء تحن فيه الشمال
يغرف الجاهل المضلل أن الد ... دهر فيه النكراء والزلزال
ليت شعري كذاكم العهد أم كا ... نوا أناساً ممن يزول فزالوا؟
بعد ما تعلمين يا أم زيدٍ ... كان فيهم عز لنا وجمال
ووجوه بودنا مشرقات ... ونوال إذا أريد النوال
أصبح البيت قد تبدل بالحي ... ي وجوهاً كأنها الأقتال
كل شيءٍ يختال فيه الرجال ... غير أن ليس للمنايا احتيال
ولعمر الإله لو كان للسي ... ف مصال أو للسان مقال
ما تناسيتك الصفاء ولا الود ... د ولا حال دونك الأشغال
ولحرمت لحمك المتصي ... ضلةً ضل حلمهم ما اقتالوا
قولهم شربك الحرام وقد كا ... ن شراباً سوى الحرام حلال
وأبى الظاهر العداوة إلا ... شنآناً وقول ما لا يقال
من رجالٍ تقارضوا منكراتٍ ... لينالوا الذي أرادوا فنالوا
غير ما طالبين ذحلا ولكن ... مال دهر على أناسٍ فمالوا

من يخنك الصفاء أو يتبدل ... أو يزل مثل ما تزول الظلال
فاعلمن أنني أخوك أخو الد ... د حياتي ختى تزول الجبال
ليس بخل عليك عندي بمالٍ ... أبداً ما أقل نعلاً قبال
ولك النصر باللسان وبالكف ... ف إذا كان لليدين مصال
ولأبي زبيدٍ في مدح الوليد بن عقبة شعر كثير تركناه خوف الإطالة، ومن جيد شعره:
إن نيل الحياة غير سعود ... وضلال تأميل نيل الخلود
علل المرء بالأماني ويضحي ... غرضاً للمنون نصباً لعود
كل يومٍ ترميه منها برشقٍ ... فمصيب أوصال غير بعيد
كل ميتٍ قد اغتفرت فلا وا ... جع من والدٍ ومن مولود
غير أن الجلاح هذا جناحي ... يوم فارقته بأعلى الصعيد
وكان أبو زبيدٍ يحمل في كل أحدٍ إلى البيع مع النصارى، فبينا هو يوم أحدٍ يشرب والنصارى حوله رفع بصره إلى السماء فنظر نظراً طويلاً، ثم رمى الكأس من يده فقال:
إذا جعل المرء الذي كان حازماً ... يحل به حل الحوار ويحمل
فليس له في العيش خير يريده ... وتكفينه ميتاً أعف وأجمل
أتاني رسول الموت يا مرحباً به ... وإني لآتيه أما سوف أفعل
ثم مات فجأةً ودفن هناك.

حفص الأموي مولاهم
شاعر من شعراء الدولة الأموية، عاش حتى ادرك دولة بني العباس، ولحق بعبد الله بن عليٍ فاستأمنه، فهو من مخضرمي الدولتين، وكان يختلف إلى كثير بن عبد الرحمن المعروف بكثير عزة الشاعر يروي عنه شعره، وكان حجاءً لبني هاشمٍ، فطلبه عبد الله بن عليٍ فلم يقدر عليه، ثم جاءه حفص مستأمناً فقال: أنا عائد بالأمير، فقال له: ومن أنت؟ قال: حفص الأموي، فقال: أنت الهجاء لبني هاشمٍ؟ فقال: أنا الذي أقول - أعز الله الأمير - :
وكانت أمية في ملكها ... تجور وتكثر عدوانها
فلما رأى الله أن قد طغت ... ولم يحمل الناس طغيانها
زماها بسفاح آل الرسول ... فجذ بكفيه أعيانها
ولو آمنت قبل وقع العذاب ... لقد يقبل الله إيمانها
فلما أتم الإنشاد، قال له عبد الله بن عليٍ: اجلس، فجلس فتغدى بين يديه، ثم دعا عبد الله خادماً له فساره بشيء ففزع حفص وقال: أيها الأمير، قد تحرمت بك وبطعامك وفي أقل من هذا كانت العرب تهب الدماء. فقال له عبد الله: ليس شيء مما ظننت، فجاء الخادم بخمسمائة دينارٍ فقال: خذها ولا تقطعنا، وأصلح ما شعثت منا. وروى ابن السائب الكلبي أن هشام بن عبد الملك قال يوماً لقوامه على خيله: كم أكثر ما ضمت حلبة من الخيل في الجاهلية والإسلام؟ قالوا: ألف فرسٍ وقيل ألفان، فأمر أن يؤذن بالناس بحلبةٍ تضم أربعة آلاف فرسٍ، فقيل له: يا أمير المؤمنين يحطم بعضها بعضاً فلا يتسع لها طريق، فقال: نطلقها ونتوكل على الله، والله الصانع. فجعل الغاية خمسين ومائتي غلوةٍ، والقصب مائةً، والمقوس ستة أسهمٍ، وقاد إليه الناس من كل أوبٍ، ثم برز هشام إلى دهناء الرصافة قبيل الحلبة بأيامٍ، فأصلح طريقاً واسعاً لا يضيق بها، فأرسلت يوم الحلبة بين يديه وهو ينظر إليها تدور حتى ترجع، وجعل الناس يتراؤونها حتى أقبل الزابد كأنه ريح لا يتعلق به شيء حتى دخل سابقاً وأخذ القصبة، ثم جاءت الخيل بعد ذلك أفذاذاً وأفواجاً، ووثب الرجاز يرتجزون، منهم المادح للزابد، ومنهم المادح لفرسه، ومنهم المادح لخيل قومه، فوثب حفص الأموي مولاهم وقام مرتجزاً يقول:
إن الجواد السابق الإمام ... خليفة الله الرضي الهمام
أنجبه السوابق الكرام ... من منجباتٍ ما لهن ذام
كرائم يجلى بها الظلام ... أم هشامٍ جدها القمقام
وعائش يسمو بها الأقوام ... خلائف من نجلها أعلام
إن هشاماً جده هشام ... مقابل مدابر هضام
جرى به الأخوان والأعمام ... فحل كفحل كلهم قدام
سنوا له السبق وما استقاموا ... حتى استقام حيث استقاموا

وأحرز المجد الذي أقاموا ... أطلق وهو يفع غلام
في حلبةٍ تم لها التمام ... من آل فهرٍ وهم السنام
فبذها سبقاً وما ألاموا ... كذلك الزابد يوم قاموا
أتى ببدء الخيل ما يرام ... مجلياً كأنه حسام
سباق غايات لها ضرام ... لا يقبل العفو ولا يضام
ويل الجياد منهماذا راموا ... سهم تفر دونه السهام
فأعطاه هشام يومئذٍ ثلاثة آلاف درهمٍ، خلع عليه ثلاث حللٍ من جيد وشي اليمن، وحمله على فرسٍ من خيله السوابق، وانصرف معه ينشده الرجز حتى قعد في مجلسه، وأمره بملازمته. فكان أثيراً عنده، وقال حفص أيضاً:
لا خير في الشيخ إذا ما اجلخا ... وسال غرب دمعه فلخا
وكان أكلاً كله وشخاً ... تحت رواق البيت يخشى الدخا

حفص بن سليمان بن المغيرة
أبو عمر بن أبي داود الأسدي الكوفي الفاخري البزاز نسبته لبيع البر، وهو الإمام القارئ راوي عاصم بن أبي النجود، كان ربيب عاصم - ابن زوجته - فأخذ عنه القراءة عرضاً وتلقينا. قال حفص: قال لي عاصم: القراءة التي أقرأتك بها فهي التي قرأتها عرضاً على أبي عبد الرحمن السلمي عن عليس، والتي أقرأتها أبا بكرٍ بن عياشٍ فهي التي كنت أعرضها على زر بن حبيشٍ عن ابن مسعودٍ. ولد حفص سنة تسعين، ونزل بغداد فأقرأ بها وأخذ عنه الناس قراءة عاصمٍ تلاوةً، وجاور بمكة فأقرأ بها أيضاً. قال يحيى بن معينٍ: الرواية الصحيحة من قراءة عاصمٍ رواية حفصٍ، وكان أعلمهم بقراءة عاصمٍ، وكان مرجحاً على شعبة بضبط القراءة، وتوفي حفص بن سليمان سنة ثمانين ومائةٍ.
حفص بن عمر بن عبد العزيز
ابن صهبان بن عيسى بن صهبان، ويقال صهيب أبو عمر الدوري الأزدي البغداي المقرئ النحوي الضرير نزيل سامراً، راوي الإمامين أبي عمرو والكسائي، إمام القراء وشيخ العراق في زمانه، ثقة ثبت كبير ضابط، رحل في طلب القراءات، وقرأ بالحروف السبعة و بالشواذ وسمع من ذلك شيئاً كثيراً، وقرأ على أبي عمرو بن العلاء والكسائي وروى عنهما، وقرأ العربية على أبي محمدٍ يحيى بن المبارك اليزيدي. قال أبو داود: رأيت أحمد بن حنبلٍ يكتب عن عمر الدوري. وصنف كتاب: ما اتفقت ألفاظه ومعانيه من القرآن، وكتاب أجزاء القرآن وغير ذلك. والدوري نسبته إلى أبو عمر الدوري سنة ستٍ وأربعين ومائتين.
أبو حفصٍ الزكرمي العروضي
الأديب الشاعر، قال الحافظ أبو طاهرٍ السلفي في معجم الشعراء: أنشدني أبو القاسم ذربان ابن عتيق بن تميمٍ الكاتب قال: أنشدني أبو حفصٍ الزكرمي بإفريقية مما له بالأندلس وقد طولب بمكسٍ يتولاه يهودي:
ياأهل دانيةٍ لقد خالفتم ... حكم الشريعة والمروءة فينا
مالي أراكم تأمرون بضد ما ... أمرت ترى نسخ الإله الدينا
كنا نطالب لليهود بجزيةٍ ... وأرى اليهود بجزيةٍ طلبونا
ما إن سمعنا مالكاً أفتى بذا ... كلا ولا من بعده سحنونا
لا هؤلاء ولا الأئمة كلهم ... حاشاهم بالمكس قد أمرونا
أيجوز مثلي أن يمكس عدله ... لو كان يعدل وزنه قاعونا
ولقد رجونا أن ننال بعدلكم ... رفداً يكون على الزمان معينا
فالآن تقنع بالسلامة منكم ... لا تأخذوا منا ولا تعطونا
حفصة بنت الحاج الركوني
شاعرة أديبة من أهل غرناطة، مشهورة بالحسب والأدب والجمال والمال. جيدة البديهة رقيقة الشعر أستاذة. وليت تعليم النساء في دار المنصور أمير المؤمنين عبد المؤمن بن عليٍ، وسألها يوماً أن تنشده فقالت ارتجالاً:
يا سيد الناس يا من ... يؤمل الناس رفده
أمننن على بطرسٍ ... يكون للدهر عده
تخط يمناك فيه ... الحمد لله وحده

أشارت بذلك إلى العلامة السلطانية، فإن السلطان كان يكتب بيده في رأس المنشور بخطٍ غليظٍ (الحمد لله وحده) فمن عليها وكتب لها بيده ما طلبت، وتولع بها أمير المؤمنين عبد المؤمن المذكور، وتغير بسببها على أبي جعفرٍ أحمد بن عبد الملك بن سعيدٍ العنسي، وكان عاشقاً لها متصلاً بها يتبادلان رسائل الغرام، ويتجاوبان تجاو بالحمام، وقد أدى ولع عبد المؤمن بها إلى قتل أبي جعفرٍ. ومما كتبته حفصة إلى أبي جعفرٍ:
رأست فما زال العداة بظلمهم ... وحقدهم النامي يقولون لم رأس؟
ومل منكر أن ساد أهل زمانه ... جموح إلى العليا نقي من الدنس؟
وبات معها أبو جعفرٍ في بستانٍ بحوزٍ مؤملٍ، فلما حان وقت الفراق قال:
رعى الله ليلاً لم يرع بمذممٍ ... عشية وارانا بحوز مؤمل
وقد خفقت من نحو نجدٍ أريجة ... إذا نفحت جاءت بريا القرنفل
وغرد قمري على الدوح وانثنى ... قضيب من الريحان من فوق جدول
يرى الروض مسروراً بما قد بدا له ... عناقٍ وضمٍ وارتشاف مقبل
فقالت:
لعمرك ما سر الرياض بوصلنا ... ولكنه أبدى لنا الغل والحسد
ولا صفق النهر ارتياحاً لقربنا ... ولا غرد القمري إلا لما وجد
فلا تحسن الظن الذي أنت أهله ... فما هو في كل المواطن بالرشد
فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه ... لأمرٍ سوى كيما يكون لنا رصد
وقالت:
سلوا البرق الخفاق والليل ساكن ... أظل بأحبابي يذكرني وهنا
لعمري لقد أهدى لقلبي خفوقه ... وأمطر كالمنهل من مزنه الجفنا
وبلغها أن أبا جعفر بن سعيدٍ علق بجاريةٍ سوداء فأقام معها أياماً فكتبت إليه:
يا أظرف الناس قبل حالٍ ... أوقعه وسطه القدر
عشقت سوداء مثل ليلٍ ... بدائع الحسن قد ستر
لا يظهر البشر في دجاها ... كلا ولا يبصر الخفر
بالله قل لي وأنت أدرى ... بكل من هام في الصور
من الذي حب قبل روضاً ... لا نور فيه ولا زهر؟
فكتب إليها معتذراً:
لا حكم إلا لأمر ناهٍ ... له من الذنب يعتذر
له محيا به حياتي ... أعيذ مجلاه بالسور
كضحوة العيد في ابتهاجٍ ... وطلعة الشمس والقمر
بسعده لم أمل إليه ... إلا طريفاً له خبر
عدمت صبحي فاسود عشقي ... وانعكس الفكر والنظر
إن لم تلح يا نعيم روحي ... فكيف لا تفسد الفكر؟
وكتبت إلى بعض أصحابها:
أزورك أم تزور فإن قلبي ... إلى ما تشتهي أبداً يميل
فثغري مورد عذب زلال ... وفرع ذؤابتي ظل ظليل
وهل تخشى بأن تظما وتضحى ... إذا وافى إليك بي المقيل
فعجل بالجواب فما جميل ... إباؤك عن بثينة يا جميل
وكان أبو حعفر بن سعيدٍ يوماً في منزله، وقد خلا ببعض أصحابه وجلسائه، فضرب الباب فخرجت جاريته تنظر من بالباب؟ فوجدت امرأةً فقالت لها: ما تريدين؟ فقالت: ادفعي لسيدك هذه البطاقة، فإذا فيها:
زائر قد أتى بجيد غزالٍ ... طامع من محبه بالوصال
بلحاظٍ من سحر بابل صيغت ... ورضابٍ يفوق بنت الدوالي
يفضح الورد ما حوى منه خد ... وكذا الثغر فاضح للآلئ
أتراكم بإذنكم مسعفيه ... أم لكم شاغل من الأشغال
فلما قرأ الرقعة قال: ورب الكعبة ما صاحب هذه الرقعة إلا حفصة، فبادر إلى الباب فلم يجدها فكتب إليها:
أي شغلٍ عن المحب يعوق ... يا صاحباً قد آن منه الشروق؟
صل وواصل فأنت أشهى إلينا ... من لذيذ المنى فكم ذا نشوق؟
لا وحبيك لا يطيب صبوح ... غبت عنه ولا يطيب غبوق
لا وذل الجفا وعز التلاقي ... واجتماعٍ إليه عز الطريق
وقالت:
أغار عليك من عيني وقلبي ... ومنك ومن زمانك والمكان

ولو أني جعلتك في عيوني ... إلى يوم القيامة ما كفاني
ماتت حفصة بمراكش سنة ستٍ وثمانين وخمسمائةٍ.

الحكم بن عبدل بن جبلة
ابن عمرو بن ثعلب بن عقال بن بلال بن سعد بن حبال بن نصر بن غاضرة، وينتهي نسبه إلى خزيمة بن مدركة، الأسدي الفاخري الكوفي، شاعر مجيد هجاء من شعراء الدولة اللأموية، كان ممن نفاه ابن الزبير من العراق كما نفى منها عمال بني أمية، فقدم دمشق ونال من عبد الملك بن مروان حظوةً فكان يدخل عليه ويسمر عنده، فقال ليلةً لعبد الملك:
يا ليت شعري وليت ربما نفعت ... هل أبصرن بني العوام قد شملوا
بالذل والأسر والتشريد إنهم ... على البرية حتف حيثما نزلوا
أم هل أراك بأكناف العراق وقد ... ذلت لعزك أقوام وقد نكلوا؟
فقال عبد الملك:
إن يمكن الله من قيسٍ ومن جدسٍ ... ومن جذامٍ ويقتل صاحب الحرم
نضرب جماجم أقوامٍ على حنقٍ ... ضرباً ينكل عنا غابر الأمم
ودخل يوماً على عبد الملك فقعد بين السماطينوقال: - أصلح الله الأمير - ، رؤيا رأيتها بالمنام أقصها عليك؟ فقال: هات، فأنشا يقول:
طلعت الشمس بعد غضارةٍ ... في نومةٍ ما كنت قبل أنامها
فرأيت أنك جدت لي بوليدةٍ ... مغنوجةٍ حسنٍ علي قيامها
وببدرةٍ حملت إلي وبغلةٍ ... شهباء ناجيةٍ يصل لجامها
فسألت ربي أن يثيبك جنةً ... يلقاك فيها روحها وسلامها
فقال: كل ما رأيت عندنا إلا البغلة فإنها دهماء فارهة فقال: امرأته طالق إن كان رآها إلا دهماء، ولكنه نسي فأمر عبد الملك أن يحمل إليه كل ما ذكر في شعره. ودخل ابن عبدلٍ على محمدٍ بن حسان بن سعدٍ وكان على خراج الكوفة، فكلمه في رجلٍ من العرب أن يضع عنه ثلاثين درهماً من خراجه، فقال محمد بن حسانٍ: أماتني الله إن كنت أقدر أن أضع من خراج أمير المؤمنين شيئاً، فانصرف ابن عبدلٍ وهو يقول:
دع الثلاثين لا تعرض لصاحبعا ... لا بارك الله في تلك الثلاثينا
لما علا صوته في الدار مبتكراً ... كإشتفانٍ يرى قوماً يدوسونا
أحسن فإنك قد أعطيت مملكةً ... إمارةً صرت فيها اليوم مفتونا
لا يعطك الله خيراً مثلها أبداً ... أقسمت بالله إلا قلت آمينا
ولما لم يضع من خراج الرجل شيئاً، قال ابن عبدلٍ فيه:
رأيت محمداً شرهاً ظلوماً ... وكنت أراه ذا ورعٍ وقصد
يقول أماتني ربي خداعاً ... أمات الله حسان بن سعد
ركبت إليه في رجلٍ أتاني ... كريمٍ يبتغي المعروف عندي
فقلت له وبعض القول نصح ... ومنه ما أسر له وأبدي
توق كرائم البكري إني ... أخاف عليك عاقبة التعدي
فما صادفت في قحطان مثلي ... ولا صادفت مثلك في معد
أقل براعةً وأشد بخلاً ... وألأم عند مسألةٍ وحمد
فقدت محمداً ودخان فيه ... كريح الجعر فوق عطين جلد
فأقسم غير مستنٍ يميناً ... أبا بخرٍ لتتخمن ردى
فلو كنت المهذب من تميمٍ ... لخفت ملامتي ورجوت حمدي
نكهت علي نكهة أخدريٍ ... شتيمٍ أعصل الأنياب ورد
فما يدنو إلى فمه ذئاب ... ولو طليت مشافره بتند
فإن أهديت لي من فيك حتفاً ... فإني كالذي أهديت مهدي
ولولا ما وليت لكنت فسلاً ... لئيم الكسب شأنك شأن عبد
وخطب محمد بن حسانٍ هذا بنتاً لطلبة بن قيس بن عاصمٍ المنقري فقال ابن عبدلٍ:
لعمري ما زوجتها لكفاءةٍ ... ولكنما زوجتها للدراهم
وما كان حسان بن سعدٍ ولا ابنه ... أبو البخر من أكفاء قيس بن عاصم
ولكنه رد الزمان على استه ... وضيع أمر المحصنات الكرائم
له ريقة بخراء تصرع من دنا ... وتنتن خيشوم الضجيع الملازم

خذي ديةً منه تكوني غنيةً ... وروحي إلى باب الأمير فخاصمي
وكان بالكوفة امرأة موسرة لها على الناس ديون كثيرة بالسواد، فأتت الحكم بن عبدلٍ وعرضت له بأنها تتزوجه إذا اقتضى لها ديونها، فقام ابن عبدلٍ بدينها حتى اقتضاه ثم طالبها بالوفاء فكتبت إليه:
سيخيطك الذي حاولت مني ... فقطع حبل وصلك من حبالي
كما أخطاك معروف ابن بشرٍ ... وكنت تعد ذلك رأس مال
وكان ابن عبدلٍ يأتي ابن بشرٍ بن مروان بالكوفة فيسأله فيقول له: أخمسمائةٍ أحب إليك العام أم ألف في قابلٍ؟ فيقول ألف في قابلٍ، فإذا أتاه من قابلٍ قال له: ألف إليك العام أم ألفان في قابلٍ؟ فيقول ألفان، فلم يزل كذلك حتى مات ابن بشرٍ ولم يعطه شيئاً. فدخل ابن عبدلٍ على عبد الملك بن مروان بعد ما جرى من المرأة، فقال له عبد الملك: ما أحدثت بعدي، قال: خطبت امرأةً من قومي فردت علي ببيتي شعرٍ، قال: وما هما؟ قال: قالت:
سيخيطك الذي حاولت مني
البيتان، فضحك عبد الملك وقال له: - لحاك الله - أذكرت بنفسك، وأمر له بألفي درهمٍ. وعن ابن الكلبي قال: كان الحكم بن عبدلٍ منقطعاً إلى بشر بن مروان وكان يأنس به ويقربه، وأخرجه معه إلى البصرة لما وليها، فرأى منه الحكم جفاءً لشغلٍ عرض عرض له فانقطع عنه شهراً ثم أتاه، فلما دخل عليه قال له بشر: يابن عبدلٍ ما لك انقطعت عنا وقد كنت لنا زواراً، فقال ابن عبدلٍ:
كنت أثني عليك خيراً فلما ... أضمر القلب من نوالك ياسا
كنت ذا منصبٍ قنيت حيائي ... لم أقل غير أن هجرتك باسا
لم أطق ما أردت بي يابن مروا ... ن ستلقى إذا أردت أناسا
يقبلون الخسيس منك ويثنو ... ن ثناء مدخمساً دخماسا
فقال له: لا نسومك الخسي ولا نريد منك ثناءً مدخمساً ووصله وكساه، ولما مات بشر جزع ابن عبدلٍ فقال يرثيه:
أصبحت جم البلابل الصدر ... متعجباً لتصرف الدهر
ما زلت أطلب في البلاد فتىً ... ليكون لي ذخراً من الذخر
ويظل يسعدني وأسعده ... في كل نائبةٍ من الأمر
حتى إذا ظفرت يداي به ... جاء القضاء بحينه جري
إني لفي همٍ يباكرني ... منه وهمٍ طارقٍ يسري
فلأصبرن وما رأيت دوا ... للهم غير عزيمة الصبر
والله ما استعظمت فرقته ... حتى أحاط بفضله خبري
وعن النضر بن شميلٍ قال: دخلت على أمير المؤمنين المأمون بمرو فقال: أنشدني أقنع بيتٍ للعرب، فأنشدته قول الحكم بن عبدلٍ:
إني امرؤ لم أزل وذاك من ال ... له أديباً علم الأدبا
أقيم بالدار ما اطمأنت بي الد ... دار وإن كنت نازعاً طربا
لا أحتوي خلة الصديق ولا ... أتبع نفسي شيئاً إذا ذهبا
أطلب ما يطلب الكريم من الر ... رزق بنفسي وأجمل الطلبا
وأحلب الثرة الصفي ولا ... أجهد أخلاف غيرها حلبا
إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغبته في صنيعةٍ رغبا
والعبد لا يحسن العطاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا ذهبا
مثل الحمار الموقع السوء لا ... يحسن مشياً إلا إذا ضربا
ولم أجد عزة الخلائق إل ... لا الدين لما اعتبرت والحسبا
قد يرزق الخافض المقيم وما ... شد بعنسٍ رحلاً ولا قتبا
ويحرم الرزق ذو المطية والر ... رحل ومن لا يزال مغتربا
وكان الحكم بن عبدلٍ أعرج، فدخل على عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو أعرج أيضاً وكان صاحب شرطته أعرج كذلك فقال:
ألق العصا ودع التعارج والتمس ... عملاً فهذي دولة العرجان
لأميرنا وأمير شرطتنا معاً ... لكليهما يا قومنا رجلان
فإذا يكون أميرنا ووزيرنا ... وأنا فجئ بالرابع الشيطان
وقال في بشر بن مروان:

ولو شاء بشر كان من دون بابه ... طماطم سود أو صقالبة حمر
ولكن بشراً سهل الباب للتي ... يكون لبشرٍ بعدها الحمد والأجر
بعيد مراد العين ما رد طرفه ... حذار الغواشي باب دارٍ ولا ستر

