كتاب : معجم الأدباء
المؤلف : ياقوت الحموي

أبو نزار النحوي، وكان أبوه صافي مولى الحسين الأرموي التاجر، وكان لا يذكر اسم أبيه إلا بكنيته، لئلا يعرف أنه مولى، وهو المعروف بملك النحاة. قال أبو القاسم علي بن عساكر الحافظ: ذكر لي أنه ولد ببغداد سنة تسع وثمانين وأربعمائة، في الجانب الغربي بشارع دار الرقيق، ثم انتقل إلى الجانب الشرقي إلى جوار حرم الخلافة، وهناك قرأ العلم وتخرج. وسمع الحديث من الشريف أبي طالب الرينبي، وقرأ الفقه على أحمد، وأصول الفقه على أبي الفتح بن برهان، والخلاف على أسعد الميهني، والنحو على أبي الحس علي بن أبي زيد الأستراباذي الفصيحي وفتح له الجامع ودرس، ثم سافر إلى بلاد خراسان وكرمان وغزنة، ودخل إلى الشام وقدم دمشق، ثم خرج منها وعاد إليها واستوطنها إلى أن مات بها، في تاسع شوال سنة ثمان وستين وخمسمائة، ودفن بمقبرة الباب الصغير، وكان قد ناهز الثمانين، وكان صحيح الاعتقاد كريم النفس، ذكر لي أسماء مصنفاته: كتاب الحادي في النحو مجلدتان، كتاب العمد في النحو مجلدة وهو كتاب نفيس، كتاب المقتصد في التصريف مجلدة ضخمة، كتاب أسلوب الحق في تعليل القراءات العشر، وشيء من الشواذ مجلدتان، كتاب التذكرة السفرية انتهت إلى أربعمائة كراسة، كتاب العروض مختصر محرر، كتاب في الفقه على مذهب الشافعي سماه الحاكم مجلدتان، كتاب مختصر في أصول الفقه، كتاب مختصر في أصول الدين، كتاب ديوان شعره، كتاب المقامات حذا حذو الحريري. ومن شعره يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
يا قاصداً يثرب الفيحاء مرتجياً ... أن يستجير بعليا خاتم الرسل
خذ عن أخيك مقالاً إن صدعت به ... مدحت في آخر الأعصار والأول
قل يا من الفخر موقوف عليه فإن ... تذوكر الفخر لم يصدف ولم يمل
صيت إذا طلبت غاياته خرقت ... سبعاً طباقاً فبذت كل ذي أمل
علوت وازددت حتى عاد منتزحاً ... جبريل عما له قد كان لم يطل
وعدت والكبر قد نافى علاك فما ... عدوت شيمة سبط الخلق مبتهل
أتتك غر قوافي المدح خاضعة ... لديك فاقبل ثناء غير منتحل
ثناء من لم يجد وجناء تحمله ... إليك أو صد بالإقتار عن جمل
ومن شعره أيضاً:
حنانيك إن جاءتك يوماً خصائصي ... وهالك أصناف الكلام المسخر
فسل منصفاً عن حالتي غير جائر ... يخبرك أن الفضل للمتأخر
وقال أحمد بن منير يهجو ملك النحاة، وكان قد كتب أبو نزار إلى بعض القضاة العاصوي:
أيا ملك النحو والحاء من ... تهجيهمن تحت قد أعجموها
أانا قياسك هذا الذي ... يعجم أشياء قد أعربوها
ولما تصنعت في العاصوي ... غدا وجه جهلك فيه وجوها
وقالوا قفا الشيخ إن الملو ... ك إذا دخلوا قرية أفسدوها
فبلغت أبياته ملك النحاة فأجابه بأبيات منها:
أيا بن منير حسبت الهجا ... ء رتبة فخر فبالغت فيها
جمعت القوافي من ذا وذا ... وأفسدت أشياء قد أصلحوها
وفي آخرها:
فقالوا قفا الشيخ إن الملو ... ك إذا أخطأت سوقة أدبوها
قال البلطي: كان ملك النحاة قدم إلى الشام، فهجاه ثلاثة من الشعراء، ابن منير والقيسواني والشريف الواسطي. واستخف به ابن الصوفي ولم يوفه قدر مدحه، فعاد إلى الموصل ومدح جمال الدي وجماعة من رؤسائها وقضاتها. فلما نبت به الموصل، قيل له: لو رجعت إلى الشام، فقال: لا أرجع إلى الشام إلا أن يموت ابن الصوفي، وابن منير، والقيسراني، والشريف الواسطي، فقتل الشريف الواسطي، ومات ابن منير والقيسراني في مدة سنة، ومات الصوفي بعدهم بأشهر.

وحدثني شيخنا أبو البقاء. يعيش بن علي ابن يعيش النحوي قال: بلغني أنه كان لملك النحاة غلام وكان سيء العشرة، قليل المبالاة بمولاه ملك النحاة، فأرسله يوماً في شغل ليتعجله في إنجازه، فأبطأ فيه غاية الإبطاء، ثم جاء بعذر غير جميل، وكان يحضر ملك النحاة جماعة من أصدقائه والتلامذة، فغضب ملك النحاة وخرج عن حد الوقار الذي كان يلتزمه ويتوخاه وقال له: ويلك أخبري، ما سبب قلة مبالاتك بي، واطراحك لقبول أوامري؟ أنكتك قط؟ فبادر الغلام وقال: لا والله يا مولاي، معاذ الله أن تفعل ذلك بي، فإنك أجل من ذلك. قال: ويلك، فنكتني قط؟ فحرك الغلام رأسه متعجباً من كلامه وسكت. فقال له: ويلك أدركني بالجواب، هذا موضع السكوت؟ - لا رعاك الله - يا ابن الفاعلة، عجل، قل ما عندك قل، فقال: لا والله. قال: فما السبب في أك لا تقبل قولي، ولا تسرع في حاجتي؟ فقال له إن كان سبب الانبساط لا يكون إلا هذين، فأعدك ألا أعود إلى ما تكره إن شاء الله.
قال العماد: أقام ملك النحاة بالشام في رعاية نور الدين محمود بن زنكي، وكان مطبوعاً متناسب الأحوال والأفعال، يحكم على أهل التميز بحكم ملك فيقيل ولا يستقال، وكان يقول: هل سيبويه إلا من رعيتي؟ ولو عاش ابن جني لم يسع إلا حمل غاشيتي، مر الشكيمة، حلو الشيمة، يضم يده على المائة والمائتين ويمشي وهو منها صفر اليدين، مولع باستعمال الحلاوات السكرية، وإهدائها إلى جيرانه وإخوانه، مغرى بإحساه إلى خلصانه وخلانه. قال العماد: أذكره وقد وصلت إليه خلعة مصرية، وجائزة سنية، فأخرج القميص الدبيقي إلى السوق، فبلغ دو عشرة دنانير، فقال: قولوا: هذا قميص ملك كبير، أهداه إلى ملك كبير، ليعرف الناس قدره، فيحلبوا عليه البدر على البدار، وليجلوا قدره في الأقدار، ثم قال: أنا أحق إذا جهلوا حقه، وتنكبوا فيه سبل الواجب وطرقه.
ومن ظريف ما يحكى عن ملك النحاة: أن نور الدين محموداً خلع عليه خلعة سنية، ونزل ليمضي إلى منزله. فرأى حلقة عظيمة فمال إليها لينظر ما هي؟ فوجد رجلاً قد علم تيساً له استخراج الخبايا وتعريفه ما يقول له من غير إشارة، فلما وقف عليه ملك النحاة، قال الرجل لذلك التيس: في حلقتي رجل عظيم القدر، شائع الذكر ملك في زي سوقة، أعلم الاس، وأكرم الناس، وأجمل الناس، فأرني إياه، فشق ذلك التيس الحلقة، وخرج حتى وضع يده على ملك النحاة، فلم يتمالك ملك النحاة أن خلع تلك الخلعة، ووهبها لصاحب التيس، فبلغ ذلك نور الدين فعاتبه وقال: استخففت بخلعتنا حتى وهبتها من طرقي؟ فقال يا مولانا: عذري في ذلك واضح، لأن في هذه المدينة زيادة على مائة ألف تيس، ما فيهم من عرف قدري إلا هذا التيس، فجازيته على ذلك. فضحك منه نور الدين وسكت.
وحكي عنه أنه كان يستخف بالعلماء، فكان إذا ذكر واحد منهم يقول: كلب من الكلاب. فقال رجل يوماً: فلست إذا ملك النحاة، إنما أنت ملك الكلاب، فاستشاط غضباً وقال: أخرجوا عني هذا الفضولي. وقال السمعاني: دخل أبو نزار بلاد غزنة وكرمان، ولقي الأكابر، وتلقى مورده بالإكرام، ولم يدخل بلاد خراسان وانصرف إلى كرمان، وخرج منها إلى الشام. قال: وقرأت فيما كتبته بواسط، ولا أدري عمن سمعته لأبي نزار النحوي:
أراجع لي عيشي الفارط ... أم هو عني نازح شاحط؟؟
ألا وهل تسعفني أوبة ... يسمو بها نجم المنى الهابط؟
أرفل في مرط ارتياح وهل ... يطرق سمعي هذه واسط؟
يا زمني عد لي فقد رعتني ... حتى عراني شيبي الواخط
كم أقطع البيداء في ليلة ... يقبض ظلي خوفها الباسط؟
أأرقب الراحة أم لا وهل ... يعدل يوماً دهري القاسط؟؟
أيا ذوي ودي أما اشتقتم ... إلى إمام جأشه رابط؟
وهل عهودي عندكم غضة ... أم أنا في ظني إذاً غالط؟
ليهنكم ما عشتم واسط ... إني لكم يا سادتي غابط
وأنشد له:
الجيش والبرم الكثير ... منظوم ذلك والنثير
ودخان عود الهند والش ... مع المكفر والعبير
ورشاش ماء الورد قد ... عرفت به تلك النحور
ومثالث العيدان يس ... عد جسها بم وزير

وتخافق النايات يخ ... فق بينها الطبل القصير
والشرب بالقدح الصغ ... ير يحثه القدح الكبير
أحظى لدي من الأبا ... غر والحداة بها تسير
للعبد أ يلتذ في ... دنياه والله الغفور
ومن شعره أيضاً:
يا بن الذين ترفعوا في مجدهم ... وعلت أخامصهم فروع شمام
أنا عالم ملك بكسر اللام ف ... يما أدعيه لا بفتح اللام
أنشدني عفيف الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل أحمد بن عبد الوهاب بن الزاكي بن أبي الفوارس، السلمي الحراني المعروف باب الصيفي الدمشقي قال: أنشدني فتيان بن علي بن فتيان الأسدي النحوي في ملك النحاة، وكانت قد عضت يد ملك النحاة سنور فربطها بمنديل عظيم:
عتبت على قط ملك النحاة ... وقلت: أتيت بغير الصواب
عضضت يداً خلقت للدى ... وبث العلوم وضرب الرقاب
فأعرض عني وقال اتئد ... ألي القطاط أعادي الكلاب؟
قال: فبلغته الأبيات فغضب منها، إلا أنه لم يدر من قائلها؟ ثم بلغه أنني قلتها وبلغني ذلك فانقطعت عنه حياء مدة، فكتبت إليه شعراً أعتذر إليه، فكتب إلي:
يا خليلي نلتما النعماء ... وتسنمتما العلا والعلاء
ألمما بالشاغور والمسجد المعم ... ور واستمطرا به الأنواء
وامنحا صاحبي الذي كان فيه ... كل يوم تحية وثناء
ثم قولا له اعتبرنا الذي فه ... ت به مادحاً وكان هجاء
وقبلنا فيه اعتذارك عما ... قاله الجاهلون عنك افتراء
الشاغور محلة بدمشق بالباب الصغير. وقال فتيان ابن المعلم الدمشقي: رأيت أبا نزار في النوم بعد موته فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: أنشدته قصيدة ما في الجنة مثلها، فتعلق بحفظي منها أبيات وهي:
يا هذه أقصري عن العذل ... فليس في الحق ويك من قبل
يا رب ها قد أتيت معترفاً ... بما جنته يداي من زلل
ملآن كف بكل مأثمة ... صفر يد من محاسن العمل
فكيف أخشى ناراً مسعرة ... وأنت يا رب في القيامة لي
قال: فوالله منذ فرغت من إنشادها ما سمعت حسيس الأرض.

