كتاب : معجم الأدباء
المؤلف : ياقوت الحموي

أتاني كتاب من حبيب فشاقني ... إليه وزاد القلب وجداً على وجد
وكدت لما أضمرت من لاعج الهوى ... ووجداً على مافات أقضى من الوجد
وقف على الكتاب الكريم الصادر عن المجلس السامي القضائي العزي - لا زالت سيادته تتجدد، وسعادته تتأكد، وفواضله تتردد، وفضائله عن مجلسه تصدر، وفي المجالس تورد - وعلمت إشارته في التذكرة المسيلمية والنية في حملها إلى الخزانة الأشرفية، ولقد زفت إلى أجل خاطب، ورقيت بعد انحطاطها إلى أسمى المراتب، فإنها وإن كانت بكر فكر أكابر، فما هي إلا بنت عدة آباء، ولدت على فراش عواهر، كان عليه البغاء في العالمين علامة، أعني ابن مسيلمة ذا الداء، وأسأل الله السلامة، فجاءت ذات غرام لا يشفي قطمها إلا السودان، وأردت أن أكون ناكحها الثاني لاتفاق الألوان، وأبى الله لها إلا أن تهدى إلى المقر الأرفع، وأن يقع الابتناء بالبغي من الهمام الأروع، ولست يائساً على عدمها، ولا راجياً شفاء كلمي بكلمها:
تحمل أهلها عني فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء
وكأني بساميه عرض هذا الكتاب على من لا أسميه، فقرن حاجبيه، ولوى شفتيه، ولمس عثنونه تعجباً، وأمال عطفيه تظرفاً وقال: أذكرني سجع الكهان، وأسمعني قعقعة صعصعة بن صوحان، والله المستعان على ما يصفون، وإنما هي نفثة مصدور، صدر نافثها بصفقة المغبون، وأما سؤاله عما حصل من الكتب في غيبته،
فما هي إلا البحر جاد بدره ... ومكنني من لجه وسواحله
حصل من نفائسها أعلاق نفيسة، وأضحت على بغض المزاحم عليها موقوفة حبيسة، لو امتدت يد إليها لشلت، ولوسعت إليها قدم لما أقلت جثتها ولا استقلت، لا ابن العديم يعدمها، ولا القيلوي يقللها، ولا الصفي يصطفيها، ولا المجد يختزلها.
خلا لك الجو فبيضي واصفري
وتعداد المجدد منها يقصر عنه الكتاب، ويقصر دونه الخطاب، والله الموفق.

أبو علي المنطقي
لم أظفر باسمه وهو مجيد. قال الخالع: هو من أهل البصرة وتنقل عنها في البلاد، ومدح عضد الدولة وابن عباد، وانقطع مدة من الزمان إلى نصر بن هارون، ثم إلى أبي القاسم العلاء بن الحسن الوزير، وكان جيد الطبقة في الشعر والأدب عالماً بالمنطق قوي الرتبة فيه، وجمع ديوانه وكان نحو ألفي بيت، ومولده سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ومات بشيراز بعد سنة تسعين وثلاثمائة، وكان ضعيف الحال ضيق الرزق عارفاً - وجدت على حاشية الأصل ما هذا صورته: إنا لله وإنا إليه راجعون - . ما يحتاج مستدل على أن الأرزاق ليست بالاستحقاق بأقوى من هذا الرجل، فإنه لو وفي حقه لكان أعظم قدراً من المتنبي، لأنه ليس بدونه في الشعر جودة وصحة معنى ومتانة لفظ وحلاوة استعارة وسلاسة كلام، وكان مع ذلك مزاحاً طيب العشرة حاد النادرة، وأصيب بعينه في آخر عمره، وله في ذلك أشعار كثيرة. وهذا القدر حكاه الخالع من خبره ولم يعرف غير ذلك. ومن شعره:
يا ريم وجدي فيك ليس يريم ... بين الضلوع وإن رحلت مقيم
لا تحسبي قلبي كربعك خالياً ... فيه وإن عفت الرسوم رسوم
تبلى المنزل والهوى متجدد ... وتبيد خيمات ويبقى الخيم
ومن شعره لما أصيب ببصره:
ما للهموم إذا ما هيمها وردت ... علي لم تفض من ورد إلى صدر
كأنما وافق الأعشاب رائدها ... لدى حماي فقد ألقى عصا السفر
إن يجرح الدهر مني غير جارحة ... ففي البصائر ما يغني عن البصر
وله في الخمر:
قهوة مثل رقراق السراب غدا ... حبب المزاج عليها جيب مزرور
تختال إن بث فيها الماء لؤلؤه ... ما بين عقدين منظوم ومنثور
للتها مثل سل الفجر صارمه ... وأحجم الليل في أثواب موتور
كأنها إذ بدت والكأس تحجبها ... روح من النار في جسم من النور
إذا تعاطيت محزوناً أبارقها ... لم يعدني كل مفروح ومسرور
أمسي غنياً وقد أصبحت مفتقراً ... كأنني الملك بين الناي والزير
وله في نصر بن هارون:
ينال علاه ما السها عنه عاجز ... ويسقي نداه من تجاوزه القطر

ويصنع في الأعداء خوف انتقامه ... من القتل ما لا تصنع البيض والسمر
لأعطيت حتى استنزر الغيث فعله ... وآمنت حتى قيل لم يخلق الذعر
وله فيه أيضاً:
به تخضر أغصان الأماني ... ويجبر عنده الأمل الكسير
وتبسم نائبات الدهر عنه ... كما ابتسمت عن الشنب الثغور
لقد سهلت بك الأيام حتى ... لقال الناس لم تكن الوعور
وكيف أخاف دهراً؟ أنت بيني ... وبين صروفه أبداً سفير
وله من قصيدة في ابن معروف:
في البرق لي شاغل عن لمعة البرق ... بدا وكان متى ما يبد لي يشق
منفراً سرب نومي عن مراتعه ... كأنما اشتق معناه من الأرق
أخو ثنايا التي بالقلب مذ ظعنت ... أضعاف ما بوشاحيها من القلق
ما كان يسرق من حرز الجفون كرى ... لو أنه من لماها غير مسترق
وله:
نوار وهي نوار من مساعفتي ... وهند وهي ببيض الهند تعتصم
تربان إن تك من جدواهما تربت ... يد المحب فوجدان الهوى عدم
غض المحيا إذا لاحظت وجنته ... كادت لحاظك في ديباجها تسم
وله يعاتب:
صافيت فضلك لا ما أنت باذله ... وعاشق الفضل يغرى كلما عذلا
إني أعيذك من قولي لسائله: ... لقد حدوت ولكن لم أجد جملاً
وقال في صمصام الدولة:
لا غضني الدهر الخئون فإنه ... قد كان رقاك صلاً أرقما
أنتم بحار جاريات بالندى ... لكنها في الروع جارية دما
وله:
ليث أبو شبلين لم يسلمهما ... كرم الجدود ولا سمو جدود
للمجد سر لم يضيع فيهما ... والراح سر في جنى العنقود
وله:
أكفكم تعطي ويمنعنا الحيا ... وأقلامكم تمضي وتنبو الصوارم
وإن أبا العباس إن يك للعلا ... جناحاً فأنتم للجناح القوادم
مضى وبقيتم أبحراً وأهلة ... وزهر الربا يبقى وتمضي الغمائم
وله:
قولي يقصر عن فعالك ... تقصير جدك عن كمالك
والحمد ينبت كلما ... هطلت سماء من نوالك
وله:
كأن دبيبها في كل عضو ... دبيب النوم في أجفان سار
صدعت بها رداء الهم عني ... كما صدع الدجى وضح النهار
وله من قصيدة في عضد الدولة يذكر الصدق:
ما زلت تنصف في قضاياك العلا ... قل لي: فما بال الضحى يتظلم؟
هديت رونقه إلى جنح الدجى ... فاعتن أشهب وهو طرف أدهم
حتى كأن الليل صبح مشرق ... وكأن ضوء الصبح ليل مظلم
هي ليلة لبست رضاك فأشرقت ... من بعد ما كانت بسخطك تظلم
ما كان في ظن امرئ من قبلها ... أن الملوك على الليالي تحكم
وله:
أنام جفون الحقد والحقد ساهر ... وأيقظ طرف المجد والمجد نائم
إذا أشكلت يوماً لغات انتقامه ... على معشر فالمرهفات تراجم
ومن شاجر الأيام عن مأثراتها ... فأمضى لسانيه القنا والصوارم
وله من قصيدة:
وقفنا بها والشوق يفرى قلوبنا ... لواعجه والصبر غير مطاوع
سقيت رجوع الظاعنين فإننا ... نجلك عن سقيا الغمام الهوامع
فجعنا بأبكار المنى يوم خاطبت ... ربوعك أبكار الخطوب الفواجع
ومنها:
وخيل إذا كظ الطراد أراحها ... أصابت بحر الطعن برد الشرائع
تكاد ترى بالسمع حتى كأنما ... نواظرها مخلوقة في المسامع
إذا ما دجا ليل الكريهة أطلعت ... نجوم قناً يغربن بين الأضالع
وله:
على عجل ألم الخيال ... فإن كراه بعدكم محال
فبات معانقاً والجيد وهم ... ومرتشفاً وأحلى الريق آل
لدى ليل كان النجم فيه ... على خد الظلام الجون خال
يضام الرمح ليس له مدار ... ويكبو الطرف ليس له مجال

طبعت على الوفاء المحض قدماً ... كما طبعت على القطع النصال
ومنها:
توسمت الوابل فيه مجداً ... فقالت: أول البدر هلال
وأطرب ما يكون إلى العطايا ... إذا غني فأسمعه السؤال
مصاحب همة خفت عليها ... من الأيام أعباء ثقال
كرمت فلو سألناك المساعي ... وهبت وغيرها تهب الرجال
وأكرم من قراك فتى عليه ... بنو الدنيا وأمهم عيال
وقال في الوزير ابن صالحان:
على الطيف أن يغشى العميد المتيما ... وليس عليه رد نوم تصرما
خيال سرى يبغي خيالاً ومغرم ... بلبس قميص الليل يمم مغرما
دنا والظلام الجون غض شبابه ... فأهدى إليه الشيب لما تبسما
أتلك اللآلئ من ثناياه ألفت ... عليه عقوداً أم تقلد أنجما؟
أما والحما إن الكرى لسميه ... على مقلتي مذ أخلقت جدة الحما
لأشكل حتى ما يعود بنو الهوى ... معالمه الأنضاء إلا توهما
وليل أكلنا العيس تحت رواقه ... بأيدي سرى تثني الرواسم أرسما
بهيم نضونا برده وهو مخلق ... وكنا لبسناه قشيباً مسهما
هداها إلى مغنى الوزير نسيمه ... ومن شرف الأخلاق أن نتنسما
يصوب على العافين مزن بنانه ... فيكبت حساد أو ينبت أنعما
وله:
غي الهوى للصب غاية رشده ... فذريه من حل الملام وعقده
قربت مراكب وعظه ولجاجه ... في الحب ينتج قربه من بعده
والليل تكحل مقلتاه بإثمد ... والأفق يزهر دره في عقده
فكأن زنجياً تبسم ثغره ... إسفار ذاك اللون في مربده
تعب الفتى جسر إلى راحاته ... يفضي ونهضة جده في جده
وإذا ابن عزم لم يقم متجرداً ... للحادثات فصارم في عمده
فالسيف سمي في النوائب عدة ... لمضائه فيهن لا لفرنده
ومن المدح:
نثني عليه وإن تكرم غيره ... فتراه مشكوراً بما لم يسده
علماً بأن بني السماح تعلموا ... منه فكل صنيعة من عنده
وله في عضد الدولة:
أربع الصبا غالتك بعدي يد الصبا ... وصعد طرف البين فيك وصوبا؟؟
لئن رمقت عين النوى حور عينه ... فبن لقد غادرن قلباً معذبا
تأودن قضباناً ولحن أهلةً ... وغازلن غزلاناً ولاحظن ربربا
ومنها:
رددت شباب الملك نضراً ولم يزل ... بغيرك مغبر المفارق أشيبا
فلو كانت الأيام قبلك رحبت ... بشخص لقالت إذ تراءيت مرحبا
وله قصيدة إلى أبي بكر العلاف يتشوقه:
كأن البين ترب الموت لكن ... يواري في الضنا لا في الثياب
ولولا أن فرط الشوق واش ... بحبك لاستزدتك ضعف ما بي
جمعت غرائب الآداب حتى ... إذا قرنت إلى النعم الرغاب
ظللت منادياً في كل أفق ... بصوت البذل حي على انتهاب
وله من قصيدة في العلاء بن الحسن الوزير:
أعاطي كئوس اللهو كل غريرة ... إذا ما انثنت قدت فؤادك بالقد
تلاحظ عن سحر وتسجر عن دجى ... وتسفر عن صبح وتبسم عن عقد
إذا نثرت أيدي الصبا در لفظها ... نظمن على الأحشاء عقداً من الوجد
كما نظمت كفا أبي القاسم العلا ... نظام لآلي السمط بالنثر للرفد
إذا اتصلت أقلامه بظباته ... تقطع ما بين الطوائل والحقد
فلا يهنأ الأعداء ن أن مكانه ... خفي فقد تخفى الشرارة في الزند
وله:
نعم لو أن الناس ورق حمائم ... لغدت لهم بدلاً من الأطواق
ومواهب تمضي ويبقى ذكرها ... سمة على وجه الزمان الباقي
وله:

أراعك صدق الطيف أم كذب الحلم ... وكم من خيال وشك إلمامه لمم
سرى والدجا قد حال صبغ قميصه ... وفي ذيله نار من الصبح تضطرم
كأن نهوض الفجر في أخرياته ... بداء بياض الشيب في أسود اللمم
أمين على سر المعالي وسيفه ... على مهج الأعداء في الروع متهم
وله من قصيدة في الدلجي:
لأصبرن على ما سامني زمني ... صبر الكريم على الإقلال إكثار
مدحت قوماً فإن حاض اللسان بهم ... فسوف يعقب ذاك الحيض أطبار
إذا المعمر ترب المجد ألثمني ... ركني يد ثمد ما تسديه تيار
يد هي الغيث أو فيها مواطنه ... فكل ما صافحته فهو نوار
هناك أخطب والعليا منابرها ... منصوبة وجبين الدهر حوار
وله:
وأبناء حاجات أدارت عليهم ... يد السير كأس الأين والليل دامس
يميلون فوق العيس حتى كأنهم ... شروب تساقى والرحال المجالس
أصاخوا وقد غنيتهم باسم ماجد ... لأقلامه تعنو الرياح المداعس
ولما بلغناه تهلل عارض ... سقى صوبه الدنيا ومثواه فارس
وقال في الوزير ابن صالحان:
هو البرق إلا زفرة تتضرم ... وعبرة مشتاق تسح وتسجم
تبسم حتى كاد يبكي وربما ... تراءى فأبكى البارق المبتسم
ولما ألم الطيف شكك أينا ... لدقة شخصينا الخيال المسلم؟
مزجت كئوس الريق منه بأدمعي ... فبت أسقى قهوة مزجها دم
فليت فؤادي ذاب في جفن مزنة ... بها رويت دور ظماء وأرسم
وخرق رحيب الباع لو نيط طوله ... بعروة عمر لم تكد تتصرم
رميت فما أشويت ثغرة نحره ... وما كل ما ترمي به العيس يسهم
بلغنا بها مغناه وهب أهلة ... فلاحت لنا أخلاقه وهي أنجم
وله يمدح:
يصيخ إلى الليل حتى كأنما ... سرى إبلي في مسمعيه سرار
وكم خامل أمطاه حارك رتبة ... حراك ويعلو الترب حين يثار
فأليت أن تقرر عيون ركائبي ... ولا غرو غايات السيول قرار
مددت إلى طعن الكماة عزائماً ... طوال العوالي بينهن قصار
فما كرمت كرمان حتى افتككتها ... ولا أصحرت حتى ارتجتك صحار
إذا صد وجد البحر عنها تيقنت ... بأنك بدر في يديه بحار
وله:
جذل بما يعطيهم فكأنما ... أخذ المؤمل من نداه عطاء
عفو تسيل به الشعاب كأنما ... فيه الذنوب وقد طفون غثاء
وله:
ولما استرد الصبح عارية الدجى ... تولى بطيئاً والدموع عجال
ولم أر لابن الشوق كالليل سلماً ... إلى حاجة في الصبح ليس تنال
كريم تبقت من سجاياه فضلة ... فأضحت على خديه وهي جمال
وله:
ودار وغي ثنتها مقربات ... براقعها شحوب أو سهوم
نزلت بعسكر للطير فيه ... عساكر حول حومتها تحوم
بحيث سرائر الأغماد تبدو ... وقلب النقع للساري كتوم
تصالحت الحتوف على الأعادي ... وبيضك للطلى منها خصوم
إذا أوردتها صدرت رواء ... وخلت هام وهي هيم
وله:
إن كتم الليل حدث العبق ... عنها وبعض الحديث ينتشق
ردي على العين فهي طامعة ... كاس زقاد أراقها الأرق
وله
علي إذا غنيت أن تطرب العلا ... فليت فؤادي للسرور منادم
ويجهل قولي فيك قوم ولم يكن ... ليفهم أيك ما تقول الحمائم
وله:
غداة صدقت فكذبتني ... ولولا الشقاوة لم أصدق
وقد كن ما طللنا حقبة ... فليت المطال علينا بقي
وله:
دمن مرضن من البلى فكأنما ... تأتي الرياح طلولها عوادا
من كل مدنفة الرسوم كأنه ... من قبل كانت للمحب فؤادا

إن لم يطر شرر السرى مني فلا ... قدحت يدي للمكرمات زنادا
في كل ليل ثاكل لصباحه ... وكأنما كسي الظلام حدادا
داج إذا زرت على جيوبه ... كنت الحسام وكانت الأغمادا
أحسن بأخلاق الظلام وإن جلا ... وجهاً تعوض بالشحوب سوادا
جمل ولكن ما يلذ ركوبه ... إلا امرؤ يجد المنى أقتادا
يلقاه نشوان الجفون وإنما ... باتت مدامة مقلتيه سهادا
وله:
منازل ذات الوقف إني لواقف ... عليك وماء القلب لا الدمع ذارف
بليت ولم يبل الجديد من الهوى ... وحلت وما حال الغرام المحالف
أترقا جفوني والحيا عنك ممسك ... ويرفق وجدي والبلى بك عانف؟
وقالوا انتشى من غير كاس ولو سقوا ... هوى لدروا أن السلاف السوالف
ضعائف كرات اللحاظ إنما ... تبرح بالجلد القوي الضعائف
وله:
ليت النوى تركتنا في يد العذل ... فالسقم بؤس ولكن ليس كالأجل
صار الصدود لها أمنية معها ... ومن لذائق طعم الموت بالغلل؟
والقلب أول من شط الفراق به ... فأين مسرح هذا الخوف والوجل؟
وله في عضد الدولة:
لو أن بعض سماحها في مزنة ... يوماً لأورق من نداها الجلمد
يا راقد الأسياف إلا عن وغى ... جفن الورى في حومتيه مسهد
ما بال خيلك ما تقات سوى السرى ... وظباك في غير الطلى ما تغمد
عادات بيض الهند عندك أن ترى ... حمراً كما مس اللجين العسجد
وله:
ولم أر مثل الدهر مسدى نعمة ... يجود بها عفواً ويأخذها
إذا كنت عذر الدهر في سوء ما جنت ... يداه فذنب أن تعد له ذنبا
وله:
مضيء فرند القول ماضي شباته ... فلو لم يكن وشياً لقيل مهند
يفارق فاه وهو في الحسن جوهر ... ويلقى عداه وهو في الوقع جلمد
وله:
خرق تصول يد الزمان فيتقى ... ويجود أقوام سواه فيشكر
معط على شكر الصنيع وكفره ... ما كل ما سقت الغمائم يثمر
دامت لك النعما ودمت لآمل ... آرابه عن روض غيرك تذعر
وبقيت ما بقي القريض فإنه ... علق على كر الخطوب معمر
وله:
قرم بخد الحيا من جوده خجل ... كما بقلب الردى من بأسه وجل
في رأيه من غرارى معيفه عوض ... وفي عطاياه من صوب الحيا بدل
وله:
ظلت تعض لتوديعي أناملها ... فخلتها نظمت درا على عنم
يا رب لائمة في الحب لو علمت ... أني ألذ ملامي فيك لم تلم
وله:
إني إذا ما الخل خادعه ... عني الزمان فحال عن عهدي
جانبته ولو أنه عمري ... وقطعته ولو أنه زندي
وله:
أتيتك طوع الشوق أمس فردني ... على عقبي عذر له المجد لائم
وقالوا ثنت أجفانه عنك غفوة ... ولا غرو قد تغفي الأسود الضراغم
ولكن نسيم الراح نم وربما ... أتتك بما لا ريب فيه النمائم
ولو لم يكن ظرف العلا عدت منشداً: ... وأنت إذا استيقظت أيضاً لنائم
وله:
يد موسى تذم صحبة فيه ... هو يمحو سطور ما توليه
يبعث النائل الجسيم فيقفو ... ه بمن على العفاة سفيه
ليت أن المشيب مهديه موسى ... وهو مسترجع لما يهديه
كأخيه الزمان يأخذ ما يع ... طي. وما ضل مقتد بأخيه
وله:
وما قلت إلا ما علمت ولم أكن ... كحامد ورد لم يذق طعم غبه
وذنب زماني أهله غير أنني ... أراك له عذراً محا شطر ذنبه

علي بن يوسف يعرف بابن البقال

يكنى أبا الحسن، قال أبو عبد الله الخالع: هو من أهل بغداد وممن نادم المهلبي ونفق عليه، وكانت له محاضرة حسنة وبضاعة في الأدب صالحة، وطبقة في الشعر جيدة، يذهب مذهب النامي في التطبيق والتجنيس وطلب الصنعة، وكان بكثرة نوادره ومزاحه مستطاباً متقبلاً، وكان حسن اليسار جميل الزي يلبس الدراعة، وخلف لما مات ما يزيد على مائة ألف درهم، وكانت وفاته في أيام شرف الدولة بن عضد الدولة، ومنزله في مكة العجمي من الزبيدية بالجانب الغربي من مدينة السلام، وخلف ابنة وزوجة فأحبت امرأته أحد بني المنجم وزوجت ابنتها به، فأنفقت المال عليه وماتت الزوجة ولازمته أمها تخدمه كما تخدم المنقطعات.
قال: وكان ابن البقال بخيلاً جشعاً وكان يتلقاني في أيام عضد الدولة فيقول: يا سيدي ما عندك من حديث الشعراء؟ فأقول: قد أمر لهم بمال ولك بجائزة سنية منها كذا وكذا، ومنها كذا وكذا، وأكثر عليه فيقول:
منى إن تكن حقاً تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا
ولقيني مرة والسلامي معي فسألني عن مثل ذلك فأجبته بمثل الجواب المقدم ذكره، فقال له السلامي: يكذب، والله ما أمر إلا بقطع أيديهم وأرجلهم، فقال: حوالينا الصدود ولا علينا. وأنشد الخالع لابن البقال يعاتب بعض أصدقائه:
وإني في استعطاف رأي محمد ... علي ومدي نحو معروفه يدي
لكالمبتغي من بعد تسعين حجةتقمصها رجع الشباب المجدد
سأشكو اعتداء منك لولاه ما درت ... صروف الليالي في الهوى كيف تعتدي
فلله قلبي حين أدعو إلى الهوى ... وأعلم حقاً أنه غير مهتدي
وله:
ولما وقفنا للوداع ودوننا ... عيون ترامى بالظنون ضميرها
أماطت عن الشمس المنيرة برقعاً ... فغيبنا عن أعين الناس نورها
وله:
يا مذنباً ويقول إني مذنب ... ما إن سمعت بظالم يتظلم
لك صورة ذل الجمال لحسنها ... تقضي بجور في النفوس وتحكم
ومن العجائب أن طرفك مشعر ... سقماً وأنت بسقمه لا تعلم
وله:
يا طرفها هب لطرفي لذة الوسن ... واستبق ما لا يفل الثوب من بدن
حاشاك في من الشكوى وإن ذهبت ... عيني من الدمع أو قلبي من الحزن
ولا أقول ولو أتلفتني أسفاً ... يا ليت ما كان من حبيك لم يكن
وله:
لئن كان طرفي فاز منك بنظرة ... لقد عاد طرفي بالبلاء على قلبي
جعلت الهوى ذنبي فإن كنت مذنباً ... به فإليك العذر من ذلك الذنب
ولما رأيت البعد منك مقربي ... تباعدت كي أحظى على البعد بالقرب
محمد لا تجمع إلى الهجر غدرة ... فحسبي الذي بي من فراقك يا حسبي
وله يمدح المهلبي:
أنوار أنت كما دعيت نوار؟ ... لم تقض منك قضاءها الأوطار
يا لحظة لحظ الحمام معيدها ... ما كان منك لناظر إنظار
وإذا تساقطك الحديث تخاله ... كأساً عليك من العقار تدار
إني ذكرتك والغرام مواصل ... نفساً عليك يهيجه التذكار
متوقد منه الضمير كأنما ... نيرانه من وجنتيك تعار
هو في الجفون إذا مرته زفرة ... ماء يمور وفي الجوانح نار
ولرب ليل من ذراك خماره ... للنجم فيه من الغمام خمار
قد قلت حين طلعت فيه كبدره ... أرأيت كيف تشابه الأقمار؟
يا صاحبي قفا بنجد عبرة ... حيث الدموع إذا ابتدرن بدار
في منزل لبست بما لبس البلى ... مني المشيب عذائر وعذار
ولئن محتك يد الخطوب فما امحى ... لهوى ديارك في الفؤاد ديار
ولربما اهتزت ربوعك بالندى ... وتنفست بنسيمك الأسحار
ومنها في المدح:
وإذا بدا يوم الكريهة ضاحكاً ... فهناك تسكب دمعها الأعمار
حتى إذا بصروا بعقد لوائه ... عقدت مهابتها به الأسرار
في شرب هيجاء إذا اصطبحوا القنا ... فالطعن سكر والحمام خمار

لهم من البيض الرقاق تحية ... في حسوها ومن الدماء عقار
نهضت بعبء الملك منك عزائم ... للدهر بين عثارهن عثار
لك هضبة في الملك قحطانية ... طرق الحوادث نحوها أو عار
بجبال أندية الوقار إذا احتبوا ... وليوث ملحمة الوغى إن ثاروا
عجباً لأبناء المهلب إنهم ... لم يعدلوا في المجد حتى جاروا
لم يطوهم دهر مضى إلا لهم ... بالجود في آثاره آثار
فعطاؤك الرزق المقسم في الورى ... والدهر أنت وسيفك المقدار
وله أيضاً في المهلبي:
لعينك إذ سار الخليط المغور ... على كل واد دمعة تتحدر
نعم إن رسماً بات يطوى به النوى ... محاسن كانت بالأوانس تنشر
أرى وانياً من عبرة كيف لا يني ... وعلم طرفاً راقداً كيف يسهر
وقفنا ومن ألحاظنا وقلوبنا ... لنا رائدا شوق مسر ومظهر
يحلى ربى آرامه ونحورنا ... جفون بسمطيها من الدمع جوهر
فمن بين معقود يبين فرنده ... علينا ومحلول عليهن ينثر
وسرب رمين النجم في أخرياته ... بسافرة عن وجهها الشمس تسفر
بدت ويمين الصبح يبدو لثامه ... فلم يدر ليل أي صبحيه أنور؟
ومادت فقلنا الغصن جادت به النقى ... بما آد من مجرى الوشاح المؤزر
أعاطل أجياد الأماني من التي ... بها الوفر أم ما استهلك العرض أوفر؟
لئن عد فخراً لبسك المجد من أب ... فلبس الفتى من نفسه المجد أفخر
وماينفع الممتاح يجلو موارداً ... إذا كان ظمآناً من الورد يصدر
ألا بادرا عون العواني برحلة ... يذل بها خد من العيس أصعر
أما تريان الليل يحدو ظلامه ... بوجه القبيصي الصباح المنور
فتى يمتري سجلى نداه وبأسه ... لهاذم تدمي أو غمائم تمطر
وكالدهر لا يدري الذي هو رائم ... بخطب إذا ما أمه كيف يحذر
ويوم رماه النقع منه بليلة ... كواكبها فيه الأسنة تزهر
طلعن من الأغماد في كل مأزق ... فلا خائن إلا لها منه مضمر
دلفت كأن الموت كان مؤامراً ... سيوفك منه والنفوس تقطر
بمجر له في كل فج طليعة ... وفي كل أرض منه ذيل مجرر
سحبت رداء الموت فيه بوقعة ... رداء الفتى فيه من الطعن أقمر
وأضحكت منه الجو والنقع كاتم ... به الشمس عن شمس بها البيض تشهر
بحيث شفوف الأتحمي مفاضة ... إذا زعزع الخطى والتاج مغفر
تفرق في تفريقها الهام والتقى ... على قدر فيها الحمام المقدر
عزائم يرمين الخطوب كأنما ... يقارع منها عسكر الدهر عسكر
وله في المهلبي أيضاً:
عندي لذا الدهر إعقابي إساءته ... بالصفح إن أعقب الإصرار بالندم
أمست منازل من جنت مصافحة ... أيدي النحول عليها أيدي القدم
ولو ملكت لها السقيا وهامتها ... تكفكف المحل عنها أدمع الرحم
لقلت للسح من أيدي الوزير إذا ... حللت ناحلة الأطلال لا ترم
اليعربي الذي خلى الطريق له ... من بات يأخذ رعباً منه باللقم
يزاحم الليل ليل من جحافله ... ويقذف الوهدات الجرد بالأكم
أطار منهم قذاة في عيونهم ... لو أنها في جفون الدهر لم ينم
أبقى له الخوف في أثناء يقظتهم ... ما بات يرسله ليلاً إلى الحلم

عافت سيوفك في الهيجا لحومهم ... فهن يأكلن منها إكلة البشم
وله أيضاً فيه:
روعة بالفراق قبل الفراق ... شرقت بالدموع منها المآقي
جد جد البكا فأهدين باقي الد ... دمع منها إلى كرى غير باق
فاض تندى به الخدود ولو غا ... ض لأمست منه الحشا في احتراق
وعذارى تدنيك من سربها العي ... س دنو الأجفان للأحداق
مخطفات لو شئن من هيف ال ... خصر تبدلن خاتماً من نطاق
حاليات تبدي المعاصم والسو ... ق وتخفي الأجياد في الأطواق
لا يغرنك غفلة الدهر فالعز ... مة إمضاؤها مع الإطراق
قد أرانا ابتسامة الدهر لما ... أطلع الجود شمسه بالعراق
بالمصفى اللباب والأروع البس ... سام بشراً والفاتق الرتاق
ومعير معاندي الملك حدا ... ماضياً في شقاقهم والنفاق
حين حر الهوى بحران والبي ... ض لها من غمائم الهام ساق
بعد ما زعزع الجزيرة بال ... خطي يكرعن في الدماء الدفاق
وأطارت بجو سنجار المو ... ت ظباه ناراً بلا إحراق
في غمام من العجاج ووبل ... يسم الأرض من حميم العتاق
حين والى بها شوازب يفض ... ين إلى كل دارة من طراق
كالحات كأنما نفث الص ... اب الغوالي منهن في الأشداق
وكان ابن البقال يترفع عن الاختلاط بالشعراء ويتكبر عليهم، وكان الرؤساء يكرمونه ويقومون له إذا دخل إليهم، وكان ابن العميد يقدمه على الناس كلهم ويعظمه، وأحضره المهلبي فأنشده بحضرة المتنبي قصيدة فيه.
قال: فحدثني الإمام الهاشمي قال: قال لي المتنبي: ما رأيت ببغداد من يجوز أن يقطع عليه اسم شاعر إلا ابن البقال. قال ابن عبد الرحيم: وحدثني الأستاذ أبو الحسين بن محفوظ وقد جرى ذكر ابن البقال فقال: كان أقل ما فيه الشعر، فغلب عليه وعرف به، وإنه كان يضطلع بعلوم كثيرة من جملتها الكلام، وكان قوياً فيه مقدماً في المعرفة به، وكان يقول بتكافؤ الأدلة وهو بئس المذهب.

عمارة بن حمزة الكاتب من ولد أبي لبابة
مولى عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، مولى السفاح، ثم مولى أبي جعفر المنصور. وكان تياها معجباً، جواداً كريماً، معدوداً في سراة الناس، وكان فصيحاً بليغاً، وكان أعور دميماً، وكان المنصور والمهدي بعده يقدمانه ويحتملان أخلاقه، لفضله وبلاغته وكفايته ووجوب حقه، وولى لهما أعمالاً كباراً.
وله تصانيف: منها كتاب رسالة الخميس التي تقرأ لبني العباس، كتاب رسائله المجموعة، كتاب الرسالة الماهانية معدودة في كتب الفصاحة الجيدة، وكان يقال: بلغاء الناس عشرة: عبد الله بن المقفع، وعمارة بن حمزة، وخالد بن يزيد، وحجر بن محمد بن محمد بن حجر، وأنس بن أبي شيخ، وسالم بن عبد الله، ومسعدة، والهزبر بن صريح، وعبد الجبار بن عدي، وأحمد بن يوسف بن صبيح. قال أبو عبد الله محمد بن عبدوس: قلد أبو العباس السفاح عمارة بن حمزة بن ميمون، من ولد أبي لبابة مولى عبد الله بن العباس صياع مروان وآل مروان، خلا ضياع لولد عمر بن عبد العزيز فإنها لم تقبض، وضياع من والاهم وساعدهم.

وقال الخطيب: عمارة من ولد عكرمة مولى ابن عباس، جمع له بين ولاية البصرة، وفارس، والأهواز، واليمامة، والبحرين، والعرض، وهذه الأعمال جمعت للمعلى بن طريف صاحب نهر المعلى، ولمحمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس. وكان عمارة سخياً سرياً جليل القدر، رفيع النفس، كثير المحاسن، وله أخبار حسان، وكان أبو العباس يعرف عمارة بالكبر وعلو القدر وشدة التنزه، فجرى بينه وبين أم سلمة بنت يعقوب بن سلمة المخزومية كلام فاخرته فيه بأهلها، فقال لها أبو العباس: أنا أحضرك الساعة على غير أهبة مولى من موالي، ليس في أهلك مثله ثم أمر بإحضار عمارة على الحال التي يكون عليها، فأتاه الرسول في الحضور فاجتهد في تغيير زيه، قلم يدعه، فجاء به إلى أبي العباس، وأم سلمة خلف الستر، وإذا عمارة في ثياب ممسكة قد لطخ لحيته بالغالية، حتى قامت واستتر شعره، فقال: يا أمير المؤمنين ما كنت احب أن تراني على مثل هذه الحال، فرمى إليه بمدهن كان بين يديه فيه غالية، فقال: يا أمير المؤمنين، أترى لها في لحيتي موضعاً؟ فأخرجت إليه أم سلمة عقداً وكان له قيمة جليلة، وقالت للخادم: أعلمه أنني أهديته إليه فأخذه بيده، وشكر أبا العباس ووضعه بين يديه ونهض، فقالت أم سلمة لأبي العباس: إنما أنسيه، فقال أبو العباس للخادم: ألحقه به وقل له: هذا لك، فلم خلفته؟ فاتبعه الخادم فلما وصل إليه قال له: ما هو لي، فاردده، فلما أدى الرسالة قال له: إن كنت صادقاً فهو لك، وانصرف الخادم بالعقد، وعرف أبا العباس ما جرى، وامتنع من من رده على أم سلمة وقال: قد وهبه لي فاشتريه بعشرين ألف دينار: وكان عمارة يقول: يخبز في داري ألفا رغيف في كل يوم، يؤكل منها ألف وتسعمائة وتسعة وتسعون رغيفاً حلالاً، وآكل منها رغيفاً واحداً حراماً، وأستغفر الله، وكان يقول: ما أعجب قول الناس: فلان رب الدار، إنما هو كلب الدار وكانت نخوة عمارة وتيهه يتواصفان ويستسرفان، فأراد أبو جعفر أن يعبث به، وخرج يوماً من عنده فأمر بعض خدمه أن يقطع حمائل سيفه لينظر أيأخذه أم لا؟ وسقط السيف، ومضى عمارة ولم يلتفت وحدث ميمون بن هارون عمن يثق به: أن عمارة بن حمزة كان من تيهه إذا أخطأ يمضي على خطئه ويتكبر عن الرجوع ويقول: نقض وإبرام في ساعة واحدة، الخطأ أهون من ذلك. وكان عمارة بن حمزة يوماً يماشي المهدي في أيام المنصور ويده في يده، فقال له رجل: من هذا أيها الأمير؟ فقال: أخي وابن عمي عمارة بن حمزة، فلما ولى الرجل ذكر المهدي ذلك لعمارة كالمازح، فقال عمارة: إنما انتظرت أن تقول: مولاي، فأنفض والله يدي من يدك، فضحك المهدي.
وحكى عن عمارة بن حمزة أنه قال: انصرفت يوماً من دار أبي جعفر المنصور بعد أن بايع للمهدي بالعهد إلى منزلي، فلما صرت إليه صار إلي المهدي فقال: قد بلغني أن أمير المؤمنين قد عزم على أن يبايع لأخي جعفر بالعهد بعدي، وأعطي الله عهداً لئن فعل لأقتلنه.
قال: فمضيت من فوري إلى أمير المؤمنين، فلما دخلت إليه قال: هيه يا عمارة، ما جاء بك؟ قلت: أمر حدث، أنا ذاكره، قال: فأنا أخبرك به قبل أن تخبرني، جاءك المهدي فقال لك: كيت وكيت، قلت: والله يا أمير المؤمنين لكأنك كنت ثالثنا، قال: قل له: نحن أشفق عليه من أن نعرضه لك يا أبا عبد الله.