الحكم بن معمر بن قنبر
ابن جحاش بن سلمة بن ثعلبة بن مالك بن طريف بن محارب الخضري شاعر إسلامي، وكان مع تقدمه في الشعر سجاعاً كثير السجع، وكان هجاءً خبيث اللسان، وكان بينه وبين الرماح بن أبرد المعروف بابن ميادة مهاجاة ومواقف كان الغلب في أكثرها على الرماح فتهاجيا زماناً طويلاً، ثم كف ابن ميادة وسلأأله الصلح، فصالحه الحكم. وكان أول ما بدأ الهجاء بينهما أن ابن ميادة مر بالحكم وهو ينشد في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في جماعةٍ من الناس قوله:
لمن الديار كأنها لم تعمر ... بين الكناس وبين برق محجر؟
حتى انتهى إلى قوله:
يا صاحبي ألم تشما بارقاً ... نضح الصراد به فهضب المنحر
قد بت أرقبه وبات مصعداً ... نهض المقيد في الدهاس الموقر
فقال له ابن ميادة: ارفع إلى رأسك أيها المنشد، فرفع الحكم رأسه فقال له: من أنت؟ قال: أنا الحكم ابن معمرٍ الخضري، قال:: فوالله ما أنت في بيت حسبٍ ولا في أرومة الشعر، فقال له الحكم: وماذا عبت في شعري؟ قال: عبت أنك أدهست وأوقرت. قال له الحكم: ومن أنت؟ قال: أنا ابن ميادة. قال: ويحك فلم رغبت عن أبيك وانتسب إلى أمك راعية الضأن، وأما إدهاسي وإيقاري، فإني لم آت خيبر لا ممتاراً ولا متحاملاً وما عدوت أن حكيت حالك وحال قومك، فلو سكت عن هذا كان خيراً لك وأبقى عليك، فلم يفترقا إلا عن هجاء.
وقال الحكم يهجو أم جحدرٍ بنت حسانٍ المرية وكانت فضلت ابن ميادة عليه:
ألا عوقبت في قبرها أم جحدرٍ ... ولا لقيت إلا الكلاليب والجمرا
كما حادثت عبداً لئيماً وخلته ... من الزاد إلا حشو رياطته صفرا
فيا ليت شعري هل رأت أم جحدرٍ ... أكنك أو ذاقت مغابنك الشقرا؟
وهل أبصرت أرساغ أبرد أو رأت ... قفا أم رماحٍ إذا ما استقت دفرا
وبالغمر قد صرت لقاحاً وحادثت ... عبيداً فسل عن ذاك نيان والغمرا
ومما قاله الحكم في ابن ميادة:
خليلي عوجا حييا الدار بالجفر ... وقولا لها سقياً لعصرك من عصر
وماذا تحيي من رسومٍ تلاعبت ... بها حرجف تذري بأذيالها الكدر
إذا يبست عيدان قومٍ وجدتنا ... وعيداننا تغشى على الورق الخضر
إذا الناس جاؤوا بالقروم أتيتهم ... بقرمٍ يساوي رأسه غرة البدر
لنا الغور والأنجاد والخيل والقنا ... عليكم وأيام المكارم والفخر
فيامر قد أخزاك في كل موطنٍ ... من اللؤم خلات يزدن على العشر
فمنهن أن العبد حامي ذماركم ... وبئس المحامي العبد عن حوزة الثغر
ومنهن أن لم تمسحوا وجه سابقٍ ... جوادٍ ولم تأتوا حصاناً على طهر
ومنهن أن الميت يدفن منكم ... فيقسو على دفانه وهو في القبر
ومنهن أن الجار يسكن وسطكم ... بريئاً فيرمى بالخيانة والغدر
ومنهن أن عذتم بأرقط كودنٍ ... وبئس المحامي أنت يا ضرط الجفر
ومنهن أن الشيخ يوجد منكم ... يدب إلى الجارت محدودب الظهر
يبيت ضباب الضغن يخشى احتراشها ... وإن هي أمست دونها ساحل البحر
أبو الحكم بن غلندو الإشبيلي
ولد بإشبيلية وبها نشأ، وكان أديباً شاعراً جيد الشعر متفنناً بصناعة الطب، خدم بها المنصور أمير المؤمنين عبد المؤمن بن سعيدٍ فحظي عنده وقدم، وكان أبوه أيضاً في خدمة أبي يعقوب والد المنصور، وكان أبو الحكم حسن الحظ يكتب الخطين الأندلسي والمشرقي، وتوفي بمراكش سنة سبعٍ وثمانين وخمسمائةٍ. ومن شعره:
ماست فأزرت بالغصون الميس ... وأتتك تخطر في غلالة سندس
وتبرجت جنح الظلام كأنها ... شمس تجلت في دياجي الحندس

تختال بين لداتها فتخالها ... بدراً بدا بين الجواري الكنس
أرجت برياها الصبا فتضوعت ... أنفاسها والصبح لم يتنفس
وسرت إلينا في ملاءة سندسٍ بترفلٍ وتدللٍ وتبهنس
وتزلفت والليل مسبل جنحه ... والجو داجٍ من ظلام الحندس
وله:
لئن غبت عن عيني وشط بك النوى ... فأنت بقلبي حاضر وقريب
خيالك في وهمي وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب؟
حكيم بن عياشٍ المعروف بالأعور الكلبي
شاعر مجيد كان منقطعاً إلى بني أمية بدمشق وسكن المزة بها ثم انتقل إلى الكوفة، وكان بينه وبين الكميت بن زيدٍ مفاخرة. وقدم أسامة خال الأعور على معاوية فقال له: اختر لك منزلاً فاختار المزة واقتطع فيها هة وعترته، فقال الأعور:
إذا ذكرت أرض لقومٍ بنعمةٍ ... فبلدة قومي تزدهي وتطيب
بها الدين والإفضال والخير والندى ... فمن ينتجعها للرشاد يصيب
ومن ينتجع أرضاً سواها فإنه ... سيندم يوماً بعدها ويخيب
تأتي بها خالي أسامة منزلاً ... وكان لخير العالمين حبيب
حبيب رسول الله وابن رديفه ... له ألفة معروفة ونصيب
فأسكنها كلباً فأضحت بليدة ... بها منزل رحب الجناب خصيب
فنصف على برٍ فسيحٍ رحابه ... ونصف على بحرٍ أغر يطيب
وكان الأعور يتعصب لليمن على مضر فقال:
ما سرني أن أمي من بني أسدٍ ... وأن ربي نجاني من النار
وأنهم زوجوني من بناتهم ... وأن لي كل يومٍ ألف دينار
وجاء رجل إلى عبد الله بن جعفرٍ فقال له: يابن رسول الله هذا حكيم الكلبي ينشد الناس هجاءكم بالكوفة فقال: هل حفظت منه شيئاً؟ قال: نعم وأنشده:
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلةٍ ... ولم نر مهدياً على الجذع يصلب
وقستم بعثمانٍ علياً سفاهةً ... وعثمان خير من عليٍ وأطيب
فرفع عبد الله يديه إلى السماء وهما ينتفضان رعدةً فقال: اللهم إن كان كاذباً فسلط عليه كلباً، فخرج حكيم من الكوفة فأدلج فافترسه الأسد فأكله، وأتى البشير عبد الله وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخر لله تعالى ساجداً وقال: الحمد لله الذي صدقنا وعده.

حماد بن عمر بن يونس بن كليب
ٍ
الكوفي المعروف بحماد عجردٍ مولى بني سوءة بن عامر بن صعصعة، شاعر مجيد من طبقة بشارٍ، وكان بينهما مهاجاة، وهو أحد الحمادين الثلاثة، قال إبراهيم العامري: كان بالكوفة ثلاثة نفرٍ يقال لهم الحمادون: حماد عجردٍ، وحماد الراوية، وحماد بن الزبرقان، يتنادمون ويتعاشرون معاشرةً جميلةً ويتناشدون الأشعار، وكانوا كأنهم نفس واحدة، وكان يرمون بالزندقة جميعاً، وحماد عجردٍ من مخضرمي الدولتين، نادم الوليد بن يزيد ولم يشتهر إلا في الدولة العباسية، قدم بغداد في أيام المهدي هو ومطيع بن إياسٍ ويحيى بن زيادٍ فاشتهروا بها، وكان حماد ماجناً ظريفاً متهماً في دينه، وكان أحد الأئمة ينتقصه فلما بلغه ذلك كتب إليه:
إن كان نسكك لا يتم بغير شتمي وانتقاصي
فاقعد وقم بي حيث شئت لدى الأداني والأقاصي
فلطالما زكيتني وأنا المقيم على المعاصي
أيام تأخذها وتعطى في أباريق الرصاص
وسبب تسميته بعجردٍ أن إعرابياً مر به وهو غلام يلعب مع الصبيان في يومٍ شديد البرد وهو عريان فقال له الأعرابي: تعجردت يا غلام فسمي عجرداً، والمتعجرد: المتعري. وكتب لأبو النضير الجمحي الشاعر إلى حمادٍ يسأله عن حاله في الشراب ومن يعاشر عليه، فكتب إليه حماد:
أبا النضير اسمع كلامي ولا ... تجعل سوى الإنصاف في بالكا
سألت ما حالي وما حال من ... لم يلق إلا عابداً ناسكا؟
يظهر نسكاً ومتى يفترص ... يكن علي عادياً فاتكا
ومرض حماد فعاده أصدقاؤه جميعاً إلا مطيع بن إياسٍ، فكتب إليه حماد:
كفاك عيادتي من كان يرجو ... ثواب الله في صلة المريض
فإن تحدث لك الأيام سقماً ... يحول جريضه دون القريض

يكن طول التأوه منك عندي ... بمنزلة الطنين من البعوض
ومن شعر حماد عجردٍ:
إني أجحبك فاعلمي ... إن لم تكوني تعلمينا
حباً أقل قليله ... كجميع حب العالمينا
وقال:
فأقسمت لو أصبحت في قبضة الهوى ... لأقصرت عن لومي وأطنبت في عذري
ولكن بلائي منك أنك ناصح ... وأنك لا تدري بأنك لا تدري
وقال في أبي العباس الطوسي:
أرجوك بعد أبي العباس إذ بانا ... يا أكرم الناس أعزاقاً وعيدانا
فأنت أكرم من يمشي على قدمٍ ... وأنضر الناس عند المحل أغصانا
لو مج عود على قومٍ عصارته ... لمج عودك فينا المسك والبانا
وكان بين حمادٍ وبشار بن بردٍ ومطيع بن إياسٍ أهاجٍ كثيرة أعرضنا عن ذكرها لما فيها من السخف والمجون وتوفي حماد عجردٍ بالبصرة سنة إحدى وستين ومائةٍ في أصح الروايات.

حماد بن سلمة بن دينار
ٍ
الإمام أبو سلمة البصري، شيخ أهل البصرة في الحديث والعربية والفقه، أخذ عنه يونس بن حبيبٍ النحوي، وسئل أيما أسن أننت أم حماد؟ فقال: حماد أسن مني، ومنه تعلمت العربية. وكان سيبويه يستملي على حمادٍ فقال حماد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أحدٍ من أصحابي إلا من لو شئت لأخذت عنه علماً ليس أبا الدرداء). فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء. فقال له حماد: لحنت يا سيبويه، ليس أبا الدرداء. فقال: لا جرم لأطلبن علماً لا تلحنني فيه أبداً، فطلب النحو ولزم الخليل بن أحمد، وكان أبو عمرو الجرمي يقول: ما رأيت فقيهاً قط أفصح من عبد الوارث إلا حماد بن سلمة. وكان حماد يقول: من لحن في حديثي فقد كذب علي. وكان يمر بالحسن البصري في الجامع فيدعه ويذهب إلى أصحاب العربية يتعلم منهم. وكان مع تقدمه في العربية إماماً في الحديث ثقةً، ثبتاً حتى قالوا: إذا رأيت الرجل يقع في حمادٍ فاتهمه على الإسلام.
روى حماد عن ثابتٍ وأبي عمران الجوني وعبد الله بن كثير وابن مليكٍ وخلقٍ. وروى عنه مالك وسفيان وشعبة وابن مهدي وعفان وأمم. وقال عمرو بن سلمة: كتبت عند حماد بن سلمة بضعة عشر ألف حديثٍ. وقال ابن المديني: كان عند يحيى بن الضرير عن حماد عشرة آلاف حديثٍ. وقال يحيى بن معينٍ: هو أعلم الناس بثابتٍ. وقال أحمد بن حنبل: حماد أعلم الناس بحديث خاله حميدٍ الطويل وأثبتهم فيه. وقال أحمد ويحيى: هو ثقة الناس. وقال رجل لعفان: أحدثك عن حمادٍ؟ قال: من حماد ويلك؟ قال: ابن سلمة، قال: هلا هلا قلت أمير المؤمنين. وقال ابن عديٍ: حماد إمام جليل، وهو مفتي أهل البصرة مع سعيد بن أبي عروبة.
وقال إسحاق بن الطباع: قال لي سفيان بن عيينة: العلماء ثلاثة: عالم بالله وبالعلم، وعالم بالله ليس بعالمٍ بالعلم، وعالم بالعلم ليس بعالمٍ بالله. قال ابن الطباع: الأول كحماد بن سلمة، والثاني مثل أبي الحجاج والثلث كأبي يوسف.
وقال ابن المديني: من سمعتموه يتكلم في حمادٍ فاتهموه. واحتج مسلم بحماد بن سلمة في أحاديث عدةٍ في الأصول من حديثه عن ثابتٍ، وأخرج له الأربعة إلا البخاري، فنكت ابن حيان على البخاري، ولم يسمه، حيث احتج بابن دينارٍ وابن عياشٍ وابن أخي الزهري وترك حماداً فقال: لم ينصف من جانب حديث حمادٍ، واحتج بأبي بكر بن عياش وعبد الرحمن بن دينارٍ وابن أخي الزهري. وقالحماد بن زيدٍ: ما كنا نرى أحداً يتعلم بنيةٍ غير حمادٍ، وما نرى اليوم من يعلم بنيةٍ غيره. وقال وهيب: كان حماد بن سلمة سيدنا وأعلمنا، وكان إماماً في العربية فصيحاً مفوهاً، مقرئاً فقيهاً، شديداً على المبتدعة، وله تآليف، ولم يكن له كتاب غير كتاب قيس بن سعدٍ، يعني كان يحفظ علمه. مات حماد في ذي الحجة سنة سبعٍ وستين ومائةٍ، وقيل سنة تسع وستين في خلافة المهدي، ورثاه اليزيدي بأبياتٍ أولها:
يا طالب النحو ألا فابكه ... بعد أبي عمرو وحماد
يعني حماد بن سلمة وأبا عمرو بن العلاء.
حماد بن ميسرة بن المبارك

ابن عبيدٍ الديلمي، مولى بني بكر بن وائلٍ، وقيل مولى مكنف بن زيد الخيل، الكوفي المعروف بالرواية. قال المدائني: كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها، وكانت ملوك بني أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره، فيفد عليهم ويسألونه عن أيام العرب وعلومها، ويجزلون صلته وعن الهيثم بن عديٍ صاحبه وروايته قال: قال الوليد بن يزيد لحمادٍ الراوية: بم استحققت هذا اللقب فقيل لك الراوية؟ فقال: بأني أروي لكل شاعرٍ تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن أعرف أنك لم تعرفه ولم تسمع به، ثم لا أنشد شعراً لقديمٍ ولا محدث إلا ميزت القديم منه من المحدث. فقال: إن هذا لعلم وأبيك كبير، فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثيراً، ولكني أنشدك على كل حرفٍ من حروف المعجم مائة قصيدةٍ كبيرةٍ، سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام. قال: سأمتحنك في هذا وأمره يالإنشاد، فأنشد حتى ضجر الوليد، ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهلين وأخبر الوليد بذلك، فأمر له بمائة ألف درهمٍ.
وروى عن حمادٍ الراوية أنه قال: كنت منقطعاً إلى يزيد بن عبد الملك، وكان أخوه هشام يجفوني لذلك دون سائر أهله من بني أمية، فلما مات يزيد وأفضت الخلافة إليه إلى هشامٍ خفته، فمكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به من إخواني سراً، فلما لم أسمع أحد يذكرني أمنت فخرجت وصليت الجمعة في الرصافة، ثم جلست عند باب الفيل، فإذا شرطيان قد وقفا علي فقالا: يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر، فقلت في نفسي: هذا الذي كنت أحذره، ثم قلت لهما: هل لكما أن تدعاني حتى آتي أهلي فأودعهم وداع من لا ينصرف إليهم أبداً ثم أصير معكما إلى الأمير؟ فقالا: ما إلى ذلك سبيل، فاستسلمت إليهما وصرت إلى يوسف بن عمر وهو في الإيوان الأحمر فسلمت عليه، فرمى إلي كتاباً فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم " من عبد الله هشامٍ أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر، أما بعد: فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حمادٍ الراوية من يأتيك به غير مروعٍ ولا متعتعٍ وادفع إليه خمسمائة دينارٍ وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرة ليلةً إلى دمشق، فأخذت الدنانير ونظرت فإذا جمل مرحول، فركبته وسرت اثنتي عشرة ليلةً حتى وافيت باب هشامٍ، فاستأذنت فأذن لي فدخلت عليه في دارٍ قوراء مفروشةٍ بالرخام. وهو في مجلسٍ مفروشٍ بالرخام بين كل رخامتين قضيب ذهبٍ، وهشام جالس على طنفسةٍ حمراء، وعليه ثياب خزٍ حمر وقد تضمخ بالمسك والعنبر، وبين يديه مسك مفتوت في أواني ذهبٍ يقلبه بيده فيفوح، فسلمت عليه بالخلافة فرد علي السلام واستدناني فدنوت منه حتى قبلت رجله، فإذا جاريتان لم أر مثلهما قط وفي أذني كل واحدةٍ منهما حلقتان فيهما لؤلؤتان تتقدان، فقال لي: كيف أنت يا حماد وكيف حالك؟ فقلت: بخيرٍ يا أمير المؤمنين. قال: أتدري فيم بعثت إليك؟ قلت: لا، قال: بعثت إليك بسبب بيتٍ خطر ببالي لا أعرف قائله. قلت: وما هو؟ قال:
ودعوا بالصبوح يوماً ... قينة في يمينها إبريق
فقلت: هذا يقوله عدي بن زيدٍ المبادي في قصيدةٍ له، قال: فأنشدنيها فأنشدته:
بكر العاذلون في وضح الب ... ح يقولون لي ألا تستفيق؟
ويلومون فيك يا ابنة عبد الل ... ه و القلب عندكم موهوق
لست أدري إذ أكثروا العذل فيها ... أعدو يلومني أم صديق؟
زانها حسنها وفرع عميم ... وأثيث صلت الجبين أنيق
وثنايا مفلجات عذاب ... لا قصار ترى ولا هن روق
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
قدمته على عقارٍ كعين الد ... ديك صفى سلافها الراووق
مرة قبل مزجها فإذا ما ... مزجت لذ طعمها من يذوق
وطفا فوقها فقاقيع كالد ... در صغار يثيرها التصفيق
ثم كان المزاج ماء سحابٍ ... لا صرىً آجن و لا مطروق

قال: فطرب هشام ثم قال: أحسنت يا حماد. يا جارية اسقيه، فسقتني شربةً ذهبت بثلث عقلي وقال: أعد فأعدت فاستخفه الطرب حتى نزل عن فرشه، ثم قال للجارية الأخرى: اسقيه، فسقتني شربةً ذهبت بثلث عقلي الثاني، فقلت: إن سقتني الثالثة افتضحت، فقال لي هشام: سل حاجتك، قلت: كائنةً ما كانت؟ قال: نعم، قلت: إحدى الجاريتين، فقال: هما جميعاً لك بما عليهما وما لهما، ثم قال للأولى: اسقيه، فسقتني شربةً لم أعقل بعدها حتى أصبحت، فإذا بالجاريتين عند رأسي وعدةٍ من الخدم مع كل واحد منهم بدرة، فقال لي أحدهم: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: خذ هذه فأصلح بها شأنك، فأخذتها والجاريتين وانصرفت إلى أهلي. قال الهيثم بن عديٍ: ما رأيت رجلاً أعلم بكلام العرب من حمادٍ، وقال الأصمعي: كان حماد أعلم الناس إذا نصح يعني إذا لم يزد وينقص في الأشعار والأخبار، فإنه كان متهماً بأنه يقول الشعر وينحله شعراء العرب، وقال المفضل الضبي: قد سلط على الشعر من حمادٍ الراوية ما أفسده فلا يصلح أبداً، فقيل له: وكيف ذلك؟ أيخطئ في روايةٍ أم يلحن؟ قال: ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجلٍ، ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالمٍ ناقدٍ وأين ذلك؟. وذكر أبو جعفرٍ أحمد بم محمدٍ النحاس أن حماداً هو الذي جمع السبع الطوال ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقةً على الكعبة.
ولحمادٍ أخبار طوال اقتصرنا على ما ذكرناه منها، وكانت ولادته في سنة خمسٍ وتسعين، وتوفي سنة خمسٍ وخمسين ومائةٍ. رثاه ابن كناسة الشاعر بقوله:
لو كان ينجي من الردى حذر ... نجاك مما أصابك الحذر
يرحمك الله من أخي ثقةٍ ... لم يك فس صفو وده كدر
فهكذا يفسد الالزمان ويف ... نى فيه ويدرس الأثر
حماس بن ثاملٍ مولى عثمان بن عفان
شاعر إسلامي من مخضرمي الدولتين أدرك أيام السفاح، وكان يوماً في مجلسه فذكر إسماعيل بن عبد الله القسري بني أمية فذمهم وسبهم، فقال حماس للسفاح: يا أمير المؤمنين، أيسب هذا بني عمك وعمالهم وهو رجل اجتمع والخريت في نسبٍ؟ إن بني أمية لحمك ودمك فكلهم ولا تأكلهم، فقال له: صدقت، وأمسك إسماعيل فلم يحر جواباً. ومن شعر حماسٍ:
الله نجى قلوصي بعد ما علقت ... من الأمير ومن عمرو بن سيار
بحلفةٍ من يمينٍ غير صادقةٍ ... حلفتها ثم لم تلحقن بالنار
إحلف يميناً ما خفت مضلعةً ... وتب إلى غافرٍ للذنب غفار

حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب
الخطابي، من ولد زيدٍ بن الخطاب أبو سليمان البستي، نسبة إلى مدينة بست في بلاد كابل، كان محدثاً فقيهاً أديباً شاعراً لغوياً، أخذ اللغة والأدب عن أبي عمر الراهد، وأبي عليٍ إسماعيل الصفار، وأبي جعفرٍ الزاز وغيرهم من علماء العراق، وتفقه بالقفال الشاشي، وروى عنه الحافظ أبو عبد الله بن البيع المعروف بالحاكم النيسابوري، والحافظ المؤرخ عبد الغفار بن محمدٍ الفارسي صاحب السياق لتاريخ نيسابور، وأبو القاسم عبد الوهاب الخطابي وخلق.
قال الحافظ أبو المظفر السمعاني: كان حجةً صدوقاً رحل إلى العراق والحجاز، وجال في خراسان وخرج إلى ما وراء النهر. وقال الثعالبي: كان يشبه في عصرنا بأبي عبيدٍ القاسم في عصره علماً وأدباً وزهداً وورعاً وتدريساً وتأليفاً، إلا أنه كان يقول شعراً حسناً. وكان أبو عبيدٍ مفحماً. ولأبي سليمان كتب من تآليفه أشهرها وأسيرها: كتاب غريب الحديث، و وهو غاية الحسن والبلاغة، وله أعلام السنن في شرح صحيح البخاري، ومعالم السنن في شرح سنن أبي داود، وكتاب إصلاح غلط المحدثين، وكتاب العزلة، وكتاب شأن الدعاء، وكتاب الشجاج وغير ذلك. ولد في رجبٍ سنة تسع عشرة وثلاثمائةٍ، وتوفي ببلده بست سنة ثمانٍ وثمانين وثلاثمائةٍ، وقيل سنة ستٍ وثمانين، والأول أصح. ومن شعره:
إذا خلوت صفا ذهني وعارضني ... خواطر كطراز البرق في الظلم
وإن توالى صياح الناعقين على ... أذني عرتني منه لكنة العجم
وقال:

لعمرك ما الحياة وإن حرصنا ... عليها غير ريحٍ مستعاره
وما للريح دائمةً هبوب ... ولكن تارةً تجري وتاره
وقال:
وما غمة الإنسان من شقة النوى ... ولكنها والله من عدم الشكل
وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
وقال:
تسامح ولا تستوف حقك كله ... وأبق فلم يستقص قط كريم
ولا تغل في شيءٍ من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال:
قد أولع الناس بالتلاقي ... والمرء صب إلى هواه
وإنما منهم صديقي ... من لا يراني ولا أراه
وقال:
شر السباع الضواري دونه وزر ... والناس شرهم ما دونه وزر
كم معشرٍ سلموا لم يؤذهم سبع ... وما ترى بشراً لم يؤذه بشر
وقال:
ما دمت حياً فدار الناس كلهم ... فإنما أنت في دار المداراة
من يدر داري ومن لم يدر سوف يرى ... عما قليلٍ نديماً للندامات

حمدان بن عبد الرحيم الأثاربي
كان طبيباً أديباً شاعراً دائباً في طلب العلم، يحضر مجالس العلماء وأهل الأدب ويصحب من لقيه منهم ويلازمه. مات بعد سنة أربعٍ وخمسين وخمسمائةٍ. ومن شعره:
لا جلق رقن لي معالمها ... ولا أطبتني أنهار بطنان
ولا ازدهتني بمنبجٍ فرص ... راقت لغيري من آل حمدان
لكن زماني بالجزر ذكرني ... طيب زماني وفيه أبكاني
يا حبذا الجزر كم نعمت به ... بين جنانٍ ذوات أفنان
واجتاز بحمدان في بعض السنين الأمير مهند الدولة ابن الخشيني فأنزله في الأثارب وأقام عنده أشهراً، فلما وافى هلال رمضان قال الأمير:
لله من قمرٍ رآني معرضاً ... عنه وإعراضي حذار وشاته
طلع الهلال فقلت أعمل حيلةً ... في قبلةٍ أجني جنى وجناته
فمضى وقال تصدين قمر الهوى ... لترى الهلال رقي إلى درجاته
فأنا وحق هواك أبعد مرتقىً ... منه وتأثيري كتأثيراته
أنا كامل أبداً وذلك ناقص ... فاجهد بوصفي ممعناً وصفاته
حمدة ويقال حمدونة
بنت زياد بن تقيٍ من قرية بادي من أعمال وادي آشِ، كان أبوها زياد مؤدباً وكانت أديبةً نبيلةً شاعرةً ذات جمالٍ ومالٍ مع العفاف والصون، إلا أن حب الأدب كان يحملها على مخالظة أهله مع نزاهة موثوقٍ بها، وكانت تلقب بخنساء المغرب وشاعرة الأندلس. وروى عنها أبو القاسم بن البراق قال: أنشدتنا حمدة العوفية لنفسها وقد خرجت متنزهةً بالرملة من نواحي وادي آشٍ، فرأت ذات وجهٍ وسيمٍ أعجبها فقالت:
أباح الدمع أسراري بوادي ... له في الحسن آثار بوادي
فمن نهرٍ يطوف بكل روضٍ ... ومن روضٍ يرف بكل وادي
ومن بين الظباء مهاة إنسٍ ... سبت لبىً وقد ملكت فؤادي
لها لحظ ترقده لأمر ... وذاك الأمر يمنعني رقادي
إذا سدلت ذوائبها عليها ... رأيت البدر في أفق السواد
كأن الصبح مات له شقيق ... فمن حزن تسربل بالسواد
وقد نسب إليها أهل المغرب الأبيات الشهيرة المنسوبة للمنازي الشاعر وهي:
وقانا لفحة الرمضاء وادٍ ... سقاه مضاعف الغيث العميم
حللنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمإٍ زلالاً ... ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم
يروع حصاه حاليةً العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم

أجمع أدباء المشرق على نسبة هذه الأبيات للمنازي وهو أحمد بن يوسف المنازي المتوفي سنة سبعٍ وثلاثين وأربعمائةٍ، وأنه عرضها على أبي العلاء المعري فجعل المنازي كلما أنشده المصراع الأول من كل بيتٍ سبقه أبو العلاء إلى المصراع الثاني كما نظمه المنازي، ونسبها أدباء الأندلس ومؤرخوها إلى حمدة وجزم بذلك طائفة منهم، وفيهم من رواها لها قبل أن يخلق المنازي والله تعالى أعلم. ومن شعر حمدة أيضاً:
ولما أبى الواشون إلا فراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار
وشنوا على أسماعنا كل غارةٍ ... وقل حماتي عند ذاك وأنصاري
غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفسي بالسيف والسيل والنار

حمزة بن أسد بن علي بن محمد
ٍ
أبو يعلى المعروف بابن القلانسي التميمي الأديب الشاعر المؤرخ، كان من أعيان دمشق ومن أفاضلها المبرزين ولي رياسة ديوانها مرتين، وبها توفي سنة خمسٍ وخمسين وخمسمائةٍ. وله تاريخ للحوادث ابتدأ به من سنة إحدى وأربعين وأربعمائةٍ إلى حين وفاته، وكانت له عناية بالحديث، وله كتب عليها سماعه، ومن شعره:
إياك تقنط عند كل شديدةٍ ... فشدائد الأيام سوف تهون
وانظر أوائل كل أمرٍ حادثٍ ... أبداً فما هو كائن سيكون
وقال أيضاً:
يا من تملك قلبي طرفه فغدا ... معذباً بين أشواقٍ وأشجان
أمنن بوصلٍ لعلي أستجير به ... من سطوة النين في صدٍ وهجران
مالي منيت بممنوعٍ يعذبني ... ولا يزيد فؤادي غير أحزاني
لا برد الله قلبي من تحرقه ... إن شبت حبي له يوماً بسلوان
إذا ترنم قمري على فننٍ ... في ليلةٍ زاد في حزني وأشجاني
وكم أسر غرامي ثم أعلنه ... وليس يخفى بكم سري وإعلاني
لا برد الله شوقي إن نويت لكم ... تغيراً ما بأشكال وألوان
وقال:
يا نفس لا تجزعي من شدةٍ عظمت ... وأيقني من إله الخلق بالفرج
كم شدةٍ عرضت ثم انجلت ومضت ... من بعد تأثيرها في المال والمهج
حمزة بن بيضٍ الحنفي الكوفي
أحد بني بكر بن وائلٍ، شاعر مقدم مجيد من شهراء الدولة الأموية، كان منقطعاً إلى المهلب وولده، ثم انقطع إلى الأمير بلال بن أبي بردة، ووفد على سليمان بن عبد الملك وامتدحه قبل الخلافة فقال:
أتينا سليمان الأمير نزوره ... وكان أمرأً يحبى ويكرم زائره
إذا كنت بالنجوى به متفرداً ... فلا الجود مخليه ولا البخل حاضره
كفى سائليه سؤلهم من ضميره ... عن البخل ناهيه وبالجود آمره؟
ودخل عليه وعنده يزيد بن المهلب فقال:
حاز الخلافة والداك كلاهما ... ما بين سخطة ساخطٍ أو طائع
أبواك ثم أخوك أصبح ثالثاً ... وعلى جبينك نورملكٍ رابع
سريت خوف بني المهلب بعدما ... نظروا السبيل بسم موتٍ ناقع
ليس الذي أولاك ربك منهم ... عند الأله وعندهم بالضائع
فأمر له بخمسين ألف درهمٍ، وقال في سليمان أيضاً:
لم تدر ما لا فلست قائلها ... عمرك ما عشت آخر الأبد
ولم تؤامر بتلك ممترياً ... فيها وفي أختها ولم تكد
وهي على أنها الخفيفة أث ... قل حملاً عليك من أحد
لما تعودت من نعم فنعم ... ألذ في فيك من جني الشهد
إلا يكن عاجل تعجله ... لنا لئلا تقول لا فعد
وما تعد في غدٍ يكن غدك ال ... وافد للسائلين خير غد
ودخل على يزيد بن المهلب يوم جمعةٍ وهو يتأهب للمضي إلى المسجد وجاريته تعممه فضحك، فقال له يزيد: مم تضحك؟ قال: من رؤيا رأيتها، إن أذن الأمير قصصتها، قال قل: فأنشأ يقول:
رأيتك في المنام سننت خزاً ... على بنفسجاً وقضيت ديني
فصدق يا هديت اليوم رؤيا ... رأتها في المنام كذا عيني

قال: كم دينك؟ قال: ثلاثون ألفاً، قال: قد أمرنا لك بها ومثلها، ثم قال: يا غلمان فتشوا الخزائن فجيئوه بكل جبة خزٍ بنفسجٍ تجدونها فجاؤوا بثلاثين جبةً، فنظر إليه يلاحظ الجارية فقال: يا جارية عاوني عمك على قبض الجباب، فإذا وصلت إلى منزله فأنت له، فأخذها والجباب وانصرف، وقال في يزيد بن المهلب أيضاً:
ومتى يؤامر نفسه مستخلياً ... في أن تجود لدى السؤال تقول جد؟
أة أن يعود لنا بنفحة نائلٍ ... بعد الكرامة والحباء تقول عد
أو في الزيادة بعد جزل عطائه ... للمستزيد من العفاة تقول زد
أو في الوفود على فقيرٍ موبقٍ ... بخلت أقاربه عليه تقول فد
أو في ورود شريعةٍ محفوفةٍ ... بالمشرفية والرماح تقول رد
ونعم بفيه ألذ حين يقولها ... طعماً من العسل المدوف بماء ورد
ولما خرج زيد بن عليٍ على هشامٍ منع أهل مكة والمدينة أعطياتهم سنةً، فقال حمزة بن بيضٍ في ذلك:
وصلت سماء الضر بالضر بعد ما ... زعمت سماء الضر عنا ستقلع
فليت هشاماً كان حياً يسوسنا ... وكنا كما كنا نرجى ونطمع
ولما ولي أبو لبيدٍ البجلي - ابن أخت خالدٍ القسري - أصبهان، وكان رجلاً متنسكاً خرج حمزة بن بيضٍ في صحبته فقيل له: إن مثل حمزة لا يصحب مثلك، لأنه صاحب كلابٍ ولهوٍ، فبعث إليه ثلاثة آلاف درهمٍ وأمره بالانصراف فقال:
يابن الوليد المرتجى سيبه ... ومن يجلي الحندس الحالكا
سبيل معروفك مني على ... بالٍ فما بالي على بالكا؟
حشو قميصي شاعر مفلق ... والجود أمسى حشو سربالكا
يلومك الناس على صحبتي ... والمسك قد يستصحب الرامكا
إن كنت لا تصحب إلا فتىً ... مثلك لن تؤتى بأمثالكا
إني امرؤ حيث يريد الهوى ... فعد عن جهلي بإسلامكا
قال له أبو لبيدٍ: صدقت وقرب منزلته. وقال النضربن شميلٍ دخلت على المأمون بمرو فقال: يا نضر أنشدني أخلب بيتٍ للعرب، قلت هو قول ابن بيضٍ في الحكم بن مروان:
تقول لي والعيون هاجعة ... أقم علينا يوماً فلم أقم
أي الوجوه انتجعت؟ قلت لها ... وأي وجهٍ إلا إلأى الحكم؟
متى يقل حاجباً سرادقه ... هذا ابن بيضٍ بالباب يبتسم
قد كنت أسلمت قبل مقتبلاً ... والآن إذ حل فاعطني سلمي
فقال المأمون: لله درك! فكأنما شق لك عن قلبي. وأودع حمزة عند ناسكٍ ثلاثين ألفاً، ومثلها عند نباذٍ، فأما الناسك فبنى بها داراً وزوج بناته فانفقها وجحدها، وأما النباذ فأدى إليه ماله، فقال في ذلك:
ألا لا يغرك ذو سجدةٍ ... يظل بها دائماً يخدع
كأن بجبهته حبةً ... تسبح طوراً وتسترجع
وما للتقى لزمت وجهه ... ولكن ليغتر مستودع؟
ولا تنفرن من أهل النبيذ ... وإن قيل يشرب لا يقلع
فعندك علم بما قد خبر ... ت إن كان علمي بها ينفع
ثلاثون ألفاً حواها السجود ... فليست إلى أهلها ترجع
بنى الدار من غير أمواله ... فأصبح في بيته يرتع
مهائر من مالهم قد حرم ... ن ظلماً فهم سغب جوع
وأدى أخو الكأس ما عنده ... وما كنت في رده أطمع
ونزل بقومٍ فأساؤوا لبغلته وطرحوا لبغلته تبناً رديئاً فعافته، فأشرف عليها فشحجت حين رأته فقال:
إحسبيها ليلةً أدلجتها ... فكلي إن شئت تبناً أو ذري
قد أتى مولاك خبز يابس ... فتغدى فتغدي واصبري
ولحمزة بن بيضٍ أخبار حسان مع عبد الملك بن مروان وابنه وآل المهلب يطول ذكرها. توفي سنة ست عشرة ومائةٍ، وقيل عشرين ومائةٍ، والأول أصح.

حمزة بن حبيب بن عمارة

ابن إسماعيل الإمام أبو عمارة التيمي تيم الله ولاءً وقيل نسباً، الكوفي المعروف بالزيات، وقيل له الزيات لأنه كان يجلب الزيت من الكوفة إلى حلوان، ويجلب من حلوان الجبن والجوز إلى الكوفة: وهو الإمام الحبر شيخ القراء وأحد السبعة الأئمة، ولد سنة ثمانين وأدرك الصحابة بالسن، فيحتمل أن يكون رأى بعضهم. أخذ القراءة عرضاً عن الأعمش والإمام جعفر بن محمدٍ الصادق وابن أبي ليلى، وحمران بن أعين. وروى عن الحكم وعدي ابن ثابت وحبيب بن أبي ثابتٍ وطلحة بن مطرفٍ. وأخذ القراءة عنه إبراهيم بن أدهم، وسفيان الثوري، وشريك بن عبد الله، وعلي بن حمزة الكسائي وغيرهم. وروى عنه يحيى ابن آدم، وحسين الجعفي وخلق، وإليه المنتهى في الصدق والورع والتقوى، وإليه صارت الإمامة في القراءة بعد عاصمٍ والأعمش، وكان إماماً حجةً ثقةً ثبتاً رضياً قيماً بكتاب الله، بصيراً بالفرائض، خبيراً بالعربية، حافظاً للحديث، عابداً زاهداً خاشعاً قانتاً لله ورعاً عديم النظير. قال الأعمش يوماً وقد رأى حمزة مقبلاً: (وبشر المحسنين) وقال ابن فضيلٍ: ما أحسب أن الله يدفع البلاء عن أهل الكوفة إلا بحمزة. وعن شعيب بن حربٍ أنه قال: ألا تسألوني عن الدر يعني قراءة حمزة؟ وكان شيخه إذا رآه مقبلاً يقول: هذا حبر القرآن. وقال سفيان الثوري: غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض. وقال له أبو حنيفة: شيئان غلبتنا عليهما لسنا ننازعك فيهما: القرآن والفرائض. وقد وثقه يحيى بن معينٍ وقال: حسن الحديث عن ابن إسحاق يعني ابن أبي ليلى، ووثقه آخرون. وقال النسائي: ليس به بأس. وأما ما ذكر عن أحمد بن حنبلٍ وأبي بكر بن عياشٍ ويزيد بن هارون وعبد الرحمن بن مهديٍ وعبد الله بن إدريس وحماد بن زيدٍ من كراهتهم لقراءة حمزة لما فيها من المد المفرط والسكت واعتبار الهمزة في الوقف والإمالة ونحو ذلك من التكلف، فإن حمزة أيضاً كان يكره ذلك وينهى عنه، وروي أنه كان يقول لمن يفرط في المد والهمز لا تفعل، أما علمت أن ما فوق البياض فهو برص، وما فوق الجعودة فهو قطط، وما فوق القراءة فهو ليس بقراءةٍ. وبعدٍ: فقد انعقد الإجماع على تلقي قراءة حمزة بالقبول والإنكار على من تكلم فيها. توفي حمزة بحلوان مدينته في آخر سأواد العراق سنة ستٍ وخمسين ومائةٍ، وقيل سنة ثمانٍ وخمسين ومائةٍ، وله ست وسبعون سنة.

الجزء الحادي عشر
حمزة بن علي أبو يعلى
ابن العين زربي نسبةً إلى عين زربي، الأديب الشاعر. قتل في الوقعة التي كسر فيها أتسز بن أوق سنة ستٍ وخمسين وخمسمائةٍ، ومن شعره هذه القصيدة وهي من بحر السلسلة قال:
هل تأمنُ يبقى لك الخليط إذا بان ... للهم فؤاداً وللمدامع أجفان؟
أتطمع في سلوة وجسمك حالٍ ... بالسقم ومن حبهم فؤاده ملآن؟
تبغي أملاً دونهُ حشاشة نفسٍ ... وفي الحشى مني هوى تضاعف أشجان
اعتل لأجفاني القريحة أجفان ... إذ بان ركابٌ من العقيق إلى البان
فالدمع إذا ما استمر فاض نجيعاً ... والحب إذا ما استمر ضاعف أشجان
لله وجوه بدت لنا كبدور ... حسناً وقدودٌ غدت تميس كأغصان
إذا عزموا عزمة الفراق أعاروا ... للقلب هموماً تحل فهي وأحزان
سقياً لزمانٍ مضى ففرق شملاً ... أيام حلا لي العيش والوصال بحلوان
يا ساكنة في الحشا ملكت فؤاداً ... أضحت حرق الوجد فهي تضرم نيران
حتام تمنى الفؤاد منك بوعدٍ؟ ... هل ينقع لمع السراب غلة عطشان؟
حتام أرى راجياً وصال حبيب ... قد أسرف في هجره وأصبح خوان
وقال:
تناسيتم عهد الوفا بعد تذكار ... فأجرى حديثي فيكم دمعي الجاري
وأنكرتموني بعد عرفان صبوني ... فهيجتم وجدي وأضرمتم ناري
وهل دام في الأيام وصلٌ لهاجرٍ ... وود لخوانٍ وعهد لغدار؟
ألا حاكم لي في الغرام يقيلني ... ألا آخذ لي بعد سفك دمي ثاري؟؟
وإني لصبار على ما ينويني ... ولكن على هجرانكم غير صبار
وقال:

يا راكباً عرض الفلاة ألا ... بلغ أحباي الذي تسمع
وقل لهم ما جف لي مدمع ... ولم يطب لي بعد كم مضجع
ولا لقيت الطيف مذ غبتم ... وإنما يلقاه من يهجع
وقال:
ألمال يرفع ما لا يرفع الحسب ... والود يعطف ما لا يعطف النسب
والحلم آفته الجهل المضر به ... والعقل آفته الإعجاب والغضب

حميد بن ثور بن عبد الله
وقيل ابن حزن بن عامر بن أبي ربيعه بن نهيك بي هلال الهلالي، ويتصل نسبه بنزار بن معد أبو المثني أحد المخضرمين من الشعراء، أدرك الجاهلية والإسلام، وقيل إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن مندة لما أسلم حميد أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأنشده:
أصبح قلبي من سليمى مقصداً ... إن خطأ منها وإن تعمدا
فحمل الهم كنازاً جلعدا ... ترى العليفي عليه موكدا
وبين نسعيه خدباً ملبداً ... إذا السراب بالفلاة اطردا
ونجد الماء الذي توردا ... تورد السيد أراد المرصدا
حتى أراد ربنا محمدا
وقيل إن حميداً قال الشعر في أيام عمر رضي الله عنه. حدث محمد بن فضالة النحوي قال: عمر بن الخطاب إلى الشعراء ألا يشبب أحد بامرأةٍ، فقال حميد بن ثورٍ:
أبي الله إلا أن سرحة مالكٍ ... على كل أفنان العضاة تروق
فقد ذهبت عرضاً وما فوق طولها ... من السرح إلا عشة وسحوق
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من بعد العشي تذوق
فهل أنا إن عللت نفس بسرحةٍ ... من السرح مسدود علي طريق؟
كنى عن المرأة التي أرادها بالسرحة، والعرب تكنى عن النساء بها. وقال:
لقد أمرت بالبخل أم محمدٍ ... فقلت لها حتى على البخل أجمدا
فإني امرؤ عودت نفسي عادةً ... وكل امرئٍ جارٍ على ما تعودا
أحين بدا في الرأس شيب وأقبلت ... إلى بنو عيلان مثنى وموحدا
رجوت سقاطي واعتلالي ونبوتي ... وراءك عني طالقاً وارحلي غدا
وقال:
فلا يبعد الله الشباب وقولنا ... إذا ما صبونا صبوةً سنتوب
ليالي سمع الغانيات وطرفها ... إلى وإذ ريحي لهن جنوب
وقال:
لو لم يوكل بالفتى ... إلا السلامة والنعم
وتناوباه لأوشكا ... أن يسلماه إلى الهرم
وقال:
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حرٍ مغرمٍ فترنما
بكت مثل ثكلى قد أصيب حميمها ... مخافة بين يترك الحبل أجذما
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربياً شافه صوت أعجما
وقال أيضاً لما حظر عمر على الشعراء ذكر النساء:
تجرم أهلوها لأن كنت مشعراً ... جنوناً بها يا طول هذا التجرم
ومالي من ذنب إليهم علمته ... سوى أنني قد قلت يا سرحة اسملي
بلى فاسلمي ثمت اسملي ... ثلاث تحياتٍ وإن لم تكلمي
وقال لزوجته:
فاقسم لولا أن حدباً تتابعتْ ... على ولم أبرح بدينٍ مطردا
لزاحمت مكسالاً كأن ثيابها ... تجن غزالاً بالخميلة أغيدا
إذا أنت باكرت المنيئة باكرت ... مداكاً لها من زعفرانٍ وإنمدا
مات حميد بن ثورٍ في خلافة عثمان - رضي الله عنه - .
حميد بن مالكٍ الأرقط
ولقب بالأرقط لآثار كانت بوجهه، وهو شاعر إسلامي مجيد وكان بخيلاً. قال أبو عبيدة: بخلاء العرب أربعة: الحطيئة، وحميد الأرقط، وأبو الأسود الدؤلي، وخالد بن صفوان. ومن شعر حميد:
وقد اغتدى والصبح محمر الطرر ... والليل يحدوه تباشير السحر
وفي تواليه نجوم كالشرر ... بسحق الميعة ميال العذر
كأنه يوم الرهان المحتضر ... وقد بدا أول شخص ينتظر
دون أثابي من الخيل زمر ... ضارٍ غدا ينفض صيبان المطر
عن زف ملحاح بعيد المنكدر ... أقنى تظل طيره على حذر

يلذن منه تحت أفنان الشجر ... من صادق الودق طروحٍ بالبصر
بعيد توهيم الوقاع والنظر ... كأنما عيناه في حرفي حجر
بين مآقٍ لم تخرق بالإبر
وقال في وصف أفعى:
منهرت الشدق رقود الضحى ... سارٍ طمور بالدجنات
وتارة تحسبه ميتاً ... من طول إطراق وإخبات
يسبته الصبح وطوراً له ... نفخ ونقب في المغارات

حميد بن مالك بن مغيث
ابن نصر بن منقذ بن محمد بن منقذٍ مكين الدولة أبو الغنائم الكناني. ولد بشيزر سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وبها نشأ، ثم انتقل إلى دمشق وسكنها وكتب في الجيش وكان يحفظ القرآن، وكان أديباً شاعراً. توفي بحلب في شعبان سنة أربع وسنين وخمسمائة.
ومن شعره:
أدنو بودي وحظي منك يبعدني ... هذا لعمرك عين الغبن والغبن
وإن توخيتني يوماً بلائمةٍ ... رجعت باللوم إبقاءً على الزمن
وحسن ظني موقوف عليك فهل ... عدلت في الظن بي عن رأيك الحسن؟
وقال:
وقهوةٍ كدموع الصب صافيةٍ ... تكاد في الكأس عند الشرب تلتهب
يطفو الحباب عليها وهي راسبة ... كأنه فضة من تحتها ذهب
وقال:
وسلامة أزرى احمرار شعاعها ... بالورد والوجنات والياقوت
جاءت مع الساقي تنير بكأسها ... فكأنها اللاهوت في الناسوت
وقال:
ما بعد جلق للمرتاد منزلة ... ولا كسكانها في الأرض سكان
فكلها لمجال الطرف منتزه ... وكلهم لصروف الدهر أقران
وهم وإن بعدوا مني بنسبتهم ... إذا بلوتهم بالود إخوان
وقال:
وبلدةٍ جمعت من كل مبهجة ... فما يقوت لمرتادٍ بها وطر
بكل مشترفٍ من ربعها أفق ... وكل مشترف من أفقها قمر
حميدة بنت النعمان بن بشيرٍ الأنصاري
شاعرة ابنة شاعرٍ، كانت تحت خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد، تزوج بها بدمشق لما قدم علي عبد الملك ابن مروان فقالت فيه:
نكحت المديني إذ جاءني ... فيا لك من نكحةٍ غاليهْ
كهولُ دمشق وشبانها ... أحب إلينا من الجالية
صنان لهم كصنان التيو ... س أعي على المسك والغاليه
فقال يجيبها:
أسنا ضوء نار ضمرة بالقف ... رة أبصرت أم سنا ضوء برق؟!
قاطنات الحجون أشهى إلى قل ... بي من ساكنات دور دمشق
يتضوعن لو تضمخن بالمس ... ك صناناً كأنه ريح مرق
ثم طلقها فخلفه عليها روح بن زنباعٍ فنظر إليها يوماً تنظر إلى قومه جذامٍ وقد اجتمعوا عنده فلامها فقالت: وهل أرى إلا جذاماً، فو الله ما أحب الحلال منهم فكيف بالحرام؟ وقالت تهجوه:
بكي الخز من روحٍ وأنكر جلده ... وعجت عجيجاً من جذام المطارف
وقال العبا قد كنت حيناً لباسهم ... وأكسية كردية وقطائف
فقال روح يجيبها:
فإن تبك منا تبك ممن يصونها ... وما صانها إلا اللئام المقارف
وقال لها:
أثني علي بما علمت فإنني ... مثنٍ عليك لبئس حشو المنطق
فقالت:
أثني عليك بأن باعك ضيق ... وبأن أصلك في جذامٍ ملصق
فقال روحٌ:
أثني علي بما علمت فإنني ... مئنٍ عليك بنتن ريح الجورب
باب الخاء
خالد الزبيدي اليمني
شاعر إسلامي مقل. قال أبو عبيدة معمر بن المثني: قدم خالد الزبيدي في جماعة معه من زبيد إلى سنجار ومعه ابنا عمٍ له يقال لأحدهما ضابيء وللآخر عويد، فشربوا يوماً من شراب سنجار فحنوا إلى بلادهم فقال خالد:
أيا جبلي سنجار ما كنتما لنا ... مصيفاً ولا مشتى ولا متربعاً
ويا جبلي سنجار هلا بكيتما ... لداعي الهوى منا شتيتين أدمعا
فلو جبلا عوجٍ شكونا إليهما ... جرت عبرات منهما أو تصدعا
بكي يوم تل المحلبية ضابيء ... وألهي عويداً بثه قتقنعا

فانبرى له رجل من النمر بن قاسط يقال له دثار أحد بني حيي فقال:
أيا جبلي سنجار هلا دققتما ... بركنيكما أنف الزبيدي أجمعا
لعمرك ما جاءت زبيد لهجرةٍ ... ولكنها كانت أرامل جوعا
تبكي علي أرض الحجاز وقد رأت ... جرائب خمساً في جدال فأربعا
فأجابه خالد يقول:
وسنجار تبكي سوقها كلما رأت ... بها نمرياً ذا كساوين أيفما
إذا نمري طالب الوتر غره ... من الوتر أن يبقى طعاماً فيشبعا
إذا نمري ضاق بيتك فاقره ... مع الكلب زاد الكلب واجرهما معا
أمن أجل مدٍ من شعيرٍ قريته ... بكيت وناحت أمك الحول أجمعا؟
بكى نمري أرغم الله أنفه ... بسنجار حتى تنفذ العين أدمعا