الحسن بن عبد الله،الأصبهاني
المعروف بلغدة ولكذة، أيضاً الأصبهاني أبو علي، قدم بغداد، وكان جيد المعرفة بفنو الأدب، حسن القيام بالقياس، موفقاً في كلامه، وكان إماماً في النحو واللغة، وكان في طبقة أبي حنيفة الديوري، مشياخهما سواء، وكان بينهما مناقضات قال حمزة بن حسن الأصبهاني في كتاب أصبهان: وقدم على اب رستم الديميري من سامراً: إبراهيم بن غيث البغدادي وكان أصبهانياً، فخرج في صغره إلى العراق، فبرع في علم النحو واللغة، وهو جد عبد الله بن يعقوب الفقيه. وروى عن أبي عبيدة، وأبي زيد، وقدم الخصيب بن أسلم الباهلي صاحب الأصمعي وروى عن أبي إسحاق إبراهيم بن غيث، وأبي عمر الخرقي، وهو أول من قدم أصبهان من أهل الأدب واللغة، وعن الباهلي صاحب الأصمعي، وعن الكرماني صاحب الأخفش: أخذ أبو علي لغدة علم اللغة. وكان أبو علي يحضر مجلس أبي إسحاق ويكتب عنه، ثم خالفه وقعد عنه، وجعل ينقض عليه ما يمليه.
قال حمزة: وقد تقدم من أهل اللغة في أصبهان، - وصار فيها رئيساً يؤخذ عنه - جماعة: منهم أبو علي لغدة، وكان رأساً في اللغة والعلم والشعر والنحو. حفظ في صغره كتب أبي زيد، وأبي عبيدة، والأصمعي، ثم تتبع ما فيها، فامتحن بها الأعراب الوافدين أصبهان، وكانوا يفدون على محمد بن يحيى بن أبان، فيضربون خيمهم بفاء داره، في باغ سلم بن عود، ويقصدهم أبو علي كل يوم، فيلقي عليهم مسائل شكوكه من كتب اللغة، وثبت تلك الأوصاف عن ألفاظهم في الكتاب الذي سماه كتاب النوادر. ثم لم يك له في آخر أيامه ظير بالعراق. قال: وكتاب النوادر هذا كتاب كبير، يقوم بإزاء كل ما خرج إلى الناس من كتب أبي زيد في النوادر، وله من الكتب الصغار: كتاب الصفات، كتاب خلق الإنسان، كتاب خلق الفرس، وكتب أخر كثيرة من صغار الكتب، وله ردود على علماء اللغة، وعلى رواة الشعر والشعراء، قد جمعناها نحن في كتاب وأنفذناه إلى أبي إسحاق الزجاج - رحمه الله

قال محمد بن إسحاق النديم: وله من التصانيف: كتاب الرد على الشعراء قضه عليه أبو حنيفة الدينوري، كتاب الطق، كتاب الرد لعى أبي عبيد في غريب الحديث، كتاب علل النحو، كتاب مختصر في النحو، كتاب الهشاشة والبشاشة، كتاب التسمية، كتاب شرح معاي الباهلي، كتاب نقض علل النحو، كتاب الرد على ابن قتيبة في غريب الحديث.
وأفرد حمزة الأصبهاني في كتاب أصبهان أشعاراً للغدة منها:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزين بعضهم ... بعضاً ليستر معور عن معور
ما أقرب الأشياء حي يسوقها ... قدر وأبعدها إذا لم تقدر
الجد أنهض بالفتى من كده ... فانهض بجد في الحوادث أو ذر
وإذا تعسرت الأمور فأرجها ... وعليك بالأمر الذي لم يعسر
ومن شعره أيضاً:
خير إخواك المشارك في المر ... ر وأين الشريك في المر أيا؟؟
الذي إن شهدت سرك في الق ... وم وإن غبت كان أذناً وعينا
مثل تبر العقيا إن مسه الا ... ر جلاه الجلاء فازداد زينا
وأخو السوء إن يغب عك يسبع ... ك وإن يحضر يكن ذاك شيئاً
جيبه غير ناصح ومناه ... أن يعيب الخليل إفكا ومينا
فاصرمنه ولا تلهف عليه ... إن صرماً له كنقدك دينا
ومن شعره أيضاً:
بذلت لك الصفاء بكل جهدي ... وكنت كما هويت فرصت وخزا
جرحت بمدية فحززت أنفي ... وحبل مودتي بيديك حزا
فلم تترك إلى صحل مجازاً ... ولا فيه لمطلبه مهزا
ستمكث نادماً في العيش مني ... وتعلم أن رأيك كان عجزا
وتذكرني إذا جربت غيري ... وتعلم أنني لك كنت كنزا

الحسن بن عبد الله المرزباني السيرافي
أبو سعيد النحوي القاضي، وسيراف بليد على ساحل البحر من أرض فارس، رأيته أنا وبه أثر عمارة قديمة، وجامع حسن، إلا أنه الآن الغالب عليه الخراب، وقد كان ولي القضاء على بعض الأرباع ببغداد، ومات - رحمه الله - يوم الاثنين ثاني رجب، سنة ثمان وستين وثلاثمائة، في خلافة الطائع ودفن في مقابر الخيزران. وكان أبوه مجوسياً اسمه بهزاد، فسماه أبو سعيد عبد الله، وكان أبو سعيد يدرس ببغداد القرآن والقراءات، وعلوم القرآن، والنحو، واللغة، والفقه والفرائض. وكان قد قرأ على أبي بكر بن مجاهد القرآن، وعلى أبي بكر بن دريد اللغة، ودرسا جميعاً عليه النحو، وقرأ على أبي بكر بن السراج، وأبي بكر المبرمان النحو، وقرأ أحدهما عليه القرآن، ودرس الآخر عليه الحساب.
قال الخطيب: وكان - رحمه الله - زاهداً ورعاً، لم يأخذ على الحكم أجراً، إنما كان يأكل من كتب يمينه، فكان لا يخرج إلى مجلس الحكم ولا إلى مجلس التدريس، حتى ينسخ عشر ورقات يأخذ أجرتها عشرة دراهم، تكون بدق رمئونته، ثم يخرج إلى مجلسه. وصنف كتباً منها: شرح كتاب سيبويه.
قال أبو حيان التوحيدي: رأيت أصحاب أبي علي الفارسي يكثرون الطلب لكتاب شرح سيبويه ويجتهدون في تحصيله. فقلت لهم: إنكم لا تزالون تقعون فيه، وتزرون على مؤلف، فما لكم وله؟ قالوا: نريد أن نرد عليه، ونعرفه خطأه فيه.
قال أبو حيان: فحصلوه واستفادوا منه، ولم يرد عليه أحد منهم أو كما قال أبو حيان، فإني لم أنقل ألفاظ الخبر لعدم الأصل الذي قرأته منه، وكان أبو علي وأصحابه كثيري الحسد لأبي سعيد، وكانوا يفضلو عليه الرماني، فحكى ابن جني عن أبي علي: أن أبا سعيد قرأ على اب السراج خمسين ورقة من أول الكتاب ثم انقطع، قال أبو علي: فلقيته بعد ذلك فعاتبته على انقطاعه. فقال لي: يجب على الإنسان أن يقدم ما هو أهم. وهو علم الوقت من اللغة والشعر، والسماع من الشيوخ، فكان يلزم ابن دريد ومن جرى مجراه من أهل السماع.
وقال أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني يهجو أبا سعيد السيرافي:
لست صدراً ولا قرأت على صد ... ر ولا علمك البكي بكاف
لعن الله كل شعر ونحو ... وعروض يجيء من سيراف
وذكره محمد بن إسحاق النديم فقال:

قال لي أبو أحمد: ولد أبو سعيد بسيراف، وفيها ابتدأ بطلب العلم، وخرج عنها قبل العشرين، ومضى إلى عمان فتفقه بها، ثم عاد إلى سيراف، ومضى إلى العسكر فأقام بها مدة. قال المؤلف: وبها قرأ فيما أحسب على المبرمان. قال: كان فقيهاً على مذهب العراقيين، وورد إلى بغداد، فخلف أبا محمد بن معروف قاضي القضاة على قضاء الجانب الشرقي، وكان أستاذه في النحو، ثم استخلفه على الجانبي. ومولده قبل التسعين ومائتين. وله من الكتب: كتاب شرح سيبويه، ألفات القطع والوصل، كتاب أخبار النحويين البصريين، كتاب شرح مقصورة ابن دريد، كتاب الإقناع في النحو لم يتم، فتممه ابنه يوسف، وكان يقول: وضع أبي النحو في المزابل بالإقناع، يريد أه سهله حتى لا يحتاج إلى مفسر، كتاب شواهد كتاب سيبويه، كتاب الوقف والابتداء، كتاب صنعة الشعر والبلاغة، كتاب المدخل إلى كتاب سيبويه، كتاب جزيرة العرب.
قرأت بخط أبي حيان التوحيدي في كتابه الذي ألفه في تقريظ عمرو بن بحر، وقد ذكر جماعة من الأئمة، كانوا يقدمون الجاحظ ويفضلونه فقال: ومنهم أبو سعيد السيرافي شيخ الشيوخ، وإمام الأئمة معرفة بالنحو والفقه، واللغة والشعر، والعروض والقوافي، والقرآن والفرائض، والحديث والكلام، والحساب والهندسة. أفتى في جامع الرصافة خمسين سنة على مذهب أبي حنيفة، فما وجد له خطأ، ولا عثر منه على زلة. وقضى ببغداد، وشرح كتاب سيبويه في ثلاثة آلاف ورقة بخطه في السليماني، فما جاراه فيه أحد، ولا سبقه إلى تمامه إنسان. هذا مع الثقة والديانة، والأمانة والرواية. صام أربعين سنة، وأكثر الدهل كله.
قال لنا الأندلسي: فارقت بلدي في أقصى الغرب طلباً للعلم، وابتغاء مشاهدة العلماء، فكنت إلى أن دخلت بغداد وتلقيت أبا سعيد، وقرأت عليه كتاب سيبويه نادماً سادماً في اغترابي عن أهلي ووطني، من غير جدوى في علم أو حظ من الدنيا، فلما سعدت برؤية هذا، علمت أن سعيي قرن بسعدي، وغربتي اتصلت ببغيتي، وأن عنائي لم يذهب هدراً، وأن رجائي لم ينقطع يأساً. قرأت بخط أبي علي المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابئ: قرأنا على أبي سعيد الحسن بن عبد الله في كتاب ما يلحن فيه العامة لأبي حاتم: هو الشمع مفتوح الشين والميم. فسألناه عما يحكى عن أبي بكر بن دريد أنه قال: شمع بكسر الشين. فقال: لا يعاج عليه. قلنا له: فهو صحيح عن ابن دريد؟ فقال: نعم هو عنه بخطي في كتاب الجمهرة.
قال: وكان أبو الفتح بن النحوي، وأبو الحس الدريدي سألاني عن ذلك، فاستعفيت من الإجابة، لئلا أنسب إلى ابي بكر حرفاً أجمع الناس على خلافه.
وقال أبو حيان في كتاب محاضرات العلماء قثال: وحضرت مجلس شيخ الدهر، وقريع العصر، العديم المثل، المفقود الشكل، أبي سعيد السيرافي، وقد أقبل على الحسين بن مردويه الفارسي، يشرح له ترجمة المدخل إلى كتاب سيبويه من تصنيفه. فقال له: علق عليه، واصرف همتك إليه، فإنك لا تدركه إلا بتعب الحواس، ولا تتصوره إلا بالاعتزال عن الناس. فقال: - أيد الله القاضي - ، أنا مؤثر لذلك، ولك اختلال الأمر وقصور الحال يحول بيني وبين ما أريده. فقال له: ألك عيال؟ قال لا. قال: عليك ديون؟ قال: دريهمات. قال: فأنت ريح القلب، حسن الحال، ناعم البال، اشتغل بالدرس والمذاكرة، والسؤال والمناظرة، واحمد الله تعالى على خفة الحاذ، وحسن الحال. وأنشده:
إذا لم يكن للمرء مال ولم يكن ... له طرق يسعى به الولائد
وكان له خبز وملح ففيهما ... له بلغة حتى تجيء الموائد
وهل هي إلا جوعة إن سددتها ... فكل طعام بين جنبيك واحد
قال: وكان يقرأ على أبي سعيد السيرافي الكامل للمبرد، فجاءه أبو أحمد بن مردك وكان هذا من ساوة، واستوطن بغداد وولد بها، وكان له قرب ومنزلة من أبي سعيد يوجب حقه ويرعاه له. فقال: ايها الشيخ عندي ابنة بلغت حد التزويج، وجماعة من الغرباء والبغداديين يخطبونها، فما ترى ومم أزوجها؟ فقال: فمن يخاف الله تعالى، وأكثرهم تقية وخشية منه، فإن من يخاف الله إن أحبها بالغ في إكرامها، وإن لم يحبها تحرج من ظلمها، فاستحسنا ذلك وأثبتناه ثم قال: لا تنسبوا هذا إلي، إنما هذا قول الحسن.