وقال محمد بن يزداد: قلد المنصور عمارة بن حمزة الخراج بكور دجلة، والأهواز وكور فارس، وتوفي المنصور سنة ثمان وخمسين ومائة وعمارة يتقلد جميع هذه الكور، وبلغ موسى الهادي حال بنت لعمارة جميلة فراسلها، فقالت لأبيها ذلك: فقال: ابعثي إليه في المصير إليك، وأعلميه أنك تقدرين على إيصاله إليك في موضع يخفي أثره، فأرسلت إليه بذلك، وحمل موسى نفسه على المصير إليها، فأدخلته قد فرشت وأعدت له، فلما حصل فيها دخل عليه عمارة فقال له: السلام عليك أيها الأمير، ماذا تصنع ههنا؟ اتخذناك ولي عهد فينا، أو فحلاً لنسائنا؟ ثم أمر به فبطح في موضعه، وضربه عشرين درة خفيفة ورده إلى منزله، فحقد الهادي ذلك عليه، فلما ولي الخلافة دس عليه رجلاً يدعي عليه أنه غصبه الضيعة المعروفة بالبيضاء بالكوفة، وكانت قيمتها ألف ألف درهم، فبينا الهادي ذات يوم قد جلس للمظالم وعمارة بن حمزة بحضرته إذ وثب الرجل فتظلم منه، فقال له الهادي: قم فاجلس مع خصمك، وإن كانت له فهي له، ولا أساوي هذا النذل في المجلس، ثم قام وانصرف مغضباً، وقلد المهدي عمارة بن حمزة الخراج بالبصرة، فكتب إليه يسأله أن يضم إليه الأحداث مع الخراج ففعل ذلك، وقلده الأحداث مضافة إلى الخراج، وكان عمارة أغور دميماً، فقال فيه بعض أهل البصرة:
أراك وما ترى إلا بعين ... وعينك لا ترى إلا قليلا
وأنت إذا نظرت بملء عين ... فخذ من عينك الأخرى كفيلا
كأني قد رأيتك بعد شهر ... ببطن الكف تلتمس السبيلا
ومدحه سلمة بن عباس فقال:
بلوت وحربت الرجال بخبرة ... وعلم ولا ينبيك عنهم كخابر
فلم أر أحرى من عمارة فيهم ... بود ولا أوفى بجار مجاور
وأكرم عند النائبات بداهة ... إذا نزلت بالناس إحدى الدوائر
تمسك بحبل من عمارة واعتصم ... بركن وفي عهده غير غادر
كأن الذي ينتابه عن جناية ... يمت بقربي عنده وأواصر
فنعم معاذ المستجير ومنزل ال ... كريم ومثوى كل عان وزائر
ولعمارة شعر، منه ما أنشده الجهشياري:
لا تشكون دهراً صححت به ... إن الغني في صحة الجسم
هبك الإمام أكنت منتفعاً ... بغضارة الدنيا مع السقم؟
وكرهه أهل البصرة لتيهه وعجبه، فذكر الأرقط: أنه رفع أهل البصرة على عمارة أنه أختان مالاً كثيراً، فسأله المهدي عن ذلك فقال: والله يا أمير المؤمنين، لو كانت هذه الأموال التي يذكرونها في جانب بيتي ما نظرت إليها، فقال: أشهد إنك لصادق ولم يراجعه فيها. ودخل صالح بن خليل الناسك على المهدي فوعظه وأبكاه طويلاً، وذكر له سيرة العمرين، فأجابه المهدي: بفساد الزمان وتغير أهله وما حدث له من العادات، وذكر له جماعة من أصحابه وما لهم من الأموال والنعمة، وذكر فيهم عمارة بن حمزة وقال: بلغني أن له ألف دواج بوبر، سوى مالا وبر فيه، وسوى غيها من الأصناف التي يتدثر بها، وكان الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك شديد الكبر، عظيم التيه والعجب، فعوتب في ذلك فقال: هيهات، هذا شيء حملت عليه نفسي، لما رأيته من عمارة بن حمزة، فإن أبي كان يضمن فارس من المهدي، فحل عليه ألف ألف درهم، فأخرج ذلك كاتب الديوان، فأمر المهدي أبا عون عبد الله بن يزيد بمطالبته وقال له: إن أدى إليك المال قبل أن تغرب الشمس من يومنا هذا وإلا فأتني برأسه، وكان متغضباً عليه، وكانت حيلته لا تبلغ عشر المال، فقال لي: يا بني إن كانت لنا حيلة فليس إلا من قبل عمارة بن حمزة وإلا فأنا هالك، فامض إليه فمضيت إليه، فلم يعرني الطرف، ثم تقدم من ساعته بحمل المال فحمل إلينا، فلما مضى شهران جمعنا المال فقال أبي: امض إلى الشريف الحر الكريم فأد إليه ماله، فلما عرفته خبره غضب وقال: ويحك! أكنت قسطاراً لأبيك؟ فقلت: لا، ولكنك أحييته ومننت عليه، وهذا المال قد استغنى عنه. فقال: هو لك. فعدت إلى أبي فقال: لا، والله ما تطيب نفسي لك به، ولكن لك منه مائتا ألف درهم، فتشبهت به حتى صار خلقاً لي لا أستطيع مفارقته.

وحدث أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني في كتاب له صنفه في السخاء: حدثنا القاضي الحسن بن إسماعيل، حدثنا عبد الله بن سعد الوراق، حدثني هارون بن محمد بن إسماعيل القرشي قال: أخبرني عبد الله بن أبي أيوب المكي قال: بعث أبو أيوب المكي بعض ولده إلى عمارة بن حمزة، فأدخله الحاجب، قال: ثم أدناني إلى ستر مسبل فقال: ادخل، فدخلت فإذا هو مضطجع محول وجهه إلى الحائط، فقال لي الحاجب: سلم، فسلمت ولم يرد السلام، فقال الحاجب: اذكر حاجتك، فقلت له: - جعلني الله فداءك - أخوك أبو أيوب يقرئك السلام، ويذكر ديناً بهضه وستر وجهه، ويقول: لولاه لكنت مكان رسولي، تسأل أمير المؤمنين قضاءه عني، فقال: وكم دين أبيك؟ فقلت: ثلاثمائة ألف درهم، فقال: وفي مثل هذا أكلم الأمير؟ يا غلام: احملها معه، وما التفت إلي ولا كلمني غير هذا.
قال الدارقطني: حدثنا حسين بن إسماعيل، حدثنا عبد الله بن أبي سعيد، حدثنا إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان الهاشمي، حدثنا محمد بن سلام الجمحي، حدثنا الفضل بن الربيع قال: كان أبي يأمرني بملازمة عمارة بن حمزة، قال: فاعتل عمارة وكان المهدي سيئ الرأي فيه، فقال له أبي يوماً: يا أمير المؤمنين، مولاك عمارة عيلي، وقد أفضى إلى بيع فرشه وكسوته. فقال: غفلنا عنه، وما كنت أظن أنه بلغ إلى هذه الحالة! احمل إليه خمسمائة ألف درهم يا ربيع، وأعلمه أن له عندي بعدها ما يحب. قال: فحملها أبي من ساعته وقال لي: اذهب بها إلى عمك وقل له: أخوك يقرئك السلام ويقول: أذكرت أمير المؤمنين أمرك، فاعتذر من غفلته عنك، وأمر لك بهذه الدراهم وقال: لك عندي ما تحب. قال: فأتيته ووجهه إلى الحائط، فسلمت فقال لي: من أنت؟ فقلت له: ابن أخيك الفضل بن الربيع. فقال: مرحباً بك، وأبلغته الرسالة فقال: قد كان طال لزومك لنا، وقد كنا نحب أن نكافئك على ذلك ولم نتمكن قبل هذا الوقت، انصرف بها فهذه لك. قال: فهبته أن أرد عليه، فتركت البغال على بابه وانصرفت إلى أبي، فأعلمته الخبر فقال لي: يا بني، خذها - بارك الله لك فيها - فليس عمارة ممن يراجع، فكان أول مال ملكته.
قال ابن عبدوس: وكان الماء زائداً في أيام الرشيد، فركب يحيى بن خالد والقوا ليعرفوا المواضع المخوفة من الماء ليحفظوها، ففرق القواد، وأمر بإحكام المسنيات، وسار إلى الدور، فوقف ينظر إلى قوة الماء وكثرته. فقال قوم: ما رأينا مثل هذا الماء! فقال يحيى: قد رأيت مثله في سنة من السنين، وكان أبو العباس خالد - يعني أباه - وجهني فيها إلى عمارة بن حمزة في أمر رجل كان يعنى به من أهل جرجان، وكانت له ضياع بالري، فورد عليه كتابه يعلمه أن ضياعه تحيفت فخربت، وأن نعمته قد نقصت، وحاله قد تغيرت، وأن صلاح أمره في تأخيره بخراجه سنة، وكان مبلغه مائة ألف درهم، ليتقوى به على عمارة ضيعته، ويؤديه في السنة المستقبلة، فلما قرأ أبي كتابه غمه وبلغ منه، وكان بعقب ما ألزمه إياه أبو جعفر من المال الذي خرج عليه، فخرج به عن ملكه واستعان بجميع إخوانه فيه، فقال: يا بني: من ههنا نفزع إليه في أمر هذا الرجل؟ فقلت: لا أدري. فقال: بلى عمارة بن حمزة، فصر إليه وعرفه حال الرجل، فصرت إليه وقد أمدت دجلة، وكان ينزل في الجانب الغربي، فدخلت إليه وهو مضطجع على فراشه فأعلمته ذلك، فقال: قف لي غداً بباب الجسر ولم يزد على ذلك، فنهضت ثقيل الرجلين، وعدت إلى أبي العباس والدي بالخبر، فقال لي: يا بني، تلك سجيته، فإذا أصبحت فاغد لوعده، فغدوت إلى باب الجسر، وقد جادت دجلة في تلك الليلة بمد عظيم قطع الجسور، وانتظم الناس من الجانبين جميعاً ينظرون إلى زيادة الماء، فبينا أنا واقف إذا بزورق قد أقبل والموج يخفيه مرة ويظهره أخرى، والناس يقولون: غرق، غرق، نجا، نجا، حتى دنا من الجرف، فإذا عمارة بن حمزة في الزورق بلا شيء معه، وقد خلف دوابه وغلمانه في الموضع الذي ركب منه، فلما رأيته نبل في عيني وملأ صدري، فنزلت وغدوت إليه فقلت: - جعلت فداك - في مثل هذا اليوم؟ فأخذت بيده فقال: كنت أعدك وأخلف يا بن أخي؟ اطلب لي برذون كراء، قال: فقلت: برذوني، فقال: هات، فقدمت إليه برذوني فركب، وركبت برذون غلامي، وتوجه يريد أبا عبيد الله وهو إذ ذاك على الخراج، والمهدي ببغداد خليفة للمنصور، والمنصور في بعض أسفاره.

قال: فلما طلع على حاجب أبي عبيد الله، دخل بين يديه إلى نصف الدار ودخلت معه، فلما رآه أبو عبيه الله قام عن مجلسه وأجلسه فيه وجلس بين يديه، فأعلمه عمارة حال الرجل وسأله إسقاط خراجه، وهو مائتا ألف دينار، وإسلافه من بيت المال مائتي ألف يردها في العام المقبل فقال له أبو عبيه الله: هذا لا يمكنني، ولكني أؤخره بخراجه إلى العام المقبل. فقال له: لست أقبل غير ما سألتك، فقال أبو عبيد الله فاقنع بدون ذلك لتوجد لي السبيل إلى قضاء حاجة الرجل. فأبى عمارة وتلوم عبيد الله قليلاً، فنهض عمارة فأخذ أبو عبيد الله بكمه وقال: أنا أحتمل ذلك في مالي، فعاد إلى مجلسه. وكتب أبو عبيد الله إلى عامل الخراج بإسقاط خراج الرجل لسنته، والاحتساب به على أبي عبيد الله وإسلافه مائتي ألف درهم ترتجع منه في العام المقبل، فأخذت الكتاب وخرجنا فقلت له: لو أقمت عند أخيك ولم تعبر في هذا المد؟ قال: لست أجد بداً من العبور، فصرت معه إلى الموضع ووقفت حتى عبر.
هذي المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ودخل عمارة يوماً على المهدي فأعظمه، فلما قام قال له رجل من أهل المدينة من القرشيين: يا أمير المؤمنين، من هذا الذي أعظمته هذا الإعظام كله؟ فقال: هذا عمارة بن حمزة مولاي، فسمع عمارة كلامه، فرجع إليه فقال: يا أمير المؤمنين، جعلتني كبعض خبازيك وفراشيك، ألا قلت: عمارة بن حمزة بن ميمون، مولى عبد الله بن عباس ليعرف الناس مكاني؟.

عمر بن إبراهيم بن محمد بن محمد بن أحمد
ابن علي بن الحسين بن علي بن حمزة بن يحيى بن الحسين ذي الدمعة بن زيد الإمام الشهيد بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب عليه السلام، يكنى أبا البركات من أهل الكوفة، إمام من أئمة النحو واللغة والفقه والحديث، مات فيما ذكره السمعاني في شعبان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة في أيام المقتفي، ودفن في المسبلة التي للعلويين، وقدر من صلى عليه بثلاثين ألفاً، وكان مولده في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، أخذ النحو عن أبي القاسم زيد بن علي الفارسي، عن أبي الحسين عبد الوارث، عن خاله أبي علي الفارسي، وأخذ عنه أبو السعادات بن الشجري، وأبو محمد بن بنت الشيخ.
قال السمعاني: وكان خشن العيش صابراً على الفقر، قانعاً باليسير، سمعته يقول: أنا زيدي المذهب، ولكني أفتي على مذهب السلطان - يعني أبا حنيفة - . سمع ببغداد أبا بكر الخطيب، وأبا الحسين بن الناقور، وبالكوفة أبا الفرج محمد بن علاء الخازن وغيره، ورحل إلى الشام وسمع من جماعة، وأقام بدمشق وحلب مدة قال: وحضرت عنده وسمعت منه، وكان حسن الإصغاء سليم الحواس، ويكتب خطاً مليحاً سريعاً على كبر سن، وكنت ألازمه طول مقامي بالكوفة في الكور الخمس، وما سمعت منه في طول ملازمتي له شيئاً في الاعتقاد أنكرته، غير أني كنت يوماً قاعداً في باب داره وأخرج لي شذرة من مسموعاته، وجعلت أفتقد فيها حديث الكوفيين، فوجدت فيها جزءاً مترجماً بتصحيح الأذان بحي على خير العمل، فأخذته لأطالعه فأخذه من يدي وقال: هذا لا يصلح لك، وله طالب غيرك، ثم قال: ينبغي للعالم أن يكون عنده كل شيء، فإن لكل نوع طالباً.
وسمعت يوسف بن محمد بن مقلد يقول: كنت أقرأ على الشريف عمر جزءاً فمر بي حديث فيه ذكر عائشة فقلت: - رضي الله عنها - فقال لي الشريف: تدعو لعدة علي؟ أو تترضى على عدوة علي؟! فقلت: حاشا وكلا، ما كانت عدوة علي. وسمعت أبا الغنائم ابن النرسي يقول: كان الشريف عمر جارودي المذهب لا يرى الغسل من الجنابة، وسمعته يقول: دخل أبو عبد الله الصوري الكوفة فكتب بها عن أربعمائة شيخ، وقدم علينا هبة الله بن المبارك السقطي، فأفدته عن سبعين شيخاً من الكوفيين، وما بالكوفة اليوم أحد يروي الحديث غيري، ثم ينشد:
إني دخلت اليمنا ... لم أر فيها حسنا
ففي حرام بلدة ... أحسن من فيها أنا

قال المؤلف: وحكى أن أعرابيين مرا بالشريف عمر وهو يغرس فسيلاً، فقال أحدهما للآخر: أيطمع الشيخ مع كبره أن يأكل من جني هذا الفسيل؟! فقال الشريف: يا بني، كم من كبش في المرعى وخروف في التنور، ففهم أحدهما ولم يفهم الآخر، فقال الذي لم يفهم لصاحبه: إيش، قال؟ قال: إنه يقول: كم من ناب يسقى في جلد حوار، فعاش حتى أكل من ثمر ذلك الفسيل. وللشريف تصانيف، منها: كتاب شرح اللمع.
وكان إبراهيم بن محمد أبو الشيخ أبي البركات أيضاً شاعراً أديباً ذا حظ من النحو واللغة، وهو مذكور في بابه. قال تاج الإسلام: سمعت عمر بن إبراهيم بن محمد الزيدي يقول: لما خرجنا من طرابلس الشام متوجهين إلى العراق، خرج لوداعنا الشريف أبو البركات بن عبيد الله العلوي الحسني، وودع صديقاً لنا يركب البحر إلى الإسكندرية، فرأيت خالك يتفكر فقلت له: أقبل على صديقك، فقال لي: قد عملت أبياتاً اسمعها، فأنشدني في الحال:
قربوا للنوى القوارب كيما ... يقتلوني ببينهم والفراق
شرعوا في دمي بتشديد شرع ... تركوني من شدها في وثاق
قلعوا حين أقلعوا لفؤادي ... ثم لم يلبثوا لقدر الفواق
ليتهم حين ودعوني وساروا ... رحموا عبرتي وطول اشتياقي
هذه وقفة الفراق فهل أح ... يا ليوم يكون فيه التلاقي؟
قال في تاريخ الشام: حكى أبو طالب بن الهراس الدمشقي - وكان حج مع أبي البركات - : أنه صرح له بالقول بالقدر وخلق القرآن، فاستعظم أبو طالب ذلك منه وقال: إن الأئمة على غير ذلك، فقال له: إن أهل الحق يعرفون بالحق، ولا يعرف الحق بأهله، قال: هذا معنى حكاية أبي طالب.

عمر بن بكير
كان صاحب الحسن بن سهل خصيصاً به ومكيناً عنده يسائله عن مشكلات الأدب، وكان رواية ناسباً أخبارياً نحوياً، وله عمل الفراء كتاب معاني القرآن، وذكر ذلك في أخبار الفراء.
قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب الأيام يتضمن يوم الغول، يوم الظهر، يوم أرمام، يوم الكوفة، غزوة بني سعد بن زيد مناة، يوم مبايض.
حدث ميمون بن هارون قال: حدثني أبو الحسن محمد بن عمر بن بكير قال: كان أبي بين يدي المنتصر وهو أمير، وأحمد بن الخصيب كاتب المنتصر فقال: دعنا من الرسوم الدائرة والعظام البالية، فوثب عمر بن بكير فقال: أيها الأمير: إن للحسن بن سهل علي نعماً عظاماً، وله في عنقي منن جمة، فقال: ما هي يا عمر؟ قال: ملأ يأيها الأمير منزلي ذهباً وفضة، وأدنى مجلسي حتى زال عن مجلسه، وخلع علي فألحقني برؤساء أهل العلم، كأبي عبيدة والأصمعي، ووهب بن جرير وغيرهم، وقد أقدرني الله بالأمير على مكافأته، وهذا من أوقاته، فإن رأى الأمير أن يسهل إذنه، ويجعل ذلك على يدي وحبوة لي وذريعة إلى مكافأة الحسن فعل، فقال: يا أبا حفص، بارك الله عليك، فمثلك يستودع المعروف، وعندك يتم البر، ومثلك يرغب الأشراف في اتخاذ الصنائع، وقد جعلت إذن الحسن إليك، فأدخله في أي وقت حضر من ليل أو نهار، ولا سبيل لأحد من الحجاب عليه، فقبل أبي البساط ووثب إلى الباب، فأدخل الحسن وأتكأه على يده، فلما سلم على المنتصر أمره بالجلوس فجلس وقال له: قد صيرت إذنك إلى أبي حفص، ورفعت يد الحاجب عنك، فاحضر إذا شئت من غدو أو رواح، وارفع حوائجك، وتكلم بكل ما في صدرك، فقال الحسن: أيها الأمير، والله ما أحضر طلباً للدنيا، ولا رغبة فيها ولا حرصاً عليها، ولكن عبد يشتاق إلى سادته، وبلقائهم يشتد ظهوره، وينبسط أمله، وتتجدد نعم الله عنده، وما أحضر لغير ذلك، وأحمد بن الخطيب يتقد غيظاً، فقال له المنتصر: فاحضر الآن أي وقت شئت، فأكب الحسن على البساط فقبله شكراً ونهض.
قال أبي: ونهضت معه، فلما بعدنا عن عين المنتصر بلغني أن المنتصر قال: هكذا فليكن الشاكرون، وعلى أمثال هذا فلينعم المنعمون. وقال الحسن لعمر يا أبا حفص: والله ما أدري بأي لسان أثني عليك؟ فقال: سبحان الله، أنا أولى بالشكر والثناء عليك والدعاء لك، خولتني الغنى وألبستني النعمى في الزمان الصعب، وفي الحال التي كان يجفوني فيها الحميم، فجزاك الله عني وعن ولدي أفضل الجزاء.
فقال الحسن: وا لهفتا، ألا يكون ذلك المعروف أضعاف ما كان. لا در در الفوت، وتعساً للندم وأحواله، والله در الخزيمي حيث يقول:

ودون النوى في كل قلب ثنية ... لها مصعد حزن ومنحدر سهل
وود الفتى في كل نيل ينيله ... إذا ما انقضى لو أن نائله جذل
ثم قال لي أبي: يا محمد اخرج معه - أعزه الله - حتى تؤديه إلى منزله. قال أبو الحسن: فخرجت معه فلم أزل أحادثه حتى جرى ذكر رزين العروضي الشاعر، وكان قد امتدحه بقصيدة، فمات رزين قبل أن يوصلها إلى الحسن، فقلت: أيد الله الأمير، كان شاعر من أهل العلم والأدب مدح الأمير بقصيدة وهي في العسكر مثل، ومات قبل أن يسمعها الأمير، قال: فأسمعنيها، فأنشدته إياها وأولها:
قربوا جمالهم للرحيل ... غدوة أحبتك الأقربون
خلفوك ثم مضوا مدلجين ... منفرداً بهمك ما ودعوك
وفيها:
من مبلغ الأمير أخي المكرمات ... مدحة محبرة في ألوك؟
تزدهي كواسطة في النظام ... فوق نحر جارية تستبيك
يابن سادة زهر كالنجوم ... محيياً سيادة ما أولوك
ذو الرياستين أخوك النجيب ... فيه كل مكرمة وفيك
ذو الرياستين وانت الذان ... يحييان سنة غازي تبوك
لم تزالا حياً للبلاد ... والعباد ما لكما من شريك
أنتما إن أقحط العالمون ... منتهى الغياث ومأوى الضريك
يابن سهل الحسن المستغاث ... وفي الوغى إذا اضطرب الفكيك
يا لمن ألح عليه الزمان ... مفزع لغيرك يا بن الملوك
لا ولا وراءك للراغبين ... مطلب سواك حاشا أخيك
والقصيدة غريبة العروض، قال أبو الحسن: وأنا والله أنشده وعيناه تهمي على خده فتقطر على نحره، ثم قال: والله ما أبكي إلا لقصور الأيام عما أريده لقاصدي، ثم جعل يتلهف ويقول: ما الذي منعه من اللقاء، تعذر الحجاب أم قعود الأسباب؟ فقلت: اعتل - جعلني الله فداك - على توفي فيها، فجعل يترحم عليه ثم قال: والله لا أكون أعجز من عاقمة بن علاثة حيث مات قبل وصول النابغة إليه بالقصيدة التي رحل بها إليه حيث يقول:
فما كان بيني لو لقيتك سالماً ... وبين الغنى إلا ليال قلائل
الأبيات، فبلغت الأبيات علقمة فأوصى له بمثل نصيب ابن له، ولكن هل لهذا الشاعر وارث؟ قلت: نعم، بنية، قال: تعرف مكانها؟ قلت: نعم، قال: والله ما يتسع وقتي هذا لما أنويه ولكن القليل والعذر يسعنا، ثم دعا غلاماً وقال: هات، ما بقي من نفقة شهرنا. فأتى بألفي درهم في صرة فدفعها إلي وقال: يا أبا الحسن، خذ ألفاً وأعط الصبية ألفاً، فأخذت الألفين وانصرفت وعملت بما أمرني به. ومات الحسن بن سهل بسر من رأى في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائتين في أيام المتوكل.
قال المؤلف: ما نسب إلى علقمة في هذه الحكاية غلط. لأن الوارد عليه هو الخطيئة، وكان علقمة والياً على حوران، فلما قاربه مات علقمة، فقال الخطيئة الأبيات. لكن هكذا هذه الحكاية، ولا أدري كيف حالها؟

الجزء السادس عشر
عمر بن أحمد يعرف بابن العديم
بن أبي جرادة، يعرف بابن العديم العقيلي يكنى أبا القاسم، ويلقب كمال الدين، من أعيان أهل حلب وأفاضلهم، وهو عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. واسم أبي جرادة عامر بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل أبي القبيلة ابن كعب بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

وبيت أبي جرادة بيت مشهور من أهل حلب، أدباء شعراء فقهاء، عباد زهاد قضاة، يتوارثون الفضل كابراً عن كابر وتالياً عن غابر، وأنا أذكر قبل شروعي في ذكره شيئاً من مآثر هذا البيت، وجماعة من مشاهيرهم،ثم أتبعه بذكره ناقلاً ذلك كله من كتاب ألفه كمال الدين - أطال الله بقاءه - ، وسماه الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة، وقرأته عليه فأقر به. سألته أولاً: لم سميتم ببني العديم؟ فقال: سألت جماعة من أهلي عن ذلك فلم يعرفوه وقال: هو اسم محدث لم يكن آبائي القدماء يعرفون بهذا ولا أحسب إلا أن جد جدي القاضي أبا الفضل هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن أبي جرادة - مع ثروة واسعة، ونعمة شاملة - كان يكثر في شعره من ذكر العدم، وشكوى الزمان فسمي بذلك، فإن لم يكن ذلك سببه فلا أدري ما سببه؟.
حدثني كمال الدين أبو القاسم قال: حدثني جمال الدين أبو غانم محمد بن هبة الله بن محمد بن أبي جرادة عمي قال: لما ختمت القرآن قبل والدي - رحمه الله - بين عيني وبكى وقال: الحمد لله يا ولدي، هذا الذي كنت أرجوه فيك.
حدثني جدك عن أبيه عن سلفه: أنه ما منا أحد إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من ختم القرآن.
قال المؤلف: وهذا منقبة جليلة لا أعرف لأحد من خلق الله شرواها، وسألت عنها قوماً من أهل حلب فصدقوها، وقال لي زين الدين محمد بن عبد القاهر بن النصيبي: دع الماضي واستدل بالحاضر، فإنني أعد لك كل من هو موجود في وقتنا هذا، وهم خلق ليس فيهم أحد إلا وقد ختم القرآن، وجعل يتذكرهم واحداً واحداً فلم يخرم بواحد.
حدثني كمال الدين - أطال الله بقاءه - قال: وكان عقب بني أبي جرادة من ساكني البصرة في محلة بني عقيل بها، فكان أول من انتقل منهم عنها موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عامر بن أبي جرادة إلى حلب بعد المائتين للهجرة، وكان وردها تاجراً وحدثني قال: حدثني عمي أبو غانم محمد بن هبة الله بن محمد بن أبي جرادة قال: سمعت والدي يذكر فيما تأثره عن سلفه: أن جدنا قدم إلى البصرة في تجارة إلى الشام فاستوطن حلب قال: وسمعت والدي يذكر أنه بلغه أنه وقع طاعون بالبصرة فخرج منها جماعة من بني عقيل وقدموا الشام فاستوطن جدنا حلب قال: وكان لموسى من الولد محمد وهارون وعبد الله. فأما محمد فله ولد اسمه عبد الله، ولا أدري أعقب أم لا؟ وأما العقب الموجود الآن فلهارون وهو جدنا، ولعبد الله وهم أعمامنا. فمن ولد عبد الله: القاضي أبو طاهر عبد القاهر بن علي بن عبد الباقي بن محمد بن عبد الله بن موسى بن أبي جرادة، وهو من سادات هذا البيت وأعيانهم، ومات في جمادى الأولى من سنة ثلاث وستين وأربعمائة، فقال القاضي أبو الفضل هبة الله بن أحمد بن أبي جرادة يرثيه - وكانت قد توفيت قبل وفاة القاضي أبي الفضل أخته بأيام قلائل، فتوجع للماضين - :
صبرت لا عن رضى مني وإيثار ... وهل يرد بكائي حتم أقدار؟
أروم كف دموعي وهي في صبب ... وأبتغي برد قلبي وهو في نار
ما لليالي تعري جانبي أبداً ... من أسرتي وأخلائي وأوزاري
تلذ طعم مصيباتي فأحسبها ... تظمأ فيروي صداها ماء أشفاري
محاسن جدت الأرض الفضاء بها ... وطالما صنتها عن لحظ أبصاري
وواضح كسنا الإصباح أنقله ... من رأي عيني إلى سري وإضماري
إن الردى أقصدتني غير طائشة ... سهامها في فتى كالكوكب الواري
رمته صائبة الأقدار من كثب ... وما رعت عذر أقدار وأخطار
وهي قصيدة غراء طويلة. ومنهم أبو المجد عبد الله بن محمد بن عبد الباقي بن محمد، شيخ فاضل أديب شاعر، له معرفة باللغة والعربية، سمع بحلب أستاذه أبا عبد الله الحسين بن عبد الواحد بن محمد بن عبد القادر القنسريني المقرئ مؤلف كتاب التهذيب في اختلاف القراء السبعة، وسمعه ولده الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله، وله أشعار حسان منها:
توسوس عن علي الزمان ... ففي كل يوم له معضلة
فلو جعلوا أمره ليلة ... إلي لأصبح في سلسلة

ومات الشيخ أبو المجد بحلب في حدود سنة ثمانين وأربعمائة. ومنهم ولده الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة صدر زمانه، وفرد أوانه، ذو فنون من العلوم، وخطه مليح جداً، على غاية من الرطوبة والحلاوة والصحة، وله شعر يكاد يختلط بالقلب، ويسلب اللب لطافة ورقة، تصدر بحلب لإفادة العلوم الدينية والأدبية متفرداً بذلك كله، ورتب غريب الحديث لأبي عبيد على حروف المعجم رأيته بخطه، وشرع في شرح أبياته شروعاً لم يقصر فيه، ظفرت منه بكراريس من مسوداته لأنه لم يتم. سمع بحلب والده أبا المجد وأبا الفتح عبد الله بن إسماعيل الحلي وأبا الفتيان محمد بن سلطان بن حيوس الشاعر وغيرهم. ورحل عن حلب قاصداً للحج في ثالث شعبان سنة ست عشرة وخمسمائة، ووصل إلى بغداد وسمع بها أبا محمد بن عبد الله بن علي المقرئ وغيره، ولم يتيسر للناس في هذا العام حج، فعاد من بغداد إلى حلب، ثم سافر إلى الموصل بعد ذلك في سنة إحدى وثلاثين وسمع بها، وأدركه تاج الإسلام أبو سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني فسمع منه بحلب هو وجماعة وافرة، وذكره السمعاني في المذيل لتاريخ بغداد. قال المؤلف: وقد ذكرته في هذا الكتاب في موضعه بما ذكره السمعاني به.
حدثني كمال الدين قال: سمعت والدي - رحمه الله - يقول: كتب الشيخ أبو الحسن بن أبي جرادة بخطه ثلاث خزائن من الكتب لنفسه، وخزانة لابنه أبي البركات، وخزانة لابنه أبي عبد الله. ومن شعره - أنبأنا به تاج الدين زيد بن الحسن الكندي من قصيدة يصف فيها طول الليل - :
فؤاد بالأحبة مستطار ... وقلب لا يقر له قرار
وما أنفك من هجر وصد ... وعتب لا يقوم له اعتذار
وعين دمعها جم غزير ... ولكن نومها نزر غرار
كأن جفونها عند التلاقي ... تلاقيها الأسنة والشفار
وهذا حالها وهم حلول ... فكيف بها إذا خات الديار
أبيت الليل مرتقباً كئيباً ... لهم في الضلوع له أوار
كأن كواكب الفلك اعتراها ... فتور أو تخونها المدار
ومنها:
فيا لك ليلة طالت ودامت ... فليس لصبحها عنها انسفار
أسائلها لأبلغ منتهاها ... لعل الهم يذهبه النهار
ومات الشيخ أبو الحسن في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة عن ثمان وثمانين سنة. ومنهم ولده أبو علي الحسن بن علي بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة، وكان فاضلاً كاتباً شاعراً أديباً، يكتب النسخ على طريقة أبي عبد الله بن مقلة، والرقاع على طريقة علي بن هلال، وخطه حلو جيد جداً خال من التكلف والتعسف. سمع أباه بحلب. وكتب عنه السمعاني عند قدومه حلب. وسار في حياة أبيه إلى الديار المصرية، واتصل بالعادل أمير الجيوش وزير المصريين وأنس به، ثم نفق بعده على الصالح بن رزيك وخدمه في ديوان الجيش، ولم يزل بمصر إلى أن مات بها في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. ومن شعره في صدر كتاب كتبه إلى أخيه عبد القاهر في سنة ست وأربعين وخمسمائة:
سرى من أقاصي الشام يسألني عني ... خيال إذا ما راد يسلبني مني
تركت له قلبي وجسمي كليهما ... ولم يرض إلا أن يعرس في جفني
وإني ليدنيني اشتياقي إليكم ... ووجدي بكم لو أن وجد الفتى يدني
وأبعث آمالي فترجع حسراً ... وقوفاً على ضن من الوصل أو ظن
فليت الصبا تسري بمكنون سرنا ... فتخبرني عنكم وتخبركم عني
وليت الليالي الخاليات عوائد ... علينا فتعتاض السرور من الحزن
ومن شعره:
ما ضرهم يوم جد البين لو وقفوا ... وزودوا كلفاً أودى به الكلف
تخلفوا عن وداعي ثمت ارتحلوا ... وأخلفوني وعوداً ما لها خلف
واوصلوني بهجر بعد ما وصلوا ... حبلي وما أنصفوني لكن انتصفوا
فليتهم عدلوا في الحكم إذ ملكوا ... وليتهم أسعفوا بالطيف من شعفوا
ما للمحب وللعذال ويحهم؟ ... خانوا ومانوا ولما عنفوا عنفوا
أستودع الله أحباباً ألفتهم ... لكن على تلفي يوم النوى ائتلفوا

عمري لئن نزحت بالبين دارهم ... عني فما نزحوا دمعي وما نزفوا
يا حبذا نظرة منهم على عجل ... تكاد تنكرني طوراً وتعترف
سقت عهودهم غداء واكفة ... تهمي ولو أنها من أدمعي تكف
أحبابنا ذهلت ألبابنا ومحا ... عتابنا لكم الإشفاق والأسف
بعدتم فكأن الشمس واجبة ... من بعدكم وكأن البدر منخسف
يا ليت شعري هلى يحظى برؤيتكم ... طرفي وهل يجمعن ما بيننا طرف؟
ومضمر في حشاه من محاسنكم ... لفظاً هو الدر لا ما يضمر الصدف
كنا كغصنين حال الدهر بينهما ... أو لفظتين لمعنى ليس يختلف
فأقصدتنا صروف الدهر نابلة ... حتى كأن فؤادينا لها هدف
فهل تعود ليالي الوصل ثانية ... ويصبح الشمل منا وهو مؤتلف؟
ونلتقي بعد يأس من أحبتنا ... كمثل ما يتلاقى اللام والألف
وما كتبت على مقدار ما ضمنت ... مني الضلوع ولا ما يقتضي اللهف
فإن أتيت بمكنوني فمن عجب ... وإن عجزت فإن العذر منصرف
ومنهم: أخوه أبو البركات عبد القاهر بن علي بن عبد الله بن أبي جرادة، كان ظريفاً لطيفاً أديباً شاعراً كاتباً، وله الخط الرائق، والشعر الفائق، والتهذيب الذي تبحر في جودته ويلتحق بالنسبة إلى ابن البواب، والتأنق في الخط المحرر الذي يشهد بالتقدم في الفضل وإن تأخر. سمع بحلب أباه أبا الحسن وغيره، وكتب عنه جماعة من العلماء، وكان أميناً على خزائن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي وذا منزلة لطيفة منه، ومن شعره - وكتبه بليقة ذهب - :
ما اخترت إلا أشرف الرتب ... خطا أخلد منه في الكتب
والخط كالمرآة ننظرها ... فنرى محاسن صورة الأدب
هو وحده حسب يطال به ... إن لم يكن إلاه من حسب
ما زلت أنفق فيه من ذهب ... حتى جرى فكتبت بالذهب
وقال أيضاً وهو بدمشق في سنة تسع وأربعين وخمسمائة:
أمت ببذلي خالصاً من مودتي ... إلى من سواء عنده المنع والبذل
وتحسب نفسي والأماني ضلة بأني من شغل الذي هو لي شغل
ألا إن هذا الحب داء موافق ... وإن شفاء الداء ممتنع سهل
عفى الله عمن إن حنى فاحتملته ... تجنى فعاد الذنب لي وله الفضل
ومن كلما أجمعت عنه تسلياً ... تبينت أن الرأي في غيره جهل
سأعرض إلا عن هواه فإنه ... جميل بمثلي حب من ماله مثل
وألقى مقال الناصحين بمسمع ... ضربت عليه بالغواية من قبل
فعندي وإن أخفيت ذاك عن العدى ... عزيمة هم لا تكل ولا تألو
ولي في حواشي كل عذل تلفت ... إلى حب من في حبه قبح العذل
وإني لأدنى ما أكون من الهوى ... إذا أرجف الواشون بي أنني أسلو
هذا لعمري والله الغاية في الحسن والطلاوة، والرونق والحلاوة. وقال أيضاً:
عاد قلبي إلى الهوى من قريب ... ما محب بمنته عن حبيب
طال يا همتي تماديك في الرش ... د خذي من غواية بنصيب
وإذا ما رأيت حسناً غريباً ... فاستعدي له بوجد غريب
يا غزالاً مالت له نشوة العج ... ب فهزت عطفيه هز القضيب
بين ألحاظك المراض وبيني ... نسب لو رعيت حق النسيب
أنت أجريت أعين الدمع من عي ... ني وأوريت زند قلبي الكئيب
لا تقل ليس لي بذلك علم ... فعلى مقلتيك سيما مريب
ما تعديك في الذي أنت فيه ... إن حظي لديك حظ أديب
ومات في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة. ومنهم ابن أخيه أبو الفتح عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي جرادة، وكان يجيد الكتابة وجمع مجاميع حسنة، وجمع شعر والده أبي عبد الله الحسن، وشعر عمه أبي البركات عبد القاهر، وله شعر لا بأس به منه:

من ذا مجيري من يدي شادن ... مهفهف القد مليح العذار
قد كتب الشعر على وجهه ... أسطر مسك طرسها جلنار
فهؤلاء من بني عبد الله بن موسى بن عيسى. وأما أخوه هارون بن موسى، فهو أول من اشترى بحلب ملكاً في قرية تعرف بأورم الكبرى، وكان له ولدان: زهير وأحمد،والعقب لزهير وهو الذي اشترى أكثر أملاك بني أبي جرادة، مثل أورم الكبرى، ويحمول، وأقذار ولؤلؤة والسين وهي قرى، ووقف وقفاً على شرا فرس يجاهد به في سبيل الله. وتوفي في حدود سنة أربعين وثلاثمائة. فمن ولد زهير: أبو الفضل وهو أبو الفضل عبد الصمد بن زهير بن هارون بن موسى، ولادته في حدود سنة عشرين وثلاثمائة. سمع بحلب أبا بكر محمد بن الحسين الشيعي وغيره، وروى عنه ابن أخيه القاضي أبو الحسن أحمد، ومشرق العابد وجماعة، ولعله مات في حدود سنة تسعين وثلاثمائة وليس له عقب. ومنهم أبو جعفر يحيى بن زهير بن هارون بن موسى وهو العديم، إليه ينسبون. وقد ذكرنا أنهم لا يعرفون لم سموا ذلك؟ ومنهم: ولده القاضي أبو الحسن أحمد بن يحيى بن زهير، وهو أول من ولي القضاء بمدينة حلب من هذا البيت، وقد سمع الحديث ورواه، وقرأ الفقه على القاضي أبي جعفر محمد بن أحمد السمعاني، وكان السمعاني إذ ذاك قاضي حلب. أنشدني كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد بن أبي جرادة، أنشدني والدي لجد أبيه القاضي هبة الله بن أحمد بن يحيى يذكر أباب ويفتخر به:
أنا ابن مستنبط القضايا ... وموضح المشكلات حلا
وابن المحازيب لم تعطل ... من الكتاب العزيز تتلى
وفارس المنبر استكانت ... عيدانه من حجاه ثقلا
توفي بعد سنة تسع وعشرين وأربعمائة. ومنهم ابنه القاضي أبو الفضل هبة الله بن أحمد، كان كبير القدر جميل الأمر، مبجلاً عند آل مرداس، له شعر جزل فصيح ذو معان دقاق، يترفع قدره عنه، وإنما يقول ببلاغته وبراعته. سمع الحديث من أبيه، ولعله لقي أبا العلاء المعري وقرأ عليه شيئاً، وولي القضاء بحلب وأعمالها في سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة وبقي على ذلك إلى أن مات، وكانت ولايته للقضاء في أوائل دولة شرف الدولة أبي المكارم مسلم بن قريش بعد وفاة حميه القاضي كسرى بن عبد الكريم بن كسرى، وكتب تقليده من بغداد عن المقتدي بالله. ومن شعره:
لي بالغوير لبانات ظفرت بها ... قد سد من دونها لي أوضح الطرق
وبالثنية بدر لاح في غصن ... أصمى فؤادي لها سهم من الملق
سراقة لقلوب الناظرين لها ... وما يقام عليها واجب السرق
لا يفلت المرء من أشراك مقلتها ... وإن تخلص لم يفلت من العقق
وأبرزت من خلال السجف ذا شعل ... لولا بقا الليل قلنا غرة الفلق
ولائم ودموع العين واكفة ... لا يستبين لها جفن من الغرق
يقول: أفنيته والشمل مجتمع ... ولم تصنه لتوديع ومفترق
وله:
ربع لهند باللوى مصروم ... أقوى فما آو به منهوم
أخفاه إلحاح البلى فضللت في ... إنشاده لولا النسيم تهوم
تضياف طرفي فيه دمع ساجم ... وقرى فؤادي في ذراه هموم
هل عاذر في الربع رائي عيسهم ... تحدى لها وخد بهم ورسيم؟
وهوى تبعده الليلي والنوى ... إن قربته خواطر ورسوم
يا صاحبي خذا المطايا وحدها ... بدمي فما اغتالته إلا الكوم
أمضين أحكام الهوى وأعنه ... ومساعد المرء الظلوم ظلوم
وله:
وما عسى يطلب الرجال من رجل ... كاس من الفضل إن عري من المال
كالبارد العذب يوم الورد من ظمأ ... والصارم العضب في روع وأوجال
همومه في جسيمات الأمور فما ... يلفى مصاحب أطماح وآمال
ألذ من ثروة تأتي بإذلال ... عز القناعة مع صون وإقلال
وما يضر امرأً أثرت مناقبه ... أن اكسبته الليالي رقة الحال

وقال أيضاً يمدح أبا الفضائل سابق بن محمود بن نصر بن صالح بن مرداس صاحب حلب ويشكره، إذ لم يسمع فيه قول حساد وشوا به إليه:
خلها إن ظمئت تشكو الأواما ... لا تقلها الأين إن طال وداما
واجعل السرج إذا ما سغبت ... كلا والمورد العذب اللجاما
أو تراها كالحنايا بالسرى ... وبإسراع إلى المرمى سهاما
قصرت ظهراً وؤسغاً وعسيباً ... مثل ما طالت عناناً وحزاما
تنصب الأذنين حتى خيلت ... بهما تبصر ما كان أماما
وإذا ما بارت الريح اغتدت ... خلفها النكباء حسرى والنعامى
كم مقامي بين أحكام العدى ... أتبع القائد لا أعصى الزماما
أكلة الطاعم لا يرهب إنما ... أو أسير المن إن كف احتشاما
تعتلي أرؤسه أذنابه ... فترى الأرجل تعلو فيه هاما
وإلام الحظ لا ينصفني ... من زمان جار في قصدي إلاما؟
أتمنى راحة تنقذني ... منهم عزت ولو كانت لماما
ومنها:
كم رموني عامداً في هوة ... نارها تعلو اشتعالاً واضطراما
قاصدي حتفي فكانت بك لي ... نار إبراهيم برداً وسلاما
وله في المعنى من قصيدة:
هنئت يا أرض العواجم دولة ... روى ثراك بها أشم أروع
قد عاد في الأيام ماء شبابها ... وتسالمت حرق الأسى والأضلع
أشكو إليك عصابة نبذوا الحيا ... حسداً وشدوا في أذاي وأوضعوا
راموا ابتزازي مورثي عن أسرتي ... وتآزروا في قبضه وتجمعوا
يتطلبون لي الذنوب كأنني ... ممن عليه بالشنان يقعقع
لم أخش قهرهم ونصلك مصلت ... دوني ولي من حسن رأيك مرجع
وله:
وما الذل إلا أن تبيت مؤملاً ... وقد سهرت عيناك وسنان هاجعا
أأخشى أمرأً أو أشتكي منه جفوة ... إذا كنت بالميسور في الدهر قانعا؟
إذا ما رآني طالباً منه حاجة ... ففي حرج إن لم يكن لي مانعا
وكان المنجمون قد حكموا له أنه يموت في صدور الرجال فاتفق أنه اعتقل بالقلعة. مدةً لتهمة اتهم بها بالممالأة لبعض الملوك، ثم أطلق بعد مدة فنزل راكباً وأصحابه حوله، فبينا هو سائر إذ وجد ألماً فقال لأصحابه: أمسكوني أمسكوني، فأخذوه في صدورهم من على فرسه، فلما وصل إلى منزله بقي على صدورهم إلى أن مات بحلب في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. ومنهم ولده القاضي أبو غانم محمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي الحسن أحمد، وكان فقيهاً فاضلاً زاهداً عفيفاً، سمع أباه وغيره، وولي قضاء حلب وأعمالها وخطابتها بعد موت أبيه في أيام تاج الدولة دبيس في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، ولم يزل قاضياً بها إلى أن عزله رضوان لما خطب للمصريين، وولي القضاء القاضي الزوزني العجمي في شوال من سنة تسعين وأربعمائة. ثم عاود الملك رضوان الخطبة لبني العباس، فأعاد القاضي أبا غانم إلى ولايته وجاءه التقليد من بغداد بالقضاء والحسبة عن القاضي علي بن الدامغاني بأمر المستظهر في صفر سنة ست وتسعين وأربعمائة.
وكان مولد القاضي أبي غانم في رجب سنة ست وأربعين وأربعمائة، وهو الذي شرع في عمارة المسجد الذي بحلب يعرف ببني العديم، وأتمه ابنه القاضي أبو الفضل عبد الله، وكان يتولى الخطابة في المسجد الجامع والإمامة بحب، وكان حنفي المذهب وكان يؤم بالناس ثلاثين سنة، وهو متكتف تحت ثيابه، ويسبل أكمامه فارغة خوفاً من الولاة في أيامه لأنهم كانوا إسماعيليين يرون رأي المصريين، وكانوا يفطرون قبل العيد بيوم ويجتمع أكابر حلب في يوم عيدهم يهنئونهم، فصعد القاضي أبو غانم للهناء فيمن صعد، وقدم للناس سكر ولوز وأخذ القاضي أبو غانم لوزة ووضعها في فيه، فقال له صاحب حلب: أيها القاضي، لم لا تأكل من السكر؟ فقال: لأنه يذوب وتبسم، فضحك الوالي وأعفاه من ذلك.