خالد بن صفوان بن عبد الله
ابن عمرو بن الأهتم أبو صفوان التميمي المنقري، أحد فصحاء العرب وخطبائهم، كان رواية للأخبار خطيباً مفوهاً بليغاً، وكان يجالس هشام بن عبد الملك وخالداً القسري.
حدث العتبي قال: قال هشام بن عبد الملك لسبه ابن عقال وعنده الفرزدق وجرير والأخطل وهو يومئذٍ أمير: ألا تخبرني عن هؤلاء الذين قد مزقوا أعراضهم، وهتكوا أستارهم، وأغروا بين عشائرهم في غير خير ولا برٍ ولا نفعٍ أيهم أشعر؟ فقال سبة: أما جرير فيغرف من بحرٍ، وأما الفرزدق فينحت من صخرٍ، وأما الأخطل فيجيد المدح والفخر. فقال هشام: ما فسرت لنا شيئاً نحصله. فقال: ما عندي يغر ما قلت. فقال لخالد لن صفوان: صفهم لنا يا بن الأهتم، فقال: أما أعظمهم فخراً وأبعدهم ذكراً وأحسنهم عذراً وأشدهم ميلاً وأقلهم غزلاً وأحلامهم عللاً، الطامي إذا زخر، والحامي إذا زأر، والسامي إذا خطر، الذي إن هدر قال، وإن خطر صال، الفصيح اللسان، الطويل العنان، فالفرزدق، وأما أحسنهم نعتاً وأمدحهم بيتاً وأقلهم فوتاً، الذي إن هجا وضع، وإن مدح رفع، فالأخطل، وأما أغزرهم بحراً وأرقهم شعراً وأهتكهم لعدوه ستراً، الأغر الأبلق الذي إن طلب لم يسبق، وإن طلب لم يلحق، فجرير، وكلهم ذكي الفؤاد، رفيع العماء، وارى الزناد. فقال له مسلمة بن عبد الملك: ما سمعنا بمثلك يا خالد في الأولين، ولا رأينا في الآخرين. وأشهد أنك أحسنهم وصفاً، وألينهم عطفاً، وأعفهم مقالاً، وأكرمهم فعالاً. فقال خالد: - أتم الله عليكم نعمه وأجزل لديكم قسمه وآنس بكم الغربة وفرج بكم الكربة - ، وأنت والله ما علمت أيها الأمر كريم الغراس، عالم بالناس، جواد في المحل، بسام عند البذل، حليم عند الطيش، في ذروة قريشٍ، ولباب عبد شمس، ويومك خير من أمس. فضحك هشام وقال: ما رأيت كتخلصك يا بن صفوان في مدح هؤلاء ووصفهم حتى أرضيتهم جميعاً.
وعن عمر بن شبه قال: مر خالد بن صفوان بابي نخيلة الشاعر الراجز وقد بني داراً فقال له أبو نخيلة: يا أبا صفوان، كيف ترى داري؟ قال رأيتك سألت فيها إلحافاً، وأنفقت ما جمعت لها إسرافاً، جعلت إحدى يديك سطحاً وملآت الأخرى سلاحاً. فقلت: من وضع في سطحي وإلا ملأته بسلحي، ثم ولي وتركه فقيل له: ألا تهجوه؟ فقال: إذن والله يركب بغلته ويطوف في مجالس البصرة ويصف ابنتي بما يعيبها.
عن يونس بن حبيب النحوي قال: قال رجل لخالد بن صفوان: كان عبدة بن الطبيب لا يحسن أن يهجو فقال: لا تقل ذاك، فو الله ما أبي عن عيٍ ولكنه كان يترفع عن الجاء ويراه ضعةً كما يرى تركه مروةً وشرفاً، ثم قال:
وأجرأ من رأيت بظهر غيب ... على عيب الرجال أولو العيوب

حدث شبيب بن شيب عن خالد بن صفوان قال: أوفدني يوسف بن عمر الثقفي إلى هشام بن عبد الملك في وفد العراق فقدمت عليه وقد خرج متبدياً بأهله وقرابته وحشمه وجلسائه وغاشيته، فنزل في أرضٍ قاعٍ صحصح تنائف أفيح في عام قد بكر وسميه، وتتابع وليه، وأخذت الأرض فيه زينتها من اختلاف ألوان نبتها من نور ربيعٍ مونقٍ، فهو في أحسن منظر ومخبرٍ وأحسن مستمطر، بصعيدٍ كأن ترابه قطع الكافور، حتى لو أن قطعةً ألقيت فيه لم تترب، وقد ضرب له سرادق من حبر كان صنعه له يوسف بن عمر باليمن، في فسطاط فيه أربعة أفرشةٍ من خزٍ أحمر مثلها مرافقها وعليه دراعه من خزٍ مثلها عمامتها، وقد أخذ الناس مجالسهم فأخرجت رأسي من ناحية السماط فنظر إلى مثل المستنطق لي، فقلت - أتم الله عليك يا أمير المؤمنين نعمه، وسوغكها بشكره، وجعل ما قلدك من هذا الأمر رشداً، وعاقبة ما تئول إليه خمداً، وأخلصه لك بالتقى، وكثره لك بالنما، ولا كدر عليك منه ما صفا، ولا خلط سروره بالردى - ، فلقد أصبحت للمسلمين ثقةً ومستراحاً، إليك يفزعون في مظالمهم، وإياك يقصدون في أمورهم، وما أجد يا أمير المؤمنين - جعلني الله فداءك - شيئاً هو أبلغ في قضا حقك وتوقير مجلسك، وما من الله به علي من مجالستك والنظر إلى وجهك، من أن أذكرك نعمة الله عليك فأنبهك على شكرها. وما أجد في ذلك شيئاً هو أبلغ من حديثٍ من سلف قبلك من الملوك، فإن أذن لي أمير المؤمنين أخبرته. وكان متكئاً فاستوى قاعداً وقال: هات يا بن الأهتم، فقلت يا أمير المؤمنين: إن ملكاً من الملوك قبلك خرج في عامٍ مثل عامنا هذا إلى الخورنق والسدير في عامٍ قد بكر وسميه وتتابع وليه، وأخذت الأرض زينتها من اختلاف ألوان نبتها من نور ربيعٍ مونق في أحسن منظر وأحسن مخبر، بصعيد كأن ترابه قطع الكافور، وقد كان أعطى فتاء السن مع الكثيرة والغلبة والقهر، فنظر فأبعد النظر، فقال لمن حوله: هل رأيتم مثل ما أنا فيه؟ وهل أعطى أحد مثل ما أعطيت؟ فكان عنده رجل من بقايا حملة الحجة والمضي على أدب الحق ومناهجه، ولم تخل الأرض من قائم لله بالحجة في عباده، فقال: أيها الملك، إنك سألت عن أمرٍ، أفتأذن لي في الجواب عنه؟ قال نعم: قال: أرأيت هذا الذي أنت فيه؟ أشيءٌ لم تنزل فهي أم شيءٌ صار إليك ميراثاً؟ وهو زائل عنك، وصائر إلى غيرك كما صار إليك ميراثاً من لدن غيرك؟ قال: كذلك هو. قال: فلا أراك إلا أعجبت بشيء يسيرٍ تكون فيه قليلاً، وتغيب عنه طويلاً وتكون غداً بحسابه مرتهناً. قال: ويحك، فأين المهرب وأين المطلب؟؟ قال: فإما أن تقيم في ملكك وتعمل فيه بطاعة ربك على ما ساءك وسرك ومضك وأرمضك، وإما أن تضع تاجك وتخلع أطمارك وتلبس مسوحك وتعبد ربك في جبل حتى يأتيك أجلك. قال: فإذا كان السحر فاقرع علي بابي، فإني مختار أحد الرأيين، فإن اخترت ما أنا فيه كنت وزيراً لا يعصى، وإن اخترت خلوات الأرض وقفر البلاد كنت رفقاً لا يخالف. فلما كان السحر قرع عليه بابه، فإذا قد وضع تاجه وخلع أطماره ولبس المسوح وتهيأ للسياحة، فلزما والله الجبل حتى أتاهما أجلهما، فذلك حيث يقول أخو بني تميمٍ عدي بن زيدٍ العبادي:
أيها الشامت الميعر بالده ... رأأنت المبرأ الموفور؟
أم لديك العهد الوثيق من الأي ... ام بل أنت جاهل مغرور؟
من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير؟
أين كسرى كسرى الملوك أنوشروان أم أين قبله سابور؟
وبنو الأصفر الكرام ملوك ال ... روم لم يبق منهم مذكور
وأخو الخضر إذ نباه وإذ دج ... له تجبى إليه والخابور
شاده مرمراً وجلله كل ... ساً فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور
وتذكر رب الخورنق إذ أش ... رف يوماً وللهدى تفكير
سره ماله وكثرة ما يم ... لك وابحر معرضاً والسدير
فارعوى قلبه وقال وما غب ... طه حيٍ إلى الممات يصير
ثم بعد الفلاح والملك والنع ... مة وارثهم هناك قبور
ثم صاروا كأنهم ورق ج ... ف فألوت به الصبا والدبور

قال: فبكى هشام حتى اخضلت لحيته وبلت عمامته، وأمر بنزع أبنيته ونقل قرابته وأهله وحشمه وجلسائه وغاشيته ولزم قصره. فأقبلت الموالي والحشم على خالد بن صفوان فقالوا: ما أردت بأمير المؤمنين؟ نغصت عليه لذاته وأفسدت مأدبته. فقال لهم: إليكم عني فإني عاهدت الله عز وجل ألا أخلو بملك إلا ذكرته الله عز وجل.
وتقدم في ترجمة حميدٍ الأرقط من كلام أبي عبيدة أن خالد بن صفوان مع فضله وجلالته أحد بخلاء العرب الأربعة. وروى أنه أكل يوماً خبزاً وجبناً فرآه أعرابي فسلم عليه، فقال له خالد: هلم إلى الخبز والجبن فانه حمض العرب، وهو يسيغ اللقمة، ويفتق الشهوة، وتطيب عليه الشربة، فانحط الأعرابي فلم يبق شيئاً منهما. فقال خالد: يا جارية زيدينا خبزاً وجبناً، فقالت: ما بقي عندنا منه شيء. فقال خالد: الحمد لله الذي صرف عنا معرته وكفانا مئونته، والله إنه لم علمته ليقدح في السن، ويخشن الحلق، ويربو في المعدة، ويعسر في المخرج، فقال الأعرابي: والله ما رأت قط قرب مدحٍ من ذمٍ أقرب من هذا.
ومن حكم خالد بن صفوان: إن جعلك الأمر أخاً فاجعله سيداً، ولا يحدثن لك الاستئناس به غفلة عنه ولا تهاوناً. وقال: ابذل لصديقك مالك، ولمعرفتك بشرك وتحيتك. وللعامة رفدك وحسن محضرك، ولعدوك عدلك، واصنن بدينك وعرضك عن كل أحدٍ. وقال: إن أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة وأنقص الناس عقلاً من ظلم من هو دونه. وقال لا تطلبوا الحوائج في غير حينها، ولا تطلبوها إلى غير أهلها، ولا تطلبوا ما لستم له بأهل فتكونوا للمنع أهلاً. توفي خالد بن صفوان سنة خمس وثلاثين ومائة.

خالد بن يزيد بن معاوية
ابن أبي سفيان. الأمير أبو هاشم الأموي: كان من رجالات قريش المتميزين بالفصاحة والسماحة وقوة المارضة، علامة خبيراً بالطب والكيمياء شاعراً. قال الزبير بن مصعب: كان خالد بن يزيد بن معاوية موصوفاً بالعلم حكيماً شاعراً. وقال ابن أبي حاتم: كان خالد من الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام. وقيل عنه: قد علم علم العرب والعجم. روى خالد الحديث عن أبيه وعن دحية بن خليفة الكلبي - رضي الله عنه - وروى عنه الزهري وغيره. وأخرج البيهقي والخطيب البغدادي والعسكري والحافظ بن عساكر عنه عدة أحاديث. وكان إذا لم يجد أحداً يحدثه حدث جواريه، وكان من صالحي القوم، وكان يصوم الجمعة والسبت والأحد. وكان يقول: كنت معنياً بالكتب، وما أنا من العلماء ولا من الجمال. وكان خالد جواداً ممدحاً جاءه رجل فقال له: إني قد قلت فيك بيتين ولست أنشدهما إلا بحكمي، فقال له قل، فقال:
سألت الندى والجود حران أنتما؟ ... فقالا بلى عبدان بين عبيد
فقلت ومن مولاكما فتطاولا علي وقالا خالد بن يزيد

فقال له تحكم. فقال: مائة ألف درهمٍ، فأمر له بها. وكان خالد شجاعاً جريئاً وكان بينه وبين عبد الملك ابن مروان مناظرات، تهدده عبد الملك مرةً بالسطوة والحرمان فقال له: أتهددني ويد الله فوقك مانعة، وعطاؤه دونك مبذول؟ وأجرى أخوه عبد الله بن يزيد الخيل مع الوليد بن عبد الملك فسبقه عبد الله، فدخل الوليد على خيل عبد الله فنقرها ولعب بها فجاء عبد الله إلى أخيه خالدٍ فقال: لقد هممت اليوم بقتل الوليد بن عبد الملك، فقال له خالد: بئس ما هممت به في ابن أمير المؤمنين وولى عهد المسلمين، قال: إنه لقى خيلي فنفرها وتلاعب بها، فقال له خالد: أنا أكفيكه فدخل خالد على عبد الملك وعنده الوليد وقال له أمير المؤمنين: إن الوليد بن أمير المؤمنين لقي خيل ابن عمه عبد الله فنرها وتلاعب بها فشق ذلك على عبد الله. فقال عبد الملك: إن الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوا وجعلوا أعزة أهلها أذلةً، وكذلك يفعلون. فقال له خالد: وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً. فقال له عبد الملك: أما والله لنعم المرء عبد الله على لحن فيه. فقال له خالد: أفعلى الوليد تعول مع اللحن. فقال عبد الملك إن يكن الوليد لحاناً فأخوه سليمان. قال خالد: وإن يكن عبد الله لحاناً فأخوه خالد. فقال عبد الملك: مدحت والله نفسك يا خالد. قال: وقبلي والله مدحت نفسك يا أمير المؤمنين، قال: ومتى؟ قال: حين قلت أنا قاتل عمرو بن سعيدٍ، حق والله لمن قتل عمراً أن يفخر بقتله، قال: أما والله لمروان كان أطولنا باعاً، قال: أما إني أرى ثأري في مروان صباح مساء، ولو أشاء أن أديله لأدلته؟ قال ما أجرأك علي يا خالد خلني عنك. قال لا والله، قال الشاعر:
ويجر اللسان من أسلات ال ... حرب ما لا يجر منها البنان
فقال عبد الملك: يا وليد أكرم ابن عمك، فقد رأيت أباه يكرم أباك، وجده يكرم جدك. وقيل لخالد: ما أقرب شيء؟ قال: الأجل. قيل: فما أرجى شيءٍ؟ قال: العمل. قيل فما أوحش شيء؟ قال الميت. قيل فما آنس شيء؟ قال الصاحب المؤاتي. وقيل له: ما الدنيا؟ قال ميراث. قيل: فالأيام؟ قال دول.
قيل: فالدهر؟ قال أطباق والموت يكمل سبيله، فليحذر العزيز الذل، والغنى الفقر، فكم عزيزٍ قد ذل، وكم من غنى قد افتقر. وقال: إذا كان الرجل ممارياً لجوجاً معجباً برأيه فقد تمت خسارته. ولما لزم بيته قيل له: كيف تركت الناس ولزمت بيتك؟ فقال: هل بقي إلا حاسد نعمةٍ أو شامت بنكبة؟ ومن شعرخالد بن يزيد:
أتعجب أن كنت ذا نعمةٍ ... وأنك فيها شريف مهيب؟
فكم ورد الموت من ناعمٍ ... وحب الحياة إليه عجيب
سقته ذنوباً من أنفاسها ... ويذخر للحى منها ذنوب
وقال في رملة بنت الزبير بن العوام:
أليس يزيد السير في كل ليلة ... وفي كل يومٍ من أحبتنا قربا
أحن إلى بنت الزبير وقد عدت ... بنا العيس خرقاً من تهامة أو نقبا
إذا نزلت أرضاً نحبب أهلها ... إلينا وإن كانت منازلها حربا
وإن نزلت ماء وإن كان قبلها ... مليحاً وجدنا ماءه بارداً عذبا
تجول خلاخيل الناء ولا أرى ... لرملة خلخالاً يجول ولا قلبا
أقلوا علي اللوم فيها فإنني ... تخيرتها منهم زبيرية قلبا
أحب بني العوام طرا لحبها ... ومن حبها أحببت أخوالها كلبا
وقال:
إن سرك الشرف العظيم مع الغنى ... وتكون يوم أشد خوفٍ وائلا
يوم الحساب إذا النفوس تفاضلت ... في الوزن إذ غبط الأخف الأثقلا
فاعمل لما بعد الممات ولا تكن ... عن حظ نفسك في حياتك غافلا
ومما نسبوا إليه من التصانيف في الكيمياء. السر البديع في فك الرمز المنيع، وكتاب الفردوس ورسائل أخرى. توفي خالد بن يزيد سنة تسعين، وقيل سنة خمسٍ وثمانين، وشهده الوليد بن عبد الملك وقال: لتلق بنو أمية الأردية على خالدٍ فلن يتحسروا على مثله أبداً.

خالد بن يزيد

مولى بني المهلب، ويقال له خالويه المكدي، كان أديباً ظريفاً بلغ في البخل والتكدية وكثرة المال المبلغ الذي لم يبلغه أحد، وكان متكلماً بليغاً قاصاً داهياً، وكان أبو سليمان الأعور وأبو سعيدٍ المدائني القاصان من غلمانه، وله أخبار حسان، ومن لطائفه وصيته لابنه عند موته، وفيها لطائف وغرائب قال فيها: إني قد تركت لك ما تأكله إن حفظته، وما لا تأكله إن ضيعته، ولما أورثتك من العرف الصالح وأشهدتك من صواب التدبير، وعودتك من عيش المقتصدين خير لك من هذا المال، وقد دفعت إليك آلةً لحفظ المال عليك بكل حيلةٍ، ثم إن لم يكن لك معين من نفسك فما انتفعت بشيء من ذلك، بل يعود ذلك النهي كله اعتزالاً لك، وذلك المنع تهجيناً لطاعتك، وقد بلغت في البر منقطع العمران، وفي البحر أقصى مبلغ السفن، فلا عليك إذ رأيتني ألا ترى ذا القرنين، ودع عنك مذاهب ابن شرية فإنه لا يعرف إلا ظاهر الخبر، ولو رآني تميم الداري لأخذ عني صفة الروم، ولأنا أهدى من القطا، ومن دعيميص ومن رافعٍ المخش، إني قد بت في القفر مع الغول، وتزوجت السعلاة، وجاوبت الهاتف، ورغت عن الجن إلى الجن، واصطدت الشق وجاورت النسناس، وصحبني الرئي وعرفت خدع الكاهن وتدسيس العراف، وإلى م يذهب الخطاط والعياف، وما يقول أصحاب الأكناف، وعرفت التنجيم والزجر، والطرق والفكر. إن هذا المال لم أجمعه إلا من القص والتكدية ومن احتيال النهار ومكابدة الليل، ولا يجمع مثله أبداً إلا من معاناة ركوب البحر، ومن عمل السلطان أو من كيمياء الذهب والفضة، قد عرفت الأس حق معرفته، وفهمت سر الإكسير على حقيقته، ولولا علمي بضيق صدرك، ولولا أن أكون سبباً لتلف نفسك لعلمتك الساعة الشيء الذي بلغ به قارون ما بلغ، وبه تبنكت خاتون، والله ما يتسع صدرك عندي لسر صديقٍ فكيف ما لا يحتمله عزم ولا يتسع له صدر، وخزن سر الحديث وحبس كنوز الجواهر أهون من خزن العلم، ولو كنت عندي مأموناً على نفسك لأجريت الأرواح في الأجساد، وأنت تبصر ما كنت لا تفهمه بالوصف ولا تحقه بالذكر، ولكني سألقي عليك علم الإدراك وسبك الرخام وصنعة الفسيفساء وأسرار السيوف القلعية وعقاقير السيوف اليمانية وعمل الفرعوني وصنعة التلطيف على وجهه إن أقامني الله من صرعتي هذه، ولست أرضاك وإن كنت فوق البنين ولا أثق بك وإن كنت لاحقاً بالآباء لأني لم أبالغ في محبتك، إني قد لابست السلاطين والمساكين، وخدمت الخلفاء والمكدين، وخالطت النساك والفتاك، وعمرت السجون كما عمرت مجالس الذكر، وحلبت الدهر أشطره، وصادفت دهراً كثير الأعاجيب، فلولا أني دخلت من كل بابٍ وجريت مع كل ريحٍ في السراء والضراء حتى مثلت لي التجارب عواقب الأمور، وقربتني من غوامض التدبير، لما أمكنني جمع ما أخلفه لك، ولا حفظ ما حبسته عليك، ولم أحمد نفسي على جمعه كما حمدتها على حفظه، لأن بعض هذا المال لم أنله بالحزم والكيس وإنما حفظته لك من فتنة الأبناء ومن فتنة النساء ومن فتنة الثناء ومن فتنة الرياء ومن أيدي الوكلاء فإنهم الداء العياء. والوصية كلها على هذا النمط وفيها غرائب وهي طويلة تقع في كراسةٍ.

خالد بن زيد الكاتب
أبو الهيثم من أهل بغداد، وأصله من خراسان، شاعر مشهور رقيق الشعر. كان من كتاب الجيش ثم ولاه الوزير محمد بن عبد الملك الزيات عملاً ببعض الثغور، فخرج فسمع في طريقه مغنيةً تغني:
من كان ذا شجنٍ بالشام يطلبه ... ففي سوى الشام أمسى الأهل والشجن
فبكى حتى سقط على وجهه مغشياً عليه فأفاق مختلطاً ووسوس. وقال قوم: كان يهوى جاريةً لبعض الوجوه ببغداد فلم يقدر عليها فاختلط، وقيل إن السوداء غلبت عليه، وقيل كان خالد مغرماً بالغلمان ينفق عليهم كل ما يستفيد، فهوى غلاماً يقال له عبد الله، وكان أبو تمامٍ الطائي الشاعر يهواه. فقال فيه خالد:
قضيب بانٍ جناه ورد ... تحمله وجنة وخد
لم أثن طرفي إليه إلا ... مات عزاء وعاش وجد
ملك طوع النفوس حتى ... علمه الزهو حين يبدو
واجتع الصد فيه حتى ... ليس لخلقٍ سواه صد
فبلغ ذلك أبا تمامٍ فقال فيه أبياتاً منها:
شعرك هذا كله مفرط ... في برده يا خالد البارد
فعلمها الصبيان فما زالوا يصيحون به يا خالد البارد حتى وسوس:

وهجا أبا تمامٍ في هذه القصة فقال:
يا معشر المرد إني ناصح لكم ... والمرء في القول بين الصدق والكذب
لا ينكحن حبيباً منك كم أحد ... فإن وجعاءه أعدى من الجرب
لا تأمنوا أن تعودوا بعد ثالثةٍ ... فتركبوا عمداً ليست من الخشب
وحدث ابنأبي سلالة الشاعر قال: دخلت بغداد في بعض السنين فينا أنا مار في طريقٍ إذا أنا برجلٍ عليه مبطنه وعلى رأسه قلنسوة سوداء وهو راكب على قصبةٍ والصبيان خلفه يصيحون: يا خالد البارد، فإذا آذوه حمل عليهم بالقصبة، فلم أزل أطردهم عنه حتى تفرقوا وأدخلته بستاناً هناك فجلس واستراح، واشتريت له رطباً فأكل واستنشدته فأنشدني:
قد حاز قلبي فصار يملكه ... فكيف أسلو وكيف أتركه؟؟
رطيب جسمٍ كالماء تحسبه ... يخطر في القلب منه مسكله
يكاد يجري من القميص من الن ... نعمة لولا القميص يمسكه
ومن شعر خالدٍ أيضاً:
كبد شفها غليل التصابي ... بين عتبٍ وجفوةٍ وعذاب
كل يوم تدمي بجرح من الشو ... ق ونوعٍ مجددٍ من عتاب
يا سقيم الجفون أسقمت جسمي ... فاشفني كيف شئت لابك ما بي
إن أكن مذنباً فكن حسن العف ... و أو اجعل سوى للصدود عتابي
وقال:
يا تارك الجسم بلا قلب ... إن كنت أهواك فما ذنبي؟
يا مفرداً بالحسن أفردتني ... منك بطول الشوق والحب
إن تك عيني أبصرت فتنةً ... فهل على قلبي من عتب؟
فحسبك الله لما بي كما ... أنك في فعلك بي حسبي
توفي خالد الكاتب ستة تسعٍ وستين ومائتين ببغداد.

خداش بن بشر بن خالد
ابن الحارث أبو زيد التيميمي المعروف بالبعيث البصري، وكان خطيباً شاعراً مجيداً، وكان بينه وبين جريرٍ مهاجاة، فلج الهجاء بينهما نحواً من أربعين سنةً ولم يتغلب واحد منها على صاحبه، ولم يتهاج شاعران في العرب في جاهلية ولا إسلام بمثل ما تهاجيا به، وكان الفرزدق يعين البعيث، والبعيث، يعين ابن أم غسان على جريرٍ. فمما قاله البعيث لجرير:
إذا طلع العيوق أول كوكبٍ ... كفى اللؤم عند النازحين جرير
ألست كليباً ثم أمك كلبة ... لها بين أطناب البيوت هرير
ولو عند غسان السليطي عرست ... رغا قرن منها وكاس عقير
أتنسى نساءً باليمامة منكم ... نكحن عبيداً ما لهن مهور؟
وقال له أيضاً:
كليب لئام الناس قد يعلمونها ... وأنت إذا عدت كليب ليئمها
أترجو كليب أن يجيء حديثها ... بخير وقد أعيا كليباً قديمها
وقال له أيضاً:
أأن أمرعت معزى عطية وارتعت ... تلاعاً من المروت أحوى جميعها
تعرضت لي حتى صككتك صكةً ... على الوجه يكبو للدين أميمها
أليست كلب ألأم الناس كلهم ... وأنت إذا عدت كليب لئيمها؟
وقال له أيضاً:
أشاركتني في ثعلبٍ قد أكلته ... قلم يبق إلا رأسه وأكارعه
فدونك خصييه وما ضمت استه ... فإنك رمام خبيث مراتعه
وقال جرير له:
ألم تر أني قد رميت ابن فرتني ... بصماء لا يرجو الحياة أميمها
له أم سوء بئس ما قدمت له ... إذا فرط الأحساب عد قديمها
وأهاجيهما ونقائضهما كثيرة اكتفينا بما أوردناه منها. توفي البعيث سنة أربعٍ وثلاثين ومائةٍ بالبصرة في خلافة الوليد بن عبد الملك.
خرقة بن نباتة
ابن الزيد، عمرو بن عبد مناة الكلبي. شاعر إسلامي، قدم على حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية في دمشق، فجفاه حرب ولم يصله شيء، فهجاه فقال:
كأني ونضوى عند حرب بن خالدٍ ... من الجوع ذئبا قفرةٍ علزان
وباتت علينا جفوة ما نحبها ... وبتنا نقاسي ليلةً كثمان
وقال:
أجيري يا جميل دمي وهزي ... سناناً تطعنين به ونابا
لتعلم عامر الأجواد أنا ... إذا غضبت نبيت لها غضاباً
وقال:

وأرهبنا الخليفة واستمرت ... وجوه الأرض تغتصب اغتصابا
وقتلنا القبائل من عليمٍ ... وبيحنا قنافة والربابا
وقال:
كسع الشتاء بسبعةٍ غبر ... أيام شهلتنا من الشهر
فإذا انقضت أيام شهلته ... صن وصنير مع الوبر
ويأمر وأخيه مؤتمرٍ ... ومعللٍ وبمطفيء الجمر
ذهب الشتاء مولياً عجلاً ... وأتتك واقدة من الحر
وقال:
إلى الله أشكو عبرةً قد أطلت ... ونفساً إذا ما عزها الشوق ذلت
تحن إلى أرض العراق ودونها ... تنائف لو تسري بها الريح ضلت
وقال:
يا عارم بن عقيلٍ كيف كفر كم ... كعباً ومنكم إليه ينتهي الشرف؟
أفنيتم الحر من سعدٍ ببارقةٍ ... يوم الغرابة ما في برقها خلف
مات سنة خمس عشرة ومائةٍ.

