كتاب : معجم الأدباء
المؤلف : ياقوت الحموي

حدث أبو نصرٍ أحمد بن العلاء الشيرازي الكاتب قال: لما تقلد أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات الوزارة كنت أجالسه وأؤانسه، فحدثني يوماً أن أباه حدثه قال: تقلدت مصر وكان بيني وبين أبي الحسين بن بسام مودة ورضاع، ونحن مختلطون وأنا بمصر يوماً فما شعرت إلا بابن بسامٍ قد دخل إلي متقلداً للبريد، فأفهمته أحوالي، وقاسمته أكثر مروءتي وأموالي، وتطلبت الخلاص من لسانه بكل شيءٍ يمكن، وأوصيت حاجبي ألا يحجبه عني ولو كنت مع زوجتي، فجاء يوماً وأنا نائم فقال له الحاجب: ادخل، فدخل فوجدني نائماً فاستدعى دواةً وكتب شيئاً وتركه وانصرف. فلما انتبهت عرفني حاجبي ذلك، فأخذت الرقعة فإذا فيها:
محتجب دون من يلم به ... وليس للخارجات حجاب
لأن للخارجات منفعةً ... تأتيه والداخلون طلاب
قال: فبعثت أعرف خبرة لأعاتبه فإذا هو تحمل وسار عن البلد، فكتبت إليه أدرايه وألاطفه ليرجع فلم يجب.
قال التنوخي: حدثني ابن ابي قيراطٍ علي بن هشامٍ، حدثني أبو علي مقلة قال: كنت أحقد ابن بسامٍ لهجائه إياي، فخوطب ابن الفرات في وزارته الأولى في تصريفه، فاعترضت وقلت: إذا صرف فلا يحتبس الناس على مجالسنا وقد افترقت، فإذا لم يضره الوزير فلا أقل من ألا ينفعه، فامتنع من تصريفه قضاء لحقي، فبلغ ذلك ابن بسامٍ فجاءني وخضع لي ثم لازمني نحو سنةٍ حتى صار يختص بي ويعاشرني على البريد، ومدحني فقال:
يا زينة الدين والدنيا وما جمعا ... والأمر والنهي والقرطاس والقلم
إن ينسئ الله في عمري فسوف ترى ... من خدمتي لك ما يغني عن الخدم
أبا عليٍ لقد طوقتني منناً ... طوق الحمامة لا تبلى على القدم
فاسلم فليس يزيل الله نعمته ... عمن يبث الأيادي في ذوي النعم
وحدث محمد بن يحيى الصولي أنه سمع علي بن محمد ابن بسامٍ يقول: كنت أتعشق خادماً لخالي أحمد بن حمدون فقمت ليلة لأدب إليه، فلما قربت منه لسعتني عقرب فصرخت فقال خالي: ما تصنع هاهنا؟ فقلت: جئت لأبول. فقال: صدقت ولكن في است غلامي، فقلت لوقتي:
ولقد سريت مع الظلام لموعدٍ ... حصلته من غادر كذاب
فإذا على ظهر الطريق مغذة ... سوداء قد عرفت أوان ذهابي
لا بارك الرحمان فيها عقرباً ... دبابة دبت إلى دباب
فقال خالي: قبحك الله، لو تركت المجون يوما لتركته في هذه الحال. ولابن بسامٍ في علي بن عيسى الوزير:
رجوت لك الوزارة طول عمري ... فلما كان منها ما رجوت
تقدمني أناس لم يكونوا ... يرومون الكلام إذا دنوت
فأحببت الممات وكل عيش ... يحب الموت فيه فهو موت
ومن شعر ابن بسامٍ من خط السمعاني:
أقصرت عن طلب البطالة والصبا ... لما علاني للمشيب قناع
لله أيام الشباب ولهوه ... لو أن أيام الشباب تباع
فدع الصبا يا قلب واسل عن الهوى ... مافيك بعد مشيبك استمتاع
وانظر إلى الدنيا بعين مودعٍ ... فلقد دنا سفر وحان وداع
فالحادثات موكلات بالفتى ... والناس بعد الحادثات سماع
ولما ولى حامد بن العباس وزارة المقتدر ورتب معه علي بن عيسى يدير الأمور بين يديه، قال ابن بسامٍ:
يا بن الفرات تعزه ... قد صار أمرك آية
لما عزلت حصلنا ... على وزيرٍ بداية
وعلى بن بسامٍ القائل يمدح النحو:
رأيت لسان المرء وافد عقله ... وعنوانه فانظر بماذا تعنون؟
فلا تعد اصلاح اللسان فإنه ... يخبرعما عنده ويبين
ويعجبني زي الفتى وجماله ... فيسقط من عيني ساعة يلحن
على أن للأعراب حداً وربما ... سمعت من الإعراب ما ليس بحسن
ولا خير في اللفظ الكريه استماعه ... ولافي قبيح اللحن والقصد أزين
ومن قصيدةٍ له يهجو فيها الكتاب:
وعبدون يحكم في المسلمين ... ومن مثله تؤخذ الجاليه

ودهقان طيٍ تولى العراق ... وسقى الفرات وزر فانيه
وحامد يا قوم لو أمره ... إلى لألزمته الزاوية
نعم ولأرجعته صاغراً ... إلى بيع رمان خسراوية
أيارب قد ركب الأرذلون ... ورجلي من بينهم ماشية
فإذا كنت حاملها مثلهم ... وإلا فأرجل بني الزانية
قال أبو الحسين علي بن هشام بن أبي قيراطٍ: سمعت ابن بسامٍ ينشد في وزارة ابن الفرات:
إذا حكم النصارى في الفروج ... وباهوا بالبغال وبالسروج
فقل للأعور الدجال هذا ... أوانك إن عزمت على الخروج
قال أبو الحسين بن هشامٍ: حدثني زنجي الكاتب، حدثني ابن بسامٍ قال: كنت أتقلد البريد بقلمٍ في أيام عبيد الله بن سليمان والعامل بها أبو عيسى أحمد بن محمد ابن خالدٍ المعروف بأخي أبي صخرةٍ، فأهدى الي في ليلة عيد الأضحى بقرةً للأضحية، فاستقللتها ورددتها وكتبت إليه:
كم من يدٍ لي إليك سالفةٍ ... وأنت بالحق غير معترف
نفسك أهديتها لأذبحها ... فصنتها عن مواقع التلف

علي بن محمد بن عبيد بن الزبير الأسدي
المعروف بابن الكوفي صاحب ثعلبٍ والخصيص به. وهو من أسد قريشٍ، وهو أسد بن عبد العزي بن قصي ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب رهط الزبير ابن العوام، وهوصاحب الخط المعروف بالصحة المشهور باتقان الضبط وحسن الشكل، فإذا قيل: نقلت من خط ابن الكوفي فقد بالغ في الاحتياط، وكان من أجل أصحاب ثعلبٍ. مات في ذي القعدة سنة ثمانٍ وأربعين وثلاثمائةٍ، ومولده سنة أربعٍ وخمسين ومائتين، وكان ثقةً صادقاً في الرواية وحسن الدراية، وله من الكتب: كتاب الهمز رأيته أنا بخطه، كتاب معاني الشعر واختلاف العلماء فيه، كتاب الفرائد والقلائد في اللغة. قال مؤلف الكتاب: ورأيت بخطه عدة كتبٍ فلم أر أحسن ضبطاً وإتقاناً للكتابة منه، فإنه يجعل الإعراب على الحرف بمقدار الحرف احتياطاً، ويكتب على الكلمة المشكوك فيها عدة مرارٍ: صح صح صح، فكان من جماعي الكتب وأرباب الهوى فيها. وذكره أبو الحسن محمد بن جعفرٍ التميمي المعروف بابن النجار في كتاب الكوفة من تصنيفه قال: ومن أصحاب ثعلبٍ أبو الحسن أحمد بن محمدٍ الكوفي الأسدي الذي خطه اليوم يؤتدم به، وبيع جزازات كتبه ورقاع سؤالاته العلماء، كل رقعةٍ بدرهمٍ، وأنفق على العلم ثلاثين ألف درهمٍ على ثعلبٍ وحده، هكذا قال أحمد بن محمدٍ وأظنه سهواً منه، فإن ابن الكوفي المشهور بجودة الضبط اسمه بخطه على عدةٍ من كتبه، وهو علي ابن محمد بن عبيدٍ الكوفي الأسدي كما قدمنا، فإن صحت رواية ابن النجار فهو غير الذي نعرفه نحن، فإني لم أر لهذا المسمى ذكراً مع كثرة بحثي وتنقيري، ووجدت جزازةً من إملاء أبي الهيذام كلاب بن حمزة العقيلي اللغوي - وله في هذا الكتاب ترجمة - ما صورته: ولأبي الهيذام إلى أبي الحسن بن الكوفي النحوي البغدادي رحمه الله:
أبا حسن أراك تمد حبلي ... لتقطعه وأرسله بجهدي
وأتبعه إذا قصر احتياطاً ... وأنت تشد حبلك أي شد
أخي فكم يكون بقاء حبلٍ ... يتلتل بين إرسالٍ ومد
تعالى الله ما أجفى زماناً ... بقيت له وأنكد فيه جدى
أظن الدهر يقصدني لأمرٍ ... يحاوله ويطلبني بحقدٍ
إذا ذهبت بشكلي عن ودادي ... مذاهبه فكيف ألوم ضدي؟
سأصبر طائعاً وأغض طرفي ... وأحفظ عهد مطرحٍ لعهدي
وأقصد أن أحصل لي صديقاً ... أعز به على خطئي وعمدي
فإن أظفر بذاك فأي كنزٍ ... ونيل غنيمةٍ وثقوب زند
وإلا كان حسن الصبر أحرى ... بحسن مثوبةٍ وبناء مجد
ألا لله ما أصبحت فيه ... من الخلطاء من تعبٍ وكد
لقاء بالجميل وحسن بشرٍ ... وإنصاف يشاب بخلف وعد
وعلم لا يقاس إليه علم ... بكل طريقةٍ وبكل حد
وإغفال لما أولى وأحجى ... تفقده بذي أدبٍ وحشد
فيالله يا للناس يا لل ... عجائب بين تقربةٍ وبعد

ومن الأخلاق إذ مزجت فصارت ... علاقمها مجدحةً بشهد
أراني بين منزلتين ما لي ... سوى أحداهما ثقة لقصد
فإن أرد الأنيس أعش ذليلاً ... وإن أرد التعزز أبق وحدي

علي بن محمد بن الشاه الطاهري
من ولد الشاه بن ميكال وكان أديباً طيباً مفاكهاً في نهاية الظرف والنظافة، يسلك مسلك أبي العنبس الصيمري في تصانيفه، وله من التصانيف: كتاب دعوة التجار، كتاب فخر المشط على المرآة، كتاب حرب الجبن مع الزيتون، كتاب الرؤيا، كتاب اللحم والسمك، كتاب عجائب البحر، كتاب قصيدة: وخيار يا مكانس. ولما لم أجد له ما يكتب وجدت في كتاب الرياض للمرزباني: أنشدني أحمد بن إبراهيم بن الشاه الطاهري:
فؤادي عليل وجسمي نحيل ... وليلي طويل ونومي قليل
وقلبي غليل ودائي دخيل ... وسقمي دليل على ما أقول
وطرفي كليل فما لي مقيل ... وأمري جليل فصبر جميل
علي بن محمد بن عبدوس الكوفي النحوي
ذكره محمد بن اسحاق، وله من الكتب: كتاب الشعر بالعروض. كتاب البرهان في علل النحو. كتاب معاني الشعر.
علي بن محمد أبو القاسم الإسكافي
من أهل نيسابور، ذكره الثعالبي فقال: هو لسان خراسان وعينها، وواحدها في الكتابة والبلاغة، وممن لم يخرج مثله في الصناعة والبراعة، وكان تأدب بنيسابور عند مؤدبٍ بها يعرف بالحسن بن مهرجان من أعرف المؤدبين بأسرار التأديب والتدريس، وأعلمهم بطريق التدريج إلى التخريج، ثم حرر مديدةً في بعض الدواوين فخرج منقطع القرين، واسطة عقد الفضل، ونادرة الزمان، وبكر الفلك كما قال فيه الهزيمي:
سبق الناس بياناً فغدا ... وهو بالإجماع بكر الفلك
أصبح الملك به متسقاً ... لسليل الملك عبد الملك
ووقع في ريعان أمره وعنفوان عمره إلى أبي علي الصاغاني واستأثر به واستخلصه لنفسه، وقلده ديوان رسائله، فحسن خبره، وسافر أثره، وكانت كتبه ترد على الحضرة في نهاية الحسن والنضرة، فتقع المنافسة فيه، ويكاتب أبوعليٍ في إيثار الحضرة به، فيتعلل ويتسلل لواذاً، ولا يخرج عنه إلى أن كان من كشف أبي علىٍ قناع العصيان، وإنهزامه في وقعة خرجيك إلى الصغانيان ما كان، وحصل أبو القاسم في جملة الأسرى من أصحاب أبي علي، فحبس في القهندز وقيدج مع حسن الرأي فيه وشدة الميل إليه. ثم إن الأمير الحميد نوح بن نصر أراد أن يستكشفه عن سره ويقف على خبيئة صدره، فأمر أن يكتب إليه رقعة على لسان بعض المشايخ ويقال له فيها: إن أبا العباس الصاغاني قد كتب إلى الحضرة يستوهبك من السلطان ويستدعيك إلى الشاس لتتولى له كتابة الكتب السلطانية، فما رأيك في ذلك؟ فوقع في الرقعة: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، فلما عرض توقيعه على الحميد حسن موقعه منه وأعجب به، وأمر بإطلاقه والخلع عليه، وإقعاده في ديوان الرسائل خليفةً لأبي عبد الله بن الحسين بن العميد الملقب بكله، وهو والد أبي الفضل بن العميد، وكان الاسم للعميد والعمل لأبي القاسم، وعند ذلك قال بعض مجان الحضرة:
تبظرم الشيخ كله ... ولست أرضى ذاك له
كأنه لم ير من ... قعد عنه بدله
والله إن دام على ... هذا الجنون والبله
فإنه أول من ... ينتف منه البسلة
وكان أبو القاسم يهجوه فقال فيه وكان يحضر الديوان في محفةٍ لسوء أثر النقرس على قدمه:
يا ذا الذي ركب المحف ... فة جامعاً فيها جهازه
أترى الزمان يعيشني ... حتى يرينها جنازه؟

فلم تطل الأيام حتى أدركت العميد منيته، وبلغ أبو القاسم أمنيته، وتولى العمل برأسه، وعلا أمره وبعد صيته، وجمعت رسائله أقسام الحسن والجودة، وازداد على الأيام تبحراً في الصناعة، ويحكي أن الحميد أمره ذات يومٍ بكتب كتابٍ إلى بعض الأطراف وركب متصيداً واشتغل أبو القاسم عن ذلك لمجلس إنسٍ عقده بين إخوانٍ جمعهم عنده، فحين رجع الحميد من متصيده استدعى أبا القاسم وأمره باستصحاب الكتاب الذي رسم له كتابته ليعرضه عليه ولم يكن كتبه، فأجاب داعيه وقد نال منه الشراب ومعه طومار بياض أو هم أنه مكتوب فيه الكتاب المرسوم له، وقعد بالبعد عنه فقرأ عليه كتاباً طويلاً سديداً بليغا أنشأه في وقته وقرأه عن ظهر قلبه، وارتضاه الحميد وهو يحسب أنه قرأه من سواد مكتوبه وأمره بختمه، فرجع إلى منزله وحرر ما قرأه وأصدره على الرسم في أمثاله.
ومن عجيب أمره: إنه كان أكتب الناس في السلطانيات، فإذا تعاطى الإخوانيات كان قصير الباع، وكان يقال: إذا استعمل ابوالقاسم نون الكبرياء تكلم من السماء، وكان في علو الرتبة في النثر وانحطاطه في النظم كالجاحظ، ورسائله كثيرة مدونة سائرة في الآفاق.
قال: ولما انتقل إلى جوار ربه أكمل ما كان شباباً وآداباً، وغدت الكتابة لفراقه شعثاء، والبلاغة غبراء أكبر فضلاء الحضرة رزيته، وأكثروا مرثيته، فمن ذلك قول الهزيمي الأبيوردي من قصيدة:
ألم تر ديوان الرسائل عطلت ... لفقدانه أقلامه ودفاتره
كثغرٍ مضى حاميه ليس لسده ... سواه وكالكسر الذي عز جابره
ليبك عليه خطه وبيانه ... فذا مات واشيه وذا مات ساحره

علي بن محمد بن أبي الفهم، لتنوخي
داود بن ابراهيم التنوخي أبو القاسم القاضي، قد تقدم نسبه في ترجمة حفيده علي بن المحسن. قال السمعاني: ولد أبو القاسم هذا بأنطاكيه في ذي الحجة سنة ثمانٍ وسبعين ومائتين، وقدم بغداد في حداثته في سنة ستٍ وثلاثمائةٍ، وتفقه بها على مذهب أبي حنيفة، وسمع الحديث ورواه، وولى القضاة بالأهواز وكورها، وتقلد قضاء إيذج وجند حمص من قبل المطيع لله، ومات بالبصرة في ربيعٍ الأول سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائةٍ ودفن بالمربد. أعرف من التنوخيين هؤلاء الثلاثة، فينبغي أن يذكروا في هذا الكتاب وهم: أبو القاسم وابنه أبو عليٍ المحسن صاحب كتاب نشوار المحاضرة وكتب الفرج بعد الشده، وحفيده أبو القاسم على الأخير شيخ الخطيب وتلك الطبقة، وقد ذكرت كل واحدٍ منهم، وله تصانيف في الأدب منها: كتاب في العروض. قال الخالع: ما عمل في العروض أجود منه. كتاب في علم القوافي، وكان بصيراً بعلم النجوم، قرأه على البناني المنجم صاحب الزيج ويقال: إنه كان يقوم بعشرة علومٍ، وتقلد القضاء بالأهواز وكورة واسط وأعمالها والكوفة، وسقى الفرات وجند حمص وعدة نواحٍ من الثغور الشامية وأرجان وكورة سابور مجتمعاً ومفترقاً، وأول ولايته القضاء رياسةً في أيام المقتدر بالله بعهدٍ كتبه له أبو علي بن مقلة الوزير، وشهد الشهود عنده فيما حكم بين أهل عمله بالحضرة في سنة أربعين وثلاثمائةٍ وشهدوا على إنفاذه. وكان المطيع لله قد عول على صرف أبي السائب عن قضاء القضاة وتقليده إياه، فأفسد ذلك بعض أعدائه، وكان ابن مقلة قلده المظالم بالأهواز والأشراف على العيار بها، وكان أبو عبد الله البريدي قد استخلفه بواسط على بعض أمور النظر، ولم يزل نبيهاً متقدماً يمدحه الشعراء ويجيزهم، ويفضل على من قصده إفضالاً أثر في حاله، وتوفي في سنة اثنتين وأربعين، وصلى عليه الوزير أبو محمدٍ المهلبي وقضى ما كان عليه من الدين وهو خمسون ألف درهمٍ.

قال أبو عليٍ التنوخي: كان أبي بحفظ للطائيين سبعمائة قصيدةٍ ومقطوعةٍ سوى ما يحفظ لغيرهم من المحدثين والمخضرمين والجاهليين، ولقد رأيت له دفتراً بخطه هو عندي يحتوي على رؤس ما يحفظه من القصائد مائتين وثلاثين ورقةً أثمانٍ منصوريٍ لطافٍ. وكان يحفظ من النحو واللغة شيئاً عظيماً مع ذلك، وكان عظيماً في الفقه والفرائض. والشروط والمحاضر والسجلات رأس ماله، وكان يحفظ منه ما قد اشتهر من الكلام والمنطق والهندسة، وكان في النحو وحفظ الأحكام وعلم الهيئة قدوةً وفي حفظ علم العروض. وله فيه وفي الفقه وغيرهما عدة كتبٍ مصنفة، وكان مع ذلك يحفظ ويجيب فيما يفوق عشرين ألف حديثٍ، وما رأيت أحداً أحفظ منه، ولولا أن حفظه افترق في جميع هذه العلوم لكان أمراً هائلاً. قال أبو منصور الثعالبي: هو من أعيان أهل العلم والأدب، وأفراد الكرم وحسن الشيم، وكان كما قرأته في فصل للصاحب: إن أردت فإني سبحة ناسك، أو أحببت فإني تفاحة فاتكٍ، أواقترحت فإني مدرعة راهبٍ، أو آثرت فإني تحية شاربٍ. وكان يتقلد قضاء البصرة والأهواز بضع سنين، وحين صرف عنه ورد حضرة سيقف الدولة زائراً ومادحاً، فأكرم مثواه وأحسن قراه، وكتب في معناه إلى الحضرة ببغداد حتى أعيد إلى عمله، وزيد في رزقه ورتبته. وكان المهلبي الوزير وغيره من رؤساء العراق يميلون إليه جداً ويتعصبون له، ويعدونه ريحانة الندماء، وتاريخ الظرفاء، ويعاشرون منه من تطيب عشرته، وتكرم أخلاقه، وتحسن أخباره، وتسير أشعاره، ناظماً حاشيتي البر والبحر، وناحيتي الشرق والغرب. وبلغني أنه كان له غلام يسمى نسيماً في نهاية الملاحة واللباقة، وكان يؤثره على كافة غلمانه، ويختصه بتقريبه واستخدامه، فكتب إليه بعض يأنس به:
هل على من لامه مدغم ... لاضطرار الشعر في ميم نسيم؟
فوقع تحته نعم، ولملا؟ قال: ويحكى إنه كان من جملة القضاة الذين ينادمون الوزير المهلبي ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على اطراح الحشمة، والتبسط في القصف والخلاعة، وهم ابن قريعة، وابن معروفٍ، والقاضي الإيذجي وغيرهم، وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، وكذلك كان المهلبي، فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس، ولذ السماع وأخذ الطرب منهم مأخذه، وهبوا ثوب الوقار للعقار، وتقلبوا في أعطاف العيش بين الخفة والطيش، ووضع في يد كلٍ منهم طاس ذهب من ألف مثقالٍ مملوء شراباً قطربلياً وعكبرياً فيغمس لحيته فيه، بل ينقعها حتى تتشرب أكثره، ثم يرش بها بعضهم على بعضٍ، ويرقصون بأجمعهم وعليهم المصبغات ومخانق البرم ويقولون كلما كثر شربهم: هرهر وإياهم عن السرى بقوله:
مجالس ترقص القضاة بها ... إذا أنتشوا في مخانق البرم
وصاحب يخلط المجون لنا ... بشيمةٍ حلوةٍ من الشيم
يخضب بالراح شيبه عبثاً ... أنامل مثل حمرة العنم
حتى تخال العيون شيبته ... شييبةً قد مزجتها بدم
فإذا أصبحوا عادوا إلى عاداتهم في التزمت والتوقر والتحفظ بأبهة القضاء وحشمة المشايخ الكبراء ومن شعر التنوخي هذا:
وجاء لا جاء الدجى كأنه ... من طلعة الواشي ووجه المرتقب
وفعل الظلام بالضياء ما ... يفعله الحرف بأبناء الأدب
وله:
وليلة مشتاقٍ كأن نجومه ... قد اغتصبت عيني الكرى فهي نوم
كأن عيون الساهرين لطولها ... إذا شخصت للأنجم الزهر أنجم
كأن سواد الليل والفجر ضاحك ... يلوح ويخفي أسود يتبسم
وله:
عهدي بها وضياء الصبح يطفيها ... كالسرج تطفأ أو كالأعين العور
أعجب به حين وافى وهي نيرة ... وظل يطمس منها النور بالنور
وله:
لم أنس دجلة والدجى متصوب ... والبدر في أفق السماء مغرب
فكانها فيه بساط أزرق ... وكأنه فيها طراز مذهب
وله:
كتبت وليلى بالسهاد نهار ... وصدري لوراد الهموم صدار
ولي أدمع عزر تفيض كأنها ... سحائب فاضت من يديك غزار
ولم أر مثل الدمع ماءً إذا جرى ... تلهب منه في المدامع نار

رحلت وزادي لوعة ومطيتي ... جوانح من حرالفراق حرار
مسير دعاه الناس سيراً توسعاً ... ومعنى اسمه إن حققوه إسار
إذا رمت أن أنسى الأسى ذكرت به ... ديار بها بين الضلوع ديار
لك الخير، عن غير اختياري ترحلي ... وهل بي على صرف الزمان خيار؟
وهذا كتابي والجفون كأنها ... تحكم في أشفارهن شفار
وله:
فحم كيوم الفراق يشعله ... نار كنار الفراق في الكبد
أسود قد صار تحت حمرتها ... مثل العيون اكتحلن بالرمد
وله في محبوب جسيم:
من أين أستر وجدي وهو منهتك ... ماللمتيم في تفك الهوى درك؟
قالوا: عشقت عظيم الجسم، قلت لهم: ... كالشمس أعظم جسمٍ حازه الفلك
وله:
رضاك شباب لا يليه مشيب ... وسخطك داء ليس منه طبيب
كأنك من كل القلوب مركب ... فأنت إلى كل القلوب حبيب
قال: ومما أنشدته له ولم أجده في ديوانه:
قلت لأصحابي وقد مر بي ... منتقباً بعد الضيا بالظلم
بالله يا أهل ودادي قفوا ... كي تبصروا كيف زوال النعم؟
وحدث السلامي قال: حدثني اللحام قال: خرج أبو أحمد بن ورقاء الشيباني في بعض الأسفار فكتب إليه أبو القاسم التنوخي الأنطاكي يتشوق إليه ويجزع على فراقه:
أسير وقلبي في ذراك أسير ... وحادي ركابي لوعة وزفير
ولي أدمع غرز تفيض كأنها ... جدىً فاض في العافين منك غزير
وطرف طريف بالسهاد كأنه ... نداك وجيش الجود فيه يغير
أبا أحمدٍ إن المكارم منهل ... لكم أول من ورده وأخير
سماح كمزن الجود فيه تسجم ... وغاب لأسد الموت فيه زئير
شباب بني شيبان شيب إذا انتدوا ... وقلهم يوم اللقاء كثير
وجوه كأكباد المحبين رقةً ... على أنها يوم اللقاء صخور
وحدث أبو سعد السمعاني ومن خطه نقلت بإسنادٍ رفعه إلى منصورٍ الخالدي قال: كنت ليلةً عند القاضي التنوخي في ضيافته فأغفى اغفاءةً فخرجت منه ريح، فضحك بعض القوم فانتبه لضحكه وقال: لعل ريحاً، فسكتنا فمكث هنيهةً ثم أنشأ يقول:
إذا نامت العينان من متيقظٍ ... تراخت بلا شكٍ تشاريج فقحته
فمن كان ذا عقلٍ فيعذر نائماً ... ومن كان ذا جهلٍ ففي جوف لحيته
ومن خط السمعاني بإسناده له، وهي من مشهور شعره:
لم أنس شمس الضحى تطالعني ... ونحن من رقبةٍ على فرق
وجفن عيني بدمعه شرق ... لما بدت في معصفرٍ شرق
كأنه أدمعي ووجنتها ... لما رمتنا الوشاة بالحدق
ثم تغطت بكمها خجلاً ... كالشمس غابت في حمرة الشفق
وله:
تخير إذا ما كنت في الأمر مرسلاً ... فمبلغ آراء الرجال رسولها
وروئ وفكر في الكتاب فإنما ... بأطراف أقلام الرجال عقولها
وحدث أبو عليٍ المحسن بن علي بن محمدٍ التنوخي: جرى في مجلس أبي - رحمه الله - يوماً ذكر رجلٍ كان صغيراً فارتفع، فقال بعض الحاضرين: من ذاك الوضيع؟ أمس كنا نراه بمرقعةٍ يشحذ، فقال أبي: وما يضعه من أن الزمان عضه ثم ساعده؟ كل كبيرٍ إنما كان صغيراً أولاً، والفقر ليس بعارٍ إذا كان الإنسان فاضلاً في نفسه، وأهل العلم خاصةً لا يعيبهم ذلك، وأنا اعتقد أن من كان صغيراً فارتفع، أو فقيراً فاستغنى، أفضل ممن ولد في الغنى أو في الجلالة، لأن من ولد في ذلك إنما يحمد على فعل غيره، فلا حمد له هو خاصةً فيه، ومن لم يكن له فكان، فكأنما بكده وصل إلى ذلك، فهو أفضل ممن وصل إليه ميراثاً أوبجد غيره وكد سواه.
حدث أبو عليٍ المحسن بن أبي القاسم علي بن محمد ابن داوود التنوخي: حدثني أبي قال: سمعت أبي - رحمه الله - يوماً ينشد وسنى إذا ذاك خمس عشرة سنةً بعض قصيدة دعبل بن عليٍ الطويلة التي يفخر فيها باليمن ويعدد مناقبهم، ويرد على الكميت فيها فخره بنزارٍ وأولها:

أفيقي من ملامك يا ظعيناً ... كفاك اللوم مر الأربعينا
وهي نحو ستمائة بيتٍ، فاشتهيت حفظها لما فيها من مفاخراليمن لأنهم أهلي، فقلت يا سيدي: تخرجها إلي حتى أحفظهاً؟ فدافعني فألححت عليه فقال: كأني بك تأخذها فتحفظ منها خمسين بيتاً أو مائة بيتٍ، ثم ترمي بالكتاب وتخلقه على، فقلت: إدفعها إلي فأخرجها وسلمها لي وقد كان كلامه أثر في فدخلت حجرةً لي كانت برسمي من داره، فخلوت فيها ولم أتشاغل يومي وليلتي بشيء غير حفظها، فلما كان السحر كنت قد فرغت منها جميعها وأتقنتها، فخرجت إليه غدوةً على رسمي فجلست بين يديه فقال لي: كم حفظت من القصيدة؟ فقلت: قد حفظتها بأسرها، فغضب وقدر أني قد كذبته وقال: هاتها، فأخرجت الدفتر من كمي فأخذه وفتحه ونظر فيه وأنا أنشد إلى إن مضيت في أكثر من مائة بيتٍ، فصفح منها عدة أوراقٍ وقال: أنشد من هاهنا، فأنشدت مقدار مائة بيتٍ، فصفح إلى إن قارب آخرها بمائة بيتٍ وقال: أنشدني من هاهنا، فأنشدته من مائة بيتٍ فيها إلى آخرها فهاله ما رأى من حسن حفظي، فضمني إليه وقبل رأسي وعيني وقال: بالله يا ابني لا تخبر بهذا أحداً فإني أخاف عليك من العين. قال أبو عليٍ: قال لي ابي: حفظني أبي وحفظت بعده من شعر أبي تمامٍ والبحتري سوى ما كنت أحفظ لغيرهما من المحدثين من الشعراء مائتي قصيدةٍ قال: وكان أبي وشيوخنا بالشام يقولون: من حفظ للطائيين أربعين قصيدةً ولم يقل الشعر فهو حمار في مسلاخ إنسانٍ، فقلت الشعر وبدأت بمقصورتي التي أولها:
لولا التناهي لم أطع نهي النهي ... أي مدىً يطلب من جاز المدى؟
قال علي بن المحسن: وجدت في كتب أبي كتاباً من كتب أبي محمد المهلبي إليه قبل تقلده الوزراة بسنين أوله: كتابي أطال الله بقاء سيدنا القاضي عن سلامةٍ لا زالت له ألفاً وعليه وقفاً:
وحمدٍ لمولىً أستمد بحمده ... له الرتبة العلياء والعز دائماً
وإن يسخط الأيام بالجمع بيننا ... وترضى المنى حتى يرينيك سالما
وصل كتابه أدام الله عزه فقمت معظماً له، وقعدت مشتملاً على السرور به:
وفضضته فوجدته ... ليلاً على صفحات نور
مثل السوالف والخدو ... د البيض زينت بالشعور
بنظام لفظٍ كالثغو ... ر وكاللإلئ في النحور
أنزلته في القلب منزلة القلوب من الصدور قال أبو علي في النشوار: حدثني أبو العلاء صاعد ابن ثابتٍ قال: كتب إلى القاضي التنوخي جواب كتابٍ كتبته إليه، وصل كتابك:
فما شككت وقد جاء البشير به ... أن الشباب أتاني بعد ما ذهبا
وقلت: نفسي تفدي نفس مرسله ... من كل سوءٍ ومن أملي ومن كتبا
وكاد قلبي وقد قلبته قرماً ... إلى قراءته أن يخرق الحجبا
قال: والشعر له وأنشدنيه بعد ذلك لنفسه. قال أبو عليٍ: ولست أعرف له ذلك ولا وجدته في كتبه منسوباً إليه، ويجوز أن يكون مما قاله ولم يثبته، أو ضاع فيما ضاع من شعره فإنه أكثر مما حفظ، ومن شعر أبي القاسم علي بن محمدٍ التنوخي الأكبر:
يجود فيستحي الحيا عند جوده ... ويخرس صرف الدهر حين يقول
عطايا تباري الريح وهي عواصف ... ويخجل منها المزن وهو هطول
أقام له سوقاً بضائعها الندى ... سماح لأرسال السماح رسيل
له نسب لوكان للشمس ضوءه ... لما غالها بعد الطلوع أفول
وله:
يا واحد الناس لا مستثنيا أحداً ... اذ كان دون الورى بالمجد منفردا
أماترى الروض قد لاقاك مبتسماً ... ومد نحو الندامى للسلام يدا
فاخضر ناضره في أبيضٍ يققٍ ... واصفر فاقعه في أحمرٍ نضدا
مثل الرقيب بدا للعاشقين ضحىً ... فاحمر ذا خجلاً واصفر ذا كمداً
وله:
إلق العدو بوجهٍ لا قطوب به ... يكاد يقطر من ماء البشاشات
فاحزم الناس من يلقى أعاديه ... في جسم حقدٍ وثوب من مودات
ألصبر خير وخير القول أصدقه ... وكثرة المزح مفتاح العداوات
وله في الناعورة:

باتت تئن وما بها وجدي ... وتحن من وجدٍ إلى نجد
فدموعها تحيا الرياض بها ... ودموع عيني أقرحت خدي
وله:
فديت عينيك وإن كانتا ... لم تبقيا من جسدي شيئاً
الأ خيالاً لو تأملته ... في الشمس لم تبصر له فيئاً
وكان عبد الله بن المعتز قد قال قصيدةً يفتخر فيها ببني العباس علي بن أبي طالبٍ أولها:
أبى الله إلا ما ترون فمالكم ... غضابى على الأقدار يا آل طالب
فأجابه أبو القاسم التنوخي بقصيدةٍ نحلها بعض العلويين وهي مثبتة في ديوانه أولها:
من ابن رسول الله وابن وصيه ... إلى مدغلٍ في عقدة الدين ناصب
نشا بين طنبورٍ ودفٍ ومزهرٍ ... وفي حجرٍ شادٍ أو على صدر ضارب
ومن ظهر سكرانٍ إلى بطن قينةٍ ... على شبهٍ في ملكها وشوائب
يقول فيها:
وقلت: بنو حربٍ كسو كم عمائماً ... من الضرب في الهامات حمر الذوائب
صدقت، منايانا السيوف وإنما ... تموتون فوق الفرش موت الكواعب
ونحن الألى لا يسرح الذم بيننا ... ولاتدري أعراضنا بالمعايب
إذا ما انتدوا كانوا شموس نديهم ... وإن ركبوا كانوا بدور الركائب
وإن عبسوا يوم الوغى ضحك الردى ... وإن ضحكوا بكواعيون النوائب
وما للغواني والوغى؟ فتعوذوا ... بقرع المثاني من قراع الكتائب
ويوم حنينٍ قلت حزناً فخاره ... ولو كان يدري عدها في المثالب
أبوه منادٍ والوصي مضارب ... فقل في منادٍ صيتٍ ومضارب
وجئتم مع الأولاد تبغون إرثه ... فأبعد بمحجوبٍ بحاجب حاجب
وقلتم نهضنا ثائرين شعارنا ... بثارات زيد الخير عند التجارب
فهلا بإبراهيم كان شعاركم ... فترجع دعواكم تعلة خائب
وله في معز الدولة:
لله أيام مضين قطعتها ... وطوالها بالغانيات قصر
حين الصبا لدن المهز قضيبه ... غض وإنواء السرور غزار
أجلو النهار على النهار وأنثني ... والشمس لي دون الشعار شعار
حتى إذا ما الليل أقبل ضمنا ... دون الإزار من العناق إزار
فعلى النحور من النحور قلائد ... وعلى الخدود من الخدود خمار
وبدت نجوم الليل من حلل الدجى ... تزكوا كما يتفتح النوار
أقبلن والمريخ في أوساطها ... مثل الدراهم وسطها دينار
فالجو مجلو النجوم على الدجى ... في قمص وشيٍ ما لها أزرار
وكانما الجوز اوشاح خريدةٍ ... والنجم تاج والوشاح خمار
ومنها في المدح:
ملك تناجيه القلوب بما جنت ... وتخافه الأوهام والأفكار
فيد مؤيدة وقلب قلب ... وشباً يشب وخاطر خطار
حين العيون شواخص وكأنها ... للخوف لم تخلق لها أبصار
كل الورى أرض وأنت سماؤها ... وجميعهم ليل وأنت نهار
وله:
ما منهم إلا أمرؤ غمر الندى ... سمح اليدين مؤمل مرهوب
يغريه بالخلق الرفيع وبالندى ... والمكرمات العذل والتأنيب
فله رقيب من نداه على الورى ... وعليه من كرم الطباع رقيب
وله:
وقفنا نجيل الرأي في ساكني الغضا ... وجمر الغضا بين الضلوع يجول
نشيم بأرض الشام برقاً كأنه ... عقود نضاد ما لهن فصول
وله:
أما في جنايات النواظر ناظر ... ولامنصف إن جار منهن جائر؟
بنفسي من لم يبد قط لعاذل ... فيرجع إلا وهو لي فيه عاذر
ولا لحظت عيناه ناهٍ عن الهوى ... فأصبح إلا وهو بالحب آمر
يؤثر فيه ناظر الفكر بالمنى ... وتجرحه باللمس منها الضمائر

حدث أبو عليٍ المحسن بن علي بن محمدٍ التنوخي في نشواره قصةً لأبي معشرٍ قد ذكرتها في مجموع الاختطاف عجيبةً. ثم قال: وهذا بعيد جداً دقيق ولكن فيما شاهدناه من صحة بعض أحكام النجوم كفايةً، هذا أبى حول مولد نفسه في السنة التي مات فيها وقال لنا: هذه سنة قطعٍ على مذهب المنجمين، وكتب بذلك إلى بغداد إلى أبي الحسن البهلول القاضي صهره ينعى نفسه ويوصيه، فلما اعتل أدنى علةٍ وقبل أن تستحكم علته أخرج التحويل ونظر فيه طويلاً وأنا حاضر فبكى ثم أطبقه واستدعى كاتبه وأملى عليه وصيته التي مات عنها وأشهد فيها من يومه، فجاء أبو القاسم غلام زحل المنجم فأخذ يطيب نفسه ويورد عليه شكوكاً، فقال له يا أبا القاسم: لست ممن تخفى عليه فأنسبك إلى غلطٍ، ولا أنا ممن يجوز عليه هذا فتستغفلني، وجلس فوافقه على الموضع الذي خافه وأنا حاضر، فقال له: دعني من هذا. بيننا شك في أنه إذا كان يوم الثلاثاء العصر لسبعٍ بقين من الشهر فهو ساعة قطعٍ عندهم؟ فأمسك أبو القاسم غلام زحل لأنه كان خادماً لأبي وبكى. طويلاً وقال: يا غلام طست فجاءوه به فغسل التحويل وقطعه وودع أبا القاسم توديع مفارق، فلما كان في ذلك اليوم العصر مات كما قال.
قال المحسن: وحدثني أبي قال: لما كنت أتقلد القضاء بالكرخ كان بوابي بها رجل من أهل الكرخ، وله ابن عمره حينئذٍ عشر سنين أو نحوها، وكان يدخل داري بلا إذنٍ ويمتزج مع غلماني، وأهب له في بعض الأوقات الدراهم والثياب كما يفعل الناس بأولاد غلمانهم، ثم خرجت عن الكرخ ورحلت عنها ولم أعرف للبواب ولا لابنه خبراً، ومضت السنون وأنفذني أبوعبد الله البريدي من واسطٍ برسالةٍ إلى ابن رائق فلقيته بدير العاقول، ثم انحدرت أريد واسطاً فقيل لي: إن في الطريق لصاً يعرف بالكرخي مستفحل الأمر، وكنت خرجت بطالعٍ اخترته على موجب تحويل مولدي لتلك السنة.
فلما عدت من دير العاقول خرج علينا اللصوص في سفنٍ عدةٍ بسلاحٍ شاكٍ في نحو مائة رجلٍ وهو كالعسكر العظيم، وكان معي غلمان يرمون بالنشاب فخلفت أن من رمى منهم سهماً ضربته إذا رجعت إلى المدينة كأني مفزعه، وذلك أنني خفت أن يقتل أحد منهم فلا يرضون إلا بقتلي، وبادرت فرميت بجميع ما كان معي ومع الغلمان من السلاح في دجلة واستسلمت طلباً لسلامة النفس، وجعلت أفكر في الطالع الذي أخرجت فإذا ليس مثله مما يوجب عندهم قطعاً، والناس قد أدبروا إلى واسطٍ وأنا في جملتهم، وجعلوا يفرغون السفن وينقلون جميع ما فيها من الأمتعة إلى الشاطئ وهم يضربون ويقطعون بالسيوف، فلما انتهى الأمر إلى جعلت أعجب من حصولي في مثل ذلك والطالع لا يوجبه، فبينا أنا كذلك وإذا بسفينة رئيسهم قد دنت وطرح علي كما صنع في سائر السفن ليشرف على ما يؤخذ، فحين رآني زجر أصحابه عني ومنعهم من أخذ شيء من سفينتي، وصعد بمفرده إلي وجعل يتأملني، ثم أكب على يدي يقبلهما وهو متلثم فارتعت وقلت: يا هذا، ما شأنك؟ فأسفر لثامه وقال: أما تعرفني يا سيدي؟ فتأملته فلجزعي لم أعرفه فقلت: لا والله فقال: بلى، أناعبدك ابن فلانٍ الكرخي بوابك هناك، وأنا الصبي الذي تربيت في دارك. قال: فتأملته فعرفته إلا أن اللحية قد غيرته في عيني، فسكن روعي قليلاً وقلت يا هذا: كيف بلغت إلى هذه الحال؟ فقال يا سيدي: نشأت فلم أتعلم غير معالجة السلاح وجئت إلى بغداد أطلب الديوان فما قبلني أحد، وانضاف إلى هؤلاء الرجال فطلبت قطع الطريق، ولوكان أنصفني السلطان وأنزلني بحيث استحق من الشجاعة وأنتفع بخدمتي ما فعلت بنفسي هذا. قال: فأقبلت أعظه وأخوفه الله ثم خشيت أن يشق ذلك عليه فيفسد رعايته لي فأقصرت، فقال لي يا سيدي: لا يكون بعض هؤلاء أخذ منك شيئاً؟ فقلت: لا، ما ذهب مني إلا سلاح رميته أنا إلى الماء وشرحت له الصورة فضحك وقال: قد والله أصاب القاضي، فمن في الكار ممن تعتني به؟ فقلت: كلهم عندي بمنزلةٍ واحدةٍ في الغم بهمن فلو أفرجت عن الجميع.