حدثني كمال الدين قال: حدثني عمي حدثني أبي قال: نزل جدك القاضي أبو غانم في بعض الأيام يصلي بالجامع وخلع نعليه قرب المنبر وكانا جديدين، فلما قضى صلاته قام للبسهما فوجد نعله العتيق مكانهما فقال لغلامه: ألم أنزل إلى الجامع بالمداس الجديد؟ فأين هو؟ فقال الغلام: بلى ولكن جاءنا الساعة رجل وطرق الباب وقال: القاضي يقول لكم: أنفذوا إليه مداسه العتيق إلى الجامع، فقد سرق مداسه الجديد فضحك وقال: هذا والله لص شفيق جزاه الله خيراً وهو في حل منه. والقاضي أبو غانم هذا هو الذي نهض من حلب في سنة ثماني عشرة وخمسمائة، وقد حصرها الفرنج ودبيس بعد قتل بلك على منبج، حتى أقدم البرسقي من الموصل فاستنقذها من الحصار، وهربوا لما سمعوا بقدومه. وكان أهل حلب لقوا شدة وأكلوا الميتة ولم يكن عندهم أمير، وإنما تولوا حفظ البلد بأنفسهم، وأبلوا بلاء حسناً حسنت به العاقبة ومنهم ابنه القاضي أبو الفضل هبة الله سمي باسم جده وكني بكنيته، واكن فقيهاً مرضياً ورعاً زاهداً سمع الحديث ورواه، وولي القضاء بحلب وأعمالها بعد موت أبيه القاضي أبي غانم، وكتب له عهده من أتابك زنكي بن آقسنقر في سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، ثم جاء له العهد من بغداد من قاضي القضاة الزينبي بأمر المقتفي. وكان مولده في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وأربعمائة.
فلما قتل أتابك زنكي وولي ابنه نور الدين، وولي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوني قضاء الشام - ورزق البسطة والتحكم في الدولة، وقاوم الوزراء بل الملوك - التمس من القاضي أبي الفضل هذا أن يكتب في كتب سجلاته ذكر النيابة عنه، فامتنع القاضي أبو الفضل ولج ابن الشهرزوني وساعده مجد الدين بن الداية، وهو والي حلب لشيء كان في نفسه على القاضي أبي الفضل لأمور كان يخالفه فيها في أقضية يؤثر فيها جانب الحق على أغراضه، وترددت المراسلات بين نور الدين وبينه في قبول النيابة وهو يأبى إلى أن قال ابن الداية: هذا تحكم منه في الدولة وفيك، إذ تأمره بشيء ولا يمتثله فاعزله، وول محيي الدين بن كمال الدين: فقال نور الدين - بياض في الأصل - يستناب له قاض حنفي فعزل القاضي أبو الفضل وولى محي الدين قضاء حلب، واستنيب له الكوردي وذلك في سنة سبع وخمسين وخمسمائة وحج في تلك السنة.
وكتب أبو الحسين أحمد بن منير الطرابلسي للقاضي أبي الفضل هبة الله يلتمس منه كتاب للوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، وكان قد وعده بها ودافعه:
يا حائزاً غاي كل فضل ... تضل في كنهه الإحاطة
ومن ترقى إلى محل ... أحكم فوق السها مناطة
إلى متى أسعط التني ... ولا ترى المن بالوساطة
ومات القاضي أبو الفضل لعشر بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وستين وخمسمائة. ومنهم ابن أخته أبو المكارم محمد بن عبد الملك بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن أبي جرادة، سمع بحلب ورحل إلى بغداد وسمع بها محمد بن ناصر السلامي وغيره وحدثني كمال الدين أيده الله قال: قال لي شيخنا أبو اليمن زيد الكندي: كان أبو المكارم محمد بن عبد الملك بن أبي جرادة سمع ببغداد الحديث معنا على مشايخنا فسمعت بقراءته وورد إلينا إلى دمشق بعد ذلك، وكنا نلقبه: القاضي بسعادتك، وذلك أن القلانسي دعاه في وليمة وكنت حاضرها، فجعل لا يسأله عن شيء فيخبر عنه بما سر أو ساء إلا وقال في عقبه بسعادتك، فإن قال له: ما فعل فلان؟ قال: مات بسعادتك، وإن قال له: ما خبر الدار الفلانية؟ يقول: خربت بسعادتك، فسميناه القاضي بسعادتك، وكان يقولها لاعتياده إياها لا لجهل كان فيه. وكان له أدب وفضل وفقه وشعر جيد، وقد روى الحديث. ولأبي المكارم شعر منه:
لئن تناءيتم عني ولم تركم ... عيني فأنتم بقلبي بعد سكان
لم أخل منكم ولم أسعد بقربكم ... فهل سمعتم بوصل فيه هجران؟

وله أشعار كثيرة، ومات بحلب في سنة خمس وستين وخمسمائة، أو سنة ست وستين. ومنهم جمال الدين أبو غانم محمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم محمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي الحسين يحيى وهو عم جمال الدين، أحد الأولياء العباد، وأرباب الرياضة والاجتهاد، عامل كثير الصوم والصلاة وهو حي يرزق إلى وقتنا هذا. وكان قد تولى الخطابة بجامع حلب، وعرض عليه القضاء في أيام الملك الصالح إسماعيل بن محمود بن زنكي بعد القاضي ابن الشهرزوري فامتنع منه، فقلد القضاء أخوه القاضي أبو الحسن والد كمال الدين أيده الله، وكتب جمال الدين هذا بخطه الكثير وشغف بتصانيف أبي عبد الله محمد بن علي بن الحكيم الترمذي فجمع معظم تصانيفه عنده وكتب بعضها بخطه، وكتب من كتب الزهد والرقائق والمصاحف كثيراً، وكان خطه في صباه على طريقة ابن البواب القديمة، ووهب لأهله مصاحف كثيرة بخطه، وكان إذا اعتكف في شهر رمضان كتب مصحفاً أو مصحفين، وجمع براوات الأقلام فيكتب بها تعاويذ للحمى وعسر الولادة فيعرف بركتها. قال: وسألت عمي عن مولده فقال: في سنة أربعين وخمسمائة، وقد سمع أباه وعمه أبا المجد عبد الله وغيرهما، وروى الحديث وتفقه على العلاء الغزنوي، واجتمع بجماعة من الأولياء، وكوشف بأشياء مشهورة، وهو الآن يحيا في محرم سنة عشرين وستمائة. ومنهم القاضي أبو الحسن أحمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم محمد بن أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي الحسن أحمد بن أبي جرادة، كل هؤلاء ولوا قضاء حلب، وهذا هو والد كمال الدين صاحب أصل هذه الترجمة، كان يخطب بالقلعة بحلب على أيام نور الدين محمود بن زنكي، ثم ولي الخزانة في أيام ولده الملك الصالح إسماعيل إلى أن عرض القضاء على أخيه كما ذكرنا، فامتنع منه فقلده القاضي هذا بحلب وأعمالها في سنة خمس وسبعين وخمسمائة، ولم يزل والياً للقضاء في أيام الملك الصالح ومن بعده في دولة عز الدين، ثم عماد الدين بن قطب الدين مودود بن زنكي، وصدراً من دولة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى أن عزل عن منزلي الخطابة والقضاء ونقل إلى مذهب الشافعي، وكان عزله عن القضاء في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، ووليه القاضي محيي الدين محمد بن علي الزكي قاضي دمشق الشافعي، وكان صرف أخوه الأصغر أبو المعالي عبد الصمد عن الخطابة قبله، فعلم أن الأمر يئول إلى عزله عن القضاء لأن الدولة شافعية، فاستأذن في الحج والإعفاء من القضاء فصرف عن ذلك بعد مراجعات. وسمع الحديث من أبيه وأبي المظفر سعيد بن سهل الفلكي وغيرهما، ومولده سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، ومات رحمه الله ليلة الجمعة لسبعة وعشرين من شعبان سنة ثلاث عشرة وستمائة، هذا ما كتبته من الكتاب الذي ذكرته آنفاً على سبيل الاختصار والإيجاز، وهو قليل من كثير من فضائلهم. وأنا الآن أذكر من أنا بصدده وهو كمال الدين أبو القاسم عمر بن القاضي أبي الحسن أحمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم محمد بن القاضي أبي سعيد هبة الله بن القاضي أبي الحسن أحمد بن أبي جرادة - وهو الذي نحن بصدده وإلى معرفة حاله ركبنا سنن المقال وجدده، فإنه من شروط هذا الكتاب، لكتابته التي فاقت ابن هلال، وبلغت الغاية في الجودة والإتقان، ولتصانيفه في الأدب التي تذكر آنفاً إن شاء الله تعالى.
فأما أوصافه بالفضل فكثيرة، وسماته بحسن الأثر أثيرة، وإذا كان هذا الكتاب لا يتسع لأوصافه جميعاً، وكان الوقت يذهب بحلاوة ذكر محاسنه سريعاً، ورأيت من المشقة والإتعاب التصدي لجميع فضائله والاستيعاب، فاعتمدت على القول مجملاً لا مفصلاً، وضربةً لا مبوباً فأقول: إن الله عز وجل عني بخلقته، فأحسن خلقه وخلقه وعقله وذهنه وذكاءه، وجعل همته في العلوم ومعالي الأمور، فقرأ الأدب وأتقنه، ثم درس الفقه فأحسنه، ونظم القريض فجوده، وأنشأ النثر فزينه، وقرأ حديث الرسول وعرف علله ورجاله، وتأويله وفروعه وأصوله، وهو مع ذلك قلق البنان جواد بما تحوي اليدان، وهو كاسمه كمال في كل فضيلة، لم يعتن بشيء إلا وكان فيه بارزاً، ولا تعاطى أمراً إلا وجاء فيه مبرزاً، مشهور ذلك عنه لا يخالف فيه صديق، ولا يستطيع دفاعه عدو.

وأما قراءته للحديث في سرعته وصحة إبراده، وطيب صوته وفصاحته، فهو الغاية التي أقر له بها كل من سمعها، فإنه يقرأ الخط العقد كأنه يقرأ من حفظه. وأما خطه في التجويد والتحرير والضبط والتقييد فسواد مقلة لأبي عبد الله بن مقلة، وبدر ذو كمال عند علي بن هلال:
خلال الفضل في الأمجاد فوضى ... ولكن الكمال لها كمال
وإذا كان التمام من خصائص عالم الغيب، وكان الإنسان لابد له من عيب، فعيبه لطالب العنت والشين، أنه يخاف عليه من إصابته العين، هذا مع العفاف والزمت، والوقار وحسن السمت، والجلال المشهور، عند الخاص والجمهور، قاد الجيوش لسبع عشرة حجة ولداته عن ذاك في إشغال سألته - أدام الله علوه - عن مولده فقال لي: ولدت في ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. قال: فلما بلغت سبعة أعوام حملت إلى المكتب فأقعدت بين يدي المعلم فأخذ يمثل لي كما يمثل للأطفال، ويمد خطاً ويرتب عليه ثلاث سينات، فأخذت القلم وكنت قد رأيته وقد كتب بسم، ومد مدته ففعلت كما فعل، وجاء ما كتبته قريباً من خطه، فتعجب المعلم وقال لمن حوله: لئن عاش هذا الطفل لا يكون في العالم أكتب منه. وصحت لعمري فراسة المعلم فيه، فهو أكتب من كل من تقدمه بعد ابن البواب بلا شك.
وقال: وختمت القرآن، ولي تسع سنين، وقرأت بالعشر ولي عشر سنين، وحبب إلى الخط وجعل والدي يحضني عليه، فحدثني الشيخ يوسف بن علي بن زيد الزهري المغربي الأديب معلم والده بحضرة كمال الدين قال: حدثني والد هذا - وأشار إليه - قال: ولد لي عدة بنات وكبرن ولم يولد لي ولد غير ولد واحد ذكر، وكان غاية في الحسن والجمال والفطنة والذكاء، وحفظ القرآن قدراً صالحاً وعمره خمس سنين، واتفق أن كنت يوماً جالساً في غرفة لنا مشرفة على الطريق فمرت بنا جنازة فاطلع ذلك الطفل ببصره نحوها ثم رفع رأسه إلي وقال: يا أبت إذا أنا مت بم تغشي تابوتي؟ فزجرته وأدركني في الوقت استشعار شديد عليه، فلم يمض إلا أيام حتى مرض ودرج إلى رحمة الله ولحق بربه، فأصابني عليه ما لم يصب والداً على ولد، وامتنعت من الطعام والشراب، وجلست في بيت مظلم وتصبرت فلم أعط عليه صبراً، فحملني شدة الوله على قصد قبره وتوليت حفره بنفسي، وأردت استخراجه والتشفي برؤيته، فلمشيئة الله ولطفه بالطفل أو بي لئلا أرى به ما أكره صادفت حجراً ضخماً، وعالجته فامتنع علي قلعه مع قوة وأيد كنت معروفاً بهما، فلما رأيت امتناع الحجر علي علمت أنه شفقة من الله على الطفل أو علي، فزجرت نفسي ورجعت ولهان بعد أن أعدت قبره إلى حاله التي كان عليها، فرأيت بعد ذلك في النوم ذلك الطفل وهو يقول: يا أباه عرف والدتي: أني أريد أجيء إليكم فانتبهت مرعوباً، وعرفت والدته ذلك فبكينا وترحمنا واسترجعنا، ثم إني رأيت في النوم كأن نوراً خرج من ذكري حتى أشرف على جميع دورنا ومحلتنا وعلا علواً كبيراً، فانتبهت وأولت ذلك فقيل لي: أبشر بمولود يعلو قدره، ويعظم أمره، ويشيع بين الأنام ذكره بمقدار ما رأيت من ذلك النور، فابتهلت إلى الله عز وجل ودعوته وشكرته، وقويت نفسي بعد الإياس لأني كنت قد جاوزت الأربعين، فلم تمض إلا هنيهة حتى اشتملت والدة ولدي هذا وأشار إلى كمال الدين - أيده الله - على حمل، وجاءت به في التاريخ المقدم ذكره، فلم يكن بقلبي بحلاوة ذلك الأول، لأنه كان نحيفاً جداً، فجعل كلما كبر نبل جسماً وقدراً، ودعوت عدة دعوات، وسألت الله له عدة سؤالات، ورأيت فيه والحمد لله أكثرها.
ولقد قال له رجل يوماً بحضرتي كما يقول الناس: أراكه الله قاضياً كما كان آباؤه. فقال: ما أريد له ذلك، ولكني اشتهيته أن يكون مدرساً، فبلغه الله ذلك بعد موته، وسمع الحديث على جماعة من أهل حلب والواردين إليها، وأكثر السماع على الشيخ الشريف افتخار الدين عبد المطلب الهاشمي. ورحل به أبوه إلى البيت المقدس مرتين في سنة ثلاث وستمائة، وفي سنة ثمان وستمائة، ولقي بها مشايخ وبدمشق أيضاً، وقرأ على تاج الدين أبي اليمن في النوبتين كثيراً من مسموعاته.

حدثني كمال الدين - أدام الله معاليه - قال: قال لي والدي: احفظ اللمع حتى أعطيك كذا وكذا، فحفظته وقرأته على شيخ حلب يومئذ، وهو الضياء بن دهن الحصا، ثم قال لي: احفظ القدوري حتى أهب لك كذا وكذا من الدراهم كثيرة أيضاّ، فحفظته في مدة يسيرة وأنا في خلال ذلك أجود، وكان والدي رحمه الله يحرضني على ذلك، ويتولى صقل الكاغد لي بنفسه، فإني لأذكر مرة وقد خرجنا إلى ضيعة لنا فأمرني بالتجويد. فقلت: ليس ههنا كاغد جيد، فأخذ بنفسه كاغداً كان معنا ردياً، وتناول شربة اسفيذر وكانت معنا، فجعل يصقل بها الكاغد بيده ويقول لي: اكتب ولم يكن خطه بالجيد، وإنما كان يعرف أصول الخط، فكان يقول لي: هذا جيد وهذا رديء، وكان عنده خط ابن البواب، فكان يريني أصوله إلى أن أتقنت منه ما أردت، ولم أكتب على أحد مشهور إلا أن تاج الدين محمد بن أحمد بن البرفطي البغدادي، ورد إلينا إلى حلب فكتبت عليه أياماً قلائل لم يحصل منه فيها طائل: ثم إن الوالد رحمه الله خطب لي وزوجني بقوم من أعيان حلب وساق إليهم ما جرت العادة بتقدمته في مثل ذلك، ثم جرى بيننا وبينهم ما كرهته وضيق صدري منهم، فوهب لهم الوالد جميع ما كان ساقه إليهم وطلقتهم، ثم إنه وصلني بابنة الشيخ الأجل بهاء الدين أبي القاسم عبد المجيد بن الحسن بن عبد الله المعروف بابن العجمي وهو شيخ أصحاب الشافعي، وأعظم أهل حلب منزلة وقدراً ومالاً وحالاً وجاهاً. وساق إليهم المهر وبالغ في الإحسان، وكان والدي رحمه الله باراً بي، لم يكن يلتذ بشيء من الدنيا التذاذه بالنظر في مصالحي وكان يقول: أشتهي أرى لك ولداً ذكراً يمشي فولد أحمد ولدي ورآه، وبقي إلى أن كبر ومرض مرضة الموت، فيوم مات مشى الطفل حتى وقع في صدره، ثم مات والدي رحمه الله في الوقت الذي تقدم ذكره، وكان الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب رحمه الله كثير الإكرام لي، وما حضرت مجلسه قط فأقبل على أحد إقباله علي مع صغر السن، واتفق أن مرضت في شهور سنة ثماني عشرة وستمائة مرضاً أيس مني فيه، فكان يخطر ببالي وأنا مريض أن الله تعالى لابد وأن يمن بالعافية لثقتي بصحة رؤيا الوالد وكنت أقول: ما بلغت بعد مبلغاً يكون تفسيراً لتلك الرؤيا إلى أن من الله بالعافية وله الحمد والمنة، فذهب عني ذلك الخيال، وليس يخطر منه في هذا الوقت ببالي شيء، لأن نعم الله علي سابغة، وأياديه في حقي شائعة. قلت: ولما مات والده بقي بعده مدة، ومات مدرس مدرسة شادبخت، وهي من أجل مدارس حلب وأعيانها، فولي التدريس بها في ذي الحجة سنة ست عشرة وستمائة، وعمره يومئذ ثمان وعشرون سنة. هذا، وحلب أعمر ما كانت بالعلماء والمشايخ والفضلاء الواسخ، إلا أنه رئي أهلاً لذلك دون غيره، وتصدر وألقى الدرس بجنان قوى ولسان لوذعي فأبهر العالم، وأعجب الناس.
وصنف مع هذا السن كتباً منها: كتاب الدراري في ذكر الذراري جمعه للملك الظاهر، وقدمه إليه يوم ولد ولده الملك العزيز الذي هو اليوم سلطان حلب. كتاب ضوء الصباح في الحث على السماح صنفه للملك الأشرف، - وكان قد سير من حران يطلبه، فإنه لما وقف على خطه اشتهى أن يراه، فقدم عليه فأحسن إليه وأكرمه، وخلع عليه وشرفه - . كتاب الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة - ، وأنا سألته جمعه فجمعه لي، وكتبه في نحو أسبوع وهو عشر كراريس - . كتاب في الخط وعلومه، ووصف آدابه وأقلامه وطروسه، وما جاء فيه من الحديث والحكم، وهو إلى وقتي هذا لم يتم. كتاب تاريخ حلب في أخبار ملوكها وابتداء عمارتها ومن كان بها من العلماء، ومن دخلها من أهل الحديث والرواية والدراية، والملوك والأمراء والكتاب. وشاع ذكره في البلاد، وعرف خطه بين الحاضر والباد، فتهاداه الملوك، وجعل مع اللآلئ في السلوك، وضربت به في حياته الأمثال، وجعل للناس في زمانه حذواً ومثالاً، فمما رغب في خطه أنه اشترى وجهةً واحدةً بخط ابن البواب بأربعين درهماً، ونقلها إلى ورقة عتيقة ووهبها من حي

در الكتبي، فذهب بها وادعى أنها بخط ابن البواب وباعها بستين درهماً زيادة على التي بخط ابن البواب بعشرين درهماً، ونسخ لي هذه الرقعة بخطه فدفع فيها كتاب الوقت على أنها بخطه ديناراً مصرياً ولم يطب قلبي ببيعها، وكتب لي أيضاً جزءاً فيه ثلاث عشرة قائمه نقلها من خط ابن البواب فأعطيت فيها أربعين درهماً ناصرية، قيمتها أربعة دنانير ذهباً فلم أفعل، وأنا أعرف أن ابن البواب لم يكن خطه في أيامه بهذا النفاق، ولا بلغ هذا المقدار من الثمن، وقد ذكرت ما يدل على ذلك في ترجمة ابن البواب. فممن كتب إليه يسترفده شيئاً من خطه سعد الدين منوجهر الموصلي، ولقد سمعته مراراً يزعم أنه أكتب من ابن البواب، ويدعي أنه لا يقوم له أحد في الكتابة ويقر لهذا - كمال الدين - بالكمال، فوجه إليه على لسان القاضي أبي علي القيلوي وهو المشهور بصحبة السلطان الأشرف يسأله سؤاله في سيئ من خطه ولو قائمة أو وجهة، وكان اعتماده على أن ينقل له الموجهة المقدم ذكرها، وممن كتب إليه يسترفده خطه أمين الدين ياقوت المعروف بالعالم، وهو صهر أمين الدين ياقوت الكاتب الذي يضرب به المثل في جودة الخط، وتخرج به ألوف وتتلمذ له من لا يحصى. كتب إلى كمال الدين رقعة وحموه حي يرزق نسختها: الذي حض الخادم على عمل هذه الأبيات وإن لم يكن من أرباب الصناعات: أن الصدر الكبير الفاضل عز الدين حرس الله مجده، لما وصل إلى الموصل خلد الله ملك مالكها، نشر من فضائل المجلس العالي العالمي الفاضلي كمال الدين كمل الله سعادته كما كمل الله سيادته، وبلغه في الدارين مناه وإرادته: ما يعجز البليغ عن فهمه فضلاً عن ان يورده، لكن فضائل المجلس كانت تملى على لسانه وتشغله، فطرب الخادم من استنشاق رياها. واشتاق إلى رؤية حاويها عند اجتلاء محياها، فسمح عند ذلك الخاطر مع تبلده بأبيات تخبر المجلس محبة الخادم له وتعبده وهي:
حيا نداك كمال الدين أحيانا ... ونشر فضلك عن محياك حيانا
وحسن أخلاقك اللائي خصصت بها ... أهدت على البعد لي روحاً وريحانا
حويت يا عمر المحمود سيرته ... خلقاً وخلقاً وأفضالاً وإحساناً
إن كان نجل هلال في صناعته ... ونجل مقلة عينا الدهر قد كانا
فأنت مولاي إنسان الزمان وقد ... غدوت في الخط للعينين إنسانا
قد بث فضلك عز الدين مقتصداً ... ونث شكرك إسراراً وإعلانا
فضاع نشرك في الحدباء واشتهرت ... آيات فضلك أرسالاً ووحدانا
أثني عليك وآمالي معلقة ... بحسن عفوك ترجو منك غفرانا
وإن تطفلت في صدق الوداد ولم ... يقض التلاقي لنا عفواً ولا حانا
فما ألام على شيء أتيت به ... فالأذن تعشق قبل العين أحيانا
يا أفضل الناس في علم وفي أدب ... وأرجح الخلق عند الله ميزانا
قد شرف الله أرضاً أنت ساكنها ... وشرف الناس إذ سواك إنسانا
وقد هجم الكلام على المجلس الأعلى بوجه وقاح، ولم يخش مع عفو المولى وصمة الافتضاح. فليلق عليه المولى ستر المعروف، فهو أليق بكرمه المألوف، والسلام. فكتب إليه كمال الدين بخطه الدري، ولفظه السحري، أنشدنيها لنفسه:
يا من أبحت حمى قلبي مودته ... ومن جعلت له أحشاي أوطانا
أرسلت نحوي أبياتاً طربت بها ... والفضل للمبتدي بالفضل إحسانا
فرحت أختال عجباً من محاسنها ... كشارب ظل بالصهباء نشوانا!
رقت وراقت فجاءت وهي لابسة ... من اللاغة والترصيع ألوانا
حكت بمنثورها والنظم إذ جمعا ... بأحرف حسنت، روضاً وبستانا
جرت على جرول أثواب زينتها ... إذ أصبحت وهي تكسو الحسن حسانا
أضحت تغبر وجه العنبري فما ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
يمسي لها ابن هلال حين ينظرها ... يحكي أباه بما عاناه نقصانا
كذاك أيضاً لها عبد الحميد غدا ... عبداً يجر من التقصير أردانا
أتت وعبدك مغمور بعلته ... فغادرته صحيحاً خير ما كانا

وكيف لا تدفع الأسقام عن جسدي ... وهي الصبا حملت روحاً وريحانا؟
فما على طيفها لو عاد يطرقنا؟ ... فربما زار أحياناً وأحيانا
فاسلم وأنت أمين الدين أحسن من ... وشى الطروس بمنظوم ومن زانا
ولا تخطت إليك الحادثات ولا ... حلت بربعك يا أعلى الورى شانا
وأنشدني كمال الدين أدام الله علاءه لنفسه في الغزل فاعتمد فيه معنى غريباً:
وأهيف معسول المراشف خلته ... وفي وجنتيه للمدامة عاصر
يسيل إلى فيه اللذيذ مدامة ... رحيقاً وقد مرت عليه الأعاصر
فيسكر منه عند ذاك قوامه ... فيهتز تيهاً والعيون فواتر
كأن أمير النوم يهوى جفونه ... إذا هم رفعاً خالفته المحاجر
خلوت به من بعد ما نام أهله ... وقد غارت الجوزاء والليل ساتر
فوسدته كفي وبات معانقي ... إلى أن بدا ضوء من الصبح سافر
فقام يجر البرد منه على تقىً ... وقمت ولم تحلل لإثم مآزر
كذلك أحلى الحب ما كان فرجه ... عفيفاً ووصل لم تشنه الجرائر
وأنشدني لنفسه بمنزله بحلب في ذي الحجة سنة تسع عشرة وستمائة وإملائه:
وساحرة الأجفان معسولة اللمى ... مراشفها تهدي الشفاء من الظما
حنت لي قوسي حاجبيها وفوقت ... إلى كبدي من مقلة العين أسهما
فوا عجباً من ريقها وهو طاهر ... حلال وقد أضحى علي محرما!
فإن كان خمراً أين للخمر لونه ... ولذته مع أنني لم أذقهما؟
لها منزل في ربع قلبي محله ... مصون به مذ أوطنته لها حمى
جرى حبها مجرى حياتي فخالطت ... محبتها روحي ولحمي والدما
تقول: إلى كم ترتضي العيش أنكداً ... وتقنع أن تضحي صحيحاً مسلما؟
سر في بلاد الله واطلب الغنى ... تفز منجداً إن شئت أو شئت متهما
فقلت لها: إن الذي خلق الورى ... تكفل لي بالرزق منا وأنعما
وما ضرني أن كنت رب فضائل ... وعلم عزيز النفس حراً معظماً
إذا عدمت كفاي مالاً وثروةً ... وقد صنت نفسي أن أذل وأحرما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
لا يظنن الناظر في هذه الأبيات أن قائلها فقير وقير فإن الأمر بعكس ذلك، لأنه - والله يحوطه - رب ضياع واسعة وأملاك جمة، ونعمة كبيرة، وعبيد كثيرة، وإماء وخيل ودواب، وملابس فاخرة وثياب. ومن ذلك: أنه بعد موت أبيه اشترى داراً كانت لأجداده قديماً بثلاثين ألف درهم، ولكن نفسه واسعة، وهمته عالية، والرغبات في الدنيا بالنسبة إلى الراغبين، والشهوة لها على قدر الطالبين. وأنشدني لنفسه بمنزله في التاريخ:
سألزم نفسي الصفح عن كل من جنى ... علي وأعفو حسبة وتكرما
وأجعل مالي دون عرضي وقاية ... ولو لم يغادر ذاك عندي درهما
وأسلك آثار الألى اكتسبوا العلا ... وحازوا خلال الخير ممن تقدما
أولئك قومي المنعمون ذوو النهى ... بنو عامر فاسأل بهم كي تعلما
إذا ما دعوا عند النوائب إن دجت ... أناروا بكشف الخطب ما كان أظلما
وإن جلسوا في مجلس الحكم خلتهم ... بدور ظلام والخلائق أنجما
وإن هم ترقوا منبراً لخطابة ... فأفصح من يوماً بوعظ تكلما
وإن أخذوا أقلامهم لكتابة ... فأحسن من وشى الطروس ونمنما
بأقوالهم قد أوضح الدر واغتدى ... بأحكامهم علم الشريعة محكما
دعاؤهم يجلو الشدائد إن عرت ... وينرل قطر الماء من أفق السما
وقائلة يا ابن العديم إلى متى ... نجود بما تحوي ستصبح معدما؟
فقلت لها: عني إليك فإنني ... رأيت خيار الناس من كان منعما

أبى اللؤم لي أصل كريم وأسرة ... عقيلية سنوا الندى والتكرما
وأنشدني لنفسه وقد رأى في عارضه شعرة بيضاء وعمره إحدى وثلاثون سنة:
أليس بياض الأفق في الليل مؤذناً ... بآخر عمر الليل إذ هو أسفرا؟
كذاك سواد النبت يقرب يبسه ... إذا ما بدا وسط الرياض منوراً
ودخلت إلى كمال الدين المذكور يوماً فقال لي: ألا ترى، أنا في السنة الحادية والثلاثين من عمري، وقد وجدت في لحيتي شعرات بيضاً فقلت أنا فيه:
هنيئاً كمال الدين فضلاً حبيته ... ونعماء لم يخصص بها أحد قبل
لداتك في شغل بداعية الصبا ... وأنت بتحصيل المعالي لك الشغل
بلغت لعشر من سنينك رتبة ... من المجد لا يسطيعها الكامل الكهل
ولما اتاك الحكم والفهم ناشئاً ... أشابك طفلاً كي يتم لك الفضل

عمر بن ثابت
أبو القاسم الثمانيني النحوي الضرير. إمام فاضل، وأديب كامل، أخذ عن أبي الفتح بن جني، وكان خواص الناس في ذلك الوقت يقرؤون على أبي القاسم عند الواحد بن برهان الأسدي، وعمومهم يقرؤون على الثمانيني. مات الثمانيني في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة في خلافة القائم بأمر الله، وهو منسوب إلى سوق ثمانين بليد صغير بأرض جزيرة ابن عمر بأرض الموصل من ناحية قردى. يقال: إنها أول مدينة بنيت بعد الطوفان وسميت بذلك، لأنهم زعموا أن الذين نجوا من السفينة كانوا ثمانين آدمياً.
وله من التصانيف: كتاب شرح اللمع، كتاب المفيد في النحو، كتاب شرح التصريف الملوكي. وجدت في بعض الكتب: أن أول قرية بنيت بعد الطوفان ثمانين، وإنما سميت بهذا الاسم، لأن ثمانين نفراً خرجوا من السفينة وبنوها، ولما خرجوا من السفينة نزلوا قردى وبازبدى بأرض الموصل وهي قرية الثمانين ثم وقع فيهم الوباء فماتوا إلا نوحاً وسام بن نوح وحاماً ويافثاً ونساءهم وطبقت الدنيا منهم، فذلك قوله عز وجل: (وجعلنا ذريته هم الباقين).
عمر بن جعفر بن محمد الزعفراني
أبو القاسم يلقب دومى، أحد أعيان أهل الأدب المخصصين بمعرفة علم الشعر من القوافي والعروض وغير ذلك، ذكره محمد بن إسحاق النديم وكان في عصره، وله: كتاب العروض في خمس مجلدات ضخمة، رأيتها بخطه في وقف جامع حلب، وله كتاب القوافي، وكتاب اللغات - ذكرهما ابن النديم - .
عمر بن الحسين الخطاط غلام ابن خرنقا
كان كاتباً مليح الخط محظوظاً منه، وكان يكتب على طريقة علي بن هلال البواب ويجيد في ذلك، وخطه مشهور عند كتاب الآفاق معروف، مات فيما ذكره صدقة بن الحسين الحيار في حادي عشر جمادى الآخرة، سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة للهجرة، ودفن في داره بدرب الدواب، وكان له من آلة الكتابة ما لم يكن لأحد قبله، وذلك أنه حدثني محمد بن البرفطي الكاتب قال: حدثني أبو اليمن زيد بن الحسين الكندي: أنه بيع له في تركته آلة الكتابة بتسعمائة دينار أمامية، من جملة ذلك، دواة بأزهر اشتراها بعض ولد زعيم الدين بن جعفر صاحب المخزن بتسعمائة دينار، وبيع له بالباقي سكاكين وأقلام وبراكر وما شاكل ذلك.
عمر بن شبة بن عبيدة بن ريطة البصري
أبو زيد مولى بني نمير، واسم شبة زيد، وإنما سمي شبة لأن أمه كانت ترقصه وتقول:
يا بأبي وشبا ... وعاش حتى دبا
شيخاً كبيراً خبا
مات لست بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وستين ومائتين للهجرة بسامرا، وبلغ من السن تسعين سنة، وكان أبو زيد راوية للأخبار عالماً بالآثار، أديباً فقيهاً صدوقاً قال المرزباني: وهو القائل للحسن بن مخلد:
ضاعت لديك حقوق واستهنت بها ... والحر يألم من هذا ويمتعض
إني سأشكر نعمى منك سالفة ... وإن تخونها من حادث عرض
وله:
أصبحت كلاً على أناس ... قد كنت عن مثلهم عزوفاً

قال محمد بن إسحاق: وله من التصانيف: كتاب الكوفة، كتاب البصرة، كتاب أمراء المدينة، كتاب أمراء مكة، كتاب السلطان، كتاب مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه، كتاب الكتاب، كتاب الشعر والشعراء، كتاب الأغاني، كتاب التاريخ، كتاب أخبار المنصور، كتاب أخبار محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن حسن، كتاب أشعار الشراة، كتاب النسب، كتاب أخبار بني نمير، كتاب ما يستعجم الناس فيه من القرآن، كتاب الاستعانة بالشعر وما جاء في اللغات، كتاب الاستعظام، كتاب النحو ومن كان يلحن من النحويين، كتاب طبقات الشعراء.
وكان لأبي زيد ابن اسمه أبو طاهر أحمد، وكان شاعراً مجيداً، اعتبط قبل أن يبلغ مبلغ المشهورين، مات بعد أبيه بعشر سنين. ومن شعر عمر بن شبة:
وقائلة لم يبق للناس سيد ... فقلت: بلى عبد الرحيم بن جعفر
ومن شعر ابنه أبي طاهر أحمد:
نظرت فلم أر في العسكر ... كشؤمي وشؤم أبي جعفر
غدا الناس للعيد في زينة ... من اليوم في منظر أزهر
ويغدو عليهم بلا أهبة ... فراراً من المنزل المقفر
فنقعد للشؤم في عزلة ... من الناس ننظر في دفتر

عمر بن عثمان بن الحسين بن شعيب الجنزي
أبو حفص، من أهل ثغر جنزة، ذكره عبد الكريم السمعاني فقال: هو أحد أئمة الأدب، وله باع طويل في الشعر والنحو، ورد بغداد وأقام بها مدة، وصحب الأئمة واقتبس منهم، وأكثر ما قرأ الأدب على أبي المظفر الأبيوردي ثم رجع إلى بلده وعاد ثانياً إلى بغداد، وذاكر الفضلاء بها وبالبصرة وخوزستان، وبرع في العلم حتى صار علامة زمانه، وأوحد عصره وأوانه، وكان غزير الفضل وافر العقل، حسن السيرة كثير العبادة، متودداً سخي النفس، صنف التصانيف وجمع الجموع، وشرع في إملاء تفسيره - لو تم لم يوجد مثله - سمع بهمذان عبد الرحمن الدوني، كتبت عنه بمرو وأنشدني لنفسه:
أحادي عيسى إن بلغت مقامي ... فبلغ صحابي لاعدمت سلامي
وخبرهم عما أعاني من الجوى ... ومن لوعتي في هجرهم وسقامي
وقل لهم: إني متى ما ذكرتكم ... غصصت لذكراكم بكل طعام
وإن دموعي كلما لاح كوكب ... ترقرق في خدي كصوب غمام
وإن هب من أرض الحبيب نسيمه ... تقلقل أحشائي وهاج غرامي
وإن غردت وهناً حمامة أيكة ... أحنت بنوحي لحن كل حمام
وله:
قالت وخطتك شيبة كالعين ... كم تذرف عيناك ذروف العين؟
قد قلت لها: أيا سواد العين ... يزداد من الثلوج ماء العين؟
العين الأولى: الطليعة، ومات الجنزي في رابع عشر ربيع الآخر سنة خمسين وخمسمائة للهجرة بمرو، وقد جاوز السبعين. وذكره أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي في كتاب الوشاح فقال: هو إمام في النحو والأدب لا يشق فيهما غباره، ومع ذلك فقد تحلى بالورع ونزاهة النفس، لكن الزمان عانده، وما بسط في أسباب معاشه يده، جاس خلال الديار وقال: أدركت زمان الأشج، ورأيت مصلاه في طنجة المغرب، إلا أني لم أمكث حتى أراه، وأدب بنيسابور أولاد الوزير فخر الملك، ثم ارتحل من نيسابور في شهور سنة خمس وأربعين وخمسمائة للهجرة ثم لم يعد إليها، وقضى نحبه بعد انتقاله من نيسابور بأيام قلائل، وأنشد له قصيدة واحدة في مدح الإمام محمد بن حمويه منها:
ألم تذكر رابعاً بعسفان عامراً ... وبيضاً يودعن الأحبة خردا
يشعثن بالعناب ضغث بنفسج ... ويضربن بالأسروع خداً موردا
كأن النوى لم تلق غير جوانحي ... ومقلتي العبرى مراداً وموردا
وتذري على الورد الجمان بنرجس ... حمته بنان تترك الصب مقصدا
حكى خدها دمعي وقلبي قلبها ... وحاجبها قدي لما قد تأودا
وإن بخلت عيني وضنت بمائها ... إذاً جاد قلبي بالدماء وأنجدا
وأبدع منه أن حر أضالعي ... ولوعاتها تغلى التراب المبردا
وشابهتها إذ عرضت في ثلاثة ... تزيد لها حسناً وتورثنا الردى
وتصعد من صدري رياح بوارد ... إذا أنا ذكرت اللوى متنهدا

قرأت بخط أبي سعد: أنشدنا أبو حفص عمر بن عثمان الجنزي لنفسه يعزي الكمال المستوفي بزوجته:
إذا جل قدر المرء جل مصاب ... وكل جليل بالجليل يصاب
يروح الفتي في غفلة عن مآله ... ويشغله عنه هوى وشباب
فلم يتفكر أن من عاش ميت ... وأن الذي فوق الترب تراب
وأن ثراءً يقتنيه مشتت ... وأن بناء يبتنيه خراب
ونعمة ذي الدنيا بلاء ومحنة ... وماذيها سم يضر وصاب
وفرحتها عند الأكايس ترحة ... وسلسالها للأولياء سراب
فلا يخدعن المرء نعمى حلالها ... حساب عليه والحرام عقاب
وللدهر مستوف عليهم مناقش ... له مع أهل الخافقين خطاب
على كل نفس مشرفان لربه ... غداً لهما فيما أتته كتاب
وهي طويلة.

