كتاب : معجم الأدباء
المؤلف : ياقوت الحموي

وكذا السيوف يرون حسن صقالها ... وبحدها تتخطف الأرواح
وله:
هوى النفس سكر والسلو إفاقه ... ولن يستبين الرشد ذو الرشد أو يصحو
فدع نصح من أعماه عن رشده الهوى ... فإن سواء عنده الغش والنصح
وله:
ولما أثاروا العيس للبين بينت ... غرامي لمن حولي دموع وأنفاس
فقلت لهم لا بأس بي فتعجبوا ... وقالوا الذي أبديته كله باس
تعوض بأنس الصبر من وحشة الأسى ... فقد فارق الأحباب من قبلك الناس
وله:
توهمه قلبي فأوحى ضميره ... قبولاً فأحكمنا الهوى بالسرائر
فلما التقينا شبت الحرب بيننا ... على السلم منا مقلتاه وناظري
جرحت بلحظي وجنتيه فأقصدت ... لواحظه قلبي بأسنهم ثائر
وله:
سقى الله ليلاً بت فيه مغازلاً ... غزالاً حكى لي وجهه طلعة البدر
أصبت به غرة الدهر فرصة ... فبادرتها علماً بعاقبة الدهر
وله:
أفدى الذي عارضا خديه لم يدعا ... إذ أعرضا جوهراً مني ولا عرضا
ولم يزل ممرضي تمريض مقلته ... حتى ثناني على فرش الضنى حرضا
قال الوشاة إلى كم ذا الغرام به؟ ... فقلت حتى أرى من حسنه عوضا
قالوا فقد كنت ذا صبر تعوذ به ... فقلت شرده عني الهوى فمضى
وله:
إن قدم الحظ قوماً ما لهم قدم ... في فضل علم ولا حزم ولا جلد
فهكذا الفلك العلوي أنجمه ... تقدم الثور فيها رتبة الأسد
وله:
لما بدا يفتن الألباب رؤيته ... أبديت من حبه ما كنت أخفيه
وبان عذري لعذالي فكلهم ... إلى متعذر من عذله فيه
لكن سكرت براح من لواحظه ... فما أفقت بغير الراح من فيه
قال: وقد سئل ابن بشران إجازة هذا البيت:
ليس يخفى عليك وجدي عليكا ... واشتكائي شوقي إليك إليكا
فقال:
ونزول المشيب قبل أوان الشي ... ب في عارضي من عارضيكا
وحياتي لديك في قبضة الأسد ... فكن حافظاً حياتي لديكا
وعليك اعتمدت في حفظ عهدي ... فارع لي حرمة اعتمادي عليكا
ناظري ناظر إلى جنت ... ك وقلبي في النار من ناظريكا
نقلت من خط خميس الحوزي قال: قال قاضي القضاة أبو الفرج محمد بن عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة قال: اجتمعت مع أبي غالب بن بشران في جمادى الأولى سنة ستين وأربعمائة بواسط فسألته أولاً عن سبب تجنبه الانتساب إلى ابن بشران وهو به مشهور فقال: هو جدي لأمي، وهو ابن عم بشران المحدث الذي كان ببغداد، فسألته عن مولده فقال: مولدي في سنة ثمانين وثلاثمائة. قال الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن سلفة: وسألته يعني خمسين بن علي الحوزي أبا الكرم عن أبي غالب النحوي فقال: هو محمد ابن أحمد بن سهل يعرف بابن الخالة أصله من نهر سابس ينسب إلى خاله ابن بشران وكان أحد الأعيان، قدم واسط فجالس ابن الجلاب وابن دينار وتخصص بابن كروان، وقرأ عليه كتاب سيبويه ولازم حلقة أبي إسحاق الرفاعي صاحب السيرافي وكان يقول: قرأت عليه من أشعار العرب ألف ديوان، وكان مكثراً حسن المحاضرة مليح العارضة إلا أنه لم ينتفع به أحد بواسط ولن يبرع به أحد في الأدب وكان جيد الشعر مع ذلك، رأينا في كتبه بعده خطوط أشياخ عدة بكتب كثيرة في الأدب وغيره إلا أنه كان معتزلياً وشهد عند إسماعيل قاضي واسط في آخر شوطه وذكر وفاته كما تقدم. ومن شعره في أمرد التحي:
قالوا التحي من قد براك صدوده ... وعما قليل سوف عنك يفرج
فقلت لهم: إني تعشقت روضة ... بها نرجس غض وورد مضرج
وقد زاد فيها بعد ذاك بنفسج ... أأتركها إذ زاد فيها بنفسج؟
وله
طلبت صديقاً في البرية كلها ... فأعيا طلابي أن أصيب صديقا
بلى من تسمى بالصديق مجازة ... ولم يك في حفظ الوداد صدوقا
وطلقت ود العالمين صريمة ... وأصبحت من أسر الحفاظ طليقا

ومن مستحسن قوله في الشيب:
وقائله إذ راعها شيب مفرقي ... وفودي ما هذا جعلت لك الفدا؟
تراه الذي خبرت قدماً بأنه ... يصير أهل الود في صورة العدا؟
لقد راعني حتى تخليت أنه ... وحاشاك مما قلته حادث الردى
فقلت لها بل روضة غاض ماؤها ... ونبت أنيق حال إذ بلغ المدى
وإن عشت لا قيت الذي قد لقيته ... وأيقنت أني لم أكن فيه أوحدا
وكل امرئ إن عاش للشيب عرضة ... وإن عف عنه اليوم جاز به غدا
قال: وكان لابن بشران كتب حسنة كثيرة وقفها على مشهد أبي بكر الصديق فذهبت على طول المدى. وسئل ابن بشران عن مقدمة العسكر ومقدمة الكتاب فقال: أما مقدمة العسكر فلا خلاف فيه أنه بكسر الدال، وأما مقدمة الكتاب فيحتمل الوجهين، والوجه حمله على مقدمة العسكر.
وله:
قل للوزير الذي ما في وزارته ... لمن يلوذ به ظل ولا شرف
حتام ويلي أنا وقف عليك ولي ... إلى سواك من الأمجاد منصرف؟
كأنني فرس الشطرنج ليس له ... في ظل صاحبه ماء ولا علف

محمد بن أحمد بن علي بن محمد
ابن يزيد بن حاتم البارودي النحوي أبو يعقوب. قال أحمد ابن محمد بن مرزوق الأنماطي المصري: مات يوم الأربعاء لسبع وعشرين ليلة خلت من ربيع الآخر سنة تسع وأربعين و أربعمائة.
محمد بن أحمد بن محمد الصفار
أبو بكر الأديب الأصبهاني، ذكره يحيى بن عبد الوهاب ابن مندة فقال: كان يختلف إلى الحديث إلى أن مات، وكان يعظ الناس مدة ثم اشتغل بالعلم إلى أن مات، كان أديباً فاضلاً بارعاً في الأدب حسن الخلق مائلاً إلى الخيرات. مات في شهر ربيع الأول سنة سبعين وأربعمائة.
محمد بن أحمد المعموري البيهقي
الأديب الفيلسوف، مات مقتولاً في شهور سنة خمس وثمانين وأربعمائة، كذا ذكر البيهقي في كتاب الوشاح وقال: كان من عليه الحكماء والأئمة، وقد ألقت العلوم إليه أطراف الأزمة، واتفق أنه انتقل إلى أصبهان في خدمة تاج الملك الذي كان وزيراً بعد نظام الملك، وكان قد نظر في زائرجة طالعة فرأى من التسييرات إلى القواطع وشعاع النحوس ما يدل على الخوف والوجل، فأغلق باب داره عليه فأخرج وقتل وأحرق على سبيل الغلط. قضاء الله ليس له مرد. ومن منظومه:
دعاك الربيع وأيامه ... ألا فاستمع قول داع نصوح
يقول اشرب الراح وردية ... ففي الراح يا صاح روح وروح
وغنى البلابل عند الصباح ... لأهل الشراب: الصبوح الصبوح
قال: ومن تصانيفه: كتاب في التصريف مجدول، كتاب في النحو، كتاب في المخروطات والهندسة وغير ذلك.
محمد بن أحمد بن عبد الباقي
بن منصور ابن إبراهيم الدقاق، أبو بكر المعروف بابن الخاضبة الحافظ العالم، مات فيما نقلت من المذيل بخط أبي سعد السمعاني في شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربعمائة ودفن بمقبرة الأجمة المتصلة بباب أبرز. قال أبو سعد: وكان حافظاً فهماً درس القرآن وتفقه زماناً وقرأ الحديث فأكثر، وكان مفيد والمشار إليه في القراءة الصحيحة والنقل المستقيم، وكان مع ذلك صالحاً ورعاً ديناً خيراً سمع بمكة والشام والعراق، وأكثر ببغداد عن أبي بكر أحمد ابن علي الخطيب، وأصحاب أبي طاهر المخلص، وأبي حفص الكتاني، وعيسى بن على الوزير وطبقتهم. وأدركته المنية قبل وقت الرواية، سمع منه جماعة من مشايخنا وسمعوا بقراءته وإفادته الكثير، ورأيتهم مجمعين على الثناء عليه والمدح له:
والناس أكيس من أن يمدحوا رجلاً ... حتى يروا عنده آثار إحسان

قال السمعاني: سمعت أبا العلاء أحمد بن محمد بن الفضل الحافظ: ذكر أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي، سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن عبد الباقي الدقاق المعروف بابن الخاضبة يقول: لما كانت سنة الغرق وقعت داري على قماشي وكتبي وكان لي عائلة: والوالدة والزوجة والبنت، فكنت أورق الناس وأنفق على الأهل، فأعرف أنني كتبت صحيح مسلم في تلك السنة سبع مرات، فلما كان ليلة من الليالي رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، ومناد ينادي: ابن الخاضبة، فأحضرت فقيل لي: ادخل الجنة، فلما دخلت الباب وصرت من داخل استلقيت على قفاي ووضعت إحدى رجلي على الأخرى وقلت: آه استرحت والله من النسخ.
قال السمعاني: وسمعت أبا المناقب محمد بن حمزة بن إسماعيل العلوي بهمذان مذاكرة يقول: ذكر أبو بكر بن الخاضبة رحمه الله أنه كان ليلة من الليالي قاعداً ينسخ شيئاً من الحديث بعد أن مضى قطعة من الليل قال: وكنت ضيق اليد فخرجت فأرة كبيرة وجعلت تعدو في البيت وإذا بعد ساعة قد خرجت أخرى وجعلا يلعبان بين يدي ويتقافزان إلى أن دنوا من ضوء السراج، وتقدمت إحداهما إلي وكانت بين يدي طاسة فأكببتها عليها، فجرى صاحبه فدخل سربه، وإذا بعد ساعة قد خرج وفي فيه دينار صحيح وتركه بين يدي فنظرت إليه وسكت واشتغلت بالنسخ ومكث ساعة ينظر إلي فرجع وجاء بدينار آخر، ومكث ساعة أخرى وأنا ساكت أنظر وأنسخ فكان يمضي ويجئ إلى أن جاء بأربعة دنانير أو خمسة - الشك مني - وقعد زماناً طويلاً أطول من كل نوبة، ورجع ودخل سربه وخرج وإذا في فيه جليدة كانت فيها الدنانير وتركها فوق الدنانير، فعرفت أنه ما بقي معه شيء، فرفعت الطاسة فقفزا فدخلا البيت وأخذت الدنانير وأنفقتها في مهم لي، وكان في كل دينار دينار وربع.
قال السمعاني: حكى أبو المناقب العلوي هذا أو معناه، فأني كتبت من حفظي والعهدة عليه فيما حكى وروى. فإني ذاكرت بهذه الحكاية بعض أهل العلم بدمشق فنسبها إلى غير ابن الخاضبة والله أعلم.
قال: وسمعت أبا الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي السلامي يقول: سمعت أبا بكر بن الخاضبة يحكي هذه الحكاية عن مؤدبة أبي طالب المعروف بابن الدلو، كان يسكن بنهر طابق وكان رجلاً صالحاً. وحكى عنه حكايات أخر أيضاً في إجابة الدعاء، ولم يحكها ابن الخاضبة عن نفسه، فذهبت على أبي المناقب ولم يكن ضابطاً، كان متسائلاً في الرواية.
قال مؤلف هذا الكتاب: وهذه حكاية على ما يرى من الاستحالة، وقد أوردتها أنا لثقة موردها وتحريه في الرواية، فإن صحت فقد فزت بخط من العجب، وإلا فاجعلها كالسمر تستمتع به.
قال السمعاني: وأنشدني أبو صالح عبد الصمد بن عبد الرحمن الحنوي، أنشدنا محمد بن أحمد بن عبد الباقي الدقاق، أنشدنا أبو علي إسماعيل بن قلية ببيت المقدس:
كتبت إليك إلى الكتاب ... وأودعته منك حسن الخطاب
لتقرأه أنت لا بل أنا ... وينفذ مني إلى الجواب
قال مؤلف الكتاب: إنما ذكرت ابن الخاضبة في كتابي هذا وإن لم يكن ممن اشتهر بالأدب لأشياء منها: أنه كان قارئاً ورافاً، وله حكايات ممتعة، ولم يكن بالعاري من الأدب بالكلية.

محمد بن أحمد الكركانجي

بن علي بن حامد الكركانجي أبو نصر المروزي من أهل مرو، صاحب أبي الحسين الدهان. مات فيما ذكره السمعاني في المذيل عن ابنه عبد الرحمن الكركانجي قال: توفي الإمام الوالد في ثاني عشر ذي الحجة سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وهو ابن نيف وتسعين سنة، ومولده في حدود سنة تسعين وثلاثمائة بمرو. قال: كان إماماً فاضلاً في علوم القرآن صاحب التصانيف الحسنة فيها، مثل كتاب المعول، وكتاب التذكرة لأهل البصرة وغير ذلك، سافر الكثير إلى العراق والحجاز والجزيرة والشام والسواحل في طلب علم القرآن والقراءة على المشايخ إلى أن صار أوحد عصره وفريد دهره في فنه، وكان مع فضله زاهداً ورعاً متديناً. قال: حكى لي بعض المشايخ أن أبا بصر المقرئ المروزي قال: غرقت نوبة في البحر وانكسر المركب، فكنت أخوض في الماء وتلعب بي الأمواج، فنظرت إلى الشمس وقد زالت ودخل وقت الظهر، فغصت في الماء ونويت أداء فرض الظهر وأنا أنزل في الماء، وشرعت في الصلاة على حسب الوقت، فخلصني الله تعالى ببركة ذلك. وقرأ القرآن على جماعة كثيرة: منهم بمرو على أستاذه أبي الحسين عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الدهان المقرئ، وبنيسابور على أبي عبد لله محمد بن علي الخبازي، وأبي عثمان سعيد بن محمد المعدل، وببغداد على أبي الحسن على بن أحمد بن عمر بن حفص بن الحمامي، وذكر غير هؤلاء قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الرزاق المقرئ بسرخس يقول: سمعت أستاذي أبا نصر محمد بن أحمد بن علي المقرئ الكركانجي بجيرنج يسأل ويقول: أين في القرآن كلمة متصلة عشرة أحرف؟ فأفخمنا فقال: (ليستخلفهم في الأرض)، ثم قال: فأين جاء في القرآن بين سبع كلمات ثمان نونات؟ فلم نحر جواباً فقال: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون، نحن نقص عليك).
وذكر السمعاني بإسناد آخر أن أبا نصر الكركانجي قال: نصف القرآن في قوله تعالى: (لقد جئت شيئاً نكراً)، النون والكاف من النصف الأول والراء والألف من النصف الثاني. قال: وسمعت المقرئ أبا عبد الله محمد بن عبد الرزاق الحداد بسرخس يقول: سمعت المقرئ أبا نصر محمد بن أحمد الكركانجي بجيرنج يقول: أردت أن أقرأ القرآن على بعض القراء بالشام برواية وقعت له عالية فامتنع علي ثم قال لي: تقرأ على كل يوم عشراً وتدفع إلى مثقالاً من الفضة، فقبلت ذلك منه شئت أو أبيت. قال: فلما وصلت إلى المفضل، أذن لي كل يوم في قراءة سورة كاملة، وكنت أرسل غلماني في التجارة إلى البلاد، وأقمت عنده سنة وخمسة أشهر أو سنة حتى ختمت، واتفق أن لم يرد علي في هذه الرواية خلافاً من جودة قراءتي، فلما قرب أن أخيم الكتاب جمع أصحابه الذين قرؤوا عليه في البلاد القريبة منه وأمرهم أن يحمل إلى كل واحد منهم شستكة قيمتها ديناراً أحمر، وفيها من دينارين إلى خمسة وقال لهم المقرئ: اعلموا أن هذا الشاب قرأ على الرواية الفلانية ولم احتج أن أرد عليه، ووزن لي في كل يوم مثقالاً من الفضة وأردت أن أعرف حرصه في القراءة مع الجودة. ورد على ما كان أخذه مني ودفع إلى كل ما حمله أصحابه من الشساتك والذهب فامتنعت، فأظهر الكراهية حتى أخذت ما أشار إليه وخرجت من تلك البلدة.

محمد بن أحمد الأبيوردي الكوفي

أحد قراء أبيورد. هو أبو المظفر محمد بن أبي العباس أحمد بن محمد أبي العباس أحمد بن إسحاق بن أبي العباس محمد الإمام بن إسحاق بن الحسن أبي الفتيان بن أبي مرفوعة منصور بن معاوية الأصغر بن محمد بن أبي العباس عثمان بن عنبسة بن عتبة بن عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. نقلت هذا النسب من تاريخ جمعه منوجهر بن أسفرسيان بن منوجهر، ابتدأه فيما ذكر لي في أوله من بعد ما ذكره الوزير أبو شجاع فقال فيه عند ذكر الأبيوردي: حكى أنه كان من أبيورد ولم يعرف له هذا النسب، وأنه كان ببغداد في خدمة مؤيد الملك ابن نظام الملك، فلما عادى مؤيد الملك عميد الدولة بن منوجهر ألزمه أن يهجوه ففعل، فسعى عميد الدولة إلى الخليفة بأنه قد هجاك ومدح صاحب مصر، فأبيح دمه فهرب إلى همذان واختلق هذا النسب حتى ذهب عنه ما قرف به من مدح صاحب مصر، وكان يكتب على كتبه المعاوي وكان فاضلاً في العربية والعلوم الأدبية نسابة ليس مثله، متكبراً عظيماً. وسمع سنقر كفجك بخبره فأراد أن يجعله طغرائي الملك أحمد فمات أحمد فرجع إلى أصفهان بحال سيئة، وبقي سنين يعلم أولاد زين الملك برسق ثم شرح سنقر الكفجك للسلطان محمد ذلك وأعطاه أشراف المملكة، وكان يدخل مع الخطير وأبي إسماعيل والمعين وشرف الدين، فتوفي فجأة بأصفهان يوم الخميس العشرين من شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسمائة وكذا ذكر ابن منده. ويقال: سقاه الخطير ودفن بباب دبره، وكان كبير النفس عظيم الهمة، لم يسأل أحداً شيئاً قط مع الحاجة والمضايقة، وكان من دعائه في الصلاة: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغربها، ورثى الحسين عليه السلام بقصيدة قال فيها ومن خطه نقلت:
فجدي وهو عنبسة بن صخر ... برئ من يزيد ومن زياد
قال السمعاني: قال شيرويه: سمع الأبيوردي إسماعيل ابن مسعدة الجرجاني، عبد الوهاب بن محمد بن الشهيد، وأبا بكر بن خلف الشيرازي حديثاً واحداً، وأبا محمد الحسن ابن أحمد السمرقندي وعبد القاهر الجرجاني النحوي.
قال ابن طاهر المقدسي: عنبسة الأصغر بن عتبة الأشراف ابن عثمان بن عنبسة الأكبر بن أبي سفيان قال: ومعاوية الأصغر هو الذي ينتسب إليه الأبيوردي، ومعاوية أول من تدبر كوفن وهي قصبة بين نسا وأبيورد، ونقله إليها حبان بن حكيم العابدي. وكتب مرة قصة إلى الخليفة وكتب على رأسها الخادم المعاوي، يعني معاوية بن محمد بن عثمان لا معاوية بن أبي سفيان، فكره الخليفة النسبة إلى معاوية واستبشعها، فأمر بكشط الميم ورد القصة فبقيت الخادم العاوي.
وحدث السمعاني عن أحمد بن سعد العجلي قال: كان السلطان نازلاً على باب همذان فرأيت الأديب الأبيوردي راجعاً من عندهم فقلت: له من أين؟ فأنشأ يقول ارتجالاً:
ركبت طرفي فأذرى دمعه أسفاً ... عند انصرافي منهم مضمر الياس
وقال حتام تؤذيني فإن سنحت ... جوانح لك فاركبني إلى الناس؟
وحدث أبو سعد السمعاني عن أبي علي أحمد بن سعيد العجلي المعروف بالبديع قال: سمعت الأبيوردي يقول في دعائه: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها، فقلت له: أي شيء هذا الدعاء؟ فكتب إلي بهذه الأبيات:
يعيرني أخو عجل إبائي ... على عدم وتيهي واختيالي
ويعلم أنني فرط لحي ... حموا خطط المعالي بالعوالي
فلست بحاصن إن لم أزرها ... على نهل شبا الأسل الطوال
وإن بلغ الرجال مداى فيما ... أحاول فلست من الرجال
قال أبو علي العجلي: وكنت يوماً متكسراً فأردت أن أقوم فعضدني الأبيوردي وعاونني على القيام ثم قال: أموياً يعضد عجلياً كفى بذلك شرفاً. وقد ولى الأبيوردي خزن خزانة دار الكتب بالنظامية التي ببغداد بعد القاضي أبي يوسف يعقوب بن سليمان الأسفرايني، وكانت وفاة الأسفرايني هذا في رمضان سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، وكان أبو يوسف الأسفرايني أيضاً شاعراً أديباً وهو القائل في بهاء الدولة منصور بن مزيد صاحب حلة بني مزيد:
أيا شجرات النيل من يضمن القرى ... إذا لم يكن جار الفرات ابن مزيد
إذا غاب منصور فلا النور ساطع ... ولا الصبح بسام ولا النجم مهتدي

وحدث العماد محمد بن حامد الأصبهاني في كتاب خريدة القصر: الأبيوردي تولى في آخر عمره أشراف مملكة السلطان محمد بن ملشكاه فسقوه السم وهو واقف عند سرير السلطان فخانته رجلاه فسقط وحمل إلى منزله فقال:
وقفنا بحيث العدل مد رواقه ... وخيم في أرجائه الجود والباس
وفوق السرير ابن الملوك محمد ... تخر له من فرط هيبته الناس
فخامرني ما خانني قدمي له ... وإن رد عني نفرة الجأش إيناس
وذاك مقام لا نوفيه حقه ... إذا لم ينب فيه عن القدم الراس
لئن عثرت رجلي فليس لمقولي ... عثار وكم زلت أفاضل أكياس
قال العماد الأصبهاني: وكان - رحمه الله - عفيف الذيل غير طفيف الكيل، صائم النهار قائم الليل، متبحراً في الأدب، خبيراً بعلم النسب، وأورد له صاحب وشاح الدمية فيه:
من أرتجي وإلى من ينتهي أربي ... ولم أطأ صهوات السبعة الشهب؟
يا دهر هبني لا أشكو إلى أحد ... ما ظل منتهساً شكوى من النوب
تركتني بين أيدي النائبات لقى ... فلا على حسبي تبقى ولا نسبي
يريك وجهي بشاشات الرضا كرماً ... والصدر مشتمل مني على الغضب
إن هزني اليسر لم أنهض على مرح ... أو مسني الضر لم اجثم على الكعب
حسب الفتى من غناه سد جوعته ... وكل ما يقتنيه نهزه العطب
وله:
خليلي إن الحب ما تعرفانه ... فلا تنكرا أن الحنين من الوجد
أحن وللأنضاء بالغور حنة ... إذا ذكرت أوطانها بريا نجد
وله:
خطرت لذكرك يا أميمة خطرة ... بالقلب تجلب عبرة المشتاق
وتذود عن قلبي سواك كما أبى ... دمعي جواز النوم بالآماق
لم يبق مني الحب غير حشاشة ... تشكو الصبابة فاذهبي بالباقي
أيبل من جلب السقام طبيبه ... ويفيق من سحرته عين الراقي؟
إن كان طرفك ذاق ريقك فالذي ... ألقى من المسقي فعل الساقي
نفسي فداؤك من ظلوم أعطيت ... رق القلوب وطاعة الأحداق
فلقلة الأشباه فيما أوتيت ... أضحت تدل بكثرة العشاق
وله:
علاقة بفؤادي أعقبت كمدا ... لنظرة بمنى أرسلتها عرضا
وللحجيج ضجيج في جوانبه ... يقضون ما أوجب الرحمن وافترضا
فأيقظ القلب رعباً ما جنى نظري ... كالصقر نداه طل الليل فانتفضا
وقد رمتني غداة الخيف غانية ... بناظر إن رمى لم يخطئ الغرضا
لما رأى صاحبي ما بي بكى جزعاً ... ولم يجد بمنى عن خلتي عوضا
وقال دع يا فتى فهر فقلت له ... يا سعد أودع قلبي طرفها مرضا
فبت أشكو هواها وهو مرتفق ... يشوقه البرق نجديا إذا ومضا
تبدو لوامعه كالسيف مختضباً ... شباه بالدم أو كالعرق إن نبضا
ولم يطق ما أعانيه فغادرني ... بين النقا والمصلي عندها ومضى
وقرأت من خط تاج الإسلام اختلاف في نسبه وهو محمد بن أحمد بن محمد بن إسحاق بن الحسن بن منصور بن معاوية ابن محمد بن عمثان بن عتبة بن عنبسة بن أبي سفيان صخر بن حرب، الأموي العبشمي، أوحد عصره وفريد دهره في معرفة اللغة والأنساب وغير ذلك، وأليق ما وصف به بيت أبي العلاء المعري:
وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل

وله تصانيف كثيرة منها كتاب تاريخ أبيورد ونسا، كتاب المختلف والمؤتلف، كتاب قبسة العجلان في نسب آل أبي سفيان، كتاب نهزة الحافظ، كتاب المجتبي من المجتمى في رجال، كتاب أبي عبد الرحمن النسائي في السنن المأثورة وشرح غريبة، كتاب ما اختلف وائتلف في أنساب العرب، كتاب طبقات العلم في كل فن، كتاب كبير في الأنساب، كتاب تعلة المشتاق إلى ساكني العراق، كتاب كوكب المتأمل يصف فيه الخيل، كتاب تعلة المقرور في وصف البرد والنيران وهمذان، كتاب الدرة الثمينة، كتاب صهلة القارح رد فيه على المعري - سقط الزند - . وله في اللغة مصنفات ما سبق إليها، وكان حسن السيرة جميل الأمر منظرانياً من الرجال، سمع الحديث فأكثر، ولقي عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني النحوي وأخذ عنه. وروى عنه جماعة غير محصورة.
وقال السمعاني: سمعت أبا الفتح محمد بن علي بن محمد بن إبراهيم النطنزي يقول: سمعت الأبيوردي يقول: كنت ببغداد عشرين سنة حتى أمرن طبعي على العربية، وبعد أنا أرتضخ لكنة. قال: وقرأت بخط يحيى بن عبد الوهاب ابن مندة: سئل الأديب الأبيوردي عن أحاديث الصفات فقال: نقر ونمر. وأنشد السمعاني للأبيوردي بإسناد:
جدي معاوية الأغر سمعت به ... جرثومة من طينها خلق النبي
وورثته شرفاً رفعت مناره ... فبنو أمية يفخرون به وبي
وأنشد له:
كفى أميمة غرب اللوم والعذل ... فليس عرضي حال بمبتذل
إن مسني العدم فاستبقي الحياء ولا ... تكلفني سؤال العصبة السفل
فشعر مثلي وخير القول أصدقه كان يفتر عن فخر وعن غزل
أما الهجاء فلا أرضي به خلقاً ... والمدح إن قلته فالمجد يغضب لي
وكيف أمدح أقواماً أوائلهم ... كانوا لأسلافي الماضين كالخول
وله أيضاً في مدح الأئمة الخمسة:
زاهر العود وطيبة ... ولياليه تشيبه
كل يوم من مكان ... يلبس الذل غريبه
وهو يسعى طالباً لل ... علم والهم يذيبه
وطوى برد صباه ... قبل أن يبلى قشيبه
وافتدى بالقوم يدعو ... ه هواه فيجيبه
خمسة لا يجد الحا ... سد فيهم ما يعيبه
منهم الجعفي لا يع ... رف في العلم ضريبه
وإذا اعتل حديث ... فالقشيري طبيبه
وأخونا ابن شعيب ... حازم الرأي صلبيه
وأبو داود موفو ... ر من الفضل نصيبه
وأبو عيسى يرى الجه ... مي منه ما يريبه
حاديهم ذو زجل يس ... تضحك الروض نحيبه
طار فيه البرق حتى ... خالط الماء لهيبه
وأنشد له:
تنكر لي دهري ولم يدر أنني ... أعز وأحداث الزمان تهون
فبات يريني الخطب كيف اعتداؤه؟ ... وبت أريه الصبر كيف يكون؟
وله في الغزل:
أعصر الحمى عد فالمطايا مناخة ... منزلة جرداء ضاح مقيلها
لئن كانت الأيام فيك قصيرة ... فكم حنة لي بعدها أستطيلها؟
وله:
رمتني غداة الخيف ليلى بنظرة ... على خفر والعيس صعر خدودها
شكت سقماً ألحاظها وهي صحة ... فلست ترى إلا القلوب تعودها
وله:
صلي يا ابنة الأشراف أروع ماجداً ... بعيد مناط الهم جم المسالك
ولا تتركيه بين شاك وشاكر ... ومطر ومغتاب وباك وضاحك
فقد ذل حتى كاد ترحمه العدا ... وما الحب يا ظبياء إلا كذلك
ووجدت بعد ذلك رسالة - كتبها إلى أمير المؤمنين المستظهر بالله يعتذر - تدل على صحة ما نسب إليه من الهرب من بغداد نسختها:

إحسان المواقف المقدسة النبوية الإمامية الطاهرة الزكية الممجدة العلية، زاد الله في إشراق أنوارها، وإعزاز أشياعها وأنصارها، وجعل أعداءها حصائد نقمها، ولا سلب أولياءها قلائد نعمها، شمل الأنام، وغمر الخاص والعام، وأحق خدمها من انتهج المذاهب الرشيدة في الولاء الناصع، والتزام الشاكلة الحميدة في الثناء المتتابع، ولا خفاء باعتلاق الخادم أهداب الإخلاص، واستيجابة مزايا الاجتباء والاختصاص، لما أسلفه من شوافع الخدم، ومهده من أواصر الذمم، متوافراً على دعاء يصدره من خلوص اليقين، ويعد المواصلة به من مفترضات الدين، ولئن صدت الموانع عن المثول السدة المنيفة، والاستدراء بالجناب الأكرم في الخدمة الشريفة، فهو في حالتي دنوه منها واقترابه، وتارتي انتزاحه عنها واغترابه، على السنن القاصد في المشايعة مقيم، ولما يشمله من نفحات الأيام الزاهرة مستديم، وقد علم الله سبحانه - ولا يستشهده كاذباً إلا من كان لرداء الغي جاذباً - أنه مطوي الجنان على الولاء منطلق اللسان بالشكر والدعاء، يتشح بهما الصبح كاشراً عن نابه، ويدرعهما الليل ناشراً سابغ جلبابه، وكان يغب خدمه اتقاء لقوم يبغونه الغوائل، وينصبون له الحبائل، وتدعوهم العقائد المدخولة إلى تنفيره، ويزنون عنه غير ما أجنه في ضميره، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذماماً ويزيدهم الاستدراج على الجرائم جرأة وإقداماً، حتى استشعر وجلاً، فاتخذ الليل جملاً، والتحف بناشئه الظلماء، والفرار مما لا يطاق من سنن الأنبياء، ولم يزل يستبطئ فيهم المقادير، والأيام ترمز بما يعقب التبديل والتغيير، فحاق بهم مكرهم، وانقضت شرتهم وشرهم:
عذرت الذرى لو خاطرتني قرومها ... فما بال أكاريه فدع القوائم؟
وعاود الخادم المثابرة على الممادح الإمامية مطنباً ومطيلاً إذ وجد إلى مطالعة مقار العز والعظمة ومواقف الإمامية المكرمة بها سبيلاً، وهذه فاتحة ما نظم، وانتهز فرصة الإمكان فيه واغتنم:
لك من غليل صبابتي ما أضمر ... وأسر من ألم الغرام وأظهر
وتذكري زمن العذيب يشفني ... والوجد ممنو به المتذكر
إذ لمتي سحماء مد على النقا ... أظلالها ورق الشباب الأخضر
والدتك النشأ الصغار وليس ما ... ألقاه فيك من الملاوم يصغر
هو ملعب شرفت بنا أرجاؤه ... إذ نحن في حلل الشبيبة نخطر
فبحر أنفاسي وصوب مدامعي ... أضحت معالمه تراح وتمطر
وأجيل في تلك المعهد ناظري ... فالقلب يعرفها وطرفي ينكر
وأرد عبرتي الجموح لأنها ... بمقيل سرك في الجوانح تخبر
فأبيت محتضر الجوى قلق الحشا ... وأظل اعذر في هواك وأعذر
غضبت قريش إذ ملكت مقادتي ... غضباً يكاد السم منه يقطر
وتعاودت عذلي فما أرعيتها ... سمعاً يقل به الكلام ويكثر
ولقد يهون على العشيرة أنني ... أشكو الغرام فيرقدون وأسهر
وبمهجتي هيفاء يرفع جيدها ... رشأ ويخفض ناظريها جؤذر
طرقت وأجفان الوشاة على الكرى ... تطوي وأردية الغياهب تنشر
والشهب في غسق الدجى كأسنة ... زرق يصافحها العجاج الأكدر
فنجاد سيفي مس ثنى وشاحها ... بمضاجع كرمت وعف المئزر
ثم افترقنا والرقيب يروع بي ... أسداً يودعه غزال أحور
والدر ينظم حين تضحك عقدة ... وإذا بكيت فمن جفوني ينثر
فوطئت خد الليل فوق مطهم ... تسمو لغايته الرياح فتحسر
طرب العنان كأنه في حضره ... نار بمعترك الجياد تسعر
والعز يلحفني وشائع برده ... حلق الدلاص وصارمي والأشقر
وعلام أدرع الهوان وموئلي ... خير الخلائق أحمد المستظهر؟
هو غرة الزمن الكثير شياته ... زهى السرير به وتاه المنبر
وله كما اطردت أنابيب القنا ... شرف وعرق بالنبوة يزخر

وعلا ترف على التقى وسماحة ... علق الرجاء بها وبأس يحذر
لا تنفع الصلوات من هو ساحب ... ذيل الضلال وعن هواه أزور
ولو استميلت عنه هامة مارق ... لدعا صوارمه إليها المغفر
والله يحرس بابن عم رسوله ... دين الهدى وبه يعان وينصر
فعفاته حيث الغنى يسع المنى ... وعداته حيث القنا يتكسر
وبسيبه وبسيفه أعمارهم ... في كل معضلة تطول وتقصر
وكأنه المنصور في عزماته ... ومحمد في المكرمات وجعفر
وإذا معد حصلت أنسابها ... فهم الذرا والجوهر المتخير
ولهم وقائع في العدا مذكورة ... ترى الذئاب حديثها والأنسر
والسمر في اللبات راعفة دماً ... والبيض يخضبها النجيع الأحمر
والقرن يركب ردعه سهل الخطا ... والأعوجية بالجماجم تعثر
ودجا النهار من العجاج وأشرقت ... فيه الصوارم فهو ليل مقمر
يا بن الشفيع إلى الحيا ما لامرئ ... طامنت نخوته، المحل الأكبر
أنا عبد نعمتك التي لا تجتدي ... معها السحائب فهي منها أغزر
والنجح يضمنها، لمن يرتادها ... منا الطلاقة والجبين الأزهر
ولقد عداني عن جنابك حادث ... أنحى علي به الزمان الأغبر
وإن اقتربت أو اغتربت فإنني ... لهج بشكر عوارف لا تكفر
وعلاك لي في ظلها ما أبتغى ... منها ومن كلمي لها ما يذخر
يسدي مديحك هاجسي وينيره ... فكري وحظي في امتداحك أوفر
بغداد أيتها المطي فواصلي ... عنقاً تئن له القلاص الضمر
إني وحق المستجن بطيبة ... كلف بها إلى ذراها أصور
وكأنني مما تسوله المنى ... والدار نازحة إليها أنظر
أرض تجر بها الخلافة ذيلها ... وبها الجباة من الملوك تعفر
فكأنها جلبت علينا جنة ... وكأن دجلة فاض فيها، الكوثر
وهواؤها أرج النسيم وتربها ... مسك تهاداه الغدائر أذفر
يقوي الضعيف بها ويأمن خائف ... قلقت وسادته ويثري المقتر
فتركتها إذ صدعني معشري ... وبغى علي من الأراذل معشر
من كل ملتحف بما يصم الفتى ... يؤذي ويظلم أو يجور ويغدر
فنفضت منه يدي مخافة كيده ... إن الكريم على الأذى لا يصبر
والأبيض المأثور يخطم بالردى ... من لا ينهنهه القطيع الأسمر
فارفض شملهم وكم من مورد ... للظالمين وليس عنه مصدر
وآبى لشعري أن أدنسه بهم ... حسبي وحسب ذوي الخنا أن يحقروا
قابلت سيئ ما أتوا بجميل ما ... آتى فإني بالمكارم أجدر
وإلى أمير المؤمنين تطلعت ... مدح كما ابتسم الرياض تحبر
ويقيم مائدهن ليل مظلم ... ويضم شاردهن صبح مسفر
فبمثل طاعته الهداية تبتغي ... وبفضل نائله الخصاصة تجبر
وله:
ألا ليت شعري هل تخب مطيتي ... بحيث الكثيب الفرد والأجرع السهل
ألذ به مس الثرى ويروقني ... حواشي ربا يغدو أزاهيرها الوبل
ولولا دواعي حب رملة لم أقل ... إذا زرت مغناها به سقى الرمل
فيا حبذا أثل العقيق ومن به ... وإن رحلت عنه فلا حبذا الأثل
ضعيفة رجع القول من ترف الصبا ... لها نظرة تنسيك ما يفعل النصل
وقد بعثت سراً إلى رسولها ... لأهجرها والهجر شيمة من يسلو
تخاف على الحي إذ نذروا دمي ... سأرخصه فيها على أنه يغلو
أيمنعي خوف الردى أن أزورها ... وأروح من صبري على هجرها القتل؟