فقال: والله لولا أن أصحابي قد تفرقوا ما أخذوه لفعلت ذلك، ولكنهم لا يطيعونني إلى رده، ولكني أمنعهم عن أخذ شيء آخر مما في السفن مما لم يؤخذ بعد، فجزيته الخير فصعد الى الشاطئ وأصعد جميع أصحابه ومنعهم عن أخذ شيء آخر مما في السفن مما لم يؤخذ، ورد على قومٍ أشياء كثيرة كانت أخذت منهم، وأطلق الناس وسار معي إلى حيث آمن على وودعني وانصرف راجعاً.
حدث أبو القاسم قال: حدثني أبي قال: كان أول شيءٍ قلدته القضاء بعسكر مكرمٍ وتسترٍ وجند يسابور وأعمال ذلك من قبل القاضي أبي جعفرٍ أحمد بن اسحاق بن البهلول التنوخي، وكنت في السنة الثانية والثلاثين من عمري، وذلك في شهور سنة عشرةٍ وثلاثمائةٍ، ومن شعره المشهور ما نقلته من ديوان شعره.
وراح من الشمس مخلوقةٍ ... بدت لك في قدحٍ من نهار
هواء ولكنه ساكن ... وماء ولكنه غير جاري
إذا ما تأملته وهو فيه ... تأملت ماءً محيطاً بنار
فهذا النهاية في الابيضاض ... وهذي النهاية في الاحمرار:
وما كان في الحكم أن يوجدا ... لفرط التنافي وفرط النفار
ولكن تجاور سطحاهما ال ... بسيطان فاتفقا بالجوار
وكان المدير لها باليمين ... إذا مال للسقي أوباليسار
تدرع ثوباً من الياسمين ... له فرد كمٍ من الجلنار
قلت: وقد تنوزعت هذه الأبيات ورويت لغيره فقيل: إنها لأبي النصر الأنطاكي النحوي وغيره.

علي بن محمد بن الحسينبن العميد
بن محمد، أبو الفتح بن العميد الملقب بذي الكفايتين، كفاية السيف وكفاية القلم، وزير ركن الدولة أبي عليٍ الحسن بن بويه بعد أبيه، - وبذل مالاً في ذلك - ، ثم وزير ابنه مؤيد الدولة بويه بالري وأصفهان وتلك الأعمال. وورد إلى بغداد صحبة عضد الدولة بن ركن الدولة لنصرة عز الدولة بختيار. قتل على ما يجيء شرحه - إن شاء الله تعالى - في سنة ستٍ وستين وثلاثمائةٍ، ومولده في سنة سبعٍ وثلاثين وثلاثمائةٍ، كذا ذكر ابن الصابئ. كان أديباً فاضلاً بليغاً، قد اقتدى بأبيه في علو الهمة وبعد الشأو في الكرم والفضل:
إن السرى إذا سرى فبنفسه ... وابن السرى إذا سرى أسراهما

وكان أبوه قد أدبه فأحسن تأديبه، وهذبه أبو الحسين بن فارسٍ اللغوي وأحسن تهذيبه. ولما مات أبوه في الوقت الذي ذكرناه في ترجمته، وهو سنة ثلاثين وثلاثمائةٍ، قام مقامه في وزارة ركن الدولة وذلك قبل الأستكمال وفي بعدٍ من الاكتهال، وعمره حينئذٍ اثنتان وعشرون سنةً، وألقى ركن الدولة مقاليده إليه، وعول في تدبير السيف والقلم عليه، فلما جرى لعز الدولة بختيار بن معز الدولة ببغداد ما جرى مع غلامه سبكتكين، وأرسل إلى عمه ركن الدولة يستعين به، تقدم إلى أبي الفتح بالمضي إلى شيراز والمسير في صحبة ولده عضد الدولة لإنجاد عز الدولة، وورد إلى بغداد وجرى ما جرى من موت سبكتكين ومحاربة أصحابه حتى انجلوا عنها، وطمع عضد الدولة فيها، ومكاتبته أباه بمفارقتها وتسلينها الى عز الدولة، وكتب ركن الدولة إلى أبي الفتح بالقيام بذلك والتكفل به، حتى يفارق عضد الدولة بغداد في قصةٍ هي مذكورة في التواريخ، فتشدد ابن العميد على عضد الدولة في ذلك، وخاطبه فيه مخاطبات حقدها عضد الدولة عليه، فلما رجع عضد الدولة قال لابن العميد: ما حظيت من ورودي إلى بغداد بفائدة، وقد أطلقت بسببها أموالاً صامتةً لا تحصى. فقال له أبو الفتح: ما سلم من الأعطيات سلطان، ولا خلا من النفقات مكان، ولو استقصيت مقدار ما فرقته لكنت مبذراً. فقال له: عضد الدولة: أما أنت فقد شرف قدرك وعلا ذكرك، كناك خليفة الله في أرضه ولقبك، فأنت ذو الكفايتين أبو الفتح، فأعظم بذلك من فخرٍ يبقى بقاء النيرين ويدوم دوام العصرين، وكان عضد الدولة يقول: خرجت من بغداد وأنازريق الشارب - لأن سفلة الناس والعامة كانوا يذكرونه بذلك - وخرج ابن العميد مكنى من الخليفة، ملقبا بذي الكفايتين. فلما مات ركن الدولة وقام مقامه بالري وتلك النواحي ابنه مؤيد الدولة بويه، كان الصاحب بن عبادٍ وزيره، فخلع علي أبي الفتح واستوزره والصاحب على جملته في الكتابة لمؤيد الدولة، فكره أبوالفتح موضعه فبعث الجند على الشغب وهموا بقتل الصاحب، فأمر مؤيد الدولة بالعود إلى أصبهان، وأسر مؤيد الدولة ذلك في نفسه إلى أشياء كان ينبسط فيها يحمله عليها نزق الشباب، وانضاف إلى ذلك تغير عضد الدولة وكثرة ميل القواد والعساكر إليه، فخيفت منه غائلة فكتب عضد الدولة إلى أخيه مؤيد الدولة يأمره بالقبض عليه واستصفاء أمواله وتعذيبه، فقبض عليه وحمله إلى بعض القلاع، وبدرت إليه منه كلمات في حق عضد الدولة نميت إليه فزادت من استيحاشه منه، فأنهض من حضرته من تكفل بتعذيبه واستخراج أمواله والتنكيل به فأول ما عمل به أن سمل إحدى عينيه، ثم نكل به وجز لحيته وجدع أنفه، وعذب بأنواعٍ من العذاب. قال:
بدل من صورتي المنظر ... لكنه ما بدل المخبر
وليس إشفاقاً على هالكٍ ... لكن على من لي يستعبر
وواله القلب بما مسني ... مستخبر عني ولا يخبر
فقل لمن سر بما ساءني ... لابد أن يسلك ذا المعبر
ووجد على حائط مجلسه بعد قتله:
ملك شد لي عرا الميثاق ... بأمان قد سار في آلافاق
لم يحل رأيه ولكن دهري ... حال عن رأيه فشد وثاقي
فقرى الوحش من عظامي ولحمي ... وسقى الأرض من دمي المهراق
فعلى من تركته من قريبٍ ... أو حبيبٍ تحية المشتاق
وفي بني العميد يقول بعضهم:
مررت على ديار بني العميد ... فألفيت السعادة في خمود
فقل للشامت الباغي رويداً ... فإنك لم تبشر بالخلود
قال: وكان أبو الفتح قد أغرم قبل القبض عليه بإنشاد هذين البيتين لا يجف لسانه عن ترديدهما:
ملك الدنيا أناس قبلنا ... رحلوا عنها وخلوها لنا
ونزلناها كما قد نزلوا ... ونخليها لقومٍ غيرنا
فلما حصل في الاعتقال وأيقن أن القوم يريدون دمه وأنه لا ينجو منهم وإن بذل ماله، مد يده إلى جيب جبةٍ عليه ففتقة عن رقعةٍ فيها ثبت ما لا يحصى من ودائعه وكنوز أبيه وذخائره، فألقاها في كانون نار بين يديه وقال للموكل به: اصنع ما أنت صانع، فوالله لا يصل من أموالي المستورة إلى صاحبك دينارواحد، فما زال يعرضه على العذاب إلى أن تلف، ولما أحس بالقتل قال:

راعوا قليلاً فليس الدهر عبدكم ... كما تظنون والأيام تنتقل
وهذا شيء من خبره وشعره: قال: كان أبو الفضل أبوه قد جعل جماعةً من ثقات أبي الفتح في صباه يشرفون عليه في منزله ومكتبه وينهون إليه إنفاسه، فرفع إليه بعضهم إن أبا الفتح اشتغل ليلةً بما يشتغل به الأحداث من عقد مجلس مسرةٍ وإحضار الندماء في خفيةٍ شديدةٍ واحتياطٍ من أبيه، وأنه كتب إلى من سماه يستهديه شراباً فحمل إليه ما يصلحهم من الشراب والنقل والمشموم، فدس أبوه إلى ذلك الإنسان من جاء بالرقعة الصادرة عن أبي الفتح، فإذا فيها بخطه: بسم الله الرحمن الرحيم، قد اغتنمت الليلة - أطال الله بقاء سيدي ومولاي - رقدةً من عين الدهر، وانتهزت فيها فرصةً من فرص العمر، وانتظمت مع أصحابي في سمط الثريا، فإن لم تحفظ علينا النظام بإهداء المدام، عدنا كبنات نعشٍ والسلام. فاستطير أبوه فرحاً وإعجاباً بهذه الرقعة البديعة وقال: الآن ظهر لي أثر براعته ووثقت بجريه في طريقي ونيابته منابي، ووقع لي بألفي دينارٍ.
وحدث أبو الحسين بن فارسٍ قال: جرى في بعض أيامنا ذكر أبياتٍ استحسن أبو الفضل بن العميد وزنها واستحلى رويها، وأنشد جماعة من حضر ما حضرهم على ذلك الروى، وهو قول القائل:
لئن كففت وإلا ... شققت منك ثيابي
فأصغى إليه أبو الفتح، ثم أنشد في الوقت:
يا مولعاً بعذابي ... أمارحمت شبابي؟
تركت قلباً قريحاً ... نهب الأسى والتصابي
إن كنت تنكرمابي ... من ذلتي واكتئابي
فارفع قليلاً قليلاً ... عن العظام ثيابي
قال: فتأمل هذه الطريقة وانظر إلى هذا الطبع، فإنه أتى بمثل ما أنشده في رشاقته وخفته، ولم يعد الجنس ولم يقصد دونه، وبذلك يعرف قدر القادر على الخطابة والبلاغة ومن مستحسن شعره:
عودي وماء شبيبتي في عودي ... لاتعمدي لمقاتل المعمود
وصليه ما دامت أصائل عيشه ... تؤويه في فيء لها ممدود
ما دام من ليل الصبا في فاحمٍ ... رجل الذرا فينان كالعنقود
قتل الزمان فطارقات جنوده ... يبدلنه يققاً بربدٍ سود
وله:
إذا أنا بلغت الذي كنت أشتهي ... وأضعافه ألفاً فكلني إلى الخمر
وقل لنديمي قم إلى الدهر فاقترح ... عليه الذي تهوى ودعني مع الدهر
وله:
أين لي من يفي بشكر الليالي ... من مضيفٍ خيالها وخيالي؟
لم يكن بي على الزمان اقتراح ... غيرها منيةً فجاد بها لي
قرأت في كتاب أبي الحسن بن هلال بن المحسن: حدثني أبو إسحاق بن هلال جدي قال: لما سار عضد الدولة من بغداد عائداً إلى فارس أقام أبو الفتح ابن العميد بعده، ووصل إلى حضرة الطائع لله حتى خلع عليه وحمله وكناه ولقبه ذا الكفايتين، وتنجز منه خلعاً ولقباً لفخر الدولة أبي الحسن، وأقطع من نواحي السواد ضياعاً كثيرةً رتب فيها نائباً يستوفي ارتفاعها ويحمله إليه، ودعاه أبو طاهر بن بقية عدة دعواتٍ وملأ عينيه بالهدايا والملاطفات وقال في بعض الأيام: لا بد إن أخلع على ابن العميد في مجلسي ودعاه، فلما قعد وأكل وجلس على الشرب أخذ ابن بقية بيده فرجيةً ورداءً في غاية الحسن والجلالة ووافى بهما إلى ابن العميد وقال له: قد صرت أيها الأستاذ جامدارك فإنظر هل ترتضيني لخدمتك؟ وطرح الفرجية عليه، وقدم الرداء بين يديه، فأخذه ولبسه. ومن شعره في الحبس:
ما بال قومي يجفوني أكابرهم ... أأن أطاعتهم الأيام والدول؟
أأن تقاصر عني الحال تقطعني ... عراهم؟ ساء ما شاءوا وما فعلوا
أغراهم أن هذا الدهر أسكتني ... عنهم وتنطق فيه الشاء والأبل
قدماً رميت فلم تبلغ سهامهم ... وأخطأ الناس من مرميه زحل
وله:
يقول لي الواشون: كيف تحبها؟ ... فقلت لهم: بين المقصر والغالي
ولولا حذاري منهم لصدقتهم ... وقلت: هوىً لم يهوه قط أمثالي
وكم من شفيقٍ قال: ما لك واجماً؟ ... فقلت: أنا مالي وتسألني ما لي؟

قال أبو الحسين: وحدثني أبو الفتح منصور بن محمد بن المقدر الأصبهاني قال: حدث أحد أصحاب أبي الفضل بن العميد المختصين به قال: كان أبو الفتح ابن أبي الفضل يباكر أباه في كل يومٍ ويدخل إليه قبل كل أحدٍ، فاتفق أن دخل يوماً وأنا جالس عنده، فلما رآه مقبلاً في الصحن وشاهد عمته وكانت ديلميةً ومشيته وهو يختال فيها ويسرف في تلويها، عجب من ذلك وقال لي: أماترى إلى هذه العمة وهذه المشية في مخالفتها لعادتنا ومفارقتها طريقتنا؟ فقلت: قد رأيت وأن رسم الأستاذ أن أخاطبه فيها وأنهاه عنها فعلت. فقال: لا تفعل فإنه قصير العمر، وما أحب أن أدخل على قلبه هماً ولا أمنعه هوىً. وقد روى أن أبا الفضل وجد له رقعةً كتبها إلى بعض من ينبسط إليه وفيها:
أديبنا المعروف بالكردي ... يولع بالغلمان والمرد
أدخلني يوما إلى داره ... فناكني والأير من عندي
فلما وقف ابن العميد أبوه على ذلك غضب وقال: أمثل ولدى يكتب مثل هذا الفحش والفجور؟ ثم قال: أما والله لولا ولولا، ثم أمسك كأنه يشير إلى ما حكم له من سوء العاقبة وقصر العمر.
حكى أبو الحسين بن فارس مما أورده أبو منصورٍ في اليتيمة قال: كنت عند الأستاذ أبي الفتح بن العميد في يومٍ شديد الحر، فرمت الشمس بجمرات الهاجرة فقال لي: ما قول الشيخ في قلبه، فلم أحر جواباً لأني لم أفطن لما أراد، ولما كان بعد هنيهةٍ أقبل رسول الأستاذ الرئيس يستدعيني إلى مجلسه فقمت إليه، فلما مثلت بين يديه تبسم إلي ضاحكاً وقال: ماقول الشيخ في قلبه؟ فبهت وسكت، وما زلت أفكر حتى انتبهت على أنه أراد الخيش، وكان من يشرف على أبي الفتح من جهة أبيه في تلك الساعة، فدعاني ولفرط اهتزازه لها أراد مجاراتي فيها، وقرأت صحيفة السرور من وجهه إعجاباً بها، ثم أخذت أتحفه بنكت نثره وملح نظمه، فكان مما أعجب به وتعجب منه واستضحك له حكايتي رقعةً وردت له وعلى صدرها: وردت رقعة الشيخ أصغر من عنفقة بقةٍ، وأقصر من أنملة نملةٍ.
وقرأت في تاريخ ذي المعالي زين الكفاة الوزير أبي سعدٍ منصور بن الحسين الآبي قال: كان عضد الدولة ينقم على أبي الفتح بن العميد أشياء، وكان من أعظمها في نفسه: حديثه ببغداد لما خرج لنجدة بختيار فإنه جود القول والفعل في رد عضد الدولة عن بغداد، وأقام لنفسه بذلك ببغداد سوقاً تقدم بها عند أهل البلد والخليفة حتى لقبه الخليفة ذا الكفايتين، وكناه في مكتوبه بأبي الفتح. ولما انصرف عضد الدولة عن بغداد وقد ظهرت له مخايل الغدر من بختيار من قيام أهل بغداد وتصريحهم بالشتم له ولقبوه زريقاً الشارب، وذلك إن عضد الدولة تقدم باتخاذ مزملةٍ في داره ليشرب منها الجند والعامة، ولم يكن عهد مثل ذلك في دور السلاطين قبل، وكان من نفسه أزرق العينين فلقبوه بذلك، فكان يقول: خرجت من بغداد وأنازريق الشارب، وابن العميد الوزير ذو الكفايتين وأبو الفتح.
فلما مات ركن الدولة في سنة ستٍ وستين وثلاثمائةٍ لأربعٍ بقين من المحرم، ضبط أبو الفتح ذو الكفايتين الأمر أحسن ضبطٍ، وسكن العسكر وفرق فيهم مال البيعة، وكان مطاعاً في الديلم محبباً إليهم كثير الإفضال عليهم، وبادر بالخبر إلى مؤيد الدولة وهو بأصبهان، فورد الري ومعه وزيره الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عبادٍ يوم السبت لثلاثٍ خلون من صفرٍ، وجلس للتعزية ثم انتصب في مكان أبيه، وكانت له هيبة وسياسة، وفيه سخاء وسماحة، وخلع على أبي الفتح بن العميد ذي الكفايتين خلع الوزارة، وفوض إليه الأمر يوم الأربعاء لخمسٍ خلون من شهر ربيعٍ الأول، وكان الصاحب يرغب أن يقيم بالري ويخلفه فلم يأمن أبو الفتح جانبه وضرب الحجاب الشديد بينهما، وخوفوه منه لمحله من الصناعة ولمكانه من قلب مؤيد الدولة، فأراد إبعاده عن الحضرة ليتمكن من الإيقاع به إن أراد ذلك، وأشار على مؤيد الدولة بأن يرده إلى أصفهان ليدبر أعمالها والمقام بها، فخلع عليه على رسم الوزراء القباء والسيف والمنطقة وما يجري مع ذلك، وخرج يوم الأحد لثمانٍ خلون من شهر ربيعٍ الأول سنة ستٍ وستين وثلاثمائةٍ.

وأخذ مؤيد الدولة في التدبير على ابن العميد والاحتيال للقبض عليه، ولم يكن يقدم على ذلك لمحل الرجل في قلوب الديلم وإنصبابهم بمودتهم إليه، واخلاصهم في الموالاة له، وكان ذلك أقوى الدواعي لمحنته، وآكد أسباب نكبته، فإنه كان مقتبل الشباب قليل التجارب غير مفكرٍ في العواقب، وقد ولد في النعمة الضخمة ونشأ فيها، وخلف أباه وله دون خمس عشرة سنةً، وتولى الوزارة وله إحدى وعشرون سنةً، واعتاد خدمة الأمراء والقواد ومثولهم بين يديه وتنافسهم في خدمته، وكان يركب إلى الصيد وإلى الميدان لضرب الصوالجة فيتبعه أكثر أكابر الحضرة فيترجلون له ويمشون بين يديه، ثم يضيف في أكثر أيامه جماعةً منهم فيخلع عليهم أنواع الخلع النفيسة، ويحملهم على الدواب الفارهة بالمراكب الثقيلة، وكان ركن الدولة يرخص له في ذلك ويعجب منه، فإنه كان تربيته وابن من طالت له صحبته وخدمته، فلما انتقل الأمر إلى مؤيد الدولة لم يصبر عليه، وكانت الأمور أيضاً بعد على جانبٍ من الاضطراب فلم يسكن إليه، وذلك أن فخر الدولة كان مداجياً لأخويه، وكان أحب إلى الديلم منهما فلم يأمناه، وكان عز الدولة مكاشفاً بالخلاف، وبينه وبين ابن العميد ما قدمنا ذكره من المصافاة فاسترابا به، واجتمع إلى هذه الأحوال ما ذكرناه من حنق عضد الدولة عليه مما قدمه في حقه عند كونه ببغداد، وامتدت العين إلى ضياعه وأمواله وخزائنه وأسبابه ودوره وعقاره وبساتينه، فإنه كان يملك من ذلك ما يملأ العين ويفوت الوهم، فراسل عضد الدولة أخاه مؤيد الدولة على لسان أبي نصرٍ خواشادة المجوسي، وكان من ثقاته وأماثل أصحابه بالقبض عليه بعد أن يوافق على بن كلمة على أمره ليؤمن ناحية العسكر ويوتبهم بمكانه، وجعلوا يجيلون الرأي أياماً، ويركب خواشاده إلى علي بن كلمة ليلاً ويجاريه في ذلك إلى أن اتفقوا يوم السبت سادس عشر شهر ربيعٍ الآخر على القبض عليه عند بكوره من الغد إلى الدار، وكان خواشاده عشية هذا اليوم عند علي بن كلمة. ولابن العميد ضيافة قد اجتمع فيها جماعة من القواد، فارتاب مؤيد الدولة بالأمر، وقدر إنه قد أحس بالسر وجمع الديلم لتدبيرٍ عليه وامتناعٍ منه، فلما عاد إلى عنده خواشاده أمره أن يلم بابن العميد ليتفرس فيه وفي المجتمعين عنده ما هو بصدده، فدخل عليه والرجل مشتغل بقصفه متوفر على طربه، فتأمله وعاد وأراد أن يحبسه عنده فامتنع ورجع إلى الدار فقال لمؤيد الدولة: الرجل غار غافل فلايهمنك أمره، وبكر ابن العميد سحراً إلى دار الإمارة، وكان الرسم اذ ذاك أن يحضروها بالشموع والمشاعل قبل الصباح.
فلما وصل مؤيد الدولة تقدم إليه علي بن كلمة وكلمه في حاجةٍ له فوعده بها فقال: قد وعدتني بها غير مرةٍ ولم تقضها، وأخذ بيده فجذبه من مكانه، وكان قد كمن له في الممر جماعة من خواص الديلم وثقات مؤيد الدولة، فعانوه على إخراجه من ذلك البيت وإدخاله إلى حجرة هناك وتقييده، وذلك في يوم الأحد سابع شهر ربيعٍ الآخر، وأدخلت عليه الشهود فشهدوا عليه ببيع أملاكه جميعها وضياعه ومستغلاته من مؤيد الدولة، فلما حضر العدول أخرج إليهم كتاباً كان كتبه بطلاق امرأته ابنة جستان وأشهدهم طائعاً على نفسه بذلك. وقيل: إنه إنما فعل ذلك خوفاً من مؤيد الدولة أن يفضحه فيها، فأراد أن ينفصل منها وتبين منه لئلا يلزمه العار فيها، ولما حضروا للعقد بالبيع كشف للعدول عن قيده وأقر بالبيع، ثم اتفق أن أفرج عن محبوسٍ كان في الدار، فعدا غلام له مستبشراً وقال: قد أفرج عن الأستاذ يريد أستاذ نفسه، وصكت الكلمة أسماع العامة فتباشروا وظنوا إنه قد أفرج عن أبي الفتح، وصاحت البلدة صيحةً واحدةً، واجتمع من أهل البلد على باب السلطان وميدانه وفي داره ما غصت به الأماكن، وامتلأت منهم الشوارع والمساكن، وركب الديلم بأجمعهم مستبشرين، وتلقوه على زعمهم في الخدمة فرحين، ورأى مؤيد الدولة من ذلك ما هاله، وظن إن العسكر قد ركب لاستنقاذه، فلما عرف حقيقة الحال سكن وأمر بطرد العامة، وأركب الحجاب لطرد القواد والديلم، وأنفذ في تلك الليلة ابن العميد إلى قلعة استوناوند وقتل فيها بعد أيامٍ وورد رأسه.

قال الوزير أبو سعدٍ: وسمعت الصاحب كافى الكفاة رحمه الله يذكر أمره فقال في أثناء كلامه: إن مؤيد الدولة قال لي عند خروجي إلى أصبهان: إن ورد عليك كتاب بخطي أو جاءك أجل حجابي وثقاتي للاستدعاء فلا تبرح من أصفهان ولا تفارقها إلى أن يجيئك فلان الركابي فإنه إن اتجهت لي حيلة على هذا الرجل وأمكنني الله من القبض عليه بادرت به اليك، وهو العلامة بيني وبينك. قال: فاستعظمت لحداثة سني وغرة الصبا وقلة التجربة ما حكاه الصاحب من قول مؤيد الدولة: إن اتجهت لي حيلة على هذا الرجل، وتعجبت منه وأردت الغض من أبي الفتح والتقرب بذلك إلى الصاحب فقلت: وكان لأبي الفتح من القدر أن يصعب حبسه أويحتاج صاحبه إلى الاحتيال معه؟ فانتهرني الصاحب وقال يا فلان: أنت صبي تحسب أن القبض على الوزراء سهل، ففطنت أنه يريد الرفع من شأن الوزارة وتفخيم أمرها، فعدلت عن كلامي الأول إلى غيره.
قال أبو حيان: حدثني أبو الطيب الكيمائي قال: قلت لأبي الفضل بعد أن سم الحاجب النيسابوري وبعد أن خطب على حمدٍ ودس إلى ابن هندٍ وغيرهم من أهل الكتابة والمروءة والنعم: لو كففت، فقد أسرفت، فقال يا أبا الطيب: أنا مضطر. قال: فقلت وأي اضطرارٍ هاهنا؟ والله إن مخادعتنا لأنفسنا في ضرنا ونفعنا لأعجب من مكابرة غيرنا لنا في خيرنا وشرنا، وهذا والله رين القلوب وصدأ العقل وفساد الاختيار، وكدر النفس وسوء العادة، وعدم التوفيق. فقال يا أبا الطيب: أنت تتكلم بالظاهر وأنا أحترق في الباطن. قال فقلت: إن كان عذرك في هذه السيرة المخالفة لأهل الديانه وأصحاب الحكمة قد بلغ هذا الوضوح والجلاء فإنك معذور عندنا، ولعلك أيضاً مأجور عند الله ما لك الجزاء، وإن كنت تعلم حقيقة ما تراجعني عليه القول وتناقلني به الحجاج فإنك من الخاسرين الذين باءوا بغضب من الله على مذاهب الناس أجمعين، فبكى فقلت له: البكاء لا ينفع إن كان الإقلاع ممكناً، والندم لا يجدي متى كان الإصرار قائما، هذا كله بسبب ابنك أبي الفتح، والله إن ايامه لا تطول، وإن عيشه لا يصفو وإن حاله لا يستقيم، وله أعداء لا يتخلص منهم وقد دل مولده على ذلك، وإنك لا تدفع عنه قضاء الله وهو لا يغني عنك شيئاً، فعليك بخويصة نفسك.
قال أبو حيان: وقد ذكر ابن عبادٍ وأبا الفضل بن العميد ثم قال: وأما أبوالفتح ذو الكفايتين فإنه كان شاباً ذكياً متحركاً حسن الشعر مليح الكتابه كثير المحاسن، ولم يظهر كل ما كان من نفسه لقصر أيامه، واشتعال دولته وطفوها بسرعةٍ. ومن شعره:
إني متى أهززقناتي تنتثر ... أوصالها أنبوبةً أنبوبا
أدعو بعاليها العلى فتجيبني ... وأقد بحد سنانها المرهوبا
وله كلام كثير نظم ونثر، وله في صفة الفرس ما يوفى على كل منظومٍ، ولو أبقته الأيام لظهر منه كل فضلٍ كبيرٍ. ودخل بغداد فتكلف واحتفل وعقد مجالس مختلفة للفقهاء يوماً، وللأدباء يوماً، وللمتكلمين يوماً، وللمتفلسفين يوماً، وفرق أموالاً خطيرةً وتفقد أبا سعيدٍ السيرافي وعلي بن عيسى الرماني وغيرهما وعرض عليهما المسير معه إلى الري ووعدهم ومناهم وأظهر المباهاة بهم، وكذلك خاطب أبا الحسن بن كعبٍ الأنصاري وأبا سليمان السجستاني المنطقي وابن البقال الشاعر وابن الأعرج النمري وغيرهم. ودخل شهر رمضإن فاحتشد وبالغ ووصل ووهب فجرت في هذه المجالس غرائب العلم وبدائع الحكمة، وخاصةً ما جرى مع أبي الحسن العامري، ولولا طول الرسالة لرسمت ذلك كله في هذا الكتاب، فمن ظريف ما جرى وفي سماعه فائدة واعتبار خبر أبي سعيدٍ السيرافي مع أبي الحسن العامري، وقد ذكرته في أخبار السيرافي قال أبو حيان: وحضرت المجلس يوماً آخر مع أبي سعيدٍ وقد غص بأعلام الدنيا وببرد الآفاق، فجرى حديث الصابئ فقال ذو الكفايتين: ذاك رجل له في كل طرازٍ نسج، وفي كل حومةٍ رهج، وفي كل فلاةٍ ركب، ومن كل غمامةٍ سكب، الكتابة تدعيه بأكثر مما يدعيها، والبلاغة تتحلى به بأحسن مما يتحلى هو بها، وما أحلى قوله:
حمراء مصفرة الأحشاء باعثة ... طيباً تخال به في البيت عطارا
كأن في وجهها تبراً يخلصه ... قين يضرم في أفنانه النارا
وقوله:
ما زلت في سكري ألمع كفها ... وذراعها بالقرص والأثار

حتى تركت أديمها وكأنما ... غرس البنفسج في نقا الجمار
وبلغ المجلس أبا إسحاق فحضر وشكر وطوى ونشر وأورد وأصدر، وكان كاتب زمانه لساناً وقلماً وشمائل، وكان له مع ذلك يد طولى في العلم الرياضي، وسمعت أبا اسحاق يقول: هو ابن ابيه لله دره، وأخذ في تعظيم أبيه.
قال عبد الله الفقير إليه: وقد ذكر أبو حيان قصة أبي الفتح بن العميد وسبب القبض عليه مبسوطةً مشروحةً وقد نقلتها هاهنا عنه بكمالها فإني لم أجد أحداً ذكرها أكمل منه. قال: ولما مات ركن الدولة سنة ستٍ وستين وثلاثمائةٍ اجتمع ذو الكفايتين أبو الفتح وعلي بن كامة أحد أمراء الديلم والأعيان وتعاهدا وتواثقا وتحالفا وبذل كل واحد منهما الإخلاص لصاحبه والمودة في السر والعلانية، والذب والنوقير عند الصغير والكبير، واجتهدا في الأيمان الغامسة والعقود الموثقة، ودبرا أمر الجيش، ووعدا الأولياء، وردا النافر، وركبا الخطر الخاطر، وعانقا الخطب العاقر، وباشر كل ذلك أبو الفتح خاصةً بجدٍ من نفسه، وصريمةٍ من رأيه، وجودة فكره، وصحة نيته، وتوفيق ربه.
فلما ورد مؤيد الدولة الري من أصبهان وصادف الأمر متسقاً ولقى كل فتق مرتقاً بما تقدم من الحزم فيه، ونفذ من الرأي الصائب عنده أنكر الزيادة الموجبة للجند فكرهها ودمدم بذكرها، فقال له أبو الفتح بها نظمت لك الملك، وحفظت لك الدولة، وصنت الحريم، فإن خالفت هذه الزيادة هواك فأسقطها فاليد الطولى لك.
وكان ابن عبادٍ قد ورد وحطبه رطب وتنوره بارد وأمره غير نافذٍ، هذا في الظاهر، وأما في الباطن، فكان يخلو بصاحبه ويوثبه على أبي الفتح بما يجد السبيل إليه من الطعن والقدح، فأحس بذلك ابن العميد فألب الأولياء على ابن عبادٍ حتى كثر الشغب وعظم الخطب وهم بقتله وقال للأمير: ليس من حق كفايتي في الدولة وقد انتكث حبلها، وقويت أطماع المفسدين فيها أن أسأم الخسف، والأحرار لا يصبرون على نظرات الذل وغمرات الهوان. فقال له في الجواب: كلامك مسموع ورضاك متبوع، فما الذي يبرد فورتك عنه؟ قال: ينصرف إلى أصفهان موفوراً، فوالله لو طالبته منصفاً برفع الحساب لما نظر فيه ليعرقن جبينه، ولئن أحس الأولياء الذين أصطنعهم بمالي وإفضالي بكلامه في أمري، وسعيه في فساد حالي، ليكونن هلاكه على أيديهم أسرع من البرق إذا خطف، ومن المزن إذا نطف. فقال له: لا مخالف لرأيك، والنظرلك، والزمام بيدك.
وتلطف ابن عبادٍ في خلال ذلك لأبي الفتح وقال له: أنا أتظلم منك اليك، وأتحمل بك عليك، وهذا الاستيحاش سهل الزوال إذا تألفت الشارد من حلمك، وعطفت على الشائع من كرمك، ولنى ديوان الإنشاء واستخدمني فيه ورتبني بين يديك، وأحضرني بين أمرك ونهيك، وسمني برضاك فإني صنيعة والدك، واتخذني بهذا صنيعةً لك، وليس يجمل أن تكر على ما بنى ذلك الرئيس فتهدمه وتنقضه، ومتى أجبتني إلى هذا وآمنتني فإني أكون خادمك بحضرتك، وكاتباً يطلب الزلفة عندك في صغير أمرك وكبيره، وفي هذا إطفاء النائرة التي قد ثارت بسوء ظنك وتصديقك أعدائي علي. فقال في الجواب: والله لا تجاورني في بلد السرير، وبحضرة التدبير وخلوة الأمير، ولا يكون لك إذن على ولا عين عندي، وليس لك مني رضاً إلا بالعود إلى مكانك من أصبهان، والسلو عما تحدث به نفسك.
فخرج ابن عبادٍ من الري على صورةٍ قبيحةٍ متنكراً بالليل، وذلك أنه خاف الفتك والغلبة، وبلغ أصبهان وألقى عصاه بها، ونفسه تغلي وصدره يفور، والخوف شامل والوسواس غالب، وهم أبو الفتح بإنفاذ من يطالبه ويؤذيه ويهينه ويعسفه فأحس هو بالأمر.
فحدثني أبو النجم قال: عمل على ركوب المفازة إلى نيسابور لما ضاق عطنه، واختلف على نفسه ظنه، وإنه لفي هذا وما أشبهه، حتى بلغهم أن خراسان قد أزمعت الدلوف إليهم، وتشاورت في الإطلال عليهم.