الخضر بن مروان
ابن أحمد بن أبي عبد الله الثعلبي أبو العباس الضرير التوماثي، بضم التاء المثناة وسكون الواو بعدها ميم وألف ثم ثاء مثلثة: بلد من بلاد الجزيرة، التارقي الجزري. ولد بالجزيرة ونشأ بميافارقين، وأصله من توماثا. وكان عالماً بالنحو مقرئاً فاضلاً أديباً عارفاً حسن الشعر كثير المحفوظ، قرأ اللغة على ابن الجواليقي والنحو على ابن الشجري، والفقه على أبي الحسن الأبنوسي، وكان ببغداد، وله محفوظات كثيرة منها: المجمل، وشعر الهذليين، وشعر رؤبة وذي الرمة. لقيته بمرو وسرخس وينسابور في سنة أربعٍ وأربعين وخمسمائةٍ، وسألته عن مولده فقال سنة خمسٍ وخمسمائةٍ، وأنشدني لنفسه:
كتبت وقد أودى بمقلتي البكا ... وقد ذاب من شوقٍ إليك سوادها
فما وردت لي نحوكم من رسالةٍ ... وحقكم إلا وذاك سوداها
وقال أيضاً:
أنت في غمرة النعيم تعون ... لست تدري بأن ذا لا يدوم
كم رأينا من الملوك قديماً ... همدوا فالعظام منهم رميم؟
ما رأينا الزمان أبقى على شخ ... صٍ شقاءً فهل يدوم النعيم؟
والغني عند أهله مستعار ... فحميد به ومنهم ذميم
وقال:
مواعظ الدهر أدبتي ... وإنما يوعظ الأديب
لم يمض بؤس ولا نعيم ... إلا ولى فيهما نصيب
بلغتنا وفاته ببخارى سنة ثمانين وخمسمائة.
الخضر بن هبة الله الطائي
ابن أبي الهمام الطائي الشاعر البغدادي، دخل مصر وحضر بين يدي أمير المؤمنين الراشد بالله ابن المسترشد بالله، فأنشده على البديهة:
ولما شأوت الحاسدين إلى مدىً ... رفيعٍ تزل العصم دون مرامه
ورفعت الأستار لي دون سيدٍ ... شفى غلتي من بشره وسلامه
سطوت على صرف الزمان ببأسه ... وصلت على كيد العدا بانتقامه
ودخل علي الأمير علي بن صدقة فقال على البديهة أيضاً:
سأسكر ما أوليتني من منائحٍ ... زماني وإن كنت العيي المقصرا
نمتك قروم في الملاحم والندى ... إذا انتسبت كانت أسوداً وأبحرا
فكل كريمٍ غادرته مبخلاً ... وكل قديمٍ غادرته مؤخرا
وقدم الطائي إلى دمشق وامتدح بها واليها محمد بن بورى بن طغتكين، ومدح أبا الفتح نصر الله بن صالحٍ الهاشمي، ودخل عليه يوماً وقد افتصد فقال بديهةً:
لما مددت إليه راحة راحةٍ ... من شأنها الإعطاء والإعدام
وحسرت ردن ملاءةٍ عن ساعدٍ ... لا ساعدت أعداءه الأيام
أكبرت ما فعل الطبيب وهالني ... من فعله التغرير والإقدام
وعجبت كيف جرى الحديد بمفصلٍ ... في مدحه تتفاخر الأوهام
لكن أمرت ولو أشرت بنقمةٍ ... يوماً لذاب بغمده الصمام
يا من له في كل قلبٍ هيبة ... وله بكل رواجبٍ إنعام
أغنيت زين الدين طلاب الندى ... وتباشرت بقدومك الأيتام
مض العراق فراق ظلك عنهم ... وتهنأت بك جلق والشام
فبنو المكارم في البرية كلها ... صنف وأنت مقدم وإمام

ولد الخضر البغدادي سنة تسعٍ وتسعين وأربعمائةٍ ومات سنة أربعٍ وستين وخمسمائةٍ.

خلف بن أحمد
القيرواني الشاعر. قال ابن رشيقٍ في النموذج: شاعر مطبوع بأدب إفريقية ودخل مصر وله شعر معروف جيد. مات بزويله المهدية سنة أربع عشرة وأربعمائةٍ ومن شعره.
هل الدهر يوماً بليلي يجود ... وأيامنا باللوى هل تعود؟
عهود تقضت وعيش مضى ... بنفسي ولله تلك العهود
ألا قل لسكان وادي الحمى ... هنيئاً لكم في الجنان الخلود
أفيضوا علينا من الماء فيضاً ... فنحن عطاش وأنتم ورود
خلف بن حيان
أبو محرزٍ البصري المعروف بالأحمر، مولى أبي بردة بلا لبن أبي موسى الأشعري أعنق بلال أبوية وكانا فرغانيين. قال أبو عبيدة معمر بن المثني: خلف الأحمر معلم الأصمعي ومعلم أهل البصرة. وقال الأخفش: لم أدرك أحداً أعلم با لشعر من خلفٍ الأحمروالأصمعي.
وقال ابن سلامٍ: أجمع أصحابنا أن الأحمر كان أفرس الناس ببيت شعرٍ وأصدق لساناً وكنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبراً أو أنشدنا شعراً ألا نسمعه من صاحبه. وقال شمر: خلف الأحمر أول من أحدث السماع بالبصرة، وذلك أنه جاء إلى حمادٍ الراوية فسمع منه وكان ضنيناً بأدبه. وقال أبو الطيب عبد الواحد اللغوي: كان خلف يضع الشعر وينسبه إلى العرب فلا يعرف، ثم نسك، وكان يختم القرآن كل ليلةٍ، وبذل له بعض الملوك مالاً عظيماً على أن يتكلم في بيت شعرٍ شكوا فيه فأبى. ولخلفٍ ديوان شعر حمله عنه أبو نواسٍ، وكتاب جبال العرب. توفي في حدود الثمانين ومائةٍ.
حدث الأصمعي قال: حضرنا مأدبةً ومعنا أبو محرز خلف الأحمر وحضرها ابن مناذرٍ الشاعر فقال لخلفٍ الأحمر: يا أبا محرز، إن يكن النابغة وامر القيس وزهير قد ماتوا فهذه أشعارهم مخلدة، فقس شعري إلى شعرهم، واحكم فيها بالحق، فغضب خلف ثم أخذ صحفةً مملوءةً مرقاً فرمى بها عليه، فقام ابن مناذر مغضباً وأظنه هجاه بعد ذلك.
وحدث ابن سلامٍ قال: قال لي خلف الأحمر: كنت أسمع ببشار بن بردٍ أن أراه، فذكروه لي يوماً وذكروا بيانه وسرعة جوابه وجودة شعره، فاستنشدتهم شيئاً من شعره فأنشدوني شيئاً لم أحمده فقلت: والله لآتينه ولأطأطئن منه، فأتيته وهو جالس على بابه فرأيته أعمى قبيح المنظر عظيم الجثة. فقلت: - لعن الله - من يبالي بهذا، فوقفت أتأمله طويلاً فبينا أنا كذلك إذ جاءه رجل فقال: إن فلاناً سبك عند الأمير محمد بن سليمان ووضع منك. فقال: أو قد فعل؟ قال: نعم. فأطرق وجلس الرجل عنده وجلست، وجاء قوم فسلموا عليه فلم يردد عليهم، فجعلوا ينظرون إليه وقد درت أوداجه، فلم يلبث إلا ساعةً حتى أنشدنا بأعلى صوته وأفجمه فقال:
نبئت نائك أمه يغتابني ... عند الأمر وهل علي أمير؟
ناري محرقة وبيتي واسع ... للمعتفين ومجلسي معمور
ولي المهابة في الأحبة والعدا ... وكأنني أسد له تامور
غرثت حليلته وأخطأ صيده ... فله على لقم الطريق زئير
قال: فارتعدت والله فرائصي، واقشعر جلدي، وعظم في عيني جداً حتى قلت في نفسي: الحمد لله الذي أبعدني من شرك. وكان بين خلفي الأحمر وبينأبي محمدٍ اليزيدي مهاجاة، فقال أبو محمدٍ فيه:
زعم الأحمر المقيت لدينا ... والذي أمه تقر بمقته
أنه علم الكسائي نحواً ... فلئن كان ذا كذاك فباسته
وهجا خلف أبا محمدٍ اليزيدي بقصيدة فائيةٍ تداولها الأفواه والأسماع، نسبه فيها إلى اللواطة مطلعها:
إني ومن وسج المطي له ... حدب الذري إرقالها رجف
والمحرمين لصوتهم زجل ... بفناء كعبته إذا هتفوا
مني إليه غير ذي كذبٍ ... ما إن رأى قوم ولا عرفوا
في غابر الناس الذين بقوا ... والفرط الماضين من سلفوا
أحداً كيحى في الطعان اذا اف ... ترش القنا وتضعضع الحجف
في معركٍ يلقى الكمى به ... للوجه منبطحاً وينحرف
وإذا أكب القرن يتبعه ... طعناً دوين صلاه ينخسف
وهي طويلة نحو أربعين بيتاً اكتفينا بهذا المقدار منها؟

الخليل بن أحمد
ابن عمر بن تميمٍ أبو عبد الرحمن الفراهيدي، ويقال: الفرهودي نسبة إلى فراهيد بن مالك بن فهم بن عبد الله ابن مالك بن مضر الأزدي البصري، سيد الأدباء في علمه وزهده.
قال السيرافي: كان الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو وتعليله. أخذ عن أبي عمرو بن العلا وروى عن أيوب وعاصمٍ الأحول وغيرهما، وأخد عنه الأصمعي، وسيبويه، والنضر بن شميلٍ، وأبو فيد مؤرج السدوسي، وعلي بن نصرٍ الجهضمي وغيرهم، وهو أول من استخرج العروض وضبط اللغة وحصر أشعار العرب، يقال إنه دعا بمكة أن يرزقه الله تعالى علماً لم يسبق به، فرجع وفتح عليه بالعروض وكانت معرفته بالإيقاع هو الذي أحدث له علم العروض، وكان يقول الشعر فينظم البيتين والثلاثة ونحوها.
وكان سفيان النوري يقول: من أحب أن ينظر إلى رجلٍ خلق من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد، ويروي عن النضر بن شميلٍ أنه قال: كنا نمثل بين ابن عونٍ والخليل بن أحمد أيهما نقدم في الزهد والعبادة، فلا ندري أيهما نقدم؟ وكان يقول: ما رأيت رجلاً أعلم بالسنة بعد ابن عونٍ من الخليل بن أحمد. وكان يقول: أكلت الدنيا بعلم الخليل وكتبه وهو في خصٍ لا يشعر به، وكان يحج سنةً ويغزو سنةً، وكان من الزهاد المنقطعين إلى الله تعالى، وكان يقول: إن لم تكن هذه الطائفة أولياء الله تعالى فليس لله ولي. وللخليل من التصانيف: كتاب الإيقاع، وكتاب الجمل، وكتاب الشواهد، وكتاب العروض، وكتاب العين في اللغة، ويقال: إنه لليث بن نصر بن سيارٍ عمل الخليل منه قطعةً وأكمله الليث. وله كتاب فائت العين، وكتاب النغم، وكتاب النقط والشكل وغير ذلك. وروى أنه كان يقطع بيتاً من الشعر فدخل عليه ولده في تلك الحالة فخرج إلى الناس وقال: إنأبي قد جن فدخل الناس عليه وهو يقطع البيت فأخبروه بما قال ابنه فقال له:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
ووجه إليه سليمان بن علي وإلى الأهواز لتأديب ولده، فأخرج الخليل لرسوله سليمان خبزاً يابساً وقال: ما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان، فقال الرسول: فما أبلغه عنك؟ فقال:
أبلغ سليمان أني عنه في سعةٍ ... وفي غنىً غير أني لست ذا مال
سخى بنفسي أني لا أرى أحداً ... يموت هزلاً ولا يبقى على حال
والفقر في النفس لا في المال نعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
فالرزق عن قدرٍ لا العجز ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال
ومن شعره أيضاً:
وقبلك داوى الطبيب المريض ... فعاش المريض ومات الطبيب
فكن مستعداً لدار الفناء ... فإن الذي هو آتٍ قريب
توفي سنة ستين ومائةٍ وقيل سبعين ومائةٍ، وله أربع وسبعون سنةً.
الخليل بن أحمد بن محمد
ابن الخليل بن موسى السجزي. كان فقيهاً شاعراً محدثاً رحل في طلب الحديث إلى نيسابور ودمشق. قال الحاكم أبو عبد الله في تاريخ نيسابور: كان الخليل شيخ أهل الرأي في عصره، وكان من أحسن الناس كلاماً في الوعظ والذكر مع تقدمه في الفقه والأدب، وكان ورد نيسابور قديماً مع محمد بن إسحق بن خزيمة وأقرانه، وسمع بالري والعراق والحجاز، وورد نيسابور محدثاً ومفيداً سنة تسعٍ وخمسين وثلاثمائةٍ، وسكن سجستان ثم انتقل إلى بلخٍ وسكنها، ومن شعره في مدحأبي حنيفة النعمان بن ثابتٍ وصاحبيه والأئمة القراء:
سأجعل لي النعمان في الفقه قدوةً ... وسفيان في نقل الأحاديث سيداً
وفي ترك ما لم يعنني من عقيدةٍ ... سأتبع يعقوب العلا ومحمدا
وأجعل حزبي من قراءة عاصمٍ ... وحمزة بالتحقيق درساً مؤكدا
وأجعل في النحو الكسائي عمدتي ... ومن بعده الفراء ما عشت سرمدا
وإن عدت للحج المبارك مرةً ... جعلت لنفسي كوفة الخير مشهدا
فهذا اعتقادي وهو ديني ومذهبي ... فمن شاء فليبرز ليلقى موحدا
ويلقي لساناً مثل سيفٍ مهندٍ ... يفل إذا لاقي الحسام المهندا
وقال:

إذا ضاق باب الرزق عنك ببلدةٍ ... فثم بلاد رزقها غير ضيق
وإياك والسكني بدار مذلةٍ ... فتسقي بكأس الذلة المتدفق
فما ضاقت الدنيا عليك برحبها ... ولا باب رزق الله عنك بمغلق
وقال:
ليس التطاول رافعاً من جاهلٍ ... وكذا التواضع لا يضر بعاقل
لكن يزاد إذا تواضع رفعةً ... ثم التطاول ماله من حاصل
وقال:
رضيت من الدنيا بقوتٍ يقيمني ... ولا أبتغي من بعده أبداً فضلا
ولست أروم القوت إلا لأنه ... يعين على علمٍ أرد به جهلا
فما هذه الدنيا يكون نعيمها ... لأصغر ما في العلم من نكتةٍ عدلا
وقال:
ألله يجمع بيننا في غبطةٍ ... ويزيل وحشتنا بوشك تلاقٍ
ما طاب لي عيش فديتك بعدما ... ناحت علي حمامة بفراق
إن الإله لقد قضى في خلقه ... ألا يطيب العيش للمشتاق
توفي القاضي السجزي بسمرقند وهو قاضٍ بها سنة ثمانٍ وسبعين وثلاثمائةٍ، وقال أبو بكرٍ الخوارزمي يرثيه:
ولما رأينا الناس حيرى لهدةٍ ... بدت بأساس الدين بعد تأطد
أفضنا دموعاً بالدماء مشوبةً ... وقلنا: لقد مات الخليل بن أحمد

خميس بن علي
ابن أحمد بن علي بن إبراهيم بن الحسن أبو الكرم الواسطي الحوزي الحافظ النحوي الأديب الشاعر المحدث، حدث عن أبي القاسم عبد العزيز بن علي الأنماطي، وأبي منصورٍ محمدٍ النديم العكبري، وأبي القاسم علي بن أحمد البشري وغيرهم من البغداديين والواسطيين، قال الحافظ أبو طاهرٍ السلفي: كان خميس من حفاظ الحديث المحققين بمعرفة رجاله، ومن أهل الأدب البارع، وله شعر غاية في الجودة، وفي شيوخه كثرة، وقد عقلت عنه فوائد وسألته عن رجالٍ من الرواة فأجاب بما أثبته في جزء ضخم وهو عندي وقد أملي علي نسبه وهو: خميس بن علي ابن أحمد بن علي بن إبراهيم بن الحسن بن سلامويه الحوزي، ومولده سنة سبعٍ وأربعين وأربعمائة، وكان إتقانه مما يعول عليه. وفي كتاب ابن نقطة مولده سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة في شعبان، ومات في شعبان أيضاً بواسط سنة عشرس وخمسمائةٍ. ومن شعره:
تركت مقالات الكلام جميعها ... لمبتدعٍ يدعو بهن إلى الردى
ولازمت أصحاب الحديث لأنهم ... دعاة إلى سبل المكارم والهدى
وهل ترك الإنسان في الدين غايةً ... إذا قال قلدت النبيمحمدا؟
وقال:
من كان يرجو أن يرى ... من ساقطٍ أمراً سنيا
فلقد رجا أن يجتنى ... من عوسجٍ رطباً جنيا
خويلد بن خالد
ابن محرز بن زبيد بن أسد بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن غنم بن سعد بن هذيلٍ الهذلي أو ذؤيبٍ شاعر مجيد مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، قدم المدينة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه. روى عنه أنه قال: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهلوا بالإحرام فقلت: مه؟ فقالوا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي روايةٍ أنه قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليل وقع ذلك إلينا عن رجلٍ من الحي قدم معتماً فأوجس أهل الحي خيفةً وأشعرنا حزناً، فبت بليلةٍ باتت النجوم بها طويلة الأناة لا ينجاب ديجورها، ولا يطلع نورها، فظللت أقاسي طولها وأقارع غولها حتى إذ كان دوين السمر وقرب السحر، خفت فهتف هاتف وهو يقول:
خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومعقد الآطام
قبض النبي محمد فعيوننا ... تذري الدموع عليه بالتسجام

قال أبو ذؤيبٍ: فوثبت من نومي فزعاً فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعداً الذابح، فتفاءلت به ذبحاً يقع في العرب، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض، أو أنه ميت فركبت ناقتي فسرت، فلما أصبحت طلبت شيئاً أزجزه فعن لي القنفذ قد قبض على صلٍ - يعني حيةً - فهي تلتوي عليه والقنفذ يقضمه حتى أكله، فزجرت ذلك وقلت تلوي الصل انفتال الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله، ثم أولت أكل القنفذ له غلبة القائم على الأمر. والحديث طويل ذكر فيه حضوره في سقيفة بني ساعدة، ومبايعة أبي بكرٍ - رضي الله عنه - وروى ابن سلامٍ عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: سئل حسان بن ثابتٍ من أشعر الناس؟ قال: أحيا؟ قالوا: حياً، قال: أشعر الناس حياً هذيل، غير مدافعٍ أبو ذؤيبٍ. وقال ابن شبة: تقدم أبو ذؤيبٍ جميع شعراء هذيل بقصيدته العينية التي يرثي فيها بنية، ومطلعها:
أمن المنون وريبه تتوجع ... والدهر ليس بمعتبٍ من يجزع
قالت أميمة ما لجسمك شاحباً ... منذ ابتذلت ومثل مالك ينفع؟
أم ما لجسمك لا يلائم مضجعاً ... إلا أقض عليك ذاك المضجع
فأجبتها أما لجسمي إنه ... أودي بني من البلاد فودعوا
أودي نبي فأعقبوني حسرةً ... بعد السرور وعبرةً ما تقلع
ومنها:
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم ... وإذا المنية أقبلت لا تدفع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
لابد من تلفٍ مقيمٍ فانتظر ... أبأرض قومك أم بأخرى المضجع؟
ومنها:
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليلٍ تقنع
كم من جميعي الشمل ملتئمي الهوى ... كانوا بعيشٍ ناعمٍ فتصدعوا
وهي نحو سبعين بيتاً أورد ابن رشيقٍ أبياتاً منها في العمدة، وعدها في المطبوع من شعر العرب. ومن شعره ما أنشده له ثعلب:
وعيرها الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
فإن أعتذر منها فإني مكذب ... وإن تعتذر يردد علي اعتذارها
وشعرأبي ذؤيب كله على نمطٍ في الجودة وحسن السبك، وتوفي في غزوة إفريقية مع ابن الزبير، وقال وهو يجود بنفسه مخاطباً ابن أخيه أبا عبيدٍ:
أبا عبيدٍ وقع الكتاب ... واقترب الوعيد والحساب
وعند رحلي جملٌ منجاب ... أحمر في حاركه انصباب
ثم قضى نحبه ودلاه ابن الزبير في حفرته.

خيار بن أوفى النهدي
شاعر إسلامي دخل على معاوية فقال له: ما صنع بك الدهر؟ فقال يا أمير المؤمنين. صدع قناتي، وشيب سوادي، وأفنى لذاتي، وجرأ علي أعدائي، ولقد بقيت زماناً آنس بالأصحاب. وأسبل الثياب. وآلف الأحباب. فبادوا عني، ودنا الموت مني. فقال له أنشدني ما قلت في الخمر والنهي عنها، فقال:
أنهد بن زيدٍ ليس في الخمر رفعة ... فلا تقربوها إنني غير فاعل
فأني وجدت الخمر شيئاً ولم يزل ... أخو الخمر حلالاً شرار المنازل
فكم قد رأينا من فتى ذي جهالةٍ ... صحا بعد أزمان وطول تجاهل
ومن سيدٍ قد قنعته مذلة ... فعاش ذليلاً ضحكةً في المحافل
فلله أقوام تمادوا بشربها ... فأضحوا وهم أحدوثة في القوافل
فقال معاوية: صدقت والله لكم من سيدٍ أدمنها فتركته ضحكةً وأحدوثةً، ومن ذي رغبةٍ فيها قد صحا عنها فصار سيد قومه، والله ما وضع شيء الرجل كما وضعه الشراب، والله لهي الداء العياء. مات خيار النهدي في خلافة يزيد بن معاوية.
باب الدال
داود بن القاضي

أحمدبن أبي داود. كان أديباً شاعراً فاضلاً، وكان صديقاً لمحمد بن بشيرٍ الرياضي الشاعر المشهور، وكان ابن بشيرٍ كثير التردد عليه، ففقد ابن بشيرٍ يوماً أهلوه، وطلبوه فلم يجدوه، وكان مع أصحاب له خرج معهم للنزهة فجاءوا إلى القاضي داود بن أحمد يسألونه عنه، فقال لهم اطلبوه في منزل حسنٍ المغنية، فإن وجدتموه وإلا فهو في حبسأبي شجاعٍ صاحب شرطة خمار التركي. فلما كان بعد أيامٍ جاء ابن بشيرٍ إليه فقال له: إيهٍ أيها القاضي، كيف دللت على أهلي؟ قال: كما بلغك، وقد قلت في ذلك أبياتاً، قال: أو فعلت ذلك أيضاً؟ زدني من برك، هات، أي شيء قلت؟ فأنشده:
ومرسلةٍ توجه كل يومٍ ... إلى وما دعا للصبح داعٍ
تسائلني وقد فقدوه حتى ... أرادوا بعده قسم المتاع
إذا لم تلقه في بيت حسنٍ ... مقيماً للشراب وللسماع
ولم ير في طريق بني سدوسٍ ... يخط الأرض منه بالكراع
يدف حزونها بالوجه طوراً ... وطوراً باليدين وبالذراع
فقد أعياك مطلبه وأمسى ... بلا شكٍ بحبسأبي شجاع
فجعل ابن بشيرٍ يضحك ويقول: أيها القاضي لو غيرك يقول لي هذا لعرف مصيره، ثم يبرح حتى أعطاه داود مائتي درهمٍ وخلع عليه.