قال: وشبيه هذه الحكاية: أن رجلاً وقف على الحسن فقال: علمني ما يقربني إلى الله تعالى وإلى الناس، قال: أما ما يقربك إلى الله فمسألته. وأما ما يقربك إلى الناس فترك مسألتهم. وقال: وتأخر بعض أصحابه عن مجلسه في يوم السبت، وكان يرعى حق أبيه فيه، لأنه كان وجيهاً شريفاً، فلما كان يوم الأحد قال له: ما الذي أخرك؟ فأشار إلى شرب الدواء، ولأجله تأخر عن المجلس، فأنشدنا:
لنعم اليوم يوم السبت حقاً ... لصيد إن أردت بلا افتراء
وفي الأحد البناء فإن فيه ... تبدى الله في خلق السماء
وفي الإثنين إن سافرت حقاً ... يكون الأوب فيه بالنماء
وإن ترم الحجامة فالثلاثا ... ففي ساعاته درك الشفاء
وإن شرب امرء يوماً دواء ... فنعم اليوم يوم الأربعاء
وفي يوم الخميس قضاء حاج ... ففيه الله آذن بالقضاء
ويوم الجمعة التزويج فيه ... ولذات الرجال مع النساء
قال: ولما قبل ابن معروف شهادته، عاتبه على ذلك بعض المختصين به وقال: أيها الشيخ، إنك إمام الوقت وعين الزمان، والمنظور إليه والصدر، وإذا حضرت محفلاً كنت البدر، قد اشتهر ذكرك في الأقطار والبلاد، وانتشر علمك في كل محفل وناد، والألسنة مقرة بفضلك، فما الذي حملك على الانقياد لاب معروف واختلافك إلى مجلسه، وصرت تابعاً بعد أن كنت متبوعاً، ومؤتمراً بعد أن كنت آمراً، وضعت من قدرك، وضيعت كثيراً من حرمتك، وأنزلت نفسك منزلة غيرك، وما فكرت في عاقبة أمرك، ولا شاورت أحداً من صحبك. فقال: اعلموا أن هذا القاضي سبب اكتساب ذكر جميل، وصيت حسن، ومباهاة ومنافسة لأقرانه وإخوانه، ومع ذلك له من السلطان منزلة. وبلغني أنه يستضيء برأيه، ويعده من جملة ثقاته وأوليائه، وعرض بي، وصرح في الأمر مرة بعد أخرى، وثانية عقب أولى، فلم أجب إليه، ولم أسلس قيادي له، فخفت مع كثرة الخلاف اعتمادي بما أستضر به وينتفع به غيري. وإذا اتفق أمران، فاتباع ما هو أسلم جانباً وأقل غائلة أولى. وقد كان الآن ما كان، والكلام فيه ضرب من الهذيان. فلما كان بعد هذا بأيام، ورد عليه من آمد صاحب لأبي العباس بن ماهان بكتاب يهنئه فيه بما تلبس به من العدالة، وكان الكتاب يشتمل على كلمات وجيزة، وألفاظ حسنة، ومعان منتقاة. وكان أبو العباس هذا من أصحاب أبي سعيد، ومم لازمه سنين عدة، وعلق عنه على ما ذكره الشاشي، زهاء عشرة آلاف ورقة من شرحه لكتاب سيبويه وغيره، درساً ومذاكرة. وكانت له أيضاً بضاعة قوية في علم الهيئة، وبصر تام بمذهب الكوفيين في النحو، حتى ما كان يطاق وكان من أصدر الكتاب على يده رجلاً كردياً، عليه جبة ثقيلة فوقها صناعة عظيمة، قد أضرت به شمس الهواجر، ومقاساة السفر، وقطع المهامه والمفاوز. وكان الشيخ يبين لبعض أصحابه الفرق في قوله تعالى: (مثل ما أنكم تنطقون). والاحتجاج عمن نصبه ورفعه، والكردي ما يفهم منه القليل ولا الكثير، ثم التفت إلى أبي سعيد وقال: يا شيخ، في أي شيء أنت؟ وفي ماذا تتكلم؟ فقال: أتكلم في شيء لا يعرفه كل أحد، ولا يتصوره كثير من الناس. قال: ففسره لي لعلي أفهمه. قال: لا يكو ذلك أبداً. قال: أنت عالم، ومن اقتبس منك علماً لزمك الجواب. فقال له: عليك بمجلس يجري فيه حديث الفرض والنفل والسنن وظواهر أمر الشريعة لتستفيد منه، وتنتفع به. فأخذ الكردي في المطاولة، وإيراد الهذيان وما لا محصول له. وسكت عنه أبو سعيد، وصمت هو أيضاً. وجعل أبو سعيد على عادته، يبين ويوضح ويتكلم، وينثر الدر ولا يهدأ ولا يفتر لسانه، ولا يجف ريقه. والكردي ملازمه، وكأنه كالمتبرم به، والمستثقل لجلوسه، وملازمته إياه إلى أن قام ومضى.
ثم قال أبو سعيد: ما ظننت أن ثقيلاً تمكن من أحد تمكن هذا منا اليوم، وإن ألم ثقله خلص إلى الروح والبدن كما خلص إلي، لقد هممت تارة بضربه فقلت: ربما ضربني أيضاً، ثم هممت بالقيام فقلت: ضرب من الخرق، ثم كدت أصيح فقلت: نوع من الجنون، ثم بقيت أدعو سراً، وأرغب إلى الله تعالى في صرفه، فتفضل الله الكريم علي بذلك، ومع هذه الحالة، لم تزل أبيات محمد بن المرزبان تتردد بين لهاتي ولساني. فقلنا له: وما الأبيات؟ فقال:

يا شقيق الرصاص والجبل ... وقريع الأيام في الثل
أرح حياتي فقد هجمت على ... نفسي وأشرفت بي على أجلي
والله لو كنت والداً حدباً ... وكنت تحيي الأموات في المثل
وتمزج الثلج في العساس لدى ال ... قيظ وعند الشتاء بالعسل
رحلت عن ذاك عند آخره ... واخترت ألا أراك في الرحل
فخذ طريفي وتالدي فإذا ... لم يبق شيء فخذ إذاً سملي
وارحل إلى الظلمة التي ذكرت ... من خلف قاف يا شر مرتحل
قال: وكان قد ظهر بالعراق رجل من الجراد، فأضرت بالزروع والأثمار، وغلت الأشعار، وأثر في أحوال الاس. فحضرنا مجلس أبي سعيد السيرافي، وكل منا شكا حاله، وذكر خلته، وكان فينا رجل مزارع، ذكر أنه زرع بنواحي النهروان أربعة آلاف جريب ملكاً وضماناً وإجارة رجاء الفائدة، وقد أتى عليها الجراد، وهلك ذلك الرجل لأجله.
ثم قال أبو سعيد: لا يهولنك أمرها، فإنها جند من جنود الله مأمور. بلغنا أن جرادة سقطت بين يدي عبد الله بن عباس، فأخذها ونشر جناحها وقال: أتعلمو ما هو مكتوب عليها؟ قالوا لا، قال: مكتوب عليها: أنا مغلي الأسعار، مع تدفق الأنهار. وأورد في ذكر الجراد ما حير الناظري، ثم قال: ومن أحسن ما وصف به الجراد، قول بعض الخطباء حيث يقول: إن الله سبحانه وتعالى خلق خلقاً وسماها جراداً، وألبسها أجلاداً، وجندها أجناداً، وأدمجها إدماجاً، وكساها من الوشي ديباجاً، وجعل لها ذرية وأزواجاً، إذا أقبلت خلتها سحاباً أو عجاجاً، وإذا أدبرت حسبتها قوافل وحجاجاً، مزخرفة المقاديم، مزبرجة المآخير، مزقة الأطراف، منقطعة الأخفاف، منمنمة الحواشي، منمقة الغواشي، ذات أردية مزعفرة، وأكسية معصفرة، وأخفية مخططة. معتدلة قامتها، مؤتلفة خلقتها، مختلفة حليتها، موصولة المفاصل، مدرجة الحواصل، تسعى وتحتال، وتميس وتختال، وتطوف وتجتال، فتبارك خالقها، وتعالى رازقها، من غير حاجة منه إليها، رحمة منه عليها، أوسعها رزقاً، وأتقنها خلقاً، وفتق منها رتقاً. ووشج أعراقها، وألجم أعناقها، وطوقها أطواقها، وقسم معايشها وأرزاقها، تنظر شزراً من ورائها، وترقب النازل من سمائها، وتحرس الدائر من حولها. سلاحها عتيد، وبأسها شديد، ومضرتها تعديد تدب على ست وتطير، فسبحان من خلقها خلقاً عجيباً، وجعل لها من كل ثمر وشجر نصيباً، وجعل لها إدباراً وإقبالاً، وطلباً واحتيالاً، حتى دبت ودرجت، وخرجت ودخلت، ونزلت وعرجت، مع المنظر الأنيق، والعصب الدقيق، والبدن الرقيق (هذا خلق الله، فأروني ماذا خلق الذين من دونه).
ثم قال: وماذا تقولون في طير؟ إذا طار بسط، وإذا دنا من الأرض لطع، رجلاه كالمنشار، وعيناه كالزجاج. عينه في جنبه، ورجله أطول من قامته، ألا وهي الجرادة. ثم قال: وأحسن منه: جيدها كجيد البقر، ورأسها كرأس الفرس، وقرنها كقرن الوعل، ورجلها كرجل الحمل، وبطنها كبطن الحية، تطير بأربعة أجنحة، وتأكل بلسانها، فتبارك الله ما أحسنها! وأحس ما فيها: أنها طعام طاهر حياً وميتاً، ونقل تجدب أقواماً وتخصب آخرين. فقلنا له: ما معنى قولك تجدب أقواماً وتخصب آخرين؟ قال: إنها إذا حلت البوادي والفيافي ومواضع الرمال، فهي خصب لهم وميرة، وإذا حلت بمأوى الزرع والأشجار فهي تجدب، لأنها تأتي على الشوك والشجر، والرطب واليابس، فلا تبقي ولا تذر.
قال: وقال أيضاً في تضاعيف كلامه: خادم الملك لا يتقدم في رضاه خطوة، إلا استفاد بها قدمة وحظوة. قال: وما رأيت أحداً من المشايخ كان أذكر لحال الشباب، وأكثر تأسفاً على ذهابه منه، فإنه إذا رأى أحداً من أقرانه قد عالجه الشيب تسلى به، ولم يزل يسأله عن حاله، كانت في أيام الشباب وزمن الصبا. وإذا ذكر بين يديه ما يتعلق بالشيب والشباب، بكى وجداً وحن، وشكا وأن، وتذكر عهد الشباب. وكان كثيراً ما ينشد مقطعات محمود الوراق في الشيب ويبكي عليها. وأنشد يوماً:
فإن يكن المشيب طرا علينا ... وولى بالبشاشة والشباب
فإني لا أعاقبه بشيء ... يكون على أهون من خضاب
رأيت بأن ذاك وذا عذاب ... فينتقم العذاب من العذاب
قال: وأنشدنا لمحمود الوراق في الشيب وعيناه تدمعان:

ولو أن دار الشيب قرت بصاحب ... على ضيقها لم نبغ داراً بداره
ولكن هذا الشيب للموت رائد ... يخبرنا عنه بقرب مزاره
قال أبو حيان: وكان أبو سعيد يفتي على مذهب أبي حنيفة وينصره، فجرى حديث تحليل اتلنبيذ عنده، فقال له بعض الخراسانيين: أيها الشيخ، دعنا من حديث أبي حنيفة وقول الشافعي. ما ترى أنت في شرب النبيذ والقدر الذي لا يسكر ويسكر؟ فقال: أما المذهب فمعروف لا عدول عنه، وأما الذي يقتضيه الرأي ويجبه العقل، ويلزم من حيث الاحتياط، والأخذ بالأحسن والأولى، فتركه والعدول عنه.
فقال له: بين لنا - عافاك الله - . فقال: العم أنه لو كان المسكر حلالاً في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكان يجب على العاقل رفضه وتركه، بحجة العقل والاستحسان. فإن شاربه محمول على كل معصية، مدفوع إلى كل بلية، مذموم عند كل ذي عقل ومروءة، يحيله عن مراتب العقلاء والفضلاء والأدباء، ويجعله من جملة السفهاء، ومع ذلك فيضر بالدماغ والعقل، والكبد والذهن، ويولد القروح في الجوف، ويسلب شاربه ثوب الصلاح والمروءة والمهابة، حتى يصير بمنزلة المخبط المخريق والمئبئج، يقول بغير فهم، ويأمر بغير علم، ويضحك من غير عجب، ويبكي من غير سبب، ويخضع لعدوه، ويصول على وليه، ويعطي من لا يستحق العطية، ويمنع من يستوجب الصلة، ويبذر في الموضع الذي يحتاج فيه أن يمسك، ويمسك في الموضع الذي يحتاج فيه أن يبذر، يصير حامده ذاماً، وأفعاله ملاماً، عبده لا يوقره، وأهله لا تقربه، وولده يهرب منه، وأخوه يفزع عنه، يتمرغ في قيئه، ويتقلب في سلحه، ويبول في ثيابه، وربما قتل قريبه، وشتم نسيبه، وطلق امرأته وكسر آلة البيت، ولفظ بالخنى، وقال كل غليظة وفحش، يدعو عليه جاره، ويزرى به أصحابه، عند الله ملوم، وعند الاس مذموم، وربما يستولي عليه في حال سكره مخايل الهموم، فيبكي دماً، ويشق جيبه حزناً، وينسى القريب، ويتذكر البعيد، والصبيان يضحكون منه، والنسوان يفتعلن النوادر عليه. ومع ذلك فبعيد من الله، قريب من الشيطان، قد خالف الرحمن في طاعة الشيطان، وتمكن من ناصيته، وزي في عينه إتيان الكبائر، وركوب الفواحش، واستحلال الحرام، وإضاعة الصلاة، والحنث في الأيمان، سوى ما حل به عند الإفاقة من الندامة، ويستوجب من عذاب الله يوم القيامة.
فقال الرجل: والله إن قولك ووصفك له أعلق بالقلب من كل واضح وبرهان لائح، وحجة وأثر، وقول وخبر. فقال له: لولا ذهاب الوقت لا عوض له، لاستدللت لكل خصلة ذكرتها، ولفظة أوردتها بآية من كتاب الله، أو خبر مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قلت: إن الألفاظ مشتقة من ذاك مستنبطة منه، ولك الأمر في هذا أظهر وأشهر من أن يبين ويوضح. ولأبي حنيفة مسائل لا أرتضيها له، وقد خالفه فيها أعيان أصحابه، والناقلة لمذهبه، ولكن لكل أريب هفوة، ولكل جواد كبوة، والكلام إذا كثر لا يخلو من الخطإ، والقول إذا تتابع لا يعرى من التناقض، - والله المعين على أمر الدنيا والدين - قال أبو حيان: قال أبو سعيد: دخلت مسجداً بباب الشام يوماً أنظر أبا المنصور العمري فرأيت عربياً قد استلقى ومخلاته تحت رأسه، وهو يترنم بهذه الأبيات بحلق أطيب ما يكون، وصوت أندى ما يسمع:
سماء الحب تهطل بالصدود ... ونار الحب تحرق من بعيد
وعين الحب تأتي بالمنايا ... فتغرسه على قلب عميد
وأول من عشقت عشقت ظبياً ... له في الصدر قلب من حديد
فقلت له: أعد الأبيات. فقال لي: دخلت علي وشغلتني عما كنت عليه، خلوت بنفسي في هذا المسجد أتمنى أماني دونها خرط القتاد، فأفسدتها علي. فحفظت الأبيات من قوله، وانصرفت وتركته. قال أبو حيان: وأنشدنا أبو سعيد السيرافي:
فكرت في شيب الفتى وشبابه ... فأيقنت أن الحق للشيب واجب
يصاحبن شرخ الشباب فيقضي ... وشيبي إلى حين الممات مصاحب
ثم قال: ما رأيت أحداً كان أحفظ لجوامع الزهد نظماً ونثراً، وما ورد في الشيب ولاشباب، من شيخنا أبي سعيد. وذاك أنه كان ديناً، ورعاً تقياً، زاهداً عابداً خاشعاً، له دأب بالنهار من القراءة والخشوع، وورد بالليل من القيام والخضوع، صام أربعين سنة الدهر كله. قال: وقال لي أبو إسحاق المدائني.

ما قرأت عليه خبراً ولا شيئاً قط فيه ذكر الموت والقبر، والبعث والنشور، والحساب والجنة والنار، والوعد والوعيد والعقاب، والمجازاة والثواب، والإنذار، والإعذار، وذم الدنيا وتقلبها بأهلها، وتغيرها على أبنائها، إلا وبكى منها، وجزع عندها، وربما نغص عليه يومه وليلته، وامتنع من عاداته في الأكل والشرب. وكان ينشدنا ويورد علينا من أمثاله، ما كنا نستعين به ونستفيد منه، وما نجعله حظ يومنا. ورأيته يوماً ينشد ويبكي:
حتى الدهر من بعد استقامته ظهري ... وأفضى إلى تنغيص عيشته عمري
ودب البلى في كل عضو ومفصل ... ومن ذا الذي يقى سليماً على الدهر؟
قال: ووصى يوماً بعض أصحابه وكان يقرأ عليه شرح الفصيح لابن درستويه: كن كما قال الخليل بن أحمد: اجعل ما في كتبك رأس مالك، وما في صدرك للتفقه. قال: وأنشدنا:
وذي حيلة للشيب ظل يحوطه ... يقرضه حيناً وحينا ينتف
وما لطفت للشيب حيلة عالم ... من الناس إلا حيلة الشيب ألطف
قال أبو حيان: شكا أبو الفتح القواس إليه طول عطلته، وكساد سوقه، ووقوف أمره، وذهاب ماله، ورقة حاله، وكثرة ديونه وعياله، وتجلف صبيانه، وسوء عشرة أهله معه، وقلة رضاهم به، ومطالبتهم له بما لا يقوم به، وأنه يقع ويقوم، ويدخل كل مدخل، حتى يحصل لنفسه وعياله بعض كفايتهم. فقال له: ثق بالله خالقك، وكل أمرك إلى رازقك وأقلل من شنبك وأجمل في طلبك، واعلم أنك بمرأى من الله ومسمع، قد تكفل برزقك، فيأتيك من حيث لا تحتسبه، وضمن لك ولعيالك قوتهم، فيدر عليك منم حيث لا ترتقبه، وعلى حسب الثقة بالله يكون حسن المعونة، وبمقدار عدولك عن الله إلى خلقه يكون كل المئونة. وأنشد وذكر أنه لبعض المحدثين:
يا طالب الرزق إن الرزق في طلبك ... والرزق يأتي وإن أقللت من تعبك
لا يملكنك لا حرص ولا تعب ... فيسلماك ولا تدري إلى عطبك
إن تخف أسباب هذا الرزق عنك فكم ... للرزق من سبب يغنيك عن سببك
بل إن تكن في أعز العز ذا أرب ... فلا يكن زاد من لم تبل من أربك
لا تعرضن لزاد لست تملكه ... واقنع بزادك أو فاصبر على سغبك
ولست تحمد أن تعزى إلى نشب ... إذا عزيت إلى بخل على نشبك
هب جاهل القوم غرته جهالته ... ألست ذا أدب فاعمل على أدبك؟
لا تكلب على عرض الكرام تعش ... والكلب أحسن حالاً منك في كلبك
ولا تعب عرض من في عرضه جرب ... إلا وأنت نقي العرض من جربك
وإنما الناس في الدنيا ذوو رتب ... فانهض إلى الرتبة العلياء من رتبك
قال أبو حيان: وكان يختلف إلى مجلس أبي سعيد علي ابن المستنير، وكان هذا اب بنت قطرب، وكان أبو سعيد يعرف له تقدمه على كثير من أصحابه، وكان يرجع إلى وطأة خلق وحسن عشرة، وحلاوة كلام وفقر مدقع، وضر ظاهر وحالة سيئة، وأمر مختل ومعيشة ضيقة، وكثرة عيال ومئونة مع نشاط القلب، وثبات النفس وطلاقة الوجه، وكثرة المرح والطرب والارتياح.
وقرأ يوماً على أبي سعيد ديوان المرقش وأخذ خطه بذلك، وعجل الانصراف من عنده. فقال له أبو سعيد: أين عزمت؟ قال: أذهب لأصلح أمر العيال، وأتمحل وأحتال، فدعا له بالرزق والسعة والمعونة والكفاية، وهو مع ذلك ضاحك السن، قرير العين، فلما انصرف. قلنا له: هذا الرجل مع ما فيه، لا يعرف الحزن في وجهه، ولا يشتد همه، ويقدر على دفعه. فالتفت بعضهم فقال: أيها الشيخ: وراءه حال يخفيها عنا، ويطويها منا؟ قال: ما أظن الأمر على ذلك، لكن الرجل عاقل، والعاقل يعلو على همه وحزنه، فيقهرهما بعقله وعلمه، والجاهل يشتد همه وحزنه، ويرى ذلك في وجهه، ولا يقدر على دفعه لجهله. فاستحسنا ذلك وأثبتناه.

قال في كتاب الإمتاع: فقال لي الوزير: أين أبو سعيد من أبي علي؟ وأين علي بن عيسى منهما؟ وأين ابن المارغي أيضاً من الجماعة؟ وكذلك المرزباني وابن شاذا، وابن الوراق واب حيويه. فكان من الجواب: أبو سعيد أجمع لشمل العلم، وأنظم لمذاهب العرب وأدخل في كل باب، وأخرج من كل طريق، وألزم للجادة الوسطى في الدين والخلق، وأروى للحديث، وأقضى في الأحكام، وأفقه في الفتوى، وأحضر بركة على المختلفين، وأظهر أثراً في المقتبسة. ولقد كتب إليه نوح بن نصر وكان من أدباء ملوك آل سامان، سنة أربعين وثلاثمائة كتاباً خاطبه فيه بالإمام، وسأله عن مسائل تزيد على أربعمائة مسألة الغالب عليها الحرا وما أشبه الحران. وباقي ذلك أمثال مصنوعة على العرب شك فيها فسأله عنها. وكان هذا الكتاب مقروناً بكتاب الوزير البلعمي خاطبه فيه بإمام المسلمين، ضمنه مسائل القرآن وأمثالاً للعرب مشكلة.
وكتب إليه المرزبان بن محمد ملك الديلم من أذربيجان كتاباً خاطبه فيه بشيخ الإسلام، سأل عن مائة وعشرين مسألة أكثرها في القرآ، وباقي ذلك في الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة.
وكتب إليه ابن حنزابة من مصر كتاباً خاطبه فيه بالشيخ الجليل، وسأله فيه عن ثلاثمائة كلمة من فنون الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف. وقال لي الدارقطني سنة سبعين: أنا جمعت ذلك لابن حنزابة على طريق المعونة.
وكتب إليه أبو جعفر ملك سجستان على يد شيخنا أبي سليمان كتاباً خاطبه فيه بالشيخ الفرد. سأل عن سبعين مسألة في القرآن. ومائة كلمة في العربية، وثلاثمائة بيت من الشعر، هكذا حدثني به أبو سليمان، وأربعين مسألة في الأحكام، وثلاثين مسألة في الأصول على طريق المتكلمين.
قال الوزير: وهذه المسائل والجوابات عندك؟ قلت نعم: قال: في كم تقع؟ قلت لعلها تقع في الأف وخمسمائة ورقة، لأ أكثرها في الظهور. قال: ما أحوجنا إلى النظر إليها، والاستمتاع بها، والاستفادة منها، وأين الفراغ وأين السكو؟؟ ونحن في كل يوم ندفع إلى طامة تنسى ما سلف، وتوعد بالداهية ثم قال: صل حديثك. قلت: وأما أبو علي: فأشد تفرداً بالكتاب وأكثر إكباباً عليه، وأبعد من كل ما عداه مما هو علم الكوفيين، وما تجاوز في اللغة كتب أبي زيد وأطرافاً لغيره، وهو متقد بالغيظ على أبي سعيد وبالحسد له. كيف تم له تفسير كتاب سيبويه من أوله إلى آخره؟ بغريبه وأمثاله، وشواهده وأبياته. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لأن هذا شيء ما تم للمبرد ولا للزجاج، ولا لابن السراج ولا لابن درستويه، مع سعة علمهم، وقبض بنانهم.
ولأبي علي أطراف من الكلام في مسائل أجاد فيها ولم يأتل، ولكنه قعد عن الكتاب على النظم المعروف. وحدثني أصحابنا: أن أبا علي اشتري شرح أبي سعيد بالأهواز - في توجهه إلى بغداد سنة ثمان وستين، لاحقاً بالخدمة الموسومة به والندامة الموقوفة عليه - بألفي درهم، وهذا حديث مشهور وإن كان أصحابه يأبون الإقرار به، إلا من يزعم أنه أراد النقض عليه وإظهار الخطإ.
وقد كان الملك السعيد هم بالجمع بينهما فلم يقض له. ذلك، لأن أبا سعيد مات في رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة. وأبو علي يشرب ويخالع، وما هذي سجية أهل العلم وطريقة الديانين. وأبو سعيد يصوم الدهر كله، ولا يصلي إلا في الجماعة، ويفتي على مذهب أبي حنيفة، ويلي القضاء سنين، ويتأله ويتحرج، وغيره بمعزل عن هذا، ولولا الإبقاء لأهل العلم لكان القلم يجري بما هو خاف، ويخبر بما هو مجمجم ولكن الأخذ بحكم المروءة أولى، والإعراض عما يوجب اللائمة أحرى، وكان أبو سعيد حسن الخط، ولقد أراده الصيمري أبو جعفر على الإنشاء والتحرير فاستعفى وقال: هذا يحتاج فيه إلى دربة وأنا عار منها، وسياسة وأنا غريب فيها. ومن العناء رياضة الهرم.