فقال الأميرلأبي الفتح: ما الرأي وقد نمى الينا ما تعلم من طمع خراسان في هذه الدولة بعد موت ركن الدولة؟ فقال أبو الفتح: ليس الرأي إلي ولا إليك، ولا الهم لي: أنت كاتب خليفتي، يدبر هذا بالمال والرجال وهو الملك عضد الدولة أخوك. قال: فاكتب إليه وأشعره وأشع ما قد منينيا به وأشهره، وسله يداوي هذا الداء. فكتب أبو الفتح وتلطف. فصدر في الجواب: إن هذا لأمر عجاب، رجل مات وخلف مالاً وله ابن فلم يحمل إليه من إرثه شيء زوياً عنه واستئثاراً دونه، ثم يخاطب بأن يغرم شيئاً آخر من عنده قد كسبه بجهده، وجمعه بسعيه وكدحه، هذا والله حديث لم نسمع بمثله، ولئن استفتى الفقهاء في هذا لم يكن عندهم منه بتةً إلا التعجب والاستطراف ورحمة هذا الوارث المظلوم من وجهين: أحدهما أنه حرم ماله بحق الإرث، والآخر أنه يطالب بإخراج ما ليس عليه، وإن شاء حاكمت كل من سام هذا إلى من يرضى به.
فلما سمع مؤيد الدولة هذا قال لأبي الفتح: ما ترى؟ قال: قد قلت وليس لي قول سواه، هذا الرجل هو الملك والمدبروالمال كله ماله، والبلاد بلاده، والجند جنده والكل له، والاسم والجلالة عنده، وليس هاهنا إرث قد زوى عنه، ولا مال استؤثر به دونه، والنادرة لا وجه لها في أمر الجد وفيما لا تعلق له باللعب، أما خراسان فكانت مذ عشرين سنةً تطالبنا بالمال وتهددنا بالمسير والحرب، ونحن مرةً نحارب ومرةً نسالم، وفي خلال ذلك تفرق المال بعد المال على وجوهٍ مختلفةٍ، فاحسب أن ركن الدولة حي باقٍ، هل كان له إلا أن يدبر بماله ورجاله وذخائره وكنوزه؟ أفليس هذا الحكم لازماً لمن قام مقامه وجلس مجلسه، وألقى إليه زمام الملك وأصدر عنه كل رأيٍ؟ وهل علينا إلا الخدمة والنصرة والمناصحة في كل ما سهل وصعب؟ كما كان عليه ذلك بالأمس من جهة الماضي.
فقال مؤيد الدولة: إن الخطب في هذه أراه يطول، والكلام يتردد، والمناظرة تربو، والفريضة تعول، والفرصة تفوت، والعدو يستمكن، وأرى في الوقت أ، نذكر وجهاً للمال حتى نحتج به، ثم نستمد في الثاني منه، ويرضى الجند في الحال ونتحزم في الأمر، ونظهر المرارة والشكيمة بالاهتمام والاستعداد، حتى يطير الخبر إلى خراسان بجدنا واجتهادنا، وحزمنا واعتمادنا، فيكون ذلك مكسرةً لقلوبهم وحسماً لأطماعهم، وباعثاً على تجديد القول في الصلح ورد الحال إلى العادة المألوفة. فقال: نسأل الله بركة هذا الأمر فقد نشأت منه رائحة منكرة، ما أعرف للمال وجهاً، أما أنا فقد خرجت من جميع ما عندي مرةً بما خدمت به الماضي تبرعاً حدثان موت أبي، ومرةً بما طالبني به سراً وأوعدني بالعزل والاستخفاف من أجله، ومرةً بما غرمت في المسير إلى العراق في نصرة الدولة، وهذه وجوه استنفدت قلى وكثري، وأتت على ظاهري وباطني، وقد غرمت إلى هذه الغاية ما إن ذكرته كنت كأني ممتن على أولياء نعمتى، وإن سكت كنت كالمتهم عند من يتوقع عثرتي، فهذا هذا. وأما أموال النواحي فأحسن أحوالنا فيها أنا نرجئها في نواحيها مع النفقة الواسعة في الوظائف والمهمات التي تنوبنا، وأما العامة فلا أحوج الله إليها، ولا كانت دولة ولا تثبت إلا بها وبأوساخ أموالها. فقال مؤيد الدولة وكان ملقناً: هذا ابن كلمة وهو صاحب الذخائر والكنوز والجبال والحصون، وبيده بلاد وقد جمع هذا كله في دولتنا وحازه من مملكتنا وأيامنا وبدولتنا، وهو جام ماشيك، ومختوم ما فض مذ كان ما نقول فيه، قال: ما لي فيه كلام فإن بيني وبينه عهداً ما أخيس به ولو ذهبت نفسي. فقال: اطلب منه القرض. قال: إنه يستوحش ويراه باباً من الغضاضة، وقدر القرض لا يبلغ قدر الحاجة، فإن الحاجة ماسة إلى خمسمائة ألف دينار على التقريب، ونفسه أنفع لنا وأرد علينا وأحصن لنا وإلينا من موقع ذلك المال، وبعد رأيه وتدبيره واسمه وصيته فوق المطلوب منه.
قال: واذ ليس ههنا وجه فليس بأس بان يطالع الملك بهذا الرأي ليكون نتيجته من ثم. قال: أنا لا أكتب بهذا فإنه غدر. قال يا هذا: فأنت كاتبي وصاحب سري والزمام في جميع أمري، ولا سبيل إلى إخراج هذا الحديث إلى أحد من خلق الله، فإن أنت لم تتول حاره وقاره، وغثه وسمينه، ومحبوبه ومكروهه فمن؟

قال يا أيها الأمير: لا تسمني الخيانة، فإني قد أعطيته عهداً يذر الديار بلاقع، ومع اليوم غدن ولعن الله عاجلة تفسد الأجلة. فقال: إني لست أسومك أن تقبض عليه وأن تسيء إليه، أشر بهذا المعنى إلى الملك عذد الدولة وخلاك ذم، فإن رأى الصواب فيه تولاه دونك، وإن ضرب عنه أعاضنا رأياً غير ما رأينا، وأنت على حالك لا تنزل عنهاولا تبدلها، وإنما الذي يجب عليك في هذا الوقت بين يدي كتب حرفين: إنه لا وجه لهذا المال إلا من جهة فلانٍ، ولست أتولى مخاطبته عليه، ولا مطالبته به وفاءً له بالعهد، وثباتاً على اليمين، وجرياً على الواجب، ولا أقل من أن تجيب إلى هذا القدر، وليس فيه شيء مما يدل على النكث والخلاف والتبديل. وما زال هذا وشبهه يتردد بينهما حتى أخذ خطه بهذا على أن يصدره إلى أخيه عضد الدولة بفارس. فلما حصل هذا الخط عنده وجن عليه الليل أحضر ابن كلمة وقال له: أما عندك حديث هذا المخنث فيما أشار به على الملك في شأنك؟ وأورد عليه في حقك وأمرك، وأطماعه في مالك ونفسك، وتكثيره عنده ما تحت يدك وناحيتك. فقال ابن كلمة: هذا الفتي يرتفع عن هذا الحديث، ولعل عدواً قد كاده به، وبيني وبينه ما لا منفذ للسحر فيه، ولا مساغ لظنٍ سيءٍ به. قال: ما قلت لك إلا بعد أن حققت ما قلت، ودع هذا كله في الريح، هذا كتابه إلى الملك بما عرفتك، وخطه بيده فيه. قال علي بن كلمة: أنا أعرف الخط ولكن هاتوا كاتبي، فأحضر كاتبه الخثعمي فشهد أن الخط خطه، فحال على بن كلمة عن سجيته، وخرج من مسكنه وقال: ما ظننت بعد الأيمان المغلظة التي بيننا إنه يستجيز مثل هذا. قال الأمير: أيها الرجل، إنما أطلعك الملك على سر هذا الغلام فيك، لتعرف فساد ضميره لك، وما هو عليه من هناتٍ أخر، وآفاتٍ هي أكبر، فإنه هو الذي حرك من بخراسان، وكاتب صاحب جرجان، وألقى إلى أخينا بهمذان - يعني فخر الدولة - أخبارنا، وهو عين لبختيار هاهنا، وقد اعتقد أنه يعمل في تحصيل هذه البلاد، ويكون وزيراً بالعراق، فقد ذاق من بغداد ما لا يخرج من ضرسه إلا بنزع نفسه، وكان أبو نصرٍ المجوسي قد قدم من عند الملك عضد الدولة وهويفتل الحبل ويبرم، ويهاب مرةً ويقدم، وكان الحديث قد بيت بليلٍ واهتم به قبل وقته بزمانٍ. فقال علي بن كلمة: فما الرأي الآن؟ قال: لا أرى أمثل من طاعة الملك في القبض عليه وقد كنا على ذلك قادرين، ولكن كرهنا أن يظن بنا أنا هجمنا على ناصحنا، ومربب نعمتنا وناشئ دولتنا، فمهدنا عندك العذر، وأوضحنا لك الأمر. قال: فأنا أكفيكموه، ثم قبض عليه وكان منه ما كان، واستدعى ابن عبادٍ من أصفهان وولى الوزارة ودبرها برأيٍ وثيقٍ وجدٍ رتيقٍ وذكر أبوعليٍ مسكويه في بعض كتبه قال:

كان حسنويه بن الحسين الكردي قد قوي واستفحل لما وقع منه من الشغل بالفتوح الكبار، لأنه كان إذا وقع حرب بين الخراسانية وبين ركن الدولة أظهر عصبية الديلم وصار في جملتهم، وخدم خدمةً يستحق بها الإحسان، إلا أنه كان - مع ما أقطع وأغضى عنه من الأعمال التي تبسط فيها والإضافات التي يستولي عليها، - ربما تعرض لأطراف الجبل وطالب أصحاب الضياع وأرباب النعم بالخفارة والرسوم التي يبدعها، فيضطر الناس إلى إجابته ولا يناقشه السلطان، فكان يزيد أمره على الأيام ويتشاغل الولاة عنه، إلى أن وقع بينه وبين سهلان ابن مسافرٍ خلاف ومشاحة تلاجا فيها، إلى أن قصده ابن مسافرٍ فهزمه حسنويه، وكان يظن ابن مسافرٍ أنه لا يكاشفه، ولا يبلغ الحرب بينهما إلى ما بلغت إليه، فلم تقف الحرب بينهما حيث ظن، وانتهى الأمر بينهما إلى إن اجتمع الديلم وأصحاب السلطان بعد الهزيمة إلى موضعٍ شبيهٍ بالحصار، ونزل الأكراد حواليهم ومنعوهم من الميرة وتفرقوا بإزائهم، ثم زاد الأمر وبلغ إلى أن أمر حسنويه الأكراد أن يحمل كل فارسٍ منهم على رأس رمحه ما أطاق من الشوك والعرفج، ويقرب من معسكر سهلان ما استطاع ويطرحه هناك، ففعلوا ذلك وهم لا يدرون ما يريدون بذلك، فلما اجتمع حول عسكر سهلان شيء كثير في أيام كثيرةٍ تقدم بطرح النار فيه من عدة مواضع فالتهب وكان الوقت صيفاً، وحميت الشمس عليهم مع حر النار فأخذ بكظمهم وأشرفوا على التلف، فصاحوا وطلبوا الأمان فرفق بهم وأمسك عماهم به، وبلغ ذلك ركن الدولة فلم يحتمل ذلك كله، وتقدم إلى وزيره أبي الفضل محمد بن الحسين بن العميد، وهو الأستاذ الرئيس بقصده واستئصال شأفته، وأمره بالاستقصاء والمبالغة، فانتخب الأستاذ الرئيس الرجال وخرج في عدةٍ وزينةٍ، وخرج ركن الدولة مشيعاً له وخلع على القواد، ووقف حتى اجتاز به العسكر وعاد إلى الري، وسار الوزير ومعه ابنه أبوالفتح، وكان شاباً قد خلف أباه بحضرة ركن الدولة، وعرف تدبير المملكة وسياسة الجند، فهو بذكائه وحدة ذهنه وسرعة حركته، قد نفق نفاقاً شديداً على ركن الدولة، وهو مع ذلك لقلة حنكته ونزق شبابه وتهوره في الأمور يقدم على ما لا يقدم عليه أبوه، ويحب أن يسير في خواص الديلم وهو يمشون بين يديه ويختلط بهم اختلاط يستميل قلوبهم، ويخلع عليهم خلعاً كثيرة، ويحمل رؤساءهم وقوادهم على الخيول الفره بالمراكب الثقال، ويريد بجميع ذلك أن يسلموا له الرياسة حتى لا يأنف أحد منهم من تقبيل الأرض بين يديه، والمشي قدامه إذا ركب، وكان جميع ذلك ما لا يؤثره الأستاذ الرئيس ولا يرضاه لسيرته، وكان يعظه وينهاه عن هذه السيرة ويعلمه أن ذلك لو كان مما يرخص فيه، لكان هو بنفسه قد سبق إليه.
قال مسكويه: ولقد سمعته في كثير من خلواته يشرح له صورة الديلم في الحسد والجشع، وأنه ما ملكهم أحد قط إلا بترك الزينة، وبذل ما لا يبطرهم ولا يخرجهم إلى التحاسد، ولا يتكبر عليهم ولا يكون إلا في مرتبة أوسطهم حالاً، وإن من دعاهم واحتشدهم وحمل على حالةٍ فوق طاعته، لم يمنعهم ذلك من حسده على نعمه والسعي فى إزالتها، وترقب أوقات الغرة في آمن ما يكون الإنسان على نفسه منهم فيفتكون به ذلك الوقت، وكان يورد عليه مثل هذا الكلام حتى ظن إنه قد ملأ قلبه رعباً، وإنه سيكف عن السيرة التي شرع فيها، فماهو إلا أن يفارق مجلسه ذلك حتى يعاود سيرته تلك، فأشفق الأستاذ في سفرته هذه إن يتركه بحضرة صاحبه، فيلج في هذه الأخلاق ويغتر بما يراه من احتمال ركن الدولة حتى ينتهي إلى ما لا يتلافاه، فسيره معه واستخلف بحضرة ركن الدولة أبا علىٍ محمد بن أحمد المعروف بابن البيع، وكان فاضلاً أديباً ركيناً، حسن الصورة مقبول الجملة، حسن المخبر خلقا وأدباً.

فلما كان الرئيس في بعض الطريق - وكان يركب العماريات ولا يستقل على ظهور الدواب لإفراط علة النقرس وغيره عليه - التفت فلم ير في موكبه أحداً، وسأل عن الخبر فلم يجد حاجباً يخبره ولا من جرت العادة بمسايرته غيري، فسألني عن الخبر فقلت له: إن الجماعة بأسرها مالت مع أبي الفتح إلى الصيد، فأمسك حتى نزل في معسكره، ثم سأل عمن جرت العادة باستدعائه للطعام، وكان يحضره في كل يومٍ عشرة من القواد على مائدته التي تخصه، وعدة من القواد على أطباقٍ توضع لهم، وذلك على نوبةٍ معروفةٍ يسعى فيها نقباؤهم، فلما كان في ذلك اليوم لم يحضر أحد واستقصى في السؤال فقبل: إن أبا الفتح أضافهم في الصحراء فاستشاط من ذلك وساءه أن يجري مثل هذا ولا يستأذن فيه، وقد كان أنكر خلو موكبه وهو في وجه حربٍ ولم يأمن إن يستمرهذا التشتت من العسكر فتتم عليه حيلة، فدعا أكبر حجابه ووصاه أن يحجب عنه ابنه أبا الفتح، وأن يوصي النقباء بمنع الديلم من مسايرته ومخالطته، وظن أن هذا المبلغ من الإنكار سيغض منه وينهي العسكر عن اتباعه على هواه، فلم يؤثر كلامه هذا كبير أثرٍ وعاد الفتى إلى عادته، واتبعه العسكر ومالوا معه إلى اللعب والصيد والأكل والشرب، وكان لا يخليهم من الخلع والإلطاف، فشق ذلك على الأستاذ الرئيس جداً ولم يحب أن يخرق هيبة نفسه بإظهار ما في قلبه، ولا المبالغة في الإنكار وهو من مثل هذا الوجه، فيفسد عسكره ويطمع فيه عدوه. فدارى أمره وتجرع غيظه، وأداه ذلك إلى زيادةٍ في مرضه حتى هلك بهمذان وهو يقول في خلواته: ما يهلك آل العميد ولا يمحو آثارهم من الأرض إلا هذا الصبي - يعني ابنه - وهو يقول في مرضه: ما قتلني إلا جرع، الغيظ التي تجرعتها منه، فلما حصل بهمذان اشتدت علته وتوفي بها - رحمه الله - في ليلة الخميس السادس من صفرٍ سنة ستين وثلاثمائةٍ. وانتصب ابنه ابو الفتح مكان أبيه، وكان العسكر كما ذكرت مائلاً إليه، فزاد في بسطهم وتأنيسهم ووعدهم ومناهم، وبذل لهم طعامه ومنادمته، وأكثر من الخلع عليهم، وراسل حسنويه وأرغبه وأرهبه وحضه على الطاعة، وأومأ إلى مصالحته على مالٍ يحمله يقوم بما انفق على العسكر، ويتوفر بعد ذلك بقية على خزانة السلطان، ويضمن إصلاح حاله - إذا فعل ذلك - مع ركن الدولة، وكان ذلك يشق على سهلان بن مسافرٍ لما في نفسه من حسنويه، لأنه كان يحب الانتقام منه والتشفي به، وكان أبو الفتح يرى مفارقة حسنويه والعود إلى صاحبه بما به لم يثلم عسكره ولا خاطر بهم، وأن يلحق بمكانه من الوزارة قبل أن يطمع فيه أولى وأشبه بالصواب.
وقد كان أبو عليٍ محمد بن أحمد بن البيع خليفة أبيه قد تمكن من ركن الدولة وقبل ذلك ما عرفه بالكفاية والسداد وأرجف له بالوزارة، فسفر المتوسطون بينه وبين حسنويه إلى أن تقرر أمره على خمسين ألف دينارٍ، وجبا كورة الجبل وجمع من الدواب والبغال وسائر التحف ما بلغ مقداره مائة ألف دينارٍ، ووردت عليه كتب ركن الدولة بما قوى قلبه وشد متنه، وأحمد جميع ما دبره وأمره بالعود إلى الحضرة بالري.
قال: وفي سنة إحدى وستين تمكن أبو الفتح ابن العميد من الوزارة بعد أبيه، وفوض إليه ركن لدولة تدبير ممالكه، ومكنه من أعنة الخيل، فصار وزيراً وصاحب جيشٍ على رسم والده، إلا أن والده باشر هذه الأمور في كمال من أدواته وتمام من آلاته، فدبرها بالحزم والحنكة. وأما أبو الفتح فكان فيه - مع رجاحته وفضله في أدب الكتابة وتيقظه وفراسته - نزق الحداثة، وسكر الشباب، وجرأة القدرة، فأجرى أمره على ما تقدم من إظهار الزينة الكثيرة، واستخدام الديلم والأتراك والاحتشاد في المواكب والدعوات، حتى خرج به عن حد القصد إلى الإسراف، فجلب ذلك عليه ضروب الحسد من ضروب السلاطين وأصحاب السيوف والأقلام.

وكان صاحبه ركن الدولة قد شاخ وسئم ملابسة أمور الجند، وأحب الراحة والدعة ففوض إليه الأمور، ورآه شاباً قد استقبل الدنيا استقبالاً، فهو يحب التعب الذي قاساه ركن الدولة ثم مله، ويستلذ فيه الانتصاب للأمر والنهي ومخالطة الجند والركوب إلى الصيد ومشى خواص الديلم وكبار الجند بين يديه، ثم مشاربتهم ومؤانستهم والأحسان إليهم بالخلع والحملان. فأول من أنكر هذا الفعل عليه عضد الدولة ومؤيد الدولة ابنا ركن الدولة وكتابهما ثم سائر مشايخ الدولة، ورأوه يركب في موكبٍ عظيمٍ ويغشى الدار، فإذا خرج تبعه الجميع وخلت دار الأمارة حتى لا يوجد فيها إلا المستخدمون من الأتباع والحاشية، ثم ترقى أمره إلا المستخدمون من الأتباع والحاشية، ثم ترقى أمره في قيادة الجيش والتحقوا به إلى ندب إلى الخروج إلى العراق في جيشٍ كثيفٍ من الري والأجتماع مع عضد الدولة لنصرة بختيار بن معز الدولة في الخلاف الذي وقع بينه وبين الأتراك المستعصين عليه، فأقام هناك وواطأ بختيار في أمورٍ خالف فيها عضد الدولة، وذاك أن عضد الدولة لما عاد من بغداد إلى فارس شرط على ابن العميد ألا يقيم ببغداد بعده إلا ثلاثة أيامٍ ثم يلحق بوالده بالري، فلما خرج عضد الدولة طابت لابن العميد بغداد، فاتبع هوى صباه وأحب الخلاعة والدخول مع بختيار في أفانين لهوه ولعبه، ووجد خلواً من أشغاله. وراحةً من تدبير أمر صاحبه ركن الدولة مدةً. وحصلت له زبازب ودور على الشط وستارات غناءٍ ومغنيات، وتمكن من اللذات وعرف بختيار له ما صنع من الجميل في شانه، لأنه كان قد جرد من الفعل والقول في رد عضد الدولة عن بغداد بعد أن نشبت فيها مخالبه وتملكها، وقبض على بختيار واستظهر عليه، فخلصه وأعاد ملكه عليه، وصرف عضد الدولة عن بغداد، فكان يراه بختيار بصورة من خلصه من مخالب الأسد بعد أن افترسه، وأن سعيه بين ركن الدولة وعضد الدولة هو الذي رد عليه ملكه، فبسطه وعرض عليه وزارته وتمكينه من ممالكه على رسمه، وألا يعارضه في شيءٍ يدبره ويراه، فلم يجبه إلى ذلك وقال: لي والدة وأهل وولد ونعمه قد رتبت منذ خمسين سنة، وهي كلها في يد ركن الدولة ولا أستطيع مفارقته. ولا يحسن بي أن يتحدث عني بمخالفته، ولا يتم أيضاً لك مع ما عاملك به من الجميل، ولكني أعاهدك إن قضى الله عز وجل على ركن الدولة ما هو قاضٍ على جميع خلقه، أن أصير إليك مع قطعةٍ عظيمةٍ من عسكره فإنهم لا يخالفونني، وركن الدولة مع ذلك هامة اليوم أو غدٍ، وليس بتأخر أمره، واستقر بينهما ذلك سراً لم يطلع عليه إلا محمد بن عمر العلوي، فإنه توسط بينهما وأخذ عهد كل واحدٍ منهما على صاحبه، ولم يظهر ذلك لأحدٍ حتى حدثني به محمد بن عمر بعد هلاك أبي الفتح، ولكن الغلط العظيم كان من أبي الفتح كونه أقام ببغداد مدةً طويلةً، وحصل أملاكاً اقتناها هناك واقطاعاتٍ اكتتبها وأصولاً أصلها على العود إليها، ثم التمس لقباً من السلطان وخلعاً وأحوالاً لا تشبه ما فارقه عضد الدولة عليها، ثم استخلص ببغداد بعض اولاد التناء بشيراز يعرف بأبي الحسن بن أبي شجاعٍ الأرجاني من غير اختبارٍ له ولا خلطةٍ قديمةٍ تكشف له أمره، فلما خرج كانت تلك الأسرار التي بينه وبين بختيار - والتراجم بينهما تدور - كلها على يده ويتوسطها، ويهدي إلى عضد الدولة جميعها ويتقرب إليه بها، فلما عرف عضد الدولة حقيقة الأمر ومخالفة أبي الفتح بن العميد له، ودخوله مع بختيار فيما دخل فيه مع اللقب السلطاني الذي حصله وهو ذو الكفايتين، ولبسه الخلع وركوبه ببغداد مع ابن بقية من هذه الخلع، عرف مكاشفته إياه بالعداوة، وكتم ذلك في نفسه إلى أن تمكن منه فأهلكه كما ذكرنا.
قال أبو سعد السمعاني: أنشدنا الحسن بن محمدٍ الأصبهاني بها، أنشدنا أبو زيدٍ صعلوك بن إميلوية بن أبي طاهرٍ الجبلي: قدم علينا قال: أنشدت لعضد الدولة في ابن العميد ومودته:
ودادك لازم مكنون سرى ... وحبك جنتي والعشق زادي
فإن واصلتني أزداد حباً ... وإن صارمتني يزدد سهادي
وخالك في عذارك في الليالي ... سواد في سوادٍ في سواد
فأجابه ابن العميد:
دعاني في انبلاج الليل صبح ... فنادى قم فحي على الفلاح
فقلت له: ترفق يا منادى ... أليس الصبح مسود النواحي؟

فثغري والمدام وحسن وجهي ... صباح في صباحٍ في صباح

علي بن محمد الشمشاطي
العدوي أبو الحسن وشمشاط من بلاد إرمينية من الثغور. وكان معلم أبي تغلب بن ناصر الدولة بن حمدإن وأخيه ثم نادمهما، وهو شاعر مجيد ومصنف مفيد، كثير الحفظ، واسع الرواية، وفيه تزيد.
قال محمد بن اسحاق النديم: إنني كنت أعرفه قديماً، وبلغني أنه قد ترك كثيراً من أخلاقه عند علو سنه. قال: وهو يحيا في عصرما في سنة سبعٍ وسبعين وثلاثمائةٍ.
قال المؤلف: وهو الذي روى الخبر الذي جرى بين الزجاج وثعلبٍ في حق سيبويه واستدراكه على ثعلبٍ في الفصيح عدة مواضع، وقد ذكر ذلك في ترجمة الزجاج رحمه الله تعالى، وكان رافضياً دجالاً يأتي في كتبه بالأعاجيب من أحاديثهم. ولأبي القاسم الرقي المنجم فيه يهجوه:
حف خديك دل يا شمشاطي ... أنه دائماً لغير لواط
وإنبساط الغلام يعلمني إن ... ك تحت الغلام فوق البساط
وشروطٍ صبرت كرهاً عليها ... لالها بل للذة المشراط
قال محمد بن اسحاق: له كتاب النزه والابتهاج وهو مجموع يتضمن غرائب الأخبار ومحاسن الأشعار كالأمالي، كتاب الأنوار محبوب يجري مجرى الملح والتشبيهات والأوصاف عمله قديماً ثم زاد فيه بعد ذلك، كتاب الديارات كبير، كتاب المثلث الصحيح، كتاب أخبار أبي تمام والمختار من شعره، كتاب القلم جيد، كتاب تفضيل أبي نواسٍ على أبي تمامٍ.
وحدث الشمشاطي في كتابه كتاب النزه والابتهاج قال: كنا ليلةً عند أبي تغلب بن حمدان وعنده جماعة بعضهم يلعب النرد فطال الجلوس حتى مضى من الليل هزيع والسماء تهطل، فقال أبو البركات لفتح بن نظيفٍ: يا فتح، كم قد مضي من الليل؟ فقلت له: هذا نصف بيت شعرٍ. فقال: لبعض من في حضرته: أتمه، فقال: هذه قافية صعبة لا تطرد إلا أن نجعل بدل الياء واوً فعملت في الوقت، واستغلقت القافية حتى لا يزاد عليها بيت واحد إلا أن تكرر القافية بلفظٍ مؤتلفٍ ومعنىً مختلفٍ، مثل الغيل: اللبن يرضع من المرأة وهي حامل، قد أتينا بهذه اللفظة ومثلها لفظاً ولم نأت به معنىً، وكالغيل: الساعد الريان. والغيل: ما جرى على وجه الأرض. والغيل: الشحم الملتف ومثل القيل نصف النهار وقد أتينا به. والقيل: الملك ونحو ذلك فقلت:
يا فتح كم قد مضى من الليل؟ ... قل وتجنب مقال ذي الميل
فعارض النوم مسبل خمراً ... وعارض المزن مسبل الذيل
والليل في البدر كالنهار إذا ... أضحى وهذا السحاب كالليل
يسكب دمعاً على الثرى فتر ال ... ماء بكل الدروب كالسيل
والنرد تلهى عن المنام إذا ال ... فصوص جالت كجولة الخيل
إذا لذيذ الكرى تدافع عن ... وقت رقادٍ أضر بالحيل
إن أمير الهيجاء في مأزق ال ... حرب الهمام الجواد والقيل
من حزبه السعد طالع لهم ... وحربه موقنون بالويل
نجيب أمٍ لم تغذه سيء ال ... قسم ولا أرضعته من غيل
يحمل أعباء كل معضلة ... تجل إن تستقل بالشيل
أمواله والطعام قد بذلا ... لآمليه بالوزن والكيل
جاوز عمراً بأساً وقصر عن ... جود يديه السيحان والسيل
لا زال في نعمةٍ مجددةٍ ... يشرب صفو الغبوق والقيل
وحدث الشمشاطي في كتابه هذا أيضاً قال: أخذت من بين يدي أبي عدنان محمد بن نصر بن حمدان رمانة فكسرتها ودفعت منها إلى من حضر من الشعراء والأدباء وقلت:
يا حسن رمانةٍ تقاسمها ... كل أديبٍ بالظرف منعوت
كأنها قبل كسرها كرة ... وبعد كسرٍ حبات ياقوت
علي بن محمد بن الخلال
أبو الحسن، الأديب الناسخ صاحب الخط المليح والضبط الصحيح، معروف بذلك مشهور. مات في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائةٍ.
علي بن محمدبن عميرٍالنحوي الكناني

يكنى أبا الحسن. كان أحد الفضلاء من أصحاب أبي بكرٍ محمد بن الحسن بن مقسمٍ، روى عنه أمالي ثعلبٍ في سنة ست عشرة وأربعمائةٍ، فسمعه منه الحسن بن أحمد بن البلاج وأبوالفتح بن المقدر.

علي بن محمدابن دينار
بن عبد الرحيم، ابن دينار الكاتب أبو الحسين، بصري الأصل واسطي المولد والمنشأ، قال الحافظ أبو طاهر السلفي: وسألته يعني أبا الكرم خميس بن عليٍ الحوزي عن ابن دينارٍ فقال: سمع أبا بكر ابن مقسمٍ، ولقى المتنبي فسمع منه ديوانه ومدحه بقصيدةٍ هي عندنا موجودة في ديوانه أولها:
رب القريض اليك الحل والرحل ... ضاقت على العلم إلا نحوك السبل
تضاءل الشعراء اليوم عند فتىً ... صعاب كل قريضٍ عنده ذلل
وكان شاعراً مجيداً، شارك المتنبي في أكثر ممدوحيه كسيف الدولة بن حمدان وابن العميد وغيرهما، وكان حسن الخط يقال: إنه على طريقة ابن مقلة. مات سنة تسعٍ وأربعمائةٍ. حمل الناس عنه الأدب فأكثروا بواسط وغيرها، وكان سهل الخلائق جميل الطريقة، سأله الناس بواسط بعد موت أبي محمدٍ عبد الله العلوي أن يجلس لهم صدراً فيقرئهم فامتنع وقال: أنا أتعمم مدورةً وكمى ضيق وليست هذه حلية أهل القرآن، أظنني سمعت ذلك من أبي الحسن المغازلي الشاهد، هذا آخر ما قاله خميس. قلت: وقد سمع أبو غالب محمد بن بشران من ابن دينارٍ كثيراً، فروى عنه كتب الزجاج عن أبي الحسن بن علي بن الجصاص عن الزجاج، وروى عنه مصنفات ثعلبٍ عن أبي بكرٍ محمد بن الحسن بن مقسم عنه.
وروى له كتب ابن الأعرابي عن ابن مقسمٍ عن ثعلبٍ عنه، وروى له كتب ابن السكيت جميعها كالإصلاح والألفاظ والنبات وغير ذلك عن ابن مقسمٍ عن المعيدي عن ابن السكيت، وروى له كتب ابن قتيبة: كتاب غريب الحديث، وكتاب أدب الكاتب، وكتاب الأشربة وعيون الأخبار وعدد كتبٍ كلها عن أبي القاسم الآمدي عن أبي جعفر بن محمد بن قتيبة عن أبيه، وروى له كتب الآمدي جميعها عنه. وروى له كتاب أبي الفرج على بن الحسين الأصفهاني الأغاني الكبير وغيره عنه. وروى له كتاب الجمهرة لابن دريدٍ عن أبي الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي جخجخٍ عن ابن دريدٍ وغير ذلك مما يطول شرحه، وأخذ ابن دينارٍ عن أبي سعيدٍ السيرافي وأبي عليٍ الفارسي، ومولد ابن دينارٍ سنة ثلاثٍ وعشرين وثلاثمائةٍ، وذكر أبو عبد الله الحميدي في ثبته قال: حدثني أبوغالب ابن بشران النحوي قال: حدثني أبو الحسين علي بن محمد ابن عبد الرحيم بن دينارٍ الكاتب قال: قرأت على أبي الفرج علي بن الحسين الأصفهاني جميع كتاب الأغاني.
علي بن محمد النهاوندي النحوي
روى عن جنادة أبي أسامة وعن أبي يوسف أحمد ابن الحسين عن المبرد
علي بن محمدٍ أبو الحسن الهروي
والد أبي سهلٍ محمد بن عليٍ الهروي الذي يكتب الصحاح وقد ذكر في بابه، وكان أبوالحسن هذا عالماً بالنحو اماماً في الأدب، جيد القياس صحيح القريحة حسن العناية بالآداب، وكان مقيماً بالديار المصرية. وله تصانيف منها: كتاب الذخائر في النحو نحو أربع مجلداتٍ رأيته بمصر بخطه، وكتاب الأزهية شرح فيه العوامل والحروف، وهما كتابان جليلان أبان فيهماعن فضله.
علي بن محمد بن أبي الحسن الأندلسي
أبو الحسن الكاتب، مشهور بالأدب والشعر، وله كتاب في التشبيهات من أشعار أهل الأندلس. كان في أيام الدولة العامرية، وعاش إلى أيام الفتنة ذكره الحميدي.
الجزء الخامس عشر
علي بن محمد بن العباس أبو حيان

التوحيدي، شيرازي الأصل وقيل نيسابوري، ووجدت بعض الفضلاء يقول له الواسطي، صوفي السمت والهيئة، وكان يتأله والناس على ثقة من دينه، قدم بغداد فأقام بها مدة ومضى إلى الري، وصحب الصاحب أبا القاسم إسماعيل بن عباد وقبله أبا الفضل بن العميد فلم يحمدهما وعمل في مثالبهما كتاباً، وكان متفنناً في جميع العلوم من النحو واللغة والشعر والأدب والفقه والكلام على رأي المعتزلة، وكان جاحظياً يسلك في تصانيفه مسلكه ويشتهي أن ينتظم في سلكه، فهو شيخ في الصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء، وعمدة لبني ساسان، سخيف اللسان، قليل الرضا عند الإساءة إليه والإحسان، الذم شانه، والثلب دكانه، وهو مع ذلك فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ومكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، وكان مع ذلك محدوداً محارفاً يشتكي صرف زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه.
ولم أر أحداً من أهل العلم ذكره في كتاب، ولا دمجه في ضمن خطاب، وهذا من العجب العجاب، غير أن أبا حيان ذكر نفسه في كتاب الصديق والصداقة وهو كتاب حسن نفيس بما قال فيه: كان سبب إنشاء هذا الكتاب الرسالة في الصديق والصداقة: أنّى ذكرت منها شيئاً لزيد بن رفاعة أبي الجبر، فنماه إلى ابن سعدان أبي عبد الله سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة قبل تحمله أعباء الدولة وتدبيره أمر الوزارة فقال لي ابن سعدان: قال لي عنك زيد كذا وكذا، قلت: قد كان ذاك. فقال لي: دون هذا الكلام وصله بصلاته مما يصح عندك لمن تقدم، فإن حديث الصديق حلو، ووصف الصاحب المساعد مطرب، فجمعت ما في هذه الرسالة وشغل عن رد القول فيها، وبطؤت أنا عن تحريرها إلى أن كان من أمره ما كان، فلما كان هذا الوقت وهو رجب سنة أربعمائة، عثرت على المسودة وبيضتها، - وهذا دليل على بقائه إلى ما بعد الأربعمائة - .
وفي كتاب الهفوات لابن الصابئ: وحكى أبو حيان قال: حضرت مائدة الصاحب بن عباد فقدمت مضيرة فأمعنت فيها فقال لي: يا أبا حيان، إنها تضر بالمشايخ. فقلت: إن رأى الصاحب أن يدع التطبب على طعامه فعل، فكأني ألقمته حجراً وخجل واستحيا ولم ينطق إلى أن فرغنا، ولأبي حيان تصانيف كثيرة منها: كتاب رسالة الصديق والصداقة، كتاب الرد على ابن جني في شعر المتنبي، كتاب الامتناع والمؤانسة جزءان، كتاب الإشارات الإلهية جزءان، كتاب الزلفة جزء، كتاب المقابسة، كتاب رياض العارفين، كتاب تقريظ الجاحظ، كتاب ذم الوزيرين، كتاب الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي، كتاب الرسالة في صلات الفقهاء في المناظرة، كتاب الرسالة البغدادية، كتاب الرسالة الصوفية أيضاً، كتاب الرسالة في الحنين إلى الأوطان، كتاب البصائر وهو عشر مجلدات كل مجلد له فاتحة وخاتمة، كتاب المحاضرات والمناظرات.
قال أبو حيان في كتاب المحاضرات: كنت بحضرة أبي سعيد السيرافي فوجدت بخطه على ظهر كتاب اللمع في شواذ التفسير - وكان بين يديه فأخذته ونظرت - قال: ذم أعرابي رجلاً فقال: ليس له أول يحمل عليه، ولا آخر يرجع إليه، ولا عقل يزكو به عاقل لديه، وأنشد:
حسبتك إنساناً على غير خبرة ... فكشفت عن كلب أكب على عظم
لحى الله رأياً قاد نحوك همتي ... فأعقبني طول المقام على الذم
فقال لي: يا أبا حيان، ما الذي كنت تكتب؟ قلت: الحكاية التي على ظهر هذا الكتاب، فأخذها وتأملها وقال: تأبى إلا الاشتغال بالقدح والذم وثلب الناس. فقلت: أدام الله الإمتاع، شغل كل ناس بما هو مبتلى به مدفوع إليه.
قال أبو حيان: وقصدت مع أبي زيد المروزي دار أبي الفتح ذي الكفايتين فمنعنا من الدخول عليه أشد منع، وذكر حاجبه أنه يأكل الخبز فرجعنا بعد أن قال أبو زيد للحاجب: أجلسنا في الدهليز إلى أن يفرغ من الأكل فلم يفعل، فلما انصرفنا خزايا أنشأ يقول متمثلاً:
على خبز إسماعيل واقية البخل ... فقد حل في دار الأمان من الأكل
وما خبزه إلا كآوى يرى ابنه ... ولم ير آوى في الحزون ولا السهل
وما خبزه إلا كعنقاء مغرب ... تصور في بسط الملوك وفي المثل
يحدث عنها الناس من غير رؤية ... سوى صورة ما إن تمر ولا تحلى

قال أبو حيان: وأنشدنا أبو بكر القومسي الفيلسوف وكان بحراً عجاجاً، وسراجاً وهاجاً، وكان من الضر والفاقة، ومقاساة الشدة الإضاقة بمنزلة عظيمة، عظيم القدر عند ذوي الأخطار، منحوس الحظ منهم، متهماً في دينه عند العوام مقصوداً من جهتهم. فقال لي يوماً: ما ظننت أن الدنيا ونكدها تبلغ من إنسان نا بلغ مني، إن قصدت دجلة لأغتسل منها نضب ماؤها، وإن خرجت إلى القفار لأتيمم بالصعيد عاد صلداً أملس، وكأن العطوى ما أراد بقصيدته غيري، وما عنى بها سواي، ثم أنشدنا للعطوى:
من رماه الإله بالإقتار ... وطلاب الغنى من الأسفار
هو في حيرة وضنك وإفلا ... س وبؤس ومحنة وصغار
يا أبا القاسم الذي أوضح الجو ... د إليه مقاصد الأحرار
خذ حديثي فإن وجهي مذ با ... رز هذا الأنام في ثوب قار
وهو للسامعين أطيب من نف ... ح نسيم الرياض غب القطار
هجم البرد مسرعاً ويدي صف ... ر وجسمي عار بغير دثار
فتسترت منه طول التشاري ... ن إلى أن تهتكت أستاري
ونسجت الأطمار بالخيط والإب ... رة حتى عريت من أطماري
وسعى القمل من دروز قميصي ... من صغار ما بينهم وكبار
يتساعون في ثيابي إلى رأ ... سي قطاراً تجول بعد قطار
ثم وافى كانون واسود وجهي ... وأتاني ما كان منه حذاري
لو تأملت صورتي ورجوعي ... حين أمسي إلى ربوع قفار
أنا وحدي فيه وهل فيه فضل ... لحلوس الأنيس والروار؟
والخلا لا يراد فيه فمالي ... أبداً حاجة إلى الحفار
بل يراد الخلا لمنحدر النج ... و وما ذقت لقمة في الدار
وإذا لم تدر على المطعم الأف ... وه سدت متاعب الأحجار
وقلت له يوماً: لو قصدت ابن العميد وابن عباد عسى تكون من جملة من ينفق عليهما وتحظى لديهما، فأجابني بكلام منه: معاناة الضر والبؤس أولى من مقاساة الجهال والتيوس، والصبر على الوخم الوبيل أولى من النظر إلى محيا كل ثقيل، ثم أنشأ يقول:
بيني وبين لئام الناس معتبة ... ما تنقضي وكرام الناس إخواني
إذا لقيت لئيم القوم عنفني ... وإن لقيت كريم القوم حياني
وقلت له: هل تعرف في معنى قصيدة العطوى أخرى؟ قال نعم، قصيدة الحراني صاحب المأمون. فقلت: لو تفضلت بإنشادها، فقال: خذ في حديث من أقبلت عليه دنياه وتمكن فيها من مناه، ودع حديث الحرف والعسر والشؤم والخسر تطيراً إن لم ترفضه تأدباً. فقلت له: ما أعرف لك شريكاً فيما أنت عليه وتتقلب فيه وتقاسيه سواي، ولقد استولى على الحرف وتمكن مني نكد الزمان إلى الحد الذي لا أسترزق مع صحة نقلي وتقييد خطي وتزويق نسخي وسلامته من التصحيف والتحريف بمثل ما يسترزق البليد الذي ينسخ النسخ، ويمسخ الأصل والفرع، وقصدت ابن عباد بأمل فسيح وصدر رحيب، فقدم إلى رسائله في ثلاثين مجلدة على أن أنسخها له، فقلت: نسخ مثله يأتي على العمر والبصر، - والوراقة كانت موجودة ببغداد - فأخذ على نفسه على من ذلك، وما فزت بطائل من جهته. فقال: بلغني ذلك فقلت له: ولو كان شيئاً يرتفع من اليد بمدة قريبة لكنت لا أتعطل وأتوفر عليه، ولو قرر معي أجرة مثله لكنت أصبر عليه، فليس لمن وقع في شر الشباك وعين الهلاك إلا الصبر.
قال أبو حيان: ودخلت على الدلجى بشيراز وكنت قد تأخرت عنه أياماً، وهذا الكتاب يعني كتاب المحاضرات جمعه له بعد ذلك، ولأجله أتعبت نفسي، فقال لي: يا أبا حيان، من أين؟ فقلت:
إذا شئت أن تقلى فزر متواتراً ... وإن شئت أن تزداد حباً فزر غياً
وهذا لملاك ظهر لي منه، وقليل إعراض عني في يوم. فقال لي: ما هذا البيت إلا بيت جيد يعرفه الخاص والعام، وهو موافق لما يذكر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (زر غباً تزدد حباً). فلو كان لهذا البيت أخوات كان أحسن من أن يكون فرداً. قلت فله أخوات.