داود بن أحمد بن يحيى
ابن الخضر أبو سليماني الداوودي الضرير الملهمي البغدادي المقريء الأديب. قرأ القرآن بالروايات على أبي الحسن علي بن عساكر البطائحي، وأبي الفضل أحمد بن محمد بن شفيفٍ، وبرع في الأدب وكان مولعاً بشعرأبي العلاء المعري يحفظ منه جملةً صالحةً، ولذلك كان الناس يرمونه بسوء العقيدة، توفي أبو سليمان ببغداد سنة خمس عشرة وستمائة، ومن شعره:
أعلل القلب بذكراكم ... والقلب يأبى غير لقياكم
حللتم قلبي وبنتم فما ... أدناكم كم مني وأقصاكم؟
يا حبذا ريح الصبا إنها ... تروح القلب برياكم
وقال:
إلى الرحمن أشكو ما ألاقى ... غداة غدٍ على هوج النياق
نشدتكم بمن زم المطايا ... أمر بكم أمر من الفراق؟
وهل داء أمر من التنائي ... وهل عيش ألذ من التلاقي؟
داود بن سلم
مولى بني تميم بن مرة شاعر من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، كان يسكن المدينة، وكان يقال له: الآدم لشدة سواده، وكان من أقبح الناس وجهاً وأشدهم بخلاً، طرقه قوم بالعقيق فصاحوا به العشاء والقرى يا بن سلمٍ، فقال لهم: لا عشاء لكم عندي ولا قرىً، قالوا: فأين قولك إذ تقول؟
يا دار هندٍ ألا حييت من دار ... لم أقض منك لباناتي وأوطاري
عودت فيها إذا ما الضيف نبهني ... عقر العشار على يسر وإعسار
قال: لستم من أولئك الذين عنيت.
وقدم داود دمشق فنزل على حرب بن خالد بن يزيد ابن معاوية، فلما دخل داره قام غلمانه إلى متاعه فأدخلوه وحطوا عن راحلته، ثم دخل على حربٍ فأنشده:
فلما دفعت لأبوابهم ... ولاقيت حرباً لقيت النجاحا
وجدناه يحمده المجتدو ... ن، ويابي على العسر إلا سماحا
يغشون حتى ترى كلبهم ... يهاب الهرير وينسى النياحا
فأنزله وأكرمه وأجازه بجائزة عظيمةٍ، ثم استأذنه للخروج فأذن له وأعطاه ألف دينار وقال له: لا إذن لك علي متى جئت، فوده وخرج من عنده وغلمانه جلوس فلم يقم إليه منهم أحد، فظن أن حرباً ساخط فرجع فقال له: إنك على موجدةٍ؟ قال: لا وما ذاك؟ فأخبره أن غلمانه لم يعينوه على رحله، فقال له: ارجع إليهم فسلهم، فرجع إليهم فقالوا له: إنا ننزل من جاءنا ولا نخرج من خرج من عندنا. وكان داود منقطعاً إلى قثم بن العباس وفيه يقول:
نجوت من حلٍ ومن رحلةٍ ... يا ناق إن قربتني من قثم
إنك إن بلغتنيه غداً ... حالفني اليسر ومات العدم
لم يدر ما لا وبلى قد درى ... فعافها واعتاض منها نعم
أصم عن قيل الخنا سمعه ... وما عن الخير به من صمم
توفي داود بن سلمٍ في حدود سنة عشرين ومائةٍ.
داود بن الهيثم

ابن إسحاق بن البهلول بن حسان بن حسان بن سنانٍ أبو سعدٍ التنوخي الأنباري. قال الخطيب البغدادي في تاريخ مدينة السلام: كان نحوياً لغوياً حسن المعرفة بالعروض واستخراج المعمى، فصيحاً كثير الحفظ للنحو واللغة والأدب والأشعار، وله شعر جيد، أخذ عن ابن السكيت وثعلب، وسمع من جده إسحق وابن شبة، وأخذ عنه ابن الأزرق وجماعة، وله كتاب في النحو على مذهب ابن الأزرق وجماعة، وله كتاب في النحو على مذهب الكوفيين، وكتاب خلق الإنسان في اللغة وغير ذلك. مات بالأنبار سنة ست عشرة وثلاثمائة، وله ثمان وثمانون سنةً. ومن شعره:
بساتيها للمسك فيها روائح ... وأشجارها للريح فيها ملاعب
كأن هزيز الريح بين غصونها ... ضرائر أضحى بينهن تعاتب
كأن القباب الغر فيها مواكب ... تضيء كما أمست تضيء الكواكب
كأن فتيت المسك بين ترابها ... إذا ما تهادته الصبا والجنائب
ومن تحتها الأنهار تجري مياهها ... ففائضة منها ومنها سواكب
كأن مجاريها سبائك فضةٍ ... تذاب وأسياف تهز قواضب

دعبل بن علي
ابن رزين بن سليمان بن تميم بن نهشل بن خداش بن خالد بن عبد بن دعبل بن أنس بن أنس بن خزيمة. كذا قال أبو الفرج، وقال آخرون: دعبل بن علي بن رزين بن عثمان ابن عبد الله بن بديل بن ورقاء يتصل نسبه بمضر، أبو عليٍ الخزاعي، وعلى هذا الأكثر. شاعر مطبوع مفلق يقال: إن أصله من الكوفة وقيل من قرقيسيا وكان أكثر مقامه ببغداد، وسافر إلى غيرها من البلاد فدخل دمشق ومصر، وكان هجاءً خبيث اللسان لم يسلم منه أحد من الخلفاء ولا من الوزراء ولا من أولادهم، ولا ذو نباهةٍ أحسن إليه أو لم يحسن، وكان بينه وبين الكميت بن زيدٍ وأبي سعدٍ المخزومي مناقضات، وكان من مشاهير الشيعة، وقصيدته التائية في أهل البيت من أحسن الشعر، وأسنى المدائح قصد بها أبا علي بن موسى الرضا بخراسان، فأعطاه عشرةً آلاف درهمٍ وخلع عليه بردةً من ثيابه، فأعطاه بها أهل قمٍ ثلاثين ألف درهم فلم يبعها، فقطعوا عليه الطريق ليأخذوها فقال لهم: إنها تراد لله عز وجل وهي محرمة عليكم، فدفعوا له ثلاثين ألف درهمٍ فحلف كما واحداً فكان في أكفانه، ويقال: إنه كتب القصيدة في ثوبٍ وأحرم فيه وأوصى بأن يكون في أكفانه، ونسخ هذه القصيدة مختلفة، في بعضها زيادات يظن أنها مصنوعة ألحقها بها أناس من الشيعة، وإنا موردون هنا ما صح منها، قال:
مدارس آياتٍ خلت من تلاوةٍ ... ومنزل وحي مقفر العرصات
لآل رسول الله بالخيف من منىً ... وبالركن والتعريف والجمرات
ديار عليٍ والحسين وجعفرٍ ... وحمزة والسجاد ذي الثفنات
ديار عفاها كل جونٍ مباكر ... ولم تعف للأيام والسنوات
قفا نسأل الدار التي خف أهلها ... متى عهدها بالصوم والصلوات؟
وأين الأولى شطت بهم غربة النوى ... أفانين في الآفاق مفترقات
هم أهل ميراث النبيإذا اعتزوا ... وهم خر قاداتٍ وخير حماة
وما الناس إلا حاسد ومكذب ... ومضطغن ذو إحنةٍ وترات
إذا ذكروا قتلى بيدرٍ وخيبرٍ ... ويوم حنين أسبلوا العبرات
قبور بكوفاتٍ وأخرى بطيبةٍ ... وأخرى بفخٍ نالها صلواتي
وقبر ببغداد لنفسٍ زكيةٍ ... تضمنها الرحمن في الغرفات
فأما المصمات التي لست بالغاً ... مبالغها مني بكنه صفات
إلى الحشر حتى يبعث الله قائماً ... يفرج منها الهم والكربات
نفوس لدى النهرين من أرض كربلا ... معرسهم فيها بشط فرات
تقسمهم ريب الزمان كما ترى ... لهم عمرة مغشية الحجرات
سوى أن منهم بالمدينة عصبةً ... مدى الدهر أنضاء من الأزمات
قليلة زوارٍ سوى بعض زور ... من الضبع والعقبان والرخماتٍ

لهم كل حينٍ نومة بمضاجعٍ ... لهم في نواحي الأرض مختلفات
وقد كان منهم بالحجاز وأهلها ... مغاوير يختارون في السروات
تنكب لاواء السنين جوارهم ... فلا تصطليهم جمرة الجمرات
إذا وردوا خيلاً تشمس بالقنا ... مساعر جمر الموت والغمرات
وإن فخروا يوماً أتوا بمحمدٍ ... وجبريل والفرقان ذي السورات
ملامك في أهل النبيفإنهم ... أحباي ما عاشوا وأهل ثقاتي
تخيرتهم رشداً لأمري فإنهم ... على كل حالٍ خيرة الخيرات
فيا رب زدني من يقيني بصيرةً ... وزد حبهم يا رب في حسناتي
بنفسي أنتم من كهولٍ وفتيةٍ ... لفك عناةٍ أو لحمل ديات
أحب قصي الرحم من أجل حبكم ... وأهجر فيكم أسرتي وبناتي
وأكتم حبيكم مخافة كاشحٍ ... عنيدٍ لأهل الحق غير موات
لقد حفت الأيام حولي بشرها ... وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي
ألم تر أني من ثلاثين حجةً ... أروح وأغدو دائم الحسرات
أرى فيئهم في غيرهم متقسماً ... وأيديهم من فيئهم صفرات
فآل رسول الله نحف جسومهم ... وآل زيادٍ حفل القصرات
بنات زياد في القصور مصونة ... وآل رسول الله في الفلوات
إذا وتروا مدوا إلى أهل وترهم ... أكفاً عن الأوتار منقبضات
فلولا الذي أرجوه في اليوم أو غدٍ ... لقطع قلبي إثرهم حسراتي
خروج لا محالة خارج ... يقوم علي اسم الله والبركات
يميز فينا كل حقٍ وباطلٍ ... ويجزي على النعماء والنقمات
سأقصر نفسي جاهداً عن جدالهم ... كفاني ما ألقى من العبرات
فيا نفسس طيبي ثم يا نفس أبشري ... فغير بعيدٍ كل ما هو آت
فإن قرب الرحمن من تلك مدتي ... وأخر من عمري لطول حياتي
شفيت ولم أترك لنفسي رزيةً ... ورويت منهم منصلي وقناتي
أحاول نقل الشمس من مستقرها ... وأسمع أحجاراً من الصلدات
فمن عارفٍ لم ينتفع ومعاندٍ ... يميل مع الأهواء والشبهات
قصاراى منهم أن أموت بغصةٍ ... تردد بين الصدر واللهوات
كأنك بالأضلاع قد ضاق رحبها ... لما ضمنت من شدة الزفرات
ومما يختار من شعر دعبلٍ قصيدته العينية التي رثي بها الحسين عليه السلام قال.
رأس ابن بنت محمدٍ ووصيه ... يا للرجال على قناةٍ ترفع
والمسلمون بمنظرٍ وبمسمعٍ ... لا جازع من ذا ولا متخشع
أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى ... وأنمت عيناً لم تكن بك تهجع
كحلت بمنظرك العيون عمايةً ... وأصم نعيك كل أذنٍ تسمع
ما روضة إلا تمنت أنها ... لك مضجع ولخط قبرك موضع
ومن مختاراته أيضاً قوله:
خليلي ماذا أرتجي من غد امريءٍ ... طوى الكشح عني اليوم وهو مكين
وإن أمرأ قد ضن منه بمنطقٍ ... يسد به فقر امرئٍ لضنين
ومن مختار شعره قوله:
أين الشباب وأيةً سلكا؟ ... لا أين يطلب ضل بل هلكا؟؟
لا تعجبي يا سلم من رجلٍ ... ضحك المشيب برأسه فبكى
لا تأخذوا بظلامتي أحداً ... قلبي وطرفي في دمي اشتركا
ولد عبل كتاب طبقات الشعراء. وديوان شعرٍ. مات سنة ستٍ وأربعين ومائتين.

دعوان بن علي

ابن حماد بن صدقة الجبائي أبو محمدٍ الضرير المقريء، كان من أعيان القراء ببغداد متميزاً بالقراءة، بصيراً بالعربية، حسن الطريقة والسمت. قرأ القرآن بالروايات على أبي طاهرٍ أحمد بن علي بن سوارٍ، وأبي الخطاب علي ابن عبد الرحمن، وأبي القاسم يحيى بن أحمد السبي، وسمع عن الحسين بن أحمد بن محمد بن طلحة النعالي، والحسين بن علي بن أحمد بن البسري، وأبي المعالي ثابت بن بندارٍ. وقرأ عليه القرآن خلق كثير، وروى عن عبد الرزاق بن عبد القادر الجيلي، توفي سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.
دكين بن رجاءٍ الفقيمي
راجز مشهور، وفد على الوليد بن عبد الملك وكان الوليد متأهباً لسباق الخيل فقاد دكين فرسه للسباق، فلما رآه الوليد وكان الفرد دميماً قال: أخرجوه من الحلبة، قبح الله هذا، فقال دكين يا أمير المؤمنين: والله مالي مال غيره، فإن لم يسبق خيلك فهو حبيس في سبيل الله. فضحك الوليد وأمر بختمه وأرسلت الخيل فجاء سابقاً فقال دكين:
قد أغتدي والطير في أكنات ... يخدوني الشمأل في الفلاة
والليل لم يحسر عن القناة ... وللندى لم على لماتي
بذي شنيبٍ سابغ الصلعات ... ناتي المعد مشرف القطاة
من قارحٍ وأمنٍ وآت ... ومن رباعٍ ورباعيات
ومن ثنيٍ ومثنيات ... وجذعٍ عبلٍ ومجذعات
بتن على الجبل مسطرات ... حتى إذا انشقت دجى الظلمات
ووضع الخيل على اللبات ... وفرق الغلمان بالوصاة
من كل ذي قرطٍ مقزعات ... أرسلن يعبطن ذرى الصعدات
يسرى دوين الشمس ملخصات ... من قسطلان القاع مسحلات
حتى إذا كن بمهويات ... بالنصف بين الخط والغايات
عضبن أبيه على الشبات ... وسط سنا ضنطٍ ملحمات
مثل السراحين مصليات ... جاء أمام سبق الغايات
منهن من عرض للذمات
وقال يمدح مصعب بن الزبير:
يا ناق خبى بالقيود خببا ... حتى تزوري بالعراق مصعبا
قد علم الأنام إذ ينتخبا ... بيانه ورأيه المجربا
وفي الأمور عقله المؤدبا ... يامرسل الريح الجنوب والصبا
وآذاناً للفلك تجري خببا ... وخالق الاء وشيجاً نسبا
يعيد خلقاً بعد خلقٍ عجبا ... عظماً ولحماً ودماً وعصبا
خالاً وعما وابن عمٍ وأبا ... أعط الميأر مصعباً ما احتسبا
واجعل له من سلسبيلٍ مشربا ... فرعاً يزين المنبر المنصبا
قلباً دهياً ولساناً قصعبا ... هذا وإن قيل له هب وهبا
جوارياً وفضةً وذهبا ... والخيل يعلكن الحديد المنشبا
فوراً تلجلجن أبازيم الشبا ... قد جعل الناس إليه سببا
مات دكين بن رجاء سنة خمسٍ ومائةٍ.
دكين بن سعيدٍ الدارمي
التميمي الراجز، وهو غير دكين بن رجا المتقدم واشتبها على ابن قتيبة في طبقات الشعراء فجعلهما واحداً، ودكين بن سعيد هذا هو الذي كان منقطعاً إلى عمر بن عبد العزيز حين كان والياً بالمدينة يسامزه معأبي عونٍ وسالم بن عبد الله، فلما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة قصده، فلما استأذن عليه قال له الحاجب: إنه في شغل برد المظالم، فترقب خروج عمر للصلاة فلما خرج ناداة فقال:
يا عمر الخيرات والمكارم ... وعمر الدسائع العظائم
إني امرؤ من قطن بن دارم ... أسد حق المسلم المسالم
بيع يمينٍ بالإخاء الدائم ... إذ تنتحى والله غير نائمٍ
ونحن في ظلمة ليلٍ عاتم ... عندأبي عونٍ وعند سالمٍ
فدخل عمر على أمهات أولاده فما زال يجمع من عندهن العشرة والعشرين حتى جمع له ثلاثمائة فأعطاه إياها. مات دكين هذا سنة تسعٍ ومائةٍ.

باب الذال
ذو القرنين بن ناصر الدولة

أبي محمدٍ الحسن بن عبد الله، أبو المطاع بن حمدان التغلي المعروف بوجيه الدولة. كان أديباً فاضلاً شاعراً ولى إمرة دمشق سنة اثنتي عشرة وأربعمائةٍ. ثم عزل ثم وليها سنة خمس عشرة وأربعمائةٍ، وبقى إلى سنة تسع عشرة وأربعمائةٍ. ومن شعره:
لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... وشهدت حين نكرر التوديعا
أيقنت أن من الدموع محدثا ... وعلمت أن من الحديث دموعا
وقال:
يا غانياً عن خلتى ... أنا عنك إن فكرت أغنى
إن التقاطع والعقو ... ق هما أزالا الملك عنا
وأظن أن لن يتركا ... في الأرض مؤتلفين منا
يفنى الذي وقع التنا ... زع بيننا فيه ونفنى
وقال:
بأبي من هويته فافترقنا ... وقضى الله بعد ذاك اجتماعا
فافترقنا حولاص فلما التقينا ... كان تسليمه علي وداعا
وقال:
أفدي الذي زرته بالسيف مشتملاً ... ولحظ عينيه أمضى من مضاربه
فما خلغت نجادى للعناق له ... حتى لبست نجاداً من ذوائبه
فإن أسعدنا في نيل بغيته ... من كان في الحب أشقانا بصاحبه
وقال:
من كان يرضى بذلٍ في ولايته ... خوف الزوال فإني لست بالراضى
قالوا فتركب أحياناً فقلت لهم ... تحت الصليب ولا في موكب القاضي
توفي أبو المطاع بمصر في صفرٍ سنة ثمانٍ وعشرين وأربعمائة.

باب الراء
راشد بن إسحاق بن راشد
أبو حليمة الكاتب، كان أديباً كاتباً شاعراً، ذكره ابن المرزبان في طبقات الشعراء وقال: كان أكثر شعره في رثاء متاعه، وإنما كان يقول ذلك لتهمة لحقته من الأمير عبد الله بن طاهرٍ - أيام كتابته له - في خادمٍ لعبد الله، واتصل راشد بالوزير محمد بن عبد الله الزيات، وله معه أخبار حسان.
حدث يحيى بن عبادٍ قال: حج محمد بن عبد الملك في آخر أيام المأمون، فلما قدم من الحج كتب إليه راشد الكاتب يقول:
لا تنسى عهدي ولا مودتيه ... واشتق إلى طلعتي ورؤيتيه
فإن تجاوزت ما أقول إلى ال ... عصب فذاك المأمول منك ليه
فأجابه محمد بن عبد الملك.
إنك مني بحيث يطرد الن ... اظر من تحت ماء دمعتيه
ولا ومن زادني تودده ... على صحابي بفضل غيبتيه
ما أحسن الترك والخلاف لما ... تريد مني وماتقول ليه!
يابأبي أنت ما نسيتك في ... يوم دعائي ولا هديتيه
ناجيت بالذكر والدعاء لك الل ... ه لك الله رافعاً يديه
حتى إذا ما ظننت بالملك ال ... قادر أن قد أجاب دعوتيه
قمت إلى وضع النعال وقد ... أقمت عشرين صاحباً معيه
وقلت لي صاحب أريد له ... نعلاً ولو من جلود راحتيه
فانقطع القول عند واحدةٍ ... قال الذي اختارها بشارتيه
فقلت عندي البشارة والش ... شكر وقلا في جنب حاجتيه
ثم تخيرت بعد ذاك من ال ... عصب اليماني بفضل خبرتيه
موشيةً لم أزل ببائعها ... أرغب حتى زها علي بيه
يرفع في سومه وأرغبه ... حتى التقي زهده ورغبتيه
وقد أتاك الذي امرت به ... فاعذر بكثر الإنعام قلتيه
وقال راشد الكاتب وهو يجود بنفسه في مرضه الذي مات فيه بطريق مكة. ولم أقف له على شعرٍ خالٍ من الفحش والمجون غيرها:
أطبقت للنوم جفناً ليس ينطبق ... وبت والدمع في خدي يستبق
لم يسترح من له عين مؤرقة ... وكيف يعرف طعم الراحة الأرق؟
وددت لو تم لي حجي ففزت به ... ما كل ما تشتهيه النفس يتفق
ربيعة بن عامر
ابن أنيف بن شريح بن عمرو بن زيد بن عبد الله ابن عدس بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميمٍ، الملقب بمسكينٍ، قال أبو عمرٍ الشيباني: وإنما لقب مسكيناً لقوله:

أنا مسكين لمن أنكرنى ... ولمن يعرفني جد نطق
لا أبيع الناس عرضي إننى ... لو أبيع النسا عرضي لنفق
وقال ابن قتيبة: وسمي المسكين لقوله:
وسميت مسكيناً وكانت لجاجةً ... وإني لمسكين إلى الله راغب
وكان مسكين شاعراً مجيداً سيداً شريفاً، وكان بينه وبين الفرزدق مهاجاةٌ، فدخل بينهما شيوخ بني عبد الله وبني مجاشعس فتكافا، واتقاه الفرزدق خشية أن يستعين عليه بجرير، واتقى مسكين الفرزدق خوفاً من أن يعينه عليه عبد الرحمن بن حسانٍ.
وقال الفرزدق: نجوت من ثلاثة أشياء لا أخاف بعدها شيئاً: نجوت من زيادٍ حين طلبنى، ونجوت من ابني رميلة وقد نذرا دمى، وما فاتهما أحد طلباه، ونجوت من مهاجاة مسكينٍ الدارمى، لأنه لو هجاني اضطرني أن أهدم شطر حسبى، لأنه من بحبوحة نسبي وأشراف عشيرتى، فكان جرير حينئذٍ ينتصف مني بيدي ولسانى.
ومن مختارات شعر مسكينٍ الدارمي قوله:
ولست إذا ما سرني الدهر ضاحكاً ... ولا خاشعاً ما عشت من حادث الدهر
ولا جاعلاً عضي لمالي وقايةً ... ولكن أقي عرضي فيحرزه وفرى
أعف لدي عسري وأبدى تجملاً ... ولا خر في من لا يعف لدى العسر
وإني لأستحي إذا كنت معسراً ... صديقي وإخواني بأن يعلموا فقرى
وأقطع إخواني وما حال عهدهم ... حياءً وإعراضاً وما بي من كبر
ومن يفتقر يعلم مكان صديقه ... ومن يحيى لا يعدم بلاء من الدهر
ومن مستحسن شعره:
إتق الأحمق أن تصحبه ... إنما الأحمق كالثوب الخلق
كلما رقعت منه جانباً ... حركته الريح وهناً فانخرق
أو كصدعٍ في زجاج بينٍ ... أو كفتقٍ وهو يعيى من رتق
وإذا جالسته في مجلسٍ ... أفسد المجلس منه بالخرق
وإذا نهنهته كي يرعوى ... زاد جهلاً وتمادى في الحمق
وإذا الفاحش لاقى فاحشاً ... فهنا كم وافق الشن الطبق
إنما الفحش ومن يعتاده ... كغراب السوء ما شاء نعق
أو حمار السوء إن اشبعته ... رمح الناس وإن جاع نهق
أو كعبد السوء إن جوعته ... سرق الجار وإن يشبع فسق
أو كغيرى رفعت من ذيلها ... ثم أرخته ضراراً فانخرق
أيها السائل عما قد مضى ... هل جديد مثل ملبوسٍ خلق
وقدم على معاوية فسأله أن يفرض له فأبى، فخرج من عنده وهو يقول.
أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاحٍ
وإن ابن عم المر فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح؟
وقال:
ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر
ماضر جاراً لي أجاوره ... ألا يكون لبيته ستر
أغضى إذا ما جارتي برزت ... حتى يواري جارتي الخدر
ويصم عما كان بينهما ... سمعي وما بي غيره وقر

ربيعة بن يحيى
ابن معاوية بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن تغلب المعروف بأعشى بني تغلب، شاعر من شعراء الدولة الأموية، كان نصرانياً وعلى النصرانية مات سنة اثنتين وتسعين، وكان يتردد بين البداوة والحضارة، فإذا حضر سكن الشام، وإذا بدا نزل بنواحي الموصل ودار ربيعة حيث منازل قومه. ومن شعره قوله يمدح بني عبد المدان الحارثيين:
فكعبة نجران حتم علي ... ك حتى تناخى بأبوابها
نزور يزيد وعبد المسيح ... وقيساً همو خير أربابها
يبادرنا الورد والياسم ... ين والمسمعات بأقصابها
وبربطنا دائم معمل ... فأي الثلاثة أزرى بها؟
ولما التقينا على آلةٍ ... ومدت إلى بأسبابها
إذا الخير آتٍ فلوت بهم ... وجروا أسافل هدابها
وقال:
ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس فيها كوكب شرق ... موزر بعميم النبت مشتمل

يوماً بأطيب منها نشر رائحةٍ ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل

ربيعة بن ثابت
ابن لجإ بن العيزار بن لجأٍ الأسدي أبو ثابتٍ الرقي الشاعر، استقدمه أمير المؤمنين المهدي فمدحه بعدة قصائد مشهورةٍ فأجازه وأجزل صلته، وهو الذي قال في يزيد بن حاتمٍ المهلبي ويزيد بن أسيدٍ السلمى:
لشتان ما ين اليزيدين في الندى ... يزيد سليمٍ والأغر ابن حاتم
يزيد سليمٍ سالم المال والغنى ... أخو الأزد للأموال غير مسالم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
وهو الذي يقول في العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس قصيدته المشهورة التي لم يسبق إليها إجادةً ومنها:
لو قيل للعباس يا بن محمدٍقل لا وأنت مخلد ما قالها
ما إن أعد من المكارم خصلةً ... إلا وجدتك عمها أو خالها
وإذا الملوك تسايروا في بلدةٍ ... كانوا كواكبها وكنت هلالها
إن المكارم لم تزل معقولةً ... حتى حللت براحتيك عقالها
فبعت إليه العباس بدينارين فقال:
مدحتك مدحة السيف المحلى ... لتجري في الكرام كما جريت
فهبها مدحةً ذهبت ضياعاً ... كذبت عليك فيها وافتريت
فأنت المرء ليس له وفاء ... كأني إذ مدحتك قد رثيت
فلما بلغت العباس غضب وتوجه إلى الرشيد فقال: إن ربيعة الرقي قد هجاني فأحضره وهم بقتله: فقال يا أمير المؤمنين: مره بإحضار القصيدة فأحضرها، فلما سمعها استحسنها وقال: والله ما قال أحد في الخلفاء مثلها فكم أثابك؟ قال: دينارين، فغضب الرشيد بن العباس وقال: يا غلام أعط ربيعة ثلاثين ألف درهمٍ وخلعةً واحمله على بغلةٍ. وقال له: بحياتي لا تذكره في شعرك لا تعريضاً ولا تصريحاً. وكان الرشيد قد هم بأن يزوج العباس ابنته ففتر عنه لذلك. توفي ربيعة الرقي سنة ثمانٍ وتسعين ومائةٍ.
رزق الله بن عبد الوهاب
التميمي البغدادي. أديب شاعر مجيد لا أعرف من أمره غير هذا، توفي ببغداد سنة ثمانٍ وثمانين وأربعمائةٍ.
ومن شعره:
بأبي حبيب زارني متنكراً ... فبدا الوشاة له فولي معرضا
فكأنني وكأنه وكأنهم ... أمل ونيل حال بينهما القضا
وقال:
شارع دار الرقيق أرقني ... فليت دار الرقيق لم تكن
به فتاة للقلب فاتنة ... أنا فداء لوجهها الحسن
رزين العروضي الشاعر
أخذ عن عبد الله بن هارون بن السميدع البصري العروضي مؤدب آل سليمان، وكان عبد الله بن هارون يقول أوزاناً غريبةً من العروض، فنحا رزين نحوه في ذلك، فأتى فيه ببدائع جمةٍ، وكان رزين من أصحاب دعبلٍ الخزاعي الشاع. حدث دعبل أنه نزل هو ورزين بقومٍ من بني مخزومٍ فلم يقروهما ولا أحسنوا ضيافتهما، قال دعبل فقلت فيهم:
عصابة من بني مخزوم بت بهم ... بحيث لا تطمع المسحاة في الطين
ثم قلت لرزين أجز، فقال:
في مضغ أعراضهم من خبزهن عوض ... بني النفاق وأبناء الملاعين
ومن شعر رزينٍ أيضاً:
كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل
تؤدي إليه أن كل ثنيةٍ ... تيممها ترمي غليه بقاتل
وقال:
خير الصديق هو الصدوق مقالةً ... وكذاك شرهم المنون الأكذب
فإذا غدوت له تريد نجازه ... بالوعد راغ كما يروغ الثعلب
توفي رزين العروضي سنة سبعٍ وأربعين ومائتين
رسته بن أبي الأبيض الأصبهاني
الضرير الشاعر. ذكره حمزة بن الحسن الأصبهاني في تاريخ أصبهان فقال: كان مليح الشعر أشبه الناس شعراً ببشار بن برد، حمل من أصبهان إلى بغداد وأدخل على زبيدة بنت جعفر زوج الرشيد وكان دميماً فلما رأته قالت: تسمع بالمعدي خير من أن تراه. فقال رشته: أيتها السيدة، إنما المرء بأصغريه، ثم أنشدها وأخذ جائزتها. وله شعر كثير ومنه قوله:
أيها الإخوة الذين لساني ... من قديم الزمان عنهم كليل
جئتكم للسلام حتى إذا ما ... صحت شهراً كما يصيح الدليل

قيل قد أدخل الخوان عليهم ... قلت مالي إذا إليهم سبيل
وقال:
قد مات كل نبيلٍ ... ومات كل نبيه
وما كل أديبٍ ... وفاضلٍ وفقيه
لا يوحشنك طريق ... كل الخلائق فيه
مات رستة سنة خمس وسبعين ومائةٍ

رمضان بن رستم
ابن محمد بن عليبن رستم بن هردوز، فخر الدين ابن الساعاتي الخراساني الأصل الدمشقي، وهو أخو بهاء الدين أبي الحسن علي بن رستم بن الساعاتي الشاعر المشهور، وكان فخر الدين هذا طبيباً فاضلاً أديباً شاعراً. وله معرفة تامة بالمنطق والعلوم الحكمية، وكان يكتب خطا منسوباً في غاية الجودة، وتلقى صناعة الطب عن رضي الدين أبي الحجاج يوسف بن حيدرٍ الرحبي الموجود الآن في دمشق، ولازمه زماناً طويلاً، والعلوم الأدبية عن تاج الدين زيدٍ الكندي، وكان خبيراً بعلم الموسيقى ويحسن الضرب بالعود، لقيته بدمشق وحضرت مجالسه غير مرةٍ، وبلغتنا وفاته سنة ثماني عشرة وستمائةٍ. وله من التصانيف: حواش على القانون لابن سينا، وتكملة كتاب القولنج له، والمختار من الأشعار، وغير ذلك، ومن شعره:
وروضةٍ زاد بالأترج بهجتها ... في صفرة اللون يحكي لون مسكين
عجبت منه فما أدرى أصفرته ... من فرقة الغصن أم من خوف سكين؟؟
وقال:
يحسدني قومي على صنعتي ... لأنني بينهم فارس
سهرت في ليلى واستنعسوا ... لن يستوي الدارس والناعس
وقال:
حسب المحب تلذذ بغرامه ... من كل ما يهوي وما يتحبب
راح المحبة لا تريح بروحها ... من كان في شئ سواها يرغب
الرماح بن أبرد
أبن ثوبان بن سراقة بن قيس بن سلمى بن ظالم بن جذيمة بن يربوعٍ أو شرحبيل المري المعروف بابن ميادة وهي أمه وكانت صقلبيةً، وكان يزعم أنها فارسية. وهو شاعر مجيد من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية. مات في خلافة المنصور سنة تسعٍ وأربعين ومائةٍ، ومن شعره يفخر بنسب أبيه في العرب ونسب أمه في العجم:
أليس غلام بين كسرى وظالمٍ ... بأكرم من نيطت عليه التمائم؟
لو أن جميع الناس كانوا بتلعةٍ ... وجئت بجدي ظالمٍ وابن ظالم
لظلت رقاب الناس خاضعةً لنا ... سجوداً على أقدامنا بالجماجم
ومن مختار شعره قصيدته البائية التي مدح بها الوليد ابن يزيد ومطلعها:
هل تعرف الدار بالعلياء غيرها ... سافي الرياح ومستن له طنب
دار لبيضاء مسود مسائحها ... كأنها ظبية ترعى وتنتصب
تحنو لأكحل ألقته بمضيعةٍ ... فقلبها شفقاً من حوله يجب
يا أطيب الناس ريقاً بعد هجعتها ... وأملح الناس عيناً حين تنتقب
ليست تجود بنيلٍ حين أسألها ... ولست عند خلاء اللهو أغتصب
في مرفقيها إذا ما عولجت حجم ... على الضجيج وفي أنيابها شنب
وليلةٍ ذات أهوالٍ كواكبها ... مثل القناديل فيها الزيت واللهب
قد جبتها جوب ذي المقراض ممطرةٍ ... إذا استوى مغفلات البيد والحدب
بعنتريسٍ كأن الدبر يلسعها ... إذا ترنم حادٍ خلفها طرب
إلى الوليد أبي العباس قد عجلت ... ودونه المعط من لبنان والكتب
أعطيتني مائةً صفراً مدامعها ... كالمخل زين أعلى نبته الشرب
يسوقها يافع جعد مفارقه ... مثل الغراب غزاه الصر والحلب
وذا سبيبٍ صهيبياً له عرف ... وهامة ذات فرقٍ نابها صخب
لما أتيتك من نجد وساكنه ... نفحت لي نفحةً طارت بها العرب
إني امرؤ أعتفي الحاجات أطلبها ... كما اعتفي سنق يلقي له العشب
ولا ألح على الخلان أسألهم ... كما يلح بعظم القارب القتب
ولا أخادع ندماني لأخدعه ... عن ماله حين يسترخي به لبب

وأنت وابناك لم يوجد لكم مثل ... ثلاثة كلهم بالتاج معتصب
ألطيبون إذا طابت نفوسهم ... شوس الحواجب والأبصار إن غضبوا
قسني إلى شعراء الناس كلهم ... وادع الرواة إذا ما غب ما اجتلبوا
إني وإن قال أقوام مديحهم ... فأحسنوه وما مانوا وما كذبوا
أجري أمامهم جري امرئٍ فلجٍ ... عنانه حين يجري ليس يضطرب
وقال أيضاً:
لقد سبقتك اليوم عيناك سبقةً ... وأبكاك من عهد الشباب ملاعبه
وتذكار عيشٍ قد مضى ليس راجعاً ... لنا أبداً أو يرجع الدر حالبه
كأن فؤادي في يدٍ خبثت به ... محاذرةً أن يقضب الحبل قاضبه
وأشفق من وشك الفراق وإنني ... أظن لمحمول عليه فراكبه
فو الله ما أدرى أيغلبني الهوى ... إذا جد جد البين أم أنا غالبه
فإن أستطيع أغلب وإن يغلب الهوى ... فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه
وشعر ابن ميادة كثير اكتفينا بما ذكرناه منه

رؤبة بن العجاج
واسم العجاج عبد الله بن رؤبة بن أسد بن صخر بن كنيف بن عميرة يتصل نسبة بزيد بن مناة، الراجز المشهور من مخضرمي الدولتين ومن أعراب البصرة. سمع من أبي هريرة - رضي الله عنه - والنسابة البكري، وعداده في التابعين. وروى عنه أبو عبيدة معمر بن المثنى، والنضر بن شميلٍ وخلف الأحمر وغيرهم. وله رجز مشهور مات في زمن المصور سنة خمسٍ وأربعين ومائةٍ. ومن رجزه:
إذا العجوز غضبت فطلق ... ولا ترضاها ولا تملق
واعمد لأخرى ذات دلٍ مونق ... لينة المس كمس الخرنق
إذا مضت مثل السياط المشق
ومنه وهو مشهور:
من يك ذا بتٍ فهذا بتى ... مقيظ مصيف مشتى
أخذته من نعجات ست
وله شعر قليل منه:
أيها الشامت المعير الشي ... ب أقلن بالشباب افتخارا
قد لبست الشباب غضا طريفاً ... فوجدت الشباب ثوباً معارا
باب الزاء
زاكي بن كامل بن علي
ٍ
أبو الفضائل المعروف بالمهذب الهبتي القطيفي الملقب بأسير الهوى. كان أديباً فاضلاً شاعراً رقيق الشعر. مات سنة ستٍ وأربعين وخمسمائةٍ. ومن شعره:
عيناك لحظهما أمضى من القدر ... ومهجتي منهما أضحت على خطر
يا أحسن الناس لولا أنت أبخلهم ... ماذا يضرك لو متعت بالنظر؟
جد بالخيال وإن ضنت يداك به ... فقد حذرت وما وقيت من حذر
يا من تمكن في قلبي الغرام به ... لا تبتلي مقلتي بالدمع والسهر
زود بتوديعةٍ أو وقفةٍ فعسى ... تحيى بها نضو أشواقٍ على سفر
وقال:
أفعال ألحاظه المرضى الصحاح بنا ... أضعاف ما يفعل الصمصامة الذكر
عجبت من جفنة بالضعف منتصراً ... على القلوب ويقوى وهو منكسر
ومن لهيب خدودٍ كلما سقيت ... ماء الشباب بنار الحسن تستعر
إن مج في الشرق من فيه الرضاب ترى ... من عرف رياه أهل الغرب قد سكروا
شهود صدق غرامي فيك أربعة ... الوجد والدمع والأسقام والسهر
وقال:
سيدي ما عنك لي عوض ... طال بي في حبك المرض
كم بلا ذنبٍ تهددني ... فجفوني ليس تغتمض
أبغير الهجر تقتلنى؟ ... لا أبالي، هجرك الغرض
ورضائي في رضاك فقل ... ما تشاء لست أعترض
أنت لي داء أموت به ... كم أداويه وينتقض
زائدة بن نعمة بن نعيم
ٍ
أبو نعمة التتري المعروف بالمحفحف، كان شاعراً جيد الشعر نقي الألفاظ مختارها، رقيق المعاني، يمدح السادات وأهل البيوتات، لقيته بحلب سنة ثمانين وخمسمائةٍ، وتوفي سنة ست وثمانين وخمسمائة، ومن شعره:
أصبح الربع من سمية خالي ... غير هين وناشط وغوال
وثلاث كأنهن حمام ... في رمال وأشعث الرأس بال

هللته الرياح مما توالى ... نسجها بالغدو والآصال
من قبول ومن دبورٍ سنوجٍ ... وجنوبٍ ومن صباً وشمال
يجلب الغيث غير سيب حياه ... برسوم الديار والأطلال
كل نبتٍ من الربيع وزهرٍ ... مثل جيدٍ من العرائس حالي
وكذاك الذي عهدنا لديه ... في ظلال الخيام أو في الحجال
كل براقة الثنايا تراها ... برقيق الغروب عذبٍ زلال
وكأن الغمام من بعد وهنٍ ... مازجته بقرقفٍ جريال
كنت في عينها كمرود كحلٍ ... صرت في عينها كشوك السبال
حيث صار السواد مني بياضاً ... وتبدلت أرذل الإبدال

زبان بن العلاء
ابن عمار بن العريان بن عبد الله بن الحصين بن الحارث ابن جلهمة بن حجر بن خزاعة بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن معد بن عدنان، الإمام أبو عمرو بن العلاء التميمي المازني البصري أحد القراء السبعة. واختلف في اسمه على أحدٍ وعشرين قولاً، والصحيح أنه زبان لما روي أن الفرزدق جاء معتذراً إليه من أجل هجوٍ بلغه عنه، فقال له أبو عمروٍ:
هجوت زبان ثم جئت معتذراً ... من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
ولد أبو عمروٍ بمكة سنة ثمانٍ أو خمسٍ وستين، ومات بالكوفة سنة أربعٍ وخمسين ومائةٍ، أخذ بمكة: والمدينة والكوفة والبصرة عن شيوخٍ كثيرةٍ منهم أنس بن مالكٍ، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد. وأخذ النحو عن نصر بن عاصمٍ الليثي، وأخذ عنه القراءة عرضاً وسماعاً جماعة كثيرون منهم: عبد الله ابن المبارك واليزيدي، وأخذ عنه النحو الخليل بن أحمد، ويونس بن حبيبٍ البصري، وأبو محمد اليزيدي، وأخذ عنه الأدب وغيره طائفة منهم: أبو عبيدة معمر ابن المثنى، والأصمعي، ومعاذ بن مسلمٍ النحوي وغيرهم. وروى عنه الحروف سيبويه، وكان أعلم الناس بالعربية والقرآن، وأيام العرب والشعر. وكان يونس بن حبيبٍ يقول: لو كان أحد ينبغي أن يؤخذ بقوله في كل شئ كان ينبغي أن يؤخذ بقول أبي عمرو بن العلاء، وقال أبو عبيدة: أبو عمروٍ أعلم الناس بالقراءات العربية وأيام العرب والشعر، وكانت دفاتره ملء بيته إلى السقف ثم تنسك فأحرقها، وأما حاله في أهل الحديث فقد وثقه يحيى بن معينٍ وغيره وقالوا: صدوق حدة في القراءة وله أخبار حسان، وروى عنه فوائد كثيرة يطول ذكرها.
الزبير بن كبار بن عبد الله
ابن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، أبو عبد الله القرشي لأسدي، كان علامةً نسابةً أخبارياً وعلى كتابه في أنساب قريش الاعتماد في معرفة نساب القرشيين، أخذ عن سفيان بن عيينة وغيره، وروى عنه ابن ماجة وابن أبي الدنيا وغيرهما. وكان ثقةً من أوعية العلم ولا يلتفت لقول أحمد بن علي السلماني فيه: إنه منكر الحديث حدث موسى بن هارون قال: كنت بحضرة الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر فاستأذن عليه الزبير بن بكارٍ، فلما دخل عليه أكرمه وعظمه وقال له: إن باعدت بيننا الأنساب فقد قربت بيننا الآداب، وإن أمير المؤمنين أمرني أن أدعوك وأقلدك القضاء، فقال له الزبير بن بكارٍ: أبعد ما بلغت هذا السن ورويت أن من ولى القضاء فقد ذبح بغير سكينٍ أتولى القضاء؟ فقال له: فتلحق بأمير المؤمنين بسر من رأى فقال له: أفعل، فأرم له بعشرة آلاف درهمٍ وعشرة تخوت ثيابٍ وظهرٍ حمله ويحمل ثقله إلى حضرة سر من رأى، فلما أراد الانصراف قال له: إن رأيت يا أبا عبد الله أن تفيدنا شياً نرويه عنك ونذكرك به، قال نعم. انصرفت من عمرة المحرم فبينا أنا بأثاية العرج إذ أنا بجماعةٍ مجتمعةٍ فأقبلت إليهم، وإذا برجلٍ كان يقنص الظباء وقد وقع ظبي في حبالته، فذبحه فانتقض في يده فضرب بقرته صدره فنشب القرن فيه فمات، وإذا بفتاةٍ أقبلت كأنها الملهاة. فلما رأت زوجها ميتاً شهقت ثم قالت:
يا خشن لو بطل لكنه أجل ... على الأثاية ما أودى به البطل
يا خشن جمع أحشائي وأقلقها ... وذاك يا خشن لولا غيره جلل
أضحت فتاة بني نهدٍ علانيةً ... وبعلها في أكف القوم محتمل

وكنت راغبةً فيه أضن به ... فحال من دون ظبي الريمة الأجل
ثم شهقت فماتت، فما رأيت أعجب به من الثلاثة: الظبي مذبوح، والرجل جريح ميت، والفتاة ميتة. فلما خرج قال الأمير محمد بن عبد الله: أي شيء أفدنا من الشيخ؟ قالوا: الأمير أعلم، قال: قوله:
أضحت فتاة بني نهدٍ علانية
أي ظاهرةً وهذا حرف لم أسمعه في كلام العرب قبل اليوم. ثم ولى الزبير بن بكارٍ قضاء مكة، ومات بها وهو قاض عليها ليلة الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة ستٍ وخمسين ومائتين، وللزبير بن بكار من التصانيف: كتاب أنساب قريشٍ وأخبارها. وكتاب أخبار العرب وأيامها. وكتاب نوادر أخبار النسب. وكتاب الموفقيات في الأخبار، ألفه للموفق بالله، وكتاب مزاح النبي صلى الله عليه وسلم. وكتاب وفود النعمان على كسرى: وكتاب الأوس والخزرج. وكتاب النخل. قال ابن النديم: رأيته بخط ابن السكري، وكتاب نوادر المدنيين: وكتاب الاختلاف. وكتاب العقيق وأخباره. وكتاب إغارة كثير على الشعراء. وأخبار ابن ميادة. وأخبار ابن الدمينة. وأخبار ابن قيس الرقيات. وأخبار أبي دعبلٍ الجمحي. وأخبار أبي السائب. وأخبار الأشعث. وأخبار الأحوص. وأخبار ابن هرمة. وأخبار توبة بن الحمير وليلى الأخيلية وأخبار أمية بن أبي الصلت. وأخبار حاتمٍ. وأخبار حسانٍ، وأخبار جميل، وأخبار عبد الرحمن بن حسان وأخبار العرجي، وأخبار عمر بن أبي ربيعة، وأخبار كثيرٍ، وأخبار المجنون، وأخبار نصيبٍ، وأخبار هدبة ابن الخشرم، وأخبار زيادٍ وغير ذلك.

زند بن الجون
المعروف بأبي دلامة الكوفي، أسود، من موالي بني أسدٍ، أدرك آخر أيام بني أمية، ونبغ في أيام بني العباس، وانقطع إلى السفاح والمنصور والمهدي، ومات في خلافة المهدي سنة إحدى وستين ومائتين. وله مع الخلفاء والأمراء أخبار كثيرة ونوادر جمة، فمن ذلك أنا أبا جعفر المنصور أمر أصحابه بلبس السواد وقلانس طوال، ودراريع كتب عليها: (فسيكفيكم الله وهو السميع العليم). وأن يعلقوا السيوف في المناطق، فدخل عليه أبو دلامة في هذا الزي، فقال له المنصور: كيف أصبحت يا أبا دلامة؟ قال: بشر حالٍ يا أمير المؤمنين، قال: كيف ذلك ويلك؟ قال: وما ظنك يا أمير المؤمنين بمن أصبح وجهه في وسطه، وسيفه على استه، ونبذ كتاب الله وراء ظهره، وصبغ بالسواد ثيابه، فضحك المنصور ووصله، وأمر بتغيير ذلك الزي، وفي ذلك يقول أبو دلامة:
وكنا نرجى من إمامٍ زيادةً ... فجاد بطولٍ زاده في القلانس
نراها على هام الرجال كأنها ... دنان يهودٍ جللت بالبرانس
وخرج أبو دلامة مع روح بن حاتمٍ المهلبي في بعث لقتال الشراة، فلما نشبت الحرب أمره روح بمبارزة فارس من الشراة يدعو إلى البراز، فقال أبو دلامة:
أني أعوذ بروحٍ أن يقدمني ... إلى البراز فتخزي بي بنو أسد
إن البراز إلى الأقران أعلمه ... مما يفرق بين الروح والجسد
قد خالفتك المنايا إن صمدت لها ... وإنها لجميع الخلق بالرصد
إن المهلب حب الموت أورثكم ... وما ورثت اختيار الموت عن أحد
لو أن لي مهجةً أخرى لجدت بها ... لكنها خلقت فرداً فلم أجد
فضحك منه روح وأعفاه. ولأبي دلامة شعر كثير كله جيد وفيما أوردناه منه كفاية.
زياد بن سلمى
أبن عبد القيس، أبو أمامة العبدي، المعروف بزيادٍ الأعجم، مولى عبد القيس، قيل له الأعجم للكنةٍ كانت فيه. أدرك أبا موسى الأشعري وعثمان بن أبي العاص، وشهد معهما فتح إصطخر. عده ابن سلامٍ في الطبقة السادسة من شعراء الإسلام، وهم الفرزدق بهجاء عبد القيس، فأرسل إليه زياد: لا تعجل حتى أهدي إليك هديةً، فبعث إليه:
فما ترك الهاجون لي إن هجوته ... مصحاً أراه في أديم الفرزدق
وما تركوا عظماً يرى تحت لحمه ... لكاسره أبقوه للمتعرق
سأكسر ما أبقوه لي من عظامه ... وأنكت مخ الساق منه وأنتفى
وإنا وما تهدي لنا إن هجوتنا ... لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق
فلما بلغ الفرزدق الشعر قال: ما إلى هجاء هؤلاء من سبيلٍ ما عاش هذا العبد.

ودخل زياد على عبد الله بن جعفر فسأله في خمس دياتٍ فأعطاه، ثم عاد فسأله في خمس دياتٍ أخر فأعطاه، ثم عاد فسأله في عشر دياتٍ فأعطاه، فأنشأ يقول:
سألناه الجزيل فما تلكا ... وأعطى فوق منيتنا وزادا
وأحسن ثم أحسن ثم عدنا ... فأحسن ثم عدت له فعادا
مراراً لا أعود إليه إلا ... تبسم ضاحكاً وثنى الوسادا
وقال يرثي المغيرة بن المهلب:
إن السماحة والمروءة ضمنا ... قبراً بمرو على الطريق الواضح
مات المغيرة بعد طول تعرضٍ ... للموت بين أسنةٍ وصفائح
فإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكل طرفٍ سابح
وانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخا دمٍ وذبائح
وهي من أحسن المراثي. توفي زياد في حدود المائة.

زيد بن الحسن
ابن زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن سعيد بن عصمة بن حمير بن الحارث ذي رعينٍ، تاج الدين أبو اليمن الكندي البغدادي ثم الدمشقي النحوي، اللغوي المقرئ المحدث. ولد ببغداد سنة عشرين وخمسمائةٍ. وتوفي بدمشق سنة سبع وتسعين وخمسمائة. قرأ النحو على أبي محمدٍ سبط أبي منصورٍ الخياط، وعلى أبي السعادات هبة الله بن الشجري وابن الخشاب، واللغة على أبي منصورٍ موهوبٍ الجواليقي، ومع الحديث من ابن عبد الباقي وآخرين. قدم دمشق فتقدم فيها وتصدر وازدحم عليه الطلاب، وانتقل من مذهب الحنابلة إلى مذهب الحنفية، فتوغل فيه وأفتى واستوزره فروخ شاه، ثم اتصل بأخيه صاحب حماة. واختص به وقرأ عليه الملك المعظم عيسى العربية، فأقرأه كتاب سيبويه والإيضاح لأبي علي الفارسي، وشرح سيبويه لابن درستويه. وقرأ عليه جماعة القراءة والنحو واللغة. وكتب الخط المنسوب وكانت له خزانة كتب جليلة في جامع بني أمية. وله تعليقات على ديوان المتنبي وأخرى على خطب ابن نبانة وكتاب نتف اللحية من ابن دحية رد فيه على ابن دحية الكلبي في كتابه الذي سماه الصارم الهندي في الرد على الكندي، وكتاب في الفرق بين قول القائل طلقتك إن دخلت الدار وبين إن دخلت الدار طلقتك، ألفه جواباً لسؤالٍ ورد عليه، وله غير ذلك: ومن شعره:
لامني في اختصار كتبي حبيب ... فرقت بينه الليالي وبيني
ليتني قد أطلت لكن عذرى ... فيه أن المداد إنسان عيني
زيد بن الحسن
الأحاظي التميمي، أديب شاعر كان بعد الخمسمائة، ومن شعره قوله في سلطان شاحط من بلاد اليمن:
قالوا لنا السلطان في شاحطٍ ... يأتي الزما من موضع الغائط
قلت هل السلطان من فوقه ... قالوا بل السلطان من هابط؟
زيد بن علي
ابن عبد الله أبو القاسم الفارسي الفسوي، كان علامةً فاضلاً نحوياً لغوياً مشاركاً في عدة علومٍ، أخذ النحو عن أبي الحسين ابن أخت أبي عليٍ الفارسي، وروى عنه الإيضاح لخاله، وقرأ على الشريف أبي البركات عمر بن إبراهيم الكوفي، وأخذ الحديث عن أبي ذرٍ الهروي وغيره، وأقرأ العربية بحلب ودمشق، وله شرح الإيضاح في النحو لأبي عليٍ الفارسي، وشرح الحماسة لأبي تمامٍ وغير ذلك. مات بطرابلس في ذي الحجة سنة سبعٍ وستين وأربعمائة.
باب السين
سالم بن أحمد
ابن سالمٍ شيخنا أبو المرجي بن أبي الصقر التميمي الحاجب المعروف بالمنتخب، النحوي العروضي البغدادي، كان أديباً فاضلاً نحوياً منفرداً بالعروض، سمع صحيح مسلمٍ من المؤيد الطوسي، وكان محبوباً حسن الأخلاق. قرأت عليه العربية والعروض ببغداد، وله أرجوزة في النحو، وكتاب في العروض، وكتاب في القوافي، وكتاب في صناعة الشعر وغير ذلك. مات ببغداد يوم الأحد خامس ذي القعدة سنة إحدى عشرة وستمائةٍ.
السائب بن فروخ
أبو العباس الضرير المكي الشاعر، مولى بني جذيمة ابن عدي بن الديل. سمع عبد الله بن عمرو بن العاص، وروى عنه عطاء وحبيب بن أبي ثابتٍ وعمرو بن دينار ووثقه أحمد، وروى له البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وكان منحرفاً عن آل أبي طالبٍ مائلاً إلى بني أمية مادحاً لهم، وهو القائل لأبي الطفيل عامر بن واثلة وكان شيعياً:
لعمرك إنني وأبا طفيل ... لمختلفان والله الشهيد

لقد ضلوا بحب أبي تراب ... كما ضلت عن الحق اليهود
وهو القال رثى بني أميةً عند انقضاء دولتهم:
أمست نساء بني أمية أيماً ... وبناتهم بمضيعةٍ أيتام
نامت جدودهم وأسقط نجمهم ... والنجم يسقط والجدود تنام
خلت المنابر والأسرة منهم ... فعليهم حتى الممات سلام
توفي أبو العباس الأعمى بعد سنة ستٍ وثلاثين ومائةٍ.