عمر بن عثمان بن خطاب بن بشير التميمي
أبو حفص النحوي، مغربي، له كتاب الأمر والنهي، ويعرف بكتاب المكتفي.
عمر بن أبي محمد بن يوسف بن يعقوب
ابن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم بن القاضي. حدث أبو القاسم التنوخي قال: حدثني أبو الحسين بن عياش القاضي قال: لما قلد المقتدر أبا الحسين بن أبي عمر القاضي المدينة رياسةً في حياة أبيه أبي عمر خلع عليه، واجتمع الخلق من الأشراف والقضاة والشهود والجند والتجار وغيرهم على باب الخليفة حتى خرج أبو الحسين وعليه الخلع، فساروا معه قال: وكنت فيهم - للصهر الذي كان بينه وبينهم، ولأنه كان أحد شهودهم - فصار عمي وأنا معه في أخريات الناس والموكب خوفاً من الزحام، ومعنا شيخ أسن أسماه أبو الحسين وأنسيته أنا، فكنا لا نجتاز بموضع إلا سمعنا ثلب الناس لأبي الحسين وتعجبهم من تقلده رياسةً. فقال عمي للشيخ يا أبا فلان: أما ترى كثرة تعجب الناس من تقلد هذا الصبي مع فضله ونفاسته وعلمه وجلالة سلفه؟! فقال: يا أبا محمد، لا تعجب من هذا، فلعهدي وقد ركبت مع أبي عمر يوم خلع عليه بالحضرة وقد اجتزنا بالناس وهم معجبون من تقلده أضعاف هذا العجب حتى خفنا أن يثبوا علينا، وهذا أبو عمر الآن وقدره في الفضل والنبل، ولكن الناس يسرعون إلى العجب مما لم يألفوه. وله من التصانيف: كتاب غريب الحديث كبير لم يتم، كتاب الفرخ بعد الشدة لطيف، وهو فيما أحسب أول من صنف ذلك.
حدث ابن نصر والخطيب عن أبي الطيب بن زنجي المؤدب قال: كان بين أبي أحمد بن ورقاء وبين القاضي أبي عمر وولده أبي الحسين مودة وكيدة، فعن لأبي أحمد سفرة لم يودع فيها القاضيين، فلما عاد من سفرته لم يقصداه ولم يعرفا خبره، فكتب إليهما:
أأستجفي أبا عمر وأشكو ... أم أستجفي فتاه أبا الحسين؟
بأي قضية وبأي حكم ... ألحا في قطيعة واصلين؟
فما جاءا ولا بعثا رسولاً ... ولا كانا لحق قاضيين
وإن من المروءة أن يكونا ... لمن والاهما متواليين
فإن نعتب فحقاً غير أنا ... نجل على العتاب القاضيين
وأنفذ الرقعة إلى أبي عمر، فلما وقف عليها ألقاها إلى ولده أبي الحسين وقال: أجبه، فأنت أقوم بجواب هذا الكلام، فكتب إليه:
تجن واظلم فلست منتقلاً ... عن خالص الود أيها الظالم
كتبت تشكو قطيعة سلفت ... وخلت أني لحبلكم صارم
تركت حق الوداع منصرفاً ... وجئت تبغي زيارة القادم
كأن حقي عليك مطرح ... وحق ما تبتغيه بي لازم
أمران لم يذهبا على فطن ... وأنت بالحكم فيهما عالم
وبعد ذا فالعتاب من ثقة ... وصدره من حفيظة سالم
فلما وقف عليها ركب إليهما وعاد معهما إلى ما كان عليه من المصافاة.
عمر بن محمد النسفي الحافظ
ونسف هي نخشب وما وراء النهر. كنيته أبو حفص، وصنف كتباً منها كتاب القند في علماء سمرقند، ذكر فيها وقال: وموسى بن عبد الله الأغماتي قدم علينا سنة إحدى وستين وخمسمائة وهو شاب فاضل، وبقي عندي أياماً وكتب عني الكثير، ولأجله جمعت كتاباً سميته عجالة النخشبي لضيفه المغربي، وفيه قلت:
لقد طلع الشمس من غربها ... على خافقيها وأوساطها

فقلنا: القيامة قد أقبلت ... وقد جاء أول أشراطها
قال: وأنشدني موسى الأغماني لنفسه:
لعمر الهوى إني وإن شطت النوى ... لذو كبد حرى وذو مدمع سكب
فإن كنت في أقصى خراسان نازحاً ... فجسمي في شرق وقلبي في غرب

عمر بن مطرف الكاتب
يكنى أبا الوزير، من عبد القيس كان من أهل مرو، وكان يتقلد ديوان المشرق للمهدي وهو ولي عهد، ثم كتب له في خلافته والهادي والرشيد، وكان يكتب للمنصور وللمهدي. وقيل: إنه مات في أيامه، والصحيح أنه مات في أيام الرشيد فحزن عليه وصلى هو عليه بنفسه، فلما فرغ من صلاته قال له: رحمك الله، ما عرض لك أمران أحدهما لله والآخر لك، إلا اخترت ما هو لله على هواك.
وله من الكتب: كتاب مفاخرة العرب ومنافرة القبائل في النسب، كتاب منازل العرب وحدودها وأين كانت محلة كل قوم؟ وإلى أين انتقل منها؟. كتاب رسائله.
قال محمد بن عبدوس: وكان الرشيد أمر بإبطال دواوين الأزمة في سنة سبعين ومائة، فأبطلت شهرين ثم أعيدت، ووليها أبو الوزير عمر بن المطرف بن محمد العبدي، منسوب إلى عبد القيس لأنه كان مولاهم، وكان مطرف بن محمد أحد كتاب المهدي، وتقلد له ديوان الخراج أيام مقامه بالري، وتوفى مطرف بن محمد سنة أربع وأربعين ومائة في قول، وقيل غير ذلك، وقد ذكرته بعد هذا. وكان أبو الوزير عفيفاً متصوفاً وكان يبخل.
وحكي أنه كلم عمر بن العلاء في رجل فوهب له مائة ألف درهم فدخل أبو الوزير على الرشيد وقال له: يا أمير المؤمنين، عمر خائن، كلمته في رجل كانت هبته ألفي درهم، فوهب له ألف درهم. فلم يضره ذلك عند الرشيد لعلمه ببخل أبي الوزير، ولما انصرف عمر بن العلاء إلى حضرة أبي الوزير أغلظ له وشدد معاتبته لأجل ما وهب للرجل وقال له: قد كان يجزئه إذا أسرفت أن تهب له خمسة آلاف درهم، قال له عمر بن العلاء: فاعمل على أني أعطيته بكتابك خمسة آلاف درهم، وأعطيته لنفسي خمسة وتسعين ألف درهم. وفي أبي الوزير يقول بعض الشعراء:
لبس الرئاء وراح في أثوابه ... نحو الخليفة كاسراً لم يطرف
يبدي خلاف ضميره ليغره ... لله در رئائك ابن مطرف
وكان حج الرشيد في سنة ست وثمانين ومائة، وقد حج الرشيد بعد ذلك أيضاً في سنة ثمان، ولا أدري في أية حجتيه هاتين مات أبو الوزير.
عمرو بن أبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني
قد تقدم ذكر نسبه وولائه عند ذكر أبيه، وكان عمرو هذا قد أخذ علم أبيه وتصدر للقراءة عليه وأبوه حي، مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وقال الأزهري: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائتين.
عمرو بن بحر بن محبوب
أبو عثمان الجاحظ مولى أبي القلمس عمرو بن قلع الكناني ثم الفقمي أحد النسابين، قال يموت بن المزرع: الجاحظ خال أمي، وكان جد الجاحظ أسود يقال له فزارة، وكان جمالاً لعمرو بن قلع الكناني. وقال أبو القاسم البلخي: الجاحظ كناني من أهل البصرة، وكان الجاحظ من الذكاء وسرعة الخاطر والحفظ بحيث شاع ذكره، وعلا قدره، واستغنى عن الوصف.
قال المرزباني: حدث المادي قال: حدثني من رأى الجاحظ يبيع الخبز والسمك بسيحان. قال الجاحظ: أنا أسن من أبي نواس بسنة، ولدت في أول سنة خمس ومائة وولد في آخرها. مات الجاحظ سنة خمس وخمسين ومائتين في خلافة المعتز وقد جاوز التسعين، سمع من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وأخذ النحو عن الأخفش أبي الحسن وكان صديقه، وأخذ الكلام عن النظام، وتلقف الفصاحة من العرب شفاهاً بالمربد. وحدثت أن الجاحظ قال: نسيت كنيتي ثلاثة أيام حتى أتيت أهلي فقلت لهم: بم أكنى؟ فقالوا: بأبي عثمان.
وحدث أبو هفان قال: لم أر قط ولا سمعت من أب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائناً ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر. والفتح بن خاقان، فإنه يحضر لمجالسة المتوكل، فإذا أراد القيام لحاجة أخرج كتاباً من كمه أو خفه وقرأه في مجلس المتوكل إلى حين عوده إليه حتى في الخلاء وإسماعيل بن إسحاق القاضي فإني ما دخلت إليه إلا رأيته ينظر في كتاب، أو يقلب كتباً أو ينفضها.

وقال المرزباني: قال أبو بكر أحمد بن علي: كان أبو عثمان الجاحظ من أصحاب النظام، وكان واسع العلم بالكلام، كثير التبحر فيه شديد الضبط لحدوده، ومن أعلم الناس به وبغيره من علوم الدين، وله كتب كثيرة مشهورة جليلة في نصرة الدين، وفي حكاية مذهب المخالفين، وفي الآداب والأخلاق، وفي ضروب من الجد والهزل، وقد تداولها الناس وقرؤوها وعرفوا فضلها. وإذا تدبر العاقل المميز أمر كتبه علم أنه ليس في تلقيح العقول وشحذ الأذهان، ومعرفة أصول الكلام وجواهره، وإيصال خلاف الإسلام ومذاهب الاعتزال إلى القلوب - كتب تشبهها، والجاحظ عظيم القدر في المعتزلة وغير المعتزلة من العلماء الذين يعرفون الرجال ويميزون الأمور.
قال المرزباني: وكان الجاحظ ملازماً لمحمد بن عبد الملك خاصاً به، وكان منحرفاً عن أحمد بن أبي دؤاد للعداوة بين أحمد ومحمد. ولما قبض على محمد هرب الجاحظ فقيل له: لم هربت؟ فقال: خفت أن أكون ثاني اثنين إذ هما في التنور، يريد ما صنع بمحمد، وإدخاله تنور حديد فيه مسامير كان هو صنعه ليعذب الناس فيه، فعذب هو فيه حتى مات - يعني محمد بن الزيات - .
وحدث علي بن محمد الوراق قال: من كتاب الجاحظ إلى ابن الزيات: لا والله، ما عالج الناس داءً قط أدوى من الغيظ، ولا رأيت شيئاً هو أنفذ من شماتة الأعداء، ولا أعلم باباً أجمع لخصال المكروه من الذل، ولكن المظلوم ما دام يجد من يرجوه، والمبتلى ما دام يجد من يرثي له، فهو على سبب درك وإن تطاولت به الأيام، فكم من كربة فادحة، وضيقة مصمتة قد فتحت أقفالها وفككت أغلالها، ومهما قصرت فيه فلم أقصر في المعرفة بفضلك، وفي حسن النية بيني وبينك، لا مشتت الهوى، ولا مقسم الأمل، على تقصير قد احتملته، وتفريط قد اغتفرته، ولعل ذلك أن يكون من ديون الإدلال وجرائم الإغفال، ومهما كان من ذلك فلن أجمع بين الإساءة والإنكار، وإن كنت كما تصف من التقصير وكما تعرف من التفريط، فإني من شاكري أهل هذا الزمان، وحسن الحال. متوسط المذهب، وأنا أحمد الله على أن كانت مرتبتك من المنعمين فوق مرتبتي في الشاكرين، وقد كانت علي بك نعمة أذاقتني طعم العز، وعودتني روح الكفاية، ولوت هذا الدهر وجهده، ولما مسخ الله الإنسان قرداً وخنزيراً ترك فيهما مشابه من الإنسان، ولما مسخ زماننا لم يترك فيه مشابه من الأزمان.
وقال أبو عثمان: ليس جهد البلاء مد الأعناق وانتظار وقع السيف، لأن الوقت قصير، والحين معمور، ولكن جهد البلاء أن تظهر الخلة وتطول المدة، وتعجز الحيلة، ثم لا تعدم صديقاً مؤنباً، وابن عم شامتاً، وجاراً حاسداً، وولياً قد تحول عدواً، وزوجة مختلعة، وجارية مسبعة، وعبداً يحقرك، وولداً ينتهرك.
وقال الجاحظ: إذا سمعت الرجل يقول: ما ترك الأول للآخر شيئاً، فاعلم أنه ما يريد أن يفلح. قال أبو حيان في كتاب التقريظ ومن خطه نقلت:

وحدثنا أبو دلف الكاتب قال: صدر الجاحظ في ديوان الرسائل أيام المأمون ثلاثة أيام ثم إنه استعفى فأعفي. وكان سهل بن هارون يقول: إن ثبت الجاحظ في هذا الديوان أفل نجم الكتاب. قال أبو عبد الله المرزباني: حدث إسحاق الموصلي وأبو العيناء قال: كنت عند أحمد بن أبي دؤاد بعد قتل ابن الزيات فجيء بالجاحظ مقيداً وكان من أصحاب ابن الزيات وفي ناحيته، فلما نظر إليه قال: والله ما علمتك إلا متنسباً للنعمة، كفوراً للصنيعة، معدداً للمساوي، وما فتني باستصلاحي لك، ولكن الأيام لا تصلح منك لفساد طويتك، ورداءة داخلتك، وسوء اختيارك، وتغالب طبعك. فقال له الجاحظ: خفض عليك، - أيدك الله - ، فوالله لأن يكون لك الأمر علي خير من أن يكون لي عليك، ولأن أسيء وتحسن، أحسن عنك من أن أحسن فتسيء، وأن تعفو عني في حال قدرتك أجمل من الانتقام مني. فقال له ابن أبي دؤاد: قبحك الله، ما علمتك إلا كثير تزويق الكلام، وقد جعلت ثيابك أمام قلبك، ثم اصطفيت فيه النفاق والكفر، ما تأويل هذه الآية؟: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد). قال: تلاوتها تأويلها - أعز الله القاضي - . فقال: جيئوا بحداد. فقال: - أعز الله القاضي - ليفك عني أو ليزيدني؟ فقال: بل ليفك عنك. فجيء بالحداد فغمزه بعض أهل المجلس أن يعنف بساق الجاحظ، ويطيل أمره قليلاً، فلطمه الجاحظ وقال: اعمل عمل شهر في يوم، وعمل يوم في ساعة، وعمل ساعة في لحظة، فإن الضرر على ساقي، وليس بجذع ولا ساجة. فضحك ابن أبي دؤاد وأهل المجلس منه. وقال بان أبي دؤاد لمحمد بن المنصور، وكان حاضراً: صر به إلى الحمام وأمط عنه الأذى، واحمل إليه تخت ثياب وطويلة وخفاً، فلبس ذلك ثم أتاه متصدر في مجلسه، ثم أقبل عليه وقال: هات الآن حديثك يا أبا عثمان. ومن شعر الجاحظ في ابن أبي دؤاد:
وعويص من الامور بهيم ... غامض الشخص مظلم مستور
قد تسنمت ما توعر منه ... بلسان يزينه التحبير
مثل وشي البرود هلله النس ... ج وعند الحجاج در نثير
حسن الصمت والمقاطع إما ... نصت القوم والحديث يدور
ثم من بعد لحظة تورث اليس ... ر وعرض مهذب موفور
وكتب الجاحظ إلى أحمد بن أبي دؤاد:
لا تراني وإن تطاولت عمداً ... بين صفيهم وأنت تسير
كلهم فاضل علي بمال ... ولساني يزينه التحبير
فإذا ضمنا الحديث وبيت ... وكأني على الجميع أمير
رب خصم أرق من كل روح ... ولفرط الذكا يكاد يطير
فإذا رام غايتي فهو كاب ... وعلى البعد كوكب مبهور
وحدث أبو العيناء عن إبراهيم بن رباح قال: أتاني جماعة من الشعراء كل واحد منهم يدعي أنه مدحني بهذه الأبيات وأجزيه عليها:
بدا حين أثرى بإخوانه ... ففلل عنهم شباة العدم
وذكره الدهر صرف الزمان ... فبادر قبل انتقال النعم
فتى خصه الله بالمكرمات ... فمازج منه الحيا بالكرم
ولا ينكت الأرض عند السؤال ... ليقطع زواره عن نعم
ويقال: إن الجاحظ مدح بهذه الأبيات أحمد بن أبي دؤاد وإبراهيم بن رباح، ومحمد بن الجهم.
وحدث إبراهيم بن رباح قال: مدحني حمدان بن أبان اللاحقي وذكر مثل ما مضى وقال في آخره فقال: إن مادحك - أعزك الله - يجد مقالاً، والجاحظ يملأ عينيه مني ولا يستحي. قال: وحدث يموت بن المزرع قال: هجا خالي أبو عثمان الجاحظ الجماز بأبيات منها:
نسب الجماز مقصو ... ر إليه منتهاه
تنتهي الأحساب بالنا ... س ولا تعدو قفاه
فكتب إليه الجماز:
يا فتىً إلى ال ... كفر بالله تائقه
لك في الفضل والتزه ... د والنسك سابقه
ومن هجاء الجماز للجاحظ قوله:
قال عمرو مفاخراً ... نحن قوم من العرب
قلت في طاعة لرب ... ك أبليت ذا النسب؟

وحدث أبو العيناء محمد بن القاسم قال: كان لي صديق فجاءني يوماً فقال: أريد الخروج إلى فلان العامل وأحببت أن يكون معي إليه وسيلة وقد سألت: من صديقه؟. فقيل لي: أبو عثمان الجاحظ وهو صديقك، وأحب أن تأخذ لي كتابه إليه بالعناية. قال: فصرت إلى الجاحظ فقلت له: جئتك مسلماً وقاضياً للحق، ولي حاجة لبعض أصدقائي وهي كذا وكذا. قال: لا تشغلنا الساعة عن المحادثة وتعرف أخبارنا، إذا كان في غد وجهت إليك بالكتاب، فلما كان من غد وجه إلي بالكتاب. فقلت لابني: وجه هذا الكتاب إلى فلان ففيه حاجته. فقال لي: إن أبا عثمان بعيد الغور، فينبغي أن نفضه وننظر ما فيه، ففعل فإذا في الكتاب: هذا الكتاب مع من لا أعرفه، وقد كلمني فيه من لا أوجب حقه، فإن قضيت حاجته لم أحمدك، وإن رددته لم أذممك. فلما قرأت الكتاب مضيت إلى الجاحظ من فوري فقال: يا أبا عبد الله، قد علمت أنك أنكرت ما في الكتاب. فقلت: أوليس موضع نكرة؟ فقال: لا، هذه علامة بيني وبين الرجل فيمن أعتني به. فقلت: لا إله إلا الله، ما رأيت أحداً بطبعك ولا ما جبلت عليه. من هذا الرجل علمت أنه لما قرأ الكتاب قال: أم الجاحظ عشرة آلاف في عشرة آلاف قحبة، وأم من يسأله حاجة. فقلت له: ما هذا؟ تشتم صديقنا، فقال: هذه علامتي فيمن أشكره، فضحك الجاحظ، وحدث الفتح بن خاقان، وحدث الفتح المتوكل: فذلك كان سبب اتصالي به وإحضاري إلى مجلسه.
وحدث عبد الرحمن بن محمد الكاتب قال: كان الجاحظ يتقلد خلافة إبراهيم بن العباس الصولي على ديوان الرسائل، فلما جاء إلى الديوان جاءه أبو العيناء، فلما أراد الانصراف تقدم الجاحظ على حاجبه: إذا وصل إلى الدهليز ألا يدعه يخرج، ولا يمكنه من الرجوع إليه، فخرج أبو العيناء ففعل به ذلك، فنادى بأعلى صوته يا أبا عثمان: قد أرتنا قدرتك فأرنا عفوك. ومن كلام الجاحظ: إحذر من تأمن كأنك حذر ممن تخاف. وقال: أجمع الناس على أربع: أنه ليس في الدنيا أثقل من أعمى، ولا أبغض من أعور، ولا أخف روحاً من أحول، ولا أقود من أحدب. قال المرزباني: وروى أصحابنا أن الجاحظ صار إلى منزل بعض إخوانه فاستأذن عليه، فخرج إليه غلام عجمي فقال: من أنت؟ قال الجاحظ: فدخل الغلام إلى صاحب الدار فقال: الجاحد على الباب وسمعها الجاحظ، فقال صاحب الدار للغلام: اخرج فانظر من الرجل؟فخرج يستخبر عن اسمه فقال: أنا الحدقي. فدخل الغلام فقال: الحلقي وسمعها الجاحظ فصاح به في الباب: ردنا إلى الأول، يريد أن قوله الجاحد مكان الجاحظ أسهل عليه من الحلقي مكان الحدقي، فعرفه الرجل فأوصله واعتذر إليه. وقال الجاحظ: أربعة أشياء ممسوخة: أكل الأرز البارد، والنيك في الماء، والقبل على النقاب، والغناء من وراء ستارة.
وحدث قال الجاحظ مرة بحضرة السدري: إذا كانت المرأة عاقلة ظريفة كاملة كانت قحبة، فقال له السدري: وكيف؟ قال: لأنها تأخذ الدراهم وتمتع بالناس والطيب، وتختار على عينها من تريد، والتوبة معروضة لها متى شاءت. فقال له السدري: فكيف عقل العجوز حفظها الله؟ قال: هي أحمق الناس وأقلهم عقلاً.
وحدث المبرد قال: قال الجاحظ: أتيت أبا الربيع الغنوى أنا ورجل من بني هاشم فاستأذنا عليه فخرج إلينا وقال: خرج إليكم رجل كريم والله. فقلت له: من خير الخلق يا أبا الربيع؟ فقال: الناس والله. قلت ومن خير الناس؟ قال العرب والله. قلت فمن خير العرب؟ قال: مضر والله. فقلت فمن خير مضر؟ قال: قيس والله. فقلت: ومن خير قيس؟ قال أعصر والله. قلت: فمن خير أعصر؟ قال غني والله. قلت: فمن خير غني؟ قال أنا والله. قلت فأنت خير الخلق؟ قال إي والله. قلت أيسرك لو أنك تزوجت بنت يزيد بن المهلب؟ قال: والله لا أدنس كرمي بلؤمها. قلت: على أن لك الجنة، ففكر ساعة ثم قال: على ألا تلد مني وأنشد:
تأبى لأعصر أعراق مهذبة ... من أن تناسب قوماً غير أكفاء
فإن يكن ذاك حتماً لا مرد له ... فاذكر حذيف فإني غير أباء
حذيفة بن بكر، وإنما ذكره من بين الأشراف لأنه أقربهم إليه نسباً، لأن أعصر بن أسعد بن قيس بن عيلان. وحذيفة بن بدر بن عمرو بن جوية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة ابن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بنقيس بن عيلان.

قال المرزباني: وحدث أبو الحسن الأنصاري، حدثني الجاحظ قال: كان رجل من أهل السواد تشيع وكان ظريفاً، فقال ابن عم له: بلغني أنك تبغض علياً عليه السلام، ووالله لو فعلت لتردن علية الحوض يوم القيامة ولا يسقيك. قال: والحوض في يده يوم القيامة؟ قال نعم. قال: وما لهذا الرجل الفاضل يقتل الناس في الدنيا بالسيف وفي الآخرة بالعطش؟ فقيل له: أتقول هذا مع تشيعك ودينك؟ قال: والله ما تركت النادرة لو قتلتني في الدنيا وأدخلتني النار في الآخرة.
وقال الجاحظ ينبغي للكاتب أن يكون رقيق حواشي اللسان، عذب ينابيع البيان، إذا حاور سدد سهم الصواب إلى غرض المعنى، لا يكلم العامة بكلام الخاصة، ولا الخاصة بكلام العامة.
وحدث المبرد قال: سمعت الجاحظ يقول: كل عشق يسمى حباً، وليس كل حب يسمى عشقاً، لأن العشق اسم لما فضل عن المحبة، كما أن السرف اسم لما جاوز الجود، والبخل اسم لما قصر عن الاقتصاد، والجبن اسم لما فضل عن شدة الاحتراس، والهوج اسم لما فضل عن الشجاعة.
وحدث ميمون بن هارون الكاتب عن الجاحظ قال: ذم رجل النبيذ فقال: من مثالبه أن صاحبه يتكرهه قبل شربه، ويكلح وجهه عند شمه، ويستنقص الساقي من قدره، ويعتبر عليه مكياله، ويمزجه بالماء الذي هو ضده ليخرجه عن معناه وحده، ثم يكرعه على المبادرة ويعبه، ويتجرعه ولا يكاد يسيغه، ليقل مكثه في فيه، ويسرع على اللهوات اجتيازه، ثم لا يستوفي كليته ويرى أن يجعل عاقبة الشراب فضلة في قدحه، ويشاح الساقي في المناظرة على ما بقي منه عند رده، ليصرف عن نفسه عادية شربه، ويذهب بساعته، ويمنع من تهوعه، كما يفعل بطبخ الغاريقون عند شربه وحب الاسطيخمول. وكان الجاحظ يقول: إن تهيألك في الشاعر أن تبره وترضيه وإلا فاقتله.
وقال أبو العيناء أنشدني الجاحظ لنفسه:
يطيب العيش أن تلقى حليماً ... غذاه العلم والرأي المصيب
ليكشف عنك حيلة كل ريب ... وفضل العلم يعرفه الأريب
سقام الحرص ليس له شفاء ... وداء البخل ليس له طبيب
وأنشد المبرد للجاحظ:
إن حال لون الرأس عن لونه ... ففي خضاب الرأس مستمتع
هب من له شيب له حيلة ... فما الذي يحتاله الأصلع
وحدث أبو العيناء قال: قال الجاحظ: كان الأصمعي مانوياً، فقال له العباس بن رستم: لا والله، ولكن نذكر حين جلست إليه تسأله، فجعل يأخذ نعله بيده وهي مخصوفة بحديد ويقول: نعم قناع القدري، فعلمت أنه يعنيك فقمت.
وحدث يحيى بن علي بن المنجم قال: قلت للجاحظ: مثلك في علمك ومقدارك في الادي يقول في كتاب البيان والتبيين: ويكره للجارية أن تشبه بالرجال في فصاحتها، ألا ترى إلى قول مالك بن أسماء الفزاري:
وحديث ألذه هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيا ... ناً وخير الحديث ما كان لحنا
فتراه من لحن الأعراب، وإنما وصفها بالظرف والفطنة وإنما تلحن أي تورى في لفظها عن أشياء وتتنكب ما قصدت له، فقال: فطنت لذلك. قلت: فغيره. قال: فكيف لي بما سارت به الركبان؟ فهو في كتابه على خطئه.
قال أبو محلم: أراد الفزاري بقوله هذا، أن خير الحديث ما أومأت إلي به، وورت عن الإفصاح به لئلا يعلمه غيرنا، ومثله قول الكلابي:
لقد لحنت لكم لكيما تفهموا ... ووحيت وحياً ليس بالمرتاب
ومنه قوله تعالى: (ولتعرفنهم في لحن القول)، أي فيما يتوحونه بينهم من النفاق والطعن.
قال المؤلف: وقد انتصر أبو حيان لهذا القول الذي اعترف الجاحظ بخطئه فيه فقال: وعندي أن المسألة محتملة للكلام، لأن مقابل المنطق الصائب المنطق الملحون، واللحن من الغواني والفتيات غير منكر ولا مكروه بل يستحب ذلك، لأنه بالتأنيث أشبه، وللشهوة أدعى، ومع الغزل أجرى، والإعراب جد، وليس الجد من التغزل والتعشق والتشاجي في شيء، وعلى مذهب علي بن يحيى؟ أن المنطق الصائب هو الكلام الصريح، وأن اللحن هو التعريض، وأنها تعرف هذا وهذا، فهب أن هذا المعنى مقبول، لم ينبغي أن يكون المعنى الآخر لهوجاً ومردوداً؟ وقد يجوز أن يكون مراد الشاعر ذاك، لأن الشاعر يشعر بهذا كما يشعر بهذا، قال أبو العيناء: أنشدني الجاحظ لنفسه في إبراهيم بن رباح:

وعهدي به والله يصلح أمره ... رحيب مجال الرأي منبلج الصدر
فلا جعل الله الولاية سبة ... عليه فإني بالولاية ذو خبر
فقد جهدوه بالسؤال وقد أبى ... به المجد إلا أن يلج ويستشري
قال أبو علي التنوخي: حدثني أبو الحسن أحمد بن محمد الأخباري قال: حدثني أبو الفرج الأصبهاني قال: أخبرني الحسن بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني عبد الله بن جعفر الوكيل قال: كنت يوماً عند إبراهيم بن المدبر فرأيت بين يديه رقعة يردد النظر إليها فقلت له: ما شأن هذه الرقعة؟ كأنه استعجم عليك شيء منه؟ فقال: هذه رقعة أبي عثمان الجاحظ، وكلامه يعجبني وأنا أردده على نفسي لشدة إعجابي. فقلت: هل يجوز أن أقرأها؟ قال: نعم وألقاها إلي فإذا فيها: ما ضاء لي نهار ولا دجا ليل مذ فارقتك، إلا وجدت الشوق إليك قد حز في كبدي، والأسف عليك قد أسقط في يدي، والنزاع نحوك قد خان جلدي، فأنا بين حشاً خافقة ودمعة مهراقة، ونفس قد ذبلت بما تجاهد، وجوانح قد أبليت بما تكابد، وذكرت وأنا على فراش الارتماض ممنوع من لذة الإغماض قول بشار:
إذا هتف القمري نازعني الهوى ... بشوق فلم أملك دموعي من الوجد
أبى الله إلا أن يفرق بيننا ... وكنا كماء المزن شيب مع الشهد
لقد كان ما بيني زماناً وبينها ... كما كان بين المسك والعنبر الورد
فانتظم وصف ما كنا نتعاشر عليه، ونجري في مودتنا إليه في شعره هذا، وذكرت أيضاً ما رماني به الدهر من فرقة أعزائي من إخواني الذين أنت أعزهم، ويمتحنني بمن نأى من أحبائي وخلصاني الذين أنت أحبهم وأخلصهم، ويجرعنيه من مرارة نأيهم وبعد لقائهم، وسألت الله أن يقرن آيات سروري بالقرب منك، ولين عيشي بسرعة أوبتك، وقلت أبياتاً تقصر عن صفة وجدي، وكنه ما يتضمنه قلبي، وهي:
بخدي من قطر الدموع ندوب ... وبالقلب مني مذ نأيت وجيب
ولي نفس حتى الدجى يصدع الحشا ... ورجع حنين للفؤاد مذيب
ولي شاهد من ضر نفسي وسقمه ... يخبر عني أنني لكئيب
كأني لم أفجع بفرقة صاحب ... ولا غاب عن عيني سواك حبيب
فقلت لابن المدبر: هذه رقعة عاشق لا رقعة خادم، ورقعة غائب لا رقعة حاضر. فضحك وقال: نحن ننبسط مع أبي عثمان إلى ما هو أرق من هذا وألطف، فأما الغيبة فإننا نجتمع في كل ثلاثة أيام وتأخر ذلك لشغل عرض لي فخاطبني مخاطبة الغائب، وأقام انقطاع المدة مقام الغيبة.
قال الجاحظ: كان يأتيني رجل فصيح من العجم قال: فقلت له: هذه الفصاحة وهذا البيان لو ادعيت في قبيلة من العرب لكنت لا تنازع فيها. قال: فأجابني إلى ذلك، فجعلت أحفظه نسباً حتى حفظه وهذه هذا. فقلت له: الآن لا تته علينا. فقال: سبحان الله. إن فعلت ذلك فأنا إذاً دعي.
ومن كلام الجاحظ يصف البلاغة: ومتى شاكل - أبقاك الله - اللفظ معناه وكان لذلك الحال وفقاً ولذلك القدر لفقاً وخرج من سماجة الاستكراه وسلم من فساد التكلف، كان قمناً بحسن الموقع، وحقيقاً بانتفاع المستمع، وجديراً أن يمنع جانبه من تأول الطاعنين، ويحمي عرضه من اعتراض العائبين، ولا يزال القلوب به معمورة، والصدور به مأهولة، ومتى كان اللفظ أيضاً كريماً في نفسه متخيراً من جنسه، وكان سليماً من الفضول بريئاً من التعقيد حبب إلى النفوس، واتصل بالأذهان والتحم بالعقول، وهشت له الأسماع، وارتاحت له القلوب، وخف على ألسن الرواة، وشاع في الآفاق ذكره، وعظم في الناس خطره، وصار ذلك مادة للعالم الرئيس، ورياضة للمتعلم الريض ومن أعاره من معرفته نصيباً، وأفرغ عليه من محبته ذنوباً، حبب إليه المعاني وسلس له نظام اللفظ، وكان قد أغنى المستمع عن كد التكلف، وأراح قارئ الكتاب من علاج التفهم. وقرأت بخط أبي حيان التوحيدي من كتابه الذي ألفه في تقريظ الجاحظ.
وحدثنا أبو سعيد السيرافي - وهمك من رجل، وناهيك - من عالم، وشرعك من صدوق - قال: حدثنا جماعة من الصابئين الكتاب: أن ثابت بن قرة قال: ما أحسد هذه الأمة العربية إلا على ثلاثة أنفس فإنه:
عقم النساء فلا يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقم

فقيل له: أحص لنا هؤلاء الثلاثة. قال: أولهم عمر بن الخطاب في سياسته ويقظته وحذره، وتحفظه ودينه وتقيته، وجزالته وبذالته وصرامته وشهامته، وقيامته في صغير أمره وكبيره بنفسه، مع قريحة صافية، وعقل زافر، ولسان عضب وقلب شديد، وطوية مأمونة، وعزيمة مأمومة، وصدر منشرح، وبال منفسح، وبديهة نضوح وروية لقوح، وسر طاهر، وتوفيق حاضر، ورأي مصيب، وأمر عجيب، وشأن غريب، دعم الدين وشيد بنيانه، وأحكم أساسه ورفع أركانه، وأوضح حجته وأنار برهانه، ملك في زي مسكين، ما جنح في أمر إلى ونى، ولا غض طرفه على خناً، ظهارته كالبطانة، وبطانته كالظهارة، جرح وأسا، ولان وقسا، ومنع وأعطى، واستخذى وسطا، كل ذلك في الله ولله، لقد كان من نوادر الرجال. قال: والثاني الحسن بن أبي الحسن البصري، فلقد كان من دراري النجوم علماً وتقوى وزهداً وورعاً وعفةً ورقةً وتألهاً وتنزهاً وفقهاً ومعرفةً وفصاحةً ونصاحةً، مواعظه تصل إلى القلوب، وألفاظه تلتبس بالعقول، وما أعرف له ثانياً، ولا قريباً ولا مدانياً، كان منظره وفق مخبره، وعلانيته في وزن سريرته، عاش سبعين سنة لم يقرف بمقالة شنعاء، ولم يزن بريبة ولا فحشاء، سليم الدين، نقي الأديم، محروس الحريم، يجمع مجلسه ضروب الناس وأصناف اللباس لما يوسعهم من بيانه، ويفيض عليهم بافتنانه، هذا يأخذ عنه الحديث، وهذا يلقن منه التأويل، وهذا يسمع الحلال والحرام، وهذا يتبع في كلامه العربية، وهذا يجرد له المقالة، وهذا يحكي الفتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الموعظة، وهو جميع هذا، كالبحر العجاج تدفقاً، وكالسراج الوهاج تألقاً، ولا تنس مواقفه ومشاهده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الأمراء وأشباه الأمراء بالكلام الفصل، واللفظ الجزل، والصدر الرحب، والوجه الصلب، واللسان العضب، كالحجاج وفلان وفلان مع شارة الدين، وبهجة العلم ورحمة التقى، لا تثنيه لائمة في الله، ولا تذهله رائحة عن الله، يجلس تحت كرسيه قتادة صاحب التفسير، وعمرو وواصل صاحبا الكلام، وابن أبي إسحاق صاحب النحو، وفرقد السبخي صاحب الدقائق، وأشباه هؤلاء ونظراؤهم، فمن ذا مثله ومن يجري مجراه؟. والثالث أبو عثمان الجاحظ، خطيب المسلمين، وشيخ المتكلمين، ومدره المتقدمين والمتأخرين، إن تكلم حكى سحبان في البلاغة، وإن ناظر ضارع النظام في الجدال، وإن جد خرج في مسك عامر بن عبد قيس، وإن هزل زاد على مزيد حبيب القلوب ومزاج الأرواح، وشيخ الأدب ولسان العرب. كتبه رياض زاهرة، ورسائله أفنان مثمرة، ما نازعه منازع إلا رشاه آنفاً، ولا تعرض له منقوص إلا قدم له التواضع استبقاءً. الخلفاء تعرفه، والأمراء تصافيه وتنادمه، والعلماء تأخذ عنه، والخاصة تسلم له، والعامة تحبه، جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم، طال عمره، وفشت حكمته، وظهرت خلته، ووطئ الرجال عقبه، وتهادوا أدبه، وافتخروا بالانتساب إليه، ونجحوا بالإقتداء به، لقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب. هذا قول ثابت، وهو قول صابئ لا يرى للإسلام حرمة ولا للمسلمين حقاً، ولا يوجب لأحد منهم ذماماً، وقد انتقد هذا الانتقاد، ونظر هذا النظر، وحكم هذا الحكم، وأبصر الحق بعين لا غشاوة عليها من الهول، ونفس لا لطخ بها من التقليد، وعقل ما تحيل بالعصبية، ولسنا نجهل مع ذلك فضل غير هؤلاء من السلف الطاهر، والخلف الصالح، ولكنا عجبنا فضل عجب من رجل ليس منا ولا من أهل ملتنا ولغتنا، - ولعله ما خبر عمر بن الخطاب كل الخبرة، ولا استوعب كل ما للحسن من المنقبة، ولا وقف على جميع ما لأبي عثمان من البيان والحكمة - يقول هذا القول، ويتعجب هذا العجب، ويحسد أمتنا بهم هذا الحسد، ويختم كلامه بأبي عثمان، ويصفه بما يأبى الطاعن عليه أن يكون له شيء منه، ويغضب إذا ادعي ذلك له لموفز عليه، هل هذا إلا الجهل الذي يرحم المبتلى به؟.
قال أبو حيان: وحدثنا ابن مقسم - وقد طال ذكر الجاحظ لأبي هفان: - قيل لأبي هفان لم لا تهجو الجاحظ وقد ندد بك وأخذ بخنقك؟ فقال: أمثلي يخدع عن عقله، والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شهرة، ولو قلت فيه ألف بيت لما طن منها بيت في ألف سنة.