قال: فأنشدني. قلت لا أحفظها، قال: فأخرجها، قلت: لا أهتدي إليها. قال: فمن أين عرفتها؟ قلت:مرت بي في جملة تعليقات. قال: فاطلبها لأقدم رسمك. قلت: فقدمه الآن على شريطة أنه إذا جاء الوقت المعتاد إطلاقه فيه كل سنة أطلقت أيضاً. قال: أفعل. قلت: فخذها الآن.
سمعت العروضي أبا محمد يقول: دخل بعض الشعراء على عيسى بن موسى الرافقى وبين يديه جارية يقال لها خلوب فقال لها اقترحي عليه، فقالت:
إذا شئت أن تقلى فزر متوتراً ... وإن شئت أن تزداد حباً فزر غباً
أجزه بأبيات تليق به فأنشد:
بقيت بلا قلب فإني هائم ... فهل من معير يا خلوب لكم قلباً؟
حلفت برب البيت أنك منيتي ... فكوني لعيني ما نظرت لها نصباً
عسى الله يوماً أن يرينيك خالياً ... فيزداد لحظي من محاسنكم عجباً
إذا شئت أن تقلى فزر متوتراً ... وإن شئت أن تزداد حباً فزر غباً
فأنجز لي ما وعد، و وفى بما شرط، وكان ينفق عليه سوق العلم مع جنون كان يعتريه، ويتخبط في أكثر أوقاته فيه، وليت مع هذه الحالة خلف لنفسه شكلاً، أو نرى له في وقتنا هذا مثلاً، بارت البضائع، وغارت البدائع، وكسد سوق العلم، وخمد ذكر الكرم، وصار الناس عبيد الدرهم بعد الدرهم. وكان أبو حيان قد أحرق كتبه في آخره عمره لقلة جدواها، وضنا بها على من لا يعرف قدرها بعد موته.
وكتب إليه القاضي أبو سهل علي بن محمد يعذله على صنيعه، ويعرفه قبح ما اعتمد من الفعل وشنيعه.
فكتب إليه أبو حيان يعتذر من ذلك: حرسك الله أيها الشيخ من سوء ظني بمودتك وطول جفائك، وأعاذني من مكافأتك على ذلك، وأجارنا جميعاً مما سود وجه عهد إن رعيناه كنا مستأنسين به، وإن أهملناه كنا مستوحشين من أجله، وأدام الله نعمته عندك، وجعلني على الحالات كلها فداك.

وأفاني كتابك غير محتسب ولا متوقع على ظمأ برح بي إليه، وشكرت الله تعالى على النعمة به علي، وسألته المزيد من أمثاله، الذي وصفت فيه بعد ذكر الشوق إلي، والصبابة نحوي ما نال قلبك والتهب في صدرك من الخبر الذي نمى إليك فيما كان مني من إحراق كتبي النفيسة بالنار وغسلها بالماء، فعجبت من انزواء وجه العذر عنك في ذلك، كأنك لم تقرأ قوله جل وعز: (كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون)، وكأنك لم تأبه لقوله تعالى: (كل من عليها فان). وكأنك لم تعلم أنه لا ثبات لشيء من الدنيا وإن كان شريف الجوهر كريم العنصر، ما دام مقلباً بيد الليل والنهار، معروضاً على أحداث الدهر وتعاود الأيام، ثم إني أقول: إن كان - أيدك الله - قد نقب خفك ما سمعت، فقد أدمى أظلي ما فعلت، فليهن عليك ذلك، فما انبريت له ولا اجترأت عليه حتى استخرت الله عز وجل فيه أياماً وليالي، وحتى أوحى إلي في المنام بما بعث راقد العزم، وأجد فاتر النية، وأحيا ميت الرأي، وحث على تنفيذ ما وقع في الروع وتريع في الخاطر، وأنا أجود عليك الآن بالحجة في ذلك إن طالبت، أو بالعذر إن استوضحت، لتثق بي فيما كان مني، وتعرف صنع الله تعالى في ثنيه لي: إن العلم - خاطك الله - يراد للعمل، كما أن العمل يراد للنجاة، فإذا كان العمل قاصراً عن العلم كلاً على العالم، وأنا أعوذ بالله من علم عاد كلاً وأورث ذلاً، وصار في رقبة صاحبه علاً - وهذا ضرب من الاحتجاج المخلوط بالاعتذار - ثم اعلم علمك الله الخير أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سره وعلانيته، فأما ما كان سراً فلم أجد له من يتحلى بحقيقته راغباً، وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالباً، على أني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم ولعقد الرياسة بينهم ولمد الجاه عندهم فحرمت ذلك كله، - ولا شك في حسن ما اختاره الله لي وناطه بناصيتي، وربطه بأمري - ، وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجة علي لا لي، ومما شحذ العزم على ذلك ورقع الحجاب عنه، أني فقدت ولداً نجيباً، وصديقاً حبيباً، وصاحباً قريباً، وتابعاً أديباً، ورئيساً منيباً، فشق علي أن أدعها لقوم يتلاعبون بها، ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشتمون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها، ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها، فإن قلت ولم تسمهم بسوء الظن، ونقرع جماعتهم بهذا العيب؟ فجوابي لك أن عياني منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح لي من أحدهم وداد؟ ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ، ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم، وأحوال الزمان بادية لعينك، بارزة بين مسائك وصباحك، وليس ما قلته بخاف عليك مع معرفتك وفطنتك، وشدة تتبعك وتفرغك، وما كان يجب أن ترتاب في صواب ما فعلته وأتيته بما قدمته ووصفته، وبما أمسكت عنه وطويته إما هرباً من التطويل، وإما خوفاً من القال والقيل.وبعد فقد أصبحت هامة اليوم أو غد فإني في عشر التسعين، وهل لي بعد الكبرة والعجز أمل في حياة لذيذة؟ أو رجاء لحال جديدة، ألست زمرة من قال القائل فيهم:
نروح ونغدو كل يوم وليلة ... وعما قليل لا نروح ولا نغدو
وكما قال الآخر:
تفوقت درات الصبا في ظلاله ... إلى أن أتاني بالفطام مشيب
وهذا البيت للورد الجعدي وتمامه يضيق عنه هذا المكان، والله يا سيدي لو لم أتعظ إلا بمن فقدته من الإخوان والأخدان في هذا الصقع من الغرباء والأدباء والأحباء لكفى، فكيف بمن كانت العين تقربهم، والنفس تستنير بقربهم، فقدتهم بالعراق والحجاز والجبل والري، وما والى هذه المواضع، وتواتر إلى نعيهم، واستدت الواعية بهم، فهل أنا إلا من عنصرهم؟ وهل لي محيد عن مصيرهم؟ أسأل الله تعالى رب الأولين أن يجعل اعترافي بما أعرفه موصولاً بنزوعي عما أقترفه، إنه قريب مجيب.
وبعد، فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم، ويؤخذ بهديهم، ويعشى إلى نارهم، منهم: أبو عمرو بن العلاء، وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر وورع معروف، دفن كتبه في بطن الأرض فلم يوجد لها أثر.

وهذا داود الطائي، وكان من خيار عباد الله زهداً وفقهاً وعبادة، ويقال له تاج الأمة، طرح كتبه في البحر وقال يناجيها: نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول، وبلاء وخمول.
وهذا يوسف بن أسباط: حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحه فيه وسد بابه، فلما عوتب على ذلك قال: دلنا العلم في الأول ثم كاد يضلنا في الثاني، فهجرناه لوجه من وصلناه، وكرهناه من أجل ما أردناه.
وهذا أبو سليمان الداراني جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال: والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك.
وهذا سفيان الثوري: مزق ألف جزء وطيرها في الريح وقال: ليت يدي قطعت من ها هنا ولم أكتب حرفاً.
وهذا شيخنا أبو سعيد السيرافي سيد العلماء قال لولده محمد: قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار. وماذا أقول وسامعي يصدق أن زماناً أحوج مثلي إلى ما بلغك، لزمان تدمغ له العين حزناً وأسى، ويتقطع عليه القلب غيظاً وجوىً وضنىً وشجىً، وما يصنع بما كان وحدث وبان، إن احتجت إلى العلم في خاصة نفسي فقليل، والله تعالى شافٍ كافٍ، وإن احتجت إليه للناس ففي الصدر منه ما يملأ القرطاس بعد القرطاس، إلى أن تفى الأنفاس بعد الأنفاس، (ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون). فلم تعنّى عيني أيدك الله بعد هذا بالحبر والورق والجلد والقراءة والمقابلة والتصحيح وبالسواد والبياض، وهل أدرك السلف الصالح في الدين الدرجات العلى إلا بالعمل الصالح، وإخلاص المعتقد والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا وخدع بالزبرج، وهوى بصاحبه إلى الهبوط؟ وهل وصل الحكماء القدماء إلى السعادة العظمى إلا بالاقتصاد في السعي، وإلا بالرضا بالميسور، وإلا ببذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم، فأين يذهب بنا وعلى أي باب نحط رحالنا؟؟ وهل جامع الكتب إلا كجامع الفضة والذهب؟ وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما؟ وهل المغرم بحبها إلا كمكاثرهما؟ هيهات، الرحيل والله قريب، والثواء قليل، والمضجع مقض والمقام ممض، والطريق مخوف والمعين ضعيف، والاغترار غالب، والله من وراء هذا كله طالب، نسأل الله تعالى رحمة يظلنا جناحها، ويسهل علينا في هذه العاجلة غدوها ورواحها، فالويل كل الويل لمن بعد عن رحمته بعد أن حصل تحت قدره، فهذا هذا، ثم إني - أيدك الله - ما أردت أن أجيبك عن كتابك لطول جفائك، وشدة التوائك عمن لم يزل على رأيك مجتهداً وفي محبتك على قربك ونأيك، مع ما أجده من انكسار النشاط وانطواء الانبساط لتعاود العلل علي وتخاذل الأعضاء مني، فقد كل البصر وانعقد اللسان وجمد الخاطر وذهب البيان، وملك الوسواس وغلب اليأس من جميع الناس، ولكني حرست منك ما أضعته مني، ووفيت لك بما لم تف به لي، ويعز علي أن يكون لي الفضل عليك، أو أحرز المزية دونك، وما حداني على مكاتبتك إلا ما أتمثله من تشوقك إلي وتحرقك علي، وأن الحديث الذي بلغك قد بدد فكرك، وأعظم تعجبك، وحشد عليك جزعك، والأول يقول:
وقد يجزع المرء الجليد ويبتلى ... عزيمة رأى المرء نائبة الدهر
تعاوده الأيام فيما ينوبه ... فيقوى على أمرٍ ويضعف عن أمر
على أني لو علمت في أي حال غلب علي ما فعلته، وعند أي مرض وعلى أية عسرة وفاقةٍ لعرفت من عذري أضعاف ما أبديته، واحتججت لي بأكثر مما نشرته وطويته، وإذا أنعمت النظر تيقنت أن لله جل وعز في خلقه أحكاماً لا يعاز عليها ولا يغالب فيها، لأنه لا يبلغ كنهها ولا ينال غيبها، ولا يعرف قابها ولا يقرع بابها، وهو تعالى أملك لنواصينا، وأطلع على أدانينا وأفاصينا، له الخلق والأمر، وبيده الكسر والجبر، وعلينا الصمت والصبر إلى أن يوارينا اللحد والقبر، والسلام. إن سرك جعلني الله فداك أن تواصلني بخبرك، وتعرفني مقر خطابي هذا من نفسك فافعل، فإني لا أدع جوابك إلى أن يقضي الله تعالى تلاقياً يسر النفس، ويذكر حديثنا بالأمس، أو بفراق نصير به إلى الرمس، ونفقد معه رؤية هذه الشمس، والسلام عليك خاصاً بحق الصفاء الذي بيني وبينك، وعلى جميع إخوانك، عاماً بحق الوفاء الذي يجب علي وعليك، والسلام.
وكتب هذا الكتاب في شهر رمضان سنة أربعمائة.

قال أبو حيان في كتاب أخلاق الوزيرين في تصنيفه: طلع ابن عباد علي يوماً في داره وأنا قاعد في كسر إيوان أكتب شيئاً قد كان كأدني به، فلما أبصرته قمت قائماً فصاح بحلق مشقوق: اقعد فالوراقون أخس من أن يقوموا لنا، فهممت بكلام فقال لي الزعفراني الشاعر: اسكت فالرجل رفيع، فغلب علي الضحك واستحال الغيظ تعجباً من خفته وسخفه، لأنه كان قد قال هذا وقد لوى شدقه، وشنج أنفه وأمال عنقه، واعترض على انتصابه وانتصب في اعتراضه، وخرج في تفكك مجنون قد أفلت من دير جنون، والوصف لا يأتى على كنه هذه الحال، لأن حقائقها لا تدرك إلا باللحظ، ولا يؤتى عليها باللفظ، فهذا كله من شمائل الرؤساء وكلام الكبراء، وسيرة أهل العقل والرزانة لا والله، وترباً لمن يقول غير هذا.
وحدث أبو حيان قال: قال الصاحب يوماً فعل وأفعال قليل، وزعم النحويون أنته ما جاء إلا زند وأزناد، وفرخ وأفراخ، وفرد وأفراد.. فقلت له: أنا أحفظ ثلاثين حرفاً كلها فقل وأفعال، فقال: هات يا مدعي، فسردت الحروف ودللت على مواضعها من الكتب ثم قلت: ليس للنحوي أن يلزم مثل هذا الحكم إلا بعد التبحر والسماع الواسع، وليس للتقليد وجه إذا كانت الرواية شائعة والقياس مطرداً وهذا كقولهم: فعيل على عشرة أوجه، وقد وجدته أنا يزيد على أكثر من عشرين وجهاً وما انتهيت في التتبع إلى أقصاه. فقال: خروجك من دعواك في فعل يدلنا على قيامك في فعيل ولكن لا نأذن لك في اقتصاصك، ولا نهب آذاننا لكلامك، ولم يف ما أتيت به بجرأتك في مجلسنا، وتبسطك في حضرتنا فهذا كما ترى.
قال أبو حيان: وأما حديثي معه يعني مع ابن عباد، فإنني حين وصلت إليه. قال لي: أبو من؟ قلت: أبو حيان. فقال: بلغني أنك تتأدب، فقلت: تأدب أهل الزمان. فقال: أبو حيان ينصرف أو لا ينصرف؟ قلت: إن قبله مولانا لا ينصرف، فلما سمع هذا تنمر وكأنه لم يعجبه، وأقبل على واحد إلى جانبه وقال له بالفارسية سفهاً على ما قيل لي ثم قال: الزم دارنا وانسخ هذا الكتاب. فقلت: أنا سامع مطيع، ثم إني قلت لبعض الناس في الدار مسترسلاً: إنما توجهت من العراق إلى هذا الباب وزاحمت منتجعي هذا الربيع لأتخلص من حرفة الشؤم، فإن الوراقة لم تكن ببغداد كاسدة، فنمى إليه هذا أو بعضه أو على غير وجهه فزاده تنكراً.
قال أبو حيان:وقال لي ابن عباد يوماً يا أبا حيان: من كناك بأبي حيان؟ قلت: أجل الناس في زمانه، وأكرمهم في وقته، قال: ومن هو ويلك؟ قلت: أنت، قال: ومتى كان ذلك؟ قلت: حين قلت يا أبا حيان من كناك أبا حيان، فأضرب عن هذا الحديث وأخذ في غيره على كراهة ظهرت عليه.
قال: وقال لي يوماً آخر - وهو قائم في صحن داره والجماعة قيام منهم الزعفراني وكان شيخاً كثير الفضل جيد الشعر ممتع الحديث، والتميمي المعروف بسطل وكان من مصر، والأقطع وصالح الوراق وابن ثابت وغيرهم من الكتاب والندماء - : يا أبا حيان: هل تعرف فيمن تقدم من يكنى بهذه الكنية؟ قلت: نعم من أقرب ذلك أبو حيان الدارمي.
حدثنا أبو بكر محمد بن محمد القاضي الدقاق قال: حدثنا ابن الأنباري قال: حدثنا أبي حدثنا ابن ناصح قال: دخل أبو الهذيل العلاف على الواثق فقال له الواثق: لمن تعرف هذا الشعر؟:
سباك من هذشم سليل ... ليس إلى وصله سبيل
من يتعاط الصفات فيه ... فالقول في صفه فضول
للحسن في وجهه هلال ... لأعين الخلق لا يزول
وطرة ما يزال فيها ... لنور بدر الدجى مقيل
ما اختال في صحن قصر أوس ... إلا ليسجى له قتيل
فإن يقف فالعيون نصب ... وإن تولى فهن حول
فقال أبو الهذيل: يا أمير المؤمنين، هذا لرجل من أهل البصرة يعرف بأبي حيان الدارمي، وكان يقول بإمامة المفضول، وله من كلمة يقول فيها:
أفضله والله قدمه على ... صحابته بعد النبي المكرم
بلا بغضة والله مني لغيره ... ولكنه أولاهم بالتقدم
وجماعة من أصحابنا قالوا: أنشد أبو قلابة عبد الله ابن محمد الرقاشي لأبي حيان البصري:
يا صاحبي دعا الملام وأقصرا ... ترك الهوى يا صاحبي خساره
كم لمت قلبي كي يفيق فقال لي ... لجت يمين ما لها كفاره

ألا أفيق ولا أفتر لحظة ... إن أنت لم تعشق فأنت حجاره
ألحب أول ما يكون بنظرة ... وكذا الحريق بداؤه بشراره
يا من أحب ولا أسمى باسمها ... إياك أعنى فاسمعي يا جاره
فلما وفيت الشعر ورويت الإسناد وريقي بليل ولساني طلق ووجهي متهلل، وقد تكلفت هذا وأنا في بقية من غرب الشباب وبعض ريعانه، وملأت الدار صياحاً بالرواية والقافية، فحين انتهيت أنكرت طرفه، وعلمت سوء موقع ما رويت عنده، قال: ومن تعرف أيضاً، قلت ابن الجعابي الحافظ، يكنى بأبي حيان، رجل صدق وهو يروي عن التابعين. قال: ومن تعرف أيضاً؟ قلت: روى الصولي فيما حدثنا عنه المرزباني أن معاوية لما احتضر أنشد يزيد عند رأسه متمثلاً:
لو أن حيا نجا لفات أبو ... حيان لا عاجز ولا وكل
الحول القلب الأريب وهل ... يدفع صرف المنية الحيل؟
قال الصولي: وهذا كان من المعمرين المغفلين، وانتهى الحديث من غير هشاشة ولا هزة ولا أريحية، بل على اكفهرار وجه ونبو طرف وقلة تقبل، وجرت أشياء أخر كان عقباها أني فارقت بابه سنة سبعين وثلاثمائةٍ راجعاً إلى مدينة السلام بغير زاد ولا راحلة، ولم يعطني في مدة ثلاث سنين درهماً واحداً ولا ما قيمته درهم واحد، احمل هذا على ما أردت، ولما نال مني هذا الحرمان الذي قصدني به وأحفظني عليه، وجعلني من جميع غاشيته فرداً أخذت أملي في ذلك بصدق القول عنه وسوء الثناء عليه، والبادئ أظلم، وللأمور أسباب، والأسباب أسرار، والغيب لا يطلع عليه ولا قارع لبابه.
قال أبو حيان: قال لي الصاحب يوماً - وهو يحدث عن رحلٍ أعطاه شيئاً فتلكأ في قبوله - : ولا بد من شيء يعين على الدهر ثم قال: سألت جماعةً عن صدر هذا البيت فما كان عندهم ذلك. فقلت: أنا أحفظ ذاك، فنظر بغضب فقال: ما هو؟ قلت: نسيت، فقال: ما أسرع ذكرك من نسيانك! قلت: ذكرته والحال سليمة، فلما استحالت عن السلامة نسيت. قال: وما حيلولتها؟ قلت: نظر الصاحب بغضب فوجب في حسن الأدب ألا يقال ما يثير الغضب. قال: ومن تكون حتى نغضب عليك؟ دع هذا وهات، قلت قول الشاعر:
ألام على أخذ القليل وإنما ... أصادف أقواماً أقل من الذر
فإن أنا لم آخذ قليلاً حرمته ... ولا بد من شيء يعين على الدهر

فسكت. قال أبو حيان عند قربه من فراغ كتابه في ثلب الوزرين وقد حكى عن ابن عباد حكايات وأسندها إلى من أخبره بها عنه ثم قال: فما ذنبي أكرمك الله إذا سألت عنه مشايخ الوقت وأعلام العصر؟ فوصفوه بما جمعت لك في هذا المكان، على أني قد سترت شيئاً كثيراً من مخازيه إما هرباً من الإطالة، أو صيانةً للقلم عن رسم الفواحش وبث الفضائح، وذكر ما يسمج مسموعه. ويكره التحدث به، وهذا سوى ما فاتني من حديثه فإني فارقته سنة سبعين وثلاثمائة. وما ذنبي أن ذكرت عنه ما جرعنيه من مرارة الخيبة بعد الأمل، وحملني عليه من الإخفاق بعد الطمع، مع الخدمة الطويلة والوعد المتصل والظن الحسن، حتى كأني خصصت بخساسته وحدي، أو وجب أن أعامل به دون غيري، قدم إلي نجاح الخادم وكان ينظر في خزانة كتبه ثلاثين مجلدة من رسائله وقال: يقول لك مولانا: انسخ هذا فإنه قد طلب منه بخراسان. فقلت بعد ارتياءٍ: هذا طويل، ولكن لو أذن لي لخرجت منه فقراً كالغرر، وشذوراً كالدرر، تدور في المجالس كالشمامات والدستنبوبهات، لو رقي بها مجنون لأفاق، أو نفث على ذي عاهة لبرأ، لا تمل ولا تستغث، ولا تعاب ولا تسترك، فرفع ذلك إليه وأنا لا أعلم فقال: طعن في رسائلي وعابها، ورغب عن نسخها وأزرى بها، والله لينكرن مني ما عرف، وليعرفن حظه إذا انصرف، حتى كأني طعنت في القرآن، أو رميت الكعبة بخرق الحيض، أو عقرت ناقة صالح، أو سلحت في بئر زمزم، أو قلت كان النظام مأبوناً، أو مات أبو هاشم في بيت خمار، أو كان عباد معلم صبيان. وما ذنبي يا قوم إذا لم أستطع أن أنسخ ثلاثين مجلدة من هذا الذي يستحسن هذا الكلب؟ حتى أعذره في لومي على الامتناع، أينسخ إنسان هذا القدر وهو يرجو بعدها أن يمتعه الله ببصره؟ أو ينفعه ببدنه؟. وما ذنبي إذا قال لي: من أين لك هذا الكلام المفوف المشوف الذي تكتب به إلي في الوقت بعد الوقت؟ فقلت: وكيف لا يكون كما وصف مولانا؟ وأنا أقطف ثمار رسائله، وأستقي من قليب علمه، وأشيم بارقة أدبه، وأرد ساحل بحره، وأستوكف قطر مزنه، فيقول: كذبت وفجرت لا أم لك، ومن أين في كلامي الكدية والشحذ والتضرع والاسترحام؟ كلامي في السماء، وكلامك في السماد، هذا - أيدك الله - وإن كان دليلاً على سوء جدي، فإنه دليل أيضاً على انخلاعه وخرقه، وتسرعه ولؤمه، وانظر كيف تستحيل معي عن مذهبه الذي كان هو عرقه النابض، وسوسه الثابت، وديدنه المألوف، وهذا أجراني مجرى التاجر المصري والشاذباشي وفلان وفلان، بل ما ذنبي إذا قال لي: هل وصلت إلى ابن العميد أبي الفتح؟ فأقول: نعم، رأيته وحضرت مجلسه وشاهدت ما جرى له، وكان من حديثه فيما مدح به كذا وكذا، وفيما تقدم منه كذا وكذا، وفيما تكلفه من تقديم أهل العلم واختصاص أرباب الأدب كذا وكذا، ووصل أبا سعيدٍ السيرافي بكذا وكذا، ووهب لأبي سليمان المنطقي كذا وكذا فينزوي وجهه، وينكر حديثه، وينجذب إلى شيء آخر ليس مما شرع فيه ولا مما حرك له ثم يقول: أعلم أنك إنما انتجعته من العراق، فاقرأ علي رسالتك التي توسلت إليه بها وأسهبت مقرظاً له فيها، فأتمانع فيأمر ويشدد فأقرأها فيتغير ويذهل وأنا أكتبها لك ليكون زيادة في الفائدة:

بسم الله الرحمن الرحيم: اللهم هيئ لي من أمري رشداً، ووفقني لمرضاتك أبداً، ولا تجعل الحرمان علي رصداً، أقول وخير القول ما انعقد بالصواب، وخير الصواب ما تضمن الصدق، وخير الصدق ما جلب النفع، وخير النفع، ما تعلق بالمزيد، وخير المزيد ما بدا عن الشكر، وخير الشكر، ما بدا عن إخلاص، وخير الإخلاص ما نشأ عن اتفاق، وخير الاتفاق ما صدر عن توفيق، لما رأيت شبابي هرماً بالفقر، وفقري غنياً بالقناعة، وقناعتي عجزاً عند أهل التحصيل، عدلت إلى الزمان أطلب إليه مكاني فيه وموضعي منه، فرأيت طرفه نابياً، وعنانه عن رضاي منثنياً، وجانبه في مرادي خشناً، وارتقائي في أسبابه نائياً، والشامت بي على الحدثان متمادياً، طمعت في السكوت تجلداً، وانتحلت القناعة رياضةً، وتألفت شارد حرصي متوقفاً، وطويت منشور أملي متنزهاً، وجمعت شتيت رجائي سالياً، وادعيت الصبر مستمراً، ولبست العفاف ضناً، واتخذت الانقباض صناعة، وقمت بالعلاء مجتهداً، هذا بعد أن تصفحت الناس فوجدتهم أحد رجلين: رجل إن نطق عن غيظ ودمنةٍ وإن سكت سكت عن ضغن وإحنةٍ، ورجل إن بذل كدر بامتنانه بذله، وإن منع حسن باحتياله بخله، فلم يطل دهري في أثنائه، متبرحاً بطول الغربة وشظف العيش، وكلب الزمان وعجف المال، وجفاء الأهل وسوء الحال، وعادية العدو وكسوف البال، متحرقاً من الحنق على لئيم لا أجد مصرفاً عنه، متقطعاً من الشوق إلى كريم لا أجد سبيلاً إليه، حتى لاحت لي غرة الأستاذ فقلت: حل بي الويل، وسال بي السيل، أين أنا عن ملك الدنيا، والفلك الدائر بالنعمى؟ أين أنا من مشرق الخير ومغرب الجميل؟ أين أنا من بدر البدور وسعد السعود؟ أين أنا عمن يرى البخل كفراً صريحاً، والإفضال ديناً صحيحاً؟ أين أنا عن سماء لا تفتر عن الهطلان، وعن بحر لا يقذف إلا باللؤلؤ والمرجان؟ أين أنا من فضاء لا يشق غباره، وعن حرم لا يضام جاره؟ أين أنا عن منهل لا صدر لفراطه، ولا منع لوراده؟ أين أنا عن ذوب لا شوب فيه، وعن صوب لا جدد دونه؟ بل أين أنا عمن أتى بنبوة الكرم، وإمامة الإفضال، وشريعة الجود، وخلافة البذل، وسياسة المجد، بشيمةٍ مشيمة البوارق، ونفس نفيسة الخلائق؟ أين أنا عن الباع الطويل، والأنف الأشم، والمشرب العذب، والطريق الأمم؟ لم لا أقصد بلاده؟ لم لا أقتدح زناده؟ لم لا أنتجع جنابه وأرعى مزاده؟ لم لا أسكن ربعه؟ لم لا أستدعي نفعه؟ لم لا أخطب جوده وأهتصر عوده؟ لم لا أستمطر سحابه؟ لم لا أستسقي ربابه؟ لم لا أستميح نيله وأستسحب ذيله؟ ولا أحج كعبته، وأستلم ركنه؟ لم لا أصلي إلى مقامه مؤتماً بإمامه؟ لم لا أسبح ببنانه متقدساً؟
فتىً صيغ من ماء الشبيبة وجهه ... فألفاظه جود وأنفاسه مجد
لم لا أقصد فتىً للجود في كفه من البحر عينان نضاختان؟ لم لا أمتري معروف
فتىً لا يبالي أن يكون بجسمه ... إذا نال خلات الكرام شحوب
لم لا أمدح
فتىً يشتري حسن المقال بروحه ... ويعلم أعقاب الأحاديث في غد؟

نعم لم لا أنتهي من تقريظ فتىً لو كان من الملائكة لكان من المقربين، ولو كان من الأنبياء لكان من المرسلين، ولو كان من الخلفاء لكان نعته اللائذ بالله، أو المنصف في الله، أو المعتضد بالله، أو المنتصب لله، أو الغاضب لله أو الغالب بالله، أو المرضي لله، أو الكافي بالله، أو الطالب بحق الله، أو المحيي لدين الله. أيها المنتجع قرن كلئه، المختبط ورق نعمته، ارع عريض البطان، متفيئاً بظله ناعم البال، متعوذاً بعزه، وعش رخي لحال، معتصماً بحبله، ولذ بداره آمن السرب، وامحض وده بآنية القلب، وق نفسك من سطوته بحسن الحفاظ، وتخير له ألطف المدح، تفز منه بأيمن قدح، ولا تحرم نفسك بقولك: إني غريب المثوى نازح الدار، بعيد النسب منسي المكان، فإنك قريب الدار بالأمل، داني النجح بالقصد، رحيب الساحة بالمنى، ملحوظ الحال بالجد، مشهور الحديث بالدرك. واعلم علماً يلتحم باليقين، وتدرأ من الشك أنه معروف الفخر بالمفاخر، مأثور الأثر بالمآثر، قد أصبح واحد الأنام تاريخ الأيام، أسد الغياض يوم الوغى، نور الرياض يوم الرضا، إن حرك عند مكرمة تحرك غصناً تحت بارحٍ، وإن دعي إلى اللقاء دعي ليثاً فوق سابح، وقل إذا أتيته بلسان التحكم: أصلح أديمي فقد حلم، وجدد شبابي فقد هرم، وأنطق لساني في اصطناعي، فقد شردت صحائف النجح عند انتجاعي، ورش عظمي فقد براه الزمان، واكس جلدي فقد عراه الحدثان، وإياك أن تقول: يا مالك الدنيا جد لي ببعض الدنيا فإنه يحرمك، ولكن قل: يا مالك هب لي الدنيا، اللهم فأحي به بلادك، وأنعش برحمته عبادك، وبلغه مرضاتك، وأسكنه فردوسك، وأدم له العز النامي، والكعب العالي، والمجد التليد والجد السعيد، والحق الموروث، والخير المبثوث، والولي المنصور، والشانئ المبتور، والدعوة الشاملة والسجية الفاضلة، والسرب المحروس، والربع المأنوس، والجناب الخصيب، والعدو الحريب، والمنهل القريب، واجعل أولياءه بازلين لطاعته، ناصرين لأعزته، ذابين عن حرمه، والقمر المنير بالجمال، والنجم الثاقب بالعلم، والكوكب الوقاد بالجود، والبحر الفياض بالمواهب، سقط العشاء بعبدك على سرحك، فاقره من نعمتك بما يضاهي قدرك وقدرتك، وزوج هبة ربها من الغنى، فطالما خطب كفؤها من المنى. ثم يقال لي من بعد: جنيت على نفسك حين ذكرت عدوه عنده بخير، وأثنيت عليه وجعلته سيد الناس. فأقول: كرهت أن تراني متذرباً على عرض رجل عظيم الخطب، غير مكترث بالوقيعة فيه والإنحاء عليه، وقد كان يجوز أن أشعث من ذلك شيئاً، وأبرى من أثلته جانباً، وأطير إلى جنبه شرارة، فيقال أيضاً: جنيت على نفسك، تركت الاحتياط في أمرك، فإنه مقتك وعافك، ورأى أنك في قولك عدوت طورك، وجهلت قدرك، ونسيت وزرك، وليس مثلك من هجم على ثلب من بلغ رتبة ذلك الرجل، وإنك متى جسرت على هذا وزنت به، وجعلت غيره في قرنه، فإذا كانت هذه الحالات ملتبسة، وهذه العواقب مجهولةً، فهل يدور العمل بعدها إلا على الإحسان الذي هو علة المحبة؟ والمحبة التي هي علة الحمد، والإساءة التي هي علة البغض، والبغض الذي هو علة الذم، فهذا هذا.
وقال: كان ابن عباد شديد الحسد لمن أحسن القول وأجاد اللفظ، وكان الصواب غالباً عليه، وله رفق في سرد حديث، ونيقة في رواية، وله شمائل مخلوطة بالدماثة بين الإشارة والعبارة، وهذا شيء عام في البغداديين، وكالخاص في غيرهم.
حدثت ليلة بحديث فلم يملك نفسه حتى ضحك واستعاده ثم قيل لي بعده إنه كان يقول: قاتل الله ابن حيان فإنه نكد، وإنه وإنه وإنه - وأكره أن أروي ذمي بقلمي - وكان ذلك كله حسداً وغيظاً بحتاً، وأنا أروي لك الحديث فإنه في نهاية الطيب، وفيه فكاهة ظاهرة وعي عجيب، في معرض بلاغة ظريفة في ملبس فهاهة.

حدثني القاضي أبو الحسن الجراحي قال: لحقني مرة علة صعبة فمن طريف ما مر على رأسي، ودخل في جملة من عادني، شيخ الشونيزية، ودوارة الحمار، والتوثة، وفقيهها أبو الجعد الأنباري، وكان من كبار أصحاب الزنهاري فقال أول ما قعد: يقع لي فيما لا يقع لغيري، أو لمثلي فيمن كان كأنه مني، أو كأنه كان على سني، أو كان معروفاً بما لا يعرف به إلاي، إلا أني أنك لا تحتمي إلا حمية فوق ما يجب، ودون ما لا يجب، وبين فوق ما لا يجب، وبين دون ما لا يجب، فرق، الله يعلم أنه لا يعلم أحد ممن يعلم، أو لا يعلم الطب كله أن يحتمي حمية، بين حميتين، حمية كلا حمية، ولا حمية كحمية، وهذا هو الاعتدال والتعديل، والتعادل والمعادلة، قال الله تعالى: (وكان بين ذلك قواما) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الأمور أوسطها، وشرها إطرافها)، والعلة في الجملة والتفصيل إذا أدبرت لم تقبل، وإذا أقبلت لم تدبر، وأنت من إقبالها في خوف ومن إدبارها في التعجب، وما يصنع هذا كله؟ لا تنظر إلى اضطراب الحمية عليك، ولكن انظر إلى جهل هؤلاء الأطباء الألباء الذين يشقون الشعر شقاً، ويدقون البعر دقاً، ويقولون ما يدرون وما لا يدرون زرقاً وحمقاً، وإلى قلة نصحهم مع جهلهم، ولو لم يجهلوا إذا لم ينصحوا كان أحسن عند الله والملائكة، ولو نصحوا إذا جهلوا كان أولى عند الناس وأشباه الناس والله المستعان، وأنت في عافية ولكن عدوك ينظر إليك بعين الاست فيقول: وجهه وجه من قد رجع من القبر بعد عدو على كل حال، فالرجوع من القبر خير من الرجوع إلى القبر، لعن الله القبر، لا خباز ولا بزاز ولا رزاز ولا كواز (إنا لله وإنا إليه راجعون) عن قريب إن شاء الله. (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت)، وقال جل شأنه: (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير، ومن الجبال جدد بيض وحمر). تأمر بشيءٍ السنة في العيادة خاصة، عيادة الكبار والسادة التخفيف والتطفيف، وإنا إن شاء الله عندك بالعشي والحق، والحق أقوام ما يجب على مثلك لمثلي، كان ليس لك مثل ولا مثلي أيضاً مثل هكذا إلى باب الشام إلى قنطرة الشوك وإلى المندفة أقول لك المستوي، لا أنا ولا أنت اليوم كمثل كمثراتين إذا علقتا على رأس شجرة، وكدلوين إذا خلقا على رأس بئر، ودع ذا القارورة، اليوم لا إله إلا الله، وأمس كان سبحان الله، وغداً يكون شيئاً آخر، وبعد غد ترى من ربك العجب، والموت والحياة بعون الله، ليس هذا مما يباع في السوق، أو يوجد مطروحاً في الطريق، وذاك أن الإنسان - ولا قوة إلا بالله - طريف أعمى كأنه ما صح له منام قط، ولا خرج من السمارية إلى الشط، وكأنه ما رأى قدرة الله في البط، إذا لفظ كيف يقول قط قط، والكلام في الإنسان وعمى قلبه وسخنة عينه قل غفر له، ولا يسلم في هذه الدار إلا من عصر نفسه عصرة ينشق منها فيموت كأنه شهيد، وهذا صعب لا يكون إلا بتوفيق الله وبعض خذلانه الغريب، على الله توكلنا وإليه التفتنا ورضينا، وبه استجرنا، إن شاء أخذ لنا، وإن شاء أطعمنا.
قال القاضي: فكدت أموت من الضحك على ضعفي وما زال كلامه بهذا إلى أن خرجت على الناس وكان مع هذا لا يعيا ولا يقف ولا يكل وكان من عجائب الزمان. وختم أبو حيان كتابه في أخلاق الوزيرين بعد أن اعتذر عن فعله ثم قال: وإني لأحسد الذي يقول:
أعد خمسين حولاً ما على يد ... لأجنبيٍ ولا فضل لذي رحم
ألحمد لله شكراً قد قنعت فلا ... أشكو لئيماً ولا أطري أخا كرم
لأني كنت أتمنى أن أكونه، ولكن العجز غالب لأنه مبذور في الطينة، ولقد أحسن الآخر حين قال:
ضيق العذر في الضراعة إنا ... لو قنعنا بقسمنا لكفانا
ما لنا نعبد العباد إذا كا ... ن إلى الله فقرنا وغنانا؟
وأدعو ههنا بما دعا به بعض النساك: اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسترزق أهل رزقك، ونسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى، وذم من منع، وأنت من دونهم ولي الإعطاء، وبيدك خزائن الأرض والسماء يا ذا الجلال والإكرام.