إذا رضيت عني فلا بات ليلة ... على غضب إلا العشيرة والأهل
وله:
خطوب للقلوب بها وجيب ... تكاد لها مفارقنا تشيب
نرى الأقدار جارية بأمر ... يريب ذوي العقول بما يريب
فتنجح في مطالبها كلاب ... وأسد الغاب ضارية تخيب
وتقسم هذه الأرزاق فينا ... فما ندري أتخطى أم تصيب؟
ونخضع راغمين لها اضطراراً ... وكيف يلاطم الإشفي لبيب؟
وله:
وغادة لو رأتها الشمس ما طلعت ... والرئم أغضى وغصن البان لم يمس
عانقتها برداء الليل مشتملاً ... حتى انتبهت ببرد الحلى في الغلس
فظلت أحميه خوفاً أن ينبهها ... وأتقي أن أذيب العقد بالنفس
وله:
ومتشح باللؤم جاذبني العلا ... فقدمه يسر وأخرني عسر
وطوقت أعناق المقادير ما أتى ... به الدهر حتى ذل للعجز الصدر
ولو نيلت الأرزاق بالفضل والحجى ... لما كان يرجو أن يثوب له وفر
فيا نفس صبراً إن للهم فرجة ... فمالك إلا العز عندي أو القبر
ولي حسب يستوعب الأرض ذكره ... على العدم والأحساب يدفنها الفقر
وله أيضاً وهو من جيد شعره:
وعليلة الألحاظ ترقد عن ... صب يصافح جفنه الأرق
وفؤاده كسوارها حرج ... ووساده كوشاحها قلق
عانقتها والشهب ناعسة ... والأفق بالظلماء منتطق
ولثمتها والليل من قصر ... قد كاد يلثم فجره الشفق
بمعانق ألف العفاف به ... كرم بأذيال التقى علق
ثم افترقنا حن فاجأنا ... صبح تقاسم ضوءه الحدق
وبنحرها من أدمعي بلل ... وبراحتي من نشرها عبق
وله:
بيضاء إن نطقت في الحي أو نظرت ... تقاسم السحر أسماع وأبصار
والركب يسرون والظلماء عاكفة ... كأنهم في ضمير القلب أسرار
وله:
وقصائد مثل الرياض أضعتها ... في باخل ضاعت به الأحساب
فإذا تناشدها الرواة وأبصروا ال ... ممدوح قالوا ساخر كذاب
وله:
ما للجبان ألان الله ساحته ... ظن الشجاعة مرقاة إلى الأجل
وكم حياة جبتها النفس من تلف ... ورب أمن حواه القلب من وجل
فقت الثناء أبلغ مداك به ... حتى توهمت أن العجز من قبلي
والعي أن يصف الورقاء مادحها ... بالطوق أو يمدح الأدماء بالكمل
وله:
وقد سئمت مقامي بين شرذمة ... إذا نظرت إليهم قطبت هممي
أراذل ملكوا الدنيا وأوجههم ... لم يكشف الفقر عنها بهجة النعم
وله:
ألام على نجد وأبكي صبابة ... رويدك يا دمعي ويا عاذلي رفقا
فلي بالحمى من لا أطيق فراقه ... به يسعد الواشي ولكنني أشقى
وأكرم من جيرانه كل طارئ ... يود وداداً أنه من دمي يسقى
إذا لم يدع مني نواه وحبه ... سوى رمق يا أهل نجد فكم يبقى؟
ولولا الهوى مالان للدهر جانبي ... ولا رضيت مني قريش بما ألقى
قرأت بخط محمد بن عبيد الله الشاعر المعروف بابن التعاويذي قال: حدثني الشيخ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الخشاب قال: حدثني الشيخ أبو منصور بن الجواليقي قال: كنت أقرأ على أبي زكريا شعر أبي دهبل الجمحي حتى وصلت إلى هذا البيت:
يجول وشاحاها ويغرب حجلها ... ويشبع منها وقف عاج ودملج

قال: فقلت له: وصفها بقوله يجول وشاحها بأنها هضيمة الحشا، وبقوله: ويشبع منها وقف عاج ودملج: أنها عبلة الزند والعضد، فما معنى قوله ويغرب حجلها؟ فقال لا أدري، وكان الأبيوردي حاضراً فلما قمت من عنده قال لي الأبيوردي: أتحب أن تعرف معنى هذا البيت؟ قلت نعم. فقال اتبعني، فمضيت معه إلى بيته فأجلسي وأخرج سلة فيها جزاز فجعل يطوفها إلى أن أخرج ورقة فنظر فيها وقال لي: إنه مدح امرأة من آل أبي سفيان، هم يوصفون بأنهم سته حمش. والحمش: رقة السافين. ومن افتخاراته قوله:
يا من يساجلني وليس بمدرك ... شأوى وأين له جلالة منصبي؟
لا تتبعن فدون ما أملته ... خرط القتادة وامتطاء الكوكب
المجد يعلم أينا خير أبا؟ ... فاسأله تعلم أي ذي حسب أبي
جدي معاوية الأغر سمت به ... جرثومة من طينها خلق النبي
وورثته شرفاً رفعت مناره ... فبنوا أمية يفخرون به وبي
قال عبد الله بن علي التميمي: ولقد حصل للأبيوردي بعد ما تراه من شكوى الزمان في أشعاره مما انتجعه بالشعر من ملوك خراسان ووزرائها وخلفاء العراق وأمرائها ما يحصل للمتنبئ في عصره، ولابن هانئ في مصره، فمن ذلك ما حدثنيه القاضي أبو سعد محمد بن عبد الملك بن الحسن النديم: أن أفضل الدولة الأبيوردي لما قدم الحلة على سيف الدولة صدقة ممتدحاً له - ولم يكن قبلها اجتمع به قط - خرج سيف الدولة لتلقيه قال: وكنت فيمن خرج فشاهدت الأبيوردي راكباً في جماعة كثيرة من أتباعه، منهم من المماليك الترك ثلاثون غلاماً ووراءه سيف مرفوع وبين يديه ثمان جنائب بالمراكب والسرفسارات الذهب، وعددنا ثقله فكان على أحد وعشرين بغلاً، وكان مهيباً محترماً جليلاً معظماً لا يخاطب إلا بمولانا، فرحب به سيف الدولة، وأظهر له من البر والإكرام ما لم يعهد مثله في تلقي أحد ممن كان يتلقاه، وأمر بإنزاله وإكرامه والتوفر على القيام بمهامه، وحمل إليه خمسمائة دينار وثلاثة حصن وثلاثة أعبد، وكان الأبيوردي قد عزم على إنشاد سيف الدولة قصيدته التي يقول فيها:
وفي أي عطفيك التفت تعطفت ... عليك به الشمس المنيرة والبدر
في يوم عينه. ولم يكن سيف الدولة أعد له بحسب ما كان في نفسه أن يلقاه به ويجيزه على شعره، واعتذر إليه ووعده يوماً غير ذلك اليوم ليعد ما يليق بمثله إجازته مما يحسن به بين الناس ذكره، ويبقى على ممر الأيام أثره، فاعتقد أفضل الدولة أن سيف الدولة قد دافعه عن سماعه منه استكباراً لما يريد أن يصله به ثانياً، فأمر الأبيوردي أصحابه أن يعبروا ثقله الفرات متفرقاً في دفعات، وخرج من غير أن يعلم به أحد سوى ولد أبي طالب بن حبش فإنه سمعه ينشد على شاطئ الفرات حين عبوره:
أبابل ولا واديك بالخبر مفعم ... لراج ولا ناديك بالرفد آهل
لئن ضقت عني فالبلاد فسيحة ... وحسبك عاراً أنني عنك راحل
فإن كنت بالسحر الحرام مدلة ... فعندي من السحر الحلال دلائل
قواف تعير الأعين النجل سحرها ... وكل مكان خيمت فيه بابل
فبادر ولد أبي طالب إلى سيف الدولة فقال له: رأيت على شاطئ الفرات فارساً يريد العبور إلى الشرق وهو ينشد هذه الأبيات. فقال سيف الدولة: وأبيك ما هو إلا الأبيوردي، فركب لوقته في قل من عسكره، فلحقه فاعتذر، وسأله الرجوع وعرفه عذره في امتناعه من سماع شعره، وأمر بإنزاله في داره معه، وحمل إليه ألف دينار، ومن الخيل والثياب ما يزيد على ذلك قيمة.
قال عبيد الله التيمي: أنشدني أبو إسحاق يحيى بن إسماعيل المنشئ الطغرائي قال: سمعت والدي ينشد لنفسه مرتية للأبيوردي:
إن ساغ بعدك لي ماء على ظمإ ... فلا تجرعت غير الصاب والصبر
أو إن نظرت من الدنيا إلى حسن ... مذ غبت عني فلا متعت بالنظر
صحبتني والشباب الغض ثم مضى ... كما مضيت فما في العيش من وطر
هبني بلغت من الأعمار أطولها ... أو انتهيت إلى آمالي الكبر
فكيف لي بشباب لا ارتجاع له ... أم أين أنت فما لي منك من خبر؟
سبقتماني ولو خيرت بعد كما ... لكنت أول لحاق على الأثر

محمد بن أحمد بن طاهر بن حمد
أبو منصور الخازن لدار الكتب القديمة، من ساكني درب منصور بالكرخ، مات في ثالث عشر شعبان سنة عشرة وخمسمائة ذكر ذلك ابن الجوزي وقال: كان أديباً فاضلاً نحوياً، وخطه موجود بأيدي الناس كثير يرغب فيه ويعتمد غالباً عليه، وكان أبو السعادات بن الشجري النحوي والنقيب حيدرة كثيراً ما يستكتبانه، سمع علي بن المحسن التنوخي، وابن غيلان وغيرها. وكان علي فقيها على مذهب الشيعة، ووجدت سماعه على كتاب بخطه في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة.
وحدث غرس النعمة أبو الحسن محمد بن الصابئ في كتاب الهفوات قال: كان بدار العلم التي وقفها سابور بن أزدشير الوزير خازن يعرف بأبي منصور، واتفق بعد ذلك بسنين كثيرة من وفاة سابور أن آلت مراعاة الدار إلى المرتضى أبي القاسم علي بن الحسن الموسوي نقيب الطالبيين، فرتب معه آخر يعرف بأبي عبد الله بن حمد مشرفاً عليه وكان داهية، فصمد لأبي منصور كيداً ومكراً فصار يتلهى به دائماً. فمن ذلك أنه قال له يوماً: قد هلكت الكتب وذهب معظمها. فقال له وانزعج: بأي شيء؟ قال: بالبراغيث وعيثهم فيها وعبثهم بها. قال: فما تفعل في ذلك؟ قال: تقصد الأجل المرتضي وتطالعه بالحال وتسأله إخراج شيء من دوائهم المعد عنده لهم لننشره بين الورق ويؤمن الضرر، فمضى إلى المرتضى وخدمه. وقال له بسكون ووقار، ومن طريق النصح والاحتياط: يتقدم سيدنا إلى الخازن بإخراج شيء من دواء البراغيث، فقد أشرفت الكتب على الهلاك بهم، لنتدارك أمرهم بتعجيل إخراج الدواء المانع لهم المبعد لضررهم. فقال المرتضي: البراغيث البراغيث مكرراً، لعن الله ابن حمد، فأمره كله طنز وهزل، قم أيها الشيخ مصاحباً ولا تسمع لابن حمد نصيحة ولا قولاً.
قال المؤلف: هكذا وجدت هذا الخبر، وقد وافق رواية ابن الجوزي في كون ابن حمد خازن الكتب بين السورين وفي مقاربة العصر وخالفه في الكنية، ولا أدري هل هو هذا أو غيره؟ أو قد غلط أحدهما في الكنية والله أعلم. ثم وقفت على المذيل الذي للسمعاني بخطه على حاشيه ملحقة أن محمد بن عطاف الموصلي سأل أبا منصور بن حمد الخازن عن مولده فقال: سنة ثماني عشرة وأربعمائة. قال: وسأله فقال: سنة سبع عشرة وأربعمائة، وهذا يدل على أن هذه الحكاية ليست عنه، لأن المرتضى مات سنة ست وثلاثين وأربعمائة، فيكون حينئذ قد كان ابن حمد ابن ثماني عشرة سنة، فيستحيل أن تكون الحكاية عنه وعساها عن أبيه، عز وجل أعلم بالصواب.
محمد بن أحمد بن جرامرد الشيرازي
أبو بكر القطان النحوي، شيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد الخشاب ومخرجه ومؤدبه وعنه أخذ النحو، قرأ ابن جرامرد على علي بن فضال المجاشعي القيرواني وعلى غيره، وسمع الحديث ورواه، ومات بعد سنة عشرة وخمسمائة. قال الشيخ أبو محمد بن الخشاب فيما قرأته بخطه: كان في أبي علي الحسن بن علي المحولي شيخنا سلامة صدر. ولقد كان شيخنا أبو بكر محمد بن جرامرد الشيرازي المعروف بالقطان - رحمه الله - يولع به وبغيره كثيراً، فكان يقول معرضاً به وبغيره ممن هو أعلى منه منزلة وأرفع ذكراً وأبعد صيتاً، فكان من قوله ما عبر عن البلادة والجمود بأحسن من قولهم هو ثقة، وله أعني الشيخ أبا بكر مع هذا المحولي نوادر أقاصيص لا أطول بذكرها.
محمد بن أحمد بن حمزة بن جيا
أبو الفرج من أهل الحلة المزيدية يلقب شرف الكتاب، كان نحوياً لغوياً فطناً شاعراً مترسلاً، شعره ورسائله مدونة. قدم بغداد فقرأ على النقيب أبي السعادات هبة الله بن الشجري النحوي وأخذ عنه، ثم أخذ بعده عن أبي محمد بن الخشاب، وسمع الحديث على القاضي أبي جعفر عبد الواحد بن الثقفي، وأصله ومولده من مطيراباذ وصحب ابن هبيرة الوزير. وله رسائل مدونة عملها أجوبة لرسائل أبي محمد القاسم بن الحريري.
حدثني أبو علي القيلوي قال: أنا رأيته. ومات في سنة تسع وسبعين وخمسمائة وقد نيف على الثمانين. أنشدني ابن الدبيثي قال: أنشدني أبو الثناء محمود بن عبد الله بن المفرج الحلي قال: أنشدني شرف الكتاب أبو الفرج محمد ابن أحمد بن جيا لنفسه:
حتام أجرى في ميادين الهوى ... لا سابق أبداً ولا مسبوق
ما هزني طرب إلى أرض الحمى ... إلا تعرض أجرع وعقيق

شوق بأطراف البلاد مفرق ... نحوي، شتيت الشمل منه فريق
ومدامع كفلت بعارض مزنة ... لمعت لها بين الضلوع بروق
فكأن جفني بالدموع موكل ... وكأن قلبي للجوى مخلوق
قدم الزمان، فصار شوقي عادة ... فليتركن دلاله المعشوق
قد كان في الهجران ما يزع الهوى ... لو يستفيق من الغرام مشوق
لكنني آبى لعهدي أن يرى ... بعد الصفاء وورده مطروق
إن عادت الأيام لي بطويلع ... أو ضمني والنازحين طريق
لأنبهن على الغرام بزفرتي ... ولتطربن بما أبث النوق
حدثني أبو علة القيلوي قال: سمعت شرف الكتاب يحدث أنه كان يوماً في مجلس الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة فجاءه فراش من دار الخلافة وحدثه بمحضري شيئاً كان يحب كتمانه من كل أحد. قال: واتفق خروج الفراش وقد اجتمع عنده الناس فشغل بهم عني، وقمت أنا وخرجت ومضيت فما وصلت باب العامة حتى جاءني من ردني إلى حضرته، فلما وقفت بين يديه قلت: أحسن الله إلى مولانا الوزير وأدام أيامه. بيت الحماسة؟ فقال نعم، امض بارك الله فيك، كذا الظن بمثلك. قال وخرجت من عنده ولم يفهم أحد شيئاً مما جرى بيننا، وإنما أردت قول شاعر الحماسة:
وفتيان صدق لست مطلع بعضهم ... على سر بعض غير أني جماعها
ومن شعره:
أما والعيون النجل تصمي نبالها ... ولمع الثنايا كالبروق تخالها
ومنعطف الوادي لأرج نشره ... وقد زار في جنح الظلام خيالها
وقد كان في الهجران ما يزع الهوى ... ولكن شديد في الطباع انتقالها
ومنها:
أيا ابنالألى جادوا وقد بخل الحيا ... وقادوا المذاكي والدماء نعالها
ذد الدهر عني من رضاك بعزمة ... معودة ألا يفل رعالها
ووجدت بخط بعض بني معية العلويين الحسينين: أنشدني الشيخ أبو الفرج ابن جيا الكاتب لنفسه:
قل لحادي عشر البروج أبا العا ... شر منها، رب القرون الثاني
يا ابن شكران ضلة لزمان ... صرت فيه تعد في الأعيان
ليس طبي ذم الزمان ولكن ... أنت أغريتني بذم الزمان
ومن كلامه في جواب رسالة لابن الحريري كتبها إلى سديد الدولة بن الأنباري يشكره: سيدنا الشيخ الإمام في توالي مباره، والقصور مني عن تأدية حقه وإيفائة، كمن يقرض غريماً مع عسرته، ويتكثر بمن أفراده الزمان عن أهله وأسرته، فهلا اقتصر بي من دينه على ما تقادم عهده، ولم يشفعه بطول أضعف قوى شكري وكان مستحكماً عقدة:
أنت امرؤ أو ليتني منناً ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا
فإليك بعد اليوم معذرتي ... لاقتك بالتصريح منكشفا
لا تسدين إلى عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا
فأما ما يعزوه إلي من البراعة وحسن الصناعة، ويقرره من إحسان كان الطي أولى به من الإذاعة، فتلك حال إن ثبت فيها الدعاوى، واتفق على صحة نقلها المخالف والموالي، فإنما جريت إليها بجيادهن التوالي لسوابقه، الصوادي إلى مناهل حقائقه، وأين الرذايا بعد ذلك من السابقات؟. والمقصرة من اللاحقات؟ والمقرفة من كريمات المناسب؟ والمكدية مطالبها من نجيحات المكاسب:
سبقت إلى الآداب أبناء دهرنا ... فبؤت بعادي على الدهر أقدم
وليست كما أبقت ضبيعة اضخم ... وليست كما سادت قبائل جرهم
ولكن طوداً لم يحلحل رسيه ... وفارعة قعساء لم تتسنم
إذا ما بناء شاده الفضل والتقى ... تهدمت الدنيا ولم يتهدم
فالله تعالى يحرس عليه ما خوله من هذه الخصائص النفسية والمنح الشريفة، ولا تعدم القلوب الراحة بمحاضرته، كما لم يخله من النصر إذا أشرع رماح الجدل يوم مناصرته بمنه وجوده. فأما اعتذاره عن إنفاذ ذلك التأليف، وإنكاره للفراغ منه بعد التعريف، فما يخفى ما وراء ذلك من المغالطة، وما يقصده في كل وقت من قطع حبال المباسطة، ولولا أن المعاتبة إذا حقت فلما يسلم معها وداد، ويجود في مطاويها من الصفاء عهاد:

لأرسلتها مقطوعة العقل تغتدي ... شوارد قد بالغن في الجولان
قوارص تبقى ما رأى الشمس ناظر ... وما سمعت من سامع أذنان
لكن المقصود ما عاد بإجمام خاطره وصفاء مشاربه، وألا أكون عليه عوناً للدهر ونوائبه، ولا سيما وقد رأيت الصبر على فعاله أيسر من الصبر على ترك وصاله، فأما الملحة فإنني وجدتها عند الوصول كما سماها، غريبة في لفظها ومعناها، عارية من لبسة التكلف بعيدة عن التصنع تقتاد القلوب بأزمتها، وما كان أولاه لو قرنها إلى ذلك العقد المكنون والدر المصون، فكانت النعمى تكمل، والمسرة تشمل، وهأنا أرتقب لذلك السمط أن تؤلف فرائده، وتجمع بدائده، وأنتظر لوصوله يوماً تقل همومه وتكثر حواسده، فما ذاك بمتعذر عليه متى رامه، ولا بمعوزه إن سرح سوام الفكر فيه وشامه، ولرأيه في ذلك ومعرفته، وإنجاز الوعد جرياً على كريم عادته، مزيد من علاء لا يطرأ الأفول على أهلته، إن شاء الله تعالى وحده.

محمد بن أحمدالزاهري
بن سليمان الزاهري أبو عبد الله الأندلسي، رجل فاضل وأديب كامل متقن، سمع الحديث الكثير ببغداد من ابن كليب وابن بوش وغيرهما فأكثر، وكتب بخطه الكثير وصنف، ولقيته ببغداد وكان لي صديقاً معاشراً حسن الصحبة عذري القلب جيد الشعر، أنشدني كثيراً من شعره لم أثبته، ثم فارق بغداد وحصل في بلاد الجبال، واستوطن بروجرد وتأهل بها وولد له، وصنف بها تصانيف في الأدب كثيرة منها شرح الإيضاح.
محمد بن أحمدبن بريك
بن محمد بن حمزة بن بريك الأنصاري الدسكري المعروف بابن البرفطي، والدسكرة: قرية من قرى نهر الملك، سكن بها أجداده وقرف وغلظ اسمه بالنسبة إلى برفطا، وهي أيضاً قرية من قرى نهر الملك فغلب عليه هذا الاسم. ولد ببغداد في شهر رمضان من شهور سنة ست وستين وخمسمائة، ومات رحمه الله في أول رجب سنة خمس وعشرين وستمائة، وخلف خمسة وعشرين قطعة بخط ابن البواب لم نجتمع في زماننا عند كاتب، وكان يغالي في شرائها. وله شعر من جملته:
أبدأ أميل إليك ميل تذلل ... وتصد صد تجنب ودلال
حتف المتيم منط يوم قطيعة ... وحياته في الحب يوم وصال
قد كدت أغرق في بحار مدامعي ... لولا التمسك فيك بالآمال
عذبت مراشفه وصال بقده ... فحمى جني المعسول بالعسال
عهدي وظل الوصل غير مقلص ... عنا وعمر المطل غير مطال
وكأنما لبس الزمان سناء بد ... ر الدين ذي الإنعام والإفضال
خضر الجناب فإن دجت في أزمة ... سوء الخطوب فأبيض الأفعال
منح ابتداء رافعاً خبر الندى ... وكفى الوجوه مئونة التسآل
كثرت صنائعه فقل نظيره ... وكذا البدور قليلة الأمثال
وحوت أزمة دجلة أعماله ... وكذا الجنان تجاز بالأعمال
حاط العلا فرماحه أقلامه ... حيث المداد لها رؤوس نصال
في ليل ذاك النقس تطرقنا المنى ... فكأنه في الهدى طيف خيال
يحكى بياض الطرس تحت سواده ... أسرار صبح في صدور ليالي
وابن البرفطي هذا أوحد عصرنا في حسن الخط والمشار إليه في التحرير، قد تخرج به خلق كثير وسافر إلى دمشق، وكتب عليه كتابها وأقام بحلب مدة مديدة ثم عاد إلى بغداد، وهو صديقنا أنشدني لنفسه أشعار منها ما أثبته. وحفزه السفر في يوم الخميس ثامن المحرم سنة ثلاث عشرة وستمائة إلى تستر صحبة الأمير ابن أبي محمد الحسن، وأبي عبد الله الحسين ابني الأمير الملك المعظم أبي الحسن علي بن سيدنا ومولانا اللإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد أمير المؤمنين لما ولاهما أرض خوزستان بعد موت أبيهما أبي الحسن علي، تقدم إلى ابن البرفطي بالخروج في خدمتهما والكون في جملتهما ليكتبا عليه ويصلحا خطهما به ويكون معلماً لهما، وهو دمث الأخلاق حسن العشرة، لين الكلام قصير من الرجال فيه دهاء، وكان أول أمره معلماً، فلما جاد خطه صار محرراً، وكان يبالغ في أثمان خطوط ابن البواب فحصل له منها ما لم يحصل لأحد غيره. وجدت عنده أكثر من عشرين قطعة بخطه أرانيها.

وحدثني قال: بلغني عن رجل معلم في بعض محال بغداد أن عنده جزازاً كثيرة ورثه عن أبيه، فخيل لي أنه لا يخلو من شيء من الخطوط المنسوبة، فمضيت إليه وقلت له: أحب أن تريني ما خلف لك والدك عسى أنأشتري منه شيئاً، فصعد بي إلى غرفة جلست أفتش حتى وقع بيدي ورقة بخط ابن البواب قلم الرقاع أرانيها أيضاً، فضممت إليها شيئاً آخر لا حاجة بي إليه وقلت له: بكم هذا؟ فقال لي يا سيدي: ما صلح لك في هذا كله شيء آخر؟ فقلت له: أنا الساعة مستعجل، ولعلي أعود إليك مرة أخرى. فقال: هذا الذي اخترته لا قيمة له فخذه هبة مني. فقلت لا أفعل وأعطيته قطعة قراضة مقدارها نصف دانق، فاستكثرها وقال: يا سيدي ما أخذت شيئاً يساوي هذا المقدار فخذ شيئاً آخر، فقلت: لا حاجة لي في شيء آخر، ثم نزلت من غرفته فاستحييت وقلت هذا مخادعة، ولا شك أنه قد باعني ما جهله، ووالله لا جعلت حق خط ابن البواب أن يشترى بالمخادعة، فعدت إليه وقلت له: يا أخي هذه الورقة بخط ابن البواب. فقال وإذا كانت بخط ابن البواب أي شيء أصنع؟ قلت له قيمتها ثلاثة دنانير إمامية. فقال يا سيدي لا تسخر بي، ولعلك قد عزمت على ردهها فخذها وحط الذهب. فقلت: بل أحضر ميزاناً للذهب فأحضرها، فوزنت ثلاثة دنانير وقلت له: بعتني هذا بهذا؟ فقال بعتك، فأخذتها وانصرفت.

محمد بن إدريس الشافعي الإمام
هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد ابن أدد.
وهاشم هذا الذي في نشب الشافعي ليس هو هاشماً جد النبي صلى الله عليه وسلم، ذاك هاشم بن عبد مناف، فهاشم هذا هو ابن أخي ذاك. ولد فيما حكاه الشافعي عن نفسه أنه قال: ولدت بغزة سنة خمسين ومائة، وحملت إلى مكة وأنا ابن سنتين قال: وكانت أمي من الأزد، وغزة من بيت المقدس على ثلاث مراحل. وفي رواية أخرى عن الشافعي أنه قال: ولدت بعسقلان، وعسقلان من غزة على ثلاثة فراسخ وكلاهما في فلسطين.
وكان مولد الشافعي يوم مات أبو حنيفة، ولا اختلاف في أن وفاة أبي حنيفة كانت سنة خمسين ومائة. ومات الشافعي - رحمه الله عليه - في رجب سنة أربع ومائتين وهو ابن أربع وخمسين سنة، وكان قدومه مصر سنة ثمان وتسعين ومائة.
وقد روى الزعفراني عن أبي عثمان بن الشافعي: أن الشافعي مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة. وفي رواية أن الشافعي قال: ولدت باليمن فخافت أمي على الضيعة، فحملتني إلى مكة وأنا يومئذ ابن عشر أو شبيه بذلك، وتأول بعضهم قوله باليمن بأرض أهلها وسكانها قبائل اليمن. وبلاد غزة وعسقلان كلها من قبائل اليمن وبطونها. قلت وهذا عندي تأويل حسن إن صحت الرواية، وإلا فلا شك أنه ولد بغزة وانتقل إلى عسقلان إلى أن ترعرع. وأما طلبه للعلم، فحدث الزبير بن بكار عن عمه مصعب بن عبد الله بن الزبير: أنه خرج إلى اليمن فلقي محمد بن إدريس الشافعي وهو مستحض في طلب الشعر والنحو والغريب. قال فقلت له: إلى كم هذا؟ لو طلبت الحديث والفقه كان أمثل بك، وانصرفت به معي إلى المدينة فذهبت به إلى مالك بن أنس وأوصيته به. قال: وكان فتى حلواً. قال فما ترك عند مالك بن أنس إلا الأقل، وعند شيخ من مشايخ المدينة إلا جمعه، ثم شخص إلى العراق فانقطع إلى محمد بن الحسن فحمل عنه ثم جاء إلى المدينة بعد سنين. قال: فخرجت به إلى مكة فكلمت له ابن داود وعرفته حاله الذي صار إليه، فأمر له بعشره آلاف درهم.

حدث اللآبري، وهو أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم اللآبري السجزي قال: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن المولد الرقي يحكي عن زكريا بن يحيى البصري، ويحيى بن زكريا بن جبرية النيسابوري كلاهما عن الربيع بن سليمان، وبعضهم يزيد على بعض في الحكاية. قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: كنت أنا في الكتاب أسمع المعلم يلقن الصبي الآية فأحفظها أنا، ولقد كنت - ويكتبون أئمتهم فإلى أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم - قد حفظت جميع ما أملي، فقال لي ذات يوم: ما يحل لي أن آخذ منك شيئاً. قال: ثم لما خرجت من الكتاب كنت أتلقط الخزف والدفوف وكرب النخل أكتاف الجمال، أكتب فيها الحديث وأجئ إلى الدواوين فأستوهب منها الظهور فأكتب فيها حتى كانت لأمي حباب فملأتها أكتافاً وخزفاً وكرباً مملوءة حديثاً، ثم إني خرجت عن مكة فلزمت هذيلاً في البادية أتعلم كلامها وآخذ طبعها وكانت أفصح العرب. قال: فبقيت فيهم سبع عشرة سنة، أرحل برحيلهم وأنزل بنزولهم، فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار وأذكر الآداب والأخبار وأيام العرب، فمر بي رجل من الزبيريين من بني عمي فقال لي: يا أبا عبد الله: عز علي ألا يكون مع هذه اللغة وهذه الفصاحة والذكاء فقه، فتكون قد سدت أهل زمانك، فقلت: فمن بقي نقصد؟ فقال لي: مالك بن أنس سيد المسلمين يومئذ. قال: فوقع في قلبي فعمدت إلى الموطإ فاستعرته من رجل بمكة فحفظته في تسع ليال ظاهراً قال: ثم دخلت إلى والي مكة وأخذت كتابه إلى والي المدينة، وإلى مالك بن أنس قال: فقدمت المدينة فأبلغت الكتاب إلى الوالي، فلما أن قرأ قال يا فتى إن مشى من جوف المدينة إلى جوف مكة حافياً راجلاً أهون علي من المشي إلى باب مالك بن أنس، فلست أرى الذل حتى أقف على بابه فقلت: - أصلح الله الأمير - إن رأى الأمير يوجه إليه ليحضر. قال: هيهات، ليت أني إذا ركبت أنا ومن معي وأصابنا من تراب العقيق نلنا بعض حاجتنا. قال فواعدته العصر وركبنا جميعاً، فوالله لكان كما قال: لقد أصابنا من تراب العقيق. قال: فتقدم رجل فقرع الباب فخرجت إلينا جارية سوداء فقال لها الأمير: قولي لمولاك إني بالباب. قال: فدخلت فأبطأت ثم خرجت فقالت: إن مولاي يقرئك السلام ويقول: إن كانت مسألة فارفعها في رقعة يخرج إليك الجواب، وإن كان للحديث فقد عرفت يوم المجلس فانصرف، فقال لها: قولي له: إن معي كتاب والي مكة إليه في حاجة مهمة. قال فدخلت وخرجت وفي يدها كرسي فوضعته، ثم إذا أنا بمالك قد خرج وعليه المهابة والوقار، وهو شيخ طويل مسنون اللحية فجلس وهو متطلس فرفع إليه الوالي الكتاب، فبلغ إلى هذا: إن هذا رجل من أمره وحاله فتحدثه وتفعل وتصنع، رمى بالكتاب من يده ثم قال: سبحان الله! أوصار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ بالوسائل؟ قال: فرأيت الوالي وقد تهيبه أن يكلمه فتقدمت إليه وقلت: - أصلحك الله - إني رجل مطلي ومن حالي وقصتي، فلما أن سمع كلامي نظر إلى ساعة وكانت لمالك فراسة فقال لي: ما اسمك؟ قلت: محمد. فقال لي يا محمد. اتق الله واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن ثم قال: نعم كرامة، إذا كان غداً تجئ ويجئ من يقرأ لك. قال: فقلت أنا أقوم بالقراءة. قال: فغدوت عليه وابتدأت أن أقرأه ظاهراً والكتاب في يدي، فكلما تهيبت مالكاً وأردت أن أقطع أعجبه حسن قراءتي وإعرابي فيقول: يا فتى زد حتى قرأته في أيام يسيرة، ثم أقمت بالمدينة حتى توفى مالك بن أنس، ثم خرجت إلى اليمن فارتفع لي بها الشأن، وكان بها وال من قبل الرشيد وكان ظلوماً غشوماً، وكنت ربما آخذ على يديه وأمنعه من الظلم. قال: وكان باليمن تسعة من العلوية قد تحركوا وإني أخاف أن يخرجوا، وإن ههنا رجلاً من ولد شافع المطلب لا أمر لي معه ولا نهي. قال: فكتب إليه هارون: أن احمل هؤلاء واحمل الشافعي معهم فقرنت معهم. قال: فلما قدمنا على هارون الرشيد أدخلنا عليه وعنده محمد بن الحسن. قال: فدعا هارون بالنطع والسيف وضرب رقاب العلوية، ثم التفت محمد بن الحسن فقال: يا أمير المؤمنين، هذا المطلي، لا يغلبنك بفصاحته فإنه رجل لسن. فقلت مهلاً يا أمير المؤمنين فإنك الداعي وأنا المدعو، وأنت القادر على ما تريد مني، ولست القادر على ما أريد منك، يا أمير المؤمنين، ما تقول في رجلين: أحدهما يراني أخاه، والآخر يراني عبده

أيهما أحب إلي؟ قال: الذي يراك أخاه. قال: قلت فذاك أنت يا أمير المؤمنين. قال فقال لي: كيف ذاك؟ فقلت يا أمير المؤمنين، إنكم ولد العباس وهم ولد علي، ونحن بنو المطلب، فأنتم ولد العباس ترونا إخوتكم وهم يرونا عبيدهم. قال: فسري ما كان به فاستوى جالساً فقال: يا ابن إدريس: كيف علمك بالقرآن؟ قلت عن أي علومه تسألني؟ عن حفظه فقد حفظته ووعيته بين جنبي وعرفت وقفه وابتداءه، وناسخه ومنسوخه وليليه ونهاريه ووحشيه وأنسيه، وما خوطب به العام يراد به الخاص، وما خوطب به الخاص يراد به العام. أحب إلي؟ قال: الذي يراك أخاه. قال: قلت فذاك أنت يا أمير المؤمنين. قال فقال لي: كيف ذاك؟ فقلت يا أمير المؤمنين، إنكم ولد العباس وهم ولد علي، ونحن بنو المطلب، فأنتم ولد العباس ترونا إخوتكم وهم يرونا عبيدهم. قال: فسري ما كان به فاستوى جالساً فقال: يا ابن إدريس: كيف علمك بالقرآن؟ قلت عن أي علومه تسألني؟ عن حفظه فقد حفظته ووعيته بين جنبي وعرفت وقفه وابتداءه، وناسخه ومنسوخه وليليه ونهاريه ووحشيه وأنسيه، وما خوطب به العام يراد به الخاص، وما خوطب به الخاص يراد به العام.
فقال لي: والله يا بن إدريس لقد ادعيت علما فكيف علمك بالنجوم؟ فقلت: إني لأعرف منها البري من البحري، والسهلي والجبلي والفيلق والمصبح وما تجب معرفته. قال: فكيف عمك بأنساب العرب. قال: فقلت إني لأعرف أنساب اللئام وأنساب الكرام ونسبي ونسب أمير المؤمنين. قال: لقد ادعيت علماً فهل من موعظة تعظ بها أمير المؤمنين؟ قال: فذكرت موعظة لطاوس اليماني فوعظته بها، فبكى وأمر لي بخمسين ألفاً وحملت على فرس وركبت من بين يديه وخرجت، فما وصلت الباب حتى فرقت الخمسين ألفاً على حجاب أمير المؤمنين وبوابيه. قال: فلحقني هرثمة وكان صاحب هارون فقال: اقبل هذه مني. قال: فقلت له إني لا آخذ العطية ممن هو دوني، وإنما آخذها ممن هو فوقي. قال: فوجد في نفسه. قال: وخرجت كما أنا حتى جئت منزلي فوجهت إلى كاتب محمد ابن الحسن بمائة دينار وقلت: اجمع الوراقين الليلة على كتب محمد بن الحسن وانسخها لي ووجه بها إلي. قال: فكتبت لي ووجه بها إلي.

قال: اجتمعنا أنا ومحمد بن الحسن على باب هارون وكان يجلس فيه القضاة والأشراف ووجوه الناس إلى أن يؤذن لهم. قال: واجتمعنا في ذلك المكان. قال وفيه جماعة من بني هاشم وقريش والأنصار والخلق يعظمون محمد بن الحسن لقربه من أمير المؤمنين وتمكنه. قال: فاندفع يعرض بي ويذم أهل المدينة فقال: من أهل المدينة؟ وأي شيء يحسن أهل المدينة؟ والله لقد وضعت كتاباً على أهل المدينة كلها لا يخالفني فيه أحد، ولو علمت أن أحداً يخالفني في كتابي هذا تبلغني إليه آباط الإبل لصرت حتى أرد عليه. قال الشافعي: فقلت إن أنا سكت نكست رؤوس من هاهما من قريش، وإن أنا رددت عليه أسخطت على السلطان، ثم إني استخرت الله في الرد عليه، فتقدمت إليه فقلت: - أصلحك الله - ، طعنك على أهل المدينة وذمك لأهل المدينة؟ إن كنت أردت رجلاً واحداً وهو مالك بن أنس فألا ذكرتذلك الرجل بعينه ولم تطعن على أهل حرم الله وحرم رسوله وكلهم على خلاف ما ادعيته، وأما كتابك الذي ذكرت أنك وضعته على أهل المدينة، فكتابك من بعد بسم الله الرحمن الرحيم، خطأ إلى آخره، قلت في شهادة القابلة كذا وكذا وهو خطأ، وفي مسألة الحامل كذا وكذا وهو خطأ، وقلت في مسألة كذا، وكذا وكذا وهو خطأ، فاصفر محمد بن الحسن ولم يحر جواباً. وكتب أصحاب الأخبار إلى الرشيد بما كان فضحك وقال: ماذا ننكر لرجل من ولد المطلب أن يقطع مثل محمد بن الحسن. قال: فعارضني رجل من أهل المجلس من أصحابه فقال: ما تقول في رجل دخل منزل رجل فرأى بطة ففقأ عينها، ماذا يجب عليه؟ قال قلت: ينظر إلى قيمتها وهي صحيحة وقيمتها وقد ذهبت عينها، فيقوم ما بين القيمتين، ولكن ما تقول أنت وصاحبك في رجل محرم نظر إلى فرج امرأة فأنزل؟ قال: ولم يكن لمحمد حذاقة بالمناسك. قال: فصاح به محمد وقال له: ألم أقل لك لا تسأله؟ قال: ثم أدخلنا على الرشيد فلما أن استوينا بين يديه قال لي: يا أبا عبد الله، تسأل أو أسأل؟ قال: قلت ذاك إليك. قال: فأخبرني عن صلاة الخوف أواجبة هي؟ قلت: نعم، فقال: ولم؟ فقلت: لقول الله عز وجل: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك). فدل أنها واجبة. قال: وما تنكر من قائل قال لك: إنما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو فيهم، فلما أن زال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم زالت تلك الصلاة؟ فقلت: وكذلك قال الله عز وجل لنبيه: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)، فلما أن زال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم زالت عنهم الصدقة؟ فقال: لا. قلت: وما الفرق بينهما والنبي صلى الله عليه وسلم هو المأمور بهما جميعاً؟ قال: فسكت ثم قال: يأهل المدينة ما أجرأكم على كتاب الله؟ فقلت: الأجرأ على كتاب الله من خالفه. قال فقد قال الله عز وجل: (وأشهدوا ذوي عدل منكم)، فقلتم أنتم: نقضي باليمين مع الشاهد فقلت: لكنا نقول بما قال الله، ونقضي بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنك أنت إذا خالفت كتاب قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد خالفت كتاب الله. قال: وأين لكم رد اليمين؟ قال: قلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال وأين؟ قلت قصة حويصة ومحيصة وعبد الرحمن حين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة القتيل: تحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا: لم نشهد ولم نعاين؟ قال: فيحلف لكم يهود، فلما أن نكلوا رد اليمين إلى اليهود. قال: فقال لي: إنما كان ذلك استفهاماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقلت يا أمير المؤمنين، هذا بحضرتك يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفهم من اليهود. فقال الرشيد: ثكلتك أمك يا بن الحسن، رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفهم من اليهود؟. نطع وسيف، فلما رأيت الجد من أمير المؤمنين قلت مهلاً يا أمير المؤمنين، فأن الخصمين إذا اجتمعا تكلم كل واحد منهما بما لا يعتقده ليقطع به صاحبه، وما أرى أن محمداً يرى نقصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فسريت عنه. قال: ثم ركبنا جميعاً وخرجنا من الدار. قال: فقال لي: يا أبا عبد الله فعلتها؟ قال: فقلت فكيف رأيتها بعد ذلك؟.
وللشافعي رضي الله عنه مع محمد بن الحسن مناظرات في عدة مواطن، اقتصرنا على هذه قصداً للاختصار.
مناظرة إسحاق بن راهويه مع الشافعي رضي الله عنه

نقلت من تاريخ نيسابور للحاكم، ومن كتاب مناقب الشافعي للآبري، وجمعت بين الخبرين قصداً للاختصار مع نسبة كل قول إلى قائله.