وحدثنا النصري أبو عبد الله وكان يكتب النوبة للمهلبي قال: كنت أخط بين يدي الصيمري أبي جعفر محمد بن أحمد بن محمد، فالتمسني يوماً لأ أجيب ابن العميد أبا الفضل عن كتاب فلم يجدني، وكان أبو سعيد السيرافي بحضرته، فظن أنه لفضل العلم أقوم بالجواب من غيره، فتقدم إليه أن يكتب ويجيب، فأطال في عمل نسخة كثر فيها الضرب والإصلاح، ثم أخذ يحرر والصيمري يقرأ ما يكتبه، فوجده مخلفاً لجاري العادة لفظاً، مباياً لمأثوره ترتيباً. قال: ودخلت في تلك الحال فتمثل الصيمري بقول الشاعر:
يا باري القوس برياً ليس يصلحه ... لا تظلم القوس أعط القوس باريها
ثم قال لأبي سعيد: خفف عنك أيها الشيخ، وادفع الكتاب إلى أبي عبد الله تلميذك ليجيب عنه، فخجل من هذا القول. فلما ابتدأت الجواب من غير نسخة تحير مني أبو سعيد.
ثم قال للصيمري أيها الأستاذ: ليس بمستنكر ما كان مني، ولا بمستكبر ما كان منه، إن مال الغني لا يصح في بيت المال إلا بين مستخرج وجهبذ، والكتاب جهابذة الكلام، والعلماء مستخرجوه. فتبسم الصيمري وأعجبه ما سمع وقال: على كل حال ما أخليتنا من فائدة.
وكان أبو سعيد بعيد القرين، لأنه كان يقرأ عليه القرآن والتفسير، والفقه والفرائض، والشروط والنحو، واللغة والعروض، والقوافي والحساب، والهندسة والشعر، والحديث والأخبار، وهو في كل هذا، إما في الغاية وإما في الوسط.
وأما علي بن عيسى: فعلي الرتب في النحو واللغة، والكلام والمطق، ولا عيب به إلا أنه لم يسلك طريق واضع المنطق، بل أفرد له صناعة وأظهر براعة، وقد عمل في القرآن كتاباً نفيساً، هذا مع الدين الثخين، والعقل الرزين.
وأما ابن المراغي: فلا يلحق بهؤلاء مع براعة اللفظ، وسعة الحفظ وقوة النفس، وغزارة النفث، وكثرة الرواية، ومن نظر له في كتاب البهجة عرف ما أقول، واعتقد فوق ما وصفت.
وأما المرزباني وابن شاذان، والقرميسيني وابن الخلال، وابن حيويه: فلهم رواية وجمع، ليس لهم في شيء من ذلك نقط ولا إعجام، ولا إسراج ولا إلجام.
وحدثني الشيخ الإمام علم الدين لاقاسم بن أحمد الأندلسي شيخنا قال: حدثن تاج الدين أبو اليمن زيد ابن الحسن الكدي شيخنا قال: بلغني أن أبا سعيد دخل على ابن دريد وهو يقول: أول من أقوى في الشعر أبونا آدم عليه السلام في قوله:
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه المليح
فقال أبو سعيد: يمكن إنشاده على وجه لا يكون فيه إقواء. فقال: وكيف ذلك؟ قال: بأن تنصب بشاشة على التمييز، وترفع الوجه المليح بقل، ويكون قد حذف التنوين لالتقاء الساكنين كما حذف في قوله:
فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلا قليلاً
وقال أبو حيان: جرى ليلة ذكر أبي سعيد السيرافي في مجلس ابن عباد، وكان ابن عباد يتعصب له ويقدمه على أهل زمانه، ويزعم أنه حضر مجلسه وأبان عن نفسه، وصادف من أبي سعيد بحر علم وطود حلم.
فقال أبو موسى الخشكي: إلا أنه لم يعمل في كتاب شرح سيبويه شيئاً، فنظر إليه ابن عباد متنمراً ولم يقل حرفاً، فعجبت من ذلك. ثم إني توصلت ببعض أصحابه، حتى سأل عن حلمه عن أبي موسى مع ذبه عن أبي سعيد فقال: والله لقد ملكي الغيظ عن ذلك الجاهل حتى عزب عي رأيي، ولم أجد في الحال شيئاً يشفي غيظي وغلتي منه، فصار ذلك سبباً لسكوتي عنه، فشابهت الحال الحلم وما كان ذلك حلماً، ولكن طلباً لنوع من الاستخفاف لائق به. فوالله ما يدري ذلك الكلب ولا أحد ممن خرج من قريته ورقة من ذلك الكتاب. وهل سبق أحد إلى مثله من أول الكتاب إلى آخره، مع كثرة فنونه، وخوافي أسراره؟ وكان أبو موسى هذا من طبرستان، فعد هذا التعصب من مناقب ابن عباد، وحجب أبا موسى بعد ذلك.

ومن عجيب ما مر بي: ما قرأته في كتاب الانتصار المنبي عن فضائل المتنبي، لأبي الحسين بن محمد بن أحمد بن محمد المغربي راوية المتنبي، وكان قد رد فيه على بعض من زعم أن شعر المتنبي مسروق من أبي تمام والبحتري. وله قصيدة عارض بها بعض قصائد المتننبي، وأخذ المغربي يرد عليه فقال: ورأيته قود استشهد بأبي سعيد السيرافي مؤدب الأمير أبي إسحاق بن معز الدولة أبي الحس بن بويه، وذكر أنه أعطاه خطه بأن قصيدته خير من قصيدة أبي الطيب. قال: ومن جعل الحكم في هذا إلى أبي سعيد؟ إنما يحكم في الشعر الشعراء لا المؤدبة. وبمثل هذا جزت سنة العرب في القديم، كات تضرب للنابغة خيمة من أدم بسوق عكاظ، وتأتي الشعراء من سائر الآفاق فتعرض أشعارها عليه، فيحكم لمن أجاد، وخبره مع حسان وغيره معروف. ولو كان أعلم الناس بالنحو أشعرهم، لكان أبو علي الفسوي أشعر الناس. وما عرف له من ظم بيت ولا أبيات ولا سمع ذلك منه.
وأما إعطاء أبي سعيد خطه، فيوشك أن يكون من جنب ما حدثني به المعروف بابن الخزاز الوراق ببغداد، وأبو بكر القنطري، وأبو الحسين بن الخراساني، وهما وراقان أيضاً من جلة أهل هذه الصنعة: أن أبا سعيد إذا أراد بيع كتاب - استكتبه بعض تلامذته - حرصاً على النفع منه، ونظراً في رق المعيشة. كتب في آخره وإن لم ينظر في حرف منه.
قال الحسن بن عبد الله: قد قرئ هذا الكتاب علي وصح، ليشترى بأكثر من ثمن مثله. قلت: وهذا ضد ما وصفه به الخطيب من متانة الدين، وتأبيه من أخذ رزق على القضاء، وقناعته بما يحصل من نسخه هذه، والله أعلم بما كان.

مناظرة جرت بين متى بن يونس القنائي الفيلسوف وبين أبي سعيد السيرافي -
رحمة الله عليه -
قال أبو حيان: ذكرت للوزير مناظرة جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات، بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متى. واختصرتها فقال لي: اكتب هذه المناظرة على التمام، فإن شيئاً يجري في ذلك المجلس النبيه، وبين هذين الشخصين بحضرة أولئك الأعلام، ينبغي أن يغتنم سماعه، وتوعى فوائده، ولا يتهاون بشيء منه. فكتبت: حدثني أبو سعيد بلمع من هذه القصة، فأما علي ابن عيسى النحوي الشيخ الصالح، فإنه رواها مشروحة قال: لما انعقد المجلس سنة عشرين وثلاثمائة، قال الوزير ابن الفرات للجماعة وفيهم الخالدي، وابن الإخشيد، والكندي، وابن أبي بشر، وابن رباح، وابن كعب، وأبو عمرو قدامة بن جعفر، والزهري، وعلي بن عيسى ابن الجراح، وأبو فراس، وابن رشيد، وابن عبد العزيز الهاشمي، وابن يحيى العلوي، ورسول بن طنج من مصر، والمرزباني صاحب بني سامان: أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى في حديث المنطق فإنه يقول: لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل، والصدق من الكذب، والخير من الشر، والحجة من الشبهة، والشك من اليقين، إلا بما حويناه من المنطق، وملكناه من القيام عليه، واستفدناه من مواضعه على مراتبه وحدوده، واطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه، فأحجم القوم وأطرقوا فقال ابن الفرات: والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته، وكسر ما يذهب إليه، وإني لأعدكم في العلم بحاراً، وللدي وأهله أنصاراً، وللحق وطلابه مناراً، فما هذا التغامز والتلامز اللذان تجلون عنهما؟. فرفع أبو سعيد السيرافي رأسه وقال: اعذر أيها الوزير، فإن العلم المصو في الصدور، غير العلم المعروض في هذا المجلس على الأسماع المصيغة، والعيون المحدقة، والعقول الجامدة، والألباب الناقدة، لأن هذا يستصحب الهيبة والهيبة مكسرة، ويجتلب الحياء، والحياء مغلبة، وليس البراز في معركة غاصة، كالصراع في بقعة خاصة.
فقال ابن الفرات: أنت لها يا أبا سعيد، فاعتذارك عن غيرك، يوجب عليك الانتصار لنفسك، والانتصار لنفسك راجع على الجماعة بفضلك. فقال أبو سعيد: مخالفة الوزير فيما يأمر به هجنة، والاحتجان عن رأيه إخلاد إلى التقصير، - ونعوذ بالله من زلة القدم، وإياه نسأل حسن التوفيق والمعونة في الحرب والسلم - . ثم واجه متى فقال: حدثني عن المنطق ما تعنى به؟ فإنا إذا فهمنا مرادك فيه، كان كلامنا معك في قبول صوابه، ورد خطئه على سنن مرضي، وعلى طريقة معروفة. قال متى: أعني به أنه آلة من الآلات، يعرف به صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه كالميزان، فإني أعرف به لارجحان من النقصان، والشائل من الجانح.

فقال أبو سعيد: أخطأت، لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالعقل إن كنا نبحث بالعقل. هبك عرفت الراجح من الناقص من طريق الوزن، من لك بمعرفة الموزون؟ أهو حديد أم ذهب، أم شبه أم رصاص؟ وأراك بعد معرفة الوزن فقيراً إلى معرفة جوهر الموزو وإلى معرفة قيمته، وسائر صفاته التي يطول عدها. فعلى هذا لم ينفعك الوز الذي كان عليه اعتمادك، وفي تحقيقه كان اجتهادك إلا نفعاً يسيراً من وجه واحد، وبقيت عليك وجوه، فأنت كما قال الأول: حفظت شيئاً وضاعت منك أشياء وبعد: فقد ذهب عليك شيء ههنا، ليس كل ما في الدنيا يوزن، بل فيها ما يكال، وفيها ما يوزن، وما يذرع، وفيها ما يسمح، وفيها ما يحزر.
وهذا، وإن كان هكذا في الأجسام المرئية، فإنه أيضاً على ذلك في المعقولات المقروءة، والأجسام ظلال العقول، وهي تحكيها بالتبعيد والتقريب مع الشبه المحفوظ، والمماثلة الظاهرة، ودع هذا إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها، وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها، من أين يلزم الترك، والهند، والفرس، والعرب أن ينظروا فيه، ويتخذوه حكماً لهم وعليهم، وقاضياً بينهم، ما شهد له قبلوه، وما أنكره رفضوه؟ قال متى: إنما لزم ذلك، لأن المنطق بحق عن الأغراض المعقولة، والمعاني المدركة، وتصفح للخواطر السانحة، والسوانح الهاجسة، والناس في المعقولات سواء.
ألا ترى أن أربعة وأربعة ثمانية عند جميع الأمم، وكذلك ما أشبهه.
قال أبو سعيد: لو كانت المطبوعات بالعقل، والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبها المختلفة، وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة، في أربعة وأربعة أنهما ثمانية، زال الاختلاف وحضر الاتفاق، ولكن ليس الأمر هكذا.
ولقد موهت بهذا المثال، ولكم عادة في مثل هذا التمويه، ولكن ندع هذا أيضاً إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة، لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف، أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة؟ قال نعم. قال: أخطأت، قل في هذا الموضع بلى. قال متى: بلى، أنا أقلدك في مثل هذا.
قال أبو سعيد: فأنت إذاً لست تدعونا إلى علم المنطق، بل إلى تعلم اللغة اليونانية، وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها، وقد عفت منذ زمان طويل وباد أهلها، وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها، ويتفاهمون أغراضهم بتصرفها، على أنك تنقل من السريانية، فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية، ثم من هذه إلى لغة أخرى عربية؟ قال متى: يونان وإن بادت مع لغتها، فإ الترجمة قد حفظت الأغراض وأدت المعاني، وأخلصت الحقائق.
قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت، وقومت وما حرفت، ووزنت وما جزفت، وأنها ما لاتاثت ولا حافت، ولا نقصت ولا زادت، ولا قدمت ولا أخرت، ولا أخلت بمعنى الخاص والعام، ولا بأخص الخاص، ولا بأعم العام، وإن كان هذا لا يكون، وليس في طبائع اللغات ولا مقادير المعاني، فكأنك تقول بعد هذا: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وضعوه، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه. قال متى: لا، ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة، والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه، وعن كل ما يتصل به وينفصل عنه، وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر، وانتشر ما انتشر، وفشا ما فشا، ونشأ ما نشأ من أنواع العلم، وأصناف الصناعة، ولم نجد هذا لغيرهم.
قال أبو سعيد: أخطأت وتعصبت، وملت مع الهوى، فإن العلم مبثوث في العالم، ولهذا قال القائل:
ألعلم في العالم مبثوث ... ونحوه العاقل محثوث

وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جديد الأرض، ولهذا غلب علم في مكان دون مكان، وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة. وهذا واضح والزيادة عليه مشغلة، ومع هذا فإنما كان يصح قولك وتسلم دعواك، لو كانت يونان معروفة بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة، والفطرة الظاهرة، والبنية لامخالفة، وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا ما قدروا، ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا وأن السكينة نزلت عليهم، والحق تكفل بهم، والخطأ تبرأ منهم، والفضائل لصقت بأصولهم وفروعهم، والرذائل بعدت عن جواهرهم وعروقهم، وهذا جهل ممن يظنه بهم، وعناد ممن يدعيه عليهم، بل كانوا كغيرهم من الأمم، يصيبون في أشياء ويخطئو في أشياء، ويصدقون في أمور ويكذبون في أمور، ويحسنون في أحوال ويسيئون في أحوال. وليس واضع المنطق يونان بأسرها، إنما هو رجل منهم، وقد أخذ عم قبله، كما أخذ عنه من بعده، وليس هو حجة على هذا الخلق الكثير والجم الغفير. وله مخالفون منهم ومن غيرهم، ومع هذا: فالاختلاف في الراي والنظر، والبحث والمسألة والجواب سنخ وطبيعة، فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيء يرفع به هذا الخلاف أو يحلحله أو يؤثر فيه، هيهات هذا محال. ولقد بقي العالم بعد منطقه على ما كان قبل منطقه، فامسح وجهك بالسلوة عن شيء لا يستطاع، لأنه مفتقد بالفطرة والطباع، وأنت فلو فرغت بالك، وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها، وتجارينا فيها، وتدرس أصحابك بمفهوم أهلها، وتشرح كتب يونان بعادة أصحابها، لعلمت أنك غني عن معاني يوان، كما أنك غني عن لغة يونان وههنا مسألة: أتقول إن الناس عقولهم مختلفة وأنصباؤهم منها متفاوتة؟ قال متى: نعم. قال: وهذا التفاوت والاختلاف بالطبيعة أو الاكتساب؟ قال: بالطبيعة. قال: فكيف يجوز أن يكون ههنا شيء يرتفع به الاختلاف الطبيعي، والتفاوت الأصلي؟ قال متى: هذا قد مر في جملة كلامك آنفاً.
قال أبو سعيد: فهل وصلته بجواب قاطع، وبيان ناصع؟ ودع هذا، أسألك عن حرف واحد هو دائر في كلام العرب، ومعانيه متميزة عند أهل العقل، فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تدل به، وتباهى بتفخيمه، وهو الواو، وما أحكامه؟ وكيف مواقعه؟ وهل هو على وجه واحد أو وجوه؟ فبهت متى وقال: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه، لأنه لا حاجة بالمنطقي إلى النحو، وبالنحوي حاجة إلى المنطق، لأن المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض، وإن عبر النحوي بالمعنى فبالعرض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى.
قال أبو سعيد: أخطأت، لأن المنطق والنحو، واللفظ والإفصاح، والإعراب والبناء، والحديث والإخبار والاستخبار، والعرض والتمني، والحض والدعاء، والنداء والطلب، كلها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة. ألا ترى أن رجلاً لو قال: نطق زيد بالحق ولكن ما تكلم بالحق، وتكلم بالفحش ولكن ما قال الفحش، وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح، وأبان المراد ولكن ما أوضح أو فاه بحاجته ولكن ما لفظ، أو أخبر ولكن ما أنبأ، لكان في جميع هذا مخرفاً ومناقضاً، وواضعاً للكلام في غير حقه، ومستعملاً للفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره، والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى، أن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي، ولهذا كان اللفظ بائداً على الزمان، يقفو أثر الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة، ولهذا كان المعنى ثابتاً على الزمان، لأ مستملي المعنى عقل، والعقل إلهي، ومادة اللفظ طينية، وكل طيي متهافت، وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها، وآلتك التي تزهى بها، إلا أن تستعير من العربية لها اسماً فتعار، ويسلم لك بمقدار، وإن لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة، واجتلاب الثقة، والتوقي من الخلة اللاحقة لك. قال متى: يكفيني من لغتكم هذه: الاسم والفعل والحرف، فإني أتبلغ بهذا القدر إلى أغراض قد هذبتها لي يونان.

قال أبو سعيد أخطأت: لأنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وضعها وبنائها، على الترتيب الواقع في غرائز أهلها، وكذلك أنت محتاج بعد هذا، إلى حركات هذه الأسماء والأفعال والحروف، فإن الخطأ والتحريف في الحركات، كالخطإ والفساد في المتحركات. وهذا باب أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة، على أن ههنا سراً ما علق بك، ولا أسفر لعقلك، وهو: أن تعلم أن لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها، بحدود صفاتها في أسمائها وأفعالها، وحروفها وتأليفها، وتقديمها وتأخيرها، واستعارتها وتحقيقها، وتشديدها وتخفيفها، وسعتها وضيقها، ونظمها ونثرها، وسجعها ووزنها وميلها، وغير ذلك مما يطول ذكره، وما أظن أحداً يدفع هذا الحكم أو يسأل في صوابه ممن يرجع إلى مسكة من عقل، أو نصيب من إنصاف، فمن أين يجب أن نثق بشيء ترجم لك على هذا الوصف، بل أنت إلى أن تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى أن تعرف المعاني اليونانية، على أن المعاني لا تكون يونانية ولا هندية، كما أن الأغراض لا تكون فارسية ولا عربية ولا تركية. ومع هذا، فإنك تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر، فلم يبق إلا أحكام اللغة، فلم تزرى على العربية؟ وأنت تشرح كتب أرسطاطاليس بها مع جهلك بحقيقتها.
وحدثني عن قائل قال لك: حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها، حال قوم كانوا قبل واضع المنطق، أنظر كما نظروا، وأتدبر كما تدبروا، لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة، والمعاني نقرت عنها بالنظر والرأي، والاعتقاب والاجتهاد، ما تقول له؟ لا يصح له هذا الحكم، ولا يستتب هذا الأمر، لأنه لم يعرف هذه الموجودات من الطريقة التي عرفتها أنت، ولعلك تفرح بتقليدك وإن كان على باطل، أكثر مما يفرح باستبداده وإ كان على حق، وهذا هو الجهل المبين، والحكم غير المستبين، ومع هذا فحدثني عن الواو ما حكمه؟ فإني أريد أن أبين أن تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئاً، وأن تجهل حرفاً واحداً من اللغة التي تدعو بها إلى الحكمة اليونانية، ومن جهل حرفاً واحداً أمكن أن يجهل آخر أو اللغة بكمالها، وإن كان لا يجهلها كلها وإنما يجهل بعضها، فلعله يجهل ما يحتاج إليه ولا ينفعه فيه علم بما لا يحتاج. وهذه رتبة العامة، أو هي رتبة من هو فوق العامة بقدر يسير؟ فلم يتأبى على هذا وينكر؟ ويتوهم أنه من الخاصة وخاصة الخاصة، وأنه يعرف سر الكلام وغامض الحكمة، وخفي القياس وصحيح البرهان. وإنما سألتك عن معاني حرف واحد. فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالحق، والتي لها بالتجوز؟ وسمعتكم تقولون في لا يعلم النحويون مواقعها، وإنما يقولون: هي للوعاء، كما يقولون: إن الباء للإلصاق. وإن في تقال على وجوه، يقال: الشيء في الوعاء، والإناء في المكان، والسائس في السياسة، والسياسة في السائس. ألا ترى هذا التشقيق هو من عقول يونان، ومن ناحية لغتها، ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند، والترك، والعرب، فهذا جهل من كل من يدعيه، وخطل من القول الذي أفاض النحوي إذا قال: في للوعاء فقد أفصح في الجملة عن المعنى الصحيح، وكنى مع ذلك عن الوجوه التي تظهر بالتفصيل، ومثل هذا كثير، وهو كاف في موضع السكيت.
فقال ابن الفرات: أيها اشيخ الموفق، أجبه بالبيان عن مواقع الواو، حتى تكو أشد في إفحامه، وحقق عند الجماعة ما هو عاجز عنه، ومع ذلك فهو متشيع له.
فقال أبو سعيد: للواو وجوه ومواقع: منها معنى العطف في قولك: أكرمت زيداً وعمرواً. ومنها القسم في قولك: والله لقد كان كذا وكذا. ومنها الإستئناف كقولك: خرجت وزيد قائم، لأ الكلام بعده ابتداء وخبر، ومنها معنى رب التي هي للتقليل، نحو قوله: وقاتم الأعماق خاوي المخترق. ومنها: أن تكون أصلية في الاسم كقولك: واقد، واصل، وافد. وفي الفعل كقولك: وجل يوجل. ومنها أن تكون مقحمة نحو قول الله تعالى: (فلما أسلما وتله للجبين وناديناه)، أي ناديناه. ومثله قول الشاعر:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
المعنى انتحى بها. ومنها معنى الحال في قوله عز وجل: (ويكلم الناس في المهد وكهلاً)، أي يكلم الناس حال صغره بكلام الكهل في حال كهولته. ومنها أن تكون بمعنى حرف الجر كقولك: استوى الماء والخشبة، أي مع الخشبة.

فقال ابن الفرات لمتى. يأبا بشر، أكان هذا في نحوك؟ ثم قال أبو سعيد: دع هذا، ههنا مسألة علاقتها بالمعنى العقلي أكثر من علاقتها بالشكل اللفظي، ما تقول في قول القائل: زيد أفضل الإخوة؟ قال صحيح. قال: فما تقول إن قال زيد أفضل إخوته؟ قال صحيح. قال: فما الفرق بينهما مع الصحة؟ فبلح وجنح وعصب ريقه.
فقال أبو سعيد: أفتيت على غير بصيرة ولا استبانة. المسألة الأولى: جوابك عنها صحيح، وإن كنت غافلاً عن وجه صحتها. والمسألة الثانية: جوابك عنها غير صحيح، وإن كنت أيضاً ذاهلاً عن وجه بطلانها. قال متى: بين، ما هذا التهجين؟ قال أبو سعيد: إذا حضرت المختلفة استفدت، ليس هذا مكان التدريس، بل هو مجلس إزالة التلبيس، مع من عادته التمويه والتشبيه. والجماعة تعلم أنك أخطأت، فلم تدعى أن النحوي إنما ينظر في اللفظ لا في المعني؟ والمنطقي ينظر في المعنى لا في اللفظ. هذا كان يصح لو كان المنطقي يسكت ويجيل فكره في المعاني، ويرتب ما يريد في الوهم السياح، والخاطر العارضي، والحدس الطارئ.
وأما وهو يريغ أن يبرز ما صح له بالاعتبار والتصفح إلى المتعلم والمناظر، فلابد له من اللفظ الذي يشتمل على مراده، ويكون طباقاً لغرضه، وموافقاً لقصده.
قال ابن الفرات: يا أبا سعيد، تمم لنا كلامك في شرح المسألة، حتى تكون الفائدة ظاهرة لأهل المجلس، والتبكيت عاملاً في نفس أبي بشر. فقال: ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلا ملل الوزير، فإن الكلام إذا طال مل.
قال ابن الفرات: ما رغبت في سماع كلامك، وبيني وبين الملل علاقة، فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر. فقال أبو سعيد: إذا قلت: زيد أفضل إخوته لم يجز، وإذا قلت: زيد أفضل الإخوة جاز، والفصل بينهما: أن إخوة زيد هم غير زيد، وزيد خارج من جملتهم، دليل ذلك، أنه لو سأل سائل فقال: من إخوة زيد؟ لم يجز أن تقول: زيد وعمرو وبكر وخالد، وإنما تقول: بكر وعمرو وخالد، ولا يدخل زيد في جملتهم فإذا كان زيد خارجاً عن إخوته صار غيرهم، فلم يجز أن يكون أفضل إخوته، كما لم يجز أن يكون حمارك أفضل البغال، لأن الحمار غير البغال. كما أن زيداً غير إخوته. فإذ قلت: زيد أفضل الإخوة جاز. لأنه أحد الإخوة، والاسم يقع عليه وعلى غيره، فهو بعض الإخوة. ألا ترى أنه لو قيل من الإخوة؟ عددته فيهم، فقلت زيد وعمرو وبكر وخالد، فيكون بمنزلة قولك: حمارك أفره الحمير. فلما كان على ما وصفنا، جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس فتقول: زيد أفضل رجل، وحمارك أفره حمار، فيدل رجل على الجنس كما دل الرجال، وكما في عشرين درهماً ومائة درهم.
فقال ابن الفرات: ما بعد هذا البيان مزيد، ولقد جل علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الانقياد.
فقال أبو سعيد: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير، وتوخي الصواب في ذلك، وتجنب الخطإ في ذلك وإن زاغ شيء عن النعت، فإنه لا يخلو من أن يكون سائغاً بالاستعمال النادر والتأويل البعيد، أو مردوداً لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم. فأما ما يتعلق باختلاف لغات القبائل، فذلك شيء مسلم لهم ومأخوذ عليهم، وكل ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع، والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف، وإنما دخل العجب على المنطقيين لظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقهم ونظرهم وتكلفهم. فترجموا لغة هم فيها ضعفاء ناقصون، بترجمة أخرى هم فيها ضعفاء ناقصون وجعلوا تلك الترجمة صناعة، وادعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى.
ثم أقبل أبو سعيد على متى فقال: ألا تعلم يا أبا بشر أن الكلام اسم واقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب؟ مثال ذلك أنك تقول: هذا ثوب، والثوب يقع على أشياء بها صار ثوباً، ثم به نسج بعد أن غزل، فسداته لا تكفي دون لحمته، ولحمته لا تكفي دون سداته، ثم تأليفه كنسجه، وبلاغته كقصارته، ودقة سلكه كرقة لفظه، وغلظ غزله ككثافة حروفه، ومجموع هذا كله ثوب، ولكن بعد تقدمة كل ما يحتاج إليه فيه.