قال أبو حيان: سمعت أبا معمر الكاتب في ديوان بادوريا قال: كتب الفتح بن خاقان إلى الجاحظ كتاباً يقول في فصل منه: إن أمير المؤمنين يجد بك، ويهش عند ذكرك، ولولا عظمتك في نفسه لعلمك ومعرفتك، لحال بينك وبين بعدك عن مجلسه، ولغصبك رأيك وتجبيرك فيما أنت مشغول به ومتوفر عليه، وقد كان ألقى إلي من هذا عنوانه، فزدتك في نفسه زيادة كف بها عن تجشيمك، فاعرف لي هذه الحال، واعتقد هذه المنة على كتاب الرد على النصارى، وافرغ منه وعجل به إلي، وكن من جدا به على نفسه، تنال مشاهرتك وقد استطلقته لما مضى، واستسلفت لك لسنة كاملة مستقبلة، وهذا مما لم تحتكم به نفسك، وقد قرأت رسالتك في بصيرة غنام، ولولا أني أزيد في مخيلتك لعرفتك ما يعتريني عند قراءتها والسلام.
قال الجاحظ: قلت للحزامي: قد رضيت بقول الناس فيك: إنك بخيل. قال: لا أعد مني الله هذا الاسم. قال: لأنه لا يقال: فلان بخيل إلا وهو ذو مال، فإذا سلم المال فادعني بأي اسم شئت. قلت: ولا يقال سخي إلا وهو ذو مال، فقد جمع هذا الاسم المال والحمد، وجمع ذاك الاسم المال والذم. قال: بينهما فرق. قلت: هاته. قال: في قولهم بخيل تثبيت لإقامة المال في ملكه، واسم البخيل اسم فيه حزم وذم، واسم السخاء فيه تضييع وحمد، والمال نافع مكرم لأهله معز، والحمد ريح وسخرية، واستماعه ضعف وفسولة. وما أقل والله غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه، وعري جسده، وشمت عدوه.
قال أبو حيان: ومن عجيب الحديث في كتبه ما حدثنا به علي بن عيسى النحوي الشيخ الصالح قال: سمعت ابن الأخشاد شيخنا أبا بكر يقول: ذكر أبو عثمان في أول كتاب الحيوان أسماء كتبه ليكون ذلك كالفهرست، ومر بي في جملتها الفرق بين النبي والمتنبئ، وكتاب دلائل النبوة وقد ذكرهما هكذا على التفرقة، وأعاد ذكر الفرق في الجزء الرابع لشيء دعاه إليه، فأحببت أن أرى الكتابين ولم أقدر إلا على واحد منهما وهو كتاب دلائل النبوة، وربما لقب بالفرق خطاً، فهمني ذلك وساءني في سوء ظفري به، فلما شخصت من مصر ودخلت مكة - حرسها الله تعالى - حاجاً أقمت منادياً بعرفات ينادي - والناس حضور. من الآفاق على اختلاف بلدانهم وتنازح أوطانهم، وتباين قبائلهم وأجناسهم من المشرق إلى المغرب، ومن مهب الشمال إلى مهب الجنوب، وهو المنظر الذي لا يشابهه منظر - : رحم الله من دلنا على كتاب الفرق بين النبي والمتنبئ لأبي عثمان الجاحظ على أي وجه كان. قال: حجب الناس منىً ولم يعرفوا هذا الكتاب ولا اعترفوا به.
قال ابن أخشاد: وإنما أردت بهذا أن أبلغ نفسي عذرها. قال المؤلف: وحسبك بها فضيلة لأبي عثمان أن يكون مثل ابن الأخشاد - وهو هو في معرفة علوم الحكمة، وهو رأس عظيم من رءوس المعتزلة - يستلهم بكتب الجاحظ حتى ينادي عليها بعرفات والبيت الحرام، وهذا الكتاب موجود في أيدي الناس اليوم لا يكاد تخلو خزانة منه. ولقد رأيت أنا منه نحو مائة نسخة أو أكثر.
ومن كتاب هلال قال أبو الفضل بن العميد: ثلاثة علوم الناس كلهم عيال فيها على ثلاثة أنفس: أما الفقه فعلى أبي حنيفة، لأنه دون وخلد ما جعل من يتكلم فيه بعده مشيراً إليه مخبراً عنه. وأما الكلام فعلى أبي الهذيل، وأما البلاغة والفصاحة واللسن والعارضة، فعلى أبي عثمان الجاحظ. وحدث أبو القاسم السيرافي قال: حضرنا مجلس الأستاذ الرئيس أبي الفضل فقصر رجل بالجاحظ وأزرى عليه وحلم الأستاذ عنه. فلما خرج قلت له: سكت أيها الأستاذ عن هذا الجاهل في قوله الذي قال مع عادتك بالرد على أمثاله. فقال: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله، ولو واقفته وبينت له النظر في كتبه، صار إنساناً. يا أبا القاسم كتب الجاحظ تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً.
وحكى أبو علي القالي عن أبي معاذ عبدان الخولي المتطبب قال: دخلنا يوماً بسر من رأى على عمرو بن بحر الجاحظ نعوده وقد فلج، فلما أخذنا مجالسنا أتى رسول المتوكل إليه فقال: وما يصنع أمير المؤمنين بشق مائل ولعاب سائل؟ ثم أقبل علينا فقال: ما تقولون في رجل له شقان: أحدهما لو غرز بالمسال ما أحس، والشق الآخر يمر به الذباب فيغوث، وأكثر ما أشكوه الثمانون.

حدث أبو عبد الله الحميدي في الجذوة: قرأت على الأمين بن أبي علي بن القاضي أبي القاسم البصري عن أبيه قال: حدثنا محمد بن عمر بن شجاع المتكلم، حدثنا أبو محمد الحسن بن عمرو النجيرمي قال: كنت بالأندلس فقيل لي: إن هاهنا تلميذاً لأبي عثمان الجاحظ يعرف بسلام بن يزيد ويكنى أبا خلف، فأتيته فرأيت شيخاً هماً فسألته عن سبب اجتماعه مع أبي عثمان ولم يقع أبو عثمان إلى الأندلس فقال: كان طالب العلم بالمشرق يشرف عند ملوكنا بلقاء أبي عثمان، فوقع إلينا كتاب التربيع والتدوير له فأشاروا إليه، ثم أردفه عندنا كتاب البيان والتبيين له فبلغ الرجل الصكاك بهذين الكتابين. قال: فخرجت لا أعرج على شيء حتى قصدت بغداد فسألت عنه فقيل: هو بسر من رأى، فأصعدت إليها فقيل لي: قد انحدر إلى البصرة، فانحدرت إليه وسألت عن منزله فأرشدت ودخلت إليه فإذا هو جالس وحواليه عشرون صبياً ليس فيهم ذو لحية غيره، فدهشت فقلت: أيكم أبو عثمان؟ فرفع يده وحركها في وجهي وقال: من أين؟ قلت من الأندلس، فقال: طينة حمقاء، فما الاسم؟ قلت سلام. قال: اسم كلب القراد، ابن من؟ قلت: ابن يزيد. قال: بحق ما صرت أبو من؟ قلت: أبو خلف. قال: كنية قرد زبيدة، ما جئت تطلب؟ قلت: العلم قال: ارجع بوقت فإنك لا تفلح. قلت له ما أنصفتني، فقد اشتملت على خصال أربع: جفاء البلدية، بعد الشقة، وغرة الحداثة، ودهشة الداخل. قال: فترى حولي عشرين صبياً ليس فيهم ذو لحية غيري، ما كان يجب أن تعرفني بها؟ قال: فأقمت عليه عشرين سنة. وهذا فهرست كتب الجاحظ: كتاب الحيوان وهو سبعة أجزاء وأضاف إليه كتاباً آخر سماه كتاب النساء وهو الفرق فيما بين الذكر والأنثى، وكتاباً آخر سماه: كتاب النعل. قال ابن النديم. ورأيت أنا هذين الكتابين بخط زكرياء بن يحيى - ويكنى أبا يحيى - وراق الجاحظ، وقد أضيف إليه كتاب سموه كتاب الإبل ليس من كلام الجاحظ ولا يقاربه، وكتاب الحيوان ألفه باسم محمد بن عبد الملك الزيات. قال ميمون بن هارون: قلت للجاحظ ألك بالبصرة ضيعة؟ فتبسم وقال: إنما أنا وجارية، وجارية تخدمها وخادم وحمار، أهديت كتاب الحيوان إلى محمد بن عبد الملك فأعطاني خمسة آلاف دينار، وأهديت كتاب البيان والتبيين إلى ابن أبي دؤاد فأعطاني خمسة آلاف، وأهديت كتاب الزرع والنخل إلى إبراهيم بن العباس الصولي فأعطاني خمسة آلاف دينار، فانصرفت إلى البصرة ومعي ضيعة لا تحتاج إلى تجديد ولا تسميد، وكتاب البيان والتبيين نسختان: أولى وثانية، والثانية أصح وأجود، كتاب النبي والمتنبئ، كتاب المعرفة، كتاب جوابات كتاب المعرفة، كتاب مسائل كتاب المعرفة، كتاب الرد على أصحاب الإلهام، كتاب نظم القرآن ثلاث نسخ، كتاب مسائل القرآن، كتاب فضيلة المعتزلة، كتاب الرد على المشبهة، كتاب الإمامة على مذهب الشيعة، كتاب حكاية قول أصناف الزيدية، كتاب العثمانية، كتاب الأخبار وكيف تصح؟ كتاب الرد على النصارى، كتاب عصام المريد، كتاب الرد على العثمانية، كتاب إمامة معاوية، كتاب إمامة بني العباس، كتاب الفتيان، كتاب القواد، كتاب اللصوص، كتاب ذكر ما بين الزيدية والرافضة، كتاب صياغة الكلام، كتاب المخاطبات في التوحيد، كتاب تصويب علي في تحكيم الحكمين، كتاب وجوب الإمامة، كتاب الأصنام، كتاب الوكلاء والموكلين، كتاب الشارب والمشروب، كتاب افتخار الشتاء والصيف، كتاب المعلمين، كتاب الجواري، كتاب نوادر الحسن، كتاب البخلاء، كتاب الفخر ما بين عبد شمس ومخزوم، كتاب العرجان والبرصان، كتاب فخر القحطانية والعدنانية، كتاب التربيع والتدوير، كتاب الطفيليين، كتاب أخلاق الملوك، كتاب الفتيا، كتاب مناقب جند الخلافة وفضائل الأتراك، كتاب الحاسد والمحسود، كتاب الرد على اليهود، كتاب الصرحاء والهجناء، كتاب السودان والبيضان، كتاب المعاد والمعاش، كتاب النساء، كتاب التسوية بين العرب والعجم، كتاب السلطان وأخلاق أهله، كتاب الوعيد، كتاب البلدان، كتاب الأخبار، كتاب الدلالة على أن الإمامة فرض، كتاب الاستطاعة وخلق الأفعال، كتاب المقينين والغناء والصنعة، كتاب الهدايا منحول، كتاب الإخوان، كتاب الرد على من ألحد في كتاب الله عز وجل، كتاب آي القرآن، كتاب الناشي والمتلاشي، كتاب حانوت عطار، كتاب التمثيل، كتاب فضل العلم، كتاب المزاح والجد، كتاب جمهرة الملوك، كتاب

الصوالجة، كتاب ذم الزنا، كتاب التفكر والاعتبار، كتاب الحجر والنبوة، كتاب آل إبراهيم بن المدبر في المكاتبة، كتاب إحالة القدرة على الظلم، كتاب أمهات الأولاد، كتاب الاعتزال وفضله عن الفضيلة، كتاب الأخطار والمراتب والصناعات، كتاب أحدوثة العالم، كتاب الرد على من زعم أن الإنسان جزء لا يتجزأ، كتاب أبي النجم وجوابه، كتاب التفاح، كتاب الأنس والسلوة، كتاب الكبر المستحسن والمستقبح، كتاب نقض الطب، كتاب الحزم والعزم. كتاب عناصر الآداب، كتاب تحصين الأموال، كتاب الأمثال، كتاب فضل الفرس، كتاب على الهملاج، كتاب الرسالة إلى أبي الفرج بن نجاح في امتحان عقول الأولياء، كتاب رسالة أبي النجم في الخراج، كتاب رسالته في القلم، كتاب رسالته في فضل اتخاذ الكتب، كتاب رسالته في كتمان السر، كتاب رسالته في مدح النبيذ، كتاب رسالته في ذم النبيذ، كتاب رسالته في العفو الصفح، كتاب رسالته في إثم لسكر، كتاب رسالته في الأمل والمأمول، كتاب رسالته في الحلية، كتاب رسالته في ذم الكتاب، كتاب رسالته في مدح الكتاب، كتاب رسالته في مدح الوراق، كتاب رسالته في ذم الرواق، كتاب رسالته فيمن يسمى من الشعراء عمراً، كتاب رسالته اليتيمة، كتاب رسالته في فرط جهل يعقوب بن إسحاق الكندي، كتاب رسالته في الكرم إلى أبي الفرج بن نجاح، كتاب رسالته في موت أبي حرب الصفار البصري، كتاب رسالته في الميراث، كتاب في الأسد والذئب، كتاب رسالته في كتاب الكيمياء، كتاب الاستبداد والمشاورة في الحرب، كتاب رسالته في القضاة والولاة، كتاب الملوك والأمم السالفة والباقية، كتاب رسالته في الرد على القولية، كتاب العالم والجاهل، كتاب النرد والشطرنج، كتاب غش الصناعات، كتاب خصومة الحول والعور، كتاب ذوي العاهات، كتاب المغنين، كتاب أخلاق الشطار.ة، كتاب ذم الزنا، كتاب التفكر والاعتبار، كتاب الحجر والنبوة، كتاب آل إبراهيم بن المدبر في المكاتبة، كتاب إحالة القدرة على الظلم، كتاب أمهات الأولاد، كتاب الاعتزال وفضله عن الفضيلة، كتاب الأخطار والمراتب والصناعات، كتاب أحدوثة العالم، كتاب الرد على من زعم أن الإنسان جزء لا يتجزأ، كتاب أبي النجم وجوابه، كتاب التفاح، كتاب الأنس والسلوة، كتاب الكبر المستحسن والمستقبح، كتاب نقض الطب، كتاب الحزم والعزم. كتاب عناصر الآداب، كتاب تحصين الأموال، كتاب الأمثال، كتاب فضل الفرس، كتاب على الهملاج، كتاب الرسالة إلى أبي الفرج بن نجاح في امتحان عقول الأولياء، كتاب رسالة أبي النجم في الخراج، كتاب رسالته في القلم، كتاب رسالته في فضل اتخاذ الكتب، كتاب رسالته في كتمان السر، كتاب رسالته في مدح النبيذ، كتاب رسالته في ذم النبيذ، كتاب رسالته في العفو الصفح، كتاب رسالته في إثم لسكر، كتاب رسالته في الأمل والمأمول، كتاب رسالته في الحلية، كتاب رسالته في ذم الكتاب، كتاب رسالته في مدح الكتاب، كتاب رسالته في مدح الوراق، كتاب رسالته في ذم الرواق، كتاب رسالته فيمن يسمى من الشعراء عمراً، كتاب رسالته اليتيمة، كتاب رسالته في فرط جهل يعقوب بن إسحاق الكندي، كتاب رسالته في الكرم إلى أبي الفرج بن نجاح، كتاب رسالته في موت أبي حرب الصفار البصري، كتاب رسالته في الميراث، كتاب في الأسد والذئب، كتاب رسالته في كتاب الكيمياء، كتاب الاستبداد والمشاورة في الحرب، كتاب رسالته في القضاة والولاة، كتاب الملوك والأمم السالفة والباقية، كتاب رسالته في الرد على القولية، كتاب العالم والجاهل، كتاب النرد والشطرنج، كتاب غش الصناعات، كتاب خصومة الحول والعور، كتاب ذوي العاهات، كتاب المغنين، كتاب أخلاق الشطار.
وحدث يموت بن المزرع عن خاله الجاحظ قال: يجب للرجل أن يكون سخياً لا يبلغ التبذير، شجاعاً لا يبلغ الهوج، محترساً لا يبلغ الجبن، ماضياً لا يبلغ القحة، قوالاً لا يبلغ الهذر، صموتاً لا يبلغ العي، حليماً لا يبلغ الذل، منتصراً لا يبلغ الظلم، وقوراً لا يبلغ البلادة، ناقداً لا يبلغ الطيش، ثم وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع ذلك في كلمة واحدة، وهي قوله: (خير الأمور أوساطها). فعلمنا أنه صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، وعلم فصل الخطاب.

وقال أبو زيد البلخي: ما أحسن ما قال الجاحظ: عقل المنشئ مشغول، وعقل المتصفح فارغ. وقال المرزباني بإسناده عن المبرد: سمعت الجاحظ يقول لرجل آذاه: أنت والله أحوج إلى هوان من كريم إلى إكرام، ومن علم إلى عمل، ومن قدرة إلى عفو، ومن نعمة إلى شكر.
وقال الجاحظ في أبي الفرج نجاح بن سلمة يسأله إطلاق رزقه من قصيدة:
أقام بدار الخفض راض بخفضه ... وذو الحزم يسري حين لا أحد يسري
يظن الرضا شيئاً يسيراً مهوناً ... ودون الرضى كأس أمر من الصبر
سواء على الأيام صاحب حنكة ... وآخر كاب لا يريش ولا يبري
خضعت لبعض القوم أرجو نواله ... وقد كنت لا أعطى الدنية بالقسر
فلما رأيت القوم يبذل بشره ... ويجعل حسن البشر واقية الوفر
ربعت على ظلعي وراجعت منزلي ... فصرت حليفاً للدراسة والفكر
وشاروت إخواني فقال حليمهم: ... عليك الفتى المري ذا الخلق الغمر
أعيذك بالرحمن من قول شامت: ... أبو الفرج المامول يزهد في عمرو
ولو كان فيه راغباً لرأيته ... كما كان دهراً في الرخاء وفي اليسر
أخاف عليك العين من كل حاسد ... وذو الود منخوب الفؤاد من الذعر
فإن ترع ودي بالقبول فأهله ... ولا يعرف الأقدار غير ذوي القدر
وحدث يموت بن المزرع قال: وجه المتوكل في السنة التي قتل فيها أن يحمل إليه الجاحظ من البصرة فقال لمن أراد حمله: وما يصنع أمير المؤمنين بامرئ ليس بطائل، ذي شق مائل، ولعاب سائل، وفرج بائل، وعقل حائل؟ وحدث المبرد قال: دخلت على الجاحظ في آخر أيامه فقلت له: كيف أنت؟ فقال: كيف يكون من نصفه مفلوج لو حز بالمناشير ما شعر به، ونصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه لآلمه، وأِد من ذلك ست وتسعون سنة أنا فيها، ثم أنشدنا:
أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشباب؟
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب
وقال لمتطبب يشكو إليه علته: اصطلحت الأضداد على جسدي، إن أكلت بارداً أخذ برجلي، وإن أكلت حاراً أخذ برأسي.
وحدث أحمد بن يزيد بن محمد المهلبي عن أبيه قال:قال لي المعتز بالله: يا يزيد، ورد الخبر بموت الجاحظ، فقلت: لأمير المؤمنين طول البقاء ودوام النعماء. قال: وذلك في سنة خمسين ومائتين، وفيه يقول أبو شراعة القيسي:
في العلم للعلماء إن ... يتفهموه مواعظ
وإذ نسيت وقد جمع ... ت علا عليك الحافظ
ولقد رأيت الظرف ده ... راً ما حواه اللافظ
حتى أقام طريقه ... عمرو بن بحر الجاحظ
ثم انقضى أمد به ... وهو الرئيس الفائظ

عمرو بن عثمان بن قنبر
أبو بشر، ويقال أبو الحسن وأبو بشر أشهر، مولى بني الحارث بن كعب، ثم مولى آل الربيع بن زياد الحراثي، وسيبويه لقب ومعناه رائحة التفاح. يقال: كانت أمه ترقصه بذلك في صغره. ورأيت ابن خالويه قد اشتق له غير ذلك فقال: كان سيبويه لا يزال من يلقاه يشم منه رائحة الطيب فسمي سيبويه، ومعنى سي: ثلاثون، وبوى: الرائحة فكأنه ثلاثين رائحة طيب، ولم أر أحداً قال ذلك غير ابن خالويه، وأصله من البيضاء من أرض فارس ومنشؤه البصرة، مات فيما ذكره ابن نافع بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة. وقال المرزباني: مات بشيراز سنة ثمانين ومائة. وذكر الخطيب أن عمره كان اثنتين وثلاثين سنة ويقال: إنه نيف على الأربعين سنة وهو الصحيح، لأنه قد روى عن عيسى بن عمر، وعيسى بن عمر مات سنة تسع وأربعين ومائة، فمن وفاة عيسى إلى وفاة سيبويه إحدى وثلاثين سنة، وما يكون قد أخذ عنه إلا وهو يعقل، ولا يعقل حتى يكون بالغاً والله أعلم.
وقال أحمد بن يحيى ثعلب في أماليه: قدم سيبويه العراق في أيام الرشيد وهو ابن نيف وثلاثين سنة، وتوفي وعمره نيف وأربعون سنة بفارس. قال الأصمعي: قرأت على قبر سيبويه بشيراز هذه الأبيات وهي لسليمان بن يزيد العدوي:
ذهب الأحبة بعد طول تزاور ... ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا

تركوك أوحش ما تكون بقفرة ... لم يؤنسوك وكربة لم يدفعوا
قضي القضاء وصرت صاحب حفرة ... عنك الأحبة أعرضوا وتصدعوا
وأخذ سيبويه النحو والأدب عن الخليل بن احمد، ويونس بن حبيب، وأبي الخطاب الأخفش، وعيسى بن عمر. نقلت من خط أبي سعد السمعاني مما انتخبه من طبقات أهل فارس وشيراز تأليف الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد العزيز الشيرازي القصار: بشير بن سعيد، وقيل: عمرو بن عثمان بن قنبر يكنى أبا بشر، سيبويه النحوي عن الخليل بن احمد، وهو من الحارث بن كعب، مات وكان على مظالم فارس وقبره في شيراز. لم يزد في ترجمته على هذا، وورد بغداد وناظر بها الكسائي وتعصبوا عليه، وجعلوا للعرب جعلاً، حتى وافقوه على خلافه، ولذلك قصة ذكرت فيما بعد، وكان سبب طلب سيبويه النحو ما ذكرناه في أخبار حماد بن سلمة.
وحدث أبو عبيدة قال: لما مات سيبويه قيل ليونس بن حبيب: إن سيبويه قد ألف كتاباً في ألف ورقة من علم الخليل. قال يونس: ومتى سمع سيبويه هذا كله من الخليل؟ جيئوني بكتابه، فلما نظر فيه رأى كل ما حكى فقال: يجب أن يكون هذا الرجل قد صدق عن الخليل في جميع ما حكاه كما صدق فيما حكاه عني، وذكر صاعد بن أحمد الجياني من أهل الأندلس في كتابه قال: لا اعرف كتاباً ألف في علم من العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم، وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب، أحدها المجسطي لبطليموس في علم هيئة الأفلاك، والثاني كتاب أرسططا ليس في علم المنطق، والثالث كتاب سيبويه البصري النحوي، فإن كل واحد من هذه لم يشذ عنه من أصول فنه شيء إلا ما لا خطر له. وكان إذا أراد إنسان قراءة كتاب سيبويه على المبرد يقول له: أركبت البحر؟ تعظيماً واستصعاباً.
وحدث محمد بن سلام قال: كان سيبويه جالساً في حلقته بالبصرة فتذاكرنا شيئاً من حديث قتادة فذكر حديثاً غريباً وقال: لم يرو هذا إلا سعيد بن أبي العروبة. فقال بعض ولد جعفر بن سليمان: ما هاتان الزائدتان يا أبا بشر؟ فقال هكذا يقال، لأن العروبة هي الجمعة، ومن قال ابن عروبة فقد أخطأ. قال ابن سلام: فذكرت ذلك ليونس فقال: أصاب لله دره.
وحدث ابن النطاح قال: كنت عند الخليل بن أحمد فأقبل سيبويه فقال الخليل مرحباً بزائر لا يمل، قال: وكان كثير المجالسة للخليل، وما سمعت الخليل يقولها لغيره، قال: وكان شاباً جميلاً نظيفاً.

وحدث أحمد بن معاوية بن بكر العليمي قال: ذكر سيبويه عند أبي فقال: عمرو بن عثمان قد رأيته وكان حدث السن، كنت أسمع في ذلك العصر أنه أثبت من حمل عن الخليل، وقد سمعته يتكلم ويناظر في النحو وكانت في لسانه حبسة، ونظرت في كتابه فرأيت علمه أبلغ من لسانه، وحدث أبو الحسن سعيد بن مسعدة والمبرد وثعلب وجمعت بين أقاويلهم وحذفت التكرار قالوا: قدم سيبويه إلى العراق على يحيى بن خالد البرمكي فسأله عن خبره فقال: جئت لتجمع بيني وبين الكسائي، فقال: لا تفعل، فإنه شيخ مدينة السلام وقارئها، ومؤدب ولد أمير المؤمنين، وكل من في المصر له ومعه، فأبى إلا أن يجمع بينهما، فعرف الرشيد خبره، فأمره بالجمع بينهما فوعده بيوم، فلما كان ذلك اليوم غدا سيبويه وحده إلى دار الرشيد، فوجد الفراء والأحمر وهشام بن معاوية ومحمد بن سعدان قد سبقوه، فسأله الأحمر عن مائة مسألة فما أجابه عنها بجواب إلا قال أخطأت يا بصري، فوجم سيبويه وقال: هذا سوء أدب، ووافى الكسائي وقد شق أمره عليه ومعه خلق كثير من العرب، فلما جلس قال له: يا بصري، كيف تقول: خرجت وإذا زيد قائم؟ قال: خرجت وإذا زيد قائم، قال: فيجوز أن تقول: خرجت فإذا زيد قائماً قال: لا، قال الكسائي: فكيف تقول قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب، فقال الكسائي: لحنت، وخطأه الجميع. وقال الكسائي: العرب ترفع ذلك كله وتنصبه، ودفع سيبويه قوله فقال يحيى بن خالد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما وهذا موضع مشكل؟. فقال الكسائي: هذه العرب ببابك، وقد جمعتهم من كل أوب، ووفدت عليك من كل صقع وهم فصحاء الناس وقد قنع بهم أهل المصرين، وسمع أهل الكوفة والبصرة منهم فيحضرون ويسألون، فقال يحيى وجعفر: قد أنصفت، وأمر بإحضارهم فدخلوا وفيهم أبو فقعس، وأبو دثار، وأبو ثروان، فسئلوا عن المسائل التي جرت بينهما فتابعوا الكسائي، فأقبل يحيى على سيبويه فقال: قد تسمع أيها الرجل؟ فانصرف المجلس على سيبويه، وأعطاه يحيى عشرة آلاف درهم وصرفه، فخرج وصرف وجهه تلقاء فارس، وأقام هناك حتى مات غماً بالذرب، ولم يلبث إلا يسيراً ولم يعد إلى البصرة.
قال أبو الحسين علي بن سليمان الأخفش: وأصحاب سيبويه إلى هذه الغاية لا اختلاف بينهم أن الجواب كما قال سيبويه، وهو فإذا هو هي، أي فإذا هو مثلها، وهذا موضع رفع وليس بموضع نصب. فإن قال قائل: فأنت تقول: خرجت فإذا زيد قائم وقائماً فتنصب قائماً، فلم لم يجز فإذا هو إياها؟ لأن إيا للمنصوب وهي للمرفوع؟ والجواب في هذا أن قائماً انتصب على الحال وهو نكرة، وإيا مع ما بعدها مما أضيفت إليه معرفة، والحال لا تكون إلا نكرة فبطل إياها، ولم يكن إلا هي وهو خبر الابتداء، وخبر الابتداء يكون معرفة نكرة، والحال لا يكون إلا نكرة، فكيف تقع إياها وهي معرفة في موضع ما لا يكون إلا نكرة؟ وهذا موضع الرفع. وقد قال أصحاب سيبويه: الأعراب الذين شهدوا للكسائي من أعراب الحطمية الذين كان الكسائي يقوم بهم ويأخذ عنهم.
ولما مرض سيبويه مرضه الذي مات فيه، جعل يجود بنفسه ويقول:
يؤمل دنيا لتبقى له ... فمات المؤمل قبل الأمل
حثيثاً يرى أصول النخيل ... فعاش الفسيل ومات الرجل
قالوا: ولما اعتل سيبويه وضع رأسه في حجر أخيه فبكى أخوه لما رآه لما به، فقطرت من عينه قطرة على وجه سيبويه ففتح عينه فرآه يبكي فقال:
أخيين كنا فرق الدهر بيننا ... إلى الأمد الأقصى، ومن يأمن الدهرا؟
وحدث أبو الطيب اللغوي عن أبي عمر الزاهد قال: قال ثعلب يوماً في مجلسه: مات الفراء وتحت رأسه كتاب سيبويه فعارضه أبو موسى الحامض بما قد كتبناه في أخباره.
وحدث محمد بن عبد الملك التاريخي فيما رواه عن ثعلب عن محمد بن سلام قال: حدثني الأخفش أنه قرأ كتاب سيبويه على الكسائي في جمعة فوهب له سبعين ديناراً. قال: وكان الكسائي يقول لي: هذا الحرف لم أسمعه فاكتبه لي فأفعل. قال: وكان الأخفش يؤدب ولد الكسائي.

قال التاريخي: فكأن الجاحظ سمع هذا الخبر فقال مما يعدده من فخر أهل البصرة على أهل الكوفة: وهؤلاء يأتونكم بفلان وفلان وبسيبويه الذي اعتمدتم على كتبه وجحدتم فضله. وحدث التاريخي أيضاً وهارون بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال هارون: دخل الجاحظ على أبي وقد افتصد فقال له: - أدام الله صحتك - ، ووصل غبطتك، ولا سلبك نعمتك. قال: ما أهديت لي يا أبا عثمان؟ قال: أطرف شيء، كتاب سيبويه بخط الكسائي وعرض الفراء. وقال التاريخي: قال الجاحظ: أردت الخروج إلى محمد عبد الملك ففكرت في شيء أهديه له فلم أجد شيئاً أشرف من كتاب سيبويه وقلت له: أردت أن أهدي لك شيئاً ففكرت فإذا كل شيء عندك، فلم أر أشرف من هذا الكتاب، وهذا كتاب اشتريته من ميراث الفراء قال: والله ما أهديت إلي شيئاً أحب إلي منه.
وحدث التاريخي عن المبرد عن الزراري أبي زيد قال: قال رجل لسماك بالبصرة: بكم هذه السمكة؟ قال: بدرهمان. فضحك الرجل، فقال السماك: ويلك أنت أحمق، سمعت سيبويه يقول: ثمنها درهمان.
وحدث عن المبرد عن المازني عن الجرمي قال: في كتاب سيبويه ألف وخمسون بيتاً سألت عنها فعرف ألف ولم تعرف خمسون. وحدثت عن النظام أنه دخل على سيبويه في مرضه فقال له: كيف تجدك يا أبا بشر؟ قال: أجدني ترحل العافية عني بانتقال، وأجد الداء يخامرني بحلول، غير أني وجدت الراحة منذ البارحة. قلت: فما تشتهي؟ قال: أشتهي أن أشتهي. فلما كان من بعد ذلك اليوم دخلت إليه وأخوه يبكي وقد قطرت من دموعه قطرة على خده فقلت: كيف تجدك؟ فقال:
يسر الفتى ما كان قدم من تقىً ... إذا عرف الداء الذي هو قاتله
قال النظام: ثم مات من يومه. وحدث أبو حاتم السجستاني قال: دخلت على الأصمعي في مرضه الذي مات فيه فسألته عن خبره ثم قلت: كم سنة مضت من عمرك؟ فقال: لا ادري، ولكني أحدثك: كنت شاباً مقتبلاً، فتزوجت فولد لي وولد لأولادي وأنا حي ثم انشد:
إذا الرجال ولدت أولادها ... واضطربت من كبر أعضادها
وجعلت أسقامها تعتادها ... فهي زروع قد دنا حصادها
فقلت له: في نفسي شيء أريد أن أسألك عنه. قال: سل. فقلت: حدثني بما جرى بينك وبين سيبويه من المناظرة. فقال: والله لولا أني لا أرجو الحياة من مرضتي هذه ما حدثتك، إنه عرض علي شيء من الأبيات التي وضعها سيبويه في كتابه ففسرتها على خلاف ما فسره، فبلغ ذلك سيبويه فبلغني أنه قال: لا ناظرته إلا في المسجد الجامع، فصليت يوماً في الجامع ثم خرجت فتلقاني في المسجد فقال لي: اجلس يا أبا سعيد، ما الذي أنكرت من بيت كذا وبيت كذا؟ ولم فسرت على خلاف ما يجب؟. فقلت له: ما فسرت إلا على ما يجب، والذي فسرته أنت ووضعته خطأ، تسألني وأجيب. ورفعت صوتي فسمع العامة فصاحتي، ونظروا إلى لكنته فقالوا: لو غلب الأصمعي سيبويه، فسرني ذلك، فقال لي: إذا علمت أنت يا أصمعي ما نزل بك مني لم ألتفت إلى قول هؤلاء، ونفض يده في وجهي ومضى. ثم قال الأصمعي: يا بني، فوالله لقد نزل بي منه شيء وددت أني لم أتكلم في شيء من العلم.
وعن أبي عثمان المازني قال: حدثني الأخفش قال: حضرت مجلس الخليل فجاءه سيبويه فسأله عن مسألة وفسرها له الخليل فلم أفهم ما قالا، فقمت وجلست له في الطريق فقلت له: جعلني الله فداءك، سألت الخليل عن مسألة فلم أفهم ما رد عليك ففهمنيه، فأخبرني بها فلم تقع لي ولا فهمتها فقلت له: لا تتوهم أني أسألك إعناتاً فإني لم أفهمها ولم تقع لي. فقال لي: ويلك، ومتى توهمت أنني أتوهم أنك تعنتني، ثم زجرني وتركني ومضى.

وحدث المازني قال: قال الأخفش: كنت عند يونس فقيل له: قد أقبل سيبويه فقال: أعوذ بالله منه. قال: فجاء فسأله فقال: كيف تقول مررت به المسكين، فقال: جائز أن أجره على البدل من الهاء. قال: فقال له: فمررت به المسكين على معنى: المسكين مررت به، فقال: هذا خطأ لأن المضمر قبل الظاهر. قال: فقال له: إن الخليل أجاز ذلك وأنشد فيها أبياتاً فقال: هو خطأ فغمني ذلك. قال: فمررت به المسكين، فقال جائز، فقال: على أي شيء ينصب؟ فقال: على الحال. فقال سيبويه: أليس أنت أخبرتني أن الحال لا تكون بالألف واللام؟. فقال له: صدقت. ثم قال لسيبويه: فما قال صاحبك فيه؟ يعني الخليل، فقال سيبويه: قال لي: إنه ينصب على الترحم، فقال: ما أحسن هذا ورأيته مغموماً بقوله: نصبته على الحال.