حدث الآبري بإسناده: قال إسحاق بن راهويه: كنا عند سفيان بن عيينة نكتب أحاديث عمرو بن دينار، فجاءني أحمد بن حنبل فقال لي يا أبا يعقوب: قم حتى أريك رجلاً لم ترعيناك مثله. قال: فقمت فأتى بي فناء زمزم فإذا هناك رجل عليه ثياب بيض تعلو وجهه السمرة، حسن السمت، حسن العقل، وأجلسني إلى جانبه فقال له: يا أبا عبد الله، هذا إسحاق بن راهويه الحنظلي فرحب بي وحياني، فذاكرته وذاكرني فانفجر لي منه علم أعجبني حفظه قال: فلما أن طال مجلسنا قلت له: يا أبا عبد الله قم بنا إلى الرجل، قال: هذا هو الرجل، فقلت يا سبحان الله، أقمتنا من عند رجل يقول: حدثنا الزهري، فما توهمت إلا أن تأتي بنا إلى رجل مثل الزهري أو قريب منه. فأتيت بنا إلى هذا الشاب أو هذا الحدث، فقال لي يا أبا يعقوب: اقتبس من الرجل، فإنه ما رأت عيناي مثله. قال الآبري: قال إسحاق: فسألته عن سكني بيوت مكة - أراد الكرى - فقال جائز. فقلت: إي يرحمك الله، وجعلت أذكر له الحديث عن عائشة وعبد الرحمن وعمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كره كرى بيوت مكة وهو ساكت يسمع وأنا أسرد عليه. فلما فرغت سكت ساعة وقال: يرحمك الله، أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار؟ قال فوالله ما فهمت عنه ما أراد بها ولا أرى أن أحداً فهمه. قال الحاكم: فقال إسحاق: أتأذن لي في الكلام؟ فقال نعم، فقلت: حدثنا يزيد بن هارون عن هشام عن الحسن أنه لم يكن يرى ذلك، وأخبرنا أبو نعيم وغيره عن سفيان عن منصور عن إبراهيم أنه لم يكن يرى ذلك. قال الحاكم: ولم يكن الشافعي عرف إسحاق، فقال الشافعي لبعض من عرفه: من هذا؟ فقال: هذا إسحاق بن إبراهيم بن الحنظلي بن راهويه الخراساني. فقال له الشافعي: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم؟ قال إسحاق: هكذا يزعمون. قال الشافعي: ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك، فكنت آمر بعرك أذنيه. وقال الحاكم في خبر آخر: قال له الشافعي: لو قلت قولك احتجت إلى أن أسلسل أنا أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقول: عطاء وطاوس ومنصور وإبراهيم والحسن وهؤلاء لا يرون ذلك، هل لأحد مع رسول الله صلى عليه وسلم حجة؟. قال إسحاق لبعض من معه من المراوزة بلسانهم: مردك لا كما لا نيست، قرية عندهم بمرو يدعون العلم، وليس لهم علم واسع. وقال الآبري: قال إسحاق لبعض من معه: الرجل مالاني، ومالان: قرية من قرى مرو وأهلها فيهم سلامة. قال الحاكم في خبره: فلما سمع الشافعي تراطنه علم أنه قد نسبه إلى شيء. فقال تناظر؟ وكان إسحاق جريئاً فقال: ما جئت إلا للمناظرة. فقال له الشافعي: قال الله عز وجل: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم) الآية. نسب الدار إلى المالكين أو غير المالكين قال إسحاق: إلى المالكين. قال الشافعي: فقوله عز وجل أصدق الأقاويل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن)، أنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم الدار إلى مالك أو إلى غير مالك؟. قال إسحاق: إلى مالك. فقال الشافعي: وقد اشترى عمر بن الخطاب دار الحجامين فأسكنها، وذكر له جماعة من أصحاب صلى الله عليه وسلم اشتروا دور مكة وجماعة باعوها. وقال إسحاق له: قال الله عز وجل: (سواء العاكف فيه والباد). فقال الشافعي: اقرأ أول الآية. قال: (والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد). قال الآبري: قال الشافعي: والعكوف يكون في المسجد، ألا ترى إلى قوله: (للطائفين والعاكفين) والعاكفون يكونون في المساجد، ألا ترى إلى قوله عز وجل: (وأنتم عاكفون في المساجد)، فدل ذلك أن قوله عز وجل: (سواء العاكف فيه والباد) في المسجد خاص، فأما من ملك شيئاً فله أن يكرى وأن يبيع. قال الحاكم: وقال الشافعي: ولو كان كما تزعم لكان لا يجوز أن تنشد فيها ضالة ولا ينحر فيها البدن ولا تنثر فيه الأرواث، ولكن هذا في المسجد خاصة. قال فسكت إسحاق ولم يتكلم. وفي خبر الآبري: فلما تدبرت ما قال من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار)؟. علمت أنه قد فهم ما ذهب عنا. قال إسحاق: ولو كنت قد أدركني هذا الفهم وأنا بحضرته لعرفته ذاك، ثم نظرنا في كتبه فوجدنا الرجل من علماء هذه الأمة.

قال الآبري: وقرأت في بعض ما حكى عن أبي الحسن أنه كان يأخذ بلحيته في يده ويقول: واحيائي من محمد بن إدريس الشافعي، يعني في هذه المسألة.
ومن كتاب الحاكم: سمعت أبا بكر محمد بن علي ابن إسماعيل الفقيه الأديب الشاشي أبا بكر القفال، إمام عصره بما وراء النهر للشافعيين يقول: دخلت على أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة أول ما قدمت نيسابور وتكلمت بين يديه وأنا شاب حدث السن فقال لي: من أين أنت؟ فقلت من أهل الشاش. قال لي إلى من اختلفت؟. قلت إلى أبي الليث. قال: وأبو الليث هذا أي مذهب يعتقد؟ قلت حنبلي. فقال: يا بني قل شافعي، وهل كان أحمد بن حنبل إلا غلاماً من غلمان الشافعي؟ قال: ومات أبو بكر القفال بالشاش في ذي الحجة سنة خمس وستين وثلاثمائة.
ومن كتاب الآبري: حدثني محمد بن عبد الله الرازي، حدثنا الحسن بن حبيب الدمشقي عن محمود المصري وكان من أفصح الناس قال: سمعت ابن هشام. قال محمود: وما رأيت بعيني ممن فهمت عنه مثل ابن هشام. قال محمود: ورأيت الشافعي وأنا صغير. قال محمود: وسمعت ابن هشام يقول: جالست الشافعي زماناُ فما سمعته تكلم بكلمة إلا اعتبرها المعتبر، ولا يجد كلمة في العربية أحسن منها. قال: وسمعت ابن هشام يقول: الشافعي كلامه لغة يحتج بها.
وحدثت عن الحسن بن محمد الزعفراني قال: كان قوم من أهل العربية يختلفون إلى مجلس الشافعي معنا ويجلسون ناحية قال: فقلت لرجل من رؤسائهم: إنكم لا تتعاطون العلم فلم تختلفون معنا؟ قالوا: نسمع لغة الشافعي. قال: وسمعت أبا علي الحسين بن أحمد البيهقي الفقيه ببغداد قال: سمعت حسان بن محمد يحكي عن الأصمعي أنه قال: صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس الشافعي. قال: وحكى لنا عن مصعب الزبيري قال: كان أبي والشافعي يتناشدان، فأتى الشافعي على شعر هذيل حفظاً وقال: لا تعلم بهذا أحداً من أهل الحديث فإنهم لا يحتملون هذا. قال الشافعي رضي الله عنه قال ما رأيت أحداً أعلم بهذا الشأن مني، وقد كنت أحب أن أرى الخليل بن أحمد.
وحدث ابن خزيمة قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: كان الشافعي إذا أخذ في العربية، قلت هو بهذا أعلم، وإذا تكلم في الشعر وإنشاده، قلت هو بهذا أعلم، وإذا تكلم في الفقه، قلت هو بهذا أعلم. وتحدث ابن عيينه بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وأقروا الطير على مكناتها)، قال: وكان الشافعي إلى جنب ابن عيينه فالتفت إليه سفيان فقال: يا أبا عبد الله، ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأقروا الطير على مكناتها)؟ فقال الشافعي: إن علم العرب كان زجر الطير والخط والاعتياف، كان أحدهم إذا غدا من منزله يريد أمراً نظر أول طير يراه، فإن سنح عن يساره فاجتاز عن يمينه قال: هذا طير الأيامن، فمضى في حاجته ورأى أنه يستنجحها. وإن سنح عن يمينه فمر عن يساره قال: هذا طير الأشائم، فرجع وقال: هذه حالة مشئومة، فيشبه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأقروا الطير على مكناتها)، أي لا تهيجوها، فإن تهييجها وما تعملون به من الطيرة لا يصنع شيئاً، وإنما يصنع فيما توجهون فيه قضاء الله عز وجل. قال: وكان سفيان يفسره بعد ذلك على ما قال الشافعي.

وحدث الآبري، حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الرقي إملاء قال: حدثنا عبد الواحد بن سعيد عن صالح بن أحمد قال: جاء الشافعي يوماً إلى أبي يعوده وكان عليلاً فوثب أبي إليه فقيل ما بين عينيه ثم أجلسه في مكانه وجلس بين يديه قال: فجعل يسائله ساعة، فلما وثب الشافعي ليركب قام أبي فأخذ بركابه ومشى معه، فبلغ يحيى بن معين فوجه إلى أبي: يا أبا عبد الله، يا سبحان الله! آضطرك الأمر إلى أن تمشي إلى جانب بغلة الشافعي؟ فقال له أبي: وأنت يا أبا زكريا لو مشيت من الجانب الآخر لا انتفعت به. قال: ثم قال أبي: من أراد الفقه فليشم ذنب هذه البغلة. وفي رواية أخرى عن أحمد بن حنبل أنه قال: قدم علينا نعيم ابن حماد فحضنا على طلب المسند، فلما قدم الشافعي وضعنا على المحجة البيضاء. ورواية أخرى عن حميد بن الربيع الخراز قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما أعلم أحداً اعظم منه على الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي، وإني لأدعو الله له في أدبار صلواتي فأقول: اللهم اغفر لي ولوالدي ولمحمد بن إدريس الشافعي. وحدث الحارث بن محمد الأموي عن أبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي قال: كنت من أصحاب محمد بن الحسن فلما قدم الشافعي علينا جئته إلى مجلسه شبه المستهزئ فسألته عن مسألة من الدور فلم يجبني وقال لي: كيف ترفع يديك في الصلاة؟ قلت هكذا. قال لي أخطأت. فقلت: كيف أصنع؟ فقال حدثني ابن عيينه عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع، وإذا رفع. قال أبو ثور: فوقع في قلبي من ذاك، فجعلت أزيد في المجيء إلى الشافعي وأقصر في الاختلاف إلى محمد بن الحسن. فقال لي ابن الحسن يوماً: يا أبا ثور، أحسب هذا الحجازي قد غلب عليك. قال: قلت أجل، الحق معه. قال: وكيف ذاك؟ قال: فقلت كيف ترفع يديك في الصلاة؟ فأجابني على نحو ما أحببت الشافعي فقلت أخطأت، قال: كيف أصنع؟ قلت حدثني الشافعي عن ابن عيينه عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع وإذا رفع. قال أبو ثور: فلما كان بعد شهر قال: يا أبا ثور، خذ مسألتك في الدور فإنما منعني أن أجيبك يومئذ أنك كنت متعنتاً.
وحدث المزني وهو إبراهيم إسماعيل بن يحيى قال: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقلت: كيف أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله جل ذكره وارداً، ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة أو إلى النار فأعزيها ثم بكى وأنشأ يقول:
فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منة وتكرما
فلولاك لم يقدر بإبليس عابد ... فكيف وقد أغوى صفيك آدما؟
وحدث الربيع بن سليمان أنه قال: كان الشافعي رحمه الله يجلس في حلقته إذا صلى الصبح فيجيئه أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، فإذا ارتفع الضحى تفرقوا، وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر، فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار، ثم ينصرف رضى الله عنه.
وحدث يونس بن عبد الأعلى الصدفي قال: قال لي الشافعي رضي الله عنه: يا أبا موسى، رضا الناس غاية لا تدرك، ما أقوله لك إلا نصحا، ليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر ما فيه صلاح نفسك فالزمه، ودع الناس وما هم فيه.

وحدث الحسن بن محمد الزعفراني قال: كنا نحضر مجلس بشر المريسي فكنا لا نقدر على مناظرته، فمشينا إلى أحمد ابن حنبل فقلنا له: ائذن لنا في أن نحفظ الجامع الصغير الذي لأبي حنيفة، لنخوض معهم إذا خاضوا. فقال: اصبروا فالآن يقدم عليكم المطلبي الذي رأيته بمكة. قال: فقدم علينا الشافعي فمشوا إليه وسألناه شيئاً من كتبه، فأعطانا كتاب اليمين مع الشاهد فدرسته في ليلتين، ثم غدوت على بشر المريسي وتخطيت إليه فلما رآني قال: ما جاء بك يا صاحب حديث؟ قال: قلت: ذرني من هذا، إيش الدليل على إبطال اليمين مع الشاهد؟، فناظرته فقطعته فقال: ليس هذا من كيسكم هذا من كلام رجل رأيته بمكة، معه نصف عقل أهل الدنيا.
وحدث الربيع بن سليمان قال: كنا عند الشافعي إذ جاءه رجل برقعة فنظر فيها وتبسم، ثم كتب فيها ودفعها إليه قال: فقلنا يسأل الشافعي عن مسألة لا ننظر فيها وفي جوابها؟ فلحقنا الرجل وأخذنا الرقعة فقرأناها وإذ فيها:
سل المفتي المكي هل في تزاور ... وضمة مشتاق الفؤاد جناح؟
قال: وإذا إجابة أسفل من ذلك:
أقول معاذ الله أن يذهب التقي ... تلاصق أكباد بهن جراح
قرأت في أمال أملاها أبو سليمان الخطابي على بعض تلامذته قال الشيخ: كان الشافعي - رحمه الله - يوماً من أيام الجمع جالساً للنظر فجاءت امرأة فألقت إليه رقعة فيها:
عفا الله عن عبد أعان بدعوة ... خليلين كانا دائمين على الود
إلى أن مشى واشي الهوى بنميمة ... إلى ذاك من هذا فزالا عن العهد
قال: فبكى الشافعي - رحمه الله - وقال: ليس هذا يوم نظر، هذا يوم دعاء ولم يزل يقول: اللهم اللهم حتى تفرق أصحابه. ومثله ما بلغني أن رجلاً جاءه برقة فيها:
سل المفتي المكي من آل هاشم ... إذا اشتد وجد بامرئ كيف يصنع؟
قال: فكتب الشافعي تحته:
يداوي هواه ثم يكتم وجده ... ويصبر في كل الأمور ويخضع
فأخذها صاحبها وذهب بها ثم جاءه وقد كتب تحت هذا البيت الذي هو الجواب:
فكيف يداوي والهوى قاتل الفتى ... وفي كل يوم غصة يتجرع
فكتب الشافعي رحمه الله:
فإن هو لم يصبر على ما أصابه ... فليس له شيء سوى الموت أنفع
ويروي للشافعي رحمه الله:
أأنثر درا بين سارحة البهم ... وأنظم منثور لراعية الغنم؟
لعمري لئن ضيعت في شر بلدة ... فسلت مضيعاً فيهم غرر الكلم
لئن سهل الله العزيز بلطفه ... وصادفت أهلاً للعلوم وللحكم
بثثت مفيداً واستفدت ودادهم ... وإلا فمكنون لدى ومكتتم
ومن منح الجهال علماً أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم
وله رضي الله عنه في تعزية:
إني أعزيك لا أني على طمع ... من الخلود ولكن سنة الدين
فما المعزي بباق بعد صاحبه ... ولا المعزي وإن عاشا إلى حين
وحدث بإسناد رفعه إلى ابن عمر الشافعي قال: كان لأبي عبد الله الشافعي امرأة يحبها فقال:
ومن البلية أن تحب ... ب ولا يحبك من تحبه
ويصد عنك بوجهه ... وتلج أنت فلا تغبه
وحدث الآبري بإسناد إلى المزني عن الشافعي قال: كنا في سفر بأرض اليمن فوضعنا سفرتنا لنتعشى وحضرت صلاة المغرب فقلنا نصلي ثم نتعشى، فتركنا سفرتنا كما هي، وكان في السفرة دجاجتان فجاء ثعلب فأخذ إحدى الدجاجتين فلما قضينا صلاتنا أسفنا عليها وقلنا حرمنا طعامنا، فبينا نحن كذلك إذ جاء الثعلب وفي فيه شيء كأنه الدجاجة فوضعه فبادرنا إليه لنأخذ ونحن نحسبه الدجاجة قد ردها، فلما قمنا لخلاصها فإذا هو قد جاء إلى الأخرى فأخذها من السفرة وأصبنا الدي قمنا إليه لنأخذه ليفة قد هيأها مثل الدجاجة.
وحدث الحسن بن محمد الزعفراني قال: سئل الشافعي عن مسألة فأجاب فيها أنشأ يقول:
إذا المشكلات تصدين لي ... كشفت حقائقها بالنظر
ولست كشقشقة الأرحبي ... ي أو كالحسام اليماني الذكر
ولست بإمعة في الرجا ... ل أسأل هذا وذا ما الخبر
ولكنني مدرة الأصغري ... ن جلاب خير وفراج شر

وحدث الربيع بن سليمان قال: لما دخل الشافعي مصر أول قدومه إليها جفاه الناس فلم يجلس إليه أحد قال: فقال له بعض من قدم معه: لو قلت شيئاً يجتمع إليك الناس، قال فقال: إليك عني وأنشأ يقول:
أأنثر دراً بين سارحة النعم ... وأنظم منثوراً لراعية الغنم؟
الأبيات التي مرت آنفاً. وجرى بين الشافعي وبين بعض من صحبه مجانة فقال:
وأنزلني طول النوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت امرأ لا أشاكله
أحامقة حتى تقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
وحدث الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول:
يا راكباً قف بالمحصب من مني ... واهتف بقاعد خيفها والناهض
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضاً بمتلطم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
ومن كتاب الإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي بإسناده إلى الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي وسأله رجل عن مسألة فقال: يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا. فقال له السائل: يا أبا عبد الله، أتقول بهذا؟ فارتعد الشافعي واصفر لونه وحال وتغير وقال: ويحك، أي أرض تقلني؟ وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أقل به، نعم على الرأس والعينين. قال: وسمعت الشافعي يقول: ما من أحد إلا وتذهب عنه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي وجعل يردد هذا الكلام. وبإسناده عن أحمد بن حنبل أنه قال لعبد الملك بن عبد الحميد الميموني: مالك لا تنظر في كتب الشافعي؟ فما من أحد وضع الكتب منذ ظهرت أتبع للسنة من الشافعي رضي الله عنه. وبإسناده إلى أبي عثمان المازني قال سمعت الأصمعي يقول: قرأت شعر الشنفري على الشافعي بمكة. قال زكريا بن يحيى الساجي: فذكرت ذلك للرياشي فقال ذلك ما أنكره، قرأتها على الأصمعي فقال: أنشدنيها رجل من قريش بمكة. وبإسناده إلى عبد لرحمن بن أخي الأصمعي قال: قلت لعمي يا عماه، على من قرأت شعر هذيل؟ فقال: على رجل من آل المطلب يقال له محمد بن إدريس.

وحدث الصولي عن المبرد أنه قال: كان الشافعي من أشعر الناس وآدب الناس وأعرفهم بالقراءات. وبإسناده إلى عبد الملك ابن هشام النحوي صاحب كتاب المغازي أنه قال: طالت مجالستنا للشافعي فما سمعت منه لحنة قط ولا كلمة غيرها أحسن منها. وبإسناده إلى جبير بن مطعم قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب، مشيت أنا وعثمان بن عفان فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله به منهم، أرأيت إخوتنا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا؟ وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة. فقال: (إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد)، ثم شبك رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه إحداهما بالأخرى. أخرجه البخاري في الصحيح. وهذا لأن عبد مناف كان له أربعة أولاد: هاشم والمطلب وعبد شمس جد بني أمية ونوفل. وكان جبير بن مطعم من بني نوفل، وعثمان من بني عبد شمس وهما أخوا المطلب. وبإسناده إلى الحارث بن سريج النقال قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أنا أدعو الله للشافعي أخصه به. وبإسناده: كتب عبد الرحمن ابن مهدي إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتاباً فيه معاني القرآن ويجمع قبول الأخبار فيه وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له كتاب الرسالة. قال عبد الرحمن: ما أصلي صلاة إلا وأدعو للشافعي فيها. وبإسناده قال أحمد بن حنبل: كان الفقه قفلاً على أهله حتى فتحه الله بالشافعي. وبإسناده قال إبراهيم الحربي: سئل أحمد بن حنبل عن مالك بن أنس فقال: حديث صحيح ورأي صحيح. وسئل عن آخر فقال: لا رأي ولا حديث. وبإسناده إلى محمد بن مسلم بن وارة قال: لما قدمت من مصر أتيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل أسلم عليه فقال لي: كتبت كتب الشافعي؟ فقلت لا. فقال لي: فرطت، ما عرفنا العموم من الخصوص، وناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه حتى جالسنا الشافعي. قال ابن وارة: فحملني ذلك على أن رجعت إلى مصر فكتبتها. وبإسناده قال الزعفراني: كنت مع يحيى بن معين في جنازة فقلت له: يا أبا زكريا، ما تقول في الشافعي؟ فقال دعنا، لو كان الكذب له مطلقاً لكانت مروءته تمنعه أن يكذب. وبإسناده على عبد الملك الميموني قال: كنت عند أحمد ابن حنبل وجرى ذكر الشافعي فرأيت أحمد يرفعه وقال: يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يقرر لها دينها). فكان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى، وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الأخرى. وبإسناده قال: الشيخ أبو الوليد حسان بن محمد الفقيه يقول: كنا في مجلس القاضي أبي العباس ابن سريج سنة ثلاث وثلاثمائة فقام إليه شيخ من أهل العلم فقال له: أبشر أيها القاضي فإن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، وإنه بعث على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز وتوفي سنة ثلاث ومائة، وبعث على رأس المائتين أبا عبد الله بن إدريس الشافعي وتوفي سنة أربع ومائتين، وبعثك على رأس الثلاثمائة. ثم أنشأ يقول:
اثنان مضيا فبورك فيهما ... عمر الخليفة ثم حلف السودد
الشافعي الألمعي محمد ... إرث النبوة وابن عم محمد
أبشر أبا العباس إنك ثالث ... من بعدهم سقياً لنوبة أحمد

قال: فصاح القاضي وبكى وقال: إن هذا الرجل قد نعى إلى نفسي. قال: فمات القاضي أبو العباس في تلك السنة. وذكر الخطيب في تاريخه أن ابن سريج مات سنة ست وثلاثمائة. وبإسناد البيهقي إلى داود بن علي الأصبهاني أنه قال: اجتمع للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره. فأقول: ذلك شرف نفسه ومنصبه، وأنه من رهط النبي صلى الله عليه وسلم، منها صحة الدين وسلامة الاعتقاد من الأهواء والبدع، ومنها سخاوة النفس، ومنها معرفته بصحة الحديث وسقمه، ومنها معرفته بناسخ الحديث ومنسوخه، ومنها حفظه لكتاب الله وحفظه لأخبار رسول اله صلى الله عليه وسلم، ومعرفته بسير النبي صلى الله عليه وسلم وبسير خلفائه، ومنها كشفه لتمويه مخالفيه، ومنها تأليف الكتب القديمة والجديدة، ومنها ما اتفق له من الأصحاب والتلامذة مثل أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه وإقامته على السنة، ومثل سليمان بن داود الهاشمي، وعبد الله ابن الزبير الحميدي، والحسين القلانسي، وأبي ثور إبراهيم ابن خالد الكلبي، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، وأبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطي، وحرملة بن يحيى التجيبي، والربيع بن سليمان المرادي، وأبي الوليد موسى ابن الجرود، والحارث بن سريج النقال، وأحمد بن خالد الخلال، وأبي عبيد القاسم بن سلام. والقائم بمذهبه أبو إبراهيم إسملعيل بن يحيى المزني.
قال الشيخ أحمد البيهقي: إنما عد داود بن علي من أصحاب الشافعي جماعة يسيرة، وقد عد أبو الحسن الدارقطني من روى عنه أحاديثه وأخباره أو كلامه زيادة على مائة، هذا مع قصور سنة عن سن أمثاله من الأئمة، وإنما تكثر الرواة عن العالم إذا جاوز سنة الستين أو السبعين، والشافعي لم يبلغ في السن أكثر من أربع وخمسين.
ومن كتاب مرو مسنداً إلى عبد الله بن محمد بن هارون الفرياني قال: وقفت بمكة على حلقة عظيمة وفيها رجل فسألت عنه فقيل: هذا محمد بن إدريس الشافعي، فسمعته يقول: سلوني عما شئتم أخبركم بآية من كتاب الله وسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول صحابي. فقلت في نفسي: إن هذا الرجل جرئ، ثم قلت له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: قال الله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذه، وما نهاكم عنه فانتهوا). وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر). وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن عمر رضي الله عنه أمر المحرم بقتل الزنبور.
وعن المزني سمعت الشافعي يقول: رأيت بالمدينة أربع عجائب. رأيت جدة لها إحدى وعشرين سنة، ورأيت رجلاً فلسة القاضي في مدين نوى، ورأيت شيخاً قد أتى عليه تسعون سنة يدور نهاره حافياً راجلاً على القيان يعلمهن الغناء فإذا جاءت الصلاة صلى قاعداً، وكان بالمدينة والٍ وكان رجلاً صالحاً فقال: مالي لا أرى الناس يجتمعون على بابي كما يجتمعون على أبواب الولاة؟ فقالوا: إنك لا تضرب أحداً ولا تؤذي الناس. فقال أهكذا؟ علي بالإمام فنصب بين العقابين وجعل يضرب والإمام يقول: - أعز الله الأمير - إيش جرمي، وهو يقول: حملنا بنفسك، حتى اجتمع الناس على بابه.
وعن خيثمة بن سليمان بن حيدرة قال: جاء رجل إلى الشافعي فقال له: - أصلحك الله - صديقك فلان عليل، فقال الشافعي: والله لقد أحسنت إلي وأيقظني لمكرمة، ودفعت عني اعتذار يشوبه الكذب ثم قال: يا غلام، هات السبتية ثم قال: للمشي على الحفاء، على علة الوجاء في حر الرمضاء من ذي طوى أهون من اعتذار إلى صديق يشوبه الكذب. ثم أنشأ يقول:
أرى راحة للحق عند قضائه ... ويثقل يوماً إن تركت على عمد
وحسبك حظاً أن ترى غير كاذب ... وقولك لم أعلم وذاك من الجهد
ومن يقض حق الجار بعد ابن عمه ... وصاحبه الأدنى على القرب والعبد
يعش سيداً يستعذب الناس ذكره ... وإن نابه حق أتوه على قصد
ومما يروي للشافعي رضي الله عنه:
أصبحت مطرحاً في معشر جهلوا ... حق الأديب فباعوا الرأس بالذنب
والناس يجمعهم شمل وبينهم ... في العقل فرق وفي الآداب والحسب

كمثل ما الذهب الإبريز يشركه ... في لونه الصفر، والتفضيل للذهب
والعود لو لم تطب منه روائحه ... لم يفرق الناس بين العود والحطب
وعن أبي بكر بن بنت الشافعي قال: قال الشافعي بمكة حين أراد الخروج إلى مصر:
لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر ... ومن دونها قطع المهامة والقفر
فوالله ما أدري أللفوز والغنى ... أساق إليها أم أساق إلى القبر؟
قال: فخرج فقطع عليه الطريق فدخل بعض المساجد وليس عليه إلا خرقة فدخل الناس وخرجوا فلم يلتفت إليه أحد فقال:
على ثياب لو يباع جميعها ... بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وفيهن نفس لو يقاس ببعضها ... نفوس الورى كانت أجل وأكبرا
وما ضر نصل السيف إخلاق غمده ... إذا كان عضباً أين وجهته فرى؟
قرأت في كتاب خطط مصر لأبي عبد الله محمد بن سلامة ابن جعفر بن علي القضاعي المصري صاحب كتاب الشهاب قال: محمد بن إدريس الشافعي المطلي الفقيه يكنى أبا عبد الله، توفي في سلخ رجب سنة أربع ومائتين بمصر، ودفن غربي الخندق في مقابر قريش وحوله جماعة من بين زهرة من ولد عبد الرحمن بن عوف الزهري وغيرهم، وقبره مشهور هناك مجمع على صحته، ينقل الخلف عن السلف في كل عصر إلى وقتنا هذا، وهو البحري من القبور الثلاثة التي تجمعها مصطبة واحدة غربي الخندق بينه وبين المشهد، والقبران الآخران اللذان إلى جنب قبر الشافعي أحدهما قبر عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث بن رافع مولى قريش، مات سنة أربع عشرة ومائتين، ودفن إلى جنب من الشافعي وهو ما يلي القبلة، وهو القبر الأوسط من القبور الثلاثة، وكان من ذوي الجاه والمال والدبابج، وكان يزكي الشهود ولم يشهد قط لدعوة سبقت فيهم، والقبر الثالث قبر ولده عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، مات في سنة سبع وخمسين ومائتين وقبره مما يلي القبلة، وعبد الرحمن هذا هو صاحب كتاب فتوح مصر وكان عالماً بالتواريخ.
يقال: إن الشافعي رضي الله عنه قدم إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة في أول خلافة المأمون، وكان سبب قدومه إلى مصر أن العباس بن عبد الله بن العباس بن موسى بن عبد الله ابن العباس استصحبه فصحبه، وكان العباس هذا خليفة لأبيه عبد الله على مصر، ولم يزل الشافعي بمصر إلى أن ولي السري ابن الحكم البلخي - من قوم يقال لهم الزط - مصر واستقامت له، وكان يكرم الشافعي ويقدمه ولا يؤثر أحداً عليه، وكان الشافعي محبباً إلى الخاص والعام لعلمه وفقهه، وحسن كلامه وأدبه وحلمه، وكان بمصر رجل من أصحاب مالك بن أنس يقال له فتيان فيه حدة وطيش، وكان يناظر الشافعي كثيراً ويجتمع الناس عليهما، فتناظرا يوماً في مسألة بيع الحر وهو العبد المرهون إذا أعتقه الراهن ولا مال له غيره، فأجاب الشافعي بجوار بيعه على أحد أقواله، ومنع فتيان منه، لأنه يمضي عتقه بكل وجه وهو أحد أقوال الشافعي، فظهر عليه الشافعي في الحجاج، فضاق فتيان بذلك ذرعاً فشتم الشافعي شتماً قبيحاً فلم يرد عليه الشافعي حرفاً ومضى في كلامه في المسألة، فرفع ذلك رافع إلى السري، فدعا الشافعي وسأله عن ذلك وعزم عليه فأخبره بما جرى، وشهد الشهود على فتيان بذلك، فقال السري: لو شهد آخر مثل الشافعي. على فتيان لضربت عنقه، وأمر فتيان فضرب بالسياط وطيف به على جمل وبين يديه مناد ينادي: هذا جزاء من سب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إن قوماً تعصبوا لفتيان من سفهاء الناس وقصدوا حلقة الشافعي حتى خلت من أصحابه وبقى وحده، فهجموا عليه وضربوه فحمل إلى منزله، فلم يزل فيه عليلاً حتى مات في الوقت المقدم ذكره.
قال ابن يونس: كان لشافعي ابن اسمه محمد، قدم مع أبيه مصر وتوفي بها في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين. وقيل: كان له ولد آخر اسمه محمد أيضاً يروي عن سفيان ابن عيينة. ولي قضاء الجزيرة وتوفي بها بعد أربعين ومائتين. هذا آخر ما ذكره القضاعي نقلته على وجهه.

ومن مشهور أصحاب الشافعي: أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني مات في سنة أربع ومائتين. والربيع ابن سليمان وكان من أجل أصحاب الشافعي وأورعهم وأكثرهم تصنيفاً. ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم يكنى أبا عبد الله صحب الشافعي وقرأ عليه، ومات سنة ثمان وستين ومائتين، ودفن إلى جنب الشافعي مع قبر أخيه وأبيه المذكورين، وكان من أهل الدين والورع. والربيع بن سليمان ابن عبد الجبار المرادي - مولى لهم - المؤذن الفقيه يكنى أبا محمد، وهو صاحب الشافعي المشهور بصحبته، ومات سنة سبعين ومائتين، وقبره غربي الخندق ممايلي الفقاعي، وهو آخر من روى بمصر عن الشافعي وكان جليلاً مصنفاً، حدث بكتب الشافعي كلها ونقلها الناس عنه ويقال: إنه أعان المزني على غسل الشافعي، والربيع بن سليمان بن داود ابن الأعرج الجيزي مولى الأزد وأظنه صحب الشافعي، ومات في سنة ست وخمسين ومائتين وقبره بالجيزة. وهذا فهرست كتب الشافعي رضى الله عنه: كتاب الطهارة، كتاب مسألة المني، كتاب استقبال القبلة، كتاب الإمامة، كتاب إيجاب الجمعة، كتاب صلاة العيدين، كتاب صلاة الكسوف، كتاب صلاة الاستسقاء، كتاب صلاة الجنائز، كتاب الحكم في تارك الصلاة، كتاب الصلاة الواجبة والتطوع والصيام، كتاب الزكاة الكبير، كتاب زكاة الفطر، كتاب زكاة مال اليتيم، كتاب الصيام الكبير، كتاب المناسك الكبير، كتاب المناسك الأوسط، كتاب مختصر المناسك، كتاب الصيد والذبائح، كتاب البيوع الكبير، كتاب الصرف والتجارة، كتاب الرهن الكبير، كتاب الرهن الصغير، كتاب الرسالة، كتاب أحكام القرآن، كتاب اختلاف الحديث، كتاب جماع العلم، كتاب اليمين مع الشاهد، كتاب الشهادات، كتاب الإجازات الكبير، كتاب كري الإبل والرواحل، كتاب الإجارات إملاء، كتاب اختلاف الأجير والمستأجر، كتاب الدعوى والبينات، كتاب الإقرار والمواهب، كتاب رد المواريث، كتاب بيان فرض الله عز وجل، كتاب صفة نهي النبي عليه الصلاة والسلام، كتاب النفقة على الأقارب، كتاب المزارعة، كتاب المساقاة، كتاب الوصايا الكبير، كتاب الوصايا بالعتق، كتاب الوصية للوارث، كتاب وصية الحامل، كتاب صدقة الحي عن الميت، كتاب المكاتب، كتاب المدبر، كتاب عتق أمهات الأولاد، كتاب الجناية على أم الولد، كتاب الولاء والحلف، كتاب التعريض بالخطبة، كتاب الصداق، كتاب عشرة النساء، كتاب تحريم ما يجمع من النساء، كتاب الشغار، كتاب إباحة الطلاق، كتاب العدة، كتاب الإيلاء، كتاب الخلع والنشوز، كتاب الرضاع، كتاب الظهار، كتاب اللعان، كتاب أدب القاضي، كتاب الشروط، كتاب اختلاف العراقيين، كتاب اختلاف علي وعبد الله، كتاب سير الأوزاعي، كتاب الغصب، كتاب الاستحقاق، كتاب الأقضية، كتاب إقرار أحد الابنين بأخ، كتاب الصلح، كتاب قتال أهل البغي، كتاب الأساري والغلول، كتاب القسامة، كتاب الجزية، كتاب القطع في السرقة، كتاب الحدود، كتاب المرتد الكبير، كتاب المرتد الصغير، كتاب الساحر والساحرة، كتاب القراض، كتاب الأيمان والنذور، كتاب الأشربة، كتاب الوديعة، كتاب العمري، كتاب بيع المصاحف، كتاب خطأ الطبيب كتاب جناية معلم الكتاب، كتاب جناية البيطار والحجام، كتاب اصطدام الفرسين والنفسين، كتاب بلوغ الرشد، كتاب اختلاف الزوجين في متاع البيت، كتاب صفة النفي، كتاب فضائل قريش والأنصار، كتاب الوليمة، كتاب صول الفحل، كتاب الضحايا، كتاب البحيرة والسائبة، كتاب قسم الصدقات، كتاب الاعتكاف، كتاب الشفعة، كتاب السبق والرمي، كتاب الرجعة، كتاب اللقيط والمنبوذ، كتاب الحوالة والكفالة، كتاب كرى الأرض، كتاب التفليس، كتاب اللقطة، كتاب فرض الصدقة، كتاب قسم الفئ، كتاب القرعة، كتاب صلاة الخوف، كتاب الديات، كتاب الجهاد، كتاب جراح العمد، كتاب الخرص، كتاب العتق، كتاب عمارة الأرضين، كتاب إبطال الاستحسان، كتاب العقول، كتاب الأولياء، كتاب الرد على محمد بن الحسن كتاب صاحب الرأي، كتاب سير الواقدي، كتاب حبل الحبلة، كتاب خلاف مالك والشافعي، كتاب قطاع الطريق. قال: والذي لم يسمعه الربيع من الشافعي رضى الله عنه وأرضاه: كتاب الوصايا الكبير، كتاب اختلاف أهل العراق على علي وعبد الله، كتاب ديات الخطأ، كتاب قتال المشركين، كتاب الإقرار بالحكم الظاهر، كتاب الأجناس، كتاب اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتاب

مسألة الجنين، كتاب وصية الشافعي، كتاب ذبائح بني إسرائيل، كتاب غسل الميت، كتاب ما ينجس الماء مما خالطه، كتاب الأمالي في الطلاق، كتاب مختصر البويطي، رواه الربيع عن الشافعي رضي الله عنه.لة الجنين، كتاب وصية الشافعي، كتاب ذبائح بني إسرائيل، كتاب غسل الميت، كتاب ما ينجس الماء مما خالطه، كتاب الأمالي في الطلاق، كتاب مختصر البويطي، رواه الربيع عن الشافعي رضي الله عنه.
/الجزء الثامن عشر

محمد بن أزهر بن عيسى
أحد الأخباريين المشهورين، قال محمد بن إسحاق النديم: مات سنة تسع وسبعين ومائتين ومولده سنة تسع وسبعين. وكان قد سمع من الأعرابي وغيره، وله من الكتب: كتاب التاريخ، من جياد الكتب.
محمد بن إسحاق بن يسار
صاحب السيرة كنيته أبو عبد الله، وقيل أبو بكر مولى عبد الله بن قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، ويسار من سبي عين التمر، وهو أول سبي دخل المدينة من العراق. قال ابن أبي خيثمة: وموسى بن يسار أخو إسحاق بن يسارعم محمد بن إسحاق رواية أيضاً علامة. مات محمد بن إسحاق سنة خمسين أو إحدى أو اثنتين وخمسين ومائة. ودفن بمقادير الخيزران عند قبر أبي حنيفة.
قال المرزباني: ومحمد بن إسحاق أول من جمع مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وألفها، وكان يروي عن عاصم ابن عمر بن قتادة، ويزيد بن رومان، ومحمد بن إبراهيم، وابن شهاب والأعمش، ويروي عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير امرأة هشام بن عروة، فبلغ ذلك هشاماً فقال: هو كان يدخل على امرأتي؟ كأنه أنكر ذلك، وخرج عن المدينة قديماً فلم يرو عنه منهم أحد غير إبراهيم بن سعد. وكان محمد بن إسحاق مع العباس بن محمد بالجزيرة، وكان قصد أبا جعفر المنصور بالحيرة فكتب إليه المغازي فسمع منه أهل الكوفة لذلك السبب، وسمع منه أهل الجزيرة حين كان مع العباس بن محمد، وأتى الري فسمع منه أهلها فرواته، هذه البلدان أكثر ممن روى عنه من أهل المدينة، وأتى بغداد فأقام بها إلى أن مات بها، وكان كثير الحديث، وقد كتب عنه العلماء ومنهم من يستضعفه، وكان له أخوان عمر وأبو بكر ابنا إسحاق، وقد رويا الحديث.
وحدث بإسناد رفعة إلى المفضل بن غسان الغلابي قال: سألت يحيى بن معين عن محمد بن إسحاق فقال: قال عاصم ابن عمر بن قتادة: لا يزال في الناس علم ما عاش محمد بن إسحاق. قال يحيى: وابن إسحاق يسمع من عاصم فكان يقال: وحدث فيما رفعه إلى علي المديني قال: سمعت بن يحيى بن سعيد القطان يقول: كان محمد بن إسحاق والحسن بن ضمرة وإبراهيم بن محمد كل هؤلاء يتشيعون ويقدمون علياً على عثمان.
وقال الشاذكاني: كان محمد بن إسحاق بن يسار يتشيع، وكان قدرياً. وقال أحمد بن يونس: أصحاب المغازي يتشيعون كابن إسحاق وأبي معشر ويحيى بن سعيد الأموي وغيرهم. وأصحاب التفسير السدي والكلبي وغيرهما، وكان له انقطاع إلى عبد الله بن حسن بن حسن، وكان يأتيه بالشيء فيقول له: أثبت هذا في علمك فيثبته ويرويه عنه.
وحدث فيما أسنده إلى الواقدي قال: كان محمد بن إسحاق يجلس قريباً من النساء في مؤخر المسجد فيروي عنه أنه كان يسامر النساء، فرفع إلى هشام وهو أمير المدينة وكانت له شعرة حسنة فرقق رأسه وضربه أسواطاً ونهاه عن الجلوس هنالك وكان حسن الوجه.
وحدث عبد الله بن إدريس قال: كنت عند مالك بن أنس فقال له رجل: إن محمد بن إسحاق يقول: اعرضوا علي علم مالك بن أنس فإني أنا بيطاره. فقال مالك: انظروا إلى دجال من الدجاجلة يقول: اعرضوا على علم مالك. قال إدريس: وما رأيت أحداً جمع الدجال قبله.