قال ابن الفرات: سله يا أبا سعيد عن مسألة أخرى، فإن هذا كلما توالى عليه بان انقطاعه، وانخفض ارتفاعه في المنطق الذي ينصره، والحق الذي لا ينصره. قال أبو سعيد: ما تقول في رجل قال: لهذا علي درهم غير قيراط؟ قال متى: مالي علم بهذا النمط. قال: لست ازعاً عنك حتى يصح عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة وزرق، ههنا ما هو أخف من هذا.
قال رجل لصاحبه: بكم الثوبان المصبوغان؟ وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغان؟ وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغين؟ بين هذه المعاني التي تضمنها لفظاً لفظاً. قال متى: لو نثرت أنا أيضاً عليك من مسائل المنطق شيئاً لكان حالك كحالي.
قال أبو سعيد: أخطأت، لأنك إذا سألتني عن شيء أنظر فيه، فإن كان له علاقة بالمعنى وصح لفظه على العادة الجارية أجبت، ثم لا أبالي أن يكون موافقاً أو مخالفاً، وإن كان غير متعلق بالمعنى رددته عليك، وإن كان متصلاً باللفظ ولكن على موضع لكم في الفساد على ما حشوتم به كتبكم رددته أيضاً، لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة مقررة بين أهلها، ما وجدنا لكم إلا ما استعرتم من لغة العرب، كالسبب والآلة، والموضوع والمحمول، والكون والفساد، والعموم والخصوص، وأمثلة لا تنفع ولا تجدي، وهي إلى العي أقرب، وفي الفهاهة أذهب. ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقص ظاهر، لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة، وتدعون الشعر ولا تعرفونه، وتدعو الخطابة وأنتم عنها في منقطع التراب، وقد سمعت قائلكم يقول: الحاجة ماسة إلى كتاب البرهان، فإن كان كما قال، فلم قطع الزمان بما قبله من الكتب؟، وإن كانت الحاجة قد مست إلى ما قبل البرهان، فهي أيضاً ماسة إلى ما بعد البرهان، وإلا فلم صنف ما لا يحتاج إليه ويستغنى عنه؟ هذا كله تخليط وزرق، وتهويل ورعد وبرق. وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلاً، وتستئذلوا عزيزاً. وغايتكم أن تهولوا بالجنس والنوع، والخاصة والفصل، والعرض والشخص، وتقولوا: الهلية والأيية، والماهية والكيفية والكمية، والذاتية والعرضية، والجوهرية والهيولية، والصورية والإنسية، والكسبية والنفسية ثم تنمطون وتقولو: جئنا بالسحر في قولنا: لا شيء من باء وواو وجيم، في بعض باء وفاء في بعض جيم، وإلا في كل ب و ج في كل ب، فا، إذاً لا في كل ج، وهذا بطريق الخلف، وهذا بطريق الاختصاص، وهذه كلها جزافات وترهات، ومغالق، وشبكات، ومن جاد عقله وحسن تمييزه، ولطف نظره، وثقب رأيه، وأنارت نفسه، استغنى عن هذا كله، بعون الله وفضله. وجودة العقل وحسن التمييز، ولطف النظر وثقوب الرأي، وإنارة النفس من منائح الله الهنية، ومواهبه السنية، يختص بها من يشاء من عباده. وما أعرف لاستطالتكم بالمنطق وجهاً، وهذا الناشئ أبو العباس قد نقض عليكم، وتتبع طريقكم، وبين خطأكم، وأبرز ضعفكم، ولم تقدروا إلى اليوم أ تردوا عليه كلمة واحدة مما قال، وما زدتم على قولكم: لم يعرف أغراضنا، ولا وقف على مرادنا، وإنما تكلم على وهم، وهذا منكم لجاجة ونكول، ورضىً بالعجز والكلول، وكل ما ذكرتم في الموجودات فعليكم فيه اعتراض. هذا قولكم في فعل وينفعل، ولم تستوضحوا فيهما مراتبهما ومواقعهما، ولم تقفوا على مقاسمهما، لأنكم قنعتم فيهما بوقوع الفعل من يفعل، وقبول الفعل من ينفعل، ومن وراء ذلك غايات خفيت عليكم، ومعارف ذهبت عنكم، وهذا حالكم في الإضافة.

فأما البدل ووجوهه، والمعرفة وأقسامها، والنكرة ومراتبها، وغير ذلك مما يطول ذكره، فليس لكم فيه قال ولا مجال، وأنت إذا قلت لإنسان: كن منطقياً فإنما تريد: كن عقلياً أو عاقلاً، أو اعقل ما تقول، لأن أصحابك يزعمون أن المنطق هو العقل، وهذا قول مدخول، لأن المنطق على وجوه أنتم منها في سهو. وإذا قال لك آخر: كن نحوياً لغوياً فصيحاً، فإنما يريد: افهم عن نفسك ما تقول، ثم رم أن يفهم عنك غيرك، وقدر اللفظ على المعنى فلا ينقص عنه. هذا إذا كنت في تحقيق شيء على ما هو به، فأما إذا حاولت فرش المعنى وبسط المراد، فاجل اللفظ بالروادف الموضحة، والأشباه المقربة، والاستعارات الممتعة، وسدد المعاني بالبلاغة، أعني لوح منها شيئاً حتى لا تصاب إلا بالبحث عنها والشوق إليها، لأن المطلوب إذا ظفر به على هذا الوجه، عز وجل، وكرم وعلا، واشرح منها شيئاً حتى لا يمكن أن يمترى فيه، أو يتعب في فهمه، أو ينزح عنه لاغتماضه، فبهذا المعنى يكون جامعاً لحقائق الأشياء ولأشباه الحقائق، وهذا باب إن استقصيته خرج عن نمط ما نحن عليه في هذا المجلس، على أني لا أدري، أيؤثر ما أقول أم لا؟ ثم قال: حدثنا، هل فصلتم قط بالمنطق بين مختلفين، أم رفعتم الخلاف بين اثنين؟؟ أتراك بقوة المنطق وبرهانه اعتقدت أن الله ثالث ثلاثة، وأن الواحد أكثر من واحد، وأن الذي هو أكثر من واحد هو واحد، وأن الشرع ما تذهب إليه، والحق ما تقوله؟ هيهات، ههنا أمور ترفع عن دعوى أصحابك وهذياهم، وتدق عن عقولهم وأذهانهم، ودع هذا. ههنا مسألة قد أوقعت خلافاً، فارفع ذلك الخلاف بمنطقك. قال قائل: لفلان من الحائط إلى الحائط. ما الحكم فيه وما قدر المشهود به لفلان؟ فقد قال ناس: له الحائطان معاً وما بينهما. وقال آخرون: له النصف من كل منهما. وقال آخرو: له أحدهما. هات الآن آيتك الباهرة، ومعجزتك القاهرة، وأني لك بهما؟ وهذا قد بان بغير نظرك ونظر أصحابك. ودع هذا أيضاً. قال قائل: من الكلام ما هو مستقيم حسن، ومنه ما هو مستقيم كذب، ومنه ما هو خطأ، فسر هذه الجملة. واعترض عليه عالم آخر فاحكم أنت بين القائل والمعترض، وأرنا قوة صناعتك التي تميز بها بين الخطأ والصواب، وبين الحق والباطل. فإن قلت: كيف أحكم بين اثنين أحدهما قد سمعت مقالته، والآخر لم أحصل على اعتراضه؟. قيل لك: استخرج بنظرك الاعتراض إن كان ما قاله محتملاً له، ثم أوضح الحق منهما، لأ الأصل مسموع لك حاصل عندك. وما يصح به أو يطرد عليه يجب أن يظهر منك، فلا تتعاسر علينا، فإن هذا لا يخفى على أحد من الجماعة، فقد بان الآن أن مركب اللفظ لا يجوز مبسوط العقل. والمعاني معقولة ولها اتصال شديد وبساطة تامة، وليس في قوة اللفظ من أي لغة كان، أن يملك ذلك المبسوط ويحيط به وينصب عليه سوراً، ولا يدع شيئاً من داخله أن يخرج، ولا شيئاص من خارجه أن يدخل، خوفاً من الاختلاط الجالب للفساد، أعني أن ذلك يخلط الحق بالباطل، ويشبه الباطل بالحق، وهذا الذي وقع الصحيح منه في الأول قبل وضع المنطق، وقد عاد ذلك الصحيح في الثاني بهذا المنطق، وأنت لو عرفت العلماء والفقهاء ومسائلهم، ووقفت على غورهم في فكرهم، وغوصهم في استنباطهم، وحسن تأويلهم لما يرد عليهم، وسعة تشقيقهم للوجوه المحتملة، والكنايات المفيدة، والجهات القريبة والبعيدة، لحقرت نفسك، وازدريت أصحابك، ولكان ما ذهبوا إليه وتتابعوا عليه، أقل في عينك من السها عند القمر، ومن الحصا عند الجبل. أليس الكندي وهو علم من أصحابكم، يقول في جواب مسألة: هذا من باب عدة. فعد الوجوه بحسب الاستطاعة على طريق الإمكان من ناحية الوهم بلا ترتيب، حتى وضعوا له مسائل من هذا، وغالطوه بها، وأروه من الفلسفة الداخلة، فذهب عليه ذلك الوضع، فاعتقد أنه مريض العقل، فاسد المزاج، حائل الغريزة، مشوش اللب، قالوا له: أخبرنا عن اصطكاك الأجرام وتضاغط الأركان، هل يدخل في باب وجوب الإمكان، أو يخرج من باب الفقدان إلى ما يخفى عن الأذهان؟.