ومن كتاب المحاضرات لأبي حيان قال: قصدت أنا والنصيبي رجلاً من أبناء لنعم والموصوفين بالكرم، ولا يرد سائليه، ولا يخيب آمليه، والألسن متفقة على جوده وتطوله، والعيون شاخصة إلى عطاياه وفضله، له في السنة مبار كثيرة على أهل العلم وأهل البيوتات، ومن قعد به الزمان وجفاه الإخوان، فلم نصادفه في منزله، وقصدناه ثانياً فمنعنا من الدخول إليه، وقصدناه ثالثاً فذكر أنه ركب، وقصدناه رابعاً فقيل هو في الحمام، وقصدناه خامساً فقيل هو نائم، وقصدناه سادساً فقيل عنده صاحب البريد وهو مشغول معه بمهم، وقصدناه سابعاً فذكر أنه رسم ألا يؤذن لأحد، وقصدناه ثامناً فذكر أنه يأكل ولا يجوز الدخول إليه بوجه ولا سبب، وقصدناه تاسعاً فذكر أن أحد أولاده سقط من الدرجة وهو مشغول به عند رأسه وما يفارقه، وقصدناه العاشر فذكر أنه مستعد لشرب الدواء، وقصدناه الحادي عشر فذكر أنه تناول الدواء من يومين، وما عمل عملاً وقد قواه اليوم بما يحرك الطبيعة، وقصدناه الثاني عشر فقيل إلى الآن كان جالساً ونهض في هذه الساعة ودخل إلى الحجرة، وقصدناه الثالث عشر فقيل دعي إلى الدار لمهم، وقصدناه الرابع عشر فألفيناه في الطريق يمضي إلى دار الإمارة، وقصدناه الخامس عشر فسهل لنا الإذن ودخلنا في غمار الناس، والناس على طبقاتهم جلوس وجماعة قيام يرتبون الناس ويخدمونهم وقد اتفق له عزاء، وشغل بغيرنا وبقينا في صورة من احتقان البول والجوع والعطش وما أقمنا في جملة من يقام، فقال لي النصيبي: هذا اليوم الذي قد ظفرنا به وتمكنا من دخول داره صار عظيم المصيبة علينا، ليس لنا إلا مهاجرة بابه والإعراض عنه، وقمع النفس الدنية بالطمع في غيره، فقلت له: قد تعبنا وتبذلنا على بابه، والأسباب التي قد اتفقت فمنعت من رؤيته كانت عذراً واضحاً ويتفق مثل هذا، فإذا انقضت أيام التعزية قصدناه، وربما نلنا من جهته ما نأمله، فقصدناه بعد ذلك أكثر من عشرين مرة، وقلما اتفق فيها رؤيته وخطابه حتى مل النصيبي فقال: لو علمت أن داره الفردوس، والحصول عنده الخلود فيها، وكلامه رضا الله تعالى وفوز الأبد لما قصدته بعد ذلك، وأنشأ يقول:
طلب الكريم ندى يد المنكود ... كالغيث يستسقى من الجلمود
فافزع إلى عز الفراغ ولذ به ... إن السؤال يريد وجه حديد
فأجبته أنا وعيناي بالدموع تترقرق لما بان لي من حرقتي، ونبو الدهر بي وضياع سعيي، وخيبة أملي في كل من أرتجيه لملم أو مهم، أو حادثة أو نائبة:
دنيا دنت من عاجز وتباعدت ... عن كل ذي لب له خطر
سلمت على أربابها حتى إذا ... وصلت إلي أصابها الحصر
قال أبو حيان في كتاب الوزيرين: جرى بيني وبين أبي علي مسكويه شيء، قال مرة: أما ترى إلى خطأ صاحبنا - وهو يعني ابن العميد في إعطائه فلاناً ألف دينار ضربة واحدة - لقد أضاع هذا المال الخطير فيمن لا يستحق، فقلت بعد ما أطال الحديث وتقطع بالأسف. أيها الشيخ، أسألك عن شيء واحد، فاصدق فإنه لا مدب للكذب بيني وبينك: لو غلط صاحبك فيك بهذا العطاء وبأضعافه وأضعاف أضعافه، أكنت تخيله في نفسك مخطئاً ومبذراً ومفسداً، أو جاهلاً بحق المال؟ أو كنت تقول ما أحسن ما فعل وليته أربى عليه؟ فإن كان الذي تسمع على حقيقة، فاعلم أن الذي يرد ورد مقالك إنما هو الحسد أو شيء آخر من جنسه، وأنت تدعي الحكمة وتتكلف الأخلاق، وتزيف الزائف، وتختار منها المختار، فافطن لأمرك، واطلع على سرك وشرك.

علي بن محمد بن حبيب
الماوردي البصري، يكنى أبا الحسن، ويلقب أقضى القضاة، لقب به في سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وجرى من الفقهاء كأبي الطيب الطبري والصيمري إنكار لهذه التسمية وقالوا: لا يجوز أن يسمى به أحد، هذا بعد أن كتبوا خطوطهم بجواز تقليب جلال الدولة بن بهاء الدولة ابن غضد الدولة بملك الملوك الأعظم، فلم يلتفت إليهم، واستمر له هذا اللقب إلى أن مات، ثم تلقب به القضاة إلى أيامنا هذه، وشرط الملقب بهذا اللقب: أن يكون دون منزلة من تلقب بقاضي القضاة إلى أيامنا هذه على سبيل الاصطلاح، وإلا فألا ولى أن يكون أقضى القضاة أعلى منزلة. ومات الماوردي في سنة خمسين وأربعمائة. وكان عالماً بارعاً متفنناً شافعياً في الفروع، ومعتزلياً في الأصول على مال بلغني والله أعلم.

وكان ذا منزلة من ملوك بني بويه يرسلونه في التوسطات بينهم وبين من يناوئهم، ويرتضون بوساطته ويقفون بتقريراته. قرأت في كتاب سر السرور لمحمود النيسابوري هذين البيتين منسوبين إلى الماوردي هذا:
وفي الجهل قيل الموت موت لأهله ... فأجسادهم دون القبور قبور
إن أمر لم يحى بالعلم صدره ... فليس له حتى النشور نشور
حدث محمد بن عبد الملك الهمداني، وحدثني أبي قال: سمعت الماوردي يقول: بسطت الفقه في أربعة آلاف ورقة، واختصرته في أربعين، يريد بالمبسوط كتاب الحلوى، وبالمختصر كتاب الإقناع، ودرس مكانه خمس سنين قال: ولم أر أوقر منه، ولم أسمع منه مضحكة قط، ولا رأيت ذراعه منذ صحبته إلى أن فارق الدنيا. قلت: وله تصانيف حسان في كل فن، ومنها: كتاب تفسير القرآن، كتاب الأحكام السلطانية، كتاب في النحو رأيته في حجم الإيضاح أو أكبر، كتاب قوانين الوزارة، كتاب تعجيل النصر وتسهيل الظفر.
قرأت في مجموع لبعض أهل البصرة: تقدم القادر بالله إلى أربعة من أئمة المسلمين في أيامه في المذاهب الأربعة، أن يصنف له كل واحد منهم مختصراً على مذهبه، فصنف له الماوردي الإقناع، وصنف له أبو الحسين القدوري مختصره المعروف على مذهب أبي حنيفة، وصنف له القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن محمد بن نصر المالكي مختصراً آخر، ولا أدري من صنف له على مذهب أحمد، وعرضت عليه فخرج الخادم إلى أقضى القضاة الماوردي وقال له: يقول لك أمير المؤمنين: حفظ الله عليك دينك، كما حفظت علينا ديننا. ومن هذا المجموع: كان أقضى القضاة - رحمه الله - قد سلك طريقه في ذوي الأرحام، يورث القريب والبعيد بالسوية، وهو مذهب بعض المتقدمين، فجاءه يوماً الشينيزي في أصحاب القماقم، فصعد إليه المسجد وصلى ركعتين والتفت إليه فقال له: أيها الشيخ، اتبع ولا تبتدع، فقال: بل أجتهد ولا أقلد، فلبس نعله وانصرف.

علي بن محمد بن الحسن بن دينار الديناري
النحوي أبو الحسن، من ولد دينار بن عبد الله. قال ابن طاهر المقدسي: مات سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وأبوه أبو الفتح محمد من أهل العلم والحديث.
علي بن محمدالنحوي الأديب
أبو الحسن الأهوازي النحوي الأديب رأيت له كتاباً في علل العروض، نحو عشر كراريس ضيقة الخط، جيداً في بابه غاية، ولا أعرف من حاله غير هذا.
علي بن محمد الوزان النحوي الحلبي
أبو الحسن، سمع منه أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، وأظنه كان في أيام سيف الدولة بن حمدان، وله كتاب في العروض.
علي بن محمدالبطليوسي
بن السيد النحوي البطليوسي أبو الحسن، ويعرف بالخيطال، وهو أخو أبي محمد عبد الله ابن السيد النحوي. روى عن أبي بكر بن الغراب، وأبي عبد الله محمد بن يونس وغيرهما، أخذ عنه أخوه أبو محمد كثيراً من كتب الآداب وغيرها، وكان مقدماً في علم اللغة وحفظها وضبطها، ومات بقلعة رباح معتقلاً من قبل ابن عكاشة قائدها سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
علي بن محمد الأخفش النحوي
لم أجد ذكره إلا على كتاب الفصيح بخط علي بن عبد الله ابن أخي الشبيه العلوي بما صورته: حذق على هذا الكتاب - وهو كتاب الفصيح - أبو القاسم سليمان بن المبارك الخاصة الضرفي - أدام الله أيامه - من أوله إلى آخره قراءة فهم وتصحيح. وقرأت أنا على علي بن عميرة - رحمه الله - في محلة باب البصرة ببغداد عند المسجد الجامع الكبير. وقرأ هو على أبي بكر ابن مقسم النحوي عن أبي العباس ثعلب - رحمه الله - ، وكتب علي بن محمد الأخفش النحوي سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة.
علي بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله
القهندزي أبو الحسن الضرير النحوي الأديب النيسابوري من أصحاب أب عبد الله، شيخ فاضل من الأدباء، سمع الحديث من أبي العباس المناسكي المحاملي وغيره، وسمع منه الناس وقرأ عليه الأئمة وتخرجوا به. قال ذلك عبد الغافر في السياق، قرأ عليه أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي وعده في أعيان مشايخه. وقال الواحدي: كان من أبرع أهل زمانه.
علي بن محمد السعيدي البياري
الأستاذ الأديب أبو الحسن، رجل فاضل من أهل بيت الفضل والأدب، وأما سماع الحديث فقلما يخلو عنه أهل الفضل، قاله عبد الغافر.
علي بن محمد بن علي بن منصور

الحوزي أبو الحسن، الأديب ابن الأديب السقاء، رجل فاضل شاعر كاتب، وسمع الحديث من متأخري الطبقة الثانية ثم من مشايخنا، ومات كهلاً في الثاني من شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين وأربعمائة قال ذلك عبد الغافر.

علي بن محمد بن أرسلان بن محمد الكاتب
أبو الحسن بن أبي علي المنتجب من أهل مرو، كاتب مليح الخط فصيح العبارة، وله شعر وترسل وبلاغة في غاية الحسن، سافر إلى العراق وجال في بلاده، ولعله ما رأى مثل نفسه في فنه، سمع بمرو أبا علي إسماعيل بن أحمد ابن الحسين البيهقي وغيره. قال أبو سعد: اجتمعت معه ببغداد بالمقتدية وكتب لي شيئاً من شعره، وكان حفظة يسمع أربعين بيتاً فيحفظها، اجتمعت فيه أسباب المنادمة والكتابة وصحبة الملوك، له هذا البيت الفرد:
وأما الحشا مني فإني امتحنتها ... وأدنيت منها الجمر فاحترق الجمر
وله:
إذا المرء لم تغن العفاة صلاته ... ولم يرغم القوم العدى سطواته
ولم يرض في الدنيا صديقاً ولم يكن ... شفيعاً له في الحشر منه نجاته
فإن شاء فليهلك وإن شاء فليعش ... فسيان عندي موته وحياته
قتل في الوقعة الخوارزمشاهية بمرو في ربيع الأول سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وله كتاب تعلة المشتاق إلى ساكني العراق. وكان أبوه محمد بن أرسلان أيضاً من الفضلاء النبلاء. وله شعر ورسائل ومدحه الزمخشري ورثاه، وكان يلقب منتجب الملك، فلا أدري أهذا تلقب بلقب أبيه؟ أم يعرف بابن المنتجب. وذكر في تاريخ خوارزم أن منتجب الملك محمد بن أرسلان مات في سنة أربع وثلاثين وخمسمائة أو قريباً منها.
وذكر الزمخشري في شرح مقاماته: أنشدني الكبير المنتجب أبو علي محمد بن أرسلان لنفسه بيتاً لو وقع في شعر المتقدمين لسيرته الرواة، وخلدته الأئمة في كتبهم، وكم من أخوات له ضيعت بضياع الأدب وقلة النقلة، واتضاع الهمم، وتراجع الأمور على أعقابها.
وبرداه مسجوران مثل هجيره ... كأن ليس فيه بكرة وأصيل
قال: وما أظن البردين وقعا مثل هذا الموقع منذ نطق بهما واضع العربية، ومن شعر منتجب الملك محمد بن أرسلان:
قل للمليحة في الخمار الأحمر ... لا تجهري بدمائنا وتستري
مكنت من حب القلوب ولاية ... فملكتها بتعسف وتجبر
إن تنصفي فلك القلوب رعية ... أو تمثعي حق فمن ذا يجتري
سخرتني وسحرتني بنوافث ... فترفقي بمسخر ومسحر
علي بن محمد بن علي بن أحمد بن مروان
العمراني الخوارزمي أبو الحسن الأديب، يلقب حجة الأفاضل وفخر المشايخ، مات فيما يقارب سنة ستين وخمسمائة. ذكره أبو محمد بن أرسلان في تاريخ خوارزم من خطه فقال: العمراني حجة الأفاضل سيد الأدباء، قدوة مشايخ الفضلاء، المحيط بأسرار الأدب، والمطلع على غوامض كلام العرب، قرأ الأدب على فخر خوارزم محمود بن عمر الزمخشري فصار أكبر أصحابه، وأوفرهم حظاً من غرائب آدابه، لا يشق غباره في حسن الحظ واللفظ، ولا يسمح عذاره في كثرة السماع والحفظ، سمع الحديث من فخر خوارزم والإمام عمر الترجماني ولد الإمام أبي الحسن علي بن أحمد المخي، والإمام الحسن بن سليمان الخجندي، والقاضي عبد الواحد الباقرجي وغيرهم، وكان ولوعاً بالسماع كتوباً، وجعل في آخر عمره أيامه مقصورة وأوقاته موقوفة على نشر العلم وإفادته لطالبيه، وإفاضته على الراغبين فيه. فحول العلماء يرجعون إليه ويقرؤون عليه، ويفزعون في حل المشكلات وشرح المعضلات إليه، وهو مع العلم الغزير والفضل الكثير علم في الدين والصلاح المتين، وإنه في الزهادة والسداد وحسن الاعتقاد أطهر أقرانه ذيلاً من العيوب، وأنقاهم جيباً عن اقتراف الذنوب، وكان يذهب مذهب الرأي والعدل، وله شعر حسن، فمن قوله في صباه في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين يعارض قصيدة كعب ابن زهير:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
أضاء برق وسجف الليل مسدول ... كما يهز اليماني وهو مصقول
فهاج وجدي بسعدي وهي نائية ... عني وقلبي بالأشواق متبول
لم يبق لي مذ تولى الظعن باكرة ... صبر، ولم يبق لي قلب ومعقول

مهما تذكرتها فاض الجمان على ... خدي حتى نجاد السيف مبلول
ما أنس لا أنس إذ تجلو عوارضها ... والجفن بالإثمد الهندي مكحول
ظمأى الموشح ريان مخلخلها ... عيل مؤزرها والمتن مجدول
كأنما هي إذ ترخى ذوائبها ... بدر عليها رواق الليل مسدول
كأنما ثغرها در إذا ابتسمت ... وريقها سحراً بالراح معلول
يا حبذا زمن فيه نسر بها ... والشعب ملتئم والحبل موصول
ومنها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
هدى إلى دين إبراهيم أمته ... وكلهم بعقال الشرك معقول
وكل أصحابه أهوى وأمنحهم ... ودي، ومبغضهم في الدين مدخول
وصاحب المصطفى في الغار يتبعه ... وهو الذي ماله في الله مبذول
وتلوه عمر الفاروق أزهر، إن ... رآه إبليس ولى وهو مخذول
وأفتدي بابن عفان الذي فريت ... أوداجه وهو بالقرآن مشغول
وبالوصي ابن عم المصطفى فله ... مناقب جمة في شرحها طول
وإن أقضاهم قد كان أفضلهم ... فانظر فذا عن رسول الله منقول
محبتي لهم ديني ومعتقدي ... فإن أزغ عنهم غالتني الغول
ولهذا الإمام أشعار من هذا النمط ترك الكاغد أبيض حير من تسويده بها، وله تصانيف حسان منها: كتاب المواضع والبلدان، كتاب في تفسير القرآن، كتاب اشتقاق الأسماء.
ومن شعره الذي أورده لنفسه في كتاب البلدان:
رأيتك تدعي علم العروض ... كأنك لست منها في عروض
فكم تزري بشعر مستقيم ... صحيح في موازين العروض
كأنك لم تحط مذ كنت علماً ... بمخبون الضروب ولا العروض

علي بن محمد أبو الحسن السخاوي
وسخا قرية من قرى مصر، كان مبدؤه الاشتغال بالفقه على مذهب مالك بمصر، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي وسكن بمسجد بالقرافة يؤم فيه مدة طويلة، فلما وصل الشيخ أبو القاسم الشاطبي إلى تلك الديار واشتهر أمره، لازمه مدة وقرأ عليه القرآن بالروايات، وتلقن منه قصيدته المشهورة في القراءات، وكان يعلم أولاد الأمير ابن موسك، وانتقل معه إلى دمشق واشتهر بها بعلم القرآن، وعاود قراءة القرآن على تاج الدين أبي اليمن الكندي ولازمه، وقرأ عليه جملة وافرة من سماعاته في الأدب وغيره، وصار له حلقة بالجامع بدمشق، وتردد إليه الناس للتأدب وشرع في التصنيف، فله كتاب الوحيد في شرح القصيد يريد قصيدة الشاطبي، وبسط القول وطول في مجلدتين، كتاب شرح المفصل، كتاب في تفسير القرآن، وكتبت هذه الترجمة في سنة تسع عشرة وستمائة وهو بدمشق كهل يحيا.
علي بن محمد بن علي الفصيحي
أبو الحسن، من أهل أستراباذ وهي مدينة من طبرستان ورأس قصبتها، قرأ النحو على عبد القاهر الجرجاني، وأخذ عنه أبو نزار النحوي والحيص بيص الشاعر.
ومات فيما ذكره السلفي الحافظ يوم الأربعاء ثالث عشر ذي الحجة سنة ست عشرة وخمسمائة، وقدم بغداد واستوطنها إلى حين وفاته، ودرس النحو بالناظمية بعد الشيخ أبي زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي، ثم اتهم بالتشيع فقيل له في ذلك، فقال: لا أجحد، أنا متشيع من الفرق إلى القدم فأخرج من النظامية، ورتب مكانه الشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي، فكان المتعلمون يقصدون داره التي انتقل إليها للقراءة عليه فقال لهم يوماً: داري بكرا، وخبزي بشرا، وقد جئتم تتدحرجون إلي، فاذهبوا إلى من عزلنا به.
وسمي بالفصيحي لكثرة دراسته كتاب الفصيح لثعلب وصار له به أنس، حتى أنه دخل يوماً على مريض يعوده، فقال شفاه، وسبق على لسانه: وأرخيت الستر، لاعتياده كثرة إعادته.
وقد روى الفصيحي عن أبي الحسن الخطيب الأقطع إنشاداً سمعه منه ابن سلفة الأصفهاني الحافظ ببغداد وقال: جالسته وسألته عن أحرف من العربية. وروى عنه في مشيخة بغداد وهو الذي عرفنا أن اسم أبيه محمد، وإلا فلا يعرف إلا بعلي بن أبي زيد الفصيحي فقط.
قرأت في كتاب سرعة الجواب ومداعبة الأحباب تصنيف الحسن بن جعفر بن عبد الصمد بن المتوكل بخطه: أنشدني الشيخ الإمام أبو الحسن علي بن أبي زيد الفصيحي وقد عاتبته على الوحدة فقال:

الله أحمد شاكراً ... فبلاؤه حسن جميل
أصبحت مستوراً معا ... فى بين أنعمه أجول
خلواً من الأحزان خف ... ف الظهر يقنعني القليل
حراً فلا من لمخ ... لوق علي ولا سبيل
لم يشقني حرص على الد ... دنيا ولا أمل طويل
سيان عندي ذو الغنى ال ... متلاف والرجل البخيل
ونفيت باليأس المنى ... عني فطاب لي المقيل
والناس كلهم لمن ... خفت مئونته خليل
ومن كتابه أنشدنا الإمام أبو الحسن علي بن أبي زيد في المذاكرة وقد رقي إليه كلام قبيح عن بعض أصدقائه فقال مستشهداً:
إني إذا ما الخليل أحدث لي ... صرماً ومل الصفاء أو قطعا
لا أحتسي ماءه على رنق ... ولا يراني لبينه جزعا
أهجره ثم ينقضي زمن ال ... هجران عنا ولم أقل قذعا
إحذر وصال اللئيم إن له ... عضهاً إذا حبل ذكره انقطعا
وقرأت بخط الشيخ أبي محمد بن الخشاب، قال الشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد وقد جرى ذكر الشيخ أبي الحسن ابن أبي زيد الأستراباذي المعروف بالفصيحي صاحب عبد القاهر الجرجاني - رحمهم الله - ، قال لي الشيخ أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي - رحمه الله - : إنه حضر معه أعني الفصيحي حلقة يباع فيها الكتب، فنودي على كتاب فيه شيء من مصنفات أبي طالب المفضل بن سلمة بن عاصم وراق الفراء وعليه اسم المفضل منسوباً إلى النحو، فقيل النحوي، فأخذه الفصيحي وناولنيه، يقوله أبو زكريا. وقال لي كلمستهزئ: النحوي، أي قد نسبته إلى النحو وهو عنده مقصر أي لا يستحق هذا الوصف. قال: فقلت: تكون أنت نحوياً ولا يكون المفضل منسوباً إلى النحو.
قال الشيخ أبو محمد: لا شبهة في أن الذي حمل الفصيحي على الغض بهذا القول من المفضل: أنه قد وقف على شيء من كلامه في بعض مصنفاته مما يتسمح به أهل الكوفة مما يراه أهل البصرة خطأ أو كالخطأ، وذاك مما لا يحتمله الفصيحي ولا شيخه عبد القاهر، ولا شيخه ابن عبد الوارث أبو الحسين فيغضوا عليه، لأن طريقتهم التي يسلكونها في الصناعة منحرفة عن طريقة المفضل ومن جرى في أسلوبه كل الانحراف.
قال الشيخ أبو محمد بن الخشاب: وعلي أنني قرأت أنا بخط المفضل في كتابه الذي سماه البارع في الرد على كتاب العين في اللغة أشياء تدل على قصوره في الصناعة وضعفه في قياسها، منها: أنه ذكر الحروف التي جاءت لمعان بعد أن ذكر أبنية الكلام فقال: والحد الثالث من الكلام الأحداث، وهي التي يسميها أهل البصرة حروف المعاني، فيها ما هو على ثلاثة أحرف نحو إن وليت وكيف وأين، فعد كما ترى كيف وأين في حروف المعاني وهذا سهل عندهم، ثم قال: ومنها ما هو على أربعة أحرف نحو حاشا ولولا، ومنها ما هو على خمسة أحرف نحو ما خلا وما عدا. وجعله الحرفين مع ما واحداً، وعده لهما فيما بني من أصول الكلم على خمسة أحرف من أفحش الخطأ وأنزله، ولو وفق لذكر لكن ومثل بها، فليس في حروف المعاني ما هو على خمسة أحرف سوى لكن. ومرت بي فيما قرأته بخطه أشياء غير هذا تجري في التسمح مجراه.

قرأت بخط الشيخ أبي محمد بن الخشاب: كان أبو الحسن علي بن أبي زيد الأستراباذي المعروف بالفصيحي يوقل في الشجة التي تعرف عندهم بالمنقلة، وهي التي تنقل منها العظام إنها المنقله بكسر القاف، ويرى كونها على صيغة الفاعل لا المفعول هو الوجه، ولا يجيز غيره ويقول: الشجاج كلها إنما جاءت على صيغة الفاعل كالحارسة والدامية والدامعة والدامغة والباضعة والمتلاحمة والموضحة والمفرشة وأشباههن. قال: وكذا ينبغي أن تكون المنقلة بكسر القاف وكأنها عنده رواية عضدها قياس. قال: وكان شيخنا موهوب بن أحمد رضي الله عنه ينعى ذلك عليه ويعده تصحيفاً ويضبط اللفظة بفتح القاف على أنها صيغة مفعول ويكتب فوق القاف ما هذه صورته: فتح. ويقول: أي قياس مع الرواية هذا؟ وهي تنقل منها العظام فيتعلق أيضاً بالتفسير، ولعمري إن الأشهر فيها الفتح وهذا ذكره أبو عبيد وابن السكيت عن الأصمعي. قال: ثم المنقلة وهي التي يخرج منها العظام، وكان شيخنا موهوب رحمه الله يرى الكسر في قاف المنقلة تصحيفاً محضاً لا وجه له، على أن أبا محمد ابن درستويه قد حكى عنه الكسر كما قال الفصيحي.
قال: وقرأت بخط العبدري وأخبرني به في كتابه قال: سمعت محمد بن العال اللغوي يقول: رويت بالوجهين معاً. وحكى العبدري الكسر عن ابن درستويه أيضاً، ولست أدري هل تعلق الفصيحي فيما ذهب إليه بقول ابن درستويه أو غيره ممن لعله حكى الكسر أم لا؟ وهل رغب شيخنا موهوب عن الكسر بعد أن علم أنه قد حكي ولم يعتد بمكانة من حكاه أم لا؟ والأشبه أنه لا يكون بلغه، فإنه قلما كان يدفع قولاً لمتقدم ولو ضعف. وأنا أقول: إن النزاع في هذه اللفظة وشبهها المرجع فيه إلى محض الرواية عنهم، والمعول في ذلك على ما يضبطه الإثبات فيها، وقد قدمت أن من المشهور فيها الفتح كما قال شيخنا موهوب، ولا حجة له في أنهم فسروها بأنها تخرج منها العظام وتنقل، فإنا لو خلينا وهذا الحجاج ووكلنا في إثبات لغة الفتح إليه لكان للخصم أن يقول: إن الشجة وهي الضربة التي أدت إلى نقل العظام فهي المنقلة لأنها حملة على المنقل، ولا حجة لشيخنا الفصيحي أيضاً مع اشتهار الفتح فيها في حمله إياها على الفاعل من نظائرها، لأنهم قالوا في الآمة: المأمومة كما قال يصف ضربة:
يحج مأمومة في قعرها لجف ... فاست الطبيب قذاها كالمغاريد
على أنه يمكن أن يتأول المأمومة على معنى: يحج هامة مأمومة، وقد قالوا في المشجوج نفسه مأموم وأميم، والظاهر أنه أراد الشجة، وقد جاء في الشجاج ما ليس على صيغة فاعل ولا مفعول السمحاق، فهل هذه إلا محض رواية في التسمية؟ وإن كان منقولاً، فاعرف ما قال شيخانا - رحمهما الله - وقلناه، ومن الله عز وجل نستمد التوفيق.
ومن خط ابن المتوكل: حدثني الشيخ الإمام الفصيحي قال: رأيت بعض الموسوسين في المارستان وفي إبهامه أثر الحناء دون أصابعه فقلت له: ما معنى الحناء في الإبهام دون سائر الأصابع؟ فأنشدني:
وخاضبة إبهامها دون غيره ... رأتني وقد أعيا علي تصبري
فقلت لها: الإبهام ما اسم خضابه ... فقالت: يسمى عضة المتفكر

علي بن محمد بن علي بن السكون
الحلي أبو الحسن، من حلة بني مزيد بأرض بابل، كان عارفاً بالنحو واللغة، حسن الفهم جيد النقل، حريصاً على تصحيح الكتب، لم يضغ قط في طرسه إلا ما وعاه قلبه، وفهمه لبه، وكان يجيد قول الشعر. وحكى لي عنه الفصيح ابن علي الشاعر أنه كان نصيرياً. قال لي: ومات في حدود سنة ستمائة، وله تصانيف.
علي بن محمد بن يوسف بن خروف
الأندلسي الرندي النحوي، مشهور في بلاده مذكور بالعلم والفهم، مات فيما أخبرني به الفقيه شمس الدين أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف الغماري غيلة في سنة ست وستمائة بإشبيلية عن خمس وثمانين سنة، وكان قد تغير عقله حتى مشى في الأسواق مكشوف الرأس والعورة، وأخذ النحو عن الأستاذ أبي الحسن بن طاهر المعروف بالخدب صاحب الحواشي على كتاب سيبويه بمدينة فارس، وكان ابن خروف خياطاً إذا اكتسب منها شيئاً قسم ما يحصل له نصفين بينه وبين أستاذه، وكان في خلقه زعارة وسوء عشرة، ولم يتزوج قط، وكان يسكن الخانات.

قال: وحدثني ببدء اشتغاله أبو القاسم عبد الرحمن بن يخلف السلاوي - مدينة بالعدوة من المغرب - ، قال: إنه أول يوم دخل على أبي طاهر شكا إليه الفقر وقال: إنك لتأخذ مني أكثر مما تأخذ من الأعيان. فقال: شرك أعظم من شرهم علي في المجلس، وكان يأمرني بنقل الماء إلى المسجد إذا احتاج إلى استعماله فأقول له في ذلك فيقول: لا أحب أن تجلس بغير شغل، ولم يتخذ بلداً موطناً بل كان ينتقل في البلاد في طلب التجارة، وله تصانيف منها: كتاب شرح سيبويه حمله إلى صاحب المغرب فأعطاه ألف دينار، وله كتاب شرح الجمل في جلد واحد.

علي بن معقل أبو الحسن
ذكره الحبال في كتاب الوفيات فقال: أبو الحسن بن معقل الأديب الكاتب صاحب أبي علي الفارسي ولم يذكر اسمه، فكتبته أنا كما ترى بالوهم إلى أن يصح، قال: مات في ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
علي بن المغيرة الأثرم أبو الحسن
كان صاحب كتب مصححة قد لقي بها العلماء وضبط ما ضمنها، ولك يكن له حفظ، لقي أبا عبيدة والأصمعي وأخذ عنهما، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وهي السنة التي مات فيها الواثق، وله من الكتب: كتاب النوادر، كتاب غريب الحديث.
وحدث أبو مسحل عبد الوهاب قال: كان إسماعيل بن صبيح الكاتب قد أقدم أبا عبيدة من البصرة في أيام الرشيد إلى بغداد، وأحضر الأثرم وهو يومئذ وراق وجعله في دار من دوره وأغلق عليه الباب ودفع إليه كتب أبي عبيدة وأمره بنسخها، فكنت أنا وجماعة من أصحابنا نصير إلى الأثرم فيدفع إلينا الكتاب والورق الأبيض من عنده، ويسألنا نسخه وتعجيله ويوافقنا على الوقت الذي نرده إليه فكنا نفعل ذلك، وكان الأثرم يقرأ على أبي عبيدة، وكان أبو عبيدة من أضن الناس بكتبه، ولو علم ما فعله الأثرم لمنعه من ذلك، وكان الأثرم يقول الشعر، فمن قوله:
كبرت وجاء الشيب والضعف والبلى ... وكل امرئ يبلى إذا عاش ما عشت
أقول وقد جاوزت تسعين حجة: ... كأن لم أكن فيها وليداً وقد كنت
وأنكرت لما أن مضى جل قوتي ... وتزداد ضعفاً قوتي كلما زدت
كأني إذا أسرعت في المشي واقف ... لقرب خطى ما مسها قصراً وقت
وصرت أخاف الشيء كان يخافني ... أعد من الموتى لضعفي وما مت
وأسهر من برد الفراش ولينه ... وإن كنت بين القوم في مجلس نمت
علي بن منجب بن سليمان الصيرفي
أبو القاسم أحد فضلاء المصريين وبلغائهم، مسلم ذلك له غير منازع فيه، وكان أبوه صيرفياً واشتهى هو الكتابة فمهر فيها، مات في أيام الصالح بن رزيك بعد خمسين وخمسمائة وقد اشتهر ذكره وعلا شأنه في البلاغة والشعر والخط، فإنه كتب خطاً مليحاً وسلك فيه طريقة غريبة، واشتغل بكتابة الجيش والخراج مدة، ثم استخدمه الأفضل بن أمير الجيوش وزير المصريين في ديوان المكاتبات ورفع من قدره وشهره، ثم إنه أراد أن يعزل الشيخ ابن أبي أسامة عن ديوان الإنشاء ويفرد ابن الصيرفي به، واستشار في ذلك بعض خواصه ومن يأنس به فقال له: إن قدرت أن تفدي ابن أبي أسامة من الموت يوماً واحداً بنصف مملكتك فافعل ذلك، ولا تخل الدولة منه فإنه جمالها، فأضرب عن ابن الصيرفي ومات الأفضل، وخدم المسمى بالخلافة بمصر، ولابن الصيرفي من التصانيف: كتاب الإشارة فيمن نال رتبة الوزارة، كتاب عمدة المحادثة، كتاب عقائل الفضائل، كتاب استنزال الرحمة، كتاب منائح القرائح، كتاب رد المظالم، كتاب لمح الملح، كتاب في السكر، وله غير ذلك من التصانيف، وله اختيارات كثيرة لدواوين الشعراء كديوان ابن السراج، وأبي العلاء المعري وغيرهما. ومن شعره قوله:
لما غدوت مليك الأرض أفضل من ... جلت مفاخره عن كل إطراء
تغايرت أدوات النطق فيك على ... ما يصنع الناس من نظم وإنشاء
وله:
لا يبلغ الغاية القصوى بهمته ... إلا أخو الحرب والجرد السلاهيب
يطوي حشاه إذا ما الليل عانقه ... على وشيج من الحظي مخضوب
وله:
هذي مناقب قد أغناه أيسرها ... عن الذي شرعت آباؤه الأول
قد جاوزت مطلع الجوزاء وارتفعت ... بحيث ينحط عنها الحوت والحمل

ولابن الصيرفي رسائل أنشأها عن ملوك مصر تزيد على أربع مجلدات.

علي بن منصور بن عبيد الله الخطيبي
المعروف بالأجل اللغوي يكنى أبا علي، الأصبهاني الأصل بغدادي المولد والمنشأ، عالم فاضل لغوي فقيه كاتب مقيم بالنظامية، قرأ على ابن القصار وأبي البركات الأنباري وغيرهما، وتفقه على مذهب الشافعي بالنظامية ولا أعلم له في زمانه نظيراً في علم اللغة، فإنه حدثني أنه كان في صباه يكتب كل يوم نصف جزء خمس قوائم من كتاب مجمل اللغة لابن فارس ويحفظه ويقرؤه على علي بن عبد الرحيم السلمي المعروف بابن القصار، حتى أنهى الكتاب حفظاً وكتابة، وحفظ إصلاح المنطق في أيسر مدة، وحفظ غير ذلك من كتب اللغة والفقه والنحو، وطالع أكثر كتب الأدب، وهو حفظة لكثير من الأشعار والأخبار، ممتع المحاضرة إلا أنه لا يتصدى للإقراء، ولقد سألته في ذلك وخضعت إليه بكل وجه فلم ينقد لذلك، ولا يكاد أحد يراه جالساً وإنما هو في جميع أوقاته قائم على رجله في النظامية، ولو جلس للإقراء لأحيا علوم الأدب، ولضربت إليه آباط الإبل في الطلب، بلغني أن مولده سنة سبع وأربعين وخمسمائة.
أنشدني أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الستجاوي يعرف بابن ذنابة قال: أنشدني الأجل علي بن منصور اللغوي لنفسه:
فؤاد معنى بالعيون الفواتر ... وصبوة باد مغرم بالحواضر
سميران ذادا عن جفون متيم ... كراها وباتا عنده شر سامر
وأنشدني قال أنشدني لنفسه:
لمن غزال بأعلى رامة سنحا؟ ... فعاود القلب سكر كان منه صحا
مقسم بين أضداد فطرته ... جنح وغرته في الجنح ضوء ضحا
علي بن منصور بن طالب الحلبي
الملقب دوخلة يعرف بابن القارح، وهو الذي كتب إلى أبي العلاء رسالة مشهورة تعرف برسالة ابن القارح، وأجابه عنها أبو العلاء برسالة الغفران، يكنى أبا الحسن. قال ابن عبد الرحيم: هو شيخ من أهل الأدب شاهدناه ببغداد، راوية للأخبار وحافظاً لقطعة كبيرة من اللغة والأشعار قئوماً بالنحو، وكان ممن خدم أبا علي الفارسي في داره وهو صبي، ثم لازمه وقرأ عليه على زعمه جميع كتبه وسماعاته، وكانت معيشته من التعليم بالشام ومصر، وكان يحكي أنه كان مؤدباً لأبي القاسم المغربي الذي وزر ببغداد، لقاه الله سيئ أفعاله كذا قال.
وله فيه هجو كثير، وكان يذمه ويعدد معايبه، وشعره يجري مجرى شعر المعلمين، قليل الحلاوة خالياً من الطلاوة، وكان آخر عهدي به بتكريت في سنة إحدى وستين وأربعمائة فإنا كنا مقيمين بها، واجتاز بنا وأقام عندنا مدة ثم توجه إلى الموصل، وبلغتني وفاته من بعد، وكان يذكر أن مولده بحلب سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة. ولم يتزوج ولا أعقب، وجميع ما أورده من شعره مما أنشدنيه لنفسه، فمنه في الشمعة:
لقد أشبهتني شمعة في صبابتي ... وفي طول ما ألقى وما أتوقع
نحول وحرق في فناء ووحدة ... وتسهيد عين واصفرار وأدمع
ومنه في هجو المغربي:
لقبت بالكمال ستراً على ... نقصك كالباني على الخص
فصرت كالكنف إذا شيدت ... بيض أعلاهن بالجص
ياعرة الدنيا بلا غرة ... ويا طويس الشؤم والحرص
قتلت أهليك وأنهبت بي ... ت الله بالموصل تستعصي
وله في المداعبة:
أين من كان موضع الأير إجلا ... لاً على الرأس عنده ويباس؟
أين من كان عارفاً بمقادي ... ر الأيور الكبار مات الناس؟
وله:
يا رمحها العسال بل يا سيفها ال ... قصال نارك ليس تخبو
يا عاقد المنن الرغا ... ب على الرقاب لهن سحب
كفروك ما أوليتهم ... والرب يشكر ما ترب
وسئل أن يجيز قول الشاعر:
لعل الذي تخشاه يوماً به تنجو ... ويأتيك ما ترجوه من حيث لا ترجو
فقال:
فثق بحكيم لا مرد لحكمه ... فما لك في المقدور دخل ولا خرج
وكان بينه وبين الكسروي مهاترة ومهاجاة ومماظة، فمن قوله:
إذا الكسروي بدا مقبلاً ... وفي يده ذيل دراعته
وقد لبس العجب مستنوكاً ... يتيه ويختال في مشيته

فلا يمنعنك بأواؤه ... ضراطاً يقعقع في لحيته
وله:
الصيمري دقيق الفكر في اللقم ... يقول كم عندكم لوناً وكم وكم؟
يسعى إلى من يرى إكثاراه وكذا ... نراه ذاك وما هاذاك من عدم
يلقى الوعيد بما يلقى البشوش به ... وذاك والله بخل ليس بالأمم
قال: وحدثني قال: كنت أؤدب ولدي الحسين بن جوهر القائد بمصر، وكانا مختصين بالحاكم وآنسين به، فعملت قصيدة وسألت المسمى منهما جعفراً - وكان من أحسن الناس وجهاً ويقال: إن الحاكم كان يميل إليه - أن يوصلها ففعل وعرضها علي فقال: من هذا؟ فقال: مؤدبي. قال: يعطى ألف دينار. واتفق أن المعروف بابن مقشر الطبيب كان حاضراً فقال: لا تثقلوا على خزائن أمير المؤمنين، يكفيه النصف، فأعطيت خمسمائة دينار. وحدثني ابن جوهر بالحديث، وكانت القصيدة على وزن منهوكة؟ أبي نواس أقول فيها:
إن الزمان قد نضر ... بالحاكم الملك الأغر
في كفه عضب ذكر ... فقد عدا على القصر
من غره على الغرر ... يمضي كما يمضي القدر
في سرعة الطرف نظر ... أو السحاب المنهمر
بادر إنفاق البدر ... بدر إذا لاح بهر
وهي طويلة، واتفق أن الطبيب المذكور لحقته بعد هذا بأيام شقفة وهي التي تسمى التراقي، ويقال لها قملة النسر، فمات منها وكان نصرانياً فقلت:
لما غدا يستخف رضوى ... تيهاً وكبراً لجهد ربه
أصماه صرف الردى بسهم ... عاجله قبل وقت نحبه
بشقفة بين منكبيه ... رشاؤها في قليب قلبه