وحدث هارون بن عبد الله الزهري قال: سمعت ابن أبي خازم قال: كان ابن إسحاق في حلقته فأغفى ثم انتبه فقال: رأيت حماراً اقتيد بحبل حتى خرج من المسجد، فلم يبرح حتى أتته رسل الوالي فاقتادوه بحبل فأخرجوه من المسجد. وقال محمد بن إسحاق: كانت تعمل له الأشعار فيضعها في كتب المغازي فصار بها فضيحة عند رواة الأخبار والأشعار، وأخطأ في كثير من النسب الذي أورده في كتابه، وكان يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم في كتبه أهل العمل الأول، وأصحاب الحديث يضعفونه ويتهمونه. وله من الكتب: كتاب الخلفاء رواه عنه الأموي، كتاب السير والمغازي، كتاب المبدإ رواه عنه إبراهيم بن سعد ومحمد بن عبد الله بن نمير النفيلي، ومات النفيلي بحران سنة أربع وثلاثين ومائتين، وكان يكنى أبا عبد الرحمن.

محمد بن إسحاق أبو العنبس الصيمري
قال الخطيب في تاريخه: محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أبي العنبس بن المغيرة بن ماهان أبو العنبس الصيمري الشاعر أحد الأدباء الملحاء، خبيث اللسان هجاء، هجاه أكثر شعراء زمانه وقدم بغداد، مات سنة خمس وسبعين ومائتين، وحمل إلى الكوفة فدفن بها ونادم المتوكل، وهو القائل يهجو أحمد بن المدبر:
أسل الذي عطف الموا ... كب والمراكب نحو بابك
وأراك نفسك مالكاً ... ما لم يمن لك في حسابك
وأذل موقفي العزي ... ز على وقوف في رحابك
ألا يطيل تجرعي غصص المنية من حجابك
وهو القائل:
كم مريض قد عاش من بعد يأس ... بعد موت الطبيب والعواد
قد يصاد القطا فينجو سليماً ... ويحل القضاء بالصياد
وذكره محمد بن إسحاق النديم في الفهرست فقال: محمد بن إسحاق أبو العنبس الصيمري من أهل الفكاهات وأصله من الكوفة وكان قاضي الصيمرة، وكان مع استعماله للهزل شريفاً عارفاً بالنجوم، وله فيه كتاب يمدحه المنجمون، وأدخله المتوكل في ندمائه وخص به، وله مع البحتري خبر معروف بين يدي المتوكل، وعاش إلى أيام المعتمد ودخل في ندمائه، وله يهجو طباخ المعتمد:
يا طيب أيامي بمعشوق ... ونحن في بعد من السوق
إذا طلبت الخبر من فارس ... ينفخ لي صالح البوق
وله من الكتب: كتاب تأخير المعرفة، كتاب العاشق والمعشوق، كتاب الرد على المنجمين، كتاب الطبلبنب، كتاب كرزابلا، كتاب طوال اللحى، كتاب الرد على المتطببين، كتاب عنقاء مغرب، كتاب الراحة ومنافع القيادة، كتاب فضائل حلق الرأس، كتاب هندسة العقل، كتاب الأحاديث الشاذة، كتاب فضائل الزو، كتاب الرد على ميخائيل الصيدناني في الكيمياء، كتاب عجائب البحر، كتاب مساوي العوام وأخبار السفلة والأغتام، كتاب فضل السلم على الدرجة، كتاب الفاس بن الحائك، كتاب الدولتين في تفضيل الخلافتين، كتاب تذكية العقول، كتاب السحاقات والبغائين، كتاب الخضخضة في جلد عميرة، كتاب أخبار أبي فرعون كندر بن حجدر، كتاب تفسيرالرؤيا، كتاب الثقلاء، كتاب نوادر القواد، كتاب دعوة العامة، كتاب الإخوان والأصدقاء، كتاب كنى الدواب، كتاب أحكام النجوم، كتاب المدخل في صناعة التنجيم، كتاب صاحب الزمان، كتاب الحلقتين، كتاب استغاثة الجمل على ربه، كتاب فضل السرم على الفم.
وقال أبو العنبس الصيمري: قوام أمر الإنسان بتسع دالات: دار ودينار ودرهم ودقيق ودابة ودبس ودن ودسم ودعوة.
وحدث الصولي قال: حدثني ابن أبي العنبس وكان قدم إلينا بغداد من سر من رأى وكان متأدباً قال: عرضت لأبي حاجة إلى الحسن بن مخلد وزير المعتمد في أقطاع له فخاف معارضته وذلك أيام تقلده ديوان الضياع فقال:
زارني بدر على غصن ... قابلاً وصلى يقبلني
خلته في النوم من فرحي ... قد أعاد الروح في بدني
إن لي عن مثله شغلاً ... بمقال الشعر في الحسن
وأبيه مخلد فبه ... قد لبسنا سابغ المنن
كاتب قل النظير له ... فاضل في العلم واللسن
قال: فأمضى له كل ما أراد ولم يعارضه في شيء. وأنشد جحظة لأبي العنبس الصيمري:
لئن كنت عن أرض تقلك نازحاً ... فلم يحكني غير السليم المسهد
وعلمت مذ جرعتني صاب بينكم ... غريب البكا عين الحمام المغرد

وعن أبي الفرج، حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال: حدثني أبو العنبس الصيمري قال: كنت عند المتوكل والبحتري ينشده:
عن أي ثغر تبتسم ... وبأي طرف تحتكم
حتى بلغ إلى قوله:
قل للخليفة جعفر ال ... متوكل بن المعتصم
والمجتدي بن المجتدي ... والمنعم بن المنتقم
إسلم لدين محمد ... وإذا سلمت فقد سلم
قال: وكان البحتري من أبغض الناس إنشاداً، يتشدق ويتزاور في مشيه مرة جائياً ومرة القهقري، ويهز رأسه مرة ومنكبه أخرى، ويشير بكمه ويقول: أحسنت والله، ثم يقبل على المستمعين فيقول: ما لكم لا تقولون: أحسنت؟ هذا واله مالا يحسن أحد أن يقول مثله، فضجر المتوكل من ذلك وأقبل علي فقال: أما تسمع يا صيمري ما يقول؟ فقلت بلى يا سيدي، فمر فيه بما أحببت فقال: بحياتي اهجه على هذا الروى الذي أنشدنيه. فقلت:
أدخلت رأسك في الحرم ... وعلمت أنك تنهزم
يا بحتري حذار وي ... لك من قضاقضة ضغم
فلقد أسلت لوالدي ... ك من الهجاسيل العرم
والله حلفه صادق ... وبقبر أحمد والحرم
وبحق جعفر الإما ... م ابن الإمام المعتصم
لأصيرنك شهرة ... بين المسيل إلى العلم
فبأي عرض تعتصم ... وبهتكه جف القلم؟
حي الطلول بذي سلم ... حيث الأراكة والخيم
يا بن الثقيلة والثقي ... ل على قلوب ذوي النعم
وعلى الصغير مع الكب ... ير مع الموالي والحشم
في أي سلح تلتطم ... وبأي كف تلتقم؟
يا بن المباحة للورى ... أمن العفاف أو التهم؟
إذ رحل أختك للعجم ... وفراش أمك في الظلم
وبباب دارك حانة ... في بيته يؤتى الحكم
قال: وخرج البحتري مغضباً يعد وجعلت أصيح به خلفه:
أدخلت رأسك في الحرم ... وعلمت أنك تنهزم
والمتوكل يضحك ويصفق حتى غاب عنه. هذه رواية جحظة، والذي يتعارفه الناس أن أبا العنبس كان واقفاً خلف السرير والبحتري ينشد قوله:
عن أي ثغر تبتسم ... وبأي طرف تحتكم؟
فقال أبو العنبس ارتجالاً
في أي سلح ترتطم ... وبأي كف تلتقم؟
أدخلت رأسك في الحرم ... وعلمت أنك تنهزم
فغضب البحتري وخرج وضحك المتوكل حتى أكثر، وأمر لأبي العنبس الصيمري بعشرة آلاف درهم.

محمد بن إسحاق بن أسباط الكندي
أبو النضر المصري، ذكره أبو بكر الزبيدي، قال الزبيدي: أخذ عن الزجاج. وله كتاب في النحو سماه كتاب العيون والنكت ذهب فيه إلى اخذ الاسم والفعل والحرف، وتلا ذلك بذكر شيء من أبواب الياء والواو ولم يصنع شيئاً. وقال ابن مسعر: نزل أبو النضر أنطاكية مدة ثم سار عنها إلى مصر، وله كتابان: كتاب التلقين، كتاب الموقظ. ورأيت أنا له كتاب المغني في النحو. وذكره ابن عبد الرحيم فقال: نقلت من خط أبي الحسن بن الخطيب: حدثنا الببغا قال: كان يجتمع معنا في خدمة سيف الدولة شيخ من أهل الأدب والتقدم في النحو وعلم المنطق ممن درس على الزجاج وأخذ عنه يكنى بأبي النضر وذكر اسمه ونسبه، وحكى أنه كان حسن الشعر، وأخبرنا أن الأبيات التي ينسبها قوم إلى ابن المغيرة وآخرون إلى أبي نضلة، قلت: أنا وجدتها أنا في ديوان أبي القاسم التنوخي ومعزوة إلى أبي القاسم وتروى لغيرهم أيضاً أنها لأبي النضر من قديم شعره، وأنشدها لنفسه وهي:
وكأس من الشمس مخلوقة ... تضمنها قدح من نهار
هواء ولكنه ساكن ... وماء ولكنه غير جار
فهذا النهاية في الابيضاض ... وهذا النهاية في الاحمرار
وما كان في الحكم أن يوجدا ... لفرط التنافي وفرط النفار
ولكن تجاور سطحاهما ال ... بسيطان فاجتمعا بالجوار
كأن المدير لها باليمين ... إذا طاف للسقي أو باليسار
تدرع ثوبا من الياسمين ... له فرد كم من الجلنار

وقد أورد التنوخي هذه الحكاية في كتاب النشوار وحكى أن أبا النضر كان عالماً بالهندسة قيماً بعلوم الأوائل. ولأبي النضر أيضاً:
هات اسقني بالكبير وانتخب ... نافية للهموم والكرب
فلو تراني إذا انتشيت وقد ... حركت كفي بها من الطرب
لخلتني لابساً مشهرة ... من لازورد يشف من ذهب
وقال أبو علي التنوخي: أنشدني أبو عمر بن جعفر الخلال لأبي النضر المصري النحوي من قصيدة يذكر فيها رجلاً مدحه قال: وكان متسعاً في الشعر الجيد المستحسن:
ورأيت أحمدنا وسيدنا ... متصدراً للورد والصدر
خلت النجوم خلقن دائرة ... موصولة الطرفين بالقمر

محمد بن إسحاق الشابستي
أبو عبد الله الشابستي صاحب خزنة كتب العزيز بن المعز بمصر والمتولي عرضها وكان من أهل الفضل والأدب. مات سنة تسع وتسعين وثلاثمائة للهجرة في أيام الحاكم بن العزيز، وله عدة تصانيف منها: كتاب الديارات، كتاب اليسر بعد العسر، كتاب مراتب الفقهاء، كتاب التوقيت والتخويف، كتاب مراسلات، كتاب ديوان شعره، كتاب في الزهد والمواعظ وقد اختلف في اسمه فرأيت أنا كتاب الدايات من تصنيفه وهو مترجم، محمد بن إسحاق كما ترى. ونقل لي بمصر بعض من اختبرت صحة نقله أنه: أبو الحسن علي بن أحمد والله أعلم.
محمد بن إسحاق النديم
كنيته أبو الفرج، وكنية أبيه أبو يعقوب، مصنف كتاب الفهرست الذي جود فيه، واستوعب استيعاباً يدل على اطلاعه على فنون من العلم وتحققه لجميع الكتب، ولا أبعد أن يكون قد كان وراقاً يبيع الكتب، وذكر في مقدمة هذا الكتاب أنه صنف في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، وله من التصانيف: فهرست الكتب، كتاب التشبيهات. وكان شيعياً معتزلياً.
محمد بن إسحاق بن علي بن داود
ابن حامد أبو جعفر القاضي الزوزني البحاثي، ذكره عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي وأنه مات بغزنة سنة ثلاث وستين وأربعمائة وقال: هو أحد الفضلاء المعروفين جداً وهزلاً، والفائق أهل عصره ظرفاً وفضلاً، والتعصب لأهل السنة المخصوص بخدمة البيت الموفقي، المحترم بين الأئمة والكبار لفضله مرة، وللتوقي من حماة لسانه وعقارب هجائه ثانية. ولقد رزق من الهجاء في النظم والنثر طريقة لم يسبق إليها، وما ترك أحداُ من الكبراء والأئمة والفقهاء وسائر الأصناف من الناس إلا هجاه ووقع فيه، فكان الكل يتترسون باحترامه وإيوائه عن سهام هجائه.

قال عبد الغافر: وكان صديق والدي من البائتين عنده في الأحايين، والمقترحين عليه ما يشتهيه من الطبائخ والمطعومات، سمعته رحمه الله يحكي عنه أحواله وتهتكه واشتغاله في جميع الأحوال بما لا يليق بالعلماء والأفاضل، ولكنه كان يحتمل عنه اتقاء لسانه، ومما حكاه لي رحمه الله أنه قال: ما وقع بصري قط على شخص إلا تصور في قلبي هجاؤه قبل أن أكلمه وأجربه أو أخبر أحواله. وحكى لي بعض من أثق به أنه قال: لم يفلت أحد من هجائي إلا القاضي الإمام صاعد بن محمد رحمه الله، فإني كنت قد وزرت في نفسي أن أهجوه، فحيث تأملت في حسن عبادته وكمال فضله ومرضي سيرته استحييت من الله تعالى، وتركت ما أجلته في فكري. على أني سمعت فيما قرع سمعي تشبيباً منه بشيء من ذلك عفا الله عنه، ولقد خص طائفة من الأكابر والعلماء بوضع التصنيف فيهم ورميهم بما برأهم الله عز وجل عنه، وبلغ في الإفحاش وأغرق في قوس الإيحاش وأظهر النسك بين الناس وأغرب في فنون الهجاء، وأتى بالعبارات الرشيقة والمعاني الصحيحة من حيث الصنعة، وإن كانت عن آخرها أوزاراً وآثاماً وكذباً وبهتاناً، واتفق الأفاضل على أنه أهجى أهل عصره من الفضلاء، وأفتقهم شتماً قبيحاً، وتعريضاً وتصريحاً، وكان يسكن مدرسة السيوري بباعذراً، ويخص جماعة سكانها من الأئمة في عصره بالهجاء، وله معهم ثارات وأحوال يطول ذكرها، ثم مع تبحره وانفراده بفن الهجاء كان له شعر في الطبقة العليا في المدح والثناء وسائر المعاني، قصائده الغر في السادة والأئمة مشهورة، ومقطعاته في الغزل مأثورة، وكان ينسخ كتبالأدب بخط مقروء صحيح أحسن النسخ، ولقد رأيت نسخة من كتاب يتيمة الدهر لأبي منصور الثعالبي في خمس مجلدات بخطة المليح بيعت بثلاثين ديناراً نيسابورية وكانت تساوي أكثر من ذلك، ولقد كتب نسخة غريب الحديث لأبي سليمان الخطابي وقرأها على جدي الشيخ عبد الغافر ابن محمد الفارسي قراءة سماع، وعلى الحاكم الإمام أبي سعد ابن دوست قراءة تصحيح وإتقان أقطع على الله تعالى أن لم يبق من ذلك الكتاب نسخة أبين ولا أملح منها، وهي الآن برسم خزانة الكتب الموضوعة في الجامع القديم موقوفة على المسلمين، ومن أراد صدقي في ادعائي فليطالعه منها، ولم أظفر من مسموعاته في الأحاديث بشيء يمكنني أن أودعه هذا الكتاب مع أني لا أشك في سماعه، ولقد ذكر الحافظ أنه روى عنه خاله أبي الحسن هارون الزوزني عن أبي حاتم بن حيان ولم يقع إلى بعد، ومن شعره في بعض الأكابر:
يرتاح للجد مهتزاً كمطرد ... مثقف من رماح الخط عسال
فمرة باسم عن ثغر برق حياً ... وتارة كاشف عن ناب رئبال
فما أسامة مطروراً براثنه ... ضخم الجزارة يحمي خيس أشبال
يوماً بأشجع مه حشو ملحمة ... والحرب تصدع أبطالاً بأبطال
ولا خضارة صخاباً غواربه ... تسمو أواذيه حالاً على حال
أندى واسمح منه إذ يبشره ... مبشوره برواد ونزال
إلى غير ذلك من أمثاله إلى تمام القصيدة، وله:
وذي شنب لو أن جمرة ظلمه ... أشبهها بالجمر خفت به ظلما
فبضت عليه حالياً واعتنقته ... فأوسعني شتماً وأوسعته لما
ومن شعره يصف البرد:
متناثر فوق الثرى حباته ... كثغور معسول الثنايا أشنب
برد تحد من ذرى صخابة ... كالدر إلا أنه لم يثقب
قال عبد الغافر: واقتصرت على هذا النموذج من كلامه مخافة الإملال، ومن أراد المزيد عليه فديوان شعره هزلاً وجداً موجود، والله يغفر له ويعفو عنه.
قال المؤلف: ولم أر من تصانيف البحاثي هذا شيئاً إلا شرح ديوان البحتري، ولعمري إن هذا شيء ابتكره، فإني ما رأيت هذا الديوان مشروحاً، ولا تعرض له أحد من أهل العلم ولا سمعت أحداً قال: إني رأيت ديوان أبي عبادة البحتري مشروحاً، وتأملته فرأيته قد ملئ علماً وحشي فهماً، وذاك أن شروح الدواوين المعرفة كأبي تمام والمتنبئ وغيرهما تساعدت القرائح عليها، وترافدت الهمم إليها، وما أرى له فيما اعتمده من شرح هذا الكتاب عمدة إلا أن يكون كتاب عبث الوليد للمعري، وكتاب الموازنة للآمدي لا غير. وقد ذكر البحاثي هذا أبو منصور الثعالبي في تتمة يتيمة الدهر بما أنا ذاكره إن شاء الله.

قال أبو منصور: أبو جعفر محمد بن إسحاق البحاثي زينة زوزن، وطرف الطرف، وريحان الروح، يقول في هجاء لحيته الطويلة:
يا لحية قد علقت من عارضي ... لا أستطيع لقبحها تشبيهاً
طالت فلم تفلح ولم تك لحية ... لتطول إلا والحماقة فيها
إني لأظهر للبرية حبها ... والله يعلم أنني أقليها
ويقول في ذم خال على وجه بعض من يهجوه:
أبو طاهر في الشؤم واللؤم غاية ... بعيد عن الإسلام والعقل والدين
على وجهه خال قريب من انفه ... كمثل ذباب واقع فوق سرقين
وله:
ينيكون غزلان الحسان ولا أرى ... غزالاً من الغزلان فرداً بساحتي
فمن يك قد لاقى من النيك راحة ... ففي راحتي أنسي ورفقي وراحتي
وله:
ولما رأيت الفقر ضربة لازب ... ولم يك لي في الكف عقد على نقد
ولا لي غلام قد يناك ولم يكن ... سبيل إلى الترك المكحلة الجرد
شريت قبيحاً من بني الهند أسوداً ... ونيك الهنود السود خير من الجلد
وله أيضاً يهجو:
فسوي وضرطي والخرا مائعاً ... على الذي مقلوبه فسوى
من خلقه أقبح من خلقه ... وجحره أوسع من دلوى
وله:
تعود هتك الستر نسوان سكبر ... وجئن لباس الفسق من أحسن الكسا
وطرن سروراً حين لقبن سكبراً ... فسكبر إذ قلبته صار رب كسا
وللبحاثي في صفة دعوة:
سألونا عن قراه ... فاختصرنا في الجواب
كان فيه كل شيء ... بارداً غير الشراب
ومن خبيث شعره:
الحمد لله وشكراً على ... إنعامه الشامل في كل شيء
إن الذي لاعبني في الصبا ... مات ومن قد نكته بعد حي
نقلت من خط أبي سعد السمعاني عن رجل، عن أسعد بن محمد العتبي قال: حكى أبو جعفر البحاثي أن أبا بكر الصيفي كان يختلف معنا إلى الحاكم أبي سعد بن دوست وكان من أنجب تلامذته نظماً ونثراً، فاختطف في ريعان شبابه ونضارة عمره فرأيته في المنام ليلة قلت: ما وجدت من أشعارك شيئاً يكون لي تذكرة فقال: ليس لي شعر. فقلت: ألست القائل؟:
باكر أبا بكر بكاس ... ما بين إبريق وطاس
فقال: وأنا أقول:
حل الخطوب بساحتي ... لا كنت أيتها الخطوب
غادرتنا فغدرت إ ... ن الدهر خداع خلوب
دنيا تقضت لم يكن ... لي في أطايبها نصيب
قال: فانتبهت وأشعلت السراج وكتبت عنه هذه الأبيات. حكى يعقوب بن أحمد النيسابوري أن القاضي البحاثي دخل على أبي سعد بن دوست فانشده:
ليت شعري إذا خرجت من الدن ... يا فأصبحت ساكن الأجداث
هل يقولن إخوتي بعد موتي ... رحم الله ذلك البحاثي؟
فلما مات البحاثي قال فيه أبو سعد بن دوست:
يا أبا جعفر بن إسحاق إني ... خانني فيك نازل الأحداث
من هوى من مصاعد العز قسراً ... يك تحت الرجام في الأجداث
فلك اليوم من قواف حسان ... سرن في المدح سيرها في المراثي
مع كتب جمعن في كل فن ... حين يروين ألف باك وراثي
قائل كلها بغير لسان ... رحم الله ذلك البحاثي
وذكر محمد بن محمود النيسابوري في كتاب سر السرور: أن شعر البحاثي على نيف عشرين ألف بيت وأنه وقف عليه في تسع مجلدات، فانتخبت من ذلك المنتخب في هذه الورقة:
بأبي من عند لثمي ... زاد في عشقي بشتمه
ومضى يبكي ويمحو ... أثر اللثم بكمه
وله مثله:
بليت بطفل قل طائل نفعه ... سوى قبل يزرى بها طول منعه
ويمسحها من عارضيه بكمه ... ويغسلها عن وجنتيه بدمعه
يكاشفني إن لاح شخصي بعينه ... ويغتابني إن مر ذكري بسمعه
ولم أجد له في غير الهجاء السخيف شيئاً استحسنته، قال يهجو:
ألا إن هذا البيهقي محدث ... مسيلمة الكذاب في جنبه ملك
ففي وجهه قبح وفي قلبه عمى ... وفي نطقه كذب وفي دينه حلك

لو ابن معين كان حيا لجاءه ... بالسلح الكلب لحيته دلك
فلا تعجباً إن مد في عمر مثله ... ويهلك أهل الفضل إذ خرف الفلك
وله:
مأتم الشيخ مأنس للكرام ... جئته قاضياً لحق الحمام
مع حزن يحكي حزين الأغاني ... وبكاء يحكي بكاء الحمام
كجهام الغمام جفناً ووجهاً ... مكدي الدمع واري الابتسام
وكان البارع الزوزني عرضة لأهاجيه وغرضاً لطعان قوافيه، وكان يلقبه بالباعر ويدعى أنه افترسه ظبياً غريراً وافترشه بدراً منيراً، فلما التحى أنكر صحبته، ونبذ وراء ظهره مودته، فمن ذلك:
كان البويعر بدراً في حداثته ... ما كان أحسنه وجهاً وأبهاه
والطيب اجمع فيما تحت مئزره ... والسحر ما بثه في الناس عيناه
ربيته وهو في حجري ألاعبه ... نهاره وفراشي كان مأواه
أفيده من جنايا العلم أحسنها ... واستفيد لذيذاً من جنى فاه
حتى إذا ما عشا جلد استه وغدا ... مشعراً ودجا واسود قطراه
وصار كلباً وخنزيراً وزوبعة ... وغول قفر يميت الإنس لقياه
أنشأ يمزق عرضي منكراً أدبي ... وليس يحسن إلا ما أفدناه
إن كان ينكر ما قدمت من أدبي ... فليس ينكر أيرى شم مفساه
لو لم تغير صروف الدهر صورته ... لكان مغفورة عندي خطاياه
وله في السخف أبيات وله:
إني لمرزوق من الناس إذ ... أصبحت من أحذق حذاقهم
ما ذاك من فضل ولكنني ... أخالق الناس باخلاقهم

محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن محمد
ابن مكيال أبو جعفر الميكالي، قد استوفينا هذا النسب في باب أبي الفضل عبد الله بن أحمد فأغنى، وكان أبو جعفر أديباً شاعراً لغوياً فقيهاً، مات في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وكان قد تفقه على قاضي الحرمين أبي الحسين، وعقد له المجلس الإملاء سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، سمع منه الحاكم أبو عبد الله بن البيع الحافظ.
محمد بن إسماعيل النحوي
أبو عبد الله يعرف بالحكيم من أهل قرطبة، سمع محمد بن وضاح، ومحمد بن عبد السلام الخشني، ومطرف بن قيس، وعبد الله ابن مسرة، ومحمد بن عبد الله بن الغاز، وكان عالماً بالنحو والحساب دقيق النظر، مثيراً للمعاني الغامضة مؤكداً لها، لا يتقدمه أحد في ذلك، وعمر إلى أن بلغ ثمانين عاماً وأدب الحكم المستنصر، وتوفي لعشر خلون من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة ونسلة انقرض.
محمد بن إسماعيل بن زنجي
أبو عبد الله الكاتب، له نباهة وذكر في أيام المعتضد وإلى آخر أيام الراضي، وكان من جلة الكتاب ومشايخهم، معروف بجودة الخط، وله تصانيف: منها كتاب الكتاب والصناعة، وكتاب رسائله. قال ابن بشران: مات محمد ابن إسماعيل المعروف بزنجي الكاتب الأنباري في شوال سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وكان متقدماً في كتاب الإنشاء والرسائل والكلام حسن المجلس، وله أخبار كثيرة حسنة.
محمد بن بحر الرهني
أبو الحسين الشيباني والرهني بالراء المهملة والنون منسوب إلى رهنة: قرية من قرى كرمان، وكان يسكن نرماسير من أرض كرمان، وهو يكنى أبا الحسين شيباني الأصل، معروف بالفضل والفقه. قال ابن النحاس في كتابه قال بعض أصحابنا: إنه كان في مذهبه ارتفاع وحديثه قريب من السلامة، ولا أدري من أين قيل.

قال شيخنا رشيد الدين: كان لقناً حافظاً يذاكر بثمانية آلاف حديث غير أنه كثر حفظه، وتتبع الغرائب فعمر، ومن طلب غرائب الحديث كذب. قال: ووقفت على كتابة البدع فما أنكرت فيه شيئاً وعند الله علمه. وكان عالماً بالأنساب وأخبار الناس شيعي المذهب غالياً فيه، وله تصانيف منها: كتاب سماه كتاب نحل العرب يذكر فيه تفرق العرب في البلاد في الإسلام، ومن كان منهم شيعياً ومن كان منهم خارجياً أو سنياً فيحسن قوله في الشيعة ويقع فيمن عداهم. وقفت على جزء من هذا الكتاب ذكر فيه نحل أهل المشرق خاصة من كرمان وسجستان وخراسان وطبرستان، وذكر فيه أن له تصنيفاً آخر سماه كتاب الدلائل على نحل القبائل، وذكر فيه أعني كتاب النحل: أخبرني ابن المحتسب ببغداد في درب عبدة بالحربية قال: أخبرنا أحمد بن الحارث الخزاز قال: أخبرني المدائني علي بن محمد بن أبي سيف عن سلمة بن سليمان المغني وغيره، فذكر قصة الملبد بن يزيد عن عون بن حرملة بن بسطام بن قيس بن حارثة بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان الخارج في أيام المنصور شارياً بالجزيرة حتى قتل.
وقال في موضع آخر: حدثنيسعد بن عبد الله بن أبي خلف قال: حدثني أبو هاشم الجعفري وقال فيه: حدثني النوفلي علي بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن أبيه وقال فيه: سمعت أحمد بن محمد بن كيسان النحوي وأنا أقرأ عليه كتاب سيبويه يقول: لم يجئ على فعل إلا أربعة أسماء: البقم: هي الخشبة التي يصبغ بنها وهي معروفة، وشلم: اسم بيت المقدس بالنبطية. وبذر: وهو اسم ماء من مياه العرب. قال كثير:
سقى الله أمواهاً عرفت مكانها ... جراباً وملكوماً وبذر والغمرا
وخصم: اسم للعنبر بن عمرو بن تميم.

محمد بن بكر البسطامي
لا أعرف من حاله إلا ما ذكره حمزة الأصبهاني وقد ذكر الخليل وغيره ثم قال: وصنف بالأمس محمد بن بكر البسطامي كتاباً على كتاب محمد بن الحسن بن دريد المسمى الجمهرة وقال: كان السبب لوضعي هذا الكتاب تطرفي الكتاب المسمى كتاب الياقوتة، وأن مصنفه حشا أكثر الكتاب بما ينطق به العرب وعزاه إلى ثعلب، وقد طلبنا ما ادعى من ذلك على العرب في المصنفات فلم نجده ثم سألنا عنه أصحاب ثعلب فلم يعرفوه، والذي صنف هذه الكتب لم يقم ما أودعه شاهداً ولا ودليلاً من القرآن أو الحديث أو المثل، ولا نما فيما رواه إلا إلى: أخبرنا ثعلب عن ابن الأعرابي، فتمت له رواية تلك الأباطيل بين قوم لم يطالبوه بدليل وظنوا أنه فيها مصيب، ثم ذكر كتاب العين وأنه من تصنيف تلاميذ الخليل كما ذكرته في ترجمة الخليل.
محمد بن ثابت
بن محمد بن سوار بن علوان النمري الأصبهاني أبو بكر إمام الجامع بأصبهان في باب كوشك، وذكره يحيى بن مندة فقال: كان سنياً فاضلاً من الناس بارعاً في الأدب شاعراً فصيحاً كثير السماع قليل الرواية، مسكنه في درب البخاري، روى عن عبد الله بن محمد ابن محمد بن فورك، وأبي بكر محمد إبراهيم بن المقرئ وأحمد بن عبد الله النهرديري، كتب عنه عمي الإمام وجماعة رحمهم الله.
محمد بن تميم أبو المعاني البرمكي
اللغوي، له كتاب كبير في اللغة سماه المنتهي في اللغة منقول من كتاب الصحاح للجوهري، وزاد فيه أشياء قليلة وأغرب في ترتيبه، إلا أنه والجوهري كانا في عصر واحد، لأني وجدت كتاب الجوهري بخطه وقد فرغ منه سنة ست وتسعين وثلاثمائة، وذكر البرمكي في مقدمة كتابه، أنه صنفه في سنة سبع وتسعين وثلاثمائة، ولا شك أن أحد الكاتبين منقول من الآخر نقلاً، والذي أشك فيه أن البرمكي نقل كتاب الصحاح، لأن أبا سهل محمد بن علي الهروي كان بمصر وحكى عن البرمكي، وقد روى الهروي الصحاح عن ابن عبدوس، ولعل الكتاب خرج عن الجوهري وهو حي وقدم به إلى مصر.
محمد بن بحر الأصفهاني
الكاتب، يكنى أبا مسلم، كان كاتباً مترسلاً بليغاً متكلماً جدلاً، مات فيما ذكره حمزة في تاريخه في آخر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، ومولده سنة أربع وخمسين ومائتين، وكان الوزير أبو الحسن علي بن عيسى بن داود بن الجراح يشتاقه ويصفه.