عمرو بن مسعدة بن سعد بن صول بن صول
الصولي، كنيته أبو الفضل، من جلة كتاب المأمون وأهل الفضل والبراعة والشعر منهم. وذكر الجهشياري: أن مسعدة كان مولى خالد بن عبد الله القسري، وأنه كان يكتب لخالد وكان بليغاً كاتباً، مات في سنة أربع عشرة ومائتين، وقيل في سنة سبع في أيام المأمون. وكان مسعدة من كتاب خالد بن برمك، ثم كتب بعده لأبي أيوب وزير المنصور على ديوان الرسائل.
قال الصولي: قال أحمد بن عبد الله. كان لمسعدة أربعة بنين: مجاشع، وهو الذي يقول فيه أبو العتاهية:
علمت يا مجاشع بن مسعده ... أن الشباب والفراغ والجده
مفسدة للمرء أي مفسده
ومسعود، وعمرو، ومحمد. وقد ذكر أن المنصور قال يوماً لكتابه: اكتبوا لي تعظيم الإسلام، قال: فبدر مسعدة فكتب: الحمد لله الذي عظم الإسلام واختاره، وأوضحه وأناره، وأعزه وأنافه، وشرفه وأكمله، وتممه وفضله، وأعزه ورفعه، وجعله دينه الذي أحبه واجتباه، واستخلصه وارتضاه، واختاره واصطفاه، وجعله الدين الذي تعتد به ملائكته، وأرسل بالدعاء إليه أنبياءه، وهدى له من أراد إكرامه وإسعاده من خلقه، فقال جل من قائل: (إن الدين عند الله الإسلام)، وقال جل وعلا: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه). وقال: (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل). فبهذا الإسلام والدخول فيه والعلم به، وأداء شرائعه، والقيام بمفروضاته، وصلت ملائكته ورسله إلى رضوان الله ورحمته، وجواره في جنته، وبه تحرزوا من غضبه وعقوبته، وأمنوا نكال عذابه وسطوته. فقال المنصور: حسبك يا مسعدة، اجعل هذا صدر الكتاب إلى أهل الجزيرة بالإعذار والإنذار. وأما عمرو بن مسعدة: ففضله شائع، ونبله ذائع، أشهر من أن ينبه عليه، أو يدل بالوصف إليه، قد ولي للمأمون الأعمال الجليلة، وألحق بذوي المراتب النبيلة، وسماه بعض الشعراء وزيراً لعظم منزلته، لا لأنه كان وزيراً وهو قوله.
لقد أسعد الله الوزير ابن مسعده ... وبث له في الناس شكراً ومحمده
في أبيات. فحدث إسماعيل بن أبي محمد الزيدي قال: كان عمرو بن مسعدة أبيض أحمر الوجه، وهو من أولاد صول الأكبر جد محمد بن صول بن صول، وقد ذكرت أصلهم في أخبار إبراهيم بن العباس من هذا الكتاب، وكان المأمون يسميه الرومي لبياض وجهه. ووصف الفضل بن سهل بلاغة عمرو بن مسعدة فقال: هو أبلغ الناس، ومن بلاغته أن كل أحد إذا سمع كلامه ظن أنه يكتب مثله، فإذا رامه بعد عليه، وهذا كما قيل لجعفر بن يحيى: ما حد البلاغة؟ فقال: التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يقدر على مثلها، فإذا رامها استصعبت عليه.
وحدث العباس بن رستم قال: كان لعمرو بن مسعدة فرس أدهم أغر، لم يكن لأحد مثله فراهة وحسناً فبلغ المأمون خبره، وبلغ عمرو بن مسعدة ذلك، فخاف أن يأمر بقوده إليه فلا يكون له فيه محمدة، فوجه به إليه هدية وكتب معه:
يا إماماً لا يداني ... ه إذا عد إمام
فضل الناس كما يف ... ضل نقصاناً تمام
قد بعثنا بجواد ... مثله ليس يرام
فرس يزهى به لل ... حسن سرج ولجام
دونه الخيل كما دو ... نك في الفضل الأنام
وجهه صبح ولكن ... سائر الجسم ظلام
والذي يصلح للمو ... لى على العبد حرام

وكتب عمرو بن مسعدة إلى الحسن بن سهل أما بعد: فإنك ممن إذا غرس، وإذا أسس بني، ليستتم تشييد أسه، ويجتني ثمار غرسه، وثناؤك عندي قد شارف الدروس، وغرسك مشف على اليبوس، فتدارك بناء ما أسست، وسقي ما غرست إن شاء الله تعالى.
وحدث الصولي قال: لما مات عمرو بن مسعدة رفع إلى المأمون أنه خلف ثمانين ألف درهم فوقع على الرقعة: هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا، فبارك الله لولده فيه. وعمرو القائل في رواية المرزباني:
ومستعذب للهجر، والوصل أعذب ... أكاتمه حبي فينأى وأقرب
إذا جدت مني بالرضا جاد بالجفا ... ويزعم أني مذنب وهو أذنب
تعلمت ألوان الرضا خوف هجره ... وعلمه حبي له كيف يغضب
ولي غير وجه قد عرفت طريقه ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهب؟
قال: وهذان البيتان الأخيران متنازعان

عمرو بن كركرة أبو مالك الأعرابي
كان يعلم بالبادية وورق في الحضرة، وهو مولى بني سعد، وكان راوية أبي البيداء، يقال: إنه كان يحفظ لغة العرب، وكان بصري المذهب، وكان أحد الطيبات. قال الجاحظ: كان يزعم أن الأغنياء عند الله أكرم من الفقراء ويقول: إن فرعون عند الله أكرم من موسى، وكان يلتقم الحار الممتنع فلا يؤذيه، وصنف كتباً منها: كتاب خلق الإنسان، كتاب الخيل.
وقال أبو الطيب اللغوي في كتاب مراتب النحويين: كان ابن مناذر يقول: كان الأصمعي يجيب في ثلث اللغة، وكان أبو عبيدة يجيب في نصفها، وكان أبو زيد يجيب في ثلثيها، وكان أبو مالك يجيب فيها كلها، وإنما عنى ابن مناذر توسعهم في الرواية والفتيا، لأن الأصمعي كان يضيق ولا يجوز إلا أصح اللغات، ويلح في ذلك ويمحك، وكان مع ذلك لا يجيب في القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا يزيد بعضهم على بعض، وله قصة في أخبار ابن مناذر في كتاب الشعراء من تصنيفنا.
عنبسة بن معدان الفيل
أخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي ولم يكن فيمن أخذ النحو أبرع منه. وأما معنى تسميته بمعدان الفيل: فحدث محمد بن عبد الملك التاريخي عن يوسف بن يعقوب بن السكيت قال: حدثني عبد الرحيم بن مالك عن الهيثم بن عدي عن أشياخه قال يوسف: وحدثني مسلم بن محمد بن نوح عن هشام بن محمد عن رجل من قريش قال: كانت لزياد بن أبيه فيلة ينفق عليها في كل يوم عشرة دراهم. فأقبل رجل من أهل ميسان يقال له معدان فقال: ادفعوها إلي وأكفيكم المئونة، وأعطيكم عشرة دراهم كل يوم فدفعوها إليه فأثرى وابتنى قصراً، ونشأ له ابن يقال له عنبسة، فروى الأشعار وظرف وفصح، وروى شعر جرير والفرزدق وانتمى إلى بني أبي بكر بن كلاب فقيل للفرزدق: ههنا رجل من بني أبي بكر بن كلاب يروي شعر جرير ويفضله عليك ووصفوا له فقال: رجل من بني أبي بكر بن كلاب على هذه الصفة لا أعرفه، فأروني داره فأروه فقال: هذا ابن معدان الميساني ثم قص قصته وقال:
لقد كان في معدان والفيل زاجر ... لعنبسة الراوي علي القصائدا
فروي البيت بالبصرة، ولقي عنبسة أبا عيينة بن المهلب فقال له أبو عيينة: ما أراد الفرزدق بقوله:
لقد كان في معدان الفيل زاجر؟
فقال: إنما قال: لقد كان في معدان واللؤم زاجر. فقال أبو عيينة: وأبيك إن شيئاً فررت منه إلى اللؤم لعظيم. قال التاريخي: فحدثت بهذا الحديث أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلباً فسر به وسألني أن أكتبه له، فكتبته له والحديث على لفظ مسلم بن محمد بن نوح.
عوانة بن الحكم بن عياض بن وزر
ابن عبد الحارث بن أبي حصن بن ثعلبة بن جبير بن عامر بن النعمان. كان عالماً بالأخبار والآثار ثقة، روى عنه الأصمعي والهيثم بن عدي وكثير من أعيان أهل العلم. وقال أبو عبيدة في كتاب المثالب: يقال في الحكم بن عوانة الكلبي: إن أباه كان عبداً خياطاً ادعي بعد ما احتلم، وكانت أمه أمة سوداء لآل أيمن بن خزيم بن فاتك الأسدي، وله إخوة موال، قال في ذلك ذو الرمة:
ألكني فإني مرسل برسالة ... إلى حكم من غير حب ولا قرب
فلو كنت من كلب صميماً هجوتها ... ولكن لعمري لا إخالك من كلب
ولكنما أخبرت أنك ملصق ... كما ألصقت من غيره ثلمة القعب

تدهدى فخرت ثلمة من صحيحه ... فلز بأخرى بالغراء وبالشعب
حدث أحمد بن يحيى قال: أنشدني ذو الرمة شعراً وعوانة ابن الحكم حاضر، فعاب شيئاً منه فقال فيه هذه الأبيات المتقدمة. قال: وقال محمد بن احمد الكاتب: وقال عياض بن وزر في ابنه عوانة:
عجباً عجبت لمعشر لم يرشدوا ... جعلوا عوانة لي بغيب إبنما
إني إلى الرحمن أبرأ صادقاً ... ما نكت أمك يا عوانة محرما
أنكرت منك جعودة في حوة ... ومشافراً هدلاً وأنفاً أخثما
ما كان لي في آل حام والد ... عبد فأصبح في كنانة أكشما
واكن يكنى أبا الحكم وكان ضريراً، مات فيما ذكره المرزباني عن الصولي سنة سبع وأربعين ومائة في الشهر الذي مات فيه الأعمش. قال المدائني: مات عوانة سنة ثمان وخمسين ومائة في السنة التي مات فيها المنصور.
حدث الهيثم بن عدي قال: كنت عند عبد الله بن عياش الهمذاني وعنده عوانة بن الحكم فذاكروا أمر النساء فقلت: حدثني ابن الظلمة عن أمه أنها قالت: والله ما أتى النساء مثل أعمى عفيف، فضرب عوانة بيده على فخذي وقال: حفظك الله يا أبا عبد الرحمن، فإنك تحفظ غريب الحديث وحسنه. قال: وكان عوانة ضريراً. قال: قال عبد الله بن جعفر: عوانة بن الحكم من علماء الكوفة بالأخبار خاصة والفتوح مع علم بالشعر والفصاحة، وله إخوة وأخبار ظريفة، وكان موثقاً وعامة أخبار المدائني عنه.
قال: وروى عبد الله بن المعتز عن الحسن بن عليل العنزي أن عوانة بن الحكم كان عثمانياً وكان يضع أخباراً لبني أمية. قال: وحدث أبو العيناء عن الأصمعي قال: أنشد عوانة بيتين فقيل له لمن هما؟ قال: أنا تركت الحديث بغضاً مني للإسناد وليس أراكم تعفوني منه في الشعر.
وحدث هشام بن الكلبي عن عوانة قال: خطبنا عتبة بن النهاس العجلي فقال: ما أحسن شيئاً قال الله عز وجل في كتابه:
ليس حي على المنون بباق ... غير وجه المسبح الخلاق
فقمت إليه فقلت: أيها الرجل، إن الله عز وجل لم يقل هذا، إنما قاله عدي بن زيد ثم نزل عن المنبر، وأتى بامرأة من الخوارج فقال: يا عدوة الله، ما خروجك على أمير المؤمنين؟ ألم تسمعي قول الله عز وجل:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول؟
فحركت رأسها وقالت: يا عدو الله حملني على الخروج جهلكم بكتاب الله عز وجل. وحدث الهيثم بن عدي قال: كنا عند عوانة فورد الخبر بأن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب قد قتل بالمدينة، فترحم عليه عوانة وذكر فضله ثم قال: أخطأ الرأي في استهدافه لهم ومقابلته إياهم بالقرب منهم، ولو تباعد عنهم حتى يجتمع أمره، ويرى رأيه لكالت مدته، فقيل له: قد أشير عليه بذلك فلم يقبله، فتمثل عوانة ببقول زهير:
أضاعت فلم تغفر لها غفلاتها ... فلاقت تباباً عند آخر معهد
دماً حول شلو تحجل الطير حوله ... وبضع لحام في إهاب مقدد
قال: ثم قال: هل علينا عين؟. قالوا لا فقل ما شئت، فقال: محمد والله من الذين قال الله فيهم: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله).
وحدث التاريخي عن إسماعيل بن إسحاق عن نصر بن علي عن الأصمعي عن عوانة قال: كان ابن زياد يأكل بعد الشبع أربع جرادق أصبهانية وجبنة ورطلاً عسلاً. وحدث عنه أحمد بن عبيد عن الأصمعي عن عوانة قال: لقي رجلاً أعرابياً فقال: ممن الرجل؟ قال: من قوم إذا نسي الناس علمهم حفظوه عليهم. قال: فأنت إذاً من كلب، قال أجل. وكان لعوانة أخ يقال له عياض نحوي أديب أقام بإفريقية وانتقل إليها من الكوفة، فحدث المرزباني بإسناده قال: كان عوانة بن الحكم يقول لأخ له - يقال عياض - نحوي: لا تعمق في النحو، فإنه لم يتعمق فيه أحد إلا صار معلماً، قال: فصار عياض بعد ذلك معلماً بإفريقية لولد المعلى.

عوف بن محلم الخزاعي

أبو المنهال، أحد العلماء والأدباء والرواة الفهماء، والندامى الظرفاء والشعراء الفصحاء، وكان صاحب أخبار ونوادر، وله معرفة بأيام الناس. وكان طاهر بن الحسين ابن مصعب قد اختصه لمنادمته واختاره لمسامرته. وكان لا يخرج في سفر إلا أخرجه معه، وجعله زميله وأنيسه وعديله، وكان يعجب به.
قال محمد بن داود: ويقال إن سبب اتصاله بطاهر أنه نادى على الجسر بهذه الأبيات في أيام الفتنة ببغداد، وطاهر ينحدر في حراقة دجلة، فسمعها منه فأدخله وأنشده إياها وهي:
عجبت لحراقة بن الحسين ... كيف تعوم ولا تغرق؟
وبحران من تحتها واحد ... وآخر من فوقها مطبق
وأعجب من ذاك عيدانها ... وقد مسها كيف لا تورق؟
وأصله من حران فبقي مع طاهر ثلاثين سنة لا يفارقه، وكان يستأذنه في الانصراف إلى أهله ووطنه فلا يأذن له ولا يسمح به، فلما مات طاهر ظن أنه قد تخلص وأنه يلحق بأهله ويرجع إلى وطنه، فقربه عبد الله بن طاهر من نفسه وأنزله منزلته من أبيه، وكان عبد الله أديباً فاضلاً عالماً بأخبار الناس، فلما وقف على أدب عوف وفضله تمسك به وأفضل عليه حتى كثر ماله، وحسن حاله، وتلطف بجهده أن يأذن له عبد الله في العود إلى وطنه فلم يكن إلى ذلك سبيل، وحفزه الشوق إلى أهله وأهمه أمرهم، فاتفق أن خرج عبد الله من بغداد يريد خراسان، فصير عوفاً عديله يستمتع بمسامرته، ويرتاح إلى محادثته إلى أن دنا من الري، فلما شارفها سمع صوت عندليب يغرد بأحسن تغريد وأشجى صوت، فأعجب عبد الله بصوته، والتفت إلى عوف بن محلم فقال له: يا بن محلم، هل سمعت قط أشجى من هذا الصوت وأطرب منه؟ فقال: لا والله أيها الأمير، وإنه لحسن الصوت، شجي النغمة، مطرب التغريد، فقال عبد الله: قاتل الله أبا كبير حيث يقول:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح؟
أفق لا تنح من غير شيء فإنني ... بكيت زماناً والفؤاد صحيح
ولوعاً فشطت غربة دار زينب ... فها أنا أبكي والفؤاد قريح
فقال عوف: أحسن والله أبو كبير وأجاد ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين - إنه كان في الهذليين مائة وثلاثون شاعراً ما فيهم إلا مفلق، وما كان فيهم مثل أبي كبير فإنه كان يبع في شعره، ويفهم آخر قوله وأوله، وما شيء أبلغ في الشعر من الإبداع فيه.
قال عبد الله: أقسمت عليك إلا أجزت شعر أبي كبير؟ قال عوف: أصلح الله الأمير، قد كبر سني، وفني ذهني، وأنكرت كل ما كنت أعرفه. قال عبد الله: سألتك بحق طاهر إلا فعلت؟ وكان لا يسأل بحق طاهر شيئاً إلا ابتدر إليه لما كان يوجبه له، فلما سمع عوف ذلك أنشأ يقول:
أفي كل عام غربة ونزوح ... أما للنوى من ونية فتريح؟
لقد طلح البين المشت ركائبي ... فهل أرين البين وهو طليح؟
وأرقني بالري نوح حمامة ... فنحت وذو البث الغريب ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعة ... ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه فيح
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح؟
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى ... فيلقي عصا التطواف وهي طريح
إن الغنى يدني الفتى من صديقه ... وعدم الغنى بالمقترين طروح
قال: فاستعبر عبد الله ورق له، وجرت دموعه وقال له: والله إني لضنين بمفارقتك، شحيح على الفائت من محاضرتك، ولكن والله لا أعملت معي خفاً ولا حافراً إلا راجعاً إلى أهلك، ثم أمر له بثلاثين ألف درهم. فقال يمدح عبد الله وأباه:
يا بن الذي دان له المشرقان ... وألبس الأمن به المغربان
إن الثمانين، وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وأبدلتني بالشطاط الحنا ... وكنت كالصعدة تحت السنان
وعوضتني من زماع الفتى ... وهمتي هم الجبان الهدان
وقاربت مني خطىً لم تكن ... مقاربات وثنت من عنان
وأنشأت بيني وبين الورى ... عنانة من غير نسج العنان

ولم تدع في لمستمتع ... إلا لساني وبحسبي لسان
أدعو به الله وأثني به ... على الأمير المصعبي الهجان
وهمت بالأوطان وجداً بها ... وبالغواني أين مني الغوان؟
فقرباني بأبي أنتما ... من وطني قبل اصفرار البنان
وقبل منعاي إلى نسوة ... أوطانها حران والرقتان
سقى قصور الشاذياخ الحيا ... من بعد عهدي وقصور الميان
فكم وكم من دعوة لي بها ... بأن تخطاها صروف الزمان؟
وهذه قصور بخراسان بناحية نيسابور لآل طاهر، ثم ودع عبد الله وسار راجعاً إلى أهله فمات قبل أن يصل إليهم. وقد روى في خبر هذه الأبيات أن عوف بن محلم دخل على عبد الله بن طاهر فسلم عبد الله عليه فلم يسمع فأعلم بذلك فزعموا أنه أنحل هذه القصيدة، وكان قد ورد على عبد الله بن طاهر شاعر يقال له روح وعرض على عوف شعره، فمنعه من إنشاده عبد الله وقال: إن عبد الله رجل فاضل لا ينفق عليه من الشعر إلا أحسنه. فقال له قد حسدتني وتوصل حتى أنشده عبد الله فاسترذله واستبرده ورده، فبلغ ذلك عوفاً فقال:
أنشدني روح مديحاً له ... فقلت شعراً قال لي فيش
فصرت لما أن بدا منشداً ... كأنني في قبة الخيش
وقلت: زدني وتفهمته ... والثلج في الصيف من العيش

عون بن محمد الكندي
الكاتب أبو مالك، أحد أصحاب ابن الأعرابي، وأخذ عن سلمة بن عاصم صاحب الفراء، وروى عنه الصولي فأكثر. حدث الصولي قال: حدثني عون بن محمد الكندي قال: كنا في مجلس ابن الأعرابي فقدم قادم من سر من رأى فأخبر بنكبة سليمان بن وهب وأحمد بن الخصيب فأنشد ابن الأعرابي:
رب قوم رتعوا في نعمة ... زمناً والعيش ريان غدق
سكت الدهر طويلاً عنهم ... ثم أبكاهم دماً حين نطق
عيسى بن إبراهيم الربعي الوحاظي
بلدة باليمن. لا أعرف حاله إلا أنه مصنف كتاب نظام الغريب في اللغة، حذا فيه حذو كفاية المتحفظ وأجاده، وأهل اليمن مشتغلون به.
عيسى بن عمر الثقفي أبو عمر
مولى خالد بن الوليد، نزل في ثقيف فنسب إليهم، عالم بالنحو والعربية والقراءة مشهور بذلك، أخذ عن عبد الله بن إسحاق الحضرمي، ومات عيسى بن عمر سنة تسع وأربعين ومائة في خلافة المنصور قبل أبي عمرو بن العلاء بخمس سنين أو ست. حدث التاريخي محمد بن عبد الملك عن المبرد قال: أول من وضع العربية ونقط المصاحف أبو الأسود الدؤلي، ثم أخذ النحو عن أبي الأسود عنبسة بن معدان المهري الذي يقال له عنبسة الفيل، ثم أخذه عن عنبسة ميمون الأقرن، ثم أخذه عن ميمون ابن أبي إسحاق الحضرمي، ثم أخذه عن ابن أبي إسحاق عيسى بن عمر، ثم أخذه عن الخليل بن أحمد سيبويه، ثم أخذه عن سيبويه الأخفش، واسمه سعيد بن مسعدة. قال التاريخي: حدثنا المبرد مرة أخرى عن التوزي عن أبي عبيدة قال: ووضع عيسى بن عمر كتابين في النحو سمى أحدهما الجامع والآخر المكمل، فقال الخليل بن أحمد:
بطل النحو جميعاً كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للناس شمس وقمر
قال المؤلف: وهذان كتابان ما علمنا أحداً رآهما ولا عرفهما، غير أن أبا الطيب اللغوي ذكر في كتابه أنهما مبسوط ومختصر. وذكر عن المبرد أنه قال: قرأت أوراقاً من أحد كتابي عيسى بن عمر وذكر أيضاً أن عيسى بن عمر أخذ النحو عن أبي عمرو بن العلاء.

وحدث المرزباني فيما أسنده إلى الأصمعي قال: كان عيسى بن عمر صاحب تقصير في كلامه، وكان عمر بن هبيرة قد اتهمه بوديعة لبعض العمال فضربه مقطعاً نحواً من ألف سوط فجعل يقول: والله ما كان إلا أثياب في أسيفاط قبضها عشاروك فيقول له: إنك لخبيث. قال:وكان دقيق الصوت. قال: فكان طول دهره يحمل في كمه خرقة فيها سكر العشر والإجاص اليابس، وربما رأيته واقفاً أو سائراً أو عند بعض ولاة البصرة فتصيبه نهكة في فؤاده، فيخفق عليه حتى يكاد يغلب فيستغيث بإجاصة وسكرة يلقيها في فيه ثم يتمصصها، فإذا فعل ذلك سكن عليه فسئل عن ذلك فقال: أصابني هذا من الضرب الذي ضربني عمر بن هبيرة، فعالجته بكل شيء فما رأيت له أصلح من هذا.
وحدث التاريخي عن المبرد قال: سمعت يحيى بن معين يقول: عيسى بن عمر النحوي بصري، وعيسى بن عمر الكوفي همذاني وهو صاحب الحروف. وحدث عن يوسف بن يعقوب بن السكيت عن الجماز قال: عيسى بن عمر أخو حاجب بن عمر، ويكنى حاجب أبا خشينة، روى عنه الحديث وهما موليان لبني مخزوم، وهما من ولد الحكم بن عبد الله بن الأعرج الذي روى عنه الحديث. وحدث عن أحمد بن عبيد النحوي عن الأصمعي قال: حدثنا عيسى بن عمر قال: قدمت من سفر فدخل علي ذو الرمة فعرضت ألا أكون أعطيته شيئاً فقال لا، أنا وأنت نأخذ ولا نعطي. قال الأصمعي: وحدثني عيسى بن عمر قال: لقد كنت أكتب بالليل حتى ينقطع سوئي أي وسطي. وحدث عن أحمد بن عبيد عن الأصمعي عن عيسى بن عمر قال: اللهازم قيس بن ثعلبة وعجل وعنزة وتيم الله. قال عيسى بن عمر: أرى اللهازم تجمعوا كما تجمع لهازم الدابة. قال: والرباب ثور وعكل وتيم الله، والرباب ثور وعكل وتيم عدي وضبة وأطحل كلهم إخوة، وإنما سموا الرباب لأنهم تجمعوا وتحالفوا، والربابة: جماعة القداح إذا ضمت، وجشم بن بكر وإخوتهم الأراقم وليس بنسب ولكن شبهت عيونهم بعيون الأراقم من الحيات فبقي عليهم. قال مؤلف الكتاب: أما قوله وأطحل فهو عجب من مثله، لأن أطحل اسم جبل سكنه ثور فنسب إليه فقيل: ثور أطحل ولا يفرد في اسم القبيلة. وأما قوله: إنهم تجمعوا مثل الربابة فأكثر أهل هذا الشأن يزعمون أنهم تجمعوا وغمسوا أيديهم في الرب وتحالفوا على بني تميم.
قال أبو العباس ثعلب: جمع الحسن بن قحطبة عند مقدمه مدينة السلام الكسائي والأصمعي وعيسى بن عمر، فألقى عيسى على الكسائي هذه المسألة: همك ما أهمك، فذهب الكسائي يقول: يجوز كذا ويجوز كذا. فقال له عيسى: عافاك الله، إنما أريد كلام العرب، وليس هذا الذي تأتي به كلام العرب قال أبو العباس: وليس يقدر أحد أن يخطئ في هذه المسألة لأنه كيف أعرب هذه الكلمة فهو مصيب، وإنما أراد عيسى بن عمر من الكسائي أن يأتيه باللفظة التي وقعت إليه.

عيسى بن مروان الكوفي أبو موسى
ذكره محمد بن إسحق النديم قال: قرأت بخط ابن الكوفي أنه أخذ عن أبي طالب المفضل بن سلمة وروى عنه، وله من الكتب: كتاب القياس على أصول النحو.
عيسى بن المعلى بن مسلمة الرافقي
أحد أدباء عصرنا، أخمل من ذكره خمول قطره، كان مؤدباً بمدينة الرقة التي على الفرات، وله شعر كثير وفضائل جمة وعدة تصانيف منها: كتاب تبيين الغموض في علم العروض وجدته بخطه وقد كتبه في سنة تسعين وخمسمائة وعاش بعد ذلك. وله كتاب في اللغة حسن في مجلدين ضخمين رأيته بخطه أيضاً. كتاب ديوان شعره مجلدان.
عيسى بن مينا بن وردان بن عيسى
ابن عبد الصمد بن عمرو بن عبد الله، المدني المعروف بقالون القارئ، كنيته أبو موسى صاحب نافع بن أبي نعيم، مات سنة خمس ومائتين في أيام المأمون، ومولده سنة عشرين ومائة في أيام هشام بن عبد الملك، وقرأ على نافع سنة خمسين ومائة في أيام المنصور، وكان قالون أصم لا يسمع البوق، وكان إذا قرأ عليه قارئ ألقم أذنه فاه ليسمع قراءته، وهو مولى الأنصار.
حدث أبو موسى قالون: كان نافع إذا قرأت عليه يعقد لي ثلاثين ويقول لي: قالون قالون: يعني جيد بالرومية. وإنما كان يكلمه بذلك، لأن قالون أصله من الروم، جد جده عبد الله من سبي أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقدم به من أسره وباعه فاشتراه بعض الأنصار فأعتقه فهو مولى الأنصار.
عيسى بن يزيد بن دأب الليثي

هو عيسى بن يزيد بن بكر بن كرز بن الحارث بن عبد الله بن أحمد بن يعمر الشداخ بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر وفي نسبه اختلاف. هذا أظهره أبو الوليد الراوية النساب من أهل الحجاز، وكان يضعف في روايته، مات سنة إحدى وسبعين ومائة في أول خلافة الرشيد. وحدث المرزباني قال: قال عبد الله بن جعفر كان عيسى بن يزيد بن دأب يكنى أبا الوليد، وكان من رواة الأخبار والأشعار وحفاظهم، وكان معلماً من علماء الحجاز.
وحدث فيما رفعه إلى رفيع بن سلمة عن أبي عبيدة قال: أنشد ابن دأب:
وهم من ولدوا أشبوا ... بسر الأدب المحض
فبلغ ذلك أبا عمرو بن العلاء فقال: أخطأت استه الحفرة، إنما هو أشبئوا أي كفوا، أما سمع قول الشاعر:
وذو الرمحين أشباء ... من القوة والحزم
فبلغه عن ابن دأب شيء فقال: على نفسها تجني براقش، أما سمعتم قول الليثي:
ألا من مبلغ دأب بن كرز ... أبا الخنساء زائدة الظليم
فلا تفخر بأحمر واطرحه ... فما يخفى الأغر من البهيم
فعند الله سر من أبيه ... كراع زيد في عرض الأديم
وحدث فيما رفعه إلى جابر بن الصلت البرقي قال: وعد المهدي بم دأب جارية فوهبها له فأنشد عبد الله بن مصعب الزبيري قول مضرس الأسدي:
فلا تيأسن من صالح أن تناله ... وإن كان قدماً بين أيد تبادره
فضحك المهدي وقال: ادفعوا إلى عبد الله فلانة لجارية أخرى، فقال عبد الله بن مصعب:
أنجز خير الناس قبل وعده ... أراح من مطل وطول كده
فقال ابن دأب: ما قلت شيئاً، هلا قلت:
حلاوة الفضل بوعد منجز ... لا خير في العرف كنهب منهز
فضحك المهدي وقال: أحسن الوفاء ما تقدمه ضمان، وحدث عن سعيد بن سلم قال: ما شيء أجل من العلم، كان ابن دأب أحفظ الناس للأنساب والأخبار وكان تياهاً فكان ينادم الهادي ولا يتغدى معه ولا بين يديه فقيل له في ذلك، فقال: أنا لا أتغدى في مكان لا أغسل يدي فيه، فقال له الهادي: فتغد، فكان الناس إذا تغدوا تنحوا لغسل أيديهم، وابن دأب يغسل يده بحضرة الهادي.
وحدث المرزباني عن الحسين بن علي عن أحمد بن سعيد عن الزبير بن بكار عن عمه مصعب عن موسى بن صالح قال: كان عيسى بن دأب كثير الأدب عذب الألفاظ، وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن لأحد، وكان يدعو له بتكأة ولم يكن يطمع أحد من الخلق في هذا في مجلسه ولا يفعل بغيره، وكان يقول له: ما استطلت بك يوماً ولا ليلةً، ولا غبت عن عيني إلا تمنت ألا ترى غيرك، وكان لذيذ المفاكهة، طيب المسامرة، كثير النادرة، جيد الشعر حسن الانتزاع له، قال: فأمر له ليلة بثلاثين ألف دينار، فلما أصبح بن دأب وجه قهرمانه إلى باب موسى الهادي وقال له: انطلق إلى باب الحاجب فقل له: توجه إلينا بالمال، فانطلق فأبلغ الحاجب رسالته فتبسم وقال: ليس هذا إلي، فانطلق إلى صاحب التوقيع ليخرج لك به كتاباً إلى الديوان فتديره هناك، ثم تفعل به كذا وتفعل به كذا، فرجع الرسول إلى ابن دأب فأخبره فقال: دعها فلا تعرض لها ولا تسأل عنها. قال: فبينما موسى في مستشرف له إذ نظر إلى ابن دأب قد أقبل وليس معه إلا غلام واحد فقال لإبراهيم بن ذكوان الحراني: - وإليه ينسب طاق الحراني ببغداد بالكرخ - أما ترى بن دأب ما غير من حاله ولا تزيى لنا، وقد بررناه بالأمس ليرى عليه أثرنا. فقال إبراهيم: إن أذن لي أمير المؤمنين عرضت له بشيء من هذا. فقال: لا، هو أعلم بأمره، ودخل ابن دأب فأخذ في حديثه إلى أن عرض له الهادي بشيء من أمره فقال: أرى في ثوبك غسيلاً، وهذا الشتاء محتاج فيه إلى لبس الجديد واللين. فقال:يا أمير المؤمنين، باعي قصير عما أحتاج إليه، فقال: وكيف ذاك؟ وقد صرفنا إليك من برنا ما ظننا صلاح شأنك معه، فقال: ما وصل إلي ولا قبضت منه شيئاً، فدعا بصاحب بيت المال فقال له عجل الآن بثلاثين ألف دينار فحملت بين يديه.

وحدث بإسناد رفعه إلى أبي زهير قال: كان ابن دأب أحظى الناس عند الهادي، فخرج افضل بن الربيع يوماً فقال: إن أمير المؤمنين يأمر من ببابه بالانصراف، فأما أنت يابن دأب فادخل، قال ابن دأب: فدخلت وهو منبطح على فراشه، وإن عينيه لحمراوان من السهر وشرب الليل. فقال لي: حدثني بحديث من حديث الشراب، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، خرج نفر من كنانة إلى الشام يجلبون الخمر فمات أحدهم فجلسوا على قبره يشربون، فقال أحدهم:
لا تصرد هامة من شربها ... إسقه الخمر وإن كان قبر
إسق أوصالاً وهاماً وصدى ... ناشعاً ينشع نشع المنبهر
كان حراً فهوى فيمن هوى ... كل عود ذي فنون منكسر
قال: فدعا بداوة فكتبها، ثم كتب إلى الخوان بأربعين ألف درهم وقال: عشرة آلاف لك، وثلاثون ألفاً للثلاثة الأبيات. قال: فأتيت الخزان فقالوا: صالحنا على عشرة آلاف أنك تحلف لنا ألا تذكرها لأمير المؤمنين، فحلفت ألا أذكرها حتى يبدأني فمات ولم يذكرها. وحدث قال: دخل ابن دأب على عيسى بن موسى عند منصرفه من فخ فوجده واجماً يلتمس عذراً لمن قتل، فقال له: أصلح الله الأمير، أنشدك شعراً كتب به يزيد بن معاوية يعتذر فيه إلى أهل المدينة من قتل الحسين بن علي عليهما السلام، قال أنشدني فأنشده:
يا أيها الراكب الغادي لطيته ... على عذافرة في سيرها قحم
أبلغ قريشاً على شحط المزار بها ... بيني وبين حسين، الله والرحم
وموقف بفناء البيت أنشده ... عهد الإله وما يرعى به الذمم
عنفتم قومكم فخراً بأمكم ... أم حصان لعمري برة كرم
هي التي لا يداني فضلها أحد ... بنت الرسول وخير الناس قد علموا
وفضلها لكم وفضل وغيركم ... من قومكم لها في فضلها قسم
إني لأعلم أو ظناً كعالمه ... والظن يصدق أحياناً فينتظم
أن سرف يترككم ما تطلبون بها ... قبلي تهاداكم العقبان والرخم
يا قومنا لا تشهوا القوم إذ خمدت ... ومسكوا بجبال السلم واعتصموا
قد جرت الحرب من قد كان قبلكم ... من القرون وقد بادت بها الأمم
فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخاً ... فرب ذي بذخ زلت به القدم
قال فسري عن عيسى بعض ما كان فيه. قال ابن مناذر يهجو ابن دأب:
ومن يبغ الوصاة فإن عندي ... وصاة للكهول وللشباب
خذوا عن مالك وعن ابن عون ... ولا ترووا أحاديث ابن دأب
ترى الغاوين يتبعون منها ... ملاهي من أحاديث كذاب
إذا طلبت منافعها اضمخلت ... كما ينجاب رقراق السراب
وحدث عن عمر بن أبي عبيدة النميري عن خاله ابن أبي شميلة قال: كان خلف الأحمر ينسب ابن دأب إلى الكذب قال: فغدوت يوماً أنا وخلف على ابن دأب فأخذ في حديث ذي الخلصة حتى انقضى، فلما انصرفنا قلت لخلف يا أبا محرز: أتراه كذب؟ قال: لا أدري، والله لا أعرف مما حدث به قليلاً ولا كثيراً. قال عمر: ولخلف الأحمر في أبي العيناء محمد ابن عبيد الله:
لنا صاحب مولع بالمراء ... كثير الخطاء قليل الصواب
أشد لجاجاً من الخنفساء ... وأزهى إذا مشى من غراب
وليس من العلم في فقرة ... إذا حصل العلم غير التراب
أحاديث ألفها شوكر ... وأخرى مؤلفة لابن دأب
قال المرزباني: وقوم يروون في هذه الأبيات زيادة، وأبيات خلف هي هذه، والزيادة عليها فيما ذكر المقدمي والكراني لأبان بن عبد الحميد اللاحقي. وروى عبد الله بن المعتز عب عمر بن شبة قال: شوكر شاعر بالبصرة يضع الأخبار والأشعار.
وحدث الرياشي قال: قال الأصمعي: قلت لخلف الأحمر: أما ترى ما جاء به ابن دأب من الحجاز؟ والشوكري من الكوفة؟ فقال: إنما يروى لهؤلاء من يقول: قالت ستي، ويدعو ربه من دفتر، ويسبح بالحصى، ويحلف محيت المصحف، ويدع حدثنا وأخبرنا ويقول: أكلنا وشربنا. وزعم العنزي أن ابن دأب كان يتشيع ويضع أخباراً لبني هاشم، وكان عوانة ابن الحكم عثمانياً ويضع أخباراً لبني أمية.

وحدث مصعب بن عبد الله الزبيري قال: شيطان الردهة شيء وضعه ابن دأب، وهو ذو الثدية فيما زعم قال: جاءت أمة تستقي ماءً فوقع بها شيطان فحملته فولدته.
وحدث المرزباني فيما رفعه إلى مصعب الزبيري عن أبيه قال: كنا جماعة تجالس الهادي أنا وسعيد بن سلم الناهلي وابن دأب وعبد الله بن مسلم العزيزي وكان أجرأنا عليه، فخرج علينا مغيظاً متغيراً فسأله العزيزي عن خبره فقال: لم أر كصاحب الدنيا أكثر آفات ولا أدوم هموماً، قد عرفتم موضع لبانة بنت جعفر بن أبي جعفر مني، وأثرتها عندي، وأنها أغلظت لي بإدلالها في شيء فلم أجد صبراً فنلتها بيدي فندمت عليه. فسكتنا خوفاً من تعنيفه أو تصويب رأيه فيبلغها ذلك. فقال ابن دأب: وما في ذلك يا أمير المؤمنين؟ هذا الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، ضرب امرأته أسماء بنت أبي بكر الصديق وهي من أفضل نساء زمانها حتى كسر يدها وكان ذلك سبب مفارقته إياها لأنه قال: أنت طالق إن حال عبد الله بيني وبينك يعني ابنه عبد الله بن الزبير، فلم يخله وخلصها، وهذا عمر رضي الله عنه يقول: لا يسأل الرجل فيم يضرب امرأته؟ وهذا كعب بن مالك الأنصاري وهو أخو الزبير - آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما - عتب على امرأته وهي من المهاجرات في شيء ضربها حتى حال بنوها بينهما فقال:
لولا بنوها حولها لخبطتها ... إلى أن تداني الموت غير مذمم
ولكنهم حالوا بمنعي دونها ... فلا تعدميهم بين ناه ومقسم
فمالت وفيها حائش من عبيطها ... كحاشية البرد اليماني المسهم
قال: فضحك الهادي وسري عنه وأمر بالطعام، وأمر لابن دأب بخمسين ألف درهم وخمسين ثوباً. قال عبد الله بن مصعب: فتأسفت كيف سبقني إلى شيء أحفظه مثل حفظه.
وحدث أبو الطيب اللغوي في كتاب مراتب النحويين قال: فأما مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا تعلم بها إماماً بالعربية.
حدث الأصمعي قال: أقمت بالمدينة زماناً مع جعفر بن سليمان الهاشمي واليها، فما رأيت بالمدينة قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة، وكان ابن دأب يضع الشعر وأحاديث السمر وكلاماً ينسبه إلى العرب فسقط وذهب علمه وخفيت روليته. قال: وكان شاعراً وعلمه بالأخبار أكثر. قال الأصمعي: وأتعجب لابن دأب حين يزعم أن أعشى همدان يقول:
من رأى لي غزيلي ... أربح الله تجارته
وخضاب بكفه ... أسود اللون قارته
ثم قال الأصمعي: يا سبحان الله، يحذف الألف التي قبل الهاء في الله ويسكن الهاء ويرفع تجارته وهو منصوب؟ ويجوز هذا عنه، ويروي الناس عن مثله قال: ولقد سمعت خلفاً الأحمر يقول: لقد طمع ابن دأب في الخلافة حين يجوز مثل هذا عنه.

عيينة بن عبد الرحمن المهلبي
يكنى أبا المنهال ذكره الحاكم أبو عبد الله في تاريخ نيسابور فقال: عيينة بن عبد الرحمن أبو المنهال اللغوي المهلبي صاحب العربية تلميذ الخليل بن أحمد، مؤدب الأمير أبي العباس عبد الله بن طاهر بن الحسين، ورد معه نيسابور وتوفي بها، وروى عن داود بن أبي هند، وسفيان بن عيينة، وسعيد بن أبي عروبة، ويحيى بن سليمان، ثو حدث بإسناد رفعه إلى المنهال أنه كان يقول: لا تتصدر إلى فائق أو مائق. قال:قرأت بخط عمر المستملي: سمعت أبا أحمد الفراء، سمعت عيينة المهلبي يقول: سمعت سعيد بن أبي عروبة يقول: ما وصى الله الناس بشيء ما وصاهم بأوطانهم.
قال عيينة: جاء رجل إلى جعفر بن محمد الصادق وهو يصلي فقال: إني مسترشد، قال: اجلس فجلس، فلما قضى صلاته جاء إليه فقال: إن أبانا مات وتركني وأخاً لي هجيناً. فقال جعفر الملك بينكم أثلاث. فقال الأعرابي: والله الذي لا إله إلا هو أمر بهذا؟ قال: نعم، قال: رضيت رضيت رضيت. له كتاب في النوادر وكتاب في الشعر.