علي بن مهدي بن علي بن مهدي الكسروي
أبو الحسن الأصفهاني، معلم ولد أبي الحسن علي بن يحيى بن المنجم وأحد الرواة العلماء النحويين الشعراء، مات في أيام بدر المعتضدي على أصبهان. قال حمزة: علي بن مهدي الكسروي وهو ابن أخت علي بن عاصم بن الحريس، وكان متصلاً ببدر المعتضدي، وفي أيامه مات يعني أيامه على أصبهان، وكان قد ولى أصبهان. سنة ثلاث وثمانين ومائتين أيام المعتضد إلى أن ولي ابنه المكتفي سنة تسع وثمانين ومائتين، قال ابن أبي طاهر: وكان الكسروي أديباً ظريفاً حافظاً راوية شاعراً عالماً بكتاب العين خاصة، وكان يؤدب هارون بن علي بن يحيى النديم، واتصل بأبي النجم المعتضدي مولى المعتضد وتوفي في خلافته، وذكره المرزباني فقال: حدثني علي بن هارون عن أبيه وعمه قالا: كان أبو الحسن علي بن يحيى ابن المنجم جالساً يوماً وبحضرته من لا يخلو مجلسه منه من الشعراء كأحمد بن أبي طاهر، وأحمد بن أبي فنن وأبي علي البصير، وأبي هفان المهومي والهدادي، وهو ابن عمه أي أبي هفان، وابن العلاف، وأبي الطريف، وأحمد بن أبي كامل خال ولد أبي الحسن، وعلي بن مهدي الكسروي وكان معلم ولده، فأنشد الجماعة بيتاً ذكر أنه مر به مفرداً فاستحسنه وأحب أن يضاف إليه بيت آخر يصل معناه ويزيد في الإمتاع به وهو:
ليهنك أني لم أجد لك عائباً ... سوى حاسد والحاسدون كثير
فبدره علي بن مهدي من بين الجماعة وقال:
وإنك مثل الغيث أما وقوعه ... فخصب وأما ماؤه فطهور
فاستحسنه أبو الحسن وضمه إلى البيت الأول، وكان أبو العبيس بن حمدون حاضراً فقال له: الصنعة فيهما عليك، فطلب عوداً وانفرد فصنع فيه رمله المشهور. وحدث عن الصولي قال: كتب عبد الله بن المعتز إلى علي بن مهدي الأصبهاني:
وما نازح يالصين أدنى محله ... يقصر عنه كل ماش وطائر
محا اليأس منه كل ذكر فلم تكد ... تصوره للقلب أيدي الخواطر
بأبعد عندي من أناس وإن دنوا ... وما البعد إلا مثل طول التهاجر
ويشغل عني القصف والراح بعضهم ... مباكرها أو ممسياً كمباكر
إذا طار بين العود والناي طيرة ... فليس لإخوان الصفا بذاكر
قال: فأجابه علي بن مهدي:
أيا سيدي عفواً وحسن إقالة ... فلم يحو أقطار العلا مثل غافر
لعمري لو أن الصين أدنى محلتي ... لما كنت إلا غائباً مثل حاضر
ثنائي لكم عمري ومحض مودتي ... تؤثر آثار الغيوث البواكر

فوالله ما استبهجت بعدك مجلساً ... ولا بقيت لذاته في ضمائري
ولست كمن ينسيه أهل صفائه ... سماع الحسان واصطحاب المزاهر
وكيف تناسى سيد لي ثناؤه ... منوط بأحشائي وسمعي وناظري
وحدث عن عبد الله بن يحيى العسكري عن أحمد بن سعيد الدمشقي قال: كتب عبد الله بن المعتز إلى علي بن مهدي الكسروي:
يا باخلاً بكتابه ورسوله ... أأردت تجعل في الفراق فراقاً؟
إن العهود تموت إن لم تحيها ... والنأي يحدث للفتى إخلاقاً
قال: فكتب إليه علي بن مهدي:
لا والذي أنت أسنى من أمجده ... عندي وأوفاهم عهداً وميثاقاً
ما حلت عن خير ما قد كنت تعهده ... ولا تبدلت بعد النأي أخلاقاً
وحدث عن علي عن عبد الله بن المعتز قال: كتب إلى علي بن مهدي الكسروي في يوم مهرجان:
نعمت بما تهوى ونلت الذي ترضى ... ولقيت ما ترضى ووقيت ما تخشى
ولست بما ألقى من الخير كله ... أسر، وأحظى سيدي بالذي تلقى
ويعلم علام الخفيات أنني ... أعدك ذخراً للممات وللمحيا
وأني لو أهدي على قدر نيتي ... لكان الذي أهديه حظي من الدنيا
وحدث عن العسكري عن ابن سعيد الدمشقي قال: كتب عبد الله بن المعتز إلى علي بن مهدي:
أبا حسن أنت ابن مهدي فارس ... فرفقاً بنا لست ابن مهدي هاشم
وأنت أخ في يوم لهو ولذة ... ولست أخاً عند الأمور الأعاظم
فأجابه علي:
أيا سيدي إن ابن نهدي فارس ... فداء ومن يهوى لمهدي هاشم
بلوت أخاً في كل أمر تحبه ... ولم تبله عند الأمور الأعاظم
وإنك لو نبهته لملمة ... لأنساك صولات الأسود الضراغم
قال: وقال محمد بن داود: ان علي بن مهدي يؤدب وهو أحد الرواة للأخبار وهو القائل:
ولما أبى أن يستقيم وصلته ... على حالتيه مكرهاً غير طائع
حذاراً عليه أن يميل بوده ... فأبلى بقلب. لست عنه بنازع
فأصبح كالظمآن يهريق ماءه ... لضوء سراب في المهامه لامع
فلا الماء أبقى للحياة ولا أتى ... على منهل يجدي عليه بنافع
وله:
ومودع يوم الفراق بلحظه ... شرق من العبرات ما يتكلم
متقلب نحو الحبيب بطرفه ... لا يستطيع إشارة فيسلم
نطق الضمير بما أرادا عنهما ... وكلاهما مما يعاين مفحم
وقال علي بن مهدي يصف العود:
تجري أصابعها على ... ذي منطق أعمى بصير
خرس أصم ونحن من ... نجواه في دهر قصير
فدم صموت ليس يع ... رف ما القبيل من الدبير
ميت ولكن الأكف ... ف تذيقه طعم النشور
وكأنه في حجرها ... طفل تمهد حجر ظير
يومي إليه بنانها ... فتريك ترجمة الضمير
فيرى النفوس معلقا ... ت منه في بم وزير
فإذا لوت آذانه ... جاز الأنين إلى الزفير
قالت له: قل مطرباً ... وعظتك واعظة القتير
فأجابها من حجرها ... وعلتك أبهة الكبير
وله من الكتب: كتاب الخصال وهو مجموع يشتمل على أخبار وحكم وأمثال وأشعار، كتاب مناقضات من زعم أنه لا ينبغي أن يقتدي القضاة في مطامعهم بالأئمة الخلفاء، وقد عزي هذا الكتاب إلى الكسروي الكاتب، كتاب الأعياد والنوازير، كتاب مراسلات الإخوان ومحاورات الخلان وقال الكسروي في ضرطة وهب بن سليمان:
إن وهب بن سليما ... ن بن وهب بن سعيد
حمل الضرط إلى الر ... رى على ظهر البريد
في مهمات أمور ... منه بالركض الشديد
إسته ينطق يوم الحف ... ل بالأمر الرشيد
لم يجد في القول فاحتا ... ج إلى دبر مجيد

ومن كتاب أصبهان: قال هارون بن علي بن يحيى: اجتمعنا مع أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر عند علي بن مهدي، فلما أردنا الانصراف أنشأ أبو الفضل يقول:
لولا علي بن مهدي وخلته ... لما اهتدينا إلى ظرف ولا أدب
إذا سقي مترع الكاسات أوهمنا ... بأن غلماننا خير من العرب

علي بن نصر النصراني يعرف بابن الطبيب
أبو الحسن الكاتب، ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: كان أديباً مصنفاً مات في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، وله عدة كتب قال: وكان يذاكرني بها وأحسبه لم يتمم أكثرها، فمن كتبه: كتاب البراعة، كتاب صحبة السلطان أكثر من ألف ورقة، كتاب إصلاح الأخلاق محو من ألف وخمسمائة ورقة يشتمل على حكم وأمثال.
علي بن نصر بن سليمان الزنبقي اللغوي
أبو الحسن أحد الأدباء، رأيت بخطه كتباً أدبية لغوية ونحوية فوجدته حسن الخط متقن الضبط، وكان مقامه بمصر ولعله من أهلها، قرئ عليه كتاب الهمز لأبي زيد الأنصاري بجامع مصر في سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
علي بن نصر بن سعد بن محمد الكاتب
أبو تراب، ولد بعكبرا ونشأ بها، ثم انحدر بعد أن بلغ إلى بغداد، وقرأ الأدب والنحو على ابن برهان النحوي، ثم انحدر إلى البصرة وصار كاتباً لنقيب الطالبيين بها، وأقام بالكرخ وولى الكتابة لنقيب الطالبيين إلى أن مات، وكان من أهل الأدب والفضل، مولده في محرم سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وتوفي في جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة وخمسمائة، وابنه علي بن نصر بن سعد أبو الحسن بن أبي تراب، وكان كاتب نقيب الطالبيين أيضاً وكان شاعراً، ولد بالبصرة سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، ومن شعر أبي تراب هذا:
حالي بحمد الله حال جيده ... لكنه من كل خير عاطل
ما قلت للأيام قول معاتب ... والرزق يدفع راحتي ويماطل
إلا وقالت لي مقالة واعظ: ... ألرزق مقسوم وحرصك باطل
علي بن نصر الفندورجي
بن محمد بن عبد الصمد الفندورجي أبو الحسن الأسفرائيني، وفندورج قرية بنواحي نيسابور، سكن إسفرائين وكان يرجع إلى فضل وافر ومعرفة تامة باللغة والأدب وخط وبلاغة، وله شعر مليح رائق ويد باسطة في الكتابة والرسائل، ورد بغداد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، وأقام بها مدة واقتبس من فضلائها، ورجع إلى خراسان وصار ينشئ الكتب عن ديوان الوزارة، وسئل عن مولده فقال: ولدت سنة تسع وثمانين وأربعمائة بنيسابور.
قال السمعاني ومات في حدود سنة خمسين وخمسمائة ومن شعره:
تحية مزن يتحف الروض سحرة ... بصوب الحيا في كل يوم عليكم
فجسمي معي لكن قلبي أكرموا ... بلطفكم مثواه فهو لديكم
قال السمعاني: أنشدني الفندورجي لنفسه:
سقى الله في أرض اسفرائين عصبتي ... فما تنتهي العلياء إلا إليهم
وجربت كل الناس بعد فراقهم ... فما زدت إلا فرط ضن عليهم
قال السمعاني: وأنشدني لنفسه ببلخ إملاء ونقلته من خطه:
قد قص أجنحة الوفاء وطار من ... وكر الوداد المحض والإخلاص
والحر في شبك الجفاء وماله ... من أسر حادثة رجاء خلاص
كان في آخر جزء بخط السمعاني ما صورته لكاتبه أبي الحسن الفندورجي:
حم الحبيب وآذاه السقام ولم ... أمت كما شاء سلطان الهوى حزنا
بأي عين إذا ما الوصل يجمعنا ... بالطالع السعد ألقى وجهه الحسن؟
والجفن مني دام لا يصافح إذمس الأذى منه تلك الروح والبدنا
وله أيضاً في المعنى نقلته من خطه:
حم الحبيب وما حم انفصالي عن ... روح وعن بدن يحيا بذكراه
بأي وجه إذا ما الوصل يجمعنا ... ومقلة أتلقاه وألقاه؟
وقرأت بخط أبي سعد، سمعت علب بن نصر النيسابوري مذاكرة بمرو يقول: كنت ببغداد فرأيت أهلها تستحسن هذه الأبيات التي لأبي إسماعيل المنشئ:
ذكرتكم عند الزلال على الظما ... فلم أنتفع من برده ببلال
فأنشأت قصيدة في نقيب النقباء أبي القاسم علي بن طراد الزينبي على هذا الروي أولها:
خليلي زمت للرحيل جمالي ... فقد ضاق في أرض العراق مجالي

وقوداً عتاقاً كالأهلة، إنما ... ديار الندى والمكرمات حوالي
وما أوجبت بغداد حقي وغادرت ... بلابل بعد الظاعنين ببالي

علي بن وصيف الملقب بخشكنانجة الكاتب
من أهل بغداد، وكان أكثر مقامه بالرقة ثم انتقل إلى الموصل وكان من البلغاء، وألف عدة كتب ونحلها عبدان صاحب الإسماعيلية، قال محمد بن إسحق النديم: وكان لي صديقاً وأنيساً ومات بالموصل، وله من الكتب: كتاب الإفصاح والتثقيف في الخراج ورسومه.
علي بن هبة الله بن ماكولا
هو علي بن هبة الله بن جعفر بن علكان بن محمد بن دلف بن أبي دلف القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل بن عمرو بن شيخ بن معاوية بن خزاعي بن عبد العزيز بن دلف بن جشم ابن قيس بن سعد بن عجل بن لجيم بن صعب بن علي ابن بكر بن وائل بن قاسط بن هبت بن أفصى بن دغمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، أبو نصر المعروف بابن ماكولا، وهو ابن الوزير أبي القاسم هبة الله ابن ماكولا وزير جلال الدولة بن بويه، وكان عمه أبو عبد الله الحسن بن جعفر، قاضي القضاة ببغداد الحافظ - أصله من جرباذقان بلدة بين همدان وأصفهان - يلقب بالأمير من بيت الوزارة والقضاة والرياسة القديمة، كان لبيباً عارفاً عالماً، ترشح للحفظ حتى كان يقال له الخطيب الثاني. قال ابن الجوزي: سمعت شيخنا عبد الوهاب يقدح في دينه ويقول: العلم يحتاج إلى دين. صنف كتاب المختلف والمؤتلف، جمع فيه بين كتب الدارقطني وعبد الغني والخطيب، وزاد عليهم زيادات كثيرة، وكان نحوياً مجوداً، وشاعراً مبرزاً، جزل الشعر فصيح الكلام صحيح النقل، ما كان في البغداديين في زمانه مثله، سمع أبا طالب بن غيلان، وأبا بكر بن بشران، وأبا القاسم بن شاهين، وأبا الطيب الطبري، وسافر إلى الشام والسواحل وديار مصر، والجزيرة والثغور الجبال، ودخل بلاد خراسان وما وراء النهر، وطاف في الدنيا وجول في الآفاق.
قال محمد بن طاهر المقدسي: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال المصري يمدح ابن ماكولا ويثني عليه ويقول: دخل مصر في زي الكتبة فلم نرفع له رأساً، فلما عرفناه كان من العلماء بهذا الشأن، ورجع إلى بغداد فأقام بها، ثم خرج إلى خوزستان فقتل هناك. كان في صحبته جماعة من مماليكه الأتراك.
قال ابن ناصر: قتل أبو نصر بن ماكولا بالأهواز من نواجي خوزستان، إما في سنة خمس وثمانين وأربعمائة، ومولده بعكبرا في شعبان من سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، ومن مستحسن شعره في التجنيس:
ولما تفرقنا تباكت قلوبنا ... فممسك دمع عند ذاك كساكبه
فيا نفسي الحرى البسي ثوب حسرة ... فراق الذي تهوينه قد كساك به
ومنه:
ترى زمني يدني سليمي فنلتقي؟ ... ونرجع بالشكوى الحديث المناهبا
وهيهات ما بعد الذي قد طلبته ... ومن غاير الأيام كان المناهبا
ومنه:
فؤاد ما يفيق من التصابي ... أطاع غرامه وعصى النواهي
وقالوا: لو تصبر كان يسلو ... وهل صبر يساعد والنواهي؟
ومنه:
أليس وقوفنا بديار هند ... وقد رحل القطين من الدواهي؟
وهند قد غدت داء لقلبي ... إذا صدت ولكن الدوا هي
ومنه:
وهيج أشواقي وما كنت سالياً ... بيبرين برق من ذرى الغور أومضا
ذكرت به عيش التصابي وطيبه ... ولست بتناسيه وإن عاد أو مضى
ومن شعره:
علمتني بهجرها الصبر عنها ... فهي مشكورة على التقبيح
وأرادت بذاك قبح صنيع ... فعلته فكان عين المليح
أنشدني أبو عبد الله محمد بن سعيد بن الدبيثي قال: أنشدنا عمر بن طبرزاد قال: أنشدني أبو الحسن علي بن هبة الله بن عبد السلام قال: أنشدنا الأمير أبو نصر علي بن هبة الله لنفسه:
قوض خيامك عن أرض تهان بها ... وجانب الذل إن الذل مجتنب
وارحل إذا كانت الأوطان منقصة ... فالمندل الرطب في أوطانه الحطب

قرأت بخط أبي سعيد: أنبأنا أبو نصر يحيى بن خلف الخلقاني: أنبأنا أبو ثابت بنحير بن علي: أنبأنا أبو نصر ابن ماكولا الحافظ، أنشدنا أبو الفرج هبة الله بن الحسن بن محمد العسقلاني بها: أنشدنا أبو علي الحسن بن أحمد بن أبي الناس العسقلاني في صورتين كانتا على كنيسة تعرف بكنيسة ابن مريم على شرقي محملها، والكنيسة عند باب الصوارف بعسقلان:
لو ذقتما طعم العناق لغافصت ... شخصيكما الدنيا بوشك فراق
لم تغفل الأيام حالكما بها ... عمداً لترفيه ولا إشفاق
بل للأمور نهاية علقت بها ... حجزت أوامرها عن الطراق
فإذا انقضت أيامها عادت لها ... تلك الوقاحة أضيق الأطواق
وكأنني بالدهر قد أجراكما ... كبنيه تفريقاً بغير تلاقي
قال: فما مضى لهذا الشعر إلا سنة أو نحوها حتى أمر الحاكم بهدم الكنائس فهدمت، وهدمت هذه الكنيسة وأزيل الشخصان، فأنشدني لنفسه أبياتاً في ذلك يرثيهما بها:
طوبا كما من دميتين تعانقا ... وتفرقا من بعد طول عناق
طال اعتناقهما فما نعما به ... وكذاك ما ألما لوشك فراق
أجرتهما الدنيا بها إذ مثلت ... بمثابة الأولاد في الإشفاق
صانتهما عن كل طارق حادث ... عند الغروب ومبتدا الإشراق
حتى إذا بلغا نهاية موعد ... فلت عناقهما عن الأعناق
ومحت رسومهما كأن لم تمثلا ... للناظرين مرامي الأحداق
حسبي من الأيام معرفتي بها ... وتصرف الحدثان في الآفاق
قال شجاع بن فارس الذهلي: أنشدني الأمير أبو نصر علي بن هبة الله بن ماكولا الحافظ لنفسه:
طالما ظالماً تجنى بحبي ... عاذ عاد عن فنه عن فيه
قال قال فاترك فأبرك هجر ... هجر حب خب نبيه بتيه
صاد صاداً علا علا مأحلا ... ما خلا من بلية من يليه
قال: وأنشدني الأمير لنفسه في الشمعة:
أقول وما لي مسعد غير شمعة ... على طول ليلي ما تريد نزوعا
كلانا نحيل ذو اصفرار معذب ... بنار أسالت من حشاه نجيعا
ألا ساعديني طول ليلك إننا ... سنفنى إذا جاء الصباح جميعا
قال أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي: ما راجعت أبا بكر الخطيب في شيء إلا وأحالني على الكتاب وقال حتى أبصره، وما راجعت الأمير أبا نصر علي بن هبة الله بن ماكولا في شيء إلا وأجابني حفظاً كأنه يقرأ من كتاب.
قال: وبلغ أبا بكر الخطيب أن ابن ماكولا أخذ عليه في كتابه المؤتنف وصنف في ذلك تصنيفاً وحضر عنده ابن ماكولا وسأله الخطيب عن ذلك فأنكره ولم يتربه وقال: تنسبني الناس إلى ما لا أحسنه من الصنعة، واجتهد الشيخ أبو بكر أن يعترف بذلك، وحكى له ما كان من عبد الغني بن سعيد في تتبعه أوهام الحاكم أبي عبد الله في كتاب المدخل، وحكايات عدة من هذا المعنى. قال: أرني إياه، فإن يكن صوابا استفدته منك ولا أذكره إلا عنك، فأصر على الإنكار وقال: لم يخطر هذا ببالي قط ولم أبلغ هذه الدرجة، أو كما قال.فلما مات الخطيب أظهر كتابه، وهو الذي سماه كتاب تهذيب مستقر الأوهام على ذوي التمني والأحلام، أبو الحسن الدارقطني، وأبو بكر أحمد بن علي الخطيب، وهو في عشرة أجزاء لطاف، وله من التصانيف سوى ما ذكرناه: كتاب الوزراء، كتاب الإكمال في المؤتلف والمختلف.

علي بن هارون بن نصر القرميسيني
النحوي أبو الحسن. أخذ عن علي بن سليمان الأخفش، وأخذا عنه عبد السلام البصري، ومات في سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة في خلافة الطائع، ومولده في سنة تسعين ومائتين.
علي بن هارون بن علي

بن يحيى بن أبي منصور المنجم أبو الحسن. قد ذكرنا أباه هارون وأجداده في مواضعهم من الكتاب. قال محمد بن إسحاق النديم: رأيناه وسمعنا منه، وكان راوية شاعراً أديباً ظريفاً متكلماً حبراً، نادم جماعة من الخلفاء وقال لي: مولدي سنة سبع وسبعين ومائتين. وقال ثابت: مولده في صفر سنة ست وسبعين، ومات سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة عن ست وسبعين سنة، وله من الكتب: كتاب النوروز والمهرجان، كتاب الرد على الخليل في العروض، كتاب الرسالة في الفرق بين إبراهيم بن المهدي وإسحاق بن الموصلي في الغناء، كتاب ابتدأ فيه بنسب أهله عمله للمهلبي الوزير ولم يتم، كتاب اللفظ المحيط ببعض ما لفظ به اللقيط عارض به كتاب أبي الفرج الأصبهاني، كتاب الفرق والمعيار بين الأوغاد والأحرار، كتاب القوافي عمله لعضد الدولة.
وحدث أبو القاسم إسماعيل بن عباد في كتاب الروزنامجة في مجلسه، وقد أعدوا قصيدتين في مدحه فمنعهما من النشيد لأحضره، فأنشدوا وجوداً بعد تشبيب كبير وحديث طويل.قال المؤتلف: أراه المهلبي، كان لأبي الحسن رسم - أخشى تكذيب سيدنا إن شرحته، وعتابه إن طويته، ولأن أحصل عنده في صورة متزيد أحب إلي من أن أحصل عنده في رتبة مقصر - يبتدئ فيقول ببحة عجيبة بعد إرسال دموعه، وتردد الزفرات في حلقه واستدعائه من خود غلامه، منديل عبراته، والله والله وإلا فأيمان البيعة تلزمه بحلها وحرامها وطلاقها وعتاقها، وما ينقلب إليه حرام، وعبيده أحرار لوجه الله تعالى إن كان هذا الشعر في استطاعة أحد مثله، أو اتفق من عهد أبي داوود الإيادي إلى زمان ابن الرومي لأحد شكله، بل عيبه أن محاسنه تتابعت، وبدائعه ترادفت.
وقد كان في الحق أن يكون كل بيت منه في ديوان يحمله، ويسود به شاعره ثم ينشد، فإذا بلغ بيتاً يعجب به ويتعجب منه. وقال أيها الوزير: من يستطيع هذا إلا عبدك علي بن هارون ابن علي بن يحيى بن أبي منصور بن المنجم جليس الخلفاء، وأنيس الوزراء؟ ثم ينشد الابن والأب يعوذه ويهتز له، ويقول أبو عبد الله: أستودعه الله ولي عهدي، وخليفتي بعدي، ولو اشتجر اثنان من مصر وخراسان لما رضيت لفصل ما بينهما سواه، أمتعنا الله به ورعاه، وحديثه عجيب. وإن استوفيته ضاع الغرض الذي قصدته، على أنه أيد الله مولانا من سعة النفس والخلق، و وفور الأدب والفضل وتمام المروءة والظرف بحال أعجز عن وصفها، وأزل عن جملتها، إنه مع كثرة عياله واختلال أحواله، وطلب سيف الدولة جاريته المغنية بعشرين ألف درهم أحضرها صاحبه فامتنع من بيعها وأعتقها وتزوجها، ومن شعر علي بن هارون وكتب بها إلى أبي الحسن علي بن خلف بن طياب:
بيني وبين الدهر فيك عتاب ... سيطول إن لم يمحه الإعتاب
يا غائباً بوصاله وكتابه ... هل يرتجى من غيبتيك إياب
لولا التعلل بالرجاء تقطعت ... نفس عليك شعارها الأوصاب
لا يأس من روح الإله فربما ... يصل القطوع ويحضر الغياب
وإذا دنوت مواصلاً فهو المنى ... سعد المحب وساعد الأحباب
وإذا نأيت فليس لي متعلل ... إلا رسول بالرضا وكتاب

وحدث أبو علي المحسن بن علي التنوخي القاضي في نشوار المحاضرة قال: حدثني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون بن المنجم قال: حدثني أبي قال: كنت وأنا صبي لا أقيم الراء في كلامي وأجعلها غيناً وكانت سني إذ ذاك أربع سنين، أقل أو أكبر، فدخل أبو طالب الفضل ابن سلمة، أو أبو بكر الدمشقي - شك أبو الفتح - إلى أبي وأنا بحضرته، فتكلمت بشيء فيه راء فلثغت فيها، فقال له الرجل: يا سيدي، لم تدع أبا الحسن يتكلم هكذا؟ فقال له: ما أصنع وهو ألثغ؟ فقال له: - وأنا أسمع وأحصل ما جرى وأضبطه - إن اللثغة لا تصخ مع سلامة الجارحة، وإنما هي عادة سوء تسبق إلى الصبي أول ما يتكلم لجهله بتحقيق الألفاظ وسماعه شيئاً يحتذيه، فإن ترك على ما يستصحبه من ذلك مرن عليه، فصار له طبعاً لا يمكنه التحول عنه، وإن أخذ بتركه في أول نشوه استقام لسانه وزال عنه، وأنا أزيل هذا عن أبي الحسن ولا أرضى فيه بتركك له عليه، ثم قال لي: أخرج لسانك، فأخرجته فتأمله وقال: الجارحة صحيحة، قل يا بني را، واجعل لسانك في سقف حلقك، ففعلت ذلك فلم تستو لي، فما زال يرفق بي مرة ويخشى بي أخرى، وينقل لساني من موضع إلى موضع من فمي، ويأمرني أن أقول الراء فيه، فإن لم يستو لي نقل لساني إلى موضع آخر دفعات كثيرة في زمان طويل حتى قلت راء صحيحة في بعض تلك المواضع، وطالبني وأوصى معلمي بإلزامي ذلك حتى مرن لساني عليه، وذهبت عني اللثغة.
ومن كتاب الروزنامجة قال الصاحب: وتوفرت على عشرة فضلاء البلد، فأول من كارثني أولاد المنجم لفضل أبي احسن علي بن هارون وغزارته، واستكثاري من روايته وطيب سماعه ولذيذ عشرته. فسمعت منه أخباراً عجيبة وحكايات غريبة، ومن ستارته أصواتاً نادرة مشنفة مقرطقة يقول في كل منها:الشعر لفلان، والصنعة لفلان، أخذته هذه عن فلان، أو فلانة، حتى يتصل النسب بإسحاق أو غيره من أبناء جنسه، وكان أكثر ما يعجب به مولاها أبيات له أولها:
ضل الفراق ولا اهتدى ... ونأت فلا دنت النوى
وهوى فلا وجد القرا ... ر معنف أهل الهوى
فاتفق أن سألت أول ما سمعت اللحن فيه عن قائله، فغضب واستشاط، وتنكر واستوفز، ونفر وتنمر وقال: تقول لمن هذا؟ أما يدل على قائله؟ أما يعرب عن جوهره؟ أما ترى أثر بني المنجم على صفحته؟ أما يحميه لألاؤه أو لوذعيته من أن يدال بمن؟ وممن هذا الرجل؟ وذكره المرزباني في المعجم فقال المنجم: وهو القائل:
وإني لأثني النفس عما يريبها ... وأنزل من دار الهوان بمعزل
بهمة نبل لا يرام مكانها ... تحل من العلياء أشرف منزل
ولي منطق إن لجلج القول صائب ... بتكشيف إلباس وتطبيق مفصل
وله يمدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
وهل خصلة من سؤدد لم يكن لها ... أبو حسن من بينهم ناهضاً قدما؟
فما فاتهم منها به سلموا له ... وما شاركوه كان أوفرهم قسماً
وفي كتاب أبي علي التنوخي: كان أبو أحمد الفضل ابن عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي الكاتب خصيصاً بالوزير أبي علي بن مقلة وكان يعشق مغنية، وكان ينفق عليها جميع ما يتحصل له، وله معها أخبار، وكانت هذه الجارية صفراء واسمها لهجة فشرب معها ليلة وأصبح مخموراً فآثر الجلوس معها، وأراد الاعتذار إلى الوزير ابن مقلة من التأخر عن الخدمة وأن يخفي خبره عنه. فكتب رقعة يعتذر فيها ويقول: إن الصفراء تحركت علي فتأخرت، فوقع على ظهر الرقعة بخطه: أنت تحركت على الصفراء، وليست الصفراء تحركت عليك. قال: وهذا التوقيع يشبه ما أنشدنا علي بن هارون المنجم لنفسه في جاريته صفراء، وقد شكا إلى الطبيب مرة صفراء، ولا أدري أيهما أخذه من صاحبه:
جس الطبيب يدي وقال مخبراً ... هذا الفتى أودت به الصفراء
فعجبت منه إذ أصاب وما درى ... قولاً وظاهر ما أراد خطاء
قلت أنا: وقريب من هذا قول الوزير المهلبي:
وقالوا للطبيب أشر فإنا ... نعدك للعظيم من الأمور
فقال شفاؤه الرمان مما ... تضمنه حشاه من السعير
فقلت: لهم أصاب بغير قصد ... ولكن ذاك رمان الصدور

وكان لعلي بن هارون ولد يقال له أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون المنجم، كان أديباً فاضلاً إلا أني لم أقف له على تصنيف فلم أفرده بترجمة والمقصود ذكره. وقد ذكر ها هنا، وروى عنه أبو علي التنوخي في نشواره فأكثر وقال: أنشدني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون لنفسه:
ما أنس منها لا أنس موقفها ... وقلبها للفراق ينصدع
وقولها إذ بدا الصباح لها ... قول فزوع أظله الجزع
ما أطول الليل عند فرقتنا ... وأقصر الليل حين نجتمع!!
قال التنوخي: وأنشدني أبو الفتح لنفسه وكتب بها إلى أبي الفرج محمد بن العباس - فسانجس - في وزارته وقد حمل على الأعداء في الأهواز:
قل للوزير سليل المجد والكرم ... ومن له قامت الدنيا على قدم

علي بن هلال الكاتب
المعروف بابن البواب أبو الحسن، صاحب الخط المليح والإذهاب الفائق. وجدت بخط ابن الشبيه العلوي الكاتب صاحب الخط الفائق في آخر ديوان أبي الطمحان القيني بخطه ما صورته: وكتب في صفر سنة عشرين وأربعمائة من خط أبي الحسن علي بن هلال الستري مولى معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي، وهذا قد كان بغير شك معاصره. بلغني أنه كان في أول أمره مزوقاً بصور الدور ثم صور الكتب ثم تعانى الكتابة ففاق فيها المتقدمين وأعجز المتأخرين، وكان يعظ بجامع المنصور، ولما ورد فخر الملك أبو غالب محمد بن خلف الوزير والياً على العراق من قبل بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة جعله من ندمائه، وفي الجملة إنه لم يكن في عصره ذاك النفاق الذي له بعد وفاته، وذاك أنني وجدت رقعة بخطه قد كتبها إلى بعض الأعيان يسأله فيها مساعدة صاحبه ابن منصور، وإنجاز وعد وعده به لا يساوي دينارين، وقد بسط القول في ذلك استطلتها فإنها كانت نحو السبعين سطراً فألغيت إثباتها، وقد بيعت بسبعة عشر ديناراً إمامية، وبلغني أنها مرة أخرى بخمسة وعشرين ديناراً. مات فيما ذكره هلال بن المحسن بن الصابئ في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، ودفن في جوار قبر أحمد بن حنبل وذلك في خلافة القادر بالله، ورثاه المرتضى بشعر أذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وحدث في كتاب المفاوضة قال: حدثني أبو الحسن علي بن هلال المعروف بابن البواب الكاتب قال: كنت أتصرف في خزانة الكتب لبهاء الدولة بن عضد الدولة بشيراز على اختياري وأراعيها له وأمرها مردود إلى، فرأيت يوماً في جملة أجزاء منبوذة جزءاً مجلداً بأسود قدر السكري ففتحته وإذا هو جزء من ثلاثين جزءاً من القرآن بخط أبي علي بن مقلة، فأعجبني وأفردته فلم أزل أظفر بجزء بعد جزء مختلط في جملة الكتب إلى أن اجتمع تسعة وعشرون جزءاً، وبقي جزء واحد استغرقت تفتيش الخزانة عليه مدة طويلة فلم أظفر به، فعلمت أن المصحف ناقص فأفردته ودخلت إلى بهاء الدولة وقلت: يا مولانا، ههنا رجل يسأل حاجة قريبة لا كلفة فيها، وهي مخاطبة أبي علي الموفق الوزير على معونته في منازعة بينه وبين خصم له، ومعه هدية ظريفة تصلح لمولانا. قال: أي شئ هي؟ قلت مصحف بخط أبي علي بن مقلة. فقال: هاته وأنا أتقدم بما يريد، فأحضرت الأجزاء فأخذ منها واحداً وقال: أذكر وكان في الخزانة ما يشبه هذا وقد ذهب عني، قلت: هذا مصحفك وقصصت عليه القصة في طلبتي له حتى جمعته إلا أنه ينقص جزءاً وقلت: هكذا يطرح مصحف بخط أبي علي؟ فقال: لي: فتممه لي. قلت: السمع والطاعة، ولكن على شريطة أنك إذا أبصرت الجزء الناقص منها ولا تعرفه أن تعطيني خلعة ومائة دينار. قال: أفعل. وأخذت المصحف من بين يديه وانصرفت إلى داري، ودخلت الخزانة أقلب الكاغد العتيق وما يشابه كاغد المصحف، وكان فيها من أنواع الكاغد السمرقندي والصيني والعتيق كل ظريف عجيب، فأخذت من الكاغد ما وافقني، وكتبت الجزء وذهبته وعتقت ذهبه، وقلعت جلداً من جزء من الأجزاء فجلدته به وجلدت الذي قلعت منه الجلد وعتقته، ونسي بهاء الدولة المصحف، ومضى على ذلك نحو السنة. فلما كان ذات يوم جرى ذكر أبي علي بن مقلة فقال لي: ما كتبت ذلك؟ قلت: بلى، قال: فأعطنيه: فأحضرت المصحف كاملاً فلم يزل يقلبه جزءاً جزءاً وهو لا يقف على الجزء الذي بخطي ثم قال لي: أيما هو الجزء الذي بخطك؟ قلت له: لا تعرفه فيصغر في عينك، هذا مصحف كامل بخط أبي علي بن مقلة ونكتم سرنا؟ قال: أفعل: وتركه في ربعة عند رأسه ولم يعده إلى الخزانة، وأقمت مطالباً بالخلعة والدنانير وهو يمطلني ويعدني، فلما كان يوماً قلت يا مولانا: في الخزانة بياض صيني وعتيق مقطوع وصحيح، فتعطيني المقطوع منه كله دون الصحيح بالخلعة والدنانير. قال مر وخذه فمضيت وأخذت جميع ما كان فيها من ذلك النوع فكتبت فيه سنين.
كان مزاحاً - وله في هذا الكتاب باب - وعلى بن هلال ووجدت في تاريخ أبي لبفرج بن الجوزي قال: اجتاز أبو الحسن البتي الكاتب و كان مزاحاً - وله في هذا الكتاب باب - وعي ابن هلال جالس على باب الوزير فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف ينتظر الإذن. فقال له البتي: جلوس الأستاذ على العتب رعاية للنسب. فغضب ابن البواب وقال: لو أن إلي أمراً ما مكنتك من دخول هذه الدار. فقال البتي: لا يترك الأستاذ صنعة الوالد بحال. ولبعضهم يهجو ابن البواب:
ماذا رأيتم من النساخ متخذاً ... سبال لص على عثنون محتال؟
هذا وأنت ابن بواب وذو عدم ... فكيف لو كنت رب الدار والمال؟
وكان ابن البواب يقول شعراً ليناً. - ونقلته من خط الجويني أيضاَ قال: ونقلت من خطه أيضاً في ضمن رسالة - منه:
ولو أني أهديت ما هو فرض ... للرئيس الأجل من أمثالي
لنظمت النجوم عقداً إذا رص ... صع غيري جواهراً بلآلي
ثم أهديتها إليه وأقرر ... ت بعجزي في القول والأفعال
غير أني رأيت قدرك يعلو ... عن نظير ومشبه ومثال
فتفاءلت في الهدية بالأق ... لام علماً مني بصدق الفال
فاعتقدها مفاتح الشرق والغر ... ب صريعاً والسهل والأجبال
فهي تستن إن جرين على القر ... طاس بين الأرزاق والآجال
فاختبرها موقعاً برسوم ال ... بر والمكرمات والإفضال
واحظ بالمهرجان وابل جديد الد ... هر في نعمة بغير زوال
وابق للمجد صاعد الجد عزاً ... والرئيس الأجل نجم المعالي

في سرور وغبطة تدع ال ... حاسد منها مقطع الأوصال
عضدتها السعود واستوطن الإق ... بال فيها وسالمتها الليالي
أيها الماجد الكريم الذي يب ... دأ بالعارفات فبل السؤال
إن آلاءك الجزيلة عندي ... شرعت لي طريقة في المقال
أمنتني لديك من هجنة الر ... رد وفرط الإضجار والإملال
وحقوق العبيد فرض على الس ... سادة في كل موسم للمعالي
وحياة الثناء تبقى على الده ... ر إذا ما انقضت حياة المال
وكان تحت هذا الشعر بخط الجويني ما صورته: هذا شعر ابن البواب، وهو عورة سترها ذلك الخط، ولولا أن الإجماع واقع في أن الرجل يفتن بشعره وولده، لكان صاحب تلك الفضيلة يرتفع عن هذه النقيصة. وكتب تلميذه حسن ابن علي الجويني: ولقد عجبت ممن يزري على ذلك الشعر وهو القائل، ونقلته من خطه فقال: كتبت إلى المولى القاضي الأجل شرف الدين السديد عبد الله بن علي - أمتع الله الدنيا وأهلها ببقائه - وقد أبللت من مرضة صعبة:
عبد الإله السديد حقاً ... بغير زور وغير مين
يا شرف الدين يا فريداً ... شرف بالفضل دولتين
يا تاج فخري وكنز فقري ... ويا معيني ونور عيني
قد كدت أقضي أسىً وأمضي ... وكدت تبقى بلا جويني
وكتب حسن بن علي الجويني في ذي القعدة سنة ست وستين وخمسمائة بالديار المصرية - عمرها الله تعالى بدوام العز - : وقال المعري وضرب علي بن هلال مثلاً:
طربت لضوء البارق المتعالي ... ببغداد وهناً ما لهن ومالي؟
فيا برق ليس الكرخ داري وإنما ... رمى بي إليه الدهر منذ ليالي
فهل فيك من ماء المعرة نغبة ... تغيث بها ظمآن ليس نسالي؟
ولاح هلال مثل نون أجادها ... بماء النضار الكاتب ابن هلال
ومنها:
إذا لاخ إيماض سترت وجوهها ... كأني عمرو والمطي سعا لي
هذا بيت مشكل التفسير بعيد المرمى، وذلك أن عمرو بن تميم بن مر بن أد بن طابخة ولد العنبر والهجيم ومازن، تقول العرب إن هؤلاء الأخوة الثلاثة أمهم السعلاة وهي الغولة، وإن عمرو بن تميم تزوجها فولدت له هؤلاء الثلاثة.
ويقولون: إن السعلاة إذا رأت البرق طلبته، وكان عمرو يحفظها من البرق إذا لاح فيغطي وجهها، فغفل عنها مرة فلاح البرق فطلبته وقالت: يا عمرو أوصيك بولدك خيراً، ومضت ولم تعد إليه، فهذا معنى بيت المعري، وقد ضربه بعض المتأخرين أيضاً مثلاً، فقال يمدح رجلاً يعرف بابن بدر بجودة الخط فقال:
يا ابن بدر علوت في الخط قدراً ... حينما قايسوك بابن هلال
ذاك يحكي أباه في النقص لما ... جئت تحكي أباك عند الكمال
قرأت بخط سلامة بن عياض: رأيت بالري بخط علي بن هلال كتاب من نسب من الشعراء إلى أمه لأبي عبد الله بن الأعرابي، وهم خمسون شاعراً، وعلى ظهره: كتبه علي بن هلال في شهر ربيع الأول سنة تسعين وثلاثمائة، وبعد البسملة: يرويه ابن عرفة عن ثعلب عن ابن الأعرابي، وفي آخره بخطه: نقلته من نسخة وجدت عليها بخط شيخنا أبي الفتح عثمان بن جني النحوي - أيده الله - : بلغ عثمان بن جني نسخاً من أوله وعرضاً.
وكان لابن البواب يد باسطة في الكتابة أعني الإنشاء وفصاحة وبراعة، ومن ذلك رسالة أنشأها في الكتابة وكتبها إلى بعض الرؤساء ونقلتها من خط الحسن بن علي الجويني الكاتب أولها:

قد افتتحت خدمة سيدنا الأستاذ الجليل - أطال الله بقاءه وأدام تمكينه وقدرته وتمهيده وكبت عدوه - بالمثال المقترن بهذه الرقعة افتتاحاً يصحبه العذر إلى جليل حضرته من ظهور التقصير فيه، والخلل البادي لمتأمليه، وقد كان من حقوق مجلسه الشريف أن يخدم بالغايات المرضية من كل صناعة، تأدياً لسؤدده وعلائه، وتصدياً للفوز بجميل رأيه، ولم يعد بي عن هذه القضية جهل بها، وقصور عن علمها، لكني هاجر لهذه الصناة منذ زمن طويل هجرة قد أورثت يدي حبسة ووقفة، حائلتين بينها وبين التصرف والافتتان والوفاء بشرط الإجادة والإحسان، ولا خفاء عليه - أدام الله تأييده - بفضل الحاجة ممن تعاطى هذه الصناعة إلى فرط التوفر عليها، والانصراف بجملة العناية إليها، والكلف الشديد بها، والولوع الدائم بمزاولتها، فإنها شديدة النفار، بطيئة الاستقرار، مطمعة الخداع، وشيكة النزاع، عزيزة الوفاء، سريعة الغدر والجفاء، نوار قيدها الأعمال، شموس قهرها الوصال، لا تسمح ببعضها إلا لمن آثرها بجملته، وأقيل عليها بكليته، ووقف على تألفها سائر زمنه، واعتاضها عن خله وسكنه، ولا يؤسيه حيادها، ولا يغره انقيادها، يقارعها بالشهوة والنشاط، ويوادعها عند الكلال والملال، حتى يبلغ منها الغاية القصية، ويدرك المنزلة العلية، وتنقاد الأنامل لتفتيح أزهارها، وجلاء أنوارها، وتظهر الحروف موصولة ومفصولة، ومعماة ومفتحة في أحسن صيغتها، وأبهج خلقتها، منخرطة المحاسن في سلك نظامها، متساوية الأجزاء في تجاورها والتيامها، لينة المعاطف والأرداف، متناسبة الأوساط والأطراف، ظاهرها وقور ساكن، ومفتشها بهج فاتن، كأنما كاتبها وقد أرسل يده وحث بها قلمه، رجع فيها فكره ورويته، ووقف على تهذيبها قدرته وهمته، القلب بها في حجر ناظره، والمعنى بها مظلوم بلفظه، وما ذهبت في هذه الخدمة مذهب المطرف المغرب بها، ولا المعول على شوافعها، لكن نهجت بها سبيلاً لأمثالها إقامة لرسم الخدمة المفروضة للسادة المنعمين على خدمهم وصنائعهم، فإن سعدت بنفاقها عليه وارتضائها لديه، سلمت من وصمة التضجيع والإهمال، وهجنة التقصير في شكر الإنعام والإفضال، ولسيدنا الجليل - أطال الله بقاءه - علو الرأي في الأمر بتسلم ما خدمت به، وتصريفه بين عالي أمره ونهيه إن شاء الله تعالى وحدث غرس النعمة محمد بن هلال بن المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابئ في كتاب الهفوات قال: كان في الديوان كاتب يعرف بأبي نصر بن مسعود فلقي يوماً أبا الحسن علي ابن هلال البواب الكاتب ذا الخط المليح في بعض الممرات فسلم عليه وقبل يده. فقال له ابن البواب: الله الله يا سيدي ما أنا وهذا؟ فقال له: لو قبلت الأرض بين يديك لكان قليلاً. قال: لم؟ ولم ذاك يا سيدي؟ وما الذي أوجبه واقتضاه؟ قال: لأنك تفردت بأشياء ما في بغداد كلها من يشاركك فيها، منها الخط الحسن وأنه لم أر من عمري كاتباً من طرف عمامته إلى لحيته ذراعان ونصف غيرك. فضحك أبو الحسن منه وجزاه خيراً وقال له: أسألك أن تكتم هذه الفضيلة علي ولا تكرمني لأجلها. قال له: ولم تكتم فضائلك ومناقبك؟فقال له: أنا أسألك هذا فبعد جهد ما أمسك، وكانت لحية ابن البواب طويلة جداً.
قال المؤلف: وأما الشعر الذي رثاه به المرتضى فهو:
رديت يا بن هلال والردى عرض ... لم يحم منه على سخط له البشر
ما ضر فقدك؟ والأيام شاهدة ... بأن فضلك فيه الأنجم الزهر؟
أغنيت في الأرض والأقوام كلهم ... من المحاسن ما لم يغنه المطر
فللقلوب التي أبهجتها حزن ... وللعيون التي أقررتها سهر
وما لعيش إذا ودعته أرج ... ولا الليل إذا فارقته سحر
وما لنا بعد أن أضحت مطالعنا ... مسلوبة منك أوضاح ولا غرر

علي بن الهيثم الكاتب المعروف بجونقا
كان أحد الكتاب المستخدمين في ديوان المأمون وغيره من الخلفاء، وكان فاضلاً أديباً كثير الاستعمال للتقعير والقصد لعويص اللغة، حتى قال المأمون فيما حدث به الفضل بن محمد اليزيدي عن أبيه قال:

قال المأمون: أنا أتكلم مع الناس أجمعين على سجيتي إلا علي بن الهيثم فإني أتحفظ إذا كلمته، لأنه يغرق في الإغراب. ونقلت من خط الصولي في أخبار شعراء مصر قال: وممن دخل مصر خالد بن أبان الكاتب الأنباري أخو عبد الملك بن أبان، حدثني الحسين بن علي الباقطائي: أنه شخص إلى مصر فبلغه اتساع حال علي بن الهيثم وكانت بينهما حرمة وكيدة، فكتب إليه من مصر بشعر طويل منه وكتب بماء الذهب.
على الخالق الباري توكلت إنه ... يدوم إذا الدنيا أبادت قرونها
فداؤك نفسي يا علي بن هيثم ... إذا أكلت عجف السنين سمينها
رميتك من مصر بأم قلائدي ... تزان وقد أقسمت ألا تهينها
بأبيات شعر خط بالتبر وشيها ... إليك قدماً حال حولان دونها
ويذكر فيه خبره مع غرمائه والقاضي، فبعث إليه سفتجة بألف دينار، وكتب إلى عامل مصر في استعماله فحسنت حاله.
وقال الجهشياري: كان لخالد بن أبان الكاتب الأنباري الشاعر حرمة بعلي بن الهيثم وبأبيه أيام مقامهم بالأنبار، وأضاق واختلت حاله وتدين من التجار ما أنفقه، فكثر غرماؤه وقدموه إلى القاضي فحبسه، ثم فلسه وأطلقه، وأقام بمصر وساءت حاله، وبلغه أن علياً قد عظم قدره، وتقلد ديوان الخراج للفضل بن الربيع لما استوزره الرشيد بعد البرامكة وارتفع مع المأمون بعد ذلك، فكتب إليه قصيدة نحواً من سبعين بيتاً في رق بالذهب وبعث بها إليه أولها: على الخالق الباري. الأبيات، فوجه إليه بألف دينار.
قال أبو بكر محمد بن خلف بن المرزباني: حدثنا أبو علي الحسن بن بشر، حدثني أبي قال: دخل علي بن الهيثم إلى سوق الدواب فلقيه نخاس فقال له: هل من حاجة؟ قال: نعم، الحاجة أناختنا بعقوتك، أردت فرساً قد انتهى صدره، وتقلقلت عروقه، يشير بأذنيه، ويتعاهدني بطرف عينيه، ويتشوف برأسه، ويعقد عنقه، ويخطر بذنبه، ويناقل برجليه، حسن القميص جيد الفصوص وثيق القصب، تام العصب، كأنه موج لجة، أو سيل حدور. فقال له النخاس: هكذا كان صلى الله عليه وسلم.
وقال المرزباني في المعجم: علي بن الهيثم التغلبي كاتب الفضل بن الربيع كان لسناً فصيحاً شاعراً، عاتبه الفضل يوماً على تأخره عنه وزاد عليه فقال:
وعدني الفضل رخيصاً جداً ... فعقني وازور عني صدا
وظن والظنون قد تعدا ... أني لا أصيب منه أبدا
أعد منه ألف بد عدا
وانصرف فلم يعمل للسلطان عملاً. حدثنا محمد اليزيدي قال: شهدت المأمون وهو جالس على دكة الشماسية، وعنده أحمد بن الجنيد الإسكافي وجماعة من الخاصة، إذ دخل عليه علي بن الهيثم المعروف بجونقا، فلما قرب منه قال: يا عدو الله يا فاسق يا لص يا خبيث سرقت الأموال وانتهبتها، والله لأفرقن بين لحمك وعظمك ولأفعلن، ثم سكن غضبه قليلاً، فقال أحمد بن الجنيد: نعم والله يا أمير المؤمنين، إنه وإنه ولم يدع شيئاً من المكروه إلا قاله فيه، فقال له المأمون وقد هدأ غضبه: يا أحمد، ومتى اجترأت على هذه الجرأة؟ رأيتني وقد غضبت فأردت أن تزيد في غضبي، أما إني سأؤدبك فأؤدب بك غيرك، يا علي بن الهيثم، قد صفحت عنك ووهبت لك كل ما كنت أقدر أن أطالبك به، ثم رفع رأسه إلى الحاجب وقال: لا يبرح ابن الجنيد الدار حتى يحمل إلى علي ابن الهيثم مائة ألف درهم ليكون له بذلك عقل، فلم يبرح حتى حملها.

الجهشياري: أمر المأمون أن يؤذن للناس إذناً عاماً وأن يجلسوا على مراتبهم التي كانت قديماً إلى أن تعرض عليه فيأمر فيها بأمره ففعلوا ذلك، ودخل علي بن الهيثم فجلس في مجلس العرب وتغامز الكتاب عليه، وأقبل عبيد الله بن الحسن العلوي فقال إبراهيم بن إسماعيل بن داود الكاتب للكتاب: أطيعوني وقوموا معي، فمضوا بأجمعهم مستقبلين لعبيد الله بن الحسن، فسلموا عليه فرد عليهم. فقالوا لنا حاجة، فقال مقضية، قالوا: تجلس في مجلسنا. فقال: سبحان الله: ينكر ذلك أمير المؤمنين. قالوا: هي حاجة تقضيها لنا ونحتمل ما ينالك فيها. قال: أفعل لعلمي بموقع الكتاب من قلوب السلاطين وقدرتهم على إصلاح قلوبهم إذا فسدت، وإفسادها إذا صلحت، ومال إلى ناحيتهم فجلس معهم. وكتب صاحب المراتب إلى المأمون، فلما وقف على الموضع الذي جلس فيد عبيد الله أنكره وبعث إليه: ما هذا المجلس الذي جلست فيه؟ فقال إبراهيم بن إسماعيل للرسول: بلغ أمير المؤمنين عند السلام وقل له: خدمك وعبيدك الكتاب يقولون: العدل والإنصاف موجودان عندك وعند أهلك، أخذتم منا رجلاً من وجوه النبط فأخذنا مكانه وجهاً من وجوه أهلك، ذلك علي بن الهيثم جالس مع العرب، فردوا علينا رجلنا وخذوا رجلكم، فضحك جميع من في داره وتشوس علي بن الهيثم وضحك المأمون وقال: لقد مني علي بن الهيثم من إبراهيم بن إسماعيل ببلاء عظيم، وكان أبو يعقوب إسحاق بن حسان الخزيمي قد أغري بهجاء علي بن الهيثم الأنباري الكاتب، وكان السبب في ذلك أنه وقع لأبي يعقوب عنده ميراث فدافعه فهجاه، وكان علي بن الهيثم متشدقاً متفيقهاً يدعي العربية ويقول: إنه تغلبي وكان من قرية يقال لها أنقوريا، ففي ذلك يقول الخزيمي:
أنقوريا قرية مباركة ... تقلب فخارها إلى الذهب

محمد بن علي العباسي عن أبيه قال: شهدت علي بن الهيثم جونقاً، وقد حضره منارة صاحب الرشيد فقال له: يا منارة استلبت لوطي. فقال: - أصلحك الله - ما ظننتك تتلقاني بمثل هذا؟ شيخ مثلي يلعب بالصبيان، فضحك جميع من في المجلس، اللوط: الإزار. كأنه أراد أنك لم تحسن عشرتي وأنك أخذت ثيابي. وذكر حماد بن إسحاق عن بشر المريسي قال: حضرت المأمون أنا وثمامة ومحمد بن أبي العباس الطوسي وعلي بن الهيثم فناظروا في التشيع. فنصر محمد بن أبي العباس مذهب الإمامية، ونصر علي بن الهيثم مذهب الزيدية، وشرق الأمر بينهما، إلى أن قال محمد بن أبي العباس لعلي بن الهيثم: يا نبطي ما أنت والكلام؟ فقال المأمون وكان متكئاً فجلس: الشتم عي والبذاء لؤم، وقد أبحنا الكلام وأظهرنا المقالات، فمن قال بالحق حمدناه، ومن جهل وقفناه، ومن ذهب عن الأمر حكمنا فيه بما يجب، فاجعلا بينكما أصلاً، فإن الكلام الذي أنتم فيه من الفروع، فإذا افترعتما شيئاً رجعتما إلى الأصول، ثم عادا إلى المناظرة فأعاد محمد بن أبي العباس لعلي بن الهيثم مثل مقالته الأولى: فقال له علي: والله لولا جلالة المجلس وما وهب الله من رأفة أمير المؤمنين وأنه قد نهانا لأعرفت جبينك، وحسبنا من جهلك غسلك المنبر بالمدينة. فاستشاط المأمون غضباً على محمد وأمر بإخراجه، فعاذ بطاهر حتى شفع فيه، فرضي عنه. ميمون بن هارون بن مخلد ابن أبان حدثني أبي قال: أدخلني أبي مخلد بن أبان مع القاسم بن أحمد بن الجنيد، وكان مخلد وأحمد متواخيين في شراء غلات السواد، فأشرفنا على ربح عشرة آلاف ألف درهم، ثم اتضع السعر فحصل علينا وضيعة ستة آلاف ألف درهم فطولبنا بها أشد مطالبة، واشتد كتاب المأمون علينا فيها، وكان المأمون يستاك في كل يومين ساعتين كاملتين. فدعاني المأمون يوماً وهو يستاك وكلمني بشيء ثم قال لي: ما معنى قول الخريمي في علي بن الهيثم؟ فدبنقاً لذاك الحديث دبنقاً. فقلت له: أنا أتكلم بالنبطية ولا أعلم ما معنى هذا، وأحمد بن الجنيد أرطن بها منىً، فأومأ إلي بمسواكه أن انصرف فانصرفت، فلما بلغت الستر حتى لقيني أحمد ابن الجنيد داخلاً وكان ذا خرج من الدار قبلي انتظرني، وإذا خرجت قبله انتظرته، فوقفت منتظراً له فإذا به قد خرج فقلت له: ما كان خبرك؟ فأخرج إلى توقيع المأمون بخطه بترك ما كنا نطالب به من الستة آلاف ألف عن ابني وابنه. وقال: قال لي: ما معنى قول الخزيمي فدبنقاً لذا الحديث دبنقاً؟ فقلت: ضرطاً لذا الحديث فضحك وقال لي: إني سألت مخلداً عنها فلم يعرفها فاسأل حاجة، فقلت: ابتاع ابني وابن مخلد غلات السواد وقدرنا للربح فخسرنا ستة آلاف ألف درهم ولا حيلة لنا فيها وضيعتي بجلولاً تساوي ثلاثة آلاف ألف درهم، فيأمر أمير المؤمنين بأخذها عن ابن مخلد وتسبيب ما على ابني علي لأحتال له أولاً فأولاً، فقال: ويحك، تبذل نفسك وضيعتك عن ابن مخلد؟ فقلت: نعم، أنا غررته وأملت الربح ومنعته أن يعقده على التجار ويتعجل فصله، وقد كانوا بذلوا لنا فيه ربحاً كبيراً. فقال لي: أي نبطي أنت؟ هات الدواة، فقدمتها إليه فوقع بإبرائنا جميعاً من المال وترك ضيعتي علي. وقال المأمون يوماً: ببابي رجلان: أحدهما أريد أن أضعه وهو يرفع نفسه، وهو علي ابن الهيثم، والآخر أريد أن أرفعه وهو يضع نفسه، وهو الفضل بن جعفر بن يحيى بن خالد برمك.

علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم
أبو الحسن. كان أبوه يحيى أول من خدم من آل المنجم، وأول من خدم المأمون وقد ذكر في بابه، ونادم ابنه علي هذا المتوكل، وكان من خواصه وندمائه والمتقدمين عنده، وخص به وبمن بعده من الخلفاء إلى أيام المعتمد على الله، وكان شاعراً راوية علامة أخبارياً.مات سنة خمس وسبعين ومائتين ودفن بسر من رأى في آخر أيام المعتمد. وأخذ أبو الحسن هذا عن جماعة من العلماء منهم: إسحاق بن إبراهيم وشاهده، وكان يجلس بين يدي الخلفاء ويأمنونه على أسرارهم، وكان حسن المروءة ممدحاً فاتصل بمحمد بن إسحاق بن إبراهيم المصعبي. ثم اتصل بالفتح بن خاقان وعمل له خزانة نقل إليها من كتبه ومما استكتبه للفتح بن خاقان أكثر، ما اشتملت عليه خزانة حكمة فقط، وله تصانيف منها: كتاب الشعراء القدماء والإسلاميين، كتاب أخبار إسحاق بن إبراهيم، كتاب الطبيخ.

قال عبيد الله بن أبي طاهر: كان أبو الحسن علي بن يحيى مشتهراً بالأدب كله مائلاً إلى أهله معتنياً بأمورهم، وكان منزله مألفاً لهم، وكان يوصل كثيراً منهم إلى الخلفاء والأمراء، ويستخرج لهم منهم الصلات، وإن جرى على أحد منهم حرمان وصله من ماله.
وكان يبلغ من عنايته بهم ورغبته في نفعهم أنه كان ربما أهدى إلى الخلفاء والأمراء عنهم الهدايا الظريفة المليحة ليستخرج لهم بذلك ما يحبون.
قال: حدثني أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى قال: قدم على أبي إدريس بن أبي حفصة في أيام المتوكل وتوسل إليه، فأوصل شعره إليه وكلمه فيه، فاستخرج له منه عشرة آلاف درهم، فقال إدريس بن أبي حفصة:
أضحى علي بن يحيى وهو مشتهر ... بالصدق في الوعد والتصديق في الأمل
لو زيد بالجود في رزق وفي أجل ... لزاد جودك في رزقي وفي أجلي
ثم وصله من ماله - لما عزم إدريس على الانصراف إلى بلده - بجملة جليلة، ولم يزل إدريس مقيماً عنده في ضيافته إلى وقت ارتحاله، فقال إدريس عند وداعه إياه.
ما من دعوت ولباني بنائله ... كمن دعوت فلم يسمع ولم يجب
إني وجدت علياً إذ نزلت به ... خيراً من الفضة البيضاء والذهب
وحدث علي بن هارون بن يحيى بن المنجم في كتاب الأمالي له قال: حدثني عمي أبو أحمد يحيى بن علي، حدثني أبي علي بن يحيى قال: وفد علي عافية بن شبيب بن خاقان بن الأهتم السعدي من البصرة فأنزلته علي وأحسنت ضيافته، ورعيت له حرمة الأدب الذي توسل به، فأقام معي مدة في كفاية وكرامة وحسن ضيافة، وحملته على فرس واستوصلت له جماعة من إخواني، فأخذت له منهم ما تأثث به حاله وأصلح به شأنه، ثم ذكرته للمتوكل - رحمة الله عليه - ووصفت له أدبه، وأن معه ظرفاً يصلح به لمجالسته، فأمرني بإحضاره، ودخل عليه فوصله وأجرى عليه رزقاً وجالسه، فمكث مدة على ذلك ثم انفرجت الحال بيني وبينه، وكفر ما كان من إحساني إليه، وبسط لسانه يذكرني بما لم أستحقه منه، وكان المتوكل يغريه بي لما رأى منه، فيضحك المتوكل مما يجري، ويجيئني ذلك فيه وهو لا يدري. قال أبو الحسن: فأهدى في يوم من أيام النوازير إلى المتوكل فرساً فنظر إليه المتوكل فاستحسنه، ثم أقبل على الفتح بن خاقان فقال: أما ترى إلى هذا الفرس الذي أهداه عافية، ما أحسنه وأعتقه؟! هذا خلاف ما يصفه به علي بن يحيى من صغر الهمة وضيق النفس والخساسة، من تبلغ همته إلى أن يهدي مثل هذا الفرس لا يوصف بالخساسة ولا بضيق النفس، وهو في ذلك كله ينظر إلي ويقصدني بالكلام ويريد العبث بي، فتركته حتى أطنب في هذا المعنى وبلغ منه ما أراد، ثم قلت له: يا أمير المؤمنين، أليس من أهدى مثل هذا الفرس عندك ذا همة وقدر؟ قال: بلى. قال: قلت: فأبعد همة وأرفع قدراً من حمله عليه. قال: ومن حمله عليه؟ قال: قلت أنا حملته عليه. قال: فقال: يا عافية ما يقول علي؟ قال: فقال: صدق يا أمير المؤمنين هو حملني عليه. قال: فانكسر عني ثم. أقبل علي الفتح خجلاً فسريت الحال بيني وبين عافية حتى هجاه من كان يطوف به من الشعراء، فقال فيه أبو عبد الله أحمد بن أبي فنن وكنت أدخلته على المتوكل، وجالسه وشكر لي ذلك إذ كفره عافية:
ستعلم أن لؤم بني تميم ... سيظهر منه للناس الخفي
وما إن ذاك أنك من تميم ... ولكن ربما جر الدعي
وقال فيه أبو هفان:
لو كنت عافية لكنت محبباً ... في العالمين كما تحب العافية
وقال فيه أبو الحسن البلاذري:
من رآه فقد رأى ... عربياً مدلسا
ليس يدري جليسه ... أفسا أم تنفسا؟
وقال فيه أبو العنبس الصيمري:
أبا حسن بمنصبك الصميم ... أ أذن في السلاح على التميمي؟
فوالرحمن لولا ألف سوط ... لفارق روحه روح النسيم
وهجاه أبو الحسن علي بن يحيى المنجم فقال:
أأهجو تميماً إن تعرض ملصق ... إليها دعي قد نفته قرومها؟
فآخذها طرا بذنب دعيها ... فأين نها قومي وأين حلومها؟؟
وما في دعي القوم ثأر لثائر ... ولم تقترف ذنباً فيهجى صميمها

أعافي إلى اللوم منك سجية ... وشر خلال الأدعياء قديمها
قال أبو الحسن: وترقى به الأمر في منابذتي إلى أن ادعى في يوم من الأيام بحضرة المتوكل لأنه أحسن مروءة مني. فقال الفتح: محنة هذا سهلة، يوجه أمير المؤمنين إلى منزلهما من يحضر ما يجد من الطعام حاضراً، فدعا المتوكل بقائد من قواده وقال: امض إلى منزل علي ابن يحيى فانظر ما تجد فيه من الطعام حاضراً فأحضره، وامنعهم من أن يشتروا شيئاً أو يعملوه، وافعل مثل ذلك بمنزل عافية، فصار إلى منزل علي بن يحيى فوجد فيه طعاماً عتيداً فحمل جونة حسنة، وصار إلى منزل عافية فلم يجد فيه غير سفرة خلقة معلقة في مجلسه، فأمر فأنزلت فوجد فيها كسراً من خبز خشكار وملحاً من ملح السوق، وقطعة جبن يابس، وقطعة من سمك مالح، وقصعة مكسورة فيها ذلك الملح، وخرقة وسخة منقطعة، فحمل السفرة بحالها وصار إلى المتوكل فعرض عليه الجونة فاستحسنها وقال للفتح: أما ترى ما أنظف هذا الطعام وأحسنه؟! وأحضر السفرة فقال: ما هذا؟ قال: هذا هو الذي وجدته في منزل عافية. قال: افتحوها، ففتحت فاستقذر ما رأى فيها وعجب منه وقال: يا فتح، أظننت أن رجلاً يجالسني وقد وصلته بعدة صلات فيكون هذا مقدار مروءته؟ فقال: لا والله يا أمير المؤمنين ما له عذر، فدعا بخادم من خدمه وقال: امض إلى عبيد الله بن يحيى فقل له: أخرج إلى ما وصل إلى عافية من مالي من رزق وصلة منذ خدمني إلى هذا الوقت، فمضى الخادم ولم يكن بأسرع من أن وافى برقعة من عبيد الله وفيها مبلغ ما صار إلى عافية،فإذا هو ثلاثمائة ألف درهم. فقال المتوكل: يا فتح، أما كان يجب أن يتبين أثر النعمة على من وصل إليه هذا المال؟ ما في هذا خير ولا يصلح مثله لمجالستي؟ فأخرجه من الجالسة وأمر بنفيه إلى البصرة وهي بلده، فلما حضر خروجه طالبته صاحبة المنزل بأجرته، فدفع إليها ببقية مالها عليه حبا كان في الدار خلقاً، واتصل الخبر بابن المنجم قال: فصرت إلى المتوكل فعرفته ذلك فعجب منه وأمر بإحضار المرأة ومسألتها فأخبرت به، فأمر لها بصلة وتقدم إلى عبيد الله في أخذ الحب وإنفاذه مع رسول فاصد خلف عافية يلحقه بالبصرة وأمره أن يكتب إلى صاحب المعونة وصاحب الصدقة والخراج والقاضي وصاحب البريد بحضور الجامع والتقدم إلى وجوه أهل البصرة في الحضور وإحضار عافية وتسليم الحب إليه بحضرتهم وإشهادهم عليه وتعريفهم ما كان من خبره مع المرأة صاحبة داره، ففعل ذلك وصار به عافية شهرة في بلده.

وحدث هارون عن عمه عن أبيه علي بن يحيى قال: كنت أنادم المتوكل في كل ليلة من الليالي، فغلب على النبيذ فأطرقت كالمهموم وأنا منتصب قال: فدعا المتوكل بنصر سلهب وقال: امض إلى منزل علي بن يحيى فانظر ما تجد فيه من الطعام فاحمله إلي واعجلهم غاية الإعجال ولا تدعهم يهيئون شيئاً، قال: فمضى نصر فامتثل أمره وحمل جونة مملوءة من ضروب الطعام وجاء بها إلى المتوكل، ففتحت بين يديه ففاحت برائحة شوقته إلى الطعام، واستحسن ما رأى فيها فأكل منها والفتح معه، ثم قال له: أما ترى ما أحسن هذا الطعام وما أطيبه وأنظفه؟! ولو كان علي أعد هذا لمثل ما كان منا ما زاد على حسن هذه الجونة وطيب ما فيها. قال: فقال له الفتح: هذا يا أمير المؤمنين يدل على مروءته، وإنه ليجب أن يعان عليها. قال: فصاح بي يا علي، فقمت قائماً وقلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: تعال، فقربت منه فقال انظر: إلى هذه الجونة وما فيها، فنظرت إليها فقال: كيف تراه؟ قلت: أرى طعاماً حسناً، قال: فتدري من أين هو؟ فقال قلت: لا يعلم الغيب إلا الله. قال: فإنها من منزلك، وإني فعلت كذا وكذا وقص على القصة وقال: قد والله سرني ما رأيت من مروءتك وسرورك، وكذا فليكن من خدم الملوك، قال لي: ما تحب أن أهب لك؟ قال: قلت مائة ألف دينار، قال: أنت والله تستحقها وما هو أكثر منها، يمنعني من دفعها إليك إلا كراهة الشنعة وأن يقال: وصل جليساً من جلسائه في ليلة بمائة ألف دينار، ولكني أوصلها إليك متفرقة وأضمن فتحاً إذكاري بذلك حتى تستوفيها، وقد وصلتك بمائة ألف درهم على غير صرف فانصرف بها معك. قال: وأمر بإحضارها فأحضرت عشر بدر وحملت معي إلى منزلي، ثم لم يزل يتابع لي الصلات حتى وفاني مائة ألف دينار. قال علي بن يحيى: وأحصيت ما وصل إلي من أمير المؤمنين المتوكل من رزق وصلة فكان مبلغه ثلاثمائة ألف دينار.قال: ولما مات علي بن يحيى قال ابن بسام يرثيه:
قد زرت قبرك يا علي مسلماً ... ولك الزيارة من أقل الواجب
ولو استطعت حملت عنك ترابه ... فلطالما عني حملت نوائبي
وفي كتاب النورين للحصري: وقال علي بن المنجم: فلا أدري أهو هذا أم علي بن هارون بن علي بن يحيى بن المنجم؟:
ومن طاعتي إياه أمطر ناظري ... إذا هو أبدى من ثناياه لي برقاً
كأن جفوني تبصر الوصل هارباً ... فمن أجل ذا تجري لتدركه سبقاً
ولعلي هذا ابن يكنى أبا عيسى واسمه أحمد، كان أديباً وهو مذكور في بابه. وقال علي بن يحيى يرثي المأمون ويمدح المعتصم:
من ذا على الدهر يعديني فقد كثرت ... عندي جنايته يا معشر الناس
أخنى على الملك المأمون كلكله ... فصار رهناً لأحجار وأرماس
قد كاد ينهد ركن الدين حين ثوى ... ويترك الناس كالفوضى بلا رأس
حتى تداركهم بالله معتصم ... خير الخلائف من أولاد عباس
ودخل أبو علي البصير على علي بن يحيى وقد أصيب ببعض أهله، وكان قد بعث إليه ببر قبل ذلك فقال له: بلغني مصابك، ووصل إلي ثوابك، فأحسن الله جزاءك وعزاءك. قال المرزباني وهو القائل في نفسه:
علي بن يحيى جامع لمحاسن ... من العلم مشغوف بكسب المحامد
فلو قيل: هاتوا فيكم اليوم مثله ... لعز عليكم أن تجيئوا بواحد
وله:
سيعلم دهري إذا تنكر أنني ... صبور على نكرانه غير جازع
وأني أسوس النفس في حال عسرها ... سياسة راض بالمعيشة قانع
كما كنت في حال اليسار أسوسها ... سياسة عف في الغنى متواضع
وأمنعها الورد الذي لايليق بي ... وإن كنت ظمآن بعيد الشرائع
وله:
بأبي والله من طرفا ... كابتسام الصبح إذ خفقا
زادني شوقاً برؤيته ... وحشا قلبي به حرفا
من لقلب هائم كلف ... كلما سكنته قلقا
زارني طيف الحبيب فما ... زاد أن أغرى بي الأرقا
ولما مات علي بن يحيى قال علي بن سليمان أحد شعراء العسكر يرثيه:
قد زرت قبرك يا علي مسلماً ... ولك الزيارة من أقل الواجب

ولو استطعت حملت عنك ترابه ... فلطالما عني حملت نوائبي
ودمي فلو علمت بأنهيروي ثراك سقاه صوب الصائب
لسفكته أسفاً عليك وحسرة ... وجعلت ذاك مكان دمع ساكب
فلئن ذهبت بملء قبرك سؤدداً ... لجميل ما أبقيت ليس بذاهب
وحدث أبو علي التنوخي في نشواره: حدثني أبو الحسن ابن أبي بكرالأزرق قال: حدثني أبي قال: كان بكركر من نواحي القفص ضيعة نفيسة لعلي بن يحيى بن المنجم وقصر جليل فيه خزانة الحكمة يقصدها الناس من كل بلد فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم، والكتب مبذولة في ذلك لهم، والصيانة مشتملة عليهم، والنفقة في ذلك من مال علي بن يحيى، فقدم أبو معشر المنجم من خراسان يريد الحج وهو إذ ذاك لا يحسن كبير شيء من النجوم، فوصفت له الخزانة فمضى ورآها فهاله أمرها، فأقام بها وأضرب عن الحج وتعلم فيها علم النجوم وأعرق فيه حتى ألحد، وكان ذلك آخر عهده بالحج وبالدين والإسلام أيضاً. وذكر جحظة في أماليه: حدثنا ابن حميد قال: قال المتوكل لعلي بن يحيى المنجم: اهج مروان بن أبي الجنوب. فقال: يا أمير المؤمنين، ومن مروان حتى أهجوه؟ قال: مروان مولى بني أمية ومولى القوم منهم، وبعد: فإنهم بنو عمي وأتت العداوة بيننا، فأنت من أنت؟ قال: أنا مولاك يا أمير المؤمنين. قال: دعنا من هذا البرود، اهج الرجل وإلا أمرته أن يهجوك. فوقف ساعة متفكراً فاندفع مروان يقول:
ألا إن يحيى لا يقاس إلى أبي ... وعرض علي لا يقاس إلى عرضي
أناس من الأنباط أكثر فخرهم ... إذا فخر الأشراف بعضاً على بعض
تنحل أصلاً في المجوس ودعوة ... إليهم نفاها من بحكمهم يقضي
أبى ذاك آذرباد فيكم فأنتم ... من السفل الأرذال وللنبط المحض
حديثكم غث وقربكم أذى ... وآدابكم ممزوجة المقت بالبغض
تسوقتم عند الإمام بحبه ... وسوقكم عند الروافض بالرفض
متى ما تعاط المجد والفخر أهله ... فلستم من الإبرام فيه ولا نقص
إخال علياً من تكامل مقته ... يطاحر وجهي وهو يمشي على الأرض
قال أحمد بن أبي طاهر: كنت يوماً عند أبي الحسن يحيى المنجم في أيام المعتمد فدخل عليه ابنه هارون فقال له: يا أبت، رأيت في النوم أمير المؤمنين المعتمد وهو في داره على سريره إذ بصر بي فقال: أقبل علي يا هارون، يزعم أبوك أنك تقول الشعر فأنشدني طريد هذا البيت:
أسالت على الخدين دمعاً لو أنه ... من الدر عقد كان ذخراً من الذخر
فلم أرد عليه شيئاً وانتبهت. قال: فرجف عليه علي بن يحيى غضباً وقال: ويحك؟ فلم لم تقل؟:
فلما دنا وقت الفراق وفي الحشا ... لفرقتها لذع أحر من الجمر
أسالت على الخدين دمعاً لو أنه ... من الدر عقد كان ذخراً من الذخر
قال ابن أبي طاهر: فانصرفنا متعجبين من حفظ هارون لما هجس في خاطره، ولمبادرة علي ابن يحيى وسرعته في القول.