وقال أبو علي التنوخي وقد ذكر محمد بن زيد الداعي فقال: وهو الذي كان أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني الكاتب المعتزلي العالم بالتفسير وبغيره من صنوف العلم، قد صار عامل أصبهان وعامل فارس للمقتدر يكتب له ويتولى أمره. ذكره محمد بن إسحاق وقال: له من الكتب: كتاب جامع التأويل لحكم التنزيل على مذهب المعتزلة أربعة عشر مجلداً، كتاب جامع رسائله كتاب حمزة كتاب الناسخ والمنسوخ، كتاب في النحو، وسمي حمزة كتابه في القرآن شرح التأويل. وكان ابن أبي البغل ولي في سنة ثلاثمائة ديوان الخراج والضياع بأصبهان وهو ببغداد، فورد كتابه على أبي مسلم بن بحر بأن يخلفه على ديوان الضياع بها، ثم ورد ابن أبي البغل إلى أصبهان فأقره على خلافته، ثم مات أبو علي محمد بن رستم في سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة فرتب مكانه أبو مسلم بن بحر وذلك في شوال، ثم ورد على بن بويه في خمسمائة فارس فهزم المظفرين بن ياقوت في خمسة آلاف فارس، ودخل ابن بويه أصبهان في منتصف ذي القعدة فعزل أبو مسلم. نقلت من كتاب أصفهان قال: وقال أبو مسلم في أبيات بالفارسية لأبي الأشعث القمي:
يا للشباب وغصنه النضر ... والعيش في أيامه الزهر
لو دام لي عهد المتاع به ... وأمنت فيه حوادث الدهر
لكنه لي معقب هرماً ... وهو النذير بآخر العمر
قال: وقال في أبي المعمر:
هل أنت مبلغ هذا القائد البطل ... عني مقالة طب غير ذي خطل
إن كنت أخطأت قرطاساً عمدت له ... فأنت في رمي قلبي من بني ثعل
قال: ودخل يوماً إلى دار أخيه أحمد بن بحر فرأى معه دفتراً على ظهره أبيات نصر بن سيار، وذاك عند ما بيض ما كان بن كاكي الديلمي ووردت خيله قم، وأبيات نصر:
أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون له ضرام
وإن النار بالزندين تورى ... وإن الحرب يقدمه الكلام
أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام؟
فكتب أبو مسلم تحتها:
أرى ناراً تشب بكل واد ... لها في كل منزلة شعاع
وقد رقدت بنو العباس عنها ... وأضحت وهي آمنة رتاع
كما رقدت أمية ثم هبت ... لتدفع حين ليس بها دفاع
ولما مات قال فيه علي بن حمزة بن عمارة الأصبهاني يرثيه:
وقالوا ألا ترثى ابن بحر محمداً ... فقلت لهم ردوا فؤادي واسمعوا
فلن يستطيع القول من طار قلبه ... جريحاً قريحاً بالمصائب يقرع
ومن بان عنه إلفه وخليله ... فليس له إلا إلى البعث مرجع
ومن كان أوفى الأوفياء لمخلص ... ومن حيز في سرباله الفضل أجمع
سحاباً كماء المزن به الجني ... جنى الشهد في صفو المدام يشعشع
وغرب ذكاء واقد مثل جمرة ... وطبع به العضب المهند يطبع
ومن كان بيت الكتابة في الذرى ... وذا منطق في الحفل لا يتتعتع
وله
وقد كنت أرجو أنه حين يلتحي ... يفرج عني أو يجدد لي صبرا
فلما التحى واسود عارض وجهه ... تحول لي البلوى بواحدة عشرا

محمد بن بركات بن هلال بن عبد الواحد
ابن عبد الله السعيدي الصوفي، نقلت نسبه هذا من خط يده يكنى أبا عبد الله، مات في سنة عشرين وخمسمائة وقيل: إن مولده في سنة عشرين وأربعمائة، فيكون عمره على هذا مائة سنة. أحد فضلاء المصريين وأعيانهم المبرزين. أخذ النحو والأدب عن أبي الحسن بن بابشاذ فأتقنه، وله أيضاً معرفة حسنة بالأخبار والأشعار وكان يقول الشعر فيجيد. ومن قوله:
يا عنق الأبريق من فضة ... ويا قوام الغصن الرطب
هبك تخافيت واقصيتني ... تقدر أن تخرج من قلبي؟
ومنه:
وإذا الصنيعة وافقت أهلالها ... دلت على توفيق مصطنع اليد
وله من الكتب: كتاب خطط مصر أجاد فيه، وله عدة تصانيف في النحو، كتاب الناسخ والمنسوخ فيما بلغني والله أعلم. وقال محمد بن بركات السعيدي يخاطب أبا القاسم هبة الله بن علي بن مسعود بن ثابت البوصيري الأنصاري:

فله أوامر من حجاه حكيمة ... وله زواجر من نهاه
يقظان من فهم لكل فضيلة ... بنباهة جلت عن الأشباه
علامة ما مشكل مستبهم خاف عن الأفهام عن أساه

محمد بن جرير بن يزيد بن كثير
بن غالب أبو جعفر الطبري المحدث الفقيه المقرئ المؤرخ المعروف المشهور. مات فيما ذكره أبو بكر الخطيب يوم السبت لأربع بقين من شوال سنة عشر وثلاثمائة، ودفن يوم الأحد بالغداة في دار برحبة يعقوب ولم يغبر شيبه، وكان السواد في شهره رأسه ولحيته كثيراً. ومولده سنة أربع أو أول سنة خمس وعشرين ومائتين. وكان أسمر إلى الأدمة أعين نحيف الجسم مديد القامة فصيح اللسان.
قال غير الخطيب: ودفن ليلاً خوفاً من العامة لأنه كان يتهم بالتشيع، وأما الخطيب فإنه قال: ولم يؤذن به أحد فاجتمع على جنازته من لا يحصى عددهم إلا الله، وصلى على قبره عدة شهور ليلاً ونهاراً، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب.
قال وسمع محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وأحمد ابن منيع البغوي، وأحمد بن حميد الرازي، وأبا همام الوليد ابن شجاع، وأبا كريب محمد بن العلاء، وعدد خلقاً كثيراً من أهل العراق والشام ومصر. وحدث عنه أحمد بن كامل القاضي وغيره، واستوطن بغداد وأقام بها إلى حين وفاته. قال: وكان أحد أئمة العلماء يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب الله عز وجل، عارفاً بالقرآن بصيراً بالمعاني، فقيهاً بأحكام القرآن عالماً بالسنن وطرقها وصحيحيها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في تفسير القرآن لم يصنف أحد مثله، وكتاب سماه تهذيب الآثار لم أرسواه في معناه لم يتممه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيار من أقاويل الفقهاء، وتفرد بمسائل حفظت عنه.
قال الخطيب: وسمعت علي بن عبيد الله اللغوي السمسمي يحكي أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة قال: وقال أبو حامد الإسفرايني الفقيه: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيراً، أو كلاماً هذا معناه.
وحدث عن القاضي أبي عمر عبيد الله بن أحمد السمسار وأبي القاسم بن عقيل الوراق أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا مما يفني الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة ثم قال تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا كم قدره؟ فذكر نحواً مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك فقال: إنا الله ماتت الهمم، فاختصر في نحو مما اختصر التفسير.
وحدث فيما أسنده إلى أبي بكر بن بالويه قال: قال لي أبو بكر محمد بن إسحاق يعني ابن خزيمة: بلغني أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير؟ قلت تعم، كتبنا التفسير عنه إملاء، قال كله؟ قلت نعم، قال في أي سنة؟ قلت: من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين. قال: فاستعاره مني أبو بكر ورده بعد سنين ثم قال: نظرت فيه من أوله إلى آخره، وما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة قال: وكانت الحنابلة تمنع ولا تترك أحداً يسمع عليه، وأنشد محمد بن جرير:
إذا أعسرت لم أعلم رفيقي ... وأستغني فيستغني صديقي
حياتي حافظ لي ماء وجهي ... ورفقي في مطالبتي رفقي
ولو أني سمحت ببذل وجهي ... لكنت إلى الغنى سهل الطريق
وأنشد أيضاً:
خلقان لا أرضى طريقهما ... تيه الغنى ومذلة الفقر
فإذا غنيت فلا تكن بطراً ... وإذا افتقرت فته على الدهر
وحدث فيما أسنده إلى محمد بن جرير قال: كتب إلى أحمد بن عيسى العلوي من بلد:
ألا إن إخوان الثقات قليل ... فهل لي إلى ذاك القليل سبيل؟
سل الناس تعرف غثهم من سمينهم ... فكل عليه شاهد ودليل
قال أبو جعفر فأجبته:
يسئ أميري الظن في جهد جاهد ... فهل لي بحسن الظن منه سبيل؟

تأمل أميري ما ظننت وقلته ... فإن جميل القول منك جميل
هذا آخر ما نقلته من تاريخ أبي بكر.
وحدث عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف بكتاب الصلة، وهو كتاب وصل به تاريخ ابن جرير: أن قوماً من تلاميذ ابن جرير حصلوا أيام حياته منذ بلغ الحلم إلى أن توفي وهو ابن ست وثمانين، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته فصار منها على كل يوم أربع عشر ورقة، وهذا شيء لا يتهيأ لمخلوق إلا بحسن عناية الخالق. وفرغ من تصنيف كتاب التاريخ ومن عرضه عليه في يوم الأربعاء لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثمائة وقطعه على آخر سنة اثنتين وثلاثمائة. وجدت على جزء من كتاب التفسير لابن جرير بخط الفرغاني، ما ذكر فيه قطعة من تصانيف ابن جرير فنقلته على صورته لذلك وهو: قد أجزت لك يا علي بن عمران، وإبراهيم بن محمد ما سمعته من أبي جعفر الطبري رحمه الله من كتاب التفسير المسمى بجامع البيان عن تأويل آي القرآن، وكتاب تاريخ الرسل والأنبياء والملوك والخلفاء، والقطعين من الكتاب ولم أسمعه وإنما أخذته إجازة، وكتاب تاريخ الرجال المسمى بذيل المذيل، وكتاب القراءات وتنزيل القرآن، وكتاب لطيف القول وخفيفه في شرائع الإسلام، وما سمعته من كتاب التهذيب من مسند العشرة، ومسند ابن عباس إلى حديث المعراج، وكتاب آداب القضاة والمحاضر والسجلات، وكتاب اختلاف علماء الأمصار فليرويا ذلك عني. وكتب عبد الله بن أحمد الفرغاني بخطه في شعبان سنة ست وثلاثين وثلاثمائة.
وحدث أبو علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ في كتاب الإقناع في إحدى عشرة قراءة قال: كان أبو جعفر الطبري عالماً بالفقه والحديث والتفاسير والنحو واللغة والعروض، له في جميع ذلك تصانيف فاق بها على سائر المصنفين، وله في القراءات كتاب جليل كبير رأيته في ثماني عشرة مجلدة إلا أنه كان بخطوط كبار، ذكر فيه جميع القراءات من المشهور والشواذ وعلل ذلك وشرحه، واختار منها قراءة لم يخرج بها من المشهور ولم يكن منتصباً للإقراء، ولا قرأ عليه أحداً إلا آحاد من الناس كالصفار شيخ كان ببغداد من الجانب الشرقي يروي عنه رواية عبد الحميد بن بكار عن ابن عامر. وأما القراءة عليه باختياره فإني ما رأيت أحداً أقرأ به غير أبي الحسين الجبي وكان ضنيناً به، ولقد سألته زماناً حتى أخذ علي به قال: وترددت إلى أبي جعفر نحواً من سنة أسأله ذلك زماناً حتى أجرمت عليه وسألته وكنت قد سمعت منه صدراً من كتبه فأخذه علي على جهته وقال: لا تنسبها إلي وأنا حي، فما أقرأت بها أحداً حتى مات رحمه الله في شوال سنة عشر وثلاثمائة.
وقال أبو الحسين الجبي: ما قرأ عليه به إلا اثنان وأنت ثالثهم، ولا قرأ عليه أحد إلى أن مات سنة ثمانين وثلاثمائة. وقرأت بخط أبي سعد بإسناده رقعة إلى أبي العباس البكري من ولد أبي بكر الصديق قال: جمعت الرحلة بين محمد بن جرير الطبري ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني بمصر، فأرملوا وافتقروا ولم يبق عندهم ما يمونهم، وأضربهم الحال فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه واتفقوا على أن يستهموا، فمن خرجت عليه القرعة سأل الناس لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الخيرة، فاندفع بالصلاة فإذا هم بالشموع وخصي من قبل والي مصر يدق عليهم فأجابوه وفتحوا له الباب فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل هذا وأشاروا إليه، فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً ودفعها إليه وقال: أيكم محمد بن جرير؟ فأشاروا إليه فدفع إليه خمسين ديناراً ثم قال: أيكم محمد بن هارون؟ فقيل هذا، فدفع إليه مثلها ثم قال: وأيكم محمد بن إسحاق ابن خزيمة؟ فقيل هو ذا يصلي، فلما فرغ من صلاته دفع إليه صرة فيها خمسون ديناراً ثم قال: إن الأمير كان قائلاً فرأى في النوم خيالً أو طيفاً يقول له: إن المحامد طووا كشحهم، فبعث بهذه الصرر وهو يقسم عليكم إذا نفذت أن تبعثوا إليه ليزيدكم.
قال المؤلف: وقد ذكر أبو بكر الخطيب هذه الحكاية في ترجمة محمد بن حرب إلا أنني نقلتها من كتاب السمعاني وسأله يوماً سائل عن نسبه فقال: محمد بن جرير. فقال السائل: زدنا في النسب، فأنشده لرؤبة:
قد رفع العجاج ذكري فادعني ... باسمي إذا الأنساب طالت يكفني

قال القاضي ابن كامل: كان مولده في آخر سنة أربع وعشرين ومائتين، أو أول خمسة وعشرين ومائتين. قال ابن كامل: فقلت له: كيف وقع لك الشك في ذلك؟ فقال: لأن أهل بلدنا يؤرخون الأحداث دون السنين، فأرخ مولدي بحدث كان في البلد، فلما نشأت سألت عن ذلك الحادث، فاختلف المخبرون لي فقال بعضهم: كان ذلك في آخر سنة أربع. وقال آخرون: بل كان في أول سنة خمس وعشرين ومائتين، وكان مولده بآمل طبرستان، وهي قصبة طبرستان.
قال أبو جعفر: جئت إلى أبي حاتم السجستاني وكان عنده حديث عن الأصمعي عن أبي زائدة عن الشعبي في القياس فسألته عنه فحدثني به. وقال لي أبو حاتم: من أي بلد أنت؟ فقلت: من طبرستان. فقال: ولم سميت طبرستان؟. فقلت: لا أدري. فقال لما افتتحت وابتدئ ببنائها كانت أرضاً ذات شجر فالتمسوا ما يقطعون به الشجر، فجاؤوهم بهذا الطبر الذي يقطع به الشجر فسمى الموضع به.
وقال أبو بكر بن كامل: جئت إلى أبي جعفر قبل المغرب ومعي ابني أبو رفاعة وهو شديد العلة، فوجدت تحت مصلاه كتاب فردوس الحكمة لعلي بن زين الطبري سماعاُ له، فمددت يدي لأنظره، فأخذه ودفعه إلى الجارية وقال لي: هذا ابنك؟ فقال: قلت نعم. قال: ما اسمه؟ قلت عبد الغني. قال: أغناه الله وبأي شيء كنيته؟ قلت بأبي رفاعة. قال: - رفعه الله - أفلك غيره؟ قلت: نعم، أصغر منه. قال: وما اسمه؟ قلت عبد الوهاب أبو يعلى: قال - أعلاه الله - : لقد اخترت الكني والأسماء، ثم قال لي: كم لهذا سنة؟ قلت: تسع سنين. قال لم لم تسمعه مني شيئاً؟. قلت كرهت صغره وقلة أدبه. فقال لي: حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتب الحديث وأنا ابن تسع سنين، ورأى لي أبي في النوم أنني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معي مخلاة مملوءة حجارة وأنا أرمي بين يديه. فقال له المعبر: إنه كبر نصح في دينه وذب عن شريعته، فحرص أبي على معونتي على طلب العلم وأنا حينئذ صبي صغير.
قال ابن كامل: فأول ما كتب الحديث ببلده ثم بالري وما جاورها وأكثر من الشيوخ حتى حصل كثيراً من العلم وأكثر من محمد بن حميد الرازي، ومن المثنى بن إبراهيم الأبلي وغيرهم.
قال أبو جعفر: كنا نكتب عند محمد بن حميد الرازي فيخرج إلينا في الليل مرات ويسألنا عما كتبناه ويقرؤه علينا قال: وكنا نمضي إلى أحمد بن حماد الدولابي وكان في قرية من قرى الري بينها وبين الري قطعة، ثم نعدو كالمجانين حتى نصير إلى ابن حميد فنلحق مجلسه. وكتب عن أحمد بن حماد كتاب المبتدأ، والمغازي عن سلمة بن المفضل عن محمد بن إسحاق وعليه بني تاريخه. يقال: إنه كتب عن ابن حميد فوق مائة ألف حديث.
قال أبو جعفر: كان يقرأ علينا ابن حميد من التفسير، فإذا بلغ إلى قوله عز وجل: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك)، قال: أويخرجوك. ثم دخل أبو جعفر إلى مدينة السلام وكان في نفسه أن يسمع من أبي عبد الله أحمد بن حنبل فلم يتفق ذلك لموته قبيل دخوله إليها، وقد كان أبو عبد الله قطع الحديث قبل ذلك بسنين، فأقام أبو جعفر بمدينة السلام وكتب عن شيوخها فأكثر، ثم انحدر إلى البصرة فسمع من كان بقي من شيوخها في وقته كمحمد بن موسى الحرشي، وعماد بن موسى القزاز، ومحمد ابن عبد الأعلى الصنعاني، وبشر بم معاذ، وأبي الأشعث، ومحمد بن بشار بندار، ومحمد بن المعني وغيرهم فأكثر، وكتب في طريقه عن شيوخه الواسطيين، ثم صار إلى الكوفة فنكتب فيها عن أبي كريب محمد بن العلاء الهمذاني، وهناد بن السري وإسماعيل بن موسى، وغيرهم. وكان أبو كريب شرس الخلق من كبار أصحاب الحديث.
قال أبو جعفر: حضرت باب داره مع أصحاب الحديث فاطلع من باب خوخة له، وأصحاب الحديث يلتمسون الدخول ويضجون فقال: أيكم بحفظ ما كتب عني؟ فالتفت بعضهم إلى بعض ثم نظروا إلي وقالوا: أنت يحفظ ما كتبت عنه؟ قال: قلت نعم. فقالوا: هذا فسله. فقلت: حديثنا في كذا بكذا، وفي يوم كذا بكذا.

قال: واخذ أبو كريب في مسألته إلى أن عظم في نفسه فقال له: أدخل إلي، فدخل إليه وعرف قدره على حداثته ومكنه من حديثه، وكان الناس يسمعون به فيقال: إنه سمع من أبي كريب أكثر من مائة ألف حديث، ثم عاد إلى مدينة السلام فكتب بها ولزم المقام بها مدة وتفقه بها وأخذ في علوم القرآن. وقال رجل لأبي جعفر: إن أصحاب الحديث يختارون فقال: ما كنا نكتب هكذا كتبت مسند يعقوب بن إبراهيم الدورقي وتركت شيئاً منه ولم أعلم ما كتبت منه ثم رجعت لأضع الحديث موضعه وأصنفه، فبقى علي حديث كثير مما كتبته وطال علي ما فاتني، وكتبت المسند كله ثانياً، والناس يختارون، فربما فاتهم أكثر ما يحتاجون إليه أو نحو هذا الكلام. ثم غرب فخرج إلى مصر وكتب في طريقه من المشايخ بأجناد الشام والسواحل والثغور وأكثر منها، ثم صار إلى الفسطاط في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وكان بها بقية من الشيوخ وأهل العلم فأكثر عنهم الكتبة من علوم مالك والشافعي وابن وهب وغيرهم ثم عاد إلى الشام ثم رجع إلى مصر، وكان بمصر وقت دخوله إليها أبو الحسن على بن سراج المصري، وكان متأدباً فاضلاً في معناه، وكان من دخل الفسطاط من أهل العلم إذا ورد لقيه، وتعرض له فوافي أبو جعفر إلى مصر، وبان فضله عند وروده إليها في القرآن والفقه الحديث واللغة والنحو والشعر، فلقيه أبو الحسن بن سراج فوجده فاضلاً في كل ما يذاكره من العلم، ويجيب في كل ما يسأله عنه حتى سأله عن الشعر فرآه فاضلاً بارعاً فيه، فسأله عن شعر الطرماحوكان من يقوم به مفقوداً في البلد فإذا هو يحفظه، فسئل أن يمليه حفظاً بغريبة، فعهدي به وهو يمليه عند بيت المالفي الجامع. وكان قد لقي بمصر أبا إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم المزني فتكلما في أشياء منها الكلام في الإجماع، وكان أبو جعفر قد أختار من كذاهب الفقهاء قولاً اجتهد فيه بعد أن كان ابتدأ بالفقه في المدينة السلام على مذهب الشافعي رضى الله عنه، وكتب كتابه عن الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني ودرسه في العراق على جماعة منهم: أبو سعيد الإصطخري وغيره وهو حدث قبل خروجه إلى الفسطاط. وقال أبو بكر بن كامل: خرج إلينا ليلة أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد ونحن تقرأ عليه كتاب قراءة أبي عمر بن العلاء الكبير فوجدنا نتناظر في: بسم الله الرحمن الرحيم، مع بعض إخواننا من الشافعيين، وهل هي من فاتحة الكتاب أم لا؟ وكان المجلس حفلاً بجماعة من الفقهاء من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأصحابنا، وكان يسميني في بعض الأوقات لقراءتي عليه الكسائي. فقال لي: كسائي فيم أنتم؟ فعرفته فقال: وعلى مذهب من تتفقه؟ فقلت على مذهب أبي جعفر الطبري. فقال رحم الله أبا جعفر، حديثاً بحديث نوح بن أبي بلال عن سعيد المقبري عن أبي هريرة في: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم اخذ أبو بكر بن مجاهد في مدح أبي جعفر الطبري وقال: بلغنا أنه التقى مع المزني فلا تسأل كيف استظهاره عليه؟ والشافعيون حضور يسمعونه ولم يذكر مما جرى بينهما شيئاً. قال أبو بكر بن كامل: سألت أبا جعفر عن المسألة التي تناظر فيها هو والمزني فلم يذكرها لأنه كان افضل من أن يرفع نفسه وأن يذكر ظفره على خصم في مسألة، وكان أبو جعفر يفضل المزني فيطريه ويذكر دينه وقال: جفاني بعض أصحابه في مجلسه فانقطعت عنه زماناً ثم إنه لقيني فاعتذر إلي كأنه قد جنى جناية ولم يزل في ترققه وكلامه حتى عدت إليه. وبلغنا أنه سئل بالفسطاط أن يرد على مالك في شيء فرد عليه في شيء كان الكلام فيه لابن عبد الحكم وكانت أجزاء ولم تقع في أيدينا، ولعله مما منع الخصوم نشره. وقال لنا أبو جعفر: لما وردت مصر في سنة ست وخمسين ومائتين نزلت على الربيع بن سليمان فأمر من يأخذ لي داراً قريبة منه وجاءني أصحابه فقالوا: تحتاج إلى قصرية وزير وحمارين وسدة. فقلت: أما القصرية فأنا لا ولد لي، وما حللت سراويلي على حرام ولا حلال قط، وأما الزير فمن الملاهي وليس هذا من شأني، وأما الحماران فإن أبي وهب لي بضاعة أنا أستعين بها في طلب العلم، فإن صرفتها في ثمن حمارين فبأي شيء اطلب العلم؟. قال: فتبسموا فقلت: إلى كم تحتاج هذا؟ فقالوا يحتاج إلى درهمين وثلثين، فأخذوا ذلك مني وعلمت أنها أشياء متفقة، وجاءوني بإجانه وحب للماء وأربع خشبات قد شدوا وسطها بشريط وقالوا: الزير للماء، والقصرية للخبر

والحماران والسدة تنام عليها من البراغيث فنفعني ذلك، وكثرت البراغيث فكنت إذا جئت نزعت ثيابي وعلقتها على حبل قد شددته واتزرت وصعدت إلى السدة خوفاً منها.الحماران والسدة تنام عليها من البراغيث فنفعني ذلك، وكثرت البراغيث فكنت إذا جئت نزعت ثيابي وعلقتها على حبل قد شددته واتزرت وصعدت إلى السدة خوفاً منها.
وقال هارون بن عبد العزيز: قال أبو جعفر: لما دخلت مصر لم يبق أحد من أهل العلم إلا لقيني وامتحنني في العلم الذي يتحقق به، فجاءني يوماً رجل فسألني عن شيء من العروض ولم أكن نشطت له قبل ذلك، فقلت له: على قول ألا أتكلم اليوم في شيء من العروض فإذا كان في غد فصر إلي، وطلبت من صديق لي العروض للخليل بن أحمد فجاء به، فنظرت فيه ليلتي فأمسيت غير عروضي وأصبحت عروضياً. ثم رجع إلى مدينة السلام وكتب أيضاً ثم رجع إلى طبرستان وهي الدفعة الأولى، ثم الثانية كانت في سنة تسعين ومائتين، ثم رجع إلى بغداد فنزل في قنطرة البردان واشتهر اسمه في العلم وشاع خبره بالفهم والتقدم.
قال عبد العزيز بن هارون: لما دخل أبو جعفر إلى الدينور ماضياً إلى طبرستان دعاه بعض أهل العلم بها، فلما اجتمعا قلت يا أبا جعفر، ما يحسن بنا أن نجتمع ولا نتذاكر، فقال عبد اله بن حمدان: قد ذاكرته فأغربت عليه خمسة وثمانين حديثاً، وأغرب علي ثمانية عشر حديثاً قال عبد العزيز: ثم لقيت بعد ذلك أبا بكر بن سهل الدينوري وكان من العلماء والحفاظ للحديث فحدثته بذلك فقال: كذب، والله الذي لا إله إلا هو لقد قدم إلينا أبو جعفر فدعاه المعروف بالكسائي ودعا معه أهل العلم وكنت حاضراً ومعنا بان حمدان فقرأ على أبي جعفر كتاب الجنائز من الاختلاف فقال له أبو جعفر: ليس يصلح لنا أن نفترق من غير مذاكرة، وهذا كتاب الجنائز فنتذاكر بمسنده ومقطوعه، وما اختلف فيه الصحابة والتابعون والعلماء. فقال ابن حمدان: أما المسند فأذاكر به، وأما سواه فلا أذاكر به، فأغرب عليه ثلاثة وثمانين حديثاً، وأغرب عليه ابن حمدان ثمانية عشر حديثاً، وكان ابن حمدان فيما أغرب به على أبي جعفر أقبح مما أغرب به أبو جعفر لأنه كان إذا أغرب ابن حمدان بحديث قال له أبو جعفر: هذا خطأ من جهة كذا، ومثلي لا يذاكر به فيخجل وينقطع. فلما قدم إلى بغداد من طبرستان بعد رجوعه إليها تعصب عليه أبو عبد الله الجصاص، وجعفر بن عرفة، والبياضي. وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل في الجامع يوم الجمعة وعن حديث الجلوس على العرش.
فقال أبو جعفر: أما أحمد بن حنبل فلا يعد خلافه. فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الاختلاف فقال: ما رأيته روى عنه ولا رأيت له أصحاباً يعول عليهم. وأما حديث الجلوس على العرش فمحال ثم أنشد:
سبحان من ليس له أنيس ... ولا له في عرشه جليس
فلما سمع ذلك الحنابلة منه وأصحاب الحديث وثبوا ورموه بمحابرهم وقيل كانت ألوفاً، فقام أبو جعفر بنفسه ودخل داره، فرموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم، وركب نازوك صاحب الشرطة في عشرات ألوف من الجند يمنع عنه العامة، ووقف على بابه يوماً إلى الليل وأمر برفع الحجارة عنه. وكان قد كتب على بابه:
سبحان من ليس له أنيس ... ولا له في عرشه جليس
فأمر نازوك بمحو ذلك. وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث:
لأحمد منزل لا شك عال ... إذا وافى إلى الرحمن وافد
فيدينه ويقعده كريماً ... على رغم لهم في أنف حاسد
على عرش يفلغه بطيب ... على الأكباد من باغ وعاند
له هذا المقام الفرد حقاً ... كذاك رواه ليث عن مجاهد
فخلافي في داره وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم، وذكره مذهبه واعتقاده وجرح من ظن فيه غير ذلك، وقرأ الكتاب عليهم وفضل أحمد حنبل، وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده ولم يزل في ذكره إلى أن مات، ولم يخرج كتابه في الاختلاف حتى مات فوجده مدفوناً في التراب فأخرجوه ونسخوه أعني اختلاف الفقهاء، هكذا سمعت من جماعة منهم أبي - رحمه الله - .

وقال أبو محمد عبد العزيز بن محمد الطبري: كان أبو جعفر من الفضل والعلم والذكاء والحفظ على ما لا يجهله أحد عرفه لجمعه من علوم الإسلام ما لم نعلمه اجتمع لأحد من هذه الأمة، ولا ظهر من كتب المصنفين، وانتشر من كتب المؤلفين ما انتشر له، وكان راجحاً في علوم القرآن والقراءات وعلم التاريخ من الرسل والخلفاء والملوك واختلاف الفقهاء مع الراوية، كذلك على ما في كتابه البسيط والتهذيب وأحكام القراءات من غير تعويل على المناولات والإجازات ولا على ما قيل في الأقوال، بل يذكر ذلك بالأسانيد المشهورة، وقد بان فضله في علم اللغة والنحو على ما ذكره في كتاب التفسير وكتاب التهذيب مخبراً عن حاله فيه. وقد كان له قدم في علم الجدل يدل على ذلك مناقضاته في كتبه على المعارضين لمعاني ما أتى به، وكان فيه من الزهد والورع والخشوع والأمانة وتصفية الأعمال وصدق النية وحقائق الأفعال ما دل عليه كتابه في آداب النفوس، وكان يحفظ من الشعر للجاهلية والإسلام ما لا يجهله إلا جاهل به. وقال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد: سمعت ثعلباً يقول: قرأ علي أبو جعفر الطبري شعر الشعراء قبل أن يكثر الناس عندي بمدة طويلة. وقال أبو بكر بن مجاهد: قال أبو العباس يوماً: من بقى عندكم؟ يعني في الجانب الشرقي ببغداد من النحويين؟ فقلت: ما بقي أحد، مات الشيوخ. فقال: حتى خلا جانبكم؟ قلت: نعم إلا أن يكون الطبري الفقيه. فقال لي: ابن جرير؟ قلت: نعم، قال: ذاك من حذاق الكوفيين. قال أبو بكر: وهذا من أبي العباس كثير لأنه كان شديد النفس شرس الأخلاق، وكان قليل الشهادة لأحد بالحذق في علمه.
وقال عبد العزيز بن محمد: قنطرة البردان محفوظة من العلماء النحويين، كان فيها أبو عبيد القاسم بن سلام، ومسجده وراء سويقة جعفر معروف به، وكان فيها علان الأزدي ومسجده في الموضع معروف به، وكان بها أبو بكر هشام بن معاوية الضرير النحوي وكان فاضلاً مسجده عند مسجد أبي عبد الله الكسائي، وكان بها أبو عبيد الله محمد بن يحيى الكسائي، وعنه انتشرت رواية أبي الحارث عن الكسائي، وقرأ عليه كبار الناس، ونزلها أبو جعفر الطبري وكان أبو جعفر قد نظر في المنطق والحساب والجبر والمقابلة وكثير من فنون أبواب الحساب وفي الطب، وأخذ منه قسطاً وافراً يدل عليه كلامه في الوصايا، وكان عازفاً عن الدنيا تاركاً لها ولأهلها يرفع نفسه عن التماسها، وكان كالقارئ الذي لا يعرف إلا القرآن، وكالمحدث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه، وكالنحوي الذي لا يعرف إلا النحو، وكالحاسب الذي لا يعرف إلا الحساب وكان عالماً بالعبادات جامعاً للعلوم، وإذا جمعت بين كتبه وكتب غيره وجدت لكتبه فضلاً على غيرها. ومن كتبه: كتابه المسمى جامع البيان عن تأويل القرآن.
قال أبو بكر بن كامل: أملي علينا من كتاب التفسير مائة وخمسين آية، ثم خرج بعد ذلك إلى آخر القرآن فقرأه علينا وذلك في سنة سبعين ومائتين، واشتهر الكتاب وارتفع ذكره وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وأبو العباس محمد بن يزيد المبرد يحييان، ولأهل الإعراب والمعاني معقلان، وكان أيضاً في الوقت غيرهما مثل أبي جعفر الرستمي، وأبي حسن بن كيسان، والمفضل بن سلمة، والجعد، وأبي إسحاق الزجاج وغيرهم من النحويين من فرسان هذا اللسان، وحمل هذا الكتاب مشرقاً ومغرباً وقرأه كل من كان في وقته من العلماء، وكل فضله وقدمه.
قال أبو جعفر: حدثني بن نفسي وأنا صبي. قال عبد العزيز ابن محمد الطبري: كان أبو عمر الزاهد يعيش زماناً طويلاً بمقابلة الكتب مع الناس. قال أبو عمر: فسألت أبا جعفر عن تفسير آية فقال: قابلت هذا الكتاب من أوله إلى آخره فما وجدت فيه حرفاً واحداً خطأ في نحو ولا لغة. قال أبو جعفر: استخرت الله في عمل كتاب التفسير، وسألته العون على ما نويته ثلاث سنين قبل أن أعمله فأعانني.
وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني: أخبرني شيخ من جسر ابن عفيف قال: رأيت في النوم كأني في مجلس أبي جعفر والناس يقرؤون عليه كتاب التفسير، فسمعت هاتفاً بين السماء والأرض يقول: من أراد أن يسمع القرآن كما أنزل فليسمع هذا الكتاب.

وقال أبو بكر محمد بن مجاهد: سمعت أبا جعفر يقول إني أعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته؟، وكتاب التفسير كتاب ابتدأه بخطبة، ورسالة التفسير تدل على ما خص الله به القرآن العزيز من البلاغة والإعجاز والفصاحة التي نافى بها سائر الكلام، ثم ذكر من مقدمات الكلام في التفسير وفي وجوه تأويل القرآن وما يعلم تأويله وما ورد في جواز تفسيره وما حظر من ذلك والكلام في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) وبأي الألسنة نزل؟ والرد على من قال: إن فيه أشياء من غير الكلام العربي وتفسير أسماء القرآن والسور وغير ذلك مما قدمه، ثم تلاه بتأويل القرآن حرفاً حرفاً فذكر أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من تابعي التابعين، وكلام أهل الإعراب من الكوفيين والبصريين، وجملاً من القراءات واختلاف القراءة فيما فيه من المصادر واللغات والجمع والتثنية، والكلام في ناسخه ومنسوخه وأحكام القرآن والخلاف فيه والرد عليهم من كلام أهل النظر فيما تكلم فيه بعض أهل البدع، والرد عليهم على مذاهب أهل الإثبات ومبتغى السنن إلى آخر القرآن، ثم أتبعه بتفسير أبي جاد وحروفها وخلاف الناس فيها، وما اختاره من تأويلها بما لا يقدر أحد أن يزيد فيه بل لا يراه مجموعاً لأحد غيره، وذكر فيه من كتب التفاسير المصنفة عن ابن عباس خمسة طرق، وعن سعيد بن جبير طريقين، وعن مجاهد بن جبر ثلاثة طرق، وربما كان عنه في مواضع أكثر من ذلك، وعن قتادة بن دعامة ثلاثة طرق، وعن الحسن البصري ثلاثة طرق، وعن عكرمة ثلاثة طرق، وعن الضحاك بن مزاحم طريقين، وعن عبد الله بن مسعود طريقاً، وتفسير عبد الرحمن بن زيد أسلم، وتفسير ابن جريج، وتفسير مقاتل بن حيان سوى ما فيه من مشهور الحديث عن المفسرين وغيرهم، وفيه من المسند حسب حاجته إليه، ولم يتعرض لتفسير غير موثوق به، فإنه لم يدخل في كتابه شيئاً عن كتاب محمد بن السائب الكلبي، ولا مقاتل بن سليمان، ولا محمد بن عمر الواقدي لأنهم عنده أظناء والله أعلم.
وكان إذا رجع إلى التاريخ والسير وأخبار العرب حكى عن محمد بن السائب الكلبي وعن ابنه هشام وعن محمد بن عمر الواقدي وغيرهم فيما يفتقر إليه ولا يؤخذ إلا عنهم، وذكر فيه مجموع الكلام والمعاني من كتاب علي بن حمزة الكسائي، ومن كتاب يحيى بن زياد الفراء، ومن كتاب أبي الحسن الأخفش، ومن كتاب أبي علي قطرب وغيرهم مما يقتضيه الكلام عند حاجته إليه، إذ كانوا هؤلاء هم المتكلمون في المعاني وعنهم يؤخذ معانيه وإعرابه، وربما لم يسمهم إذا ذكر شيئاً من كلامهم، وهذا كتاب يشتمل على عشرة آلاف ورقة أو دونها حسب سعة الخط أو ضيقه.
قال عبد العزيز بن محمد الطبري: وقد رأيت منه نسخة ببغداد تشتمل على أربعة آلاف ورقة. ومن كتبه: كتاب الفصل بين القراءة ذكر فيه اختلاف القراء في حروف القرآن وهو من جيد الكتب، وفصل فيه أسماء والقراء بالمدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام وغيرها، وفيه من الفصل بين كل قراءة فيذكر وجهها وتأويلها والدلالة على ما ذهب إليه كل قارئ لها، واختياره الصواب منها والبرهان على صحة ما اختاره مستظهراً في ذلك بقوته على التفسير والإعراب الذي لم يشتمل على حفظ مثله أحد من القراء، وإن كان لهم - رحمهم الله - من الفضل والسبق ما لا يدفع ذو بصيرة بعد أن صدره بخطبة تليق به، وكذلك كان يعمل في كتبه أن يأتي بخطبته على معنى كتابه فيأتي الكتاب منظوماً على ما تقتضيه الخطبة، وكان أبو جعفر مجوداً في القراءة موصوفاً بذلك يقصده القراء البعداء من الناس للصلاة خلفه يسمعون قراءته وتجويده.

وقال أبو بكر بن كامل: قال لنا أبو بكر بن مجاهد: - وقد كان لا يجري ذكره إلا فضله - : ما صنف في معنى كتابة مثله، وقال لنا: ما سمعت في المحراب أقرأ من أبي جعفر، أو كلاماً هذا معناه. قال ابن كامل: وكان أبو جعفر يقرأ قديماً لحمزة قبل أن يختار قراءته. وقال أبو عبد الله بن أحمد الفرغاني: قال لنا أبو جعفر: قرأت القرآن على سليمان بن عبد الرحمن بن حماد الطلحي، وكان الطلحي قد قرأ على خلاد، وخلاد قرأ علي سليم بن عيسى، وسليم قرأ على حمزة، ثم أخذها أبو جعفر عن يونس بن عبد الأعلى عن علي بن كيسة عن سليم عن حمزة. وقال ابن كامل: قال لنا أبو بكر بن مجاهد وقد ذكر فضل كتابه في القراءات وقال: إلا أني وجدت فيه غلطاً وذكره لي، وعجبت من ذلك مع قراءته لحمزة وتجويده لها، ثم قال: والعلة في ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام لأنه بنى كتابه على كتاب أبي عبيد فأغفل أبو عبيد هذا الحرف فنقله أبو جعفر على ذلك.
وقال أبو بكر بن كامل: قال لنا أبو جعفر وصف لي قارئ بسوق يحيى فجئت إليه فتقدمت فقرأت عليه من أول القرآن حتى بلغت إلى قوله: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً)، فأعاد على فأعدته في كل قراءتي بين فيه الياءين، وهو يرد على إلى أن قلت له: تريد أكثر من تبيين الياءين بكسر الأولى فلم يدر ما أقول، فقمت ولم أعد إليه. قال: وكان عند أبي جعفر رواية ورش عن ناقع عن يونس بن عبد الأعلى عنه، وكان يقصد فيها فحرص - على ما بلغني - أبو بكر ابن مجاهد - مع موضعه في نفسه وعند أبي جعفر - أن يسمع منه هذه القراءة منفرداً فأبى إلا أن يسمعها مع الناس، فما أثر ذلك في نفس أبي بكر وكان ذلك كرهاً من أبي جعفر أن يخص أحداً بشيء من العلم، وكان في أخلاقه ذلك لأنه كان إذا قرأ عليه جماعة كتاباً ولم يحضره أحدهم لا يأذن لبعضهم أن يقرأ دون بعض، وإذا سأله إنسان في قراءة كتاب وغاب لم يقرئه حتى يحضر إلا كتاب الفتوى فإنه كان أي وقت سئل عن شيء منه أجاب فيه. وكتابه في القراءات يشتمل على كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام لأنه كان عنده عن أحمد بن يوسف الثعلبي عنه وعليه نبي كتابه. ومنها كتابه كتاب التاريخ الكبير المسمى بتاريخ الرسل والملوك وأخبارهم، ومن كان في زمن كل واحد منهم، بدأ فيه الخطبة المشتملة على معانيه ثم ذكر الزمان ما هو؟ ثم مدة الزمان على اختلاف أهل العلم من الصحابة وغيرهم والأمم المخالفة لنا في ذلك والسنن الدالة على ما اختاره من ذلك وهذا باب لا يندر وجوده إلا له.