سحيم بن حفص
ٍ
أبو اليقظان الأخباري النسابة. توفي سنة تسعين ومائةٍ، ذكره ابن النديم وذكر له من المصنفات: كتاب أخبار تميمٍ، كتاب حلق تميمٍ بعضها بعضاً، كتاب نسب خندفٍ وأخبارها، كتاب النسب الكثير كتاب النوادر.
سراج بن عبد الملك بن سراج
ٍ
أبو الحسين بن أبي مروان النحوي اللغوي الأخباري الأديب الشاعر، كان عالم الأندلس في وقته، كان يجتمع إليه مهرة النحاة كابن الأبرش وابن البادش ومن في طبقتهما يتلقون عنه لوقوفه على دقائق النحو ولغات العرب وأشعارها وأخبارها، روى عنه القاضي عياض وابن خيرة وغيرهما. ومن شعره:
بث الصنائع لا تحفل بموقعها ... في آملٍ شكر المعروف أو كفرا
كالغيث ليس يبالي حينما انكسبت ... منها الغمائم ترباً كان أو حجرا
مات ابن أبي مروان سنة ثمانٍ وخمسمائة.
السري بن أحمد بن السري
أبو الحسن الكندي المعروف بالسري الرفاء الموصلي الشاعر المشهور. أسلمه أبوه صبياً للرفائين بالوصل فكان يرفو ويطرز، وكان مع ذلك ينظم الشعر ويجيد فيه. كتب إليه في ذلك الحال صديق له يسأل عن خبره وحاله في حرفته فكتب إليه:
يكفيك من جملة أخباري ... يسري من الحب وإعساري
في سوقةٍ أفضلهم مرتدٍ ... نقصاً ففضلي بينهم عاري
وكانت الإبرة فيما مضى ... صائنةً وجهي وأشعاري
فأصبح الرزق بها ضيقاً ... كأنه من ثقبها جاري
فلما جاد شعره انتقل من حرفة الرفو إلى حرفة الأدب، واشتغل بالوراقة فكان ينسخ ديوان شعر كشاجم وكان مغري به، وكان يدس فيما يكتبه منه أحسن شعر الخالديين ليزيد في حجم ما ينسخه وينفق سوقه، ويشنع بذلك على الخالديين لعداوةٍ كانت بينه وبينهما فكان يدعى عليهما سرقة شعره وشعر غره، فكان فيما يدسه من شعرهما في ديوان كشاجم، يتوخى اثبات مدعاة، ولم يزل السرى في ضنكٍ من العيش إلى أن خرج إلى حلب واتصل بسيف الدولة ومدحه وأقام بحضرته فاشتهر وبعد صيته، ونفق سوق شعره عند أمراء بني حمدان ورؤساء الشام والعراق، ولما مات سيف الدولة انتقل السري إلى بغداد ومدح الوزير المهلبي وغيره من الأعيان والصدور فارتفق وارتزق، وحسنت حاله وسار شعره في الآفاق، وللسري تصانيف منها: كتاب الديرة، وكتاب المحب والمحبوب. والمشموم والمشروب وديوان شعرٍ يدخل في مجلدين. وكانت وفاته ببغداد سنة اثنتين وستين وثلاثمائةٍ. ومن مدائحه لسيف الدولة قوله:
أعزمتك الشهاب أم النهار ... وراحتك السحاب أم البحار؟؟
خلقت منيةً ومنىً وتضحى ... تمور بك البسيطة أو تمار
تحلى الدين أو تحمى حماه ... فأنت عليه سور أو سوار
ومنها:
حضرنا والملوك له قيام ... تغض نواظراً فيها انكسار
وزرنا منه ليث الغاب طلقاً ... ولم نر قبله ليثاً يزار
فعشت مخيراً لك في الأماني ... وكان على العدو لك الخيار
وضيفك للحيا المنهل ضف ... وجارك للربيع الطلق جار
ومن غرر شعره في الغزل قوله.
بلاني الحب فيك بما بلاني ... فشأني أن تفيض غروب شاني
أبيت الليل مرتقباً أناجي ... بصدق الوجد كاذبة ذ
فتشهد لي على الأرق الثريا ... ويعلم ما أجن الفرقدان
إذا دنت الخيام به فأهلاً ... بذاك الخيم والخيم الدواني
فبين سجوفها أقمار تمٍ ... وبين عمادها أغصان بان
ومذهبة الخدود بجلنارٍ ... مفضضة الثغور بأقحوان
سقانا الله من رياك ريا ... وحيانا بأوجهك الحسان

ستصرف طاعتي عمن نهاني ... دموع فيك تلحى من لحاني
ولم أجهل نصيحته ولكن ... جنون الحب أحلى في جناني
فيا ولع العواذل خل عنى ... ويا كف الغرام خذي عناني
وقال في الورد:
لو رحبت كأس بذي زورةٍ ... لرحبت بالورد إذ زارها
جاء فخلناها خدوداً بدت ... مضرمةً من خجل نارها
وعطر الدنيا فطابت به ... لا عدمت دنياه عطارها
وقال:
وروضةٍ بات طل الغيث ينسجها ... حتى إذا نسجت أضحى يديجها
إذا تنفس فيه ريح نرجسها ... ناغى جنى خزاماها بنفسجها
أقول فيها لساقينا وفي يده ... كأس كشعلة نارٍ إذ يؤججها
لا تمزجنها بغير الريق منك وإن ... تبخل بذاك فدمعي سوف يمزجها
أقل ما بي من حبيك أن يدي ... إذا دنت من فؤادي كان ينضجها

سعدان بن المبارك
أبو عثمان الضرير النحوي الراوية مولى عاتكة مولاة المهدي امرأة المعلى بن طريفٍ الذي ينسب إليه نهر المعلى ببغداد. كان من رواة العلم والأدب كوفي المذهب. روى عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، وروى عنه محمد بن الحسن بن دينارٍ الهاشمي. وله من المصنفات: كتاب النقائض، وكتاب الأمثال. مات سنة عشرين ومائتين.
سعد بن أحمد بن مكي
ٍ
النيلي المؤدب الشيعي. كان نحوياً فاضلاً عالماً بالأدب مغالياً في التشيع، له شعر جيد أكثره في مديح أهل البيت، وله غزل رقيق. مات سنة خمسٍ وستين وخمسمائةٍ وقد ناهز المائة. ومن شعره:
قمر أقام قيامتي بقوامه ... لم لا يجود لمهجتي بذمامه؟
ملكته كبدي فأتلف مهجتي ... بجمال بهجته وحسن كلامه
وبمبسمٍ عذبٍ كأن رضابة ... شهد مذاب في عبير مدامه
وبناظرٍ غنجٍ وطرفٍ أحورٍ ... صمى القلوب إذا رمى بسهامه
وكأن خط عذاره في خده ... شمس تجلت وهي تحت لئامه
فالصبح يسفر من ضياء جبينه ... والليل يقبل من أثيث ظلامه
والظبي ليس لحاظه كلحاظه ... والغصن ليس قوامه كقوامه
قمر كأن الحسن يعشق بعضه ... بعضاً فساعده على قسامه
فالحسن من تلقائه وورائه ... ويمينه وشماله وأمامه
ويكاد من ترفٍ لرقة خصره ... ينقد بالأرداف عند قيامه
سعد بن الحسن بن سليمان
أبو محمد النوراني الحراني النحوي الأديب الشاعر، كان تاجراً يسافر إلى الشام والعراق ومصر وخراسان، وسكن بغداد مرةً وأخذ فيها عن أبي منصورٍ موهوبٍ الجواليقي وغيره، وكان عارفاً بالنحو جيد النظم والنثر. مات سنة ثمانين وخمسمائةٍ ومن شعره.
ولست كمن أخنى عليه زمانه ... فظل على أحداثه يتعتب
تلذ له الشكوى وإن لم يجد بها ... شفاءً كما يلتذ بالحك أجرب
وقال:
جاءت تسائل عن ليلى فقلت لها ... وصورة الهم تمحو صورة الجذل
ليلى بكفك بأغنى عن سؤالك لي ... إن بنت طال وإن واصلت لم يطل
سعد بن الحسن بن شداد
ٍ
أبو عثمان المعروف بالناجم، كان أديباً فاضلاً شاعراً مجيداً، وكان بينه وبين ابن الرومي صحبة ومودة ومخاطبات توفي سنة أربع عشرة وثلاثمائةٍ ومن شعره:
شدو ألد من ابتدا ... ء العين في إغفائها
أحلى وأشهى من منى ... نفسٍ ونيل رجائها
وقال:
علمي بأنك جاهل ... هو جنة لك من غيابي
والصمت عنك وصرم حب ... لى منك أبلغ من عتابي
وجواب مثلك أن يقا ... بل بالسكوت عن الجواب
ما زلت أعلم عن كلا ... ب الناس فعل أخي اجتناب
وأبيحهم صفح الذنوب ... فكيف عن كلب الكلاب؟
وقال:
لئن كان عن عيني أحمد غائباً ... فما هو عن عين الضمير بغائب
له صورة في القلب لم يقصها النوى ... ولم تتخطفها أكف النوائب

إذا ساءني منه نزوح دياره ... وضاقت علي في نواه مذاهبي
عطفت على شخصٍ له غير نازحٍ ... محلته بين الحشا والترائب
وقال:
قالوا اشتكت وجننتا وجهه ... قلت لهم أحسن ما كان
حمرة ورد الخد أعدتهما ... والصبغ قد ينفذ أحيانا

سعد بن علي بن القاسم
ابن علي بن القاسم، أبو المعالي الأنصاري الحظيري ثم البغدادي المعروف بالوراق دلال الكتب، كان أديباً فاضلاً شاعراً رقيق الشعر، وله مصنفات منها: زينة الدهر وعصرة أهل العصر في ذكر لطائف شعراء العصر، ذيل به دمية القصر للباخرزي الذي جعله ذيلاً على يتيمة الدهر للثعالبي، وله كتاب لمح الملح، وديوان الشعر توفي ببغداد يوم الاثنين خامس عشر من صفرٍ سنة ثمانٍ وستين وخمسمائةٍ، ومن شعره:
اشرب على طرب من كف ذي طربٍ ... قد قام في طربٍ يسعى إلى طرب
من خندريسٍ كعين الديك صافيةٍ ... و ما تخيرها كسرى من العنب
فالراح من ذهبٍ والكأس من ذهبٍ ... يا من رأى ذهباً يسقي على ذهب!
وقال:
ومعذرٍ في خده ... ورد وفي فمه مدام
ما لان لي حتى تغ ... شى صبح طلعته ظلام
كالمهر يجمح تحت را ... كبه ويعطفه اللجام
وقال:
وددت من الشوق المبرح أنني ... أعار جناحي طائرٍ فأطير
فما لنعيمٍ لست يه لذاذة ... ولا لسرورٍ لست فيه سرور
وقال.
قل لمن عاب شامةً لحبيبي ... دون فيه دع الملامة فيه
إنما الشامة التي قلت عنها ... فص فيروزجٍ بخاتم فيه
سعد بن محمد بن علي
ابن الحسن بن سعيد بن مطر بن مالك بن الحارث ابن سنان الأزدي أبو طالبٍ المعروف بالوحيد البغدادي، كان عالماً بالنحو واللغة والعروض بارعاً في الأدب، أخذ عنه أبو غالب بن بشران النجوى وغيره، وله شرح ديوان المتنبي. مات سنة خمسٍ وثمانين وثلاثمائةٍ. ومن شعره:
ليس الأديب أخا الروا ... ية للنوادر والغريب
ولشعر شيخ المحدثي ... ن أبي نواسٍ أو حبيب
بل ذو التفضل والمرو ... ءة والعفاف هو الأديب
وقال:
لو تجلى لي الزمان للاقى ... مسمعيه مني عتاب طويل
إنما نكثر الملامة للده ... ر لأن الكرام فيه قليل
سعد بن محمد بن سعد
ابن الصيفي التميمي، شهاب الدين أبو الفوارس، المعروف بحيص بيص، الفقيه الأديب الشاعر، كان من أعلم الناس بأخبارالعرب ولغاتهم وأشعارهم، أخذ عنه الحافظ أبو سعدٍ السمعاني وقرأ عليه ديوان شعره وديوان رسائله، وذكره في ذيل مدينة السلام وأثنى عليه، وأخذ الناس عنه علماً وأدباً كثيراً، وكان لا يخاطب أحداً إلا بكلام مغربٍ، وإنما قيل له حيص بيص، لأنه رأى الناس يوماً في أمر شديدٍ، فقال: ما للناس في حيص بيص، فبقي عليه هذا اللقب.
مات ليلة الأربعاء سادس شعبان سنة أربعٍ وسبعين وخمسمائةٍ ببغداد، ومن تقعر الحيص بيص في كتابته: ما حدث به بعض أصحابه أنه نقه من مرضٍ فوصف له صاحبه هبة الله البغدادي الطبيب أكل الدراج فمضى غلامه واشترى دراجاً واجتازعلي باب أميرٍ وغلمانه بالعيون، فخطف أحدهم الدراج فأتى الغلام الحيص بيص وأخبره الخبر فقال له: ائتني بدواةٍ وقرطاسٍ فأتاه بهما فكتب إلى ذلك الأمير: لو كان مبتز دراجةٍ فتخاءٍ كاسرٍ وقف بها السغب بين التدويم والتمطر فهي تعقى وتسف وكان بحيث تنقل أخفاف الإبل لوجب الإغذاذ إلى نصرته، فكيف وهو ببحبوحة كرمك والسلام. ثم قال لغلامه: امض بها وأحسن السفارة بإيصالها للأمير، فمضى بها ودفعها للحاجب فدعا الأمير بكاتبه وناوله الرقعة فقرأها ثم فكر ليعبر له عن المعنى فقال له الأمير: ما هو؟ فقال: مضمون الكلام أن غلاماً من غلمان الأمر أخذ دراجاً من غلامه. فقال: اشتر له قفصاً مملوءاً دراجاً واحمله إليه ففعل.

وكتب إلى أمين الدولة ابن التلميذ يطلب منه شياف أبارٍ. أزكنك أيها الطب اللب الآسى النطاسي النفيس النقريس، أرجنت عندك أم خنورٍ، وسكعت عنك أم هوبرٍ، أني مستأخذ أشعر في حنادري رطباً ليس كلب شبوةٍ ولا كنخر المنصحة ولا كنكز الحضب بل كسفع الزخيخ، فأنا من التباشير إلى الغباشير، لا أعرف ابن سميرٍ من ابن جميرٍ، ولا أحس صفوان من همام، بل آونةً أرجحن شاصباً وفينةً أحنبطي مقلولياً وتارةً أعرنزم، وطوراً أسلنقي، كل ذلك مع أخٍ وأخٍ، وتهم قرونتي أن أرفع عقيرتي بعاط عاطٍ إلى هياطٍ، ومياطٍ وهالى أول وأهون، وجبار ودبار ومؤنس وعروبة وشيار، ولا أحيص ولا أليص، ولا أغر ندي ولا أسرندي، فبادرني بشياف الأبار، النافع لعلتي النافع لغلتي.
فلما قرأ أمين الدولة رقعته نهض لوقته وأخذ حفنة شياف أبارٍ، وقال لبعض أصحابه: أوصلها إليه عاجلاً ولا تتكلف قراءة ورقةٍ ثانيةٍ.
ومن شعره يمدح المقتفي لأمر الله:
ماذا أقول إذا الرواة ترنموا ... بفصيح شعري في الإمام العادل
واستحسن الفصحاء شأن قصيدةٍ ... لأجل ممدوحٍ وأفصح قائل
وترنحت أعطافهم فكأنما ... في كل قافيةٍ سلافة بابل
ثم انثنوا غب القريض وصنعه ... يتساءلون عن الندى والنائل
هب يا أمير المؤمنين بأننى ... فس الفصاحة ما جواب السائل؟
ودخل ابن القطان يوماً على الوزير الزينبي وعنده الحيص بيص فقال: قد عملت بيتين هما نسيج وحده، وأنشد:
زار الخيال بخيلاً مثل مرسله ... فما شفاني منه الضم والقبل
ما زارني قط إلا كي يوافيني ... على الرقاد فينفيه ويرتحل
فقال الوزير للحيص بيص ما: تقول في دعواه؟ هذه فقال: إن أنشدهما ثانيةً سمع لهما ثالثاً، فأنشدهما فقال الحيص بيص:
وما درى أن نومي حيلة نصبت ... لطيفه حين أعيا اليقظة الحيل؟
وحدث نصر الله بن مجلي قال: رأيت في المنام علي ابن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - فقلت له يا أمير المؤمنين: تفتحون مكة فتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يتم على ولدك الحسين يوم الطف ماتم؟ فقال: أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا؟ فقلت لا، فقال اسمعا منه. فلما استيقظت بادرت إلى دار الحيص بيص، فخرج إلى فذكرت له الرؤيا فأجهش بالبكاء وحلف بالله أنه ما سمعها منه أحد وأنه نظمها في ليلته هذه ثم أنشدني:
ملكنا فكان العفو منا سجيةً ... فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأسارى وطالما ... غدونا عن الأسرى نعف وتصفح
فحسبكم هذا التفاوت بيننا ... وكل إناء بالذي فيه ينضح
ومن شعره أيضاً:
ألعين تبدي الذي في قلب صاحبها ... من الشناءة أو حبٍ إذا كانا
إن البغيض له عين تكشفه ... لا تستطيع لما في القلب كتمانا
فالعين تنطق والأفواه صامتة ... حتى ترى من ضمير القلب تبيانا

سعد بن هاشم بن سعيد
وينتهي نسبه إلى عبد القيس، أبو عثمان الخالدي البصري، كان وأخوه أبو بكرٍ أديبي البصرة وشاعريها في وقتهما، وكان بينهما وبين السري الرفاء الموصلي ما يكون بين المتعاصرين من التغاير والتضاغن، فكان يدعي عليهما سرقة شعره وشعر غيره ويدس شعرهما في ديوان كشاجم ليثبت مدعاه كما بينا ذلك في ترجمة السري. وقال ابن النديم: قال لي الخالدي وقد تعجبت من كثرة حفظه: أنا أحفظ ألف سفرٍ كل سفرٍ مائة ورقةٍ، وكان هو وأخوه مع ذلك إذا استحسنا شيئاً غصباه صاحبه حياً كان أو ميتاً لا عجزاً منهما عن قول الشعر، ولكن كذا كان طبعهما، وكلام ابن النديم هذا فيه موافقة للسري الرفاء أو مجاراة له والله أعلم. ثم قال ابن النديم: وقد عمل أبو عثمان شعره وشعر أخيه قبل موته، وله تصانيف: منها حماسة شعر المحدثين وغير ذلك. توفي أبو عثمان سنة إحدى وسبعين وثلاثمائةٍ، ومن شعره:
يا قضيباً يميس تحت هلالٍ ... وهلالاً يرنو يعيني غزال
منك يا شمسنا تعلمت الشم ... س دنو السنا وبعد المنال
وقال:
هتف الصبح بالدجى فاسقنيها ... فهوةً تترك الحليم سفيها

لست تدري لرقةٍ وصفاءٍ ... هي في كأسها أم الكأس فيها؟
وقال:
بغداد قد صار خيرها شراً ... صيرها الله مثل سامرا
أطلب وفتش واحرص فلست ترى ... في أهلها حرةً ولا حرا
وقال:
فهاتها كالعروس قانية ال ... خدين في معجزٍ من الحبب
كادت تكون الهواء في أرج ال ... عنبر لو لم تكن من العنب
فلو ترى الكاس حين تمزجها ... رأيت شيئاً من أعجب العجب
نار حواها الزجاج يلهبها ال ... ماء ودر يدور في لهب
وقال:
يا راقداً عارياً من ثوب أسقامي ... هب الرقاد لعينٍ جفنها دامي
لا خلص الله قلبي من يدي رشأٍ ... رؤيا رجائي له أضغاث أحلام
وقال:
أما ترى الغيم يا من قلبه قاسى ... كأنه أنا مقياساً بمقياس
قطر كدمعي وبرق مثل نار جوىً ... في القلب مني وريح مثل أنفاسي

سعيد بن الحكم
أبو عبد الله بن أبي مريم النسابة: ذكره ابن النديم وقال: له من التصانيف كتاب المآثر. وكتاب النسب. وكتاب نواقل العرب.
سعيد بن أوس بن ثابت
ابن بشير بن قيس بن زيد بن النعمان بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج أبو زيدٍ الأنصاري الخزرجي البصري النحوي اللغوي الإمام الأديب، وإنما غلبت عليه اللغة والغريب والنوادر فانفرد بذلك. أخذ عن أبي عمرو بن العلاء، وأخذ عنه أبو عبيد القاسم بن سلامٍ وعمرو بن عبيدٍ وأبو العيناء، وأبو حاتمٍ السجستاني وعمر ابن شبة، ورؤبة بن العجاج وغيرهم، وروى الحديث عن ابن عونٍ وجماعةٍ، وكان ثقةً ثبتاً، قرأ عليه خلف البزار وكان يرمي بالقدر، ولكن دفع ذلك عنه أبو حاتمٍ وقال: هو صدوق، وروى الحسين بن الحسن الرازي عن ابن معين أنه صدوق، ووثقه خزرة وغيره. ولينه ابن حيان لأنه وهم في سند حديث (أسفروا بالفجر)، وروى له أبو داود في سننه والترمذي في جامعه.
وكان سفيان الثوري يقول: قال لي ابن مناذر: أصف لك أصحابك؟ أما الأصمعي فأحفظ الناس، وأما أبو عبيدة فأجمعهم، وأما أبو زيدٍ الأنصاري فأوثقهم، وقال صالح بن محمدٍ: أبو زيدٍ النحوي ثقة.
ويروى عن أبي عبيدة والأصمعي أنهما سئلا عن أبي زيدٍ الأنصاري فقالاً: ما شئت من عفاف وتقوى وإسلامٍ، وكان سيبويه إذا قال سمعت الثقة يريد به أبا زيدٍ الأنصاري، وقال المبرد: كان أبو زيدٍ عالماً بالنحو ولم يكن مثل الخليل وسيبويه، وكان يونس من باب أبي زيدٍ في العلم واللغات، وكان أعلم من أبي زيدٍ بالنحو، وأبو زيد أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو.
وقال أبو عثمان المازني: كنا عند أبي زيدٍ فجاء الأصمعي وأكب على رأسه يقبلها وجلس وقال: هذا عالمنا ومعلمنا منذ عشرين سنة. توفي أبو زيد بالبصرة سنة خمس عشرة ومائتين في خلافة المأمون وقد جاوز التسعين. وله من التصانيف: كتاب الإبل والشاء، وكتاب إيمان عثمان، وكتاب بيوتات العرب، وكتاب تجفيف الهزة، وكتاب الجمع والتثنية، وكتاب حيلة ومحالةٍ، وكتاب خلق الإنسان، وكتاب الجود والبخل، وكتاب الأمثال، وكتاب الحلبة، وكتاب التضارب، وكتاب التثليث، وكتاب الغرائز، وكتاب غريب الأسماء، وكتاب الفرق، وكتاب فعلت وأفعلت، وكتاب قراءة أبي عمرٍ، وكتاب القوس والترس، وكتاب اللامات، وكتاب اللغات، وكتاب اللبن، وكتاب المطر، وكتاب المياه، وكتاب المقتضب وكتاب المصادر، وكتاب المكتوم، وكتاب المنطق، وكتاب النبات والشجر، وكتاب النوادر، وكتاب الهمزة، وكتاب الوحوش وغير ذلك.
سعيد بن سعيد
ٍ
الفارقي أبو القاسم النحوي. أخذ عن الربعي وابن خالويه، وكان بارعاً في العربية أديباً فاضلاً، له تصانيف منها: كتاب تقسيمات العوامل وعللها، وكتاب تفسير المسائل المشكلة في أول المقتضب للمبرد وغير ذلك. مات مقتولاً بالقاهرة عند بستان الخندق يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وثلاثمائةٍ. ومن شعره:
من آنسته البلاد لم يرم ... منها ومن أوحشته لم يقم
ومن يبث والهموم قادحة ... في صدره بالزناد لم ينم
سعيد بن عبد العزيز

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15