قال جحظة في أماليه: حدثت عن يزيد بن محمد المهلبي قال: كنت أرى علي بن يحيى المنجم فأرى صورته وصغر خلقته ودقة وجهه وصغر عينيه وأسمع بمحله من الواثق والمتوكل، فأعجب من ذلك وأقول: بأي سبب يستظرفه الخليفة وبماذا حظي عنده؟ والقرد أملح منه قباحة. فلما جالست المتوكل رأيت علي بن يحيى قد دخل على المتوكل في غداة من الغدوات التي قد سهر في ليلتها بالشرب وهو مخمور يفور حرارة يستثقل لكل أمر يخف دون ما يثقل، فوقف بين يديه وقال: يا مولاي، أما ترى إقبال هذا اليوم وحسنه وإطباق الغيم على شمسه وخضرة هذا البستان ورونقه؟ وهو يوم تعظمه الفرس وتشرب فيه لأنه هرمز روز، وتعظمه غلمانك وأكرتك مثلي من الدهاقين، و وافق ذلك يا سيدي أن القمر مع الزهرة، فهو يوم شرب وسرور وتجل بالفرح، فهش إليه وقال: ويلك يا علي، ما أقدر أن أفتح عيني خماراً. فقال: إن دعا سيدي بالسواك فاستعماه وغسل بماء الورد وجهه، وشرب شربة من رب الحصرم أو من متنة مطيبة مبرداً ذلك بالثلج انحل كل ما يجد، فأمر بإحضار كل ما أشار به. فقال علي: يا سيدي، وإلى أن تفعل ذلك تحضر عجلانيتان بين يديك مما يلائم الخمار ويفيق الشهوة ويعين على تخفيفه. فقال: أحضروا علياً كل ما يريد، فأحضرت العجلانيتان بين يديه وفراريج كسكر قد صففت على أطباق الخلاف وطبخ حماضية وحصرمية ومطجنة لها مريقة، فلما فاحت روائح القدور هش لها المتوكل فقال له يا علي: أذقني، فجعل يذيقه من كل قدر بجرف يشرب بها، فهش إلى الطعام وأمر بإحضاره. فالتفت علي إلى صاحب الشراب فقال له: ينبغي أن يختار لأمير المؤمنين شراب ريحاني ويزاد في مزاجه إلى أن يدخل في الشرب فيهنئه الله إياه إن شاء الله قال: فلما أكل المتوكل وأكلنا نهضنا فغسلنا أيدينا وعدنا إلى مجالسنا وغنى المغنون، فجعل علي يقول:هذا الصوت لفلان، والشعر لفلان، وجعل معهم وبعدهم غناء حسناً إلى أن قرب الزوال، فقال المتوكل: أين نحن من وقت الصلاة؟ فأخرج علي أسطرلاباً من فضة في خفه، فقاس الشمس وأخبر عن الارتفاع وعن الطالع وعن الوقت، فلم يزل يعظم في عيني حتى صار كالجبل، وصار مقابح وجهه محاسن، فقلت: لأمر ما قدمت، فيك ألف خصلة: طبيب ومضحك، وأديب وجليس، وحذق طباخ، وتصرف مغن، وفكر منجم، وفطنة شاعر، ما تركت شيئاً مما يحتاج إليه الملوك إلا ملكته.
قال جحظة: وحدثني رذاذ غلام المتوكل قال: شهدت علي بن يحيى المنجم وقد أمره المتوكل أن يغنيه وكنت جالساً إلى جانبه فقال لي: قد وقعت، وإن تمنعت جد بي حتى أغنى ثم لا يكون له موقع، والمبادرة إلى أمره وسرعة الطاعة له أصوب، اضرب علي فضربت عليه وغنى:
زار من سلمى خيال موهناً ... حبذا ذاك الخيال الطارق
جاد في النوم بما ضنت به ... ربما يغنى بذاك العاشق
فقال زه، أجدت والله يا علي، فقال له علي: قد فرحتك يا سيدي ففرحني، فدعاه وحباه بمشمة عنبر كانت بين يديه في صينية ذهب عليها مكبة منها، وأمر له بألف دينار وتخوت ثياب. فقال لي: يا أبا شريك، أناصفك؟ فقلت: لا والله، لا قبلت من ذلك لا الكل ولا النصف، فبارك الله لك فيه.
قال جحظة: فحدثني علي بن يحيى المنجم قال: قلت مرة - وقد أخذ مني النبيذ بين يدي الواثق - لمن كان يسقيني: ويلك، أجهزت والله علي، سقيتني الكأس حية فألاقتلتها. فسمع الواثق فقال: لم يعد بك قول حسان:
إن التي ناولتني فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
ألا تراه أنكر عليه مزجها؟ قلت: حسان أعرابي لا يحسن شرب الخمر، وكان أيضاً يشربها تغنماً لبعد عهده بها، ولكن أردت من ساقي أن يأخذ بقول أفتى الخلق وأملحهم أدباً وأعلمهم بأدب الشرب، قال: ومن هو؟ قلت: أبو نواس، قال: حين يقول ماذا؟ قلت: حين يقول:
لا تجعل الماء لها قاهراً ... ولا تسلطها على مائها

فقيل لي لما حضرت من الغد: إن الواثق قال: لله دره، ما أسرع جوابه وأحسن انتزاعه، لكنه أخرج عربدته كلها على حسان بن ثابت، فلما حضرت بين يديه قال لي: هيه يا علي سرت أمس؟ فقلت يا سيدي من شرب سكر، ومن كان أمره إلى نفسه في نبيذه رفق، ومن كان أمره إلى غيره خرق. قال: فعربدت على حسان وثلبته وما يستحق ذلك، وإنه لطب بشرب الكأس مداح لشاربيها، أليس هو الذي يصف ربيعة بن مكرم؟ فبلغ من ذلك أحسن ما يكون الفتى عليه بقوله:
نفرت قلوصي من حجارة حرة ... بنيت على طلق اليدين وهوب
لا تنفري يا ناق منه فإنه ... شريب خمر مسعر لحروب
وهو أيضاً من المعدودين في وصاف الخمر وشرابها، أليس هو القائل؟:
إذا ما الأشربات ذكرن يوماً ... فهن لطيب الراح الفداء
نوليها الملامة إذ ألمنا ... إذا ما كان مغث أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكاً ... وأسداً ما ينهنهنا اللقاء
ويلك، أليس هو الذي يقول؟:
وممسك بصداع الرأس من سكر ... ناديته وهو مغلوب ففداني
لما صحا وتراخى العيش قلت له: ... إن الحياة وإن الموت سيان
فاشرب الخمر ما واتاك مشربه ... واعلم بأن كل عيش صالح فان
فقلت له: لو حضرك والله يا سيدي لأقر أنك أحفظ لعيون شعره منه، فالويل لجليسك، بماذا ينفق عندك وروايتك هذه الرواية. فقال: ويحك يا علي، إنما الويل لجليسي إذا جالس من لا يعرف قدر ما يحسن.
قال أحمد بن أبي طاهر: اجتمعنا عند أبي الحسن علي بن يحيى أنا وأبو هفان عبد الله بن أحمد العبدي وأبو يوسف يعقوب بن يزيد التمار على نبيذ فقال أبو هفان:
وقائل إذ رأى عزبي عن الطلب: ... أتهت أم نلت ما ترجو من النشب؟؟
قلت: ابن يحيى علي قد تكفل لي ... وصان عرضي كصون الدين للحسب
فقال التمار:
يذكي لزواره ناراً منورة ... على يفاع ولا يذكي على صبب
من فارس الخير في أبيات مملكة ... وفي الذوائب من جرثومة الحسب
قال أحمد بن أبي طاهر: فقلت:
له فلائق لم تطبع على طبع ... ونائل وصلت أسبابه سببي
كالغيث يعطيك بعد الري وابله ... وليس يعطيك ما يعطيك عن طلب
قال: فوصلهم وخلع عليهم وحملهم. قال عبيد الله: حدثني أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى قال: اتصل أبي بأمير المؤمنين المتوكل على الله فغلب عليه وعلى الفتح بن خاقان بخدمته وأدبه وافتتانه وتصرفه في كل ما تشتهيه الملوك، وكان الفتح بن خاقان هو الذي وصفه للمتوكل، وكان بعد موت محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، لأن أبي كان متصلاً به وشديد الاختصاص بخدمته، حتى لقد مات محمد بن إسحاق ويده في يده، فلما مات دخل على الفتح بن خاقان فأنشده يمدحه بقصيدة أولها:
سأختار من حر الكلام قصيدة ... لفتح بن خافان تفوق القصائدا
يلذ بأفواه الرواة نشيدها ... ويشنا بها من كان للفتح حاسدا
لعمرك إن الفتح مذ كان يافعاً ... ليسمو إلى أعلى ذرى المجد صاعدا
فريع المولى ساد في خمس عشرة ... موالى بني العباس لم يبق واحدا
وبذهم طرا ندى وشجاعة ... فألقوا إليه مذعنين المقالدا

قال: فلم أر الفتح اهتز لشيء من الشعر اهتزازه لهذه القصيدة، ولا سر بأحد قدم عليه سروره بعلي بن يحيى، ثم قام الفتح من فوره فدخل على المتوكل فعرفه مكانه فأذن له واستجلسه، وأمر أن يخلع عليه فخلع عليه خلع المجالسة، فكان آنس خلق الله به وأغلبهم عليه وعلى الفتح، وتقدم الجلساء جميعاً عنده ووثق به حتى عزم على إدخاله معه إلى الحرام إذا جلس معهن. وذاك أنه شكا إلى الفتح أنه قعد مع الحرم لم يكن له من يستريح إليه ويأنس به وقال: قد عزمت أن أدخل علي بن يحيى فأستريح إليه، فقال له الفتح: ما يصلح لذلك غيره، فبلغ ذلك علي بن يحيى فقال للفتح: أنا قدرت أن أتخلص من هذا بك، فوكدت على الأمر فيه لست أفعل. فقال له الفتح: إن هذا الذي ندبك إليه أمير المؤمنين منزله ليس فوقها منزله في الخصوص، فقال: قد علمت ذلك وشكرت تفضل أمير المؤمنين وتسمعه، ثم يتفضل بالإعفاء منه. قال: ما هو؟ قال: قد علمت أن أمير المؤمنين أشد الناس غيرة، وأن النبيذ ربما أسرع إلي، ولست آمن بعض هذه الأحوال، وأن ينسى عند غلبة النبيذ ما كان منه فيقول: ما يصنع هذا معي عند حرمي؟ فيعجل علي بشيء لا يستدرك، وليس بيني وبين هذا عمل، قال: فقال المتوكل: تخلصت يا علي مني بألطف حيلة، وأعفاه. قال يحيى: وحدثني أبي قال: قال أمير المؤمنين المتوكل يوماً من الأيام: يا علي، لك عندي ذنب - قال هذا ونحن بدمشق - قال: فأكبرت ذلك وقمت قائماً بين يديه وقلت: أعوذ بالله من سخط أمير المؤمنين، ما الذنب يا أمير المؤمنين؟ فلعله كذب كاشح أو بغي حاسد، فقال: لا خير فيمن أثق به. قال فقلت: يتفضل علي أمير المؤمنين بتعريفي الذنب، فإن كان لي عذر اعتذرت، وإلا اعترفت وعدت بعفو أمير المؤمنين.فقال: أتحتاج إلى شيء وتسأل غيري؟ فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: أخبرني بختيشوع أنك وجهت إليه واستقرضت منه عشرين ألف درهم، فلم فعلت ذلك؟ وما ذلك، وما منعك أن تسألني فأصلك؟ تأنف من مسألتي؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، ما منعني ذلك، وإن صلات أمير المؤمنين متتابعة عندي من غير مسألة، ولكن بختيشوع ممن آنس به، فاستعرت منه هذه الدراهم على ثقة مني بأن تفضل أمير المؤمنين غير متأخر عني فأردها من ماله، قال: فقال لي: قد عفوت لك عن هذه المرة فلا تعد إلى مثلها، وإن احتجت فلا تسأل غيري أو تبذل وجهك له، ثم خدم علي بن يحيى المنتصر بن المتوكل فغلب عليه أيضاً، وقدمه المنتصر على جماعة جلسائه وقلده أعمال الحضرة كلها - العمارات والمستغلات والمرمات والحظائر وكل ما على شاطئ دجلة إلى البطيحة من القرى - ثم خدم المستعين بالله فقدمه وأحبه وأحله محله من الخلفاء ممن كان قبله، وأقره المستعين على ما تقلده من أعمال الحضرة، ثم حدثت الفتنة وانحدر مع المستعين إلى مدينة السلام فلم يزل معه إلى أن خلع المستعين، فأقام علي بن يحيى يغدو ويروح إليه بعد الخلع إلى أن حله من البيعة التي كانت في عنقه، ولم يكن المستعين قبل الخلع بسنة يأكل إلا ما يحمل إليه من منزل علي بن يحيى في الجون إلى دار أبي العباس محمد بن عبد الله بن طاهر فيفطر عليه، وكان يصوم في تلك الأيام.
قال يحيى بن علي: قال لي أبي: صرت إلى المستعين لما صير به إلى قصر الرصافة فوجدت عنه قرب داية المعتز وعيسى بن فرخانشاه وهم يسألونه عن جوهر الخلافة، فقالت لي قرب: يا أبا الحسن بس ما كان لنا منك نصيب؟ يا هذا، كاتبنا الناس كلهم غيرك. قال قلت: أما إن ذاك ليس لتقصير فيما يجب علي من حق أمير المؤمنين المتوكل رحمه الله ومن حق ولده، ولكن كان في عنقي طوق يحظر علي ذلك، قال: قالت - بارك الله فيك - . قال: ثم خلص الأمر للمعتز، فكان أول من طلبه للمنادمة علي بن يحيى فشخص إلى سر من رأى، فتلقاه أمير المؤمنين المعتز حين قدم عليه أجمل لقاء وخلع عليه ووصله، وقلده الأسواق والعمارات وما كان يتقلده قبل خلافته، وخص به وغلب عليه حتى تقدم عنده على الناس كلهم. قال: فأخبرني أبي أنه حسب ما وصل إليه من المعتز من صلته ورزقه منذ خدمه إلى أن تصرمت أيامه، فكان مبلغه ثلاثة وثلاثين ألف دينار. وقلده المعتز القصر الكامل فبناه ووصله عند فراغه منه بخمسة آلاف دينار وأقطعه ضيعة. وفي المعتز يقول علي بن يحيى:
بدا لابساً برد النبي محمد ... بأحسن ما أقبل البدر طالعاً

سمي النبي وابن وارثه الذي ... به استشفعوا أكرم بذلك شافعا
فلما علا الأعواد قام بخطبة ... تزيد هدى من كان للحق تابعا
وكل عزيز خشية منه خاشع ... وأنت تراه خشية الله خاشعا
فأما المهتدي فإنه حقد عليه أشياء كانت تجري بينه وبينه في مجالس الخلفاء، فانحرف عنه المهتدي لميله إلى المتوكل، فكان المهتدي يقول: لست أدري كيف يسلم مني علي بن يحيى؟ إني لأهم به فكأني أصرف عنه، ووهب الله له السلامة من المهتدي إلى أن مضى لسبيله، وكانت أيامه قصيرة، ثم أفضى الأمر إلى المعتمد على الله فحل منه محله ممن كان قبله من الخلفاء وقدمه على الناس جميعاً، ووصله وقلده ما كان يتقلد من أعمال الحضرة، وقلده بناء المعشوق فبنى له أكثره، وكان الموفق من محبته وتقديمه وجميل الذكر له في مجلسه إذا ذكر على أفضل ما يكو نولي نعمة، وكان يذكره كثيراً في مجالسه، ويصف أيامه، مع أمير المؤمنين المتوكل وأحاديثه ويحكيها لجلسائه ويعجبهم من ذكائه ومعرفته وفضله. وتوفي في آخر أيام المعتمد سنة خمس وسبعين ومائتين ودفن بسامراً، وشعره كثير ومشهور، رأيت العلماء القدماء يكثرون العجب به وليس عندي كذلك، فلذلك أقللت من الإتيان به إلا ما كان في ضمن خبر.
وله من الولد الذكور أحمد بن علي وكنيته أبو عيسى، وأبو القاسم عبد الله، وأبو أحمد يحيى، وأبو عبد الله هارون.

علي بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد
ابن موسى بن أحمد بن محمد بن إسحاق بن محمد بن ربيعة بن الحارث بن قريش بن أبي أوفى بن عمرو بن عادية بن حيان بن معاوية بن تيم بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن علي بن بكر بن وائل، أبو الحسن القفطي يعرف بالقاضي الأكرم، أحد الكتاب المشهورين المبرزين في النظم والنثر، وكان أبوه القاضي الأشرف كاتباً أيضاً ومنشئاً، وكانت أمه من بادية العرب من قضاعة،وأمها جارية حبشية كانت لأخت أبي عزيز قتادة الحسني أمير مكة، تزوجها أحد بني عمها العلويين وجاءت منه بأولاد، ثم مات عنها فتزوجها رجل من بلي فجاءت منه ببنين وبنات منهم أم القاضي الأكرم - أدام الله علوه - ، وكان والده الأشرف خرج يشتري فرساً من تلك البوادي، وقد قاربوا أرض مصر للنجعة فرآها فوقعت منه بموقع فتزوجها ونقلها إلى أهله، وكانت ربما خرجت في الأحيان إلى البادية استرواحاً على ما ألفته ونشأت عليه، ويخرج ابناه معها مدة، قال: وكانت امرأة صالحة مصلية حسنة العبادة فصيحة اللهجة، وكانت إذا أردت سفراً اشتغلت بما يصلح أموري في السفر وهي تبكي وتقول:
أجهز زيداً للرحيل وإنني ... بتجهيز زيد للرحيل ضنين
وحدثني - أطال الله بقاؤه - قال: كنت أنا صبي قد قدمت من مصر واستصحبت سنوراً أصبهانياً على ما تقتضيه الصبوة،واتفق أن ولدت عدة من الأولاد في دارنا، فنزل سنور ذكر فأكل بعض تلك الجراء فغمني ذلك، وأقسمت أن لا بد لي من قتل الذي أكلها، فصنعت شركاً ونصبته في علية في دارنا وجلست، فإذا بالسنور قد وقع في الحبالة، فصعدت إليه وفي يدي عكاز وفي عزمي هلاكه، وكان لنا جيرة وقد خرب الحائط بيننا وبينهم ونصبوا فيه بارية إلى أن يحضر الصناع، وكان لرب تلك الدار بنتان لم يكن فيما أظن أحسن منهما صورة وجمالاً وشكلاً ودلالاً، وكانت معروفتين بذلك في بلدنا وكانتا بكرين، فلما هممت بقتله إذا قد انكشف جانب البارية فوقعت عيني على ما يبهر المشايخ، فكيف الشبان؟ حسناً وجمالاً، وإذا هما تومئان إلي بالأصابع تسألاني إطلاقه، قال: فأطلقته ونزلت وفي قلبي ما فيه لكوني كنت أول بلوغي والوالدة جالسة في الدار لمرض كان بها. فقالت لي: ما أراك قتلته كما كان عزمك. فقلت لها: ليس هو المطلوب، إنما هو سنور غيره. فقلت: ما أظن الأمر على ذلك،ولكن هل أومئ إليك بالأصابع حتى تركته؟ فقلت: من يومئ إلي؟ ولا أعرف معنى كلامك. فقلت على ذلك: يا بني اسمع مني ما أقول لك:
ثنتان لا أرضى انتهاكهما ... عرس الخليل وجارة الجنب

وكان مع هذا البيت بيت آخر أنسيته. قال: فوالله لكأن ماء وقع على نار فأطفأها، فما صعدت بعد ذلك إلى سطح ولا غرفة إلى أن فارقت البلاد، ولقد جاء الصيف فاحتملت حره ولم أصعد إلى سطح في تلك الصيفية، ثم وجدت هذا البيت في أبيات الأحوص بن محمد منها:
قالت وقلت تحرجي وصلي ... حبل امرئ كلف بكم صب
صاحب إذا بعلي فقلت بها: ... الغدر أمر ليس من طبي
ثنتان لا أصبو لوصلهما ... عرس الخليل وجارة الجنب
أما الخليل فلست خائنه ... والجار أوصاني به ربي
ألشوق أقتله برؤيتكم ... قتل الظما بالبارد العذب
قال لي: ولدت في أحد ربيعى سنة ثمان وستين وخمسمائة بمدينة فقط من الصعيد الأعلى إحدى الجزائر الخالدات حيث الرض الأربعة وعشرون في أول الإقليم الثاني، وبها قبر قبط بن مصر بن سام بن نوح.
ونشأ بالقاهرة. اجتمعت بخدمته في حلب فوجدته جم الفضل، كثير النبل، عظيم القدر، سمح الكف، طلق الوجه حلو البشاشة، وكنت ألازم منزله ويحضر أهل الفضل وأرباب العلم، فما رأيت أحداً فاتحه في فن من فنون العلم كالنحو واللغة والفقه والحديث وعلم القرآن والأصول والمنطق والرياضة والنجوم والهندسة والتاريخ والجرح والتعديل وجميع فنون العلم على الإطلاق إلا قام به أحسن قيام، وانتظم في وسط عقدهم أحسن انتظام. وله تصانيف أذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى. أنشدني لنفسه بحلب في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وستمائة:
ضدان عندي قصرا همتي ... وجه حبي ولسان وقاح
إن رمث أمراً خانني ذو الحيا ... ومقولي يطمعني في النجاح
فأنثني في حيرة منهما ... لي مخلب ماض وما من جناح
شبه جبان فر من معرك ... خوفاً وفي يمناه عضب الكفاح
وأنشدني - أدام الله علوه - في أعور لنفسه:
شيخ لنا يعزى إلى منذر ... مستقبح الأخلاق والعين
من عجب الدهر، فحدث به ... بفرد عين ولسانين

ومما أملاه علي - أدام الله علوه - من منثور كلامه من فصل: وأما سؤاله عن سبب التأخر والتجمع من التزامي قعر البيت، وارتضائي بعد السبق بأن أكون السكيت، فلا تنسبني في ذلك إلى تقصير، وكيف؟ ولساني في اللسن غير ألكن، وبناني في البيان غير قصير، ولقد أعددت للرياسة أسبابها، ولبست لكفاح أهلها جلبابها، وملكت من موادها نصابها، وتسلمت لآحلاسها، وضاربت أضرابها، وباريتها في ميدان الفضائل، فكنت السابق وكانوا الفسكل، وظننت أني قد حللت من الدولة أمكن مكانها، وأصبحت إنسان عينها وعين إنسانها، وإذا الظنون مخلفة، وشفار عيون الأعداء مرهفة، والفرقة المظنونة بالإنصاف غير منصفة، وصار ما اعتمدته من أسباب التقريب مبعداً، ومن اعتقدته لي مساعداً غدا علي مسعدا، ومن أعددته لمرادي مورداً أصبح لمثالبي مورداُ، وجست مقاصد المراشد فوجدتها بهم مقفلة، ومتى ظهرت فضيلة اعتمدوا فيها تعطيل المشبهة وشبه المعطلة، وإذا ركبت أشهب النهار لنيل مرام ركبوا أدهم الليل لنقض ذلك الإبرام، وإن سمعوا مني قولاً أذاعوا، وإن لم يسمعوا اختلقوا من الكذب ما استطاعوا، وقد صرت كالمقيم وسط أفاع لا يأمن لسعها، وكالمجاور لنار يتقي شرها ويستكفي لذعها. والله المسئول توسيع الأمور إذا ضاقت مسالكها، وهو المرجو لإصلاح قلوب الملوك على مماليكهم،إذ هو رب المملكة ومالكها. وها أنا جاثم جثوم الليث في عرينه، وكامن كمون الكمى في كمينه، وأعظم ما كانت النار لهباً إذا قل دخانها، وأشد ما كانت السفن جرياً إذا سكن سكانها، والجياد تراض ليوم السباق، والسهام تكن في كنائنها لإصابة الأحداق، والسيوف ى تنتضى من الأغماد إلا ساعة الجلاد، واللآلئ لا تظهر من الأسفاط إلا للتعلق على الأجياد. وبينما أنا كالنهار الماتع طاب براده، إذ تراني كالسيف القاطع خشن حداه، ولكل أقوام أقوال، ولكل مجال أبطال نزال، وسيكون نظري - بمشيئة الله - الدائم ونظرهم لمحة، وريحي في هذه الدولة المنصورة عادية، وريحهم فيها نفحة، وها أنا مقيم تحت كنف إنعامها، راج وابل إكرامها من هاطل غمامها، منتظر لعدوها أنكأ سهامها من وبيل انتقامها، وأملى علي قال: كتبت إلى أبي القايم بن أبي الحسن شيث - وكان قد انصرف عن الملك الظاهر ثم رجع إليه بأمر من الملك الظاهر - : مقدم سعد مؤذن بسمو ومجد للمجلس الجماني لا زال غاديا في السعادة ورائحاً، منوحاً من الله بالنعم و مانحاً، ميسراً له أرجح الأعمال كما لم يزل على الأماثل راجحاً، موضحاً له قصد السبيل كوجهه الذي ما برح مسفراً واضحاً، قد رد الله بأوبته ما نزح من السرور، وأعاد بعودته الجبر إلى القلب المكسور، ولأم بإلمامه صدوعاً في الصدور، والواجب التفاؤل بالعود إذ العود أحمد، بل يقال: انقلب إلى أهله مسروراً، وتوطن من النعمة الظاهرية جنة وحريراً،ودعا عدوه لعوده ثبوراً، وصلى من نار حسده سعيراً، أسعد الله مصادره وموارده، ووفر مكارمه ومحامده،وأيد ساعده ومساعده. وأنشدني لنفسه - أدام الله علوه - من قصيدة قالها في الملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيوب صاحب حلب مطلعها:
لا مدح إلا لمليك الزمان ... من المنى في بابه والأمان
غياث دين الله في أرضه ... إن أخلف البرق وضن العنان
في كفه ملحمة للندى ... مثل التي تعهد يوم الطعان
فالعسر مصروع بساحاته ... واليسر سام في ظهور الرعان
وراحتاه راحة للورى ... على كريم الخلق مخلوقتان
فكفه اليمنى لبسط الغنى ... وكفه اليسرى لقبض العنان
ومنها:
تعرب في الهيجاء أسيافه ... عن حركات مثل لفظ اللسان
كسر وفتح في بلاد العدى ... وبعده ضم لمال مهان
ومنها في صفة ولديه:
بكران بل بدران ما يكسفان ... روحان للملك وريحانتان
لؤلؤتا بحر وغن شئت قل ... ياقوتتا نحر وعقدا لبان
فرعان في دوحة عز سمت ... غيثان بل بحران بل رحمتان
سيملكان الأرض حتى يرى ... لي منهما حران والرقتان
ومنها:
فأسلم على الدهر شديد القوى ... ذا مرة ما شد كف بنان

واستوطن الشهباء في عزة ... وأخسس بغمدان وقعبى لبان
وأنشدني أدان الله علوه لنفسه من قصيدة:
إذا أوجفت منك الخيول لغارة ... فلا مانع إلا الذي منع العهد
نزلت بأنطاكية غير حافل ... بقلة جند إذ جميع الورى جند
فكيف أهيف حازته هيف رماحكم ... وكم ناهد أودى بها فرس نهد
لئن حل فيها ثعلب الغدر لاون ... فسحقاً له قد جاءه الأسد الورد
وقد كان اغتر اللعين بلينكم ... وأعظم نار حيث لا لهب يبدو
جنى النحل مغتراً وفي النحل آية ... فطوراً له سم وطوراً له شهد
تمدك أجناد الملوك تقرباً ... وجند السخين العين جزر ولامد
تهنا بها بكراً خطبت ملاكها ... فأعطت يد المخطوب وانتظم العقد
فجيشك مهر والبنود حموله ... وأسهمكم تبر وسمر القنا نقد
وله من التصانيف كتاب الضاد والظاء وهو ما اشتبه في اللفظ واختلف في الخط، كتاب الدر الثمين في أخباره المتيمين،كتاب من ألوت الأيام إليه فرفعته ثم التوت عليه فوضعته، كتاب أخبار المصنفين وما صنفوه، كتاب أخبار النحويين كبي، كتاب تاريخ مصر من ابتدائها إلى ملك صلاح الدين إياها في ست مجلدات، كتاب تاريخ المغرب ومن تولاها من بني تومرت، كتاب تاريخ اليمن منذ اختطت إلى الآن، كتاب المجلى في استيعاب وجوه كلا، كتاب الإصلاح لما وقع من الخلل في كتاب الصحاح للجوهري،كتاب الكلام على الموطئ لم يتم إلى الآن، كتاب الكلام على الصحيح للبخاري لم يتم، تاريخ محمود بن سبكتكين وبنيه إلى حين انفصال الأمر عنهم، كتاب أخبار السلجوقية منذ ابتداء أمرهم إلى نهايته، كتاب الإيناس في أخبار آل مرداس، كتاب الرد على النصارى وذكر مجامعهم، كتاب مشيخة زيد بن الحسن الكندي، كتاب نهزة الخاطر ونزهة الناظر في أحسن ما نقل من على ظهور الكتب.
وكان الأكرم القاضي المذكور جماعة للكتب حريصاً عليها جداً، لم أر مع اشتمالي على الكتب وبيعي لها وتجارتي فيها أشد اهتماماً منه بها، ولا أكثر حرصاُ منه على اقتنائها، وحصل له منها ما لم يحصل لأحد، وكان مقيماً بحلب، وذلك أنه نشأ بمصر وأخذ بها من كل علم بنصيب، ولي والده القاضي الأشرف النظر ببيت المقدس من قبل الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين بن أيوب، وصحبه القاضي الأكرم وذلك في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وأقام بها مع والده مدة فآنس ولاة المقدس الأكرم - أدام الله عزه - شرف نفس وعلو همة، فأحبوه واشتملوا عليه، وكانوا يسألونه أن يتسم بخدمة أحد منهم، فلم يكن يفعل ذلك مستقلاً، وإنما كان يسأم العمل ويعتمد على رأيه في تدبير الأحوال، وكان لا يدخل معهم إلا فيما لا يقوم غيره فيه مقامه، واتفق ما اتفق بين الملك العادل أبي بكر بن أيوب وبين أخيه الملك الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب - والأكرم حينئذ ببيت المقدس - فاقتضت الحال - لاتسامه بخدمه في حيز الملك - أن خرج من القدس فيمن خرج منها من العساكر في سنة ثمان وستمائة، وصحب فارس الدين ميموناً القصري والي القدس ونابلس،فالتحقا بالملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيوب بحلب في قصة يطول شرحها، فلما حصل بحلب كان مع ميمون القصري على سبيل الصداقة والمودة لا على سبيل الخدمة والكتابة، واتفق أن كاتب ميمون ووزيره قد مات، فألزمه ميمون خدمته والاتسام بكتابته،ففعل ذلك على مضض واستحياء، ودبر أمره أحسن تدبير، وساس جنده أحسن سياسة وتدبير، وفزع بال ميمون من كل ما يشغل به بال الأمراء، وأقطع الأجناد إقطاعات رضوا بها وانصرفوا شاكرين له، ولم يعرف منذ تولي أمره إلى أن مات ميمون جندي اشتكى أو تألم، وكان وجيهاً عند ميمون المذكور يحترمه ويعظم شأنه، ويتبرك بآرائه إلى أن مات ميمون في ليلة صبيحتها ثالث عشر رمضان سنة عشر وستمائة، فأقر الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين خزانته عليه وهو ملازم لبيته متشاغل بالعلم وتصنيف الكتب إلى أن احتاج ديوانه إليه، فعول في إصلاحه عليه،وهو مع ذلك مجتنب غير راض، وحدثني أدام الله عزه قال:

قال حدثني والدي قال: قدمت مع والدي إلى مصر أول قدمة ولم نستصحب دواب، لأننا انحدرنا في السفن وقلت لأبي: نأخذ معنا دواب؟ فقال: يعسر أمرها علينا فدعنا نمض بالراحة في المركب، وإذ وصلنا خرجنا نمشي إلى أن جاء بي إلى سوق وردان، وهناك تلك الحمير التي هي أحسن من البغال، فقال لي والدي: أركب أيها شئت لنمضي إلى القاهرة، فامتنعت وقلت: والله لا ركبت حماراً قط. فقال: لا بد من المضي إلى القاهرة فما تصنع؟ قلت لأبي: نؤخر المضي اليوم حتى نشتري مركوباً إما فرساً وإما بغلة أركبها أنا واصنع أنت بنفسك ما تشاء، فعذلني فلم أرعو فاجتاز بنا رجل له هيئة وشارة فتقدم والدي إليه وقال له: يا أخي، تعرف القاضي الأشرف أبا الحجاج يوسف بن القاضي الأمجد أبي إسحاق إبراهيم الشيباني القفطي؟ فقال: لا أعرفه. قال: امض في أمان الله. ثم مر به آخر فسأله مثل ذلك السؤال حتى سأل جماعة فلم يكن منهم من يعرفه، فالتفت إلي وقال لي: ويلك، إذا كنت في مدينة لا يعرفك بها أحد فما تصنع بهذا التخرق والترتيب في المركوب؟ اركب ودع عنك الكبرياء والعظمة التي لا تجدي ههنا شيئاً. قال: فركبت حينئذ ومضينا إلى القاهرة، وكان لهذا السبب متفقد الخيول المشهورة بالجودة وكثرة الثمن حتى لقد حدثني: أنه سمع ابن دحية الحافظ وقد سئل عن القاضي الأشرف القفطي فقال: أليس هو صاحب الخيول المسومة والعبيد الروقة؟ فما أولاه إذن بقول عامر بن الطفيل:
إني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب
فصل: قال الأكرم من إنشائي من جملة كتاب أنشأت عن المقر الأشرف الملكي الظاهري عند رحيل عسكر الفرنج عن حصن الخوابي: ولما وردت الراية الباطنية صدرت في نجدتهم العساكر الظاهرية تحت الألوية الأمامية الناصرية وسار في المقدمة ألف فارس من أمجاد الأنجاد وأمثال الأطواد وهم الذين لا يثنون عن الطعن عناناً، ولا يسألون عند الانتداب إلى الكريهة عما قيل برهاناً، ولما التقى الجمعان وتراءى الفريقان، قمع حزب الإنجيل حزب القرآن، وخفض صوت الناقوس صوت الأذان، وفل جيش ابن يوسف جمع بني إسحاق، وعلا علم الأحمر على بني الأصفر أهل الشقاق، وحركت الأهوية ألسن الألوية بأصوات النجح فقالت بلسان الحال: تعال على خير العمل من القتال، فقد جاء نصر الله والفتح، وما أودت من المناجزة قوة جانب ولا شدة محاجزة، وإنما منع جبل وعر ضاق مسلكه، وتعذر مجاله على الفرسان ومعتركه، وامتنعت منه أسباب النزال، (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال).
فقلعت القلعة من خناقها، وأفلتت من يد القابض بساقها، واشتغل العدو عنها بإعمال رأيه في الخلاص، وذلك لما تحققه من ترادف العساكر المنصورة ولات حين مناص، ولما اجتمعوا للمشاورة تناقضت منهم الآراء عند المحاورة، وأوجب ذلك اختلافاً من جميعهم قضى بافتراق جموعهم، وباتوا ليلة الاثنين ولهم ضوضاء، ثم أصبحوا وقد خلا منهم الفضاء، لم يلف منهم أحد، ولا وجد لمنزلهم إلا النؤي والوتد، وذلك لرأي أجمعوا عليه لما تحققوا أن لا ملجأ من الهرب إلا إليه، وللوقت ندب مولانا السلطان خلد الله ملكه جماعة من الصناع لإصلاح مختلها، ورفع ما فرق من تلها، وحمل إليها ما عدمته من الآلة عند القتال. وتقدم إلى رئيس الإسماعيلية بحمل ما يحتاج إليه من الذخيرة والمال، وقد شرع والشروع ملزم بالإكمال.

حدثني الصاحب الوزير الأكرم أدام الله تمكينه قال: خرجت يوم الجمعة خامس عشر ذي القعدة سنة ثماني عشرة وستمائة إلى طاهر مدينة حلب على سبيل التيسير، فرأيت على جانب قويق عدة مشايخ بيض اللحى، وقد سكروا من شرب الخمر وهم عراة يصفقون ويرقصون على صورة منكرة بشعة فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم، ورجعت مغموماً بذلك وبت تلك الليلة، فلما أصبحت وركبت للطلوع إلى القلعة استقبلني رجل صعلوك فقال: انظر إلى حالي نظر الله إليك يوم ينظر إليه المتقون، فقلت له: ما خبرك؟ قال: أنا رجل صعلوك وكان لي دابة أسترزق عليها للعائلة فاتهمني الوالي بالخيول بسرقة ملح، فأخذ دابتي ثم طالبني بجباية فقلت: خذ الدابة. فقال: قد أخذتها وأريد جباية أخرى. فقلت له: أبشر بما يسرك وطلعت إلى صاحب الأمر يومئذ، وهو الأمير الكبير أتابك طغرل الظاهري وقلت: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة أشياء مباحة، الناس مشتركون فيها: الكلأ، والماء، والملح). وقد جرى كيت وكيت ولا يليق بمثلك، وأنت عامة وقتك جالس على مصلاك مستقبل القبلة والسبحة في يدك أن تكون مثل هذه الأشياء في بلدك. فقال: اكتب الساعة إلى جميع النواحي برفع الجبايات ومحو اسمها أصلاً، وأمر الولاة أن يعملوا بكتاب الله وسنة رسوله،ومن وجب عليه حد من الحدود الشرعية يقام فيه على الفور، ولا يلتمس منه شيء آخر، ومر الساعة بإراقة كل خمر في المدينة، ورفع ضمانها، واكتب إلى جميع النواحي التي تحت حكمي بذلك، وأوعد من يخالف ذلك عقوبتنا في الدنيا عاجلاً، وعقوبة الخالق في الآخرة آجلاً، فخرجت وجلست في الديوان، وكتبت بيدي ولم أستعن بأحد من الكتاب في شيء من ذلك ثلاثة عشر كتاباً إلى ولاة الأطراف ثم أنشد:
ولا تكتب بكفك غير شيء ... يسرك في القيامة أن تراه
وكان محصوله من ضمان ما أطلق ما مقداره مائتا ألف درهم في السنة، وإن أضيف إليه ما يستقبل في السنة الآتية من رخص الكروم وتعطل ضماناتها وقلة دخلها بهذا السبب - كان ذلك - ألف ألف درهم أو ما يقاربها، وكان والده القاضي الأشرف أبو المحاسن يوسف بن إبراهيم من أهل الفضل البارع والبلاغة المشهورة، وكان ينوب بحضرة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب عن القاضي الفاضل في جماعة من الكتاب، وكان حسن الخط على طريقة ابن مقلة، فاتفق أن طال مقامه بالشام في صحبة السلطان وأراد الرجوع إلى مصر طلباً للراحة ونظراً في مصالحه، فطلب من السلطان إذناً فقال: يحتاج في ذلك إلى إذن صاحبك، فكتب العماد إلى القاضي: يلتمس غيره ليؤذن له فقد طالت غيبته عن أهله، فكتب القاضي في الجواب كتاباً يقول فيه: وأما التماس العوض عن الأشرف القفطي فكيف لي بغيره؟ وهو ذو لسان صهصلق منطيق، وخاطر ينفق عن سعة في كل مضيق. وكتب إلى القاضي الفاضل رقعة وضمنها البيت المشهور:
نميل إلى جوانبه كأنا ... إذا ملنا نميل على أبينا
فكتب القاضي الجواب وضمنه:
فديتك من مائل كالغصون ... إذا ملن أدنين مني الثمارا
وتزهد والده وترك العمل وأقام باليمن إلى أن مات بها في رجب سنة أربع وعشرين وستمائة.

وحدثني أدام الله علوه قال: حججت في موسم سنة ثمان وستمائة، وكان والدي في صحبتي فصادفت بمكة جماعة من أهل بلدنا، وكنت بعيد العهد بلقاء أحد منهم، فرآني رجل فالتحق بي كما جرت العادة، ثم عاد إلى من في صحبته من بلدنا فأخبرهم بنا فجاء وهم إلى منزلنا فقضوا حقنا بالسلام والسؤال والحرمة، ثم انصرفوا إلى رحالهم فجاء كل واحد منهم بما حضره لم يحتفلوا له، وكان فيما جاءونا به ظرف كبير مملوء عسلاً، وآخر سمناً على جمل وهو وقره، فألقاه في خيمتنا فأمرت الغلمان أن يعلموا منه حيساً فيكثروا على عادة تلك البلاد، وأكلنا وأكثرنا زيادة على ما جرت به عادتنا، ثم طفنا بالبيت وعدنا إلى رحالنا ونمت فرأيت في النوم كأني في الحرم أطوف، وإذا رجل شديد الأدمة مشوه الخلقة، فأخذ بيدي وأخرجني من الحرم من باب إبراهيم فإذا به قد وقفني على الظرفين بعينهما لا أرتاب بهما فقال لي: أتعرف هذين؟ فقلت: نعم، هذان ظرفان جارنا بهما رجل على سبيل الهدية، أحدهما سمن والآخر عسل، فقال لي: ليس الأمر كذلك، ثم حط يده على بطنهما وعصر فخرج من فمهما نار أحسست بلفحها في وجهي، وجعلت أمسح فمي من شدة حرهما وانزعجت من هول ما رأيت، وقمت من فراشي خائفاً فما استطعت النوم إلى الغداة، واجتمعت بمهديهما وكان يعرف بابن الشجاع فقلت له: أخبرني عن هذين الطرفين ما خبرهما؟ فقال: اشتريتهما وجئت بهما، فقلت: يا هذا، هل فيهما شبهة؟ فتحلف أنهما من خالص ماله، فأخبرته بالحال فبكى حينئذ، ومد يده فأخذ بيدي وعاهدني أن يخرج من عهدته وقال: والله ما أعرف أن في مالي شبهة، إلا أن لي أختين ما أنصفتهما في تركة أبيهما، وأنا أعاهد الله أنني أرجع من وجهي هذا وأعطيهما حتى أرضيهما.
قال الصاحب - أدام الله علوه: فعلمت أنها لي موعظة، فعاهدت الله ألا آكل بعدها من طعام لا أعرف من أين وجهه؟ فكان لا يأكل لأحد طعاماً ويقول: الناس لا يعرفون بواطن الأمور ويظنونني أفعل ذلك كبراً، ومن أين لي بما يقوم بعذري عندهم؟ ثم كنت بعد ذلك في حضرته بمنزله المعمور وقد عاد من القلعة بحلب فقال لي: جرت اليوم ظريفة، فقلت له: هات خبرها - أدام الله إمتاعنا بك - ، فما زلت تأتي بالظرائف والطرف.
فقال: حضرت اليوم في مجلس الملك الرحيم أتابك طغرل الظاهري وحضرت المائدة وفيها طعام الملوك: شواء وشرائح وسنبوسك وحلاوات وغيرها كما جرت العادة، فتأملته فنفرت نفسي منه ولم تقبله مع كوني قد قاربت الظهر ولم أتغد فلم أنبسط ولا مددت يدي إليه. فقال لي: مالك لا تأكل وكان قد عرف عادتي؟ فقلت له: إن نفسي لا تقبل هذا الطعام ولا تشتهيه. فقال: لعلك شبعان، فقلت: لا والله، إلا أنني أجد في نفسي نفوراً منه، فأشار إلى غلام فدخل داره وجاء بمائدة عليها عدة غضائر من الدجاج فلم تقبل نفسي إلا دجاجة واحدة معمولة تحت رمان فمددت يدي إليها وتناولت منها.
قال: فرأيت أتابك وهو يتعجب فقلت له: ما الخبر؟ فقال: اعلم أنه ليس في هذا الطعام شيء أعلم من أين وجهه وهو من عمل منزلي غير هذه الدجاجة؟ وأما الباقي فجاءنا من جهة ما نفسي بها طيبة، وتشاركت أنا وهو في تلك الدجاجة مع بغضي لحب الرمان، وكان أتابك لا يأكل إلا من مال الجوالي فقط، فجعلت أعجب من ذلك. فقال أدام الله علوه: اعلم أنني لا أحسب هذا كرامة لي ولكني أعده نعمة من الله في حقي، فإن امتناعي لم يكن عن شيء كرهته ولا ريب اطلعت عليه، ولكن كان انقباضاً ونفرة لا أعرف سببها، ولا الإبانة على معناها.
كان صفي الدين الأسود عند نزول الملك الأشرف بحلب قد عرض كتاباً له يعرف بالتذكرة لابن مسيلمة - وكان معروفاً بالبغاء - أحد كتاب مصر يشتمل على قوانين الكتابة وآئين الدولة العلوية، وأخبار ملوك مصر المتقدمين في اثني عشر مجلداً، ودفع له فيه ما سمح ببيعه، وعرض على الصاحب الكبير جمال الدين الأكرم أدام الله علاه وكبت أعداءه، فأراد شراءه واتفق رحيل الملك الأشرف إلى الجزيرة فأرسل إليه ثمنه وزيادة في مثله وافرة، فلما علم صفي الدين أن المشتري هو الوزير أدام الله علوه ضن بالكتاب واغتبط، واحتج وخلط، وزعم أنه قدمه للخزانة الأشرفية، فكتب الصاحب الوزير إلى أبي علي القيلوي - وكان وسيطه في شرا الكتاب المذكور - ما هذه نسخته: العز لله وحده

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15