قال أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلس الفقيه وكان أفضل من رأيناه فهماً وعناية بالعلم ودرساً له: ولقد كان لعنايته بدرس العلم تعبي كتبه في جانب حائر ثم يبتدئ فيدرس الأول فالأول منها إلى أن يفرغ منها، وهو ينقلها إلى الجانب الآخر، فإذا فرغ منها عاد في درسها ونقلها إلى حيث كانت فقال يوماً: ما عمل أحد في تاريخ الزمان وحصر الكلام فيه مثل ما عمله أبو جعفر. قال: ولقد قال لي أبو الحسن بن المغلس يوماً وهو يذاكرنا شيئاً من العلم وفضل العلماء فقال: والله إني لأظن أبا جعفر الطبري قد نسي مما حفظ إلى أن مات ما حفظه فلان طول عمره، وذكر رجلاً كبيراً من أهل العلم. ثم ذكر أبو جعفر في التاريخ الكلام في الدلالة على ما حدث الزمان الأيام والليالي، وعلى أن محدثها الله عز وجل وحده، وذكر أول ما خلق وهو القلم وما بعد ذلك شيئاً شيئاً على ما وردت الآثار به، واختلاف الناس في ذلك. ثم ذكر آدم وحواء واللعين إبليس وما كان من نزول آدمٍ عليه السلام، وما كان بعده من أخبار نبي نبي ورسول رسول وملك وملك على اختصار منه كذلك إلى نبينا عليه السلام مع ملوك الطوائف وملوك الفرس والروم، ثم ذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبه وآباءه وأمهاته وأولاده وأزواجه ومبعثه ومغازيه وسراياه وحال أصحابه رضي الله عنهم، ثم ذكر الخلفاء الراشدين المهديين بعده، ثم ذكر ما كان من أخبار بني أمية وبني العباس في القطين المنسوب أحدهما إلى قطع بني أمية والثاني إلى قطع بني العباس وما شرحه في كتاب التاريخ، وإنما خرج ذلك إلى الناس على سبيل الإجازة إلى سنة أربع وتسعين ومائتين، ووقف على الذي بعد ذلك لأنه كان في دولة المقتدر، وقد كان سئل شرح القطعين، فلما سئل ذلك شرحه وسماه القطعين، وهذا الكتاب من الأفراد في الدنيا فضلاً ونباهة، وهو يجمع كثيراً من علوم الدين والدنيا، وهو نحو خمسة آلاف ورقة. ومنها كتابة المسمى بكتاب ذيل المذيل المشتمل على تاريخ من قتل أو مات من أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم في حياته أو بعده على ترتيب الأقرب بالأقرب منه أو من قريش من القبائل، ثم ذكر موت من مات من التابعين والسلف بعدهم ثم الخالفين إلى أن بلغ شيوخه الذين سمع منهم وجملاً من أخبارهم ومذاهبهم، وتكلم في الذب عن ذوي الفضل منهم ممن رمى بمذهب هو برئ منه كنحو الحسن البصري وقتادة وعكرمة وغيرهم، وذكر صنف من نسب إلى ضعف من الناقلين ولينه، وفي آخره أبواب حسان من باب من حدث عنه الإخوة أو الرجل وولده ومن شهر بكنيته دون اسمه، أو باسمه دون كنيته، وهو من محاسن الكتب وأفاضلها يرغب فيه طلاب الحديث وأهل التواريخ، وكان خرج إملاءه بعد سنة ثلاثمائة وهو في نحو من ألف ورقة، ومنها كتابه المشهور بالفضل شرقاً وغرباً المسمى بكتاب اختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام، قصد به إلى ذكر أقوال الفقهاء وهم مالك بن أنس فقيه أهل المدينة بروايتين، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فقيه أهل الشام، ومن أهل الكوفة سفيان الثوري بروايتين، ثم محمد بن إدريس الشافعي ما حدث به الربيع بن سليمان عنه، ثم من أهل الكوفة أبو حنيفة النعمان بن ثابت، وأبو يوسف يعقوب بن محمد الأنصاري، وأبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني مولى لهم، ثم إبراهيم بن خالد أبو نصر الكلبي، وقد كان أولاً ذكر في كتابه بعض أهل النظر وهو عبد الرحمن بن كيسان، لأنه كان في الوقت الذي عمله ما كان يتفقه على مذهبه، فلما طال الزمان به وفقه أصحابه بسهو أسقطه من كتابه، وكان أول ما عمل هذا الكتاب - على ما سمعته يقول وقد سأله عن ذلك أبو عبد الله أحمد بن عيسى الرازي - : إنما عمله ليتذكر به أقوال من يناظره، ثم انتشر وطلب منه فقرأه على أصحابه، وقد كان محمد بن داود الأصبهاني لما صنف كتابه المعروف بكتاب الوصول إلى معرفة الأصول ذكر في باب الإجماع عن أبي جعفر الطبري: أن الإجماع عنده إجماع هؤلاء المقدم ذكرهم الثمانية النفر دون غيرهم تقليداً منه لما قال أبو جعفر: أجمعوا وأجمعت الحجة على كذا، ثم قال في تصدير باب الخلاف: ثم اختلفوا فقال مالك وقال الأوزاعي كذا وقال فلان كذا: إن الذين حكى عنهم الإجماع هم الذين حكى عنهم الاختلاف وهذا غلط من ابن داود، ولو رجع إلى كتابه في رسالة اللطيف وفي رسالة الاختلاف وما أودعه

كثيراً من كتبه من أن الإجماع هو نقل المتواترين لما أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآثار دون أن يكون ذلك رأياً ومأخوذاً جهة القياس، لعلم أن ما ذهب إليه من ذلك غلط فاحش وخطأ بين. وكان أبو جعفر يفضل كتاب الاختلاف وهو أول ما صنف من كتبه وكان يقول كثيراً: لي كتابان لا يستغني عنهما فقيه: الاختلاف واللطيف، وكتاب الاختلاف نحو ثلاثة آلاف ورقة، ولم يستقص فيه اختياره لأجل أنه قد جود ذلك في كتاب اللطيف، ولئلا يتكرر كلامه في ذلك، وقد كان جعل لكتاب الاختلاف رسالة بدأ بها ثم قطعها، ذكر فيها عند الكلام في الإجماع وأخبار الآحاد والعدول زيادات ليست في كتاب اللطيف، وشيئاً من الكلام في المراسيل والناسخ والمنسوخ. وله كتاب الشروط المسمى أمثلة العدول وهو من جيد كتبه التي يعول عليها أهل مدينة السلام. وكان أبو جعفر مقدماً في علم الشروط قيماً به. ومن جياد كتبه: كتابه المسمى بكتاب لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام، وهو مجموع مذهبه الذي يعول عليه جميع أصحابه، وهو من أنفس كتبه وكتب الفقهاء، وأفضل أمهات المذاهب وأسدها تصنيفاً، ومن قرأه وتدبره رأي ذلك إن شاء الله. وكان أبو بكر بن راميك يقول: ما عمل كتاب في مذهب أجود من كتاب أبي جعفر اللطيف لمذهبه، وكان يعتذر في اختصاره كثيراً في أوله، وكتبه تزيد على كتاب الاختلاف في القدر ثلاثة كتب: كتاب اللباس، كتاب أمهات الأولاد، كتاب الشرب وهو من جيد الكتب وأحسنها وهو كالمنفرد فيه، ولا يظن ظان أن قوله: كتاب الطيف إنما أراد به صغره وخفة محمل وزنه، وإنما أراد بذلك لطيف القول كدقة معانيه وكثرة ما فيه من النظر والتعليلات، وهو يكون نحو ألفين وخمسمائة ورقة. وفيه كتاب جيد في الشروط يسمى بأمثلة العدول من اللطيف، ولهذا الكتاب رسالة فيها الكلام في أصول الفقه، والكلام وفي الإجماع وأخبار الآحاد والمراسيل والناسخ والمنسوخ في الأحكام، والمجمل والمفسر من الأخبار والأوامر والنواهي، والكلام في أفعال الرسل الخصوص والعموم والاجتهاد، وفي إبطال الاستحسان إلى غير ذلك مما تكلم فيه. ومن جياد كتبه: كتابه المعروف بكتاب الخفيف في أحكام شرائع الإسلام وهو مختصر من كتاب اللطيف، وقد كان أبو أحمد العباس بن الحسن العزيزي أراد النظر في شيء من الأحكام فراسله في اختصار كتاب له، فعمل هذا الكتاب ليقرب متناوله وهو نحو من الأربعمائة ورقة، وهو كتاب قريب على الناظر فيه كثير المسائل يصلح لتذكر العالم والمبتدئ المتعلم. ومنها كتاب تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله صلى عليه وسلم من الأخبار، وهو كتاب يتعذر على العلماء عمل مثله ويصعب عليهم تتمته. من كتبه من أن الإجماع هو نقل المتواترين لما أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآثار دون أن يكون ذلك رأياً ومأخوذاً جهة القياس، لعلم أن ما ذهب إليه من ذلك غلط فاحش وخطأ بين. وكان أبو جعفر يفضل كتاب الاختلاف وهو أول ما صنف من كتبه وكان يقول كثيراً: لي كتابان لا يستغني عنهما فقيه: الاختلاف واللطيف، وكتاب الاختلاف نحو ثلاثة آلاف ورقة، ولم يستقص فيه اختياره لأجل أنه قد جود ذلك في كتاب اللطيف، ولئلا يتكرر كلامه في ذلك، وقد كان جعل لكتاب الاختلاف رسالة بدأ بها ثم قطعها، ذكر فيها عند الكلام في الإجماع وأخبار الآحاد والعدول زيادات ليست في كتاب اللطيف، وشيئاً من الكلام في المراسيل والناسخ والمنسوخ. وله كتاب الشروط المسمى أمثلة العدول وهو من جيد كتبه التي يعول عليها أهل مدينة السلام. وكان أبو جعفر مقدماً في علم الشروط قيماً به. ومن جياد كتبه: كتابه المسمى بكتاب لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام، وهو مجموع مذهبه الذي يعول عليه جميع أصحابه، وهو من أنفس كتبه وكتب الفقهاء، وأفضل أمهات المذاهب وأسدها تصنيفاً، ومن قرأه وتدبره رأي ذلك إن شاء الله. وكان أبو بكر بن راميك يقول: ما عمل كتاب في مذهب أجود من كتاب أبي جعفر اللطيف لمذهبه، وكان يعتذر في اختصاره كثيراً في أوله، وكتبه تزيد على كتاب الاختلاف في القدر ثلاثة كتب: كتاب اللباس، كتاب أمهات الأولاد، كتاب الشرب وهو من جيد الكتب وأحسنها وهو كالمنفرد فيه، ولا يظن ظان أن قوله: كتاب الطيف إنما أراد به صغره وخفة محمل وزنه، وإنما أراد بذلك لطيف القول كدقة معانيه وكثرة ما فيه من النظر والتعليلات، وهو يكون نحو ألفين وخمسمائة ورقة. وفيه كتاب جيد في الشروط يسمى بأمثلة العدول من اللطيف، ولهذا الكتاب رسالة فيها الكلام في أصول الفقه، والكلام وفي الإجماع وأخبار الآحاد والمراسيل والناسخ والمنسوخ في الأحكام، والمجمل والمفسر من الأخبار والأوامر والنواهي، والكلام في أفعال الرسل الخصوص والعموم والاجتهاد، وفي إبطال الاستحسان إلى غير ذلك مما تكلم فيه. ومن جياد كتبه: كتابه المعروف بكتاب الخفيف في أحكام شرائع الإسلام وهو مختصر من كتاب اللطيف، وقد كان أبو أحمد العباس بن الحسن العزيزي أراد النظر في شيء من الأحكام فراسله في اختصار كتاب له، فعمل هذا الكتاب ليقرب متناوله وهو نحو من الأربعمائة ورقة، وهو كتاب قريب على الناظر فيه كثير المسائل يصلح لتذكر العالم والمبتدئ المتعلم. ومنها كتاب تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله صلى عليه وسلم من الأخبار، وهو كتاب يتعذر على العلماء عمل مثله ويصعب عليهم تتمته.

قال أبو بكر بن كامل: لم أر بعد أبي جعفر أجمع للعلم وكتب العلماء ومعرفة اختلاف الفقهاء وتمكنه من العلوم منه، لأني أروض نفسي في عمل مسند عبد الله بن مسعود في حديث منه نظير ما عمله أبو جعفر فما أحسن عمله ولا يستوي لي.
ومن كتبه الفاضلة: كتابه المسمى بكتاب المسمى بكتاب بسيط القول في أحكام شرائع الإسلام، وهذا الكتاب قدم له كتاباً سماه كتاب مراتب العلماء حسناً في معناه، ذكر فيه خطبة الكتاب وحض فيه على طلب العلم والتفقه وغمز فيه على من اقتصر من أصحابه على نقله دون التفقه بما فيه. ثم ذكر فيه العلماء ممن تفقه مذهبه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أخذ عنهم، ثم من أخذ عنهم ثم من أخذ عمن أخذ عنهم من فقهاء الأمصار. بدأ بالمدينة لأنها مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم ومن خلفه أبو بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم، ثم بمكة لأنها الحرم الشريف، ثم العراقين الكوفة والبصرة ثم الشام وخراسان، ثم خرج إلى كتاب الصلاة بعد ذكر الطهارة، وذكر في هذا الكتاب اختلاف المختلفين واتفاقهم فيما تكلموا فيه على الاستقصاء والتبيين في ذلك والدلالة لكل قائل منهم، والصواب من القول في ذلك، وخرج منه نحو ألفي ورقة. وأخرج من هذا الكتاب كتاب آداب القضاة وهو أحد الكتب المعدودة له المشهورة بالتجويد والتفضيل، لأنه ذكر فيه بعد خطبة الكتاب الكلام في مدح القضاة وكتابهم، وما ينبغي للقاضي إذا ولي أن يعمل به وتسليمه له ونظره فيه ثم ما ينقض فيه أحكام من تقدمه، والكلام في السجلات والشهادات والدعاوى والبينات وسيأتي ذكر ما يحتاج إليه الحاكم من جميع الفقه إلى أن فرغ منه وهو في ألف ورقة، وكان يجتهد بأصحابه أن يأخذوا البسيط والتهذيب ويجدوا في قراءتهما، ويشتغلوا بهما دون غيرهما من الكتب.
ومن جياد كتبه: كتابه المسمى بكتاب أدب النفوس الجيدة والأخلاق النفيسة، وربما سماه بأدب النفس الشريفة والأخلاق الحميدة، وربما زاد في ترجمته المشتمل على علوم الدين والفضل والورع والإخلاص والشكر والكلام في الرياء والكبر والتخاضع والخشوع والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدأ فيه بالكلام في الوسوسة وأعمال القلوب، ثم ذكر شيئاً كثيراً من الدعاء وفضل القرآن وأوقات الإجابة ودلائلها، وما روى من السنن وأقوال الصحابة والتابعين في ذلك، وقطع الإملاء في بعض الكلام في الأمر بالمعروف والنهي والمنكر، وكان ما خرج منه نحو خمسمائة ورقة، وكان قد عمل أربعة أجزاء ولم يخرجها إلى الناس في الإملاء، ووقع ذلك إلى أبي سعيد عمر بن أحمد الدينوري الوراق، وخرج به إلى الشام فقطع عليه ولم يبق معه إلا جزءان فيهما الكلام في حقوق الله الواجبة على الإنسان في بصره والحقوق الواجبة في سمعه، وكان ابتدأ في سنة عشر وثلاثمائة، ومات بعد مديدة من قطعة الإملاء وكان يقول: إن خرج هذا الكتاب كان فيه جمال لأنه كان أراد أن يخرج بعد الكلام في الحقوق اللازمة للإنسان إلى ما يعيذنا منه من أهوال القيامة وشروطها وأحوال الآخرة وما ورد فيها وذكر الجنة والنار. ومما صنف وخرج: كتاب المسند المجرد، وقد كتب أصحابه الحديث الأكثر منه، وذكر فيه من حديثه عن الشيوخ ما قرأه على الناس. ومنها كتابه المسمى بكتاب الرد على ذي الأسفار يرد فيه على داود بن علي الأصبهاني، وكان سبب تصنيف هذا الكتاب أن أبا جعفر كان قد لزم داود بن علي مدة، وكتب من كتبه كثيراً.

ووجدنا في ميراثه من كتبه ثمانين جزءاً بخطه الدقيق، وكان فيها المسألة التي جرت بن داود بن على وبين أبي المجالد الضرير المعتزلي بواسط عند خروجهما إلى الموفق لما وقع التنازع في خلق القرآن، وكان داود بن علي قد أخذ من النظر ومن الحديث ومن الاختلاف ومن السنن حظاً ليس بالمتسع، وكان بسيط اللسان حسن الكلام متمكناً من نفسه، وله أصحاب فيهم دعابة قد تمكنت منهم حنى صارت لبعضهم خلقاً يستعمله في النظر لقطع مخالفيه. وكان ربما ناظر داود ابن علي الإثبات في المسألة في الفقه فيراه مقصراً في الحديث فينقله إليه أو يكلمه في الحديث فينقله إلى الفقه أو إلى الجدل إذا كان خصمه مقصراً فيهما، وكان هو مقصراً في النحو واللغه وإن كان عارفاً بقطعة منه. وكان أبو جعفر ملياً بما نهض فيه من أي علم كان، وكان متوقفاً عن الأخلاق التي لا تليق بأهل العلم ولا يؤثرها إلى أن مات، وكان يحب الجد في جميع أحواله. وجرت مسألة يوماً بين داود بن علي وبين أبي جعفر فوقف الكلام على داود بن علي فشق ذلك على أصحابه وكلم رجل من أصحاب داود بن على أبا جعفر بكلمة مضة فقام من المجلس وعمل هذا الكتاب، وأخرج منه شيئاً بعد شيء إلى أن أخرج منه قطعة نحو مائة ورقة، وكان ابتدأ الكلام فيه بخطبة من غير إملاء وهو من جيد ما عمله أبو جعفر ومن أحسنه كلاماُ فيه حملاً على اللفظ عليه، ثم قطع ذلك بعد ما مات داود بن علي فلم يحصل في أيدي أصحابه من ذلك إلا ما كتبه منه مقدمو أصحابه ولم ينقل. فممن كتب هذا الكتاب منه أبو إسحاق بن الفضل بن حيان الحلواني. - قال أبو بكر بن كامل: وسمعناه منه عنه - وأبو الطيب الجرجاني وأبو علي بن الحسن بن الحسين بن الصواف، وأبو الفضل العباس بن محمد المحسن وغيرهم، وقال الرؤاسي وكان من مقدمي أصحاب داود بن علي: إن داود قطع كلام ذلك الإنسان الذي كلم أبا جعفر سنة مجازاة له على ما جرى منه على أبي جعفر، ثم تعرض محمد بن داود بن علي للرد على أبي جعفر فيما رده على أبيه فتعسف الكالم على ثلاث مسائل خاصة وأخذ في سب أبي جعفر وهو كتابه المنسوب إلى الرد على أبي جعفر بن جرير.
قال أبو الحسن بن المغلس: قال لي أبو بكر بن داود ابن علي: كان في نفسي مما تكلم به ابن جرير علي أبي، فدخلت يوماً على أبي بكر بن أبي حامد وعنده أبو جعفر فقال له أبو بكر: هذا أبو بكر محمد بن داود بن علي الأصبهاني، فلما رآني أبو جعفر وعرف مكاني رحب بي وأخذ يثني على أبي ويمدحه ويصفني بما قطعني عن كلامه.
ومن كتب أبي جعفر: رسالته المسماة بكتاب رسالة البصير في معالم الدين التي كتب بها إلى أهل طبرستان فيما وقع بينهم فيه من الخلاف في الاسم والمسمى وفي مذاهب أهل البدع وهو نحو ثلاثين ورقة، ومنها أيضاً رسالته المعروفة بكتاب صريح السنة في أوراق، ذكر فيها مذهبه وما يدين به ويعتقده، كتاب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه تكلم في أوله بصحة الأخبار الواردة في غدير خم، ثم تلاه بالفضائل ولم يتم كتاب فضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يتم أيضاً، كتاب فضائل العباس وانقطع أيضاً بموته، كتاب في عبارة الرؤيا جمع فيه أحاديث فمات ولم يعمله، وكتاب مختصر مناسك الحج، كتاب مختصر الفرائض، كتاب في الرد على ابن عبد الحكم على مالك ولم يقع إلى أصحابه، كتاب الموجز في الأصول ابتدأ فيه برسالة الأخلاق، ثم قطع ووعد بكتاب الآدر في الأصول ولم يخرج منه شيء وأراد أن يعمل كتاباً في القياس فلم يعمله.
قال أبو القاسم الحسين بن حبيش الوراق: كان قد التمس مني أبو جعفر أن أجمع له كتب الناس في القياس، فجمعت له نيفاً وثلاثين فأقامت عنده مديدة، ثم كان من قطعه للحديث قبل موته بشهور ما كان، فردها علي وفيها علامات له بحمرة قد علم عليها.
قال عبد العزيز بن محمد: وقد وقع إلى كتاب صغير في الرمي بالنشاب منسوب إليه وما علمت أحداً قرأه عليه ولا ضابطاً ضبط عنه لا ينسبه إليه، وأخاف أن يكون منحولاً إليه.

وقال عبد العزيز بن محمد الطبري: كان أبو جعفر يذهب في جل مذاهبه إلى ما عليه الجماعة من السلف، وطريق أهل العلم المتمسكين بالسنن، شديداً عليه مخالفتهم ماضياً على مناهجهم لا تأخذ في ذلك ولا في شيء لومة لائم، وكان يذهب إلى مخالفة أهل الاعتزال في جميع ما خالفوا فيه الجماعة من القول بالقدر وخلق القرآن وإبطال رؤية الله في القيامة، وفي قولهم بتخليد أهل الكبائر في النار وإبطال شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي قولهم إن استطاعة الإنسان قبل فعله. وكان أبو جعفر يزعم أن ما في العالم من أفعال العباد فخلق الله، وأن ما من الله به على أهل الإيمان من الاستطاعة التي وفقهم لها غير ما أعطاه لأهل الكفر من الدار والعقل، وأن الله ختم على قلوب من كفر به مجازاة لهم على كفرهم. قلت: وهذا الفصل رديء جداً لأنه إن كان ختم قبل الكفر فقد ظلم، وإن كان بعده فقد ختم على مختوم، وهذا لم يقل به أحد من أهل السنة والجماعة، إنما هو من أقوال الروافض والمعتزلة قبحهم الله. وكان أبو جعفر يعتقد أن ما أخطأه ما كان ليصيبه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن جميع ما في العالم لا يكون إلا بمشيئة الله، وأن الله جل وعز لم يزل موصوفاً بصفاته التي هي عامة وقدرته، وكلامع غير محدث.
قال أبو علي: وهذا الفصل يدل على أن ما لم يكن من الصفات كالعلم والقدرة والكلام أنها محدثة مخلوقة وهذا محض كلام المعتزلة والأشعرية.
قال: وكان أبو جعفر يذهب في الإمامة إلى إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وما عليه أصحاب الحديث في التفصيل، وكان يكفر من خالفه في كل مذهب إذ كانت أدلة العقول تدفع كالقول في القدر، وقول من كفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الروافض والخوارج ولا يقبل أخبارهم ولا شهاداتهم، وذكر ذلك في كتابه في الشهادات وفي الرسالة وفي أول ذيل المذيل، وكان لا يورث من الكفرة منهم، وذكر ذلك في مسند أسامة بن زيد عند كلامه في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يورث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، ولا يتوارث أهل ملتين شتى) وكان لا يورث متكافرين، لا يورث يعقوبياً من النصارى من ملكي، ولا ملكياً من نسطوري، ولا شمعتياً من اليهود سامرياً، ولا عنانياً من الشمعتي، ووافقه على هذا المذهب الأوزاعي، فإذا اختلفت الكنائس والبيع لم يورث بعضهم من بعض.
قال أبو بكر بن كامل: حضرت أبا جعفر حين حضرته الوفاة فسألته أن يجعل كل من عاداه في حل، وكنت سألته ذلك لأجل أبي الحسن بن الحسين الصواف لأني كنت قرأت عليه القرآن فقال: كل من عاداني وتكلم في حل إلا رجلاً رماني ببدعه. وكان الصواف من أصحاب أبي جعفر وكانت فيه سلامة ولم يكن فيه ضبط دون الفصل، فلما أملى أبو جعفر ذيل المذيل ذكر أبا حنيفة وأطراه وقال كان فقيهاً عالماً ورعاً فتكلم الصواف في ذلك الوقت فيه لأجل مدحه لأبي حنيفة وانقطع عنه وبسط لسانه فيه.
قال أبو بكر بن كامل: من سبقك إلى إكفار أهل الأهواء؟ قال فقال: إماماً عدل عبد الرحمن بن مهدي، ويحيى ابن سعيد القطان، وكان إذا عرف من إنسان بدعة أبعده واطرحه، وكان قد قال بعض الشيوخ ببغداد بتكذيب غدير خم وقال: إن بن أبي طالب كان باليمن في الوقت الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير خم، وقال هذا الإنسان في قصيدة مزدوجة فيها بلداً بلداً ومنزلاً منزلاً أبياتاً يلوح فيها إلى معنى حديث غدير خم فقال:
ثم مررنا بغدير خم ... كم قائل فيه بزور جم
على علي والنبي الأمي
وبلغ أبا جعفر ذلك فابتدأ الكلام في فضائل علي بن أبي طالب، وذكر طرق حديث خم فكثر الناس لاستماع ذلك، واجتمع قوم من الروافض ممن بسط لسانه بما لا يصلح في الصحابة رضي الله عنهم فابتدأ بفضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم سأله العباسيون في فضائل العباس فابتدأ بخطبة حسنة وأملى بعضه وقطع جميع الإملاء قبل موته وكان يظن أن فيه لجاجة، قال أبو بكر بن كامل: ولم يكن فيه ذلك، وقد كان رجع طبرستان فوجد الرفض قد ظهر، وسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهلها قد انتشر، فأملى فضائل أبي بكر وعمر حتى خاف أن يجري عليه ما يكرهه فخرج منها من أجل ذلك.

وقال عبد العزيز بن محمد الطبري: أخبرني غير واحد من أصحابنا أنه رأى عند أبي جعفر شيخاً مسناً فقام له أبو جعفر وأكرمه ثم قال أبو جعفر: إن هذا الرجل ناله في ماقد صار له علي به الحق الكثير، وذلك أني دخلت إلى طبرستان وقد شاع سب أبي بكر وعمر فيهما، فسألوني أن أملي فضائلهما ففعلت، وكان سلطان البلدة يكره ذلك فاجتمع إليه من عرفه ما أمليته، فوجه إلي فبادر هذا وأرسل إلي من أخبرني أني قد طلبت، فخرجت من وقتي عن البلد ولم يشعر بي وحصل هذا في أيديهم فضرب بسبي ألفاً قال: وكان شديد التوقي والحذر والنزاهة والورع، يدل على ذلك ما أودعه كتاب آداب النفوس المنبه على دينه وفضله، ومع ما كان فيه من الاشتغال بالتصانيف والحديث والإملاء لا بد له مع ذلك من حزبه من القرآن، ويقال: إنه كان يقرأ كل ليلة ربعاً أو حظاً وافراً.
قال عبد لعزيز بن محمد: وكان أبو جعفر ظريفاً في ظاهره، نظيفاً في باطنه، حسن العشرة لمجالسيه، متفقداً لأحوال أصحابه، مهذباً في جميع أحواله، جميل الأدب في مأكله وملبسه، وما يخصه في أحوال نفسه، منبسطاً مع إخوانه، حتى ربما داعبهم أحسن مداعبة، وربما جئ بين يديه بشيء من الفكاهة فيجري في ذلك المعنى ما لا يخرج من العلم والفقه والمسائل حتى يكون كأجد جد وأحسن علم. وكان إذا أهدى إليه مهد هدية مما يمكنه المكافأة عليه قبلها وكافأه، وإن كانت مما لا يمكنه المكافأة عليه ردها واعتذر إلى مهديها. ووجه إليه أبو الهيجاء بن حمدان ثلاثة آلاف دينار، فلما نظر إليها عجب منها ثم قال: لا أقبل ما لا أقدر على المكافأة عنه، ومن أين لي ما أكافئ عن هذا؟ فقيل: ما لهذا مكافأة، إنما أراد التقرب إلى الله عز وجل، فأبى أن يقبله ورده إليه.
وكان يختلف إليه أبو الفرج بن أبي العباس الأصبهاني يقرأ عليه كتبه، فالتمس أبو جعفر حصيراً لصفة له صغيرة، فدخل أبو الفرج الأصفهاني وأخذ مقدار الصفة واستعمل له الحصير متقرباً بذلك له وجاءه به وقد وقع موقعه، فلما خرج دعا ابنه دفع إليه أربعة دنانير فأبى أن يأخذها وأبى أبو جعفر أن يأخذ الحصير إلا بها. وأهدى إليه أبو المحسن المحرر جاره فرخين فأهدى إليه ثوباً.
وقال أبو الطيب القاسم بن أحمد بن الشاعر وسليمان بن الخاقاني: أهدى أبو علي محمد بن عبيد الله الوزير إلى أبي جعفر محمد بن جرير برمان فقبله وفرقه في جيرانه، فلما كان بعد أيام وجه إليه بزنبيل فيه بدرة فيها عشرة آلاف درهم وكتب معها رقعة وسأله أن يقبلها. قال سليمان: قال لي الوزير: إن قبلها وإلا فسلوه أن يفرقها في أصحابه ممن يستحق، فصرت بالبدرة إليه فدفقت الباب وكان يأنس إلي، وكان أبو جعفر إذا دخل منزله بعد المجلس لا يكاد يدخل إليه أحد لتشاغله بالتصنيف إلا في أمر مهم. قال: فعرفته أني جئت برسالة الوزير فأذن لي، فدخلت وأوصلت إليه الرقعة فقال: - يغفر الله لنا وله - اقرأ عليه السلام وقل له: أرددنا إلى الرمان، وامتنع من قبول الدراهم. فقلت له: فرقها في أصحابك على من يحتاج إليها ولا تردها. فقال: هو أعرف بالناس إذا أراد ذلك، وأجاب عن الرقعة وانصرفت.
قال أبو الطيب وسليمان: فلما كان بعد مدة قدم الحاج وكان يأتيه مال ضيعته معهم فربما جئ إليه بالشيء فجعله بضاعة، فدعانا وإذا بين يديه شيء مشدود فقال: امضيا بهذا إلى الوزير واقرءا عليه السلام، وأوصلا إليه هذه الحزمة والرقعة. قالا: فصرنا إليه ولا نعرف ما فيها قرأ الرقعة وإذا فيها إنه قد أنفذ إليه شيء من طبرستان فآثر إنفاذه إليه قال: فتقدم من فتحه فإذا فيه سمور حسن فقوم له ذلك بأربعين ديناراً ولم يجد بداً من قبوله. وكان داعياً إلى امتناعه من الإهداء إليه. قال: وقد كان يمضي إلى الدعوة يدعى إليها وإلى الوليمة يسأل فيها ويكون ذلك يوماً مشهوداً من أجله وشريفاً بحضوره، وكان يخرج مع بعضهم إلى الصحراء فيأكل معهم.

قال ابن كامل: قال لي أبو علي محمد بن إدريس الجمال - وكان من وجوه الشهود بمدينة السلام - : حضرنا يوماً مع أبي جعفر الطبري وليمة فجلست معه على مائدة فكان أجمل الجماعة أكلاً وأظرفهم عشرة. قال: وحضر جماعة من الغلمان على رؤوسنا لسقي الماء والخدمة قال: فرأيت بعض الغلمان قد مد عينه إلى بعض ما قدم إلينا فأخذت لقمة فناولتها الغلام. قال: فزبرني أبو جعفر وقال: من أذن لك أن تأكل أو تطعم؟ قال: فأخجلني. قال ابن كامل: ما رأيت أظرف أكلاً من أبي جعفر، كان يدخل يده في الغضاره فيأخذ منها لقمة فإذا عاد بأخرى كسح باللقمة ما التطخ من الغضارة باللقمة الأولى فكان لا يتلطخ من الغضارة إلا جانب واحد، وكان إذا تناول اللقمة ليأكل سمى ووضع يده اليسرى على لحيته ليوقيها من الزهومة فإذا حصلت اللقمة في فيه أزال يده.
قال أبو بكر بن كامل: قال لنا أبو بكر بن مجاهد: كان أبو جعفر ربما خرج إلى الصحراء فنخرج معه فدعانا يوماً أبو الطيب بن المغيرة الثلاج وكان جاراً لأبي جعفر في محلة ببغداد، فجاء بنا إلى قراح باقلي فأكلنا وأكل أبو جعفر أكلاً فيه إفراط، ورأينا من حسن عشرته وانبساطه أمراً عظيماً، ثم انصرفنا فصرت إليه لأعرف خبره من تعبه مما أكله، فإذا بين يديه أدوية وجوارشنات يأكل منها ليدفع بها ضرر ما كان أكله. وكان إذا جلس لا يكاد يسمع له تنخم ولا تبصق ولا يرى له نخامة، وإذا أراد أن يمسح ريقه أخذ ذؤابة منديله ومسح جانبي فيه، قال أبو بكر ابن كامل: ولقد حرصت مراراً أن يستوي لي مثل ما يفعله فيتعذر على اعتياده. قال: وما سمعته قط لاحنا ولا حالفاً بالله عز وجل. قال: وكان لا يأكل الدسم، وإنما يأكل اللحم الأحمر الصرف ولا يطبخه إلا بالزبيب وكان يقول: السمين يلطخ المعدة، وكان يتجنب السمسم والشهد ويقول: إنهما يفسدان المعدة، ويغيران النكهة ويقول إن التمر يلطخ المعدة، ويضعف البصر، ويفسد الأسنان، ويفعل في اللحم كذا وكذا. فقال له أبو علي الصواف: أنا آكله طول عمري ولا أرى من إلا خيراً. فقال أبو جعفر: وما بقي على التمر أن يعمل بك أكثر مما عمل. قال: وكان الصواف قد وقعت أسنانه وضعف بصره، ونحف جسمه وكثر اصفراره. قال: وكان أبو جعفر كبير اللحية حسن القيام على نفسه لا يأكل من الخبز إلا السميذ لأجل غسل القمح، لأن من كذهبه أن الشمس والنار والريح لا تطهر نجساً، وكان ربما أكل من العنب الرازق والتين الوزيري والرطب وربما أخذ له من اللبن الحليب من غنم ترعى فيصفي ويجعل في قدر على النار حتى يذهب منه جزء ثم يثرد في الإناء ويصب عليه اللبن الحار، ويدعه حتى يبرد ويطرح عليه الصعتر وحبة السوداء والزيت، وكان يكثر من الإسفيذباج والزيرباج، وكان ربما أكل بالحصرم في وقته، وكان لا يعدم في الصيف الحيس والريحان واللينوفر، فإذا أكل نام في الخيش في قميص قصير الأكمام مصبوغ بالصندل وماء الورد، ثم يقوم فيصلي الظهر في بيته ويكتب في تصنيفه إلى العصر، ثم يخرج فيصلي العصر ويجلس للناس يقرئ ويقرأ عليه إلى المغرب، ثم يجلس للفقه والدرس بين يديه إلى عشاء الآخرة ثم يدخل منزله، وقد قسم ليله ونهاره في مصلحة نفسه ودينه والخلق كما وفقه الله عز وجل.
وكان أبو الطيب الثلاج قد سأله أن يجعل شربه الماء من عنده، لأنه كان يكره الثلج وكان له كراز يدفئه فيه، وكان أبو القاسم سليمان بن فهد الموصلي يهدي له العسل ويقبله منه، فلما مات وجد عنده إحدى عشرة جرة عسلاً ومنها ما قد نقص منه. وكان قد كتب فردوس الحكمة لعلي بن زين الطبري وأخذه عن علي بن زين مصنفه سماعاً.

قال أبو بكر بن كامل: ورأيته عنده في ستة أجزاء وقال أبو العباس بن المغيرة الثلاج: لما اعتل ابني أبو الفرج وكان حسن الأدب ويتفقه على مذهب أبي جعفر. قال لي أبو جعفر تقبل مني ما أصفه لك؟ فقلت نعم، وكنت أتبرك بقوله ورأيه. قال: احلق رأسه واعمل له جواذابة سمينة من رقاق وأكثر دسمها وقدمها إليه وأطعمه منها حتى يمتلئ شبعاً ثم خذ ما بقي فاطرحه على دماغه، واحرص أن ينام على حاله تلك فإنه يصلح إن شاء الله تعالى ففعلت فكان سبب برئه. وأبو الفرج هذا مات قبل أبي جعفر بمديدة، وكان أبو الفرج هذا يتعسف في كلامه. تجاورا يوماً عند أبي جعفر فذكر الطبيخ فقال أبو الفرج: لكني أكلت طباهقة. قال أبو جعفر: وما الطباهقة؟ قال: الطباهقة: ألا ترى أن العرب تعمل الجيم قافاً. قال أبو جعفر: فأنت إذاً أبو الفرق بن الثلاق، فصار يعرف بأبي الفرق بن الثلاق ويمزح معه بذلك.
وكان أبو بكر بن الجواليقي يأخذ لسانه بالإعراب ويكثر الإشارات فيه إلى حد البغض، فأخذ يوماً في ذلك فقال أبو جعفر: أنت بغيض فسمي بغيض الطبري. قال: ورأيت أنا هذا الإنسان يوماً وقد ورد على باب الطاق وكان مهاجراً لبعض الوراقين فوقف علينا فسلم ثم أعتذر من وقوفه بالمكان لأجل الوراق فقال: لولا من ما كنت بالذي، يعني لولا من ههنا ما كنت لأقف على حانوتك، وكان بأبي جعفر ذات الجنب تعتاده وتنتقض عليه، فوجه إليه علي بن عيسى طبيباً فسأل الطبيب أبا جعفر عن حاله، فعرفه حاله وما استعمل وأخذه لعلته وما انتهى إليه في يومه ذاك وما كان رسمه أن يعالج به وما عزم على أخذه من العلاج. فقال له الطبيب: ما عندي فوق ما وصفته لنفسك شيء، والله لو كنت في ملتنا لعددت من الحواريين - وفقك الله - ، ثم جاء إلى علي بن عيسى فعرفه ذلك فأعجبه. قلت: أكثر هذه الأخبار عن عبد العزيز بن محمد الطبري من كتاب له أفرده في سيرة أبي جعفر، ومن كتاب لأبي بكر بن كامل في أخباره والله ولي الخير.
قال أبو علي الأهوازي: مات ببغداد في سنة عشر وثلاثمائة، وكذا وجدته بخط أبي سليمان بن يزيد مكتوباً، ورأيت أيضاً من يقول: إنه مات في سنة إحدى عشرة وست عشرة والله أعلم وأحكم، وهذه السنون كلها في أيام المقتدر بالله.