قال أبو العباس: كان أبو المنهال مع إسحاق بن إبراهيم الطاهري وكان آنساً به يحادثه ويجالسه ويقرأ عليه، وكان السبب في ذلك، أن أبا المنهال كان مع عبد الله بن طاهر بن الحسين بخراسان وكان يقدمه وأحسن إليه ووصله بمائة ألف درهم وكنا نجلس إليه وقرأت عليه شيئاً كثيراً. ومما قرأته عليه كتاب الأنصار، وكتاب الأزد، وكان ينزل إلى القنطرة عند منازل العاصميين في موضع يقال له دار المهالبة، وكان أحد من لقي الناس وسمع، وكان حسن المعرفة بالإسناد والأخبار والأيام، وعمل كتاباً لإسحاق في القرآن، وكان ابن الأعرابي لا يأتي إسحاق ولا يلقاه وكان يستأذنه في الانصراف إلى أهله ووطنه، يوجه إليه في كل سنة بدرج فيه من سماعه الإشارات الحسنة واللغة الفصيحة، فإذا قرأه إسحاق وقع إلى كاتبه: ادفع إليه ثلاثمائة، فكان على ذلك إلى أن مات.

باب الغين
غانم بن وليد المالقي
أبو محمد المخزومي النحوي: قال ابن خاقان: هو عالم متفرس، وفقيه مدرس، وأستاذ مجود، وإمام لأهل الأندلس مجرد. وأما الأدب فكان جل شرعته وهو رأس بغيته، مع فضل وحسن طريقة، وجد في جميع أموره وحقيقة، وله:
صير فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للمحبين
ولا تسامح بغيضاً في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين
لا أعرف من أمره إلا ما ذكره ابن عساكر في ترجمة علي بن أحمد بن طيز. قال: أنشدني غانم بن وليد النحوي لنفسه:
ثلاثة يجهل مقدارها ... الأمن والصحة والقوت
فلا تثق بالمال من غيرها ... لو أنه در وياقوت
قال: وأنشدني غانم لبعض الشعراء:
يا لأيها المبتغي أخا ثقة ... عدمت ما تبتغي فدع طمعك
داج المداجين ما لقيتهم ... وخادع النفس لامرئ خدعك
لا تكشف المرء عن سرائره ... ودعه تحت النفاق ما ودعك
أظهر له مثل قول ذي بله ... تريه إن ضر أنه نفعك
ولغانم أنشده ابن خاقان:
الصبر أولى بوقار الفتى ... من قلق يهتك ستر الوقار
من لزم الصبر على حاله ... كان على أيامه بالخيار
باب الفاء
فاطمة بنت الأقرع الكاتبة
وجدت بخطها رقعة هذه نسختها: الأمة الكاتبة.
بسم الله الرحمن الرحيم: ثقتي بالله وحده، خشعت لصولة عز المجلس العالي العادلي المؤيدي المظفري المنصوري العزي السعدي الركني النصيري المجدي الشرفي الأميري - أعز الله أنصاره - ، وضاعف اقتداره عقب الدهور، وانقادت لمشيئته تصاريف الأمور، وامتدت إلى نواله آمال السؤال، وأناخت بفنائه رواحل الرجال. فما إنسان إلا موفور ببره، ولا لسان إلا مسبح بشكره، ولا آمل إلا مصروف إليه، فأعطاه الله تعالى من الآمال في نفسه وذويه مالا يرنو إليه طرف، ولا يأتي عليه وصف:
حتى تسير مسير الشمس رايته ... وتعتلي باسمه العالي على القمر
ويختم الأرض طراطين خاتمه ... ويغتدي أمره أمضى من القدر

ومن بعد: فقد ذهبت - أطال الله بقاء المجلس العالي وأعز سلطانه - ، في درج قد قرنته بهذه الرقعة - مذهب المطرف المعجب، وهو مما لم أسبق إلى مثله من مقدمي أهل هذه الصناعة من الذكور دون الإناث، أظهرت فيه المعجز من عاجز، والكامل من ناقص، كما قال قابوس بن وشمكير، وقد يستعذب الشريب من منبع الزعاق، ويستطاب الصهيل من مخرج النهاق. جعلت في ذلك إقبال المجلس العالي - ضاعف الله اقتداره - قائداً إلى طرق الرشاد، وعز سلطانه هادياً مبصراً إلى سبل الإصابة والمراد، وأظهرت الحروف مفصولة وموصولة ومعماة ومفتحة في أحسن صيغها وأبهج خلقها، منخرطة المحاسن في سلك نظامها، متساوية الأجزاء في تجاورها والبناء. فهي لينة المعاطف والأرداف، متناسبة الأوساط والأطراف، ظاهرها وقور ساكن، ومفتشها رهج مائن، وإن استخدمت إلى مهم يسنح، أوفيت فيه على كل مرتسم في هذا الشأن قديماً وحديثاً، وسالفاً وآنفاً، أؤمل بذلك الحظوة من إحماده وجميل رعايته، سمع الله سبحانه فيه كل دعاء مستجاب من الأمة الكاتبة، ومن يتعلق عليها من وليدة ومولود، وشريف ومشروف، وعجوز داعية، وأمة خادمة لما يوليها وينعم عليها، ويعرف موضع خدمتها، ومحل صنعتها، - لا سلبها الله وسائر الخلق ظله بمنه - ، قد ترادف الإنعام عليها دفعة واحدة بعد أخرى، وثانية بعد أولى، على يد الشيخ الأجل السيد فخر الكفاءة أبي الحسين - أدام الله تأييده - وتولى عني من غير حق عارفته، ما لا يقوم بوسعه ألسنة القائلين، وشكر الشاكرين، فإذا أنعم على ما أصدرته من الخدم بلحظة، وأحسن إليه بلمحة، أدركت حظي وحزنت أملي، والرأي السامي في إجابتي إلى ما سألت، وإثباتي في جملة المغمورين بالإحسان من الأدباء والحشم والعبيد والخدم، علوه وشرفه أن شاء الله تعالى.

ترجمة ثانية فاطمة بنت الحسن بن علي العطار
أم الفضل المعروفة بابنة الأقرع الكاتبة، صاحبة الخط المليح المعروف، ماتت فيما ذكره تاج الإسلام ومن خطه نقلت - قاله المؤلف عن أبي الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي السلامي الحافظ - في يوم الأربعاء الحادي والعشرين من المحرم من شهور سنة ثمانين وأربعمائة. قال السمعاني: وكان لها خط مليح حسن، وهي التي أهلت لكتابة كتاب الهدنة إلى ملك الروم من الديوان العزيز، وسافرت إلى بلاد الجبل إلى العميد أبي نصر الكندري. وكتب الناس على خطها، وكانت تكتب طريقة ابن البواب، سمعت أبا عمر عبد الواحد بن عبد الله بن مهدي الفارسي وغيره. سمع منها أبو القاسم مكي بن عبد الله الزميلي الحافظ.
وروى عنها أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي، وأبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد الأنماطي ببغداد، وأبو سعد أحمد بن محمد بن أحمد بن الحسن البغدادي الحافظ بأصبهان وغيرهم. سمعت أبا بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد البزار العروضي يقول: سمعت الكاتبة بنت الأقرع تقول: كتبت ورقة لعميد الملك أبي نصر الكندري وأعطاني ألف دينار.
أخبرنا أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد الحافظ بقراءتي عليه، أخبرتنا فاطمة بنت الحسن بن علي العطار المقرئ قالت: أخبرنا أبو عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن مهدي الفارسي، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، حدثنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا ابن فضيل، حدثنا الأعمش عن عبد العزيز بن رفيع، عن تميم بن طرفة، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: فال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه). أنشدنا أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر الحافظ الأشعبي، أنشدتنا الكاتبة أم الفضل فاطمة بنت الحسن بن علي المقرئ قالت: أنشدنا أبو القاسم المطرز في ديارنا بقطيعة الربيع لنفسه:
سرى مغرماً بالعيس ينتجع الركبا ... يسائل عن بدر الدجى الشرق والغربا
إذا ملأ البدر العيون فعنده ... لعينك بدر يملأ العين والقلبا
ولما هوى دمعي ليوم فراقه ... عقيقاً تهاوى دمعه لؤلؤاً رطبا
إذا لم تبلغني إليكم ركائبي ... فلا وردت ماءً ولا رعت العشبا
الفتح بن خاقان بن أحمد القائد

وقيل: الفتح بن خاقان بن غرطوج، كذا قال المرزباني في كتاب المعجم، قال محمد بن إسحق النديم: كان في نهاية الذكاء والفطنة وحسن الأدب وكان من أولاد الملوك، واتخذه المتوكل أخاً وكان يقدمه على جميع أولاده. قتل مع المتوكل ليلة قتل بالسيوف لأربع خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين بالمتوكلية، وكانت له خزانة كتب جمعها له علي بن يحيى المنجم لم ير أعظم منها كثرة وحسناً. وكان يحضر داره فصحاء الأعراب وعلماء الكوفيين والبصريين. قال أبو هفان: ثلاثة لم أر قط ولا سمعت بأكثر محبة للكتب والعلوم من الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن إسحاق القاضي.
قال المؤلف: وباقي القصة في أخبار الجاحظ فكرهت التكرار. وللفتح من التصانيف: كتاب البستان صنفه رجل يعرف بمحمد بن عبد ربه، ويلقب برأس البغل ونسبه إليه، كتاب الصيد والجوارح. وذكره أبو القاسم في تاريخ الشام فقال: الفتح بن خاقان بن غرطوج التركي أبو محمد قدم الشام مع المتوكل معادله على جمازة، ثم نزل بالمزة فلما رحل المتوكل عن دمشق استخلف بها كلباتكين التركي. وكان على خاتم المتوكل وقتل معه. روى عنه أبو زكريا يحيى بن حكيم الأسلمي شيئاً من شعره وأبو العباس المبرد، وأحمد بن يزيد المؤدب، فلم يذكره الخطيب في تاريخه. وعن محمد بن القاسم قال: دخل المعتصم يوماً إلى خاقان بن غرطوج يعوده فرأى الفتح بن خاقان ابنه وهو صبي لم يتغد فمازحه ثم قال: أيما أحسن داري أم داركم؟ فقال الفتح بن خاقان: يا سيدي دارنا إذا كنت فيها أحسن، فقال المعتصم: لا أبرح والله حتى أنثر عليه مائة ألف درهم وفعل ذلك. وعن أبي العباس المبرد قال: أنشد الفتح بن خاقان:
لست مني ولست منك فدعني ... وامض عني مصاحباً بسلام
وإذ ما شكوت ما بي قالت ... قد رأينا خلاف ذا في المنام
فزاد الفتح بن خاقان:
لم تجد علة تجنى بها الذن ... ب فصارت تعتل بالأحلام
قال المبرد وسمعت الفتح ينشد قبل أن يقتل بساعات هذا البيت وهو:
وقد يقتل الغتمي مولاه غيلة ... وقد ينبح الكلب الفتى وهو غافل
وكان الفتح يتعشق خادماً للمتوكل اسمه شاهك، وله فيه أشعار منها:
أشاهك، ليلي مذ هجرت طويل ... وعيني دماً بعد الدموع تسيل
وبي منك والرحمن ما لا أطيقه ... وليس إلى شكوى إليك سبيل
أشاهك لو يجزى المحب بوده ... جزيت ولكن الوفاء قليل
قال ابن حمدون: كان الفتح بن خاقان يأنس بي ويطلعني على الخاص من سره، فقال لي مرة: شعرت يا أبا عبد الله، إني انصرفت البارحة من مجلس أمير المؤمنين، فلما دخلت منزلي استقبلتني فلانة يعني جاريته فلم أتمالك أن قبلتها، فوجدت ما بين شفتيها هواء لو رقد المخمور فيه لصحا، فكان هذا من مستحسن كلام الفتح، فكأن الوأواء الدمشقي سمع هذا حين قال:
سقى الله ليلاً طاب إذ زار طيفه ... فأفنيته حتى الصباح عناقا
يطيب نسيم منه يستجلب الكرى ... ولو رقد المخمور فيه أفاقا
تملكني لما تملك مهجتي ... وفارقني لما أمنت فراقا
ووجدت في بعض المجاميع للفتح بن خاقان يصف الورد:
أما ترى الورد يدعو الشاربين إلى ... حمراء صافية في لونها صنب
مداهن من يواقيت مركبة ... على الزمرد في أجفانها ذهب
خاف الملال إذا طالت إقامته ... فصار يظهر أحياناً ويحتجب
كان أديباً فاضلاً، زكي النفس حسن العشرة، لطيف الأخلاق، متودداً محبباً إلى كل من يكلمه، وكان غاية في الجود، وكان قد تنزل من المتوكل بمنزلة الروح من الجسد، وكان خدم قبله المعتصم والواثق. فذكر أبو العيناء قال: قال الفتح بن خاقان: غضب علي المعتصم ثم رضي عني وقال لي: ارفع حوائجك لتقضى، فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس شيء من عرض الدنيا وإن جل، يفي برضا أمير المؤمنين وإن قل. قال: فأمر فحشي فمي جوهراً.

أخبرني أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار الحافظ قال: أخبرني أبو القاسم الثعلبي، حدثنا الفضل بن سهل، حدثنا الخطيب أبو بكر، أخبرنا محمد بن محمد بن المظفر السراج، حدثنا المرزباني، أخبرني محمد بن يحيى الصولي، حدثني أحمد بن عبد الرحمن، حدثني وهب بن وهب بن وهب، حدثني البحتري قال: قال المتوكل: قل في شعراً وفي الفتح، فإني أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي، ولا يفقدني فيذل، فقل في هذا المعنى، فقلت أبياتي:
سيدي أنت كيف أخلفت وعدي ... وتثاقلت عن وفاء بعهدي
فقلت فيها:
لا أرتني الأيام فقدك يا فت ... ح ولا عرفتك ما عشت فقدي
أعظم الرزء أن تقدم قبلي ... ومن الرزء أن تؤخر بعدي
حسداً أن تكون إلفاً لغيري ... إذ تفردت بالهوى قبل وحدي
قال البحتري: فقتلا معاً وكنت حاضراً وربحت هذه الضربة، وأومأ إلى ضربة في ظهره فقال: أحسنت والله يا بحتري وجئت بما في نفسي، وأمر لي بألف دينار. وقال غير وهب الراوي للخبر: قال البحتري: قد كنت عملت هذه الأبيات في غلام كنت أكلف به، فلما أمرني المتركل بما أمر تنحيت فقلت الأبيات، وأريته أنني عملتها في وقتي وما غيرت فيها إلا لفظة واحدة، فإنني كنت قد قلت:
لا أرتني الأيام فقدك ما عشت
فجعلته يا فتح. ويحدث الشمشاطي علي بن محمد، حدثني محمد بن عبد الله، حدثني أحمد بن الفضل الهاشمي، حدثنا علي بن الجهم القرشي قال: دخلت على المتوكل يوماً وهو جالس وحده، فسلمت عليه فرد السلام وأجلسني فحانت مني التفاتة فرأيت الفتح بن خاقان واقفاً في غير رتبته التي كان يقوم فيها متكئاً على سيفه مطرقاً، فأنكرت حاله فكنت إذا نظرت إليه نظر إلى الخليفة، فإذا صرفت وجهي نحو الخليفة أطرق، فقال: يا علي، أأنكرت شيئاً؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: ما هو؟ قلت: وقوف الفتح في غير رتبته التي كان يقوم فيها.
قال: سوء اختياره أقامه ذلك المقام. قلت: ما السبب يا أمير المؤمنين؟ قال: خرجت من عند قبيحة آنفاً فأسررت إليه سراً فما عداني السر إذ عاد إلي.
قلت: لعلك أسررته إلى غيره يا أمير المؤمنين؟ قال: ما كان هذا. قلت: فلعل مستمعاً استمع عليكما. قال: ولا هذا أيضاً. قال: فأطرقت ملياً ثم رفعت رأسي فقلت: يا أمير المؤمنين، قد وجدت له مما هو فيه مخرجاً. قال: ما هو؟ قلت: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، حدثنا المستمر بن سليمان عن أبي الجوزاء قال: طلقت امرأتي في نفسي وأنا في المسجد ثم انصرفت إلى منزلي، فقالت لي امرأتي: أطلقتني يا أبا الجوزاء؟ قلت: من أين لك هذا؟ قالت: خبرتني جارتي الأنصارية، قلت: ومن خبرها بذلك؟ قالت: ذكرت أن زوجها خبرها بذلك. فغدوت على ابن عباس فقصصت عليه القصة فقال: علمت أن وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل، فمن ههنا يفشو السر.
قال أبو النعيم: فكان في نفسي من هذا شيء حتى حدثني حمزة الزيات قال: خرجت سنة من السنين أريد مكة، فلما جزت في بعض الطريق ضلت راحلتي، فخرجت أطلبها فإذا باثنين قد قبضا علي، أحس حسهما وأسمع كلامهما ولا أرى شخصهما، فأخذاني وجاءا بي إلى شيخ قاعد على تلعة من الأرض حسن الشيبة فسلمت عليه فرد علي السلام، فأفرخ روعي ثم قال: من أين وإلى أين؟ فقلت: من الكوفة أريد مكة. قال: ولم تخلفت عن أصحابك؟ فقلت: ضلت راحلتي فجئت أطلبها، فرفع رأسه إلى قوم على رأسه فقال: زاملة، فأنيخت بين يدي، ثم قال لي: أتقرأ القرآن؟ قلت: هاته. فقرأت حم الأحقاف حتى انتهيت إلى هذه الآية: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن)، الآية، فقال لي: على رسلك تدري كم كانوا؟قلت: اللهم لا، قال: كنت أربعة وكنت المخاطب لهم عنه صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا قومنا أجيبوا داعي الله. ثم قال لي: أتقول الشعر؟ قلت: اللهم لا. قال: أفترويه؟ قلت: نعم. قال: هاته، فأنشدته قصيدة:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بحومانة الدراج فالمتثلم

فقال: لمن هذه؟ فقلت: لزهير بن أبي سلم، قال: الجني؟ قلت: بل الإنسي مراراً، فرفع رأسه إلى قوم على رأسه، فقال: زهير: فأتي بشيخ كأنه قطعة لحم فألقي بين يديه فقال له: يا زهير، قال: لبيك، قال: أمن أم أوفى، لمن؟ قال: لي. قال: هذا حمزة الزيات يذكر أنها لزهير بن أبي سلمى الإنسي، قال: صدق هو، وصدقت أنت. قال: وكيف هذا؟ قال: هو إلفي من الإنس، وأنا تابعه من الجن، أقول الشيء فألقيه في وهمه، ويقول الشيء فآخذه عنه، فأنا قائلها في الجن، وهو قائلها في الإنس. قال أبو نعيم: فصدق عندي هذا الحديث حديث أبي الجوزاء: أن وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل، فمن ههنا يفشو السر.
قال: فاستفرغ المتوكل ضحكاً وقال: إلي يا فتح، فصب عليه خلعاً، وحمل على شيء من الظهر، وأمر له بمال وأمر لي بدون ما أمر له به، فانصرفت إلى منزلي وقد شاطرني الفتح ما أخذ، فصار الأكثر إلي والأقل عنده، قال جحظة في أماليه: حدثني المبرد قال: أنشدني الفتح بن خاقان لنفسه:
وإني وإياها لكالخمر والفتى ... متى يستطع منها الزيادة يزدد
إذا ازددت منها ازددت وجداً بقربها ... فكيف احتراس من الهوى متجدد؟
قال: فحدثني ابن حمدون قال: لما قال الفتح هذه الأبيات أنشدتها المتوكل فسألني عن قائلها، فعرفت أنه الفتح فاستحسنها وقال لي: بأبي أنت من جامع محاسن الدنيا. وبلغ هذا الشعر أبا علي البصير الفضل بن جعفر فقال في الفتح:
سمعت بأشعار الملوك فكلها ... إذا عض متنيه الثقاف تأودا
سوى ما رأينا لامرئ القيس أننا ... نراه إذا لم يشعر الفتح أوحدا
قال المرزباني: ومن شعر الفتح بن خاقان:
بني الحب على الجور فلو ... أنصف المحبوب فيه لسمج
ليس يستملح في حكم الهوى ... عاشق يحسن تأليف الحجج
قال المؤلف: وهذان البيتان يرويان لعلية بنت المهدي. قال المرزباني: وللفتح بن خاقان:
أيها العاشق المعذب صبراً ... فخطايا أخي الهوى مغفوره
زفرة في الهوى أحط لذنب ... من غزاة وحجة مبروره
وقال عمران بن موسى: سمعت الفتح بن خاقان يقول لأحمد بن أبي فنن الشاعر: يا أحمد، قال: لبيك يا سيدي، وهذا في أول سنة سبع وأربعين ومائتين، اعمل أبياتاً حساناً تمدح بها سيدي أمير المؤمنين، واذكر في آخرها أنس شفيعك حتى آخذ لك منه ما يسد خلتك، فما أسرع فقدك لي! فبكى ابن أبي فنن، قال: يا سيدي على الدنيا بعدك لعة الله. قال له: على الدنيا قبلي وبعدي لعنة الله، فما صافت منحرفاً عنها نابذاً لها، ولا وفت لمتمسك بها راغب فيها أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي: حدثنا العباس بن الفضل الربعي، حدثنا علي بن الجهم قال: إني لعند المتوكل يوماً والفتح بن خاقان حاضر إذ قيل له: فلان النخاس بالباب، فأذن له فدخل ومعه وصيفة فقال له أمير المؤمنين: ما صناعة هذه الوصيفة؟ قال: تقرأ بالألحان، فقال الفتح: اقرئي لنا خمس آيات، فاندفعت تقول:
قد جاء نصر الله والفتح ... وشق عنا الظلمة الصبح
خدين ملك ورجا دولة ... وهمه الإشفاق والنصح
الليث إلا أنه ماجد ... والغيث إلا أنه سمح
وكل باب للندى مغلق ... فإنما مفتاحه الفتح
قال: فوالله لقد دخل المتوكل من السرور ما قام إلى الفتح فوقع عليه يقبله ووثب الفتح فقبل رجله، فأمره أمير المؤمنين بشرائها، وأمر له بجائزة وكسوة وبعث بها إلى الفتح، فكانت أحظى جواريه عنده، فلما قتل الفتح رثته بهذه الأبيات:
قد قلت للموت حين نازله ... والموت مقدامة على البهم
لو تبينت ما فعلت إذن ... قرعت سنا عليه من ندم
فاذهب بمن شئت إذ ذهبت به ... ما بعد فتح للموت من ألم
ولم تزل تبكي وتنوح عليه حتى ماتت.

الفتح بن محمد بن عبيد الله بن خاقان
القيسي الإشبيلي، وقيل: هو من أهل الأندلس، أديب فاضل شاعر بليغ فصيح بذيء اللسان قوي الجنان في هجاء الأعيان، وكان متهم الخلوة فيما بلغني، مات في حدود سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة

وقال العماد: سألت عنه بمصر فقيل: إنه عاش بالمغرب إلى عهد شاور بمصر، فقد توفي بعد سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وقال لي بعض المغاربة: إنه توفي قبل هذا التاريخ. له من التصانيف: كتاب قلائد العقيان، كتاب مطمح الأنفس ومسرح التأنس.
حدثني الصاحب الكبير العالم جمال الدين بن أكرم - أدام الله علوه - قال: لما عزم ابن خاقان على تصنيف كتاب قلائد العقيان جعل يرسل إلى كل واحد من ملوك الأندلس ووزرائها وأعيانها من أهل الأدب والشعر والبلاغة يعرفه عزمه ويسأله إنفاذ شيء من شعره ونظمه ونثره ليذكره في كتابه، وكانوا يعرفون شره وثلبه فكانوا يخافونه وينفذون إليه ذلك وصرر الدنانير، فكل من أرضته صلته أحسن في كتابه وصفه وصفته، وكل من تغافل عن بره هجاه وثلبه، وكان ممن تصدى له وأرسل إليه، أبو بكر بن باجة المعروف بابن الصائغ، وكان وزير ابن فلويت صاحب المرية، وهو أحد الأعيان وأركان العلم والبيان، شديد العناية بعلم الأوائل، مستول على أهل الأشعار والرسائل، وكانوا يشبهونه بالمغرب بابن سينا بالمشرق، وله تصانيف في المنطق وغيره، فلما وصلته رسالته تهاون بها ولم يعرها طرفه، ولا لوى نحوها عطفه وذكر ابن خاقان بسوء فعله، فجعله ختم كتابه، وصيره مقطع خطابه وقال: أبو بكر الصائغ: هو رمد جفن الدين وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفاً وجنوناً، وهجر مفروضاً ومسنوناً، وضل فيما يتسرع، ولا يأخذ في غير الأباطيل ولا يشرع، ولا يرد سوى الغمة ولا يكرع، ناهيك من رجل ما تطهر من جنابة، ولا أظهر مخيلة إنابة، ولا استنجى من حدث، ولا أشجى فؤاده توار في جدث، ولا أقر بباريه ومصوره، ولا فر عن تباريه في ميدان تهوره، والإساءة إليه أجدى من الإحسان، والبهيمة عنده أهدى من الإنسان، نظر في تلك التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله العلي العظيم، ونبذه وراء ظهره ثاني عطفه، وأراد إبطال ما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واقتصر على الهيئة، وأنكر أن تكون إلى الله الفيئة، وحكم للكواكب بالتدبير، فهو يعتقد أن الزمان دور، وأن الإنسان نبات له نور، مع منشأ وخيم ولؤم أصل وخيم، وصورة شوهها الله وقبحها، وطلعة إذا أبصرها الكلب نبحها، وقذارة يوبئ البلاد نفسها، ووضارة يحكي الحداد دنسها، وله نظم أجاد فيه بعض الإجادة، وشارف الإحسان أو كاده، مع كلام طويل، وهجو وبيل، وبلغ ذلك ابن الصائغ فأنفذ له مالاً استكفه به واستصلحه. وصنف ابن خاقان كتاباً آخر سماه: مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ذيل شعراء الأندلس، وصله بقلائد العقيان، وافتتحه يذكر ابن الصائغ وأثنى عليه فيه ثناءً جميلاً فقال: الوزير أبو بكر بن الصائغ هو بدر فهم ساطع، وبرهان علم لكل حجة قاطع، تفرحت بعطره الأعصار، وتطيبت بذكره الأمصار، وقام به وزن المعارف واعتدل، ومال وتهدل، وعطل بالبرهان التقليد، وينفق بعد عدمه الاختراع والتوليد، إذا قدح زند فهمه أورى بشرر للجهل محرق، وإن طما بحر خاطره فهو لكل شيء مغرق، مع نزاهة النفس وصونها، وبعد الفساد من كونها، والتحقيق الذي هو للإيمان شقيق، والجد الذي يخلق العمر وهو مستجد، وله أدب يود عطارد أن يلتحفه، ومذهب يتمنى أن يعرفه، ونظم تتمناه اللبات والنحور، وتدعيه مع نفاسة جوهرها البحور. وقد أتيت بما تهوى الأعين النجل أن يكون إثمدها، ويزيل من النفس حزنها وكمدها، فمن ذلك قوله يتغزل:
أسكان نعمان الأراك تيقنوا ... بأنكم في ربع قلبي سكان
ودوموا على حفظ الوداد فطالما ... بلينا بأقوام إذا استحفظوا خانوا
سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم ... هل اكتحلت لي فيه بالنوم أجفان؟
وهل جردت أسياف برق دياركم ... فكانت لها إلا جفوني أجفان؟
وله:
أتأذن لي آتي العقيق اليمانيا ... أسائله ما للمغاني وماليا؟
وسل دارهم بالحزن أقفر إنني ... تركت الهوى يقتاد فضل زماميا
فيا مكرع الوادي أما فيك شوبة ... لقد سال فيك الماء أزرق صافيا؟
ويا شجرات الجزع هل فيك وقفة ... فقد فاء فيك الفيء أخضر ضافيا؟
وقد جرى في هذا الميدان فأحسن كل الإحسان.

الفضل بن إسماعيل التميمي

أبو عامر الجرجاني أديب أريب فاضل لبيب، أحد أصحاب عبد القاهر الجرجاني النحوي، وكان مليح الخط صحيح الضبط رائق النظم فصيح النثر، جيد التصنيف، حسن التأليف، ذكره محمد بن محمود في كتاب سر السرور فقال: رباع الفضل بتصانيفه عامرة، ورياض الأدب بكلماته ناضرة، فكان الربيع فضلة من بدائعها، والزهر ضرة لروابعها، وشعره يطرق السحر بين يديه، ويهتف الملح بحفافيه تقرأ آيات الإحسان من أبياته. وتخفق عذبات الإبداع من راياته.
وله تصنيفات باسم الشيخ الأجل عبد الحميد أهداها إليه بغزنة فأشرقت بها أرجاؤها، وأغدقت أنواؤها منها: كتاب البيان في علم القرآن. وكتاب عروق الذهب من أشعار العرب. وكتاب سلوة الغرباء وغيرها. وقال عبد الغافر في كتاب السياق: الفضل بن إسماعيل التميمي الشيخ أبو عامر الجرجاني النحوي الكاتب الأديب الشاعر من أفاضل عصره، وأفراد دهره، حسن النظم والنثر، متين في الفضل: كتب مدة للشيخ الرئيس أبي المحاسن الجرجاني وغيره، وصحب الكتاب والمشايخ، سمع الحديث من المشايخ الذين سمعنا منهم، مثل الشيخ أبي سعد بن رامش، وأبي نصر بن رامش المقرئ، وأبي بكر احمد بن علي بن خلف الشيرازي، وأبي القاسم إسماعيل بن زاهر النوقاني، وسمع من الشيخ أبي بكر أحمد بن منصور بن خلف المغربي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وسمع من المشايخ الإسماعيلية وغيرهم في شبابه، ولم يذكر وفاته لكنه كان قد مات في حياة عبد الغافر. وكان ورد نيسابور واجتمع به الأديب يعقوب بن أحمد المذكور في بابه، وسأله أن يكتب له بخطه في كتابه الذي سماه: جونة الند. وهو مجموع جمع فيه يعقوب من أشعار نفسه وغيره من اهل عصره ومن تقدمه، وظفرت أنا بأصل يعقوب الذي بخطه وفيه بخط أبي عامر الذي لا أرتاب به ما نقلته بصورته بعد أن أسقطت بعض النظم، وأما النثر فلا. وهذا نسخة خطه: سألني الشيخ الجليل الأديب - أدام الله نعمته - أن أكتب له في هذا الدفتر شيئاً من هاذوري، فترجحت بين صوارف تنهاني عن الإجابة ستراً لعورتي، ودواع تحثني على امتثال رسمه إظهاراً لطاعتي، وأنا على كل حال واثق بكرمه، ساكن إلى حسن شيمه، وعالم أنه يحرص على إقالة عثرة الإخوان، وستر عيوبهم بقدر الإمكان، والله أسأل أن يجبر نقيصتنا بفضيلته، ويمحو إساءتنا بحسنته فإنه عليه قدير، وهاهو الهاذور:
بالله يا حتفي أما تستحي ... حتى متى توردني حتفي؟
تحلف لي أنك في كفي ... وعض كفي منك في كفي
وأنت يا قلبي إلى كم وكم ... تحيل بالذنب على طرفي!
وأيضاً:
خده الياسمين والخط فيه ... سنبل نابت على ياسمين
سمته قبلة فقال تحرز ... بين صدغي عقدنا التنين
وأيضاً:
إذا حفزتك نائبة لأمر ... فجئت إلى صغير أو كبير
فكاثره بهز بعد هز ... فإن الزبد بالمخض الكثير
وأيضاً في الرئيس أبي الفضل - أدام الله علوه - :
تولى الغانيات فليس عندي ... لهن سوى هوى أخفي وأبدي
رأين الشيب ألبسني قتيراً ... على حد البلى فنقضن عهدي
وسالمني الغيور فكل يوم ... يوازن بيننا، ود بود
وقنعني الزمان فلست آس ... على فوت الثراء وأنت عندي
وكل تعجبي طول الليالي ... لذلة ماجد يسعى لوغد!
فشكراً للإله فقد كفاني ... تولى غير عباس بن سعد
له قلبي وخالصتي وودي ... وفيه ترددي وإليه قصدي
ومنه معيشتي وصلاح حالي ... ومنصوب به غيي ورشدي
وكل الناس يشرك في هواه ... وقد أفردته بهواي وحدي
فإن أفزع فكهف علاه حرزي ... وإن أعطش فبحر نداه وردي
فضلت الناس مأثرة وفخراً ... وطلتهم بإحسان ومجد
ولما صرت عبدك صار يرضى ... أنوشروان لو أرضاه عبدي
أدل عليك إدلال الموالي ... فلا نكر لديك ولا تعدي
وتلك مزية لي ليس تخفى ... ورثت مكانها من أبي وجدي
فعش ألفً معي في خير حال ... وألفاً بعدها ألفان بعدي

فكل الناس دونك آل قفر ... يغر بلمعة من غير رفد
وأنت الفرد مكرمة فكن لي ... تكن فرداً بلا شك لفرد
وأيضاً:
نشد على الموت مستبسلين ... غلاظ الرقاب غلاظ الكبود
ونفترع البيض سود القرو ... ن صفر الترائب حمر الخدود
وله أيضاً:
عذيري من شاطر أغضبوه ... فجرد لي مرهفاً باتكا
يقول: أنا لك يا بن الوكيل ... وهل لي رجاء سوى ذلكا؟
وأيضاً:
إني بليت بشادن ... بلواه عندي تستحب
فإذا بلوت طباعه ... فالماء يشرب وهو عذب
وإذا نضوت ثيابه ... فاللوز يقشر وهو رطب
وقصارى وصفي أنه ... فيما أحب كما أحب
وأيضاً:
قد ضاق صدري من صدور زماننا ... فهم جماع الشر بالإجماع
يتضارطون فإن شكوت ضراطهم ... شفعوا سماع الضرط بالإسماع
هذا يفرقع في الضراط وذاكم ... يرمي بمثل حجارة المقلاع
ومن البلية أن تعاشر معشراً ... يتضارطون الدهر بالإيقاع
وله:
مللت مكافحة الحادثات ... وكنت بها معجباً عاجبا
وحيرني الدهر حتى نشدت ... حماري وكنت له راكبا
وأياً:
أصبحت مثل عطارد في طبعه ... إذ صرت مثل الشمس في الإشراق
فلذاك ما ألقاك يوماً واحداً ... إلا قضيت علي بالإحراق
الشيخ الجليل الأديب - أدام الله نعمته - ، وأنعم علي بقراءة ما علقه عن دفتري علي، والله يمتعه به وبفضله، ويقر عين العلم بحراسته. وسمع معه ابنه الشيخ الفاضل أبو بكر الحسن، والفقيه الفاضل العالم أبو المجد محمد بن أبي القاسم - أبقاهما الله - وكذلك سمعوا جميعاً ما أبنته من هاذوري بخطي. وكتب الفضل بن إسماعيل أبو عامر الجرجاني ومن خطه نقلت: كتب إلى الكيا الأجل أبو الفتح رحمه الله:
أبا عامر إن الرتائم إنما ... تذكر بالأمر، العبام المغمرا
ولكن من عيناه درج فؤاده ... فليس بمحتاج إلى أن يذكرا
وكتب أيضاً إلى الشيخ الإمام أبي بكر عبد القاهر:
ما أبو عامر سوى اللطف شيء ... إنه جملة كما هو روح
كل ما لا يلوك من سر معنى ... عند تفكيره فليس يلوح
قال المؤلف: هذا آخر ما نقلته من خط أبي عامر رحمه الله - . وله من التصانيف: كتاب عروق الذهب في الشعر واختياره، كتاب قلائد الشرف في الشعر أيضاً، كتاب البيان في علم القرآن، كتاب سلوة الغرباء.
ونقلت من خط الأديب يعقوب بن أحمد النيسابوري وتصنيفه رقعة كتبها الشيخ الفقيه الجليل أبو عامر الفضل بن إسماعيل الجرجاني - أدام الله تأييد - إلى الشيخ الرئيس الشهيد أبي المحاسن سعد - رحمه الله - . قال يعقوب: وكتبتها من خطه إبان مقدمه نيسابور في شعبان سنة ثمان وخمسين وأربعمائة: أنا في هذه السنة - أطال الله بقاء الشيخ - من الاختلال والتكشف والاعتلال والتشعث، على صورة أستحيي من عرضها، وآنف من شرحها، وقد رحب عامتها بما أشكر الله تعالى عليه، وأدرع الصبر في كل ما يمتحن عباده به، وأعمل الحيلة من الآن في استقراض ما عسى أن يبلغني المحل، ولكن من يقرض أبا فرعون بعد وقوفه بالأبواب مع العصا والجراب؟ وأسأل الله تعالى السلامة، ثم أسأل سيدنا أن ينظر واحدة فيما أقول من قبل أن يعضل الداء فلا ينفع الدواء، ويعظم النقب فلا ينجع الهناء، وأن يجعل عنوان بره ألا يرى تعليق هذه الرقعة ضراعة أو رفاعة، فما في شرط الحكمة أن أكتم عنه متربة، وأتضور جوعاً ومسغبة. ولولا مكاني من خدمته، ومكاني من شفقته، لكان استفاف الملة أحب إلي من إظهار الخلة، والسلام.
ومن كتاب مرو لأبي سعد السمعاني لأبي عامر الفضل بن إسماعيل الجرجاني التميمي يصف هرة:
إن لي هرة خضبت شواها ... دون ولدان منزلي بالرقون
ثم قلدتها لخوفي عليها ... ودعات ترد شر العيون
كل يوم أعولها قبل أهلي ... بزلال صاف ولحم سمين
وهي تلعابة إذا ما رأتني ... عابس الوجه وارم العرنين

فتغني طوراً وترقص طوراً ... وتلهى بكل ما يلهيني
لا أريد الصلاء إن ضاجعتني ... عند برد الشتاء في كانون
وإذا ما حككتها لحستني ... بلسان كالمبرد المسنون
وإذا ما جفوتها استعطفتني ... بأنين من صوتها ورنين
وإذا ما وترتها كشفت لي ... عن جراب ليست متاع العيون
أملح الخلق حين تلعب بالفا ... ر فتلقيه في العذاب المهين
وإذا مات حسه أنشرته ... بشمال مكروبة أو يمين
وتصاديه بالغفول فإن را ... م انحجاراً علته كالشاهين
وإذا ما رجا السلامة منها ... عاجلته بنشطة التنين
وكذاك الأقدار تفترس المر ... ء وتغتاله بقطع الوتين
بينما كان في نشاط وأنس ... إذ سقاه ساق بكاس المنون
ويروى له.
علقتها بيضاء ظامية الحشا ... تسبي القلوب بحسنها وبطيبها
مثل الشقائق في احمرار خدودها ... للناظرين وفي اسوداد قلوبها
وله:
وقد يستقيم المرء فيما ينوبه ... كما يستقيم العود في عرك أذنه
ويرجح من فضل الكلام إذا مشى ... كما يرجح الميزان من فضل وزنه