محمد بن جعفر الصيدلاني
كان صهر أبي العباس المبرد على ابنته ويلقب برمة، وكان أديباً شاعراً، روى عن أبي هفان الشاعر أخبارأً وحدث عنه أبو الفرج الأصفهاني وغيره، وأنشد الخطيب في تاريخه لمحمد بن جعفر الصيدلاني:
أما ترى الروض قد لاحت زخارفه ... ونشرت في رباه الريط والحلل
واعتم بالأرجوان النبت منه فما ... يبدو لنا منه إلا مونق خضل
والنرجس الغض يرنو من محاجره ... إلى الورى مقل تحيا بها المقل
تبر حواه لجين فوق أعمدة ... من الزمرد فيها الزهر مكتهل
فعج بنا نصطلح يا صاح صافية ... صهباء في كأسها من لمعها شعل
فقد تجلت لنا عن حسن بهجتها ... رياض قطربل واللهو مشتمل
وعندنا شادن شدت قراطقه ... على نقا وقضيب فهو معتدل
يدور بالكأس بين الشرب آونة ... ما دام للشرب منه العل والنهل
وقينة إن تشأ غنتك من طرب ... ودع هريرة إن الركب مرتحل
وإن أشرت إلى صوت تكرره ... إنا محيوك فاسلم أيها الطلل
ليست بمظهرة تيهاً ولا صلفاً ... وليس يغضبها التجميش والقبل
فنحن في تحف منها وفي غزل ... مما يغازلنا طرف لها غزل
محمد بن جعفر بن ثوابة الكاتب

يكنى أبا الحسن، كاتب بليغ منشئ فاضل، كان ينشئ في الديوان أيام المقتدر بالله، ومات في سن اثنتي عشرة وثلاثمائة، قال الرئيس أبو الحسين: كان أبو الحسن هذا صاحب ديوان الرسائل في ديوان المقتدر. وقال ثابت: في سنة أربع وثلاثمائة قيض على علي بن عيسى بن الجراح الوزير، واستوزر أبو الحسن محمد بن الفرات، فأقر أبا الحسن محمد بن جعفر بن ثوابة على ديوان الرسائل والمعاون، ومن كلامه رسالة كتبها عن المقتدر بالله أمير المؤمنين إلى البلدان في وزارة ابن الفرات الثانية: لما لم يجد أمير المؤمنين غنى عنه، ولا للملك بداً منه، وكان كتاب الدواوين على اختلاف أقدارهم وتفاوت ما بين أخطارهم مقرين برياسته، معترفين بكفايته، متحاكمين إليه إذا اختلفوا، واقفين عند غايته إذا استبقوا، مذعنين بأنه الحول القلب. المحنك المجرب، العالم بدرة المال كيف تحلب؟ ووجوهه كيف تطلب؟ انتضاه من غمده، فعاود ما عرف من حده، فنفذ الأعمال كأن لم يغب عنها، ودبر الأمور كأن لم يخل منها.
ورأى أمير المؤمنين ألا يدع شيئاً من أسباب التكرم كان قديماً جعله له إلا وفاه إياه، ولا نوعاً من أنواع المثوبة والجزاء كان أخره عنه إلا حباه به، فخاطبه بالتلبية. ومما يستحسنه الكتاب من كلامه قوله لما أجاب خمارويه بن أحمد عن المعتضد عن الكتاب بإنفاذ ابنته فقال في الفصل الذي احتاج فيه إلى ذكرها: وأما الوديعة فهي بمنزلة ما انتقل من شمالك إلى يمينك عناية بها وحياطة لرأيك فيه.

محمد بن جعفر بن محمد بن سهل
ابن شاكر الخرائطي. قال أبو بكر الخطيب: كنيته أبو بكر، وهو من أهل سر من رأي، مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بعسقلان من بلاد الشام، وكان سمع عمر بن شبة وغيره، وكان حسن الأخبار مليح التصانيف سكن الشام وحدث بها فحصل حديثه عند أهلها. ومن مصنفاته: كتاب اعتلال القلوب في أخبار العشاق، وكان قدم دمشق في سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، ثم مات بعد ذلك بعسقلان في الوقت المقدم ذكره.
وله من التصانيف: كتاب مكارم الأخلاق، كتاب مساوي الأخلاق، كتاب قمع الحرص بالقناعة، كتاب هواتف الجان وعجيب ما يحكى من الكهان، كتاب القبور.
محمد بن جعفر بن حاتم الواسطي
أبو جعفر غلام ثعلب، له شعر صالح، مات في سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، وذكر ذلك كله أبو محمد عبد الله ابن بشران في تاريخه.
محمد أبي جعفر المنذري
الهروي أبو الفضل، ذكره أبو النضر عبد الرحمن بن عبد الجبار بن أبي سعيد الفامي في تاريخ هرة وقال: مات في رجب سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
قال المؤلف: وهو نحوي لغوي مصنف في ذلك، وهو شيخ أبي منصور محمد بن أحمد الأزهري الذي أملى كتاب التهذيب بالرواية عنه وقدم بغداد لأنه قال: سألت ثعلباً عن كتاب العين فقال: ذلك كتاب ملئ غدد، قال: وهذا لفظ أبي العباس، وحقه عند النحويين ملآن غدداً، ولكن أبا العباس يخاطب العامة على قدر فهمهم.
وذكر الأزهري في مقدمة كتابه: أن أبا الفضل المنذري لازم أبا الهيثم الرازي سنين وعرض عليه الكتب، وكتب عنه من أماليه وفوائده أكثر من مائتي مجلد. قال الأزهري: فما وقع في كتابي لأبي الهيثم فهو ما أفادنيه المنذري عنه في كتاب الشامل وكتاب الفاخر، وكتاب الزيادات التي زادها في معاني القرآن للفراء، وكتاب زيادات أمثال أبي عبيد، وكتاب ما زاد في المصنف وغريب الحديث.
وقال أبو النضر: صنف أبو الفضل المنذري كتاب نظم الجمان وكتاب الملتقط، وذكر الفاخر والشامل. قال الأزهري: اخبرني أبو الفضل المنذري أن أبا الهيثم الرازي حثه على النهوض إلى أبي العباس يعني ثعلباً قال: فرحلت إلى العراق ودخلت مدينة السلام يوم الجمعة ومالي همة غيره، فأتيته وعرفته خبري وقصدي إياه، فاتخذ لي مجلساً في النوادر التي سمعها من ابن الأعرابي حتى سمعت الكتاب كله منه قال: وسألته عن حروف كانت أشكلت على أبي الهيثم فأجابني عنها.

قال الأزهري: أخبرني المنذري أنه اختلف إلى ثعلب سنة في سماع كتاب النوادر لابن الأعرابي لأنه كان في أذنه وقر وكان يتولى قراءة ما يسمع منه قال: وكتبت عنه من أماليه في معاني القرآن وغيرها أجزاء كثيرة فما عرض ولا صرح بشيء من أسباب الطمع قال واختلفت إلى أبي العباس المبرد وانتخبت عليه أجزاء من كتابيه المعروفين بالروضة والكامل قال: وقاطعته من سماعها على شيء مسمى وإنه لم يأذن لي في قراءة حكاية واحدة لم يكن وقع عليها الشرط.

محمد بن جعفر العطار النحوي
أبو جعفر، ويلقب فرتك. قال الخطيب: هو من أهل المخرم. حدث عن الحسن بن عرفة، روي عنه الدارقطني ولم يزد الخطيب على هذا.
محمد بن جعفر بن محمد الهمذاني
ثم المراغي. ذكره محمد بن إسحاق فقال: كان يعلم عز الدولة أبا منصور بختيار بن معز الدولة بن بويه. قال الخطيب: يكنى أبا الفتح، سكن بغداد وروى بها عن أبي جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة. حدث عنه أبو الحسين المحاملي القاضي وروى عنه في سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة.
قال محمد بن إسحاق: وكان حافظاً نحوياً بليغاً في نهاية السرو والحرية. وله من الكتب: كتاب النهجة مثال الكامل، كتاب الاستدراك لما أغفله الخليل.
وقال أبو حيان في الإمتاع: وصف جماعة من النحويين أبا سعد السيرافي والرماني وأبا علي الفارسي ثم قال: وأما ابن المراغي قلا يلحق هؤلاء مع براعة اللفظ، وسعة الحفظ، وقوة النفس، وبلل الريق، وغزارة النفث، وكثرة الرواية، ومن نظر في كتاب النهجة له عرف ما أقول، واعتقد فوق ما أصف، ونحل أكثر مما أبذل.
ذكر أبو حيان في كتاب المحاضرات قال: ولما مات المراغي - وكان قدوة في النحو وعلما في الأدب كبيراً مع حداثة سنه ورقة حاله، وإن قلت إني ما رأيت في الأحداث مثله كان كذلك - استرجع أبو سعيد السيرافي واستعبر وأنشد:
من عاش لم يخل من هم ومن حزن ... بين المصائب من دنياه والمحن
وإنما نحن في الدنيا على سفر ... فراحل خلف الباقي على الظعن
وكلنا بالردى والموت مرتهن ... فما نرى فيهما فكا لمرتهن
من الذي أمن الدنيا فلم نحن ... أو الذي اعتز بالدنيا فلم يهن؟
كل يقال له قد كان ثم مضى ... كأن ما كان من دنياه لم يكن
ثم قال: قوموا بنا لتجهيزه وتولية أمره فتبعناه على ذلك، فلما أخرجت جنازته بكى وأنشد:
أساءت بنا الأيام ثمت أحسنت ... وكل من الأيام غير بديع
وما زال صرف مذ كان مولعاً ... بتأليف شتى أو بشت جميع
محمد بن جعفر بن محمد بن هارون
ابن فروة بن ناجية بن مالك، أبو الحسن التميمي النحوي المعروف بابن النجار من أهل الكوفة، ولد سنة ثلاث وثلاثمائة بالكوفة، وقدم بغداد وحدث بها عن ابن دريد ونفطويه والصولي وغيرهم.
قال الخطيب: وهو ثقة، مات في جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعمائة بالكوفة، نقلت ذلك من تاريخ ابن الجوزي، ونقله هو من تاريخ الخطيب حرفاً حرفاً، ونقلت من زيادات الوزير المغربي في فهرست ابن النديم: أنه ولد سنة إحدى عشرة وثلاثمائة قال: وكان من مجودي القراء، أخذ عن النقار وغيره، وكان يقرئ لحمزة والكسائي الغالب في أخذه، ولقي أحمد بن يونس، وروى قراءة عاصم عنه عن الأعشى عن أبي بكر عياش عن عاصم، ولقي من المحدثين القدماء ابن الأشناني الكبير وابن الأشناني القاضي، وابن مروان القطان، وأبا عبيدة وغيرهم. قال: وكنا سمعنا منه: كتاب القراءات، وكتاب مختصر في النحو، وكتاب الملح والنوادر، وكتاب التحف والطرف، وكتاب الملح والمسار، وكتاب روضة الأخبار ونزهة الأبصار، وكتاب تاريخ الكوفة رأيته.
محمد بن جعفر بن محمد الغوري

أبو سعيد، أحد أئمة اللغة المشهورين والأعلام في هذا اللسان المذكورين، صنف كتاب ديوان الأدب في عشرة أجلد ضخمة، أخذ كتاب أبي إبراهيم إسحاق الفارابي المسمى بهذا الاسم وزاد في أبوابه، وأبرزه في أبهى أثوابه، فصار أولى به منه، لأنه هذبه وانتقاه، وزاد فيه ما زينه وحلاه، لم أعرف شيئاً من حاله فأذكره إلا أنه ذكر في أول كتابه بعد البسملة: قال محمد بن جعفر بن محمد المعروف جده بالغوري، ثم ذكر أنه هذب كتاب الفارابي وختم الكلام بأن قال: وأهديته - يعني الكتاب - إلى الدهقان الكبير أبي نصر منصور مولى أمير المؤمنين.

محمد بن أبي جعفر القزاز القيرواني
أبو عبد الله التميمي، كان إماماً علامة قيماً بعلوم العربية، ذكره الحسن بن رشيق في كتاب النموذج فقال: مات بالقيروان سنة اثنتي عشرة وأربعمائة وقد قارب التسعين، وهو جامع كتاب الجامع في اللغة، وهو كتاب كبير حسن متقن يقارب كتاب التهذيب لأبي منصور الأزهري رتبه على حروف المعجم، وكتاب ما يجوز للشاعر استعماله في ضرورة الشعر.
قال ابن رشيق: وكان مهيباً عند الملوك والعلماء وخاصة الناس. محبوباً عند العامة، يملك لسانه ملكاً شديداً وقد مدحه الشعراء فقال فيه يعلى بن إبراهيم الأربسي:
نسجت شعاعاً بيننا منها فبت ... نا جميعنا من تحت ثوب مذهب
فمزجتها من فيه ثم شربتها ... ولثمته برضاب ثغر أشنب
في ليلة للدهر كانت غرة ... يرنو إليها الخطب كالمتعجب
فت الأنام بها كما فت الورى ... سبقاً محمد بالفخار الأغلب
أبداً على طرف السؤال جوابه ... فكأنما هو دفعه من صيب
يغدو مساجلة بغرة صافح ... ويروح معترفاً بذلة مذنب
فالأبعد النائي عليه في الذي ... يفتر كالداني إليه الأقرب
وكان القزاز معجباً بهذه الكلمة ويقول: ما مدحت بأحب إلي منها. وقال الحسن بن رشيق في العمدة: وحاجي شيخنا أبو عبد الله بعض تلاميذه فقال:
أحاجيك عباد كزينب في الورى ... ولم تؤت إلا من صديق وصحب
فأجابه التلميذ في الحال:
سأكتم حتى ما تحس جوارحي ... بما انهل منها في دموعي السواكب
فمعكوس: عباد كزينب: سرك ذائع. وسأكتم: جواب على الظاهر حسن، ومعكوسة منك أتيت، وهو جواب لما حوجي به بديع مقابل، ولم تؤت إلا من صديق وصاحب، تفسير حسن بديع جداً. وشعر أبي عبد الله جيد مطبوع مصنوع، ومن شعره يتغزل:
أما ومحل حبك من فؤادي ... وقدر مكانه فيه المكين
لو انبسطت لي الآمالي حتى ... تصير لي عنانك في يميني
لصنتك في مكان سواد عيني ... وخطت عليك من حذر جفوني
فأبلغ منك غايات الأماني ... وآمن فيك آفات الظنون
فلي نفس تجرع كل حين ... عليك بهن كاسات المنون
إذا أمنت قلوب الناس خافت ... عليك خفي ألحاظ العيون
فكيف وأنت دنياي ولولا ... عقاب الله فيك لقلت ديني
ومن شعره أيضاً:
إذا كان حظي منك لحظة ناظر ... على رقبة لا أستديم لها لحظاً
رضيت بها في مدة الدهر مرة ... وأعظم بها من حسن وجهك لي حظاً!
وله أيضاً:
لو أن لي حكم قلبي فيك أو بصري ... ما استمعت لي عين منك بالنظر
أخشى وأحذر من عيني القريحة ما ... أخشى وأحذره من أعين البشر
ويلاه إن كان حظي فيه مشتركاً ... وكيف يشترك الحيان في عمر؟
يناله وادع لا يستعد له ... ولست أبلغ أولاه من الحذر
وله أيضاً:
أضمروا لي وداً ولا تظهروه ... يهده منكم إلي الضمير
ما أبالي إذا بلغت رضاكم ... في هواكم لأي حال أصير؟
وله أيضاً:
أحين علمت أنك نور عيني ... وأني لا أرى حتى أراكا
جعلت مغيب شخصك عن عياني ... يغيب كل مخلوق سواكا
وله أيضاً:
واحسر تامات أحبابي وخلاني ... وشيب الدهر أترابي وأخداني

وغيرت الأيام خالصتي ... والمنتضي الحر من أهلي وإخواني
ومن تصانيف أبي عبد الله أيضاً: كتاب أدب السلطان والتأدب له عشر مجلدات، كتاب التعريض والتصريح مجلد، كتاب إعراب الدريدية مجلد، كتاب شرح رسالة البلاغة في عدة مجلدات، كتاب أبيات معان في شعر المتنبي، كتاب ما أخذ على المتنبي من اللحن والغلط، كتاب الضاد والظاء مجلد.

محمد بن الجهم بن هارون السمري
أبو عبد الله الكاتب، مات سنة سبع وسبعين ومائتين عن تسع وثمانين سنة، ذكر ذلك أبو بكر بن علي وقال: سمع يعلى بن عبيد الطنافسي، وعبد الوهاب بن عطاء، ويزيد ابن هارون، وآدم بن أبي إياس، وروى عن الفراء تصانيفه. حدث عنه موسى بن هارون الحافظ، والقاسم بن محمد الأنباري، وأبو بكر بن مجاهد المقرئ، ونفطويه، وإسماعيل بن محمد الصغار وغيرهم. وقال الدارقطني: هو ثقة صدوق قال المرزباني: محمد بن الجهم بن هارون السمري أبو عبد الله صاحب الفراء، وروى كتابه في معاني القرآن وهو أحد الثقات من رواة المسند، وهو القائل يمدح الفراء ويصف مذهبه في النحو:
أكثر النحو يزعم الفراء ... من وجوه تأويلهن الجزاء
وهي أبيات يقول فيها:
نحوه أحسن النحو فما في ... ه معيب ولا به إزراء
ليس من صنعة الضعائف لكن ... فيه فقه وحكمة وضياء
حجة توضح الصواب وما قا ... ل سواه فباطل وخطاء
ليس من قال بالصواب كمن قا ... ل بجهل والجهل داء عياء
وكأني أراه يملي علينا ... وله واجباً علينا الدعاء
كيف نومي على الفراش ولما ... يشمل الشام غارة شعواء
تذهل المرء هن بنيه وتبدي ... عن براها العقيلة العذراء
هذان البيتان لعبد الله بن قيس الرقيات ضمنهما.
محمد بن حارث الخشني الأندلسي
صاحب التواريخ، ذكره الحميدي في كتابه فقال: هو من أهل العلم والفضل فقيه محدث، روى عن ابن وضاح ونحوه، وله من الكتب: كتاب أخبار القضاة بالأندلس، كتاب أخبار الفقهاء والمحدثين، كتاب الاتفاق والاختلاف لمالك بن أنس وأصحابه وغير ذلك. ومات في حدود الثلاثين والثلاثمائة، ذكره أبو عمر بن عبد البر، وأبو محمد علي بن أحمد، وأورد عنه أبو سعيد بن يونس في تاريخه وفيات الجماعة من أهل الأندلس ممن مات قبل الثلاثمائة وبعدها بمدة، وقد افصح أبو سعيد باسمه في موضعين من تاريخه في باب السين وباب النون، وما أراه لقيه ولكنه عاصره وكان في زمانه، وإنما يقول فيما يورده عنه: ذكره الخشني في كتابه. وذكر الحميدي في باب محمد بن عبد السلام الخشني: أن عبد الغني بن سعيد الحافظ غلط فيه فقال: محمد بن عبد السلام الخشني صاحب التاريخ، وإنما هو محمد بن حارث فغلط، هذا تلخيص كلام الحميدي لا على وجهه.
محمد بن حبيب أبو جعفر
ذكره المرزباني فقال: قال عبد الله بن جعفر: من علماء بغداد باللغة والشعر والأخبار والأنساب الثقات محمد بن حبيب ويكنى أبا جعفر وكان مؤدباً. ولا يعرف أبوه وإنما نسب إلى أمه وهي حبيب، وهو ممن يروي كتب ابن الأعرابي وابن الكلبي، وقطرب وكتبه صحيحة، وله مصنفات في الأخبار منها: كتاب المحبر والموشي وغيرهما. مات ابن حبيب بسامرا في ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائتين في أيام المتوكل. قال أبو الحسن بن أبي رؤبة: قال أبو رؤبة: عبرت إلى ابن حبيب في مكتبه وكان يعلم ولد العباس بن محمد في شكوك شككت فيها، وروى محمد بن موسى البربري عن ابن حبيب قال: إذا قلت للرجل ما صناعتك؟ فقال معلم فاصفع، وأنشد ابن حبيب:
إن المعلم لا يزال معلماً ... لو كان علم آدم الأسماء
من علم الصبيان صبوا عقله ... حتى بنى الخلفاء والخلفاء

ومحمد بن حبيب مولى لبني هاشم ثم مولى لمحمد بن العباس بن محمد الهاشمي، وأمه مولاة لهم. وقال ابن النديم: نقلت من خط أبي سعيد السكري قال: هو محمد بن حبيب ابن أمية بن عمرو، وكان يروي عن هشام بن الكلبي وابن الأعرابي وقطرب وأبي عبيدة وأبي اليقظان، وأكثر الأخذ عنه أبو سعيد السكري. قال المرزباني: وكان محمد ابن حبيب يغير على كتب الناس فيدعيها ويسقط أسماءهم، فمن ذلك: الكتاب الذي ألفه إسماعيل بن أبي عبيد الله، واسم أبي عبيد الله معاوية، وكنيته هي الغالبة على اسمه فلم يذكرها لئلا يعرف، وابتدأ فساق كتاب الرجل من أوله إلى آخره فلم يخلطه بغيره، ولم يغير منه حرفاً ولا زاد فيه شيئاً، فلما ختمه أتبع ذلك بذكر من لقب من الشعراء ببيت قاله. قال: وما علمت أن أحداً من العلماء صنع صنيعه هذا، ولا من استحسن أن يضع نفسه هذا الموضع القبيح، وأحسب أن الذي حمله على ذلك أن كتاب إسماعيل هذا لم تكثر روايته ولا اتسع ي أيدي الأدباء، فقدر ابن حبيب أن أمره ينستر، وأن إغارته عليه تميت ذكر صاحبه.
وحدث المرزباني عن أحمد بن محمد الكاتب عن علي ابن عبد الله بن المسيب قال: كان علي بن العباس الرومي يختلف إلى محمد بن حبيب، لأن محمداً كان صديقاً لأبيه العباس بن جورجس، وكان يخص علياً لما يرى من ذكائه، فحدث علي عنه أنه كان إذا مر به شيء يستغربه ويستجيده يقول لي: يا أبا الحسن، ضع هذا في تامورك. وحدث أبو بكر بن علي قال: قال أبو طاهر القاضي محمد بن حبيب وهي أمه وهو ولد ملاعنه. وحدث أيضاً فيما أسنده إلى ثعلب قال: حضرت مجلس ابن حبيب فلم يمل فقلت ويحك أمل، مالك؟ فلم يفعل حتى قمت، وكان والله حافظاً صدوقاً، وكان يعقوب أعلم منه، وكان هو أحفظ للأنساب والأخبار منه وهو بغدادي.
وحدث أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي الإشبيلي في كتابه قال: قال ثعلب: أتيت ابن حبيب وقد بلغني أنه يملي شعر حسان بن ثابت، فلما عرف موضعي قطع الإملاء فانصرفت وعدت إليه، وترفقت به فأملي وكان لا يقعد في المسجد الجامع، فعذلته على ذلك حتى قعد جمعة من الجمع واجتمع إليه الناس فسأله سائل عن هذه الأبيات:
أزحنة عني تطردين تبددت ... بلحمك طير طرن كل مطير
ففي لا تزلي زلة ليس بعدها ... جبور وزلات النساء كثير
وإني وإياه كرجلي نعامة ... على كل حال من غنى وفقير
ففسر ما فيه من اللغة، فقيل له كيف قيل: غني وفقير، ولم يقل من غني وفقر. قال: فاضطرب، فقلت للسائل: هذه غريبة، وأنا أنوب عنه وبينت العلة وانصرف، ثم لم يعد للقعود بعد ذلك وانقطعت عنه. قوله رجلي نعامة: إنما شبه به لأنه لا تنوب إحداهما عن الأخرى لأنه لامخ فيها، وسائر الحيوان إذا أعيت إحدى رجليه استعان بالأخرى فيقال هما رجلا نعامة، أي لا غنى لإحداهما عن الأخرى، والأسماء ترد على المصادر والمصادر على الأسماء، لأن المصادر إنما ظهرت لظهور الأسماء وتمكن الإعراب منها.
قال محمد بن إسحاق: ولابن حبيب من الكتب: كتاب النسب، كتاب الأمثال على أفعل ويسمى المنمق، كتاب السعود والعمود، كتاب العمائر والربائع، كتاب الموشح، كتاب المختلف والمؤتلف في أسماء القبائل، كتاب المحبر وهو من جيد كتبه، كتاب المقتني، كتاب غريب الحديث، كتاب الأنواء، كتاب المشجر، كتاب من استجيب دعوته، كتاب الموشى، كتاب المذهب في أخبار الشعراء وطبقاتهم، كتاب نقائض جرير وعمر بن لجأ، كتاب نقائض جرير والفرزدق، كتاب المفوف، كتاب تاريخ الخلفاء كتاب من سمي ببيت قاله، كتاب مقاتل الفرسان، كتاب الشعراء وأنسابهم، كتاب العقل، كتاب كني الشعراء، كتاب السمات، كتاب أيام جرير التي ذكرها في شعره، كتاب أمهات أعيان بني عند المطلب، كتاب المقتبس، كتاب أمهات السبعة من قريش، كتاب الخيل، كتاب النبات، كتاب ألقاب القبائل كلها، كتاب الأرحام التي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه سوى العصبة، كتاب ألقاب اليمن ومضر وربيعة، كتاب القبائل الكبير الأيام جمعه للفتح بن خاقان.

قال محمد بن إسحاق: ورأيت أنا النسخة بعينها في طلحى نيفاً وعشرين جزءاً، وكانت تنقص ما يدل على أنها كانت نحواً من أربعين جزءاً في كل جزء مائتا ورقة وأكثر، ولهذه النسخة فهرست لما تحتوي عليه من القبائل والأيام في طلحى نحو خمسة عشر ورقة. ومن صنعه في أشعار العرب: كتاب ديوان زفر بن الحارث، كتاب شعر الشماخ، كتاب شعر الأقيشر، كتاب شعر الصمة، كتاب شعر لبيد العامري.

محمد بن حرب بن عبد الله النحوي
الحلبي أبو المرجي، أحد أعيان حلب والمشهورين منهم بعلم الأدب، مات بدمشق في سنة إحدى وثمانين أو اثنتين وثمانين، وحدثني ابن الجيراني قال: مات شيخنا بدمشق في سنة ثمانين وخمسمائة.
حدثني كمال الدين أبو القاسم عمر بن أبي جرادة - أدام الله أيامه - قال: حدثني محمد بن عبد الواحد بن حرب الخطيب خطيب قلعة حلب إملاء من لفظه قال: حدثني أبو المرجي محمد بن حرب أبو عبد الله النحوي قال: رأيت في النوم إنساناً ينشدني هذا البيت:
أروم عطا الأيام والدهر مهلكي ... ممر لها والدهر رهن عطاها
فأجزته بأبيات:
أيا طالب الدنيا الدنية إنها ... سترديك يوماً إن علوت مطاها
صن النفس لا تركن إليها فإن أبت ... فردد عليها آي آخر طه
ودع روضي الآمال والحرص إنه ... إذا ردع النفس الهدى سطاها
فلا بد يوماً أن تلم ملمة ... فتبسط منا عقدة نشطاها
أنشدني الأخ أبو القاسم أحمد بن هبة الله سعد الجيراني النحوي الحلبي قال: أنشدني شيخي أبو المرجي محمد بن حرب الأنابي، وأناب قرية من بلد أعزاز من نواحي حلب لنفسه في صفة الرمان:
ولما فضضت الختم عنهن لا ح لي ... فصوص عقيق في بيوت من التبر
ودر ولكن لم يدنسه غائص ... وماء ولكن في مخازن من جمر
وأنشدني قال: أنشدني المذكر لنفسه:
لما بدا ليل عارضيه لنا ... يحكي سطوراً كتبن بالمسك
تلا علينا العذار سورة وال ... ليل وغنى لنا قفا نبك
وأنشدني له:
تجل سنا شمعه تشابهني ... وقداً ولوناً وأدمعاً وفنا
قال: وله أرجوزة في مخارج الحروف.
محمد بن حسان النملي يكنى أبا حسان
أحد الكتاب الطياب والأدباء، وكان في أيام المتوكل وله معه أحاديث، وله كتاب برجان وحباحب وهو كبير في أخبار النساء والباه، كتاب آخر صغير في هذا المعنى، كتاب البغاء، كتاب السحق، كتاب خطاب المكاري لجارية البقال.
محمد بن حسان الضبي أبو عبد الله
كان نحوياً فاضلاً وأديباً شاعراً، وكان يؤدب العباس ابن المأمون وغيره من ولده فماتوا فقال يرثيهم:
خل دمع العين ينهمل ... بان من أهواه فاحتملوا
كل دمع صانه كلف فهو يوم البين مبتذل
يا أخلائي الذين نأت ... بهم الطيات وانتقلوا
قد أبى أن ينثني بكم ... أوبة يحيا بها الأمل
وحدث شباب العصفري قال: ولي المأمون محمد بن حسان الضبي مظالم الجزيرة وقنسرين والعواصم والثغور سنة خمس عشرة ومائتين، ثم زاده بعد ذلك مظالم الموصل وأرمينية قال: وولي المعتصم محمد بن الحسن مظالم الرقة في سنة أربع وعشرين ومائتين إلى أن توفي المعتصم فأقره الواثق عليها.
وحدث المرزباني بإسناده قال: قدم محمد بن حسان الضبي على أبي المغيث الرافقي فمدحه فوعده بثواب فتأخر عنه فكتب إليه محمد:
عذبت بالمطل وعدً رف مورقه ... حتى لقد جف منه الماء والعود
سقيا للفظك ما أحلى مخارجه ... لولا عقارب في أثنائه سود
فلما قرأها أبو المغيث تبسم وأجابه:
لا تعجلن على لومي فقد سبقت ... مني إليك بما تهوى المواعيد
فإن صبرت أتاك النجح عن كثب ... وكل طالعة سعد ومسعود
وفي الكريم أناة ربما اتصلت ... إن لم يعامل بصبر أيبس العود
وعجل له صلته. وقال أبو الحسن بن البراء: أنشدني محمد ابن حسان الضبي لنفسه:
كتمت الهوى حتى بدا السقم ظاهراً ... وحتى جرى دمعي يسيل بدارا
وأخفيت من أهوى وألقيت دونه ... من الحب أستاراً فعدن جهارا

وله أيضاً في رواية المرزباني:
ففيم أجن الصبر والبين حاضر ... وأمنع تذراف الدموع السواكب
وقد فرقت جمع الهوى طية النوى ... وغودرت فرداً شاهداً مثل غائب

محمد بن الحسن بن أبي سارة الرؤاسي
يكنى أبا جعفر، هو ابن أخي معاذ الهراء، وهم من موالي محمد بن كعب القرظي قال: وسمي الرؤاسي لكبر رأسه، وكان ينزل النيل فقيل له النيلي، وكان أول من وضع من الكوفيين كتاباً في النحو، ومات في أيام الرشيد.
قال أحمد بن يحيى تغلب: كان الرؤاسي أستاذ علي بن حمزة الكسائي والفراء. قال الفراء: فلما خرج الكسائي إلى بغداد قال لي الرؤاسي: قد خرج الكسائي وأنت أسن منه، فجئت إلى بغداد فرأيت الكسائي فسألته عن مسائل الرؤاسي فأجابني بخلاف ما عندي، فغمرت عليه قوماً كوفيين كانوا معي فرآني فقال لي: مالك قد أنكرت؟ لعلك من أهل الكوفة، قلت نعم. قال: الرؤاسي يقول كذا وكذا وليس صواباً. وسمعت العرب تقول كذا وكذا حتى أتى على مسائلي فلزمته. قال: وكان الرؤاسي رجلاً صالحاً وقال: بعث الخليل إلي يطلب كتابي فبعثت به إليه فقرأه قال: وكل ما في كتاب سيبويه وقال الكوفي كذاً فإنما يعني الرؤاسي. قال: وكتاب الرؤاسي يقال له الفيصل. وزعم ثعلب أن أول من وضع من الكوفيين كتاباً في النحو أبو جعفر الرؤاسي، وكان له كتاب معروف عندهم يقدمونه. وقال سلمة: سئل الفراء عن الرؤاسي فأثنى عليه وقال: قد كان دخل البصرة دخلتين، وقل مقامه بالكوفة فلذلك قل أخذ الناس عنه قال: وقال المبرد: ما عرف الرؤاسي بالبصرة، وقد زعم بعض الناس أنه صنف كتاباً في النحو فدخل البصرة ليعرضه على أصحابنا فلم يلتفت إليه، أو لم يجسر على إظهاره ولما سمع كلامهم.
وقال ابن درستويه: وزعم جماعة من البصريين أن الكوفي الذي يذكره الأخفش في آخر كتاب المسائل ويرد عليه هو الرؤاسي.
حدث محمد بن جعفر الأشعثي عن الرؤاسي قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي: إن لي تجارة بالنيل أفأشتري بالنيل داراً؟ فقال: اشتر ما ينفعك، فرب عزلة كانت داعية خير، وإياك وجميع ما يعنيك، فأما لا يعنيك فإياك وإياه.
وحدث عبد الله بن جعفر عن علي بن المبارك الأحمر عن الكسائي قال: كان للرؤاسي امرأة من أهل النيل تزوجها بالكوفة وانتقلت إليه من النيل وشرطت عليه أنها تلم بأهلها في كل مدة فكانت لا تقيم عنده إلا القليل، ثم يحتاج إلى إخراجها وردها فمل ذلك منها وفارقها وقال فيها:
بانت لمن تهوى حمول ... فأسفت في أثر الحمول
أتبعتهم عيناً علي ... هم ما تفيق من الهمول
ثم ارعويت كما ارعوى ... عنها المسائل للطلول
لاحت مخائل خلفها ... وخلافها دون القبول
ملت وأبدت جفوة ... لا تركنن إلى ملول
ولأبي جعفر الرؤاسي قصيدة منها:
ألا يا نفس هل لك في صيام ... عن الدنيا لعلك تهتدينا
يكون الفطر وقت الموت منها ... لعلك عنده تستبشرينا
أجيبيني هديت وأسعفيني ... لعلك في الجنان تخلدينا
وحدث أبو الطيب اللغوي في كتاب المراتب قال: وممن أخذ عن أبي عمرو بن العلاء من أهل الكوفة أبو جعفر الرؤاسي عالم أهل الكوفة إلا أنه ليس بنظير لمن ذكرنا ولا قريباً منهم، وكان ذكر يونس بن حبيب وعيسى بن عمر والخليل بن أحمد ونظائرهم قال: وقال أبو حاتم: كان بالكوفة نحوي يقال له أبو جعفر الرؤاسي وهو مطروح العلم ليس بشيء.
وقال محمد بن إسحاق في الكتاب الذي ألفه في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة: وللرؤاسي من الكتب: كتاب الفيصل رواه جماعة وهو يروي إلى اليوم، كتاب معاني القرآن، كتاب التصغير، كتاب الوقف والابتداء الكبير، كتاب الوقف والابتداء الصغير.
محمد بن الحسن بن دينار الأحول
أبو العباس، كان غزير العلم واسع الفهم جيد الدراية حسن الرواية. روي عنه أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي وقرأ عليه ديوان عمرو بن الأهتم في سنة خمسين ومائتين.

قال أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي المعروف بنفطويه: جمع أبو العباس محمد بن الحسن بن دينار الأحوال أشعار مائة شاعر وعشرين شاعراً، وعلمت أنا خمسين شاعراً. وذكره أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي وجعله في طبقة المبرد وثعلب. وحدث المرزباني أنه كان وراقاً يورق لحنين بن إسحاق المتطبب في منقولاته لعلوم الأوائل، وكان ممدودأ أي قليل الحظ من الناس، وحدث عن علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني محمد بن الحسن الأحول قال: اجتمعنا مع أبي العباس ثعلب في بيته وحضر ابن بوكران رجل من أهل الأدب فقال بعض أصحابنا: عرفوني ألقابكم. فقال ثعلب: أنا ثعلب، وقال الآخر: أنا كذا، والآخر أنا كذا، فلما بلغوا إلي قالوا: وأنت ما لقبك؟ فقلت منعت العاهة من اللقب.
وحدث المرزباني عن نفطويه قال: كان أبو العباس الأحول يقول: لم يزلوا، وكذا رد علي فقلت له: لم يزالوا أراد أنه كان لحاناً. وحدث عن أبي عبد الله اليزيدي قال: كان أبو العباس الأحول يكتب لي مائة ورقة بعشرين درهماً. وقال محمد بن إسحاق النديم: كان محمد بن الحسن الأحول ناسخاً وله من الكتب: كتاب الدواهي، كتاب السلاح، كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه، كتاب فعل وأفعل، كتاب الأشباه، وجمع كما تقدم دواوين مائة وعشرين شاعراً.

محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية
ابن حنتم بن حمامي بن واسع بن وهب بن سلمة بن حنتم ابن حاضر بن جشم بن ظالم بن أسد بن عدي بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهير - ويقال: زهران - ابن كعب بن الحارث بن عبد الله بن مالك بن نضر بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشجب ابن يعرب بن قحطان.
مات بوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وفي هذا اليوم مات أبو هاشم عبد السلام بن محمد الجبائي فقيل: مات علما اللغة والكلام ودفنا جميعاً في مقبرة الخيزران. وقال المرزباني: دفن بالعباسية من الجانب الشرقي في ظهر سوق السلاح من الشارع الأعظم. وقال التنوخي ورجاله: دفن ابن دريد بظهر السوق الجديد المعروفة بمقابر العباسية من الجانب الشرقي، ومولده البصرة في سكة صالح في خلافة المعتصم سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وبالبصرة تأدب وعلم اللغة وأشعار العرب، وقرأ على علماء البصرة ثم صار إلى عمان فأقام بها مدة، ثم صار إلى جزيرة ابن عمر ثم صار إلى فارس فسكنها مدة ثم قدم بغداد فأقام بها إلى أن مات.
وحدث أبو بكر بن علي قال: أبو بكر بن دريد بصري المولد ونشأ بعمان وتنقل في جزائر البحر والبصرة وفارس وطلب الأدب وعلم العربية، وكان أبوه من الرؤساء وذوي اليسار، وورد بغداد بعد أن أسن فأقام بها إلى آخر عمره. وروى عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعي وأبي حاتم السجستاني، وأبي الفضل الرياشي. وكان رأس أهل العلم. وروى عنه خلق منهم أبو سعيد السيرافي، وأبو عبيد الله المرزباني، وأبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني، وله شعر كثير، وروي من أخبار العرب وأشعارهم ما لم يروه كثير من أهل العلم.
وقال أبو الطيب اللغوي في كتاب مراتب النحويين عند ذكر ابن دريد: هو الذي انتهت إليه لغة البصريين، وكان أحفظ الناس وأوسعهم علماً وأقدرهم على شعر، وما ازدحم العلم والشعر في صدر أحد ازدحامهما في صدر خلف الأحمر وابن دريد. وتصدر ابن دريد في العلم ستين سنة. وأول شعر قاله:
ثوب الشباب علي اليوم بهجته ... فسوف تنزعه عني يد الكبر
أنا ابن عشرين ما زادت ولا نقصت ... إن ابن عشرين من شيب على خطر
وكان يقال: ابن دريد أشعر العلماء وأعلم الشعراء. قال الخطيب: وقال محمد بن دريد: كان أول من أسلم من آبائي حمامي وهو من السبعين راكباً الذين خرجوا مع عمرو بن العاص من عمان إلى المدينة لما بلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليهم وسلم حتى أدوه وفي ذلك يقول قائلهم:
وفينا لعمرو يوم عمرو كأنه ... طريد نفته مذحج والسكاسك
وحدث أبو علي التنوخي قال: حدثني جماعة أن ابن دريد قال: كان أبو عثمان الاشنانداني معلمي، وكان عمي الحسين ابن دريد يتولى تربيتي، فكان إذا أراد الأكل استدعى أبا عثمان ليأكل معه، فدخل يوماً عمي وأبو عثمان يرويني قصيدة الحارث بن حلزة التي أولها:

آذنتنا ببينها أسماء
فقال لي عمي: إذا حفظت هذه القصيدة وهبت لك كذا وكذا، ثم دعا المعلم ليأكل معه فدخل إليه فأكلا وتحدثا بعد الأكل ساعة، فإلى أن رجع المعلم حفظت ديوان الحارث بن حلزة بأسره فخرج المعلم فعرفته ذلك فاستعظمه وأخذ يعتبره علي فوجدني قد حفظته، فدخل إلى عمي فأخبره فأعطاني ما كان وعدني به.
قال الخطيب عمن رأى ابن دريد إنه قال: كان ابن دريد واسع الحفظ جداً ما رأيت أحفظ منه وكانت تقرأ عليه دواوين العرب كلها أو أكثرها فيسابق إلى إتمامها وتحفظها، وما رأيته قط قرئ عليه ديوان شاعر إلا وهو يسابق إلى روايته لحفظه له. قال: وسئل عنه الدارقطني فقال: قد تكلموا فيه. قال: وقال أبو ذر عبد الله بن أحمد الهروي: سمعت ابن شاهين يقول: كنا ندخل على ابن دريد ونستحي منه لما نرى من العيدان المعلقة، والشراب المصفى موضوع وقد كان جاوز التسعين سنة. هذا كله من كتاب أبي بكر بن علي.
وقال أبو منصور الأزهري في مقدمة كتاب التهذيب: وممن ألف في زماننا الكتب فرمى بافتعال العربية وتوليد الألفاظ وإدخال ما ليس من كلام العرب في كلامها: أبو بكر محمد بن دريد صاحب كتاب الجمهرة، وكتاب اشتقاق الأسماء، وكتاب الملاحن، وقد حضرته في داره ببغداد غير مرة فرأيته يروي عن أبي حاتم والرياشي وعبد الرحمن بن أخي الأصمعي. وسألت إبراهيم بن محمد بن عرفة عنه فلم يعبأ به ولم يوثقه في روايته، وألفيته أنا على كبر سنه سكران لا يكاد يستمر لسانه على الكلام من سكره، وقد تصفحت كتابه الذي أعاره اسم الجمهرة فلم أردلا على معرفة ثاقبة ولا قريحة جيدة، وعثرت من هذا الكتاب على حروف كثيرة أنكرتها ولم أعرف مخارجها فأثبتها في كتابي في مواقعها منه لأبحث أنا وغيري عنها.
وقال أبو ذر الهروي: سمعت أبا منصور الأزهري يقول: دخلت على ابن دريد فرأيته سكران فلم أعد إليه. وقال غير أبي منصور: كان ابن دريد قد أملى الجمهرة في فارس ثم أملاها بالبصرة وببغداد من حفظه قال: فلذلك قلما تتفق النسخ وتراها كثيرة الزيادة والنقصان، ولما أمله بفارس غلامه تعلم من أول الكتاب، والنسخة التي عليها المعول هي الأخيرة، وآخر ما صح من النسخ: نسخة أبي الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي جخجخ لأنه كتبها من عدة نسخ وقرأها عليه.
وحدث المرزباني قال: قال ابن دريد: خرجت أريد زهران بعد دخول البصرة فمررت بدار كبيرة قد خربت فكتبت على حائطها:
أصبحوا بعد جميع فرقاً ... وكذا كل جميع مفترق
فمضيت ورجعت فإذا نحته مكتوب:
ضحكوا والدهر عنهم صامت ... ثم أبكاهم دماً حين نطق
قال: وخرجنا نريد عمان في سفر لنا فنزلنا بقرية تحت نخل فإذا بفاختتين تتزاقان فسنح لي أن قلت:
أقول لورقاوين في فرع نخلة ... وقد طفل الإمساء أو جنح العصر
وقد بسطت هاتا لتلك جناحها ... ومر على هاتيك من هذه النحر
ليهنكما أن لم تراعا بفرقة ... وما دب في تشتيت شملكما الدهر
فلم أر مثلي قطع الشوق قلبه ... على أنه يحكي قساوته الصخر
قال: وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: سقطت من منزلي بفارس فانكسرت ترقوتي فسهرت ليلي فلما كان في آخر الليل حملتني عيناي فرأيت في نومي رجلاً طويلاً أصفر الوجه كوسجا دخل علي وأخذ بعضادتي الباب وقال: أنشدني أحسن ما قلت في الخمر. فقلت: ما ترك أبو نواس شيئاً. فقال: أنا أشعر منه. فقلت: ومن أنت؟ قال: أبو ناجية من أهل الشام ثم أنشدني:
وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... بدت بين ثوبي نرجس وشقائق
حكت وجنة المعشوق صرفاً فسلطوا ... عليها مزاجاً فاكتست لون عاشق
فقلت له: أسأت. قال ولم؟ قلت: لأنك قلت وحمراء فقدمت الحمرة ثم قلت: بدت بين ثوبي نرجس وشقائق، فقدمت الصفرة، فألا قدمتها على الأخرى كما قدمتها على الأولى؟ فقال: وما هذا الاستقصاء في هذا الوقت يا بغيض؟.
وحدث قال: كتب ابن دريد إلى ابن أبي علي أحمد بن محمد بن رستم:
حجابك صعب يجبه الحر دونه ... وقلبي إذا سيم المذلة أصعب
وما أزعجتني نحو بابك حاجة ... فأجشم نفسي رجعة حين أحجب

وحدث أيضاً قال: وعد أبو بكر أبا الحسين عمر بن محمد ابن يوسف القاضي أن يصير إليه فقطعه المطر فكتب إليه أبو بكر:
مناويك في بذل النوال وإنه ... ليعجز عن أدني مداك ويحسر
عداني عن حظي الذي لا أبيعه ... بأنفس ما يحظى به المتخير
لم الغيث واعذر من لقاؤك عنده ... يعادل نيل الخلد بل هو أكبر
فأجابه أبو الحسين:
على الرسل في بري فقد عظم الشكر ... ولم أك ذا شكر وإن جل ما يعرو
مدائح مثل الغيث جادت عيونها ... سحاب توالي من جوانبها قطر
ومن شعر أبي بكر بن دريد:
عانقت منه وقد مال النعاس به ... والكأس تقسم سكراً بين جلاسي
ريحانة ضمخت بالمسك ناضرة ... تمج برد الندى في حر أنفاسي
وله يرثي عبد الله بن عمارة:
بنفسي ثرى ضاجعت في بيته البلى ... لقد ضم منك الغيث والليث والبدرا
فلو أن حيا كان قبراً لميت ... لصيرت أحشائي لأعظمه قبرا
ولو أن عمري كان طوع إرادتي ... وساعدني المقدار قاسمتك العمرا
وما خلت قبراً وهو أربع أذرع ... يضم ثقال المزن والطود والبحرا
وحدث الخطيب فيما أسنده إلى إسماعيل بن سويد: أن سائلاً جاء إلى ابن دريد فلم يكن عنده غير دن نبيذ فوهبه له فجاء غلامه وأنكر عليه ذلك فقال: أي شيء أعمل؟ لم يكن عندي غيره، ثم تلا قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون). فما تم اليوم حتى أهدى له عشرة دنان فقال الغلام: تصدقنا بواحد وأخذنا عشرة.
وقال جحظة يرثيه:
فقدت بابن دريد كل منفعة ... لما غدا ثالث الأحجار والترب
وكنت أبكي لفقد الجود مجتهداً ... فصرت أبكي لفقد الجود والأدب
وقال محمد بن إسحاق: ولابن دريد من الكتب: كتاب الجمهرة في اللغة، كتاب المجتني، كتاب الأمالي، كتاب اشتقاق أسماء القبائل، كتاب الملاحن، كتاب المقتبس، كتاب المقصور والممدود، كتاب الوشاح على حذو المحبر لابن حبيب، كتاب الخيل الكبير، كتاب الخيل الصغير، كتاب الأنواء، كتاب السلاح، كتاب غريب القرآن لم يتم، كتاب فعلت وأفعلت، كتاب أدب الكاتب، كتاب تقويم اللسان على مثال كتاب ابن قتيبة ولم يجرده من المسودة فلم يجرده منه شيء يعول عليه، كتاب المطر.
وقال أبو الحسن الدريدي: حضرت وقد قرأ أبو علي بن مقلة وأبو حفص كتاب المفضل بن سلمة الذي يرد فيه على الخليل بن أحمد، على أبي بكر بن دريد فكان يقول: صدق أبو طالب، في شيء إذا مر به كذب أبو طالب في شيء آخر، ثم رأيت هذا الكلام وقد جمعه أبو حفص في نحو المائة ورقة وترجمه بالتوسط.
ومن شعر ابن دريد:
وقد ألفت زهر النجوم رعايتي ... فإن غبت عنها فهي عني تسأل
يقابل بالتسليم منهن طالع ... ويومئ بالتوديع منهن آفل
وأما مقصورة ابن دريد المشهور فإنه قالها يمدح بها الأمير أبا العباس إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن ميكال بن عبد الواحد بن جبريل بن القاسم بن بكر بن ديواستي، وهو سور بن سور بن سور بن سور أربعة الملوك ابن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور قالها فيه وفي أبيه، وكان الأمير أبو العباس رئيس نيسابور ومتقدمها، وذكر أبو علي البيهقي المعروف بالسلامي في كتاب النتف والطرف: أن ابن دريد صنف كتاب الجمهرة للأمير أبي العباس إسماعيل بن عبد الله ابن ميكال أيام مقامه بفارس فأملاه عليه إملاء ثم قال: حدثني أبو العباس الميكالي قال: أملي على أبو بكر الدريدي كتاب الجمهرة من أوله إلى آخره حفظاً في سنة سبع وتسعين ومائتين، فما رأيته استعان عليه بالنظر في شيء من الكتب إلا في باب الهمزة واللفيف فإنه طالع له بعض الكتب قال: وكفاك بها فضيلة وعجيبة أن يتمكن الرجل من علمه كل التمكن ثم لا يسلم مع ذلك من الألسن حتى من قيل فيه:
ابن دريد بقره ... وفيه عي وشره
ويدعي من حمقه ... وضع كتاب الجمهرة
وهو كتاب العين إلا ... أنه قد غيره

وقد ذكرت هذه الحال في أخبار أبي العباس إسماعيل ابن عبد الله بأبسط من هذا. وكتب ابن دريد إلى عيسى بن داود الجراح الوزير:
أبا حسن والمرء يخلق صورة ... تنم على ما ضمنته الغرائز
إذا كنت لا ترجى لنفع معجل ... وأمرك بين الشرق والغرب جائز
ولم تك يوم الحشر فينا مشفعاً ... فرأى الذي يرجوك للنفع عاجز
على بن عيسى خير يوميك أن ترى ... وفضلك مأمول ووعدك ناجز
وإني لأخشى بعد هذا بأن ترى ... وبين الذي تهوى وبينك حاجز
قرأت بخط أبي سعد السمعاني من المذيل بإسناد أن ابن دريد قال:
ودعته حين لا تودعه ... روحي ولكنها تسير معه
ثم افترقنا وفي القلوب لنا ... ضيق مكان وفي الدموع سعه
قال أبو هلال: أخبرنا أو بأحمد قال: كنا في مجلس ابن دريد وكان يتضجر ممن يخطئ في قراءته، فحضر غلام وضئ فجعل يقرأ ويكثر الخطأ وابن دريد صابر عليه، فتعجب أهل المجلس فقال رجل منهم: لا تعجبوا فإن في وجهه غفران ذنوبه، فسمعها ابن دريد فلما أراد أن يقرأ قال له: هات يا من ليس في وجهه غفران ذنوبه، فعجبوا من صحة سمعه مع علو سنه. قال: وقال بعضهم في مجلس ابن دريد:
من يكن للظباء طالب صيد ... فعليه بمجلس ابن دريد
إن فيه لأوجهاً قيدتني ... عن طلاب العلا بأوثق قيد
قال الرصافي: حدثنا بعض أصابنا قال: حضرت مجلس أبي بكر بن دريد وقد سأله بعض الناس عن معنى قول الشاعر:
هجرتك لا قلي مني ولكن ... رأيت بقاء ودك في الصدود
كهجر الحائمات الورد لما ... رأت أن المنية في الورود
تفيض نفوسها ظمأ وتخشى ... حماماً فهي تنظر من بعيد
فقال: الحائم: الذي يدور حول الماء ولا يصل إليه، يقال: حام يحوم حياماً.
ومعنى الشعر أن الأيائل تأكل الأفاعي في الصيف فتحمى فتلتهب بحرارتها وتطلب الماء، فإذا وقعت عليه امتنعت من شربه وحامت حوله تنسمه، لأنها إن شربته في تلك الحال صادف الماء السم الذي في جوفها فتلفت، فلا تزال تدفع بشرب الماء حتى يطول بها الزمان فيسكن ثوران السم ثم تشربه فلا يضرها. ويقال: فاظ الميت وفاضت نفسه وفاظت نفسه أيضاً، جائز عند الجميع إلا الأصمعي فإنه يقول: فاظ الميت، فإذا ذكر النفس قال فاضت نفسه بالضاد ولم يجمع بين الظاء والنفس.
وحدث أبو علي المحسن، حدثني أبو القاسم الحسن بن علي ابن إبراهيم بن خلاد الشاهد العكبري إمام الجامع فيها، حدثني أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال: كنت بعمان مع الصلت بن مالك الشاري وكانت الشراة تدعوه أمير المؤمنين، وكانت السنة كثيرة الأمطار ودامت على الناس فكادت المنازل أن تتهدم، فاجتمع الناس وصاروا إلى الصلت وسألوه أن يدعوا لهم فأجل بهم أن يركب من الغد إلى الصحراء ويدعوا فقال لي بكرة: لتخرج معي في غد فبت مفكراً كيف يدعو؟ فلما أصبحت خرجت معه فصلى بهم وخطب ودعا فقال: اللهم إنك أنعمت فأوفيت، وسقيت فأرويت، فعلى القيعان ومنابت الشجر، وحيث النفع لا الضرر، فاستحسنت ذلك منه. وقال ابن دريد في النرجس:
عيون ما يلم بها الرقاد ... ولا يمحو محاسنها السهاد
إذا ما الليل صافحها استهلت ... وتضحك حين ينحسر السواد
لها حدق من الذهب المصفى ... صياغة من يدين له العباد
وأجفان من الدر استفادت ... ضياء مثله لا يستفاد
على قضب الزبرجد، في ذراها ... لأعين من يلاحظها مراد

قرأت في كتاب التحبير وهو ما أخبرنا به الشريف افتخار الدين أبو هاشم عبد المطلب بن الفضل بن عبد المطلب الهاشمي إذناً، قال أبو سعد السمعاني إجازة إن لم يكن سماعاً قال: سمعت الأمير أبا نصر أحمد بن الحسين بن أحمد بن عبيد الله ابن أحمد بن الميكالي يقول: تذاكرنا المتنزهات يوماً وابن دريد حاضر فقال بعضهم: أنزه الأماكن غوطة دمشق. وقال آخرون: بل نهر الأبلة؟ وقال آخرون: بل سغد سمرقند. وقال بعضهم بل نهر نهروان بغداد. وقال بعضهم: شعب بوان بأرض فارس. وقال بعضهم: نوبهار بلخ. فقال: هذه منتزهات العيون، فأين أنتم عن متنزهات القلوب؟ قلنا وما هي يا أبا بكر؟ قال: عيون الأخبار للقتيبي، والزهرة لابن داود، وقلق المشتاق لابن أبي طاهر، ثم أنشأ يقول:
ومن تك نزهته قينة ... وكأس تحت وكأس تصب
فنزهتنا واستراحتنا ... تلاقي العيون ودرس الكتب
وقرأت في التاريخ الذي ألفه أبو محمد عبد الله بن أبي القاسم عبد المجيد بن بشران الأهوازي قال: وفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة مات أبو أحمد حجر بن أحمد الجويمي وكان من أهل الفضل بجويم ونواحي فارس، وقد خلف القراء بها فمدحه جماعة من الشعراء وقصده من انتفع به، ولأبي بكر بد دريد فيه مدائح منها:
نهنه بوادر دمعك المهراق ... أي ائتلاف لم ير ع بفراق؟
حجر بن أحمد فارع الشرف الذي ... خضعت لعزته طلى الأعناق
قبل أنامله فلسن أناملاً ... لكنهن مفاتح الأرزاق
وانظر إلى النور الذي لو أنه ... للبدر لم يطبع برين محاق

محمد بن الحسن بن سهل
المعروف بشيملة الكاتب، وشيلمة لقب لمحمد هذا، وأبوه الحسن بن سهل هو الوزير المعروف، أخو الفضل بن سهل مات محروقاً، وكان شيلمة أولاً مع العلوي صاحب الزنج، ثم صار إلى بغداد وأومن ثم خلط وسعى لبعض الخوارج فحرقه المعتضد حياً وكان مصلوباً على عمود خيمة، ذكر ذلك محمد بن إسحاق وقال: له من الكتب المصنفة: كتاب أخبار صاحب الزنج، كتاب رسائله.
حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق قال: حدثني أبي قال: كنت أكتب لبدر اللاني في أيام الموفق وابنه المعتضد بالله وأدخل الدار معه، فرأيت محمد بن الحسن بن سهل المعروف بشيلمة وقد جعله كردناكاً قال: قلت له وكيف كان ذلك وما كان سببه؟ فقال: إن رجلاً من أولاد الواثق كان يسكن مدينة المنصور سعى في طلب الخلافة هو وشيلمة ليستوزره، وأخذ له البيعة على أكثر أهل الحضرة من الهاشميين والقضاة والقواد والجيش وأهل بغداد والأحداث وأهل العصبية وقوى أمره وانتشر خبره، وهم بالظهور في المدينة والاعتصام بها حتى إذا أخذ المعتضد صار إلى دار الخلافة، فبلغ المعتضد الخبر على شرحه إلا اسم المستخلف فكبس شيلمة وأخذ فوجد في داره جرائد بأسماء من بايع، وبلغ الخبر الهاشمي فهرب وأمر المعتضد بالجرائد فأحرقت ظاهراً ولم يقف على شيء منها لئلا يفسد قلوب الجيش بوقوفه عليها لما يعتقدون من فساد نيته عليهم، وأخذ يسائل شيلمة عن الخبر، فصدقه عن جميع ما جرى إلا اسم الرجل الذي يستخلف، فرفق به ليصدقه عنه فلم يفعل، فطال الكلام بينهما فقال له شيلمة: والله لو جعلتني كردناكاً ما أخبرتك باسمه قط. فقال المعتضد للفراشين: هاتوا أعمدة الخيم الكبار الثقال وأمر أن يشد عليها شداً وثيقاً وأحضروا فحماً عظيماً وفرش على الطوابيق بحضرته وأججوا ناراً، وجعل الفراشون يقلبون تلك النار وهو مشدود على الأعمدة إلى أن مات وأخرج من بين يديه ليدفن فرأيته على هذه الصورة.
محمد بن الحسن بن رمضان النحوي
له من الكتب فيما ذكره محمد بن إسحاق: كتاب أسماء الخمر وعصيرها، كتاب الديرة.
محمد بن الحسن بن محمد بن زياد
ابن هارون بن جعفر بن سند النقاش الشعراني الدارقطني أبو بكر المقرئ، مات فيما ذكره الخطيب يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شوال سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، ومولده سنة ست وستين وستمائة، ودفن في داره بدار القطن. قال أبو بكر: وأصله من الموصل.

ويقال: إنه مولى أبي دجانة سماك بن خرشة الأنصاري وكان حافظاً للتفسير، صنف فيه كتاباً سماه شفاء الصدور، وله تصنيف في القراءات وغيرها من العلوم، وكان قد سافر الكثير شرقاً وغرباً، وكتب بالكوفة والبصرة ومكة ومصر والشام والجزيرة والموصل والجبال وبلاد خراسان وما وراء النهر وحدث عن خلق كثير، وروى عنه أبو بكر ابن مجاهد والدارقطني وأبو حفص بن شاهين قال: وحدثنا عنه أبو الحسن بن رزقويه وجماعة آخرهم أبو علي بن شاذان وفي حديثه مناكير بأسانيد مشهورة. قال: حدثني عبيد الله بن أبي الفتح عن طلحة بن محمد بن جعفر أنه ذكر النقاش فقال: كان يكدب في الحديث والغالب عليه القصص؟ قال: وسألت البرقاني عنه فقال: كل حديثه منكر. قال: وحدثني من سمع أبا بكر البرقاني وذكر تفسير النقاش فقال: ليس فيه حديث صحيح.
وقال هبة الله بن الحسن الطبري وذكر تفسير النقاش فقال: ذاك إشفاء الصدور وليس شفاء الصدور. هذا كله من تاريخ أبي بكر بن علي.
وقال محمد بن إسحاق: له من الكتب: كتاب الإشارة في غريب القرآن، كتاب الموضح في معاني القرآن، كتاب المناسك، كتاب فهم المناسك، كتاب أخبار القصاص، كتاب ذم الحسد، كتاب دلائل النبوة، كتاب الأبواب في القرآن، كتاب إرم ذات العماد، كتاب المعجم الأوسط، كتاب المعجم الأصغر، كتاب المعجم الأكبر في أسماء القراء وقراءاتهم، كتاب السبعة الأوسط، كتاب السبعة الأصغر، كتاب التفسير الكبير اثنا عشر ألف ورقة، كتاب العقل، كتاب ضد العقل.
حدث القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن زياد النقاش المقرئ قال: لقيت رقعة قد رفع فيها إلى القاضي أبي بكر أحمد بن موسى الأنطاكي:
أيهذا القاضي الكبير بعدل ... صانك الله عن مقام الدنات
أيكون القصاص في فتك لحظ ... من غزال مورد الوجنات؟
أم يخاف العذاب من هو صب ... مبتلي بالزفير والحسرات؟
ليس إلا العفاف والصوم والنس ... ك له زاجر عن الشبهات
فأخذ الرقعة وكتب على ظهرها:
يا ظريف الصنيع والآلات ... وعظيم الأشجان واللوعات
إن تكن عاشقاً فلم تأت ذنباً ... بل ترقبت رفعة الدرجات
فلك الحق واجباً إن عرفنا ... من تعلقته من الحجرات
أن أكون الرسول جهراً إليه ... إذ تنكبت موبق الشبهات
ومتى أقصى بالقصاص على لح ... ظ حبيب أخطئ طريق القضاة

محمد بن الحسن بن جمهور القمي الكاتب
أبو علي. قال أبو علي التنوخي: وكان من شيوخ أهل الأدب بالبصرة وكثر الملازمة لأبي، وحرر لي خطى لما قويت على الكتابة لأنه كان جيد الخط حين الترسل كثير المصنفات لكتب الأدب، فكثرت ملازمتي له، وكان يمدح أبي فأنشدني لنفسه وه من مشهور شعره:
إذا تمنع صبري ... وضاق بالهجر صدري
ناديت والليل داج ... وقد خلوت بفكري
يا رب هب لي منه ... وصال يوم بعمري
وأنشدني أيضاً لنفسه:
كثرت عندي أيادي ... ك فجل الوصف عنها
فأحاطت بجميع ال ... فهم حتى لم أبنها
فمتى ازددتك منها ... كنت كالناقص منها
قلت أنا: وهو صاحب النوادر مع زادمهر المغنية جارته المنصورية.
محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن

ابن الحسين بن محمد بن سليمان بن داود بن عبيد الله ابن مقسم أبو بكر العطار المقرئ، ولد سنة خمس وستين ومائتين، ومات لثمان خلون من ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، سمع أبا مسلم الكجي وثعلباً وإدريس ابن عبد الكريم وغيرهم. روى عنه ابن رزقويه وابن شاذان وغيرهما. وكان ثقة من أعرف الناس بالقراءات وأحفظهم لنحو الكوفيين، وله في معاني القرآن كتاب سماه الأنوار وما رأيت مثله، وله عدة تصانيف: ولم يكن له عيب إلا أنه قرأ بحروف تخالف الإجماع واستخرج لها وجوهاً من اللغة والمعنى مثل ما ذكر في كتاب الاحتجاج للقراء في قوله تعالى: (فلما استيأسوا منه خلصوا نجباء) بالباء لكان جائزاً هذا مع كونه يخالف الإجماع بعيد من المعنى، إذ لا وجه للنجابة عند يأسهم من أخيهم إنما اجتمعوا يتناجون. وله كثير من هذا الجنس من تصحيف الكلمة واستخرج وجه بعيد لها مع كونها لم يقرأ بها أحد.
وحدث أبو بكر الخطيب قال: ومما طعن به على أبي بكر بن مقسم أنه عمد إلى حروف من القرآن فخالف الإجماع فيها وقرأها على وجوه ذكر أنها تجوز في اللغة والعربية، وشاع ذلك عنه عند أهل العلم فأنكروه، وارتفع الأمر إلى السلطان فأحضره واستتابه بحضرة القراء والفقهاء فأذعن بالتوبة وكتب محضراً بتوبته، وأثبت. جماعة من حضر ذلك المجلس خطوطهم فيه بالشهادة عليه. وقيل إنه لم ينزع عن تلك الحروف وكان يقرأ بها إلى حين وفاته.
قال الخطيب: وقد ذكر حاله أبو طاهر بن أبي هاشم المقرئء صاحب ابن مجاهد في كتابه الذي سماه كتاب البيان فقال: وقد نبغ نابغ في عصرنا هذا فزعم أن كل ما صح عنده وجه في العربية كحرف من القرآن يوافق خط المصحف، فقراءته جائزة في الصلاة وغيرها فابتدع بقيله ذلك بدعه ضل بها قصد السبيل، وأورط نفسه في مزلة عظمت بها جنايته على الإسلام وأهله، وحاول إلحاق كتاب الله من الباطل مالا يأتيه من بين يديه ولا خلفه، إذ جعل لأهل الإلحاد في دين الله بسئ رأيه طريقاً من بين يدي أهل الحق بتخير القراءات من جهة البحث والاستخراج بالآراء دون الاعتصام والتمسك بالأثر المفترض.
وقد كان أبو بكر شيخنا نضر الله وجهه يسأله عن بدعته المضلة باستتابة منها، وأشهد عليه الحكام والشهود المقبولين عند الحكام بترك ما أوقع نفسه فيه من الضلالة بعد أن سئل البرهان على صحة ما ذهب إليه فلم يأت بطائل، ولم يكن له حجة قوية ولا ضعيفة، فاستوهب أبو بكر رضي الله عنه تأديبه من السلطان عند توبته وإظهاره الإقلاع عن بدعته، ثم عاود في وقتنا هذا إلى ما كان ابتدعه واستغوى به أصاغر المسلمين ممن هم في الغفلة والغباوة دونه ظناً منه أن ذلك يكون للناس ديناً، وأن يجعلوه فيما ابتدعه إماماً، ولن يعدو ما ضل به مجلسه، لأن الله تعالى قد أعلمنا أنه حافظ لكتابه من لفظ الزائغين وشبهات الملحدين بقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). وقد دخلت عليه شبهة لا يخيل بطولها وفسادها على ذي لب وذلك أنه قال: لما كان لخلف بن هشام وأبي عبيد وابن سعدان أن يختاروا وكان ذلك مباحاً لهم غير منكر، كان ذلك أيضاً مباحاً غير مستنكر. فلو كان حذا حذوهم وسلك طريقهم كان لعمري له غير مستنكر، ولكنه سلك من الشذوذ مالا يقول به إلا مبتدع. قال الخطيب: وذكر أبو طاهر كلاماً كثيراً نقلنا منه هذا المقدار وهو في كتابه مستقصي.
وحدث فيما أسنده إلى أحمد الفرضي قال: رأيت في المنام كأني في المسجد الجامع أصلي مع الناس، وكان ابن مقسم قد ولي ظهره للقبلة وهو يصلي مستدبرها، فأولت ذلك مخالفته الأئمة فيما اختاره لنفسه من القراءات.
وذكر محمد بن إسحاق فقال: مات في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة. وله من الكتب: كتاب الأنوار في تفسير القرآن، كتاب المدخل إلى علم الشعر، كتاب الاحتجاج في القراءات، كتاب في النحو كبير كتاب المقصور والممدد، كتاب المذكر والمؤنث، كتاب الوقف والابتداء، كتاب المصاحف، كتاب عدد التمام، كتاب أخبار نفسه، كتاب مجالسات ثعلب، كتاب مفرداته، كتاب الانتصار لقراء الأمصار، كتاب الموضح، كتاب شفاء الصدور، كتاب الأوسط، كتاب اللطائف في جمع هجاء المصاحف، كتاب في قوله تعالى: (ومن يقتل) والرد على المعتزلة. ولابن مقسم ابن يكنى أبا الحسن وكان حفظة عالماً، له كتاب عقلاء المجانين.

محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي
أبو علي، ذكره الخطيب في تاريخه فقال: روي عن أبي عمرو عنه أخباراً في مجالس الأدب، قلت أنا: وأدرك ابن دريد وأخذ عنه، وهو من حذاق أهل اللغة والأدب شديد العارضة، وكان مبغضاً إلى أهل العلم فهجاه ابن الحجاج وغيره بأهاج مرة. ومات سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. وذكره الثعالبي في كتاب يتيمة الدهر فقال: محمد بن الحسن الحاتمي حسن التصرف في الشعر موف على كثير من شعراء العصر وأبوه أيضاً شاعر. وأبو علي شاعر كاتب يجمع بين البلاغة في النثر والبراعة في النظم، وله الرسالة المعروفة في وقعة الأدهم قال: وليس يحضرني من شعره إلا بيتان:
لي حبيب لو قيل لي ما تمنى ... ما تعديته ولو بالمنون
أشتهي أن أحل في كل جسم ... فأراه بلحظ تلك العيون
قال: ومما اخترته لأبيه قوله من قصيدة في القادر بالله أمير المؤمنين - رحمه الله - وأولها:
حي رسم الغميم محي الغميما ... إن فقدت الهوى فحي الرسوما
وذكر قصيدة. وذكره أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الحصري في كتاب النورين، وذكر أشعار في قصر الليل وطوله فقال: وقال بعض أهل العصر وهو أبو علي محمد بن الحسن الحاتمي:
يا رب يوم سرور خلته قصراً ... كعارض البرق في أفق الدجى برقا
قد كاد يعثر أولاه بآخره ... وكاد يسبق منه فجره الشفقا
كأنما طرفاه طرف اتفق ال ... جفنان منه على الإطراق وافترقا
قال: وقد ملح الحاتمي في وصف الثريا:
وليل أقمنا فيه نعمل كأسنا ... إلى أن بدا للصبح في الليل عسكر
ونجم الثريا في السماء كأنه ... على حلة زرقاء جيب مدنو
وللحاتمي تصانيف عدة منها: كتاب حلية المحاضرة في صناعة الشعر، كتاب الموضحة في مساوي المتنبي، كتاب الهلباجة في صنعة الشعر، كتاب سر الصناعة في الشعر أيضاً، كتاب الحالي والعاطل في الشعر أيضاُ، كتاب المجاز في الشعر أيضاً، كتاب الرسالة الناجية، كتاب مختصر العربية، كتاب في اللغة لم يتم، كتاب عيون الكاتب، كتاب الشراب رسالة، كتاب منتزع الأخبار ومطبوع الأشعار، كتاب المعيار والموازنة لم يتم، كتاب المغسل وهي الرسالة الباهرة في خصال أبي الحسن البتي.
قرأت في كتاب الهلباجة من تصنيفه وهو كتاب صنفه للوزير أبي عبد الله بن سعدان في رجل سبعه عنده وسمي الرجل الهلباجة من غير أن يصرح باسمه قال فيه: وقد خدمت سيف الدولة - تجاوز الله عن فرطاته - وأنا ابن تسع عشرة سنة تميل بي سنة الصبا، وتنقاد بي أريحية الشباب بهذا العلم، وكان كلفاً به علقاً علاقة المغرم بأهله منقباً عن أسراره، ووزنت في مجلسه تكرمة وإدناء وتسوية في الرتبة - ولم تسفر خداي عن عذاريهما - بأبي علي الفارسي وهو فارس العربية وحائز قصب السبق فيها منذ أربعين سنة، وبأبي عبد الله بن خالويه وكان له السهم الفائز في علوم العربية تصرفاً في أنواعه، وتوسعاً في معرفة قواعده وأوضاعه، وبأبي الطيب اللغوي وكان كما قيل حتف الكلمة والشرود حفظاً وتيقظاً، ونازعتالعلماء ومدحت في مصنفاتهم، وعددت في الأفراد الذين منهم أبو سعيد السيرافي وعلي بن عيسى الرماني، وأبو سعيد المعلى وقدحه الأعلى، واتخذت بعضاً ممن كان يقع الإيماء إليه سخرة وأنا إذ ذاك غزير الغزارة، تميد بي أسرار السرور ويسري علي رخاء الإقبال، وأختال في ملاءة العز في بلهنية من العيش وخفض من النعيم، وخطوب الدهر راقدة وأيامه مساعدة. وأنشد لنفسه في هذا الكتاب يمدح سيف الدولة:
تأوبني هم من الليل وارد ... وعاودني من لاعج الوجد عائد
فبت قضيض الجنب مسترجف الحشا ... كأني سقتني سمهن الأوساد
كأن القنا فيه على القرن ضاغن ... وحد الحسام الهندواني حاقد
قصمت به الإشراك وهو مقوم ... وقومت دين المصطفى وهو مائد
فلا يشفق الإسلام من سوء عثرة ... وفي الروع من آل ابن حمدان ذائد
وأنشد لنفسه في هذا الكتاب أبياضاً ضمنها أعجاز أبيات للنابغة وهي في الحماسة:
لا يهنأ الناس ما يرعون من كلأ ... وما يسوقون من أهل ومن مال
فقال الحاتمي:

وليلة عنها الصبح داجية ... لبستها بمطول الجرى هطال
وقد رمى البين شعب الحي فاقتسموا ... أيدي سبا بين تقويض وترحال
فناسبت أنجم الآفاق عيسهم ... وما يسوقون من أهل ومن مال
ترى الهلال نحيلاً في مطالعة ... أمسي ببلدة لا عم ولا خال
والجدي كالطرف يستن المراح به ... إلى ذوات الذرى حمال أثقال
والليل والصبح في غبراء مظلمة ... هذا عليها وهذا تحتها بال
وفي هذا الكتاب لنفسه في الهلباجة الذي صنف الكتاب لأجله:
لقد سخف الفعلي لما تحذقا ... فنكر في تعريفه ما تعرفا
ويا رب وجه حذفوه لزينة ... فأصبح من قبح لصاحبه قفا

وهذه مخاطبة جرت بين أبي الطيب المتنبي وبين علي الحاتمي حكيتها كما وجدتها. قال أبو علي الحاتمي: كان أبو الطيب المتنبي عند وروده مدينة السلام التحف رداء الكبر وأذال ذيول التيه وصعر خده ونأى بجانبه، وكان لا يلقى أحداً إلا نافضاً مذروية، رافلاً من التيه في برويه، يخيل إليه أن العلم مقصور عليه، وأن الشعر بحر لم يغترف نمير مائة غيره، وروض لم يرع نواره سواه، فدل بذلك مديدة أجرته رسن الجهل فيها، فظل يمرح في تثنيه حتى إذا تخيل أنه القريع الذي لا يقارع، والنزيع الذي لا يجارى ولا ينازع، وأنه رب الغلب ومالك القصب، وثقلت وطأته على أهل الأدب بمدينه السلام، فطأطأ كثير منهم رأسه وخفض جناحه وطامن على التسليم له جأشه، وتخيل أبو محمد المهلبي أن أحداً لا يقدر على مساجلته ومجاراته، ولا يقوم لتتبعه بشيء من مطاعنه، وساء معز الدولة أن يرد عن حضرة عدوه رجل فلا يكون في مملكته أحد يماثله في صناعته، ويساويه في منزلته. نهدت حينئذ متتبعاً عواره، ومتعقباً آثاره، ومطفياً ناره، ومهتكاً أستاره، ومقلماً أظفاره، وناشراً مطاويه، وممزقاً جلباب مساويه، متحيناً أن تجمعنا دار فأجرى أنا وهو في مضمار يعرف فيه السابق من المسبوق، حتى إذا لم أجد ذلك قصدت موضعه الذي كان يحله في ربض حميد، فوافق مصيري إليه حضور جماعة تقرأ شيئاً من شعره عليه، فحين أوذن بحضوري واستؤذن عليه لدخولي نهض عن مجلسه مسرعاً، ووارى شخصه عني مستخفياً، فنزلت عن بغلة كانت تحتي ناحية وهو يراني نازلاً عنها لانتهائي بها إلى أن حاذيته، فجلست في موضعه وإذا تحته قطعة من زيلو مخلقة قد أكلتها الأيام وتعاورتها السنون، فهي رسوم خافية وسلوك بادية، حتى وإذا خرج إلى نهضت إليه فوفيته حق السلام غير مشاح له في القيام، لأنه إنما اعتمد بنهوضه ألا ينهض لي عند موافاتي، وإذا هو قد لبس سبعة أقبية كل قباء منها لون، وكان الوقت آخر أيام الصيف وأخلقها بتخفيف اللبس، فجلست وجلس وأعرض عني ساعة لا يعيرني فيها طرفه، ولا يسألني عما قصدت له، وقد كدت أتميز غيظاً وأقبلت أسخف رأيي في قصده، وأفنده نفسي في التوجه نحو مثله. ولوى عذراه عني مقبلاً على تلك الزعنفة التي بين يديه، كل واحد يومئ إليه ويوحي بطرفه، ويشير إلى مكاني بيده، ويوقظه من سنة جهله، ويأبى إلا ازوراراً ونفاراً وجرياً على شاكلة خلقه المشكلة، ثم رأى أن يثني رأسه إلي، فوالله ما زادني على أن قال: أي شيء خبرك؟ قلت أنا بخير لولا ما جنيت على نفسي من قصدك، وكلفت قدمي في المصير إلى مثلك، ثم تحدرت عليه تحدر السيل إلى القرار وقلت له: أبن لي عافاك الله ممن تيهك وخيلاؤك وعجبك؟ وما الذي يوجب ما أنت عليه من التجبر والتنمر؟ هل ها هنا نسب في الأبطح تبحبحت في بحبوحة الشرف وفرعت سماء المجد به؟ أم علم أصبحت علماً يقع الإيماء إليك فيه؟ هل أنت إلا وتد بقاع في شر البقاع؟ وجفاء سيل دفاع. يا لله استنت الفصال حتى القرعى وإني لأسمع جعجعة ولا أرى طحناً، فامتقع لونه عند سماع كلامي وعصب ريقه، وجحظت عيناه وسقط في يده، وجعل يلين في الاعتذار ليناً كاد يعطف عليه عطف صفحي عنه. ثم قلت: يا هذا، إن جاءك رجل شريف في نسبة تجاهلت نسبه، وأو عظيم في أدبه صغرت أدبه، أو متقدم عند سلطانه لم تعرف موضعه، فهل العز تراث لك دون غيرك؟ كلا والله! لكنك مددت الكبر ستراً على نقصك، وضربته رواقاً دون جهلك. فعاد إلى الاعتذار، وأخذت الجماعة في تليين جانبي والرغبة إلي في قبول عذره واعتماد مياسرته، وأنا آبي إلا استشراء واجتراء، وهو يؤكد الأقسام ويواصلها أنه لم يعرفني فأقول: يا هذا، ألم يستأذن لي عليك باسمي ونسبي أما في هذه العصابة من يعرفك بي لو كنت جهلتني؟ وهب ذلك كذلك، ألم ترني ممتطياً بغلة رائعة يعلوها مركب ثقيل وبين يدي عدة من الغلمان؟ أما شاهدت لباسي؟ أما شمعت نشر عطري؟ أما راعك شيء من أمري أتميز به في نفسك عن غيري؟ وهو في أثناء ما أكلمه يقول: خفض عليك، ارفق استأن، فأصبحت جانبي بعض الإصحاب ولان شماسي بعض الليان، وأقبل علي وأقبلت عليه ساعة ثم قلت: أشياء تختلج في صدري من شعرك أحب أن أرجعك فيها. قال وما هي؟ قلت خبرني عن قولك:
فإن كان بعض الناس سيفاً لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول
أهكذا تمدح الملوك؟ وعن قولك:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15