الفضل بن إبراهيم بن عبد الله الكوفي
أبو العباس النحوي المقري، أخذ القراءة عن أبي الحسن علي بن حمزة الكسائي، وقرأ الكسائي على عيسى بن عمر الهمذاني عن حمزة الزيات، ولا أعرف من حاله أكثر من هذا، وله اختيار في أحرف يسيرة، وإنما ذكرته لأنه يعرف بالنحوي.
الفضل بن الحباب
بن محمد بن شعيب ابن صخر الجمحي يكنى أبا خليفة من أهل البصرة، قال أبو الطيب اللغوي: هو ابن أخت محمد بن سلام الجمحي من رواة الأخبار والأدب والأشعار والأنساب، مات في شهر ربيع الأول من سنة خمس وثلاثمائة بالبصرة، وكان قد ولي القضاء بالبصرة وكان أعمى، روى عن خاله كتبه فأكثر وعن غيره، وروى له من الكتب: كتاب طبقات شعراء الجاهلية، كتاب الفرسان، وكان شاعراً. فمن شعره ما أنشد محمد بن عمر بن عثمان البغدادي عنه.
قالوا: نراك تطيل الصمت قلت لهم: ... ما طول صمتي من عي ولا خرس
لكنه أحمد الأمرين عاقبة ... عندي وأبعده من منطق شكس
أأنشر البز فيمن ليس يعرفه ... أو أنثر الدر للعميان في الغلس
قالوا: نراك أديباً لست ذا خطل ... فقلت: هاتوا أروني وجه مقتبس
لو شئت قلت ولكن لا أرى أحداً ... يروي الكلام فأعطيه مدى النفس
وقد روى من جهة أخرى أن هذه الأبيات لابن دريد لما نول سيراف سئل أن يجلس للقراءة عليه فأبى ذلك إن لم يكن هناك من يساوي أن يجلس له، فكتب هذه الأبيات في قبلة مسجد سيراف وانصرف.
نقلت من خط أبي سعد السمعاني بإسناد له قال: ألقيت رقعة إلى أبي خليفة الفضل بن الحباب القاضي فيها:
قل للحكيم أبي خليفه ... يا زين شيعة ابي حنيفه
إني قصدتك للذي ... كاتمت من حذر وخيفه
ماذا تقول لطفلة ... في الحسن منزلها شريف؟
تصبو إلى زين الورى ... من غير ما بأس عفيفه
فقرأ الرقعة ثم كتب على ظهرها:
يا من تكامل ظرفها ... حال الهوى حال شريفه
إن كنت صادقة الذي ... كاتمت من حزن وخيفه
فلك السعادة والشها ... دة والجلالة يا شريفه
هذا النصاح بعينه ... وبه يقول أبو حنيفه
نقلت من خط الإمام الحافظ حقاً صديقنا ومفيدنا أبي نصر عبد الرحيم بن النفيس بن وهبان من كتاب الإرشاد في معرفة علماء الحديث تصنيف الخليل بن عبد الله بن محمد الحافظ القاضي، أنشدني الصاحب إسماعيل بن عباد الوزير، أنشدني أبي، أنشدني أبو خليفة لنفسه:
شيبان والكبش حدثاني ... شيخان بالله عالمان
قالا: إذا كنت فاطمياً ... فاصبر على نكبة الزمان

قال: إني سألت أبا خليفة عن الكبش من هو؟ قال: أبو الوليد الطيالسي، وشيبان هو ابن فروخ الأبلي، قال الخليل: قلت لعبد الله بن محمد: هذا يدل على أن أبا خليفة كان يميل إلى التشيع، فقال: نعم. قرأت بخط أبي سعد أيضاً بإسناد له إلى أبي سهل هارون بن أحمد بن هارون الأستراباذي قال: أنشدنا الفضل بن الحباب الجمحي القاضي لنفسه:
ومتعب السفر مرتاح إلى بلد ... والموت يرصده في ذلك البلد
وضاحك والمنايا فوق هامته ... لو كان يعلم غيباً مات من كمد
آماله فوق ظهر النجم شامخة ... والموت من تحت إطليه على الرصد
من كان لم يعط علماً في بقاء غد ... ماذا تفكره في رزق بعد غد؟
قرأت في كتاب هراة للفامي قال: روى عن محمد بن إبراهيم بن عبدويه بن سدوس بن علي أبي عبد الله المسندي أنه قال: كنا عند أبي خليفة القاضي بالبصرة، فدخل عليه اللص داره فصاح ابنه باللص، فخرج أبو خليفة إلى صحن الدار وقال: أيها اللص، مالك ولنا؟ إن أردت المال فعليك بفلان وفلان، إنما عندنا قمطران: قمطر فيه أحاديث، وقمطر فيه أخبار، إن أردت الحديث حدثناك عن أبي الوليد الطيالسي، وأبي عمر الجوصي وابن كثير وهو محمد وإن أردت الأخبار أخبرناك عن الرياشي عن الأصمعي ومحمد بن سلام. فصاح ابنه إنما كان كلباً. فقال: الحمد لله الذي مسخه كلباً ورد عنا حربا.
وذكر التنوخي هذه الحكاية وقال في آخرها: فقال له غلامه: يا مولاي، ليس إلا الخير، إنما هو سنور. فقال أبو خليفة: الحمد لله الذي مسخه هراً وكفانا شراً.
قال المؤلف: ومثل هذه الحكاية تحكى عن أبي حية النميري مشهورة عنه وقال في آخرها: الحمد لله الذي يمسخه كلباً وردنا حرباً.
وقرأت في كتاب أبي علي التنوخي.
حدثني أبي رضي الله عنه: أن صديقاً لأبي خليفة القاضي اجتاز عليه راكباً وهو في مسجده فسأله أن ينزل عنده فيحادثه. فقال: أمضي وأعود، فقال له أبو خليفة: إيحاشك فقد، وإيناسك وعد. قال: وكان أبو خليفة كثير الاستعمال للسجع في كلامه، وكان بالبصرة رجل يتحامق ويتشبه به يعرف بأبي الرطل، لا يتكلم إلا بالسجع هزلا كله، فقدمت هذا الرجل امرأته إلى أبي خليفة وهو يلي قضاء البصرة إذ ذاك وادعت عليه الزوجية والطلاق، فأقر لها بهما. فقال له أبو خليفة: أعطها مهرها. فقال أبو الرطل: كيف أعطيها مهرها ولم تقلع مسحاتي نهرها؟. فقال له أبو خليفة: فأعطها نصف صداقها. فقال: لا، أو أرفع بساقها وأضعه في طاقها. فأمر به أبو خليفة فصفع. قال وأخبرني غير واحد أن أبا الرطل هذا، كان إذا سمع رجلاً يقول: لا ننكر لله قدرة، قال هو: ولا للهندبا خضرة.
ولا للزردج صفرة، ولا للنخلة بسرة، ولا للعصفر حمرة، ولا للقفا نقرة.
حدث أبو علي التنوخي حدثني أبو علي الحسن بن سهل بن عبد الله الإيذجي، وكان يخلف أبا علي على القضاء بإيذج ورامهرمز ثم لم يزل على الحكم، ونادم أبا محمد المهلبي في وزارته فغلب عليه، وعلا محله عنده وتخالع وتهتك فيما لا يجوز للقضاة، وكان يدعي بالقضاء ويخاطبه أبو محمد في الوزارة في كتبه بسيدي القاضي، وكان له محل مكين من الأدب. قال: وردت البصرة وأنا حديث السن لأكتب العلم وأتأدب، فلزمني أبو عبد الله المسمعي وكنت أقتصر عليه، فكتب إلي يوماً وقد قرص الهواء:
أيهذا الفتى وأنت فتى ال ... دهر إذا عز أن يقال فتى
طوبى لمن كان في الشتاء له ... كاس وكيس وكسوة وكسا

وكتب في الرقعة: وقد بقيت كاف أخرى لولا أني أحب تقليل المئونة عليك لذكرتها يعين الكس فبعث إليه بجميع ما التمسه. قال التنوخي: وحدثني قال: كان أبو خليفة القاضي صديقاً لأبي وعمي أيام وفد إلى كور الأهواز في فتنة الزنج، فلما قدمت إلى البصرة قدمتها مع أبي فأنزلنا أبو خليفة داره وأكرمنا وأمكنني من كتبه، فكنت أقرأ عليه كل ما أريد، وأسمع كيف شئت؟ وأكتب وأنسخ لنفسي، وأصوله لي مبذولة، فإذا كان الليل جلسنا وتحادثنا، فربما أحببت القراءة عليه فيجيبني فإذا أضجرته يقول: يا بني روحني فأقطع القراءة، وإذا استراح أخرج من كمه دفتراً من ورق أصفر فيقول: اقرأ علي منه فإنه خطي، وما تقرؤه علي فهو من خط غيري، فكنت أقرأ عليه منه، وكان فيه ديوان عمران بن حطان، فكان يبكي على مواضع منه، فأنشدته ليلة القصيدة التي فيها البيتان المشهوران - :
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
فبكى عليهما لما انتهيت إليهما حتى كاد يغمى، فاستطرفت ذلك وعجبت منه، فلما كان من الغد اجتمعت مع المفجع فحدثته بذلك واغتررت به للأدب واستكتمته إياه فأشاعه وأذاعه وعمل:
أبو خليفة مطوي على دخن ... للهاشميين في سر وإعلان
ما زلت أعرف ما يخفى وأنكره ... حتى اصطفى شعر عمران بن حطان
وأنشدنيها لنفسي أنشدها غيري، فكتبها عنه بعض أهل الأدب في رقعة لطيفة وجعلها في مقلمته وحضرنا عند أبي خليفة في مجلس عام فنفض الرجل مقلمته وقد أنسي ما فيها فسقطت الرقعة وانصرف الناس ووجدها أبو خليفة وقرأها فاستشاط. وقال ابن الإيذجي: قبحه الله وترحه أشاط بدمي؟ علي بأبي العباس الساعة، يعني والدي، فجاءه وحدثه الحديث، فوقعت في ورطة وكادت الحال أن تنفرج بيني وبين أبي، ومنعني أبو خليفة القراءة واحتشمني، فحملت إليه ثياباً لها قدر، وأهديت إليه من مأكل الجند واعتذرت إليه، فرجع إلي وقبل عذري، وداود تدريسي ومكنني من القراءة عليه، فقرأت كتاب الطبقات وغيره مما كان عنده. وقال: لا أظهر الرضا عنك أو تكذب نفسك، ففعلت ذلك وأعطيت المفجع ثوباً دبيقياً حتى كف عن إنشاد الأبيات وجحدها واعتذر إلى أبي خليفة قال: وقال أبو علي عقيب هذا: أكثر رواة العرب فيما بلغني عنهم إما خوارج وإما شعوبية كأبي عبيدة معمر بن المثنى، وأبي حاتم سهل السجستاني، وفلان وفلان وعدد جماعة. وقرأت بخط ابن مختار اللغوي المصري: أبو خليفة الفضل بن الحباب اشترى جارية فوجدها خشنة فقال: يا جارية، هل من بزاق أو بصاق أو بساق؟، العرب تنقل السين صاداً أو زاياً، فتقول: أبو الصقر والزقر والسقر، فقالت: الحمد لله الذي ما أماتني حتى رأيت حري قد صار ابن الأعرابي يقرأ عليه غرائب اللغة.

الفضل بن خالد أبو معاذ النحوي
المروزي مولى باهلة، روى عن عبد الله بن المبارك وعبيد بن سليم. روى عنه محمد بن علي بن الحسن بن شقيق وأهل بلده، مات سنة إحدى عشرة ومائتين. ذكر ذلك الحاكم بن البيع في تاريخ نيسابور.
قال الأزهري: ولأبي معاذ كتاب في القرآن حسن. قلت: وقد روى عنه الأزهري في كتاب التهذيب فأكثر، وذكره محمد بن حيان في تاريخ الثقات في الطبقة الرابعة بمثل ذلك سواء، ولعل الحاكم عنه نقل.
الفضل بن صالح العلوي الحسني
النحوي أبو المعالي اليماني، مات في سنة نيف وثمانين وأربعمائة، قال عبد الغافر: قال: وحضر نيسابور وسمع الحديث من مشايخنا الذين رأيناهم، ولا شك أنه سمع في أسفاره الكتب.
الفضل بن عمر بن منصور بن علي
أبو منصور، يعرف بابن الرائض الكاتب، من أهل باب الأزج، كان حافظاً لكتاب الله، قرأ بالعشر على علي ابن عساكر بالطائحي، وخطه غاية في الجودة على طريقة ابن هلال البواب، ولذلك أوردناه في هذا الكتاب. بلغني أن مولده في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، ومات في جمادى الآخرة سنة تسع وستمائة.
الفضل بن محمد بناليزيدي

أبي محمد اليزيدي يكنى أبا العباس، وقد ذكرنا نسبه ونسب أهله والسبب الذي لأجله سموا اليزيديين في باب جده أبي محمد يحيى بن المبارك، وكان الفضل أحد الرواة العلماء، والنحاة النبلاء، أخذ عنه العلم الكثير، ورواه من جهته الجم الغفير، ومات فيما ذكره ابن النديم سنة ثمان وسبعين ومائتين.
حدث المرزباني عن الصولي عن احمد بن يزيد المهلبي قال: قال إبراهيم بن المدبر: اجتمع عندي يوماً الفضل اليزيدي والبحتري وأبو العيناء، فجلس الفضل يلقي على بعض فتياننا نحواً فقال له أبو العيناء: هذا بابي وباب الوالدة حفظها الله، فغضب الفضل وانصرف، وخرج البحتري إلى سامرا من بغداد وكتب إلي شعراً أوله:
ذكرتنيك روحة للشمول
وهجا فيها الفضل فقال:
جل ما عنده التردد في الفا ... عل من والديه والمفعول
قال إبراهيم: فأمرت أن يكتب جواب الكتاب ويوجه إليه بمائة دينار. ودخل أبو العيناء فأقرأته الشعر فقال: أعطني نصف المائة فإنه هجاه والله بكلامي، فأخذ خمسين ووجهت إلى البحتري بخمسين وعرفته الخبر فكتب إلي: صدق والله وما بنيت أبياتي إلا على معناه.
وحدث المرزباني في كتاب المعجم قال: كتب الفضل ابن محمد بن أبي محمد اليزيدي إلى أبي صالح بن يزداد وكان يداعبه وجرت بينهما جفوة:
استحي من نفسك في هجري ... واعرف بنفسي أنت لي قدري
واذكر دخولي لك في كل ما ... يجمل أو يقبح من أمر
قد مر لي شهر ولم ألقكم ... لا صبر لي أكثر من شهر
وحدث ابن ناقياء في كتاب ملح الممالحة قال: قال الفضل بن محمد اليزيدي: كان محمد بن نصر بن منصور بن بسام الكاتب اشترى منزلاً وآلة وطعاماً وعبيداً، وكان ناقص الأدب، وكنت أختلف إلى ولده وولد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم ليقرؤوا علي الأشعار، وكان عبد الله بن إسحاق سرياً جاهلاً، فدخلت يوماً والستارة مضروبة ومحمد بن بسام وعبد الله بن إسحاق يشربان وأولادهما بين أيديهما وكانوا قد تأدبوا وفهموا، فغنى بشعر جرير:
ألا حي الديار بسعد إني ... أحب لحب فاطمة الديارا
فقال عبد الله بن إسحاق: لولا جهل العرب ما كان ذكر لسعد ههنا. فقال محمد بن بسام: لا تفعل يا أخي فإنه يقوي معدتهم ويصلح أسنانهم. قال الفضل اليزيدي: فقال لي علي ابن محمد بن نصر: بالله يا أستاذ اصفعهما وابدأ بأبي.
قال المؤلف: أراد بسعد ههنا اسم موضع معروف، وكتب الحمدوني إلى الفضل:
يا أبا العباس إنا ... في نعيم وسرور
ولدينا أسعد الأم ... ة في كل الأمور
ما لنا عيب سوى بع ... دك فامنن بحضور
فأجاب سمعنا وأطعنا.

الفضل بن محمد بن علي بن الفضل
القصباني أبو القاسم النحوي البصري، كان واسع العلم غزير الفضل إماماً في علم العربية، وإليه كانت الرحلة في زمانه وكان مقيماً بالبصرة، مات في سنة أربع وأربعين وأربعمائة في أيام القائم، وأخذ عنه أبو زكرياء يحيى ابن التبريزي، وأبو محمد الحريري، وله تصانيف منها: كتاب في النحو، وكتاب في حواشي الصحاح، وكتاب الأمالي، وكتاب في أشعار العرب ومختارها كبير وسمه بالصفوة.
قال القاسم بن محمد بن الحريري صاحب المقامات: أنشدنا شيخنا أبو القاسم القصباني النحوي لنفسه:
في الناس من لا يرتجى نفعه ... إلا إذا مس بإضرار
كالعود لا يطمع في ريحه ... إلا إذا أحرق بالنار
باب القاف
قابوس بن وشمكير بن زيار

الديلمي المقلب بشمس المعالي من الملوك، وكان صاحب جرجان وطبرستان، وكان أخوه بهستون وأبوه وشمكير وعمه مرداويج ملوك الري وأصبهان وتلك النواحي، لأن أول من ملك من الديلم ليلى بن النعمان فاستولى على نيسابور في أيام نصر بن احمد الساماني، وقام بعده أسفار بن شيرويه، وكان مرداويج بن زيار أحد قواده فخرج عليه فحاربه فظفر به مرداويج فقتله وملك مكانه، وعمل لنفسه سريراً من ذهب فجلس عليه واشترى عبيداً كثيرةً من الأتراك وجعل يقول: أنا سليمان وهؤلاء الشياطين، وكان فيه ظلم وجبروت، فدخل عليه غلمانه الأتراك فقتلوه في الحمام، وكان بنو بويه من أتباعه فولاهم ولاية استظهروا بها عليه وحاربوه حتى ملكوا، وأما هو فلما مات ولت الديلم عليهم أخاه وشمكير، فاستولى على جرجان وطبرستان، ودامت الحرب بينه وبين ركن الدولة أبي علي بن بويه نيفاً وعشرين سنة، وركب في آخر أيامه فرساً له فعارضه خنزير فشب به الفرس وهو غافل عنه فسقط على دماغه فهلك.
وكتب ابن العميد عن ركن الدولة كتاباً يقول فيه: ألحمد لله الذي أغنانا بالوحوش عن الجيوش: وقام بعده ابنه أبو منصور بهستون بن وشمكير مقامه، وتوفى سنة سبع وستين وثلاثمائة، وكان عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو ابن ركن الدولة أبي علي زوج ابنة بهستون، فنفذ معز الدولة إلى المطيع وسأله أن ينفذ إليه الخلع والعهد على جرجان وطبرستان ففعل ذلك ولقبه ظهر الدولة، ووصله ما نفذ إليه في جمادى الأولى سنة ستين وثلاثمائة، فزين بلاده للرسول ونزل عن سريره عند وصول الخلع إليه ونثر عليه النثار العظيم: ونفذ للمطيع لله في جواب اللقب ستين ألف دينار عيناً وغير ذلك من الثياب والخيل، ولما توفى خلف أخوه قابوس بن وشمكير، ونفذ إليه الطائع لله الخلع والعهد على طبرستان وجرجان ولقبه شمس المعالي، وكان فاضلاً أديباً مترسلاً شاعراً ظريفاً، وله رسائل بأيدي الناس يتداولونها، وكان بينه وبين الصاحب بن عباد مكاتبة: مات سنة ثلاث وأربعمائة، وكان فيه عسف وشدة فسئمه عسكره فتغيروا عليه وحسنوا لابنه منوجهر حتى قبض على أبيه وقالوا له: إن لم تقبض أنت عليهم إلا قتلناه، وإذا قتلناه فلا نأمنك على نفوسنا فنحتاج أن نلحقك به، فوثب عليه وقبض عليه وسجنه في القلعة ومنعه ما يتدثر به في شدة البرد، فجعل يصيح: أعطوني ولو جل دابة حتى هلك، وكان حكم على نفسه في النجوم أن منيته على يد ولده، فأبعد ابنه دارا لما كان يراه من عقوقه، وقرب ابنه منوجهر لما رأى من طاعته وكانت منيته بسببه، ثم أن منوجهر قتل قتلته، وكانوا ستة تواطئوا عليه فقتل خمسة وهرب السادس إلى خراسان فقبضه محمود ابن سبكتكين وحمله إليه وقال له: إنما فعلت هذا لئلا يتجرأ أحد على قتل الملوك - فقتل الآخر - ، ثم مات منوجهر سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، فقام ابنه أنوشروان بن منوجهر مقامه، وتوفي أنوشروان سنة خمس ولثلاثين وأربعمائة، ثم ولي ابنه حسان بن أنوشروان.
ومن شعر قابوس بن وشمكير:
خطرات ذكرك تستثير صبابتي ... فأحس منها في الفؤاد دبيبا
لا عضو لي إلا وفيه صبابة ... فكأن أعضائي خلقن قلوبا
ومن رسائله ما كتب به إلى بعض إخوانه: كتبت - أطال الله بقاء مولاي - وما في جسمي جارحة إلا وهي تود لو كانت يداً تكاتبه، ولساناً يخاطبه، وعيناً تراقبه، وقريحة تعاتبه بنفس ولهى، وبصيرة ورهى، وعين عبرى، وكبد حرى، ومنازعة إلى ما يقرب منه، وتمسكاً بما يتصل عنه، ومثابرةً على أمل هو غايته وتعلقاً بحبل عهد هو نهايته: وخاطري يميل نحوه، ونفسي تأمل دنوه وترجو وتقول أتراه، بل لعله وعساه يرق لنفس قد تصاعد نفسها، ويرحم روحاً قد فارقها روحها ومؤنسها؟ وكيف بقلبه لو عاين صورة هذه صورتها؟ وشاهد مهجة هذه جملتها؟ فليرفق جعلت فداه بمن عاند برحاً عظيماً، وكابد قرحاً أليماً، وليرق لكبد قذفها البعاد، وعين أرقها السهاد، وأحشاء محرقة بنار الفراق، وأجفان مقروحة بدمعها المهراق، وقلب في أوصابه متقلب، ولب في عذابه معذب، فلو أني أسعدت فأعطيت الرضا، وخيرت فاخترت المنى، لتمنيت أن أتصور صورتك وأطالع طلعتك، وأمثل لها مثالي لتراه، فأخبرها بكنه حالي ومعناه، لترفق لإزالة ما أزله، وأشكو بعض ما نابني من نوائبه وغوائله، وأطلقني من أشراكه وحبائله.

وكان قد تمت عليه نكبة أخرجته من مقر عزه وموطن ملكه، فشتتته عن الأوطان، وألحقته بخراسان، فأقام بها برهة من الزمان إلى أن أسفر صبحه وفاز بعد الخيبة قدحه، وتحرج الزمان من جور عليه فرد ملكه إليه، فقال في حال نكبته:
قل للذي بصروف الدهر عيرنا ... هل عاند الدهر إلا من له خطر؟
أما ترى البحر يطفو فوقه جيف ... ويستقر بأقصى قعره الدرر؟
فإن تكن عبثت أيدي الزمان بنا ... ونالنا من تأذى بؤسه ضرر
ففي السماء نجوم غير ذي عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر
أما البيت الثاني فأخذه من قول ابن الرومي:
دهر علا قدر الوضيع به ... وغدا الشريف يحطه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه ... سفلاً ويعلو فوقه جيفه
وقوله: وفي السماء نجوم مأخوذ من قو أبي تمام:
إن الرياح إذا ما عصفت قصفت ... عيدان نخل ولا يعبأن بالرتم
بنات نعش ونعش لا كسوف لها ... والشمس والبدر منها الدهر في الرقم
وكتب شمس المعالي قابوس إلى عضد الدولة وقد أهدى له سبعة أقلام:
قد بعثنا إليك سبعة أقلا ... م لها في البهاء حظ عظيم
مرهفات كأنها ألسن الحي ... ات وقد جاز حدها التقويم
وتفاءلت أن ستحوي الأقالي ... م بها كل واحد إقليم
وهذا يشبه قول ابن الصابئ وقد ذكر في بابه قال مؤلف الكتاب: وكنت في سنة سبع وستمائة قد توجهت إلى الشام وفي صحبتي كتب من كتب العلم أتجر فيها، وكان في جملتها كتاب صور الأقاليم للبلخي نسخة رائقة مليحة الخط والتصوير فقلت في نفسي: لو كانت هذه النسخة لمن يجتدي بها بعض الملوك ويكتب معها هذه الأبيات - وقلتها ارتجالاً - لكان حسناً، والأبيات في معنى أبيات قابوس، ولم اكن شهد الله وقعت عليها ولا سمعتها. وهي:
ولما رأيت الدهر جار ولم أجد ... من الناس من يعدى على الدهر عدواكا
ركبت الفلا يحدو بي الأمل الذي ... يدني على بعد التنائف مثواكا
ورمت بأن أهدي إليك هدية ... فلم أر ما يهديه مثلي لشرواكا
فجئتك بالأرضين جمعاً تفاؤلاً ... لعلمي بأن الفال رائد عقباك
فخذ هذه واستخدم الفلك الذي ... براه إلهي كي يدور ببغياكا
ثم إنني بعت النسخة من الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب حلب بتخيير المشتري من غير مكسب، وجرت لي فيها قصة ظريفة أنزه هذا السلطان عن ذكرها، فإنه وإن كان الحظ حرمني فإنه جواد عند غيري. وكان السبب في خروج قابوس عن دار ملكه ولحوقه بخراسان: أن عضد الدولة أبا شجاع فناخسرو تقم على أخيه فخر الدولة أبي الحسن علي بن الحسن بن بويه أمراً خالفه فيه فخر الدولة، فقصده عضد الدولة إلى همذان وكان مالكها وما والاها فهرب منه حتى لحق بجبال طبرستان فتلقاه قابوس وأكرم مثواه وأنزله عنده وآواه، فأنفذ عضد الدولة أخاه الآخر الملقب بأمير الأمراء مؤيد الدولة نحوهما فانحازا عنه وذلك سنة إحدى وسبعين، وبعثا إلى أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيمجور وكان يتولى إمارة نيسابور ومادون جيحون من قبل السديد أبي صالح منصور بن نوح الساماني يستجديانه ويستعينانه فوعدهما وأبطأ عليهما لانحلال الاحوال بخراسان لاختلاف الأيدي بها، فسارا هاربين حتى وردا نيسابور ومنها إلى بخارى، فأرسل صاحب بخارى معهما جيشاً صحبة تاش الحاجب وولاه نيسابور فلم يصنع معهما شيئاً، وقال قابوس في تلك الحال:
لئن زال أملاكي وفات ذخائري ... وأصبح جمعي في ضمان التفرق
فقد بقيت لي همة ما وراءها ... منال لراج أو بلوغ لمرتقي
ولي نفس حر تأنف الضيم مركباً ... وتكره ورد المنهل المتدفق
فإن تلفت نفسي فلله درها ... وإن بلغت ما ترتجيه فأخلق!
من لم يردني والمسالك جمة ... فأي طريق شاء فليتطرق؟
وله:
بالله لا تنهضي يا دولة السفل ... وقصري فضل ما أرخيت من طول

أسرفت فاقتصدي جاوزت فانصرفي ... عن التهور ثم امشي على مهل
مخدمون ولم تخدم أوائلهم ... مخولون وكانوا أرذل الخول
فأما أبو الحسن علي بن بويه فإنه لما مات أخوه في سنة ثلاث وسبعين استدعاه ابن عباد وأقامه مقام أخيه، وأما قابوس فإنه لما تطاولت مدته ولم ير عند السامانية ناصراً قصد أطراف بلاده فتجمعت إليه الجيوش وعاد إلى بلاده، وقاتل المستولي عليها حتى عاد إلى سرير ملكه بعد ثماني عشرة سنة. وذكر أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني في رسالة له سماها التعلل بإجالة الوهم في معاني منظوم أولي الفضل قال: وكنت أستحسن من شمس المعالي قابوس إعراضه عن إنشاد مدائحه في وجهه وبين يديه، وكان يطلق للشعراء المجتمعين على بابه في النيروز والمهرجان مقداراً من البر، ويرسم لأبي الليث الطبري توزيعه عليهم بحسب رتبهم، ويقول: إنهم قوم مستميحون بما يفاضلون فيه، ولكني لا أستجيز سماع أكاذيبهم التي أعرف من نفسي خلافها، وأتحرز بذلك من الإستغبان ولقابوس فصل يعزي: حشو هذا الدهر - أطال الله بقاء مولاي - أحزان وهموم، وصفوه من غير كدر معلوم، فما أولاه - أيده الله - بأن يتأمل أحواله، ويستشف ضروبه وأحكامه، فإن وجد أحداً سلم من وجد أو عري من فقد لقي خلاف المعهود، وحق له التأسي على المفقود، وإن علم أن الخلق فيه شرع وأن الباقي للماضي تبع قدم من السلوة والصبر، ما لابد من المصير إليه آخر الأمر، ليحصل له الثواب والأجر، والسلام.
قال أبو حيان: قال لي البديهي: مدحت وشمكير بمدائح فاحت رياها شرقاً وغرباً، بعداً وقرباً، فما أثابني عليها إلا بشيء يسير، وقصده بعض الأغتام من الجبال فمدحه بقصيدة ركيكة غير موزونة تعلقها بالهجاء أكثر من تعلقها بالمديح، فأعطاه ما أغناه وأعقابه بعده، فشكوت إلى ابن ساسان ذلك فقال لي: إفراط العلم مضر بالجد. والجد والعلم قلما يجتمعان، والكد للعلم، والجد للجهل، وأنشأ يقول:
إن المقادير إذا ساعدت ... ألحقت العاجز بالحازم
وللصاحب يهجو قابوس:
قد قبس القابسات قابوس ... ونجمه في السماء منحوس
وكيف يرجى الفلاح من رجل ... يكون في آخر اسمه بوس؟
فاجابه قابوس:
من رام أن يهجو أبا قاسم ... فقد هجا كل بني آدم
لأنه صور من مضغة ... تجمعت من نطف العالم

قال أبو سعد الآبي في تاريخه: في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة كانت الأخبار تواترت بموت قابوس بن وشمكير، ثم ورد خبر بأنه لم يمت ولكنه نكب وأزيل عن الملك، وذلك أنه كان قد أسرف في القتل وتجاوز الحد في سفك الدماء، ولم يكن يعرف أحداً في التأديب وإقامة السياسة غير ضرب الأعناق وإماتة الأنفس، وكان يأتي ذلك في الأقرب فالأقرب، والأخص فالأخص من الجند والحاشية حتى أفنى جميعهم وأتى على جلهم، وأذل الخيل وأصناف العسكر للرعية وجرأهم عليهم، ولم يتظلم أحد من أهل البلد من واحد من أكابر عسكره إلا قتله وأتى على نفسه من غير أن يتفحص عن الشكوى، أصحيحة أم باطلة؟ فتبرم عسكره وحاشيته، وخافوا سطوته ولم يأمنوا ناحيته، فمشى بعضهم إلى بعض وتمالئوا عليه، وتعاهدوا وتحالفوا وخفي الأمر، لأنه كان خرج إلى حصن بناه وسماه: شمراباذ، وعزم القوم أن يتسلقوا عليه ويغتالوه وقد واطأهم على الأمر جميع من كان معه في الحصن، فتعذر عليهم الصعود إليه والهجوم عليه،وعلموا أنهم لو قد أصبحوا وقد عرف الخبر لم ينج منهم أحد، فنعوه إلى الناس وذكروا أنه قضى نحبه، فانتبهت اصطبلاته، وسيقت دوابه وبغاله، ولم يقدر هو على مفارقة الموضع لإعواز الظهور التي تحمل وتنقل عليها خزائنه، وكان عنده وزيره أبو العباس الغانمي فاتهمه بممالأة القوم فأوقع به وقتله. وخاطب العسكر من ذلك الموضع ومن جرجان منوجهر وكان إذ ذاك مقيماً بطبرستان، فاستدعوه وكتبوا إليه بالحضور، وأنه متى تأخر قدموا غيره فبادر إليهم فقلدوه الأمر وبلغ ذلك قابوس وقد تفرق عنه من غدر به، فجمع أمراء الرستاق وفارق المكان وصحبه طائفة من العرب وغيرهم من الجند، وخرج إلى بسطام مع خزائنه وأسبابه، وتبعه منوجهر ابنه مع العسكر فحصره، وامتنع هو عليه ثم أمكن من نفسه عند الضرورة فقبض عليه وحمل إلى بعض القلاع، وتقرر أمر ابنه منوجهر ولقب بفلك المعالي، وكان أبوه يلقب شمس المعالي، ثم ورد الخبر في جمادى الآخرة بصحة موت قابوس وأقام التعزية في ممالكه عنه، وكان موته في مجلسه بقلعة جناشك وذكر أنه اغتيل وحمل تابوته إلى جرجان ودفن في مشهد عظيم كان بناه لنفسه، وأنفق عليه الأموال العظيمة وبالغ في تحصينه وتحسينه.

القاسم بن أحمد الأندلسي
بن الموفق أبو محمد الأندلسي اللورقي، يلقب علم الدين، مولده فيما اخبرني عن نفسه في حدود سنة إحدى وستين وخمسمائة، وهو إمام في العربية وعالم بالقرآن والقراءة، اشتغل بالأندلس في صباه، وأتعب نفسه حتى بلغ من العلم مناه، فصار عيناً للزمان ينظر به إلى حقائق الفضائل، فما من علم إلا وقد أخذ منه بأوفر نصيب وحصل منه على أعلى ذروة، وكنت لقيته بمحروسة حلب في سنة ثمان عشرة وستمائة، ففزت من لقائه بالأمنية، واقتضبت من فوائده كل فضيلة شهية.
وحدثني أنه قرأ القرآن بمرسية من بلاد الأندلس على الشيخ أبي عبد الله محمد بن سعيد بن محمد المرادي المرسي، وعلى أبي الحسن علي بن يوسف بن الشريك الداني بمرسية. وببلنسية على أبي عبد الله محمد بن أيوب بن محمد بن نوح الغافقي الفقيه وعلى الشيخ المقرئ أبي العباس أحمد بن علي بن محمد بن عون الله الأندلسي، وقرأ المحو على أبي الحسن علي بن الشريك المذكور وابن نوح المذكور، ثم خرج إلى مصر في سنة إحدى وستمائة فقرأ بها القرآن على الشيخ أبي الجود غياث بن فارس بن مكي اللخمي، وبدمشق على الشيخ الإمام تاج الدين أبي اليمن الكندي، قرأ عليه القرآن جميعه بكتاب المهج تصنيف أبي محمد المقرئ، وكتاب سيبويه وكثيراً من كتب الأدب، وسمع منه أكثر سماعاته كتاريخ الخطيب والحجة وأدب الكاتب وغير ذلك، وكان وروده إلى دمشق سنة ثلاث وستمائة، وببغداد على الشيخ أبي البقاء الحسين بن عبد الله العكبراوي، وسمع الحديث على جماعة منهم، وأما معرفته بالفقه والأصول وعلوم الأوائل كالمنطق وغيره فهو الغاية فيه.
وله من التصانيف: كتاب شرح المفصل في عشر مجلدات، وكتاب في شرح قصيدة الشاطبي، وكتاب شرح مقدمة الجزولي مجلدان. وأنشدني قال: أنشدني تاج الدين أبو اليمن لنفسه - رحمه الله - :
تركت قيامي للصديق يزورني ... ولا عذر لي إلا الإطالة في عمري
ولو بلغوا من عشر تسعين نصفها ... تبين في تركي القيام لهم عذري

القاسم بن إسماعيل أبو ذكوان الراوية
قال محمد بن إسحاق النديم قال أبو سعيد يعني السيرافي: وقد كان في أيام المبرد جماعة نظروا في كتاب سيبويه ولم يكن لهم نباهته: منهم أبو ذكوان القاسم بن إسماعيل. ولأبي ذكوان كتاب معاني الشعر رواه عنه ابن درستويه، ووقع أبو ذكوان إلى السيراف أيام الزنج، وكان علامةً أخبارياً قد لقي جماعة من أهل العلم وكان التوزي زوج أم أبي ذكوان.
قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف
بن ناصح ابن عطاء البياني أبو محمد، مولى الوليد بن عبد الملك، إمام من أئمة العلم، حافظ مكثر مصنف، كان أصله من بيانة وسكن قرطبة، وبها مات سنة أربعين وثلاثمائة عن سن عالية ويقال: إنه لم يسمع منه شيء قبل موته بسنتين، ذكره الحميدي فقال: سمع محمد بن وضاح، ومحمد بن عبد السلام الحسني وجماعة، ورحل فسمع إسماعيل بن إسحاق القاضي، وأبا إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي، والحارث بن أبي أسامة، وأبا قلابة الرقاشي، وعبد الله بن مسلم بن قتيبة، وأحمد بن زهير بن حرب، وأبا بكر بن أبي الدنيا، وذكر جماعة ثم قال وغيرهم، وصنف كتباً منها: كتاب الحمر، وكتاب في أحكام القرآن على أبواب كتاب إسماعيل بن إسحاق القاضي، وكتاب المجتنى على أبواب كتاب ابن الجارود المنتقى.
قال أبو محمد علي بن أحمد: وهو خير منه انتقاء وأنقى حديثاً وأعلى سنداً وأكثر فائدة، وله كتاب في فضائل قريش، وكتاب في الناسخ والمنسوخ، وكتاب في غرائب حديث مالك بن أنس مما ليس في الموطئ، وكتاب في الأنساب في غاية الحسن والإيعاب. وكان من الثقة والجلالة بحيث اشتهر أمره، وانتشر ذكره، وروى عنه جماعة من أهل بلده وغيرهم
قاسم بن ثابت السرقسطي
ذكره الحميدي فقال: هو مؤلف كتاب غريب الحديث، رواه عنه ابنه ثابت وله فيه زيادات، وهو كتاب حسن مشهور، وذكره أبو محمد علي بن أحمد وأثنى عليه وقال: ما شآه أبو عبيد إلا بتقدم العصر.
القاسم بن الحسين بن محمد أبو محمد الخوارزمي
صدر الأفاضل حقاً، وواحد الدهر في علم العربية صدقاً، ذو الخاطر الوقاد، والطبع النقاد، والقريحة الحاذقة، والنحيزة الصادقة، برع في علم الأدب، وفاق في نظم الشعر ونثر الخطب، فهو إنسان عين الزمان، وغرة جبهة هذا الأوان. سألته عن مولده فقال: مولدي في الليلة التاسعة من شعبان سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وحضرت في منزله بخوارزم فرأيت منه صدراً يملأ الصدر، ذا بهجة سنية وأخلاق هنية، وبشر طلق ولسان ذلق، فملأ قلبي وصدري، وأعجز وصفه نظمي ونثري، واستنشدته من قبله فأنشدني لنفسه بمنزله في خوارزم، في سلخ ذي القعدة سنة ست عشرة وستمائة:
يا زمرة الشعراء دعوة ناصح ... لا تأملوا عند الكرام سماحا
إن الكرام بأسرهم قد أغلقوا ... باب السماح وضيعوا المفتاحا
ورأيته شيخاً، بهي المنظر، حسن الشيبة، كبيرها، سميناً بديناً عاجزاً عن الحركة، وكان له في حلقه حوصلة كبيرة. وقلت له: ما مذهبك؟ فقال: حنفي ولكن لست خوارزمياً لست خوارزمياً يكررها، إنما اشتغلت ببخارى فأرى رأي أهلها، نفى عن نفسه أن يكون معتزلياً رحمه الله. قال: وسألني قاضي القضاة بخوارزم أن أنشئ له أبياتاً يكتبها على جدران دار استحدث بناءها فقلت:
من كان يفخر بالبنيان والشرف ... فليس فخري بغير المجد والشرف
ما قيمة الدار لولا فضل ساكنها؟ ... وأي وزن بدون الدر للصدف؟
إن كان يعجبني خشب مسندة ... فلست أكرم نجل من بني خلف
قد صح لي باتفاق الناس كلهم ... رواية العدل والإنصاف عن سلفي
إني لمن معشر كانت معايشهم ... بالقصد أما عطاياهم فبالسرف
قوم متى طلعت ليلاً مآثرهم ... رأيت بدر الدجى في زي منخسف
بدولة الملك الميمون طائره ... أني توجهت فالإقبال مكتنفي؟
وأنشدني لنفسه:
أيا سائلي عن كنه علياه إنه ... لأعطي ما لم يعطه الثقلان
فمن يره في منزل فكأنما ... رأى كل إنسان وكل مكان
وأنشدني لنفسه في أنباء شيخ الإسلام الرستاني، - ورشتان من قرى مرغينان، ومرغينان من بلاد فرغانة:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15