وقالوا له أيضاً: ما تشبيه الحركات الطبيعية إلى الصور الهيولانية؟ وهل هي ملابسة للكيان في حدود النظر والبيان، أو مزايلة له على غاية الإحكام؟ ما تأثير فقدان الوجدان في عدم الإمكان، عند امتناع الواجب من وجوبه، في ظاهر ما لا وجوب له لاستحالته في إمكان أصله. وعلى هذا، فقد حفظ جوابه عن جميع هذا على غاية الركاكة، والضعف والفساد، والفسالة والسخف، ولولا التوقي من التطويل، لسردت ذلك كله. ولقد مر بي في خطة: التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاط به، لأنه يلاقي الاختلاف في الأصول، والاتفاق في الفروع. وكل ما يكون على هذا النهج، فالنكرة تزاحم عليه المعرفة، والمعرفة تناقض النكرة، على أن النكرة والمعرفة من باب الألسنة العارية من ملابس الأسرار الإلهية، لا من باب الإلهية العارضة في أحوال السرية. ولقد حدثني أصحابنا الصابئون عنه بما يضحك الثكلى، ويشمت العدو، ويغم الصديق، وما ورث هذا كله إلا من بركات اليونان وفوائد الفلسفة والمنطق. ونسأل الله عصمة وتوفيقاً نهتدي بهما إلى القول الراجع إلى التحصيل، والفعل الجاري على التعديل - إنه سميع مجيب - .
قال أبو حيان: هذا آخر ما كتبت عن علي بن عيسي اشيخ الصالح بإملائه، وكان أبو سعيد روى لمعاً من هذه القصة، وكان يقول: لم أحفظ على نفسي كل ما قلت، ولكن كتب ذلك القوم الذي حضروا في ألواح كانت معهم ومحابر أيضاً، وقد اختل كثير منه.
قال علي بن عيسى: وتقوض المجلس، وأهله يتعجبون من جأش أبي سعيد ولسانه المتصرف، ووجهه المتهلل، وفوائده المتتابعة. وقال له الوزير ابن الفرات: عين الله عليك أيها الشيخ، فقد نديت أكباداً، وأقررت عيوناً، وبيضت وجوهاً، وحكت طرازاً لا تبليه الأزمان، ولا يتطرقه الحدثان.
قال: قلت لعلي بن عيسى: وكم كان سن أبي سعيد يومئذ؟ قال: مولده سنة ثمانين ومائتين، وكان له يوم المناظرة أربعون سنة، وقد عبث الشيب بلهازمه، هذا مع السمت والوقار، والدين والجد، وهذا شعار أهل الفضل والتقدم، وقل من تظاهر وتحلى بحليته إلا جل في العيون، وعظم في الصدور والنفوس، وأحبته القلوب، وجرت بمدحه الألسنة. وقلت لعلي بن عيسى، أكان أبو علي الفسوي حاضراً في المجلس؟ قال: لا، كان غائباً وحدث بما كان. وكان الحمد لأبي سعيد على ما فاز به من هذا الخبر المشهور، والثناء المذكور.
قال أبو حيان: وقال لي الوزير عند منقطع هذا الحديث: ذكرتني شيئاً كان في نفسي، وأحببت أن أسألك عنه وأقف عليه، أين أبو سعيد من أبي علي؟ وأين علي بن عيسى منهما؟ وأين المراغي أيضاً من الجماعة؟ وكذلك المرزباني وابن شاذان؟ وابن الوراق وابن حيويه؟ فكان من الجواب ما تقدم ذكره.
ونظير خبر أبي سعيد مع متى، خبره أيضاً مع أبي الحسن العامري الفيلسوف النيسابوري، ذكره أبو حيان أيضاً قال: لما ورد أبو الفتح بن العميد إلى بغداد، وأكرم العلماء استحضرهم إلى مجلسه، ووصل أبا سعيد السيرافي، وأبا الحسن علي بن عيسى الرماني بمال، كما ذكرنا في باب أبي الفتح علي بن محمد ابن العميد.
قال أبو حيان: انعقد المجلس في جمادى الأولى سنة أربع وستين وثلاثمائة، وغص بأهله، فرأيت العامري وقد انتدب فسأل أبا سعيد السيرافي فقال: ما طبيعة الباء من بسم الله؟ فعجب الناس من هذه المطالبة، ونزل بأبي سعيد ما كاد به يشك فيه، فأنطقه الله بالسحر الحلال، وذلك أنه قال: ما أحسن ما أدبنا به بعض الموفقين المتقدمي!. فقال:
وإذا خطبت على الرجال فلا تكن ... خطل الكلام تقوله مختالا
واعلم بأن مع السكوت لبابة ... ومن التكلم ما يكون خبالا
والله يا شيخ، لعينك أكبر من فرارك، ولمرآك أوفى من دخلتك، ولمنثورك أبين من منظومك، فما هذا الذي طوعت له نفسك، وسدد عليه رأيك؟ إني أظن أن السلامة بالسكوت تعافك، والغنيمة بالقول ترغب عنك، والله المستعان. فقال ابن العميد، وقد أعجب بما قال أبو سعيد:
فتى كان يعلو مفرق الحق قوله ... إذا الخطباء الصيد عضل قيلها
جهير وممتد العنان مناقد ... بصير بعورات الكلام خبيرها
وقوله:
القائل القول الرفيع الذي ... يمرع منمه البلد الماحل
والتفت إلى العامري فقال:

وإن لساناً لم يعنه لبابه ... كحاطب ليل يجمع الرذل حاطبه
وذي خطل بالقول يحسب أنه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله
وفي الصمت ستر للغبي وإنما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما
وفي الصمت ستر وهو أولى بذي الحجى ... إذا لم يكن للنطق وجه ومذهب
ثم أقبل على ابن فارس معلمه فقال: لسنا من كلام أصحابك في الفريضة.
قال أبو حيان: فلما خرجنا قلت لأبي سعيد: أرأيت أيها الشيخ ما كان من هذا الرجل الخطير عندنا؟ الكبير في أنفسنا، قال: ما دهيت قط بمثل ما دهيت به اليوم، لقد جرى بيني وبين أبي بشر صاحب شرح كتاب المنطق سنة عشرين وثلاثمائة، في مجلس أبي جعفر ابن الفرات مناظرة، كانت هذه أشوس وأشرس منها.

الحسن بن عبد الله بن سعيد
،
ابن زيد بن حكيم العسكري، أبو أحمد اللغوي العلامة. مولده يوم الخميس لست عشرة ليلة خلت من شوال، سنة ثلاث وتسعين ومائتين، ومات سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة. قال السلفي الحافظ: على ما سمعت أبا عامر غالب بن علي بن غالب الفقيه الأستراباذي بقصر روناش يقول: رأيت بخط أبي حكيم أحمد بن إسماعيل بن فضلان اللغوي العسكري مكتوباً: توفي أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري يوم الجمعة، لسبع خلون من ذي الحجة، سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة.
قال مؤلف الكتاب: وطال تطوافي وكثر تسآلي عن العسكريين، أبي أحمد وأبي هلال، فلم ألق من يخبرني عنهما بجلية خبر، حتى وردت دمشق في سنة اثنتي عشرة وستمائة في جمادى الآخرة، ففاوضت الحافظ تقي الدين إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن بن الأنماطي، النضاري المصري، - أسعده الله بطاعته فيهما - فذكر لي أن الحافظ أبا طاهر أحمد بن محمد بن أحمد ابن إبراهيم السلفي الأصبهاني لما ورد إلى دمشق، سئل عنهما فأجاب فيهما بجواب لا يقوم به إلا مثله من أئمة العلم، وأولي الفضل والفهم، فسألته أن يفيدني في ذلك ففعل متفضلاً، فكتبته على صورة ما أورده السلفي غير المولد والوفاة، فإنه كان في آخر أخبار أبي أحمد، فقدمته على عادتي. وأخبرني بذلك عن السلفي جماعة: منهم الأسعد محمد بن الحسن بن محمد بن عبد الله العامري المقدسي، والنبيه أبو طاهر إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن الأنصاعري، وغيرهما إجازة: قال أبو طاهر السلفي: دخل إلى الشيخ الأمين أبو محمد هبة الله بن أحمد بن الأكفاني بدمشق، سنة عشرة وخمسمائة، وجرى ذكر أبي أحمد العسكري، فذكرت فيه ما يحتمل الوقت، وبعد خروجه كتبت إليه بعد البسملة: أما بعد حمد الله العي، والصلاة على المصطفى النبي، فقد جرى اليوم ذكر الشيخ المرضي، أبي أحمد العسكري، وأنشدت للصاحب الكافي لله شعراً، خاله سيدي سحراً، ورام - حرس الله نمته، وكبت بالذل عندته - إثباته بتمامه، فاشتغلت به بعد نهوضه وقيامه، وأضفت إليه وإلى ذكر الشيخ أبي أحمد زيادة تعريف ليقف على جلية حاله، كأنه ينظر إليه نم وراء ستر لطيف. فليعلم - أطال الله لكافة الأنام بقاءه، ولا سلبهم ظله وبهاءه - : أن الشيخ أبا أحمد هذا، كان من الأئمة المذكورين بالتصرف في أنواع الفنون، والتبحر في فنو الفهوم، ومن المشهورين بجودة التأليف وحسن التصنيف. ومن جملته: كتاب صناعة الشعر رأيته، كتاب الحكم والأمثال، كتاب راحة الأرواح، كتاب الزواجر والمواعظ، كتاب تصحيح الوجوه والنظائر. وكان قد سمع ببغداد والبصرة وأصبهان وغيرها من شيخته، وفي عدادهم أبو القاسم البغوي، وابن أبي داود السجستاني، وأكثر عنهم وبالغ في الكتابة، وبقي حتى علا به السن، واشتهر في الآفاق بالدراية والإتقان، وانتهت إليه رياسة التحديث، والإملاء للآداب والتدريس، بقطر خوزستان. ورحل الأجلاء إليه للأخذ عنه، والقراءة عليه. وكان يملي بالعسكر، وتستر ومدن ناحيته: ما يختاره من عالي روايته عن متقدمي شيوخه. ومنهم أبو محمد عبدان الأهوازي، وأبو بكر بن دريد، ونفطويه، وأبو جعفر ابن زهير ونظراؤهم.

ومن متأخري أصحابه الذين رووا عنه الحديث ومتقدميهم أيضاً فإني ذكرتهم على غير رتبهم كما جاء لا كما يجب: أبو عباد الصائغ التستري، وذو النون بن محمد، والحسين بن أحمد الجهرمي، وابن العطار الشروطي الأصبهاني، وأبو بكر أحمد بن محمد بن جعفر الأصبهاني المعروف باليزدي، وأبو الحسين علي بن أحمد بن الحسن البصري المعروف بالنعيمي الفقيه الحافظ، وأبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم المقرئ الأهوازي نزيل دمشق، إلا أنه قد انقلب عليه اسمه فيقول في تصانيفه: أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن الحسن بن سعيد النحوي بعسكر مكرم قال: أخبرنا محمد بن جرير الطبري ونميره، وهو الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري لا عبد الله بن الحسن: وقد روى عنه أبو سعد أحمد بن محمد بن عبد الله بن الخليل الماليني، وأبو الحسين محمد ابن الحسن بن أحمد الأهوازي شيخاً أبي بكر الخطيب الحافظ البغدادي، وخلق سواهم لا يحصون كثرة، لم أثبت اسماءهم احترازاً من وهم ما، واحتياطاً لبعد العهد بروايات تلك الديار. والنعيمي والأهوازي روى عنهما الخطيب أيضاً، وكذلك روى عن أبي نعيم الأصفهاني الحافظ. وقد روى أبو نعيم عن أبي أحمد كثيراً.
وممن روى عن أبي أحمد من أقران أبي نعيم: أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الوادعي، وعبد الواحد بن أحمد ابن محمد الباطرقاني، وأبو الحسن أحمد بن محمد بن زنجويه الأصفهانيون، وأبو عبد الله محمد بن منصور بن جيكان التستري، والقاضي أبو الحسن علي بن عمر بن موسى الأيذجي، وأبو سعيد الحسن بن علي بن بحر السقطي التستري.
وروى عنه ممن هو أكبر من هؤلاء سناً وأقدم موتاً: أبو محمد خلف بن محمد بن علي الواسطي، وأبو حاتم محمد بن عبد الواحد الرازي المعروف باللبان، وهما من حفاظ الحديث.
وقد روى عنه الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي بخراسان بالأجازة، وكذلك القاضي أبو بكر بن الباقلاني المتكلم بالعراق، وقد وقع حديثه لي عالياً من طرق عدة. فمن ذلك حكاية رأيتها الآن معي في جزء من تخريجي بخطي وهي: أخبرنا الشيخ أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار ابن أحمد الصيرفي ببغداد، حدثنا الحسن بن علي بن أحمد التستري من لفظه بالبصرة، حدثنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري إملاء بتستر، حدثنا العباس ابن الوليد بن شجاع بأصبهان، حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري حدثنا محمد بن عمرو بن مكرم، حدثني عتبة بن حميد قال: قال بشر بن الحارث لما ماتت أخته: إذا قصر العبد في طاعة ربه سلبه أنيسه. قال أبو أحمد العسكري في كتاب شرح التصحيف من تصنيفه، وقد ذكر ما يشكل ويصحف من أسماء الشعراء فقال: وهذا باب صعب لا يكاد يضبطه إلا كثير الرواية، غزير الدراية.
وقال أبو الحسن علي بن عبدوس الأرجاني - رحمه الله - وكان فاضلاً متقدماً وقد نظر في كتابي هذا، فلما بلغ إلى هذا الباب قال لي: كم عدة أسماء الشعراء الذين ذكرتهم. قلت: مائة ونيف. فقال: إني لأعجب كيف استتب لك هذا؟! فقد كنا ببغداد والعلماء بها متوفرون. وذكر أبا إسحاق الزجاج، وأبا موسى الحامض، وأبا بكر الأنباري، واليزيدي، وغيرهم. فاختلفنا في اسم شاعر واحد وهو حريث بن مخفض، وكتبنا أربع رقاع إلى أربعة من العلماء، فأجاب كل واحد منهم بما يخالف الآخر. فقال بعضهم: مخفض بالخاء والضاد المعجمتين. وقال بعضهم: محفص بالحاء والصاد غير معجمتين، وقال آخر: ابن مخفض. فقلنا: ليس لهذا إلا أبو بكر بن دريد، فقصدناه في منزله وعرفناه ما جرى.
فقال ابن دريد: أين يذهب بكم؟ هذا مشهور، هو حريث بن محفض بالحاء غير معجمة مفتوحة والفاء مشددة والضاد منقوطة، هو من بني تميم، ثم من بني مازن بن عمرو بن تميم وهو القائل:
ألم تر قومي إن دعوا لملمة ... أجابوا، وإن أغضب على القوم يغضبوا
هم حفظوا غيبي كما كنت حافظاً ... لقومي أخرى مثلها إن تغيبوا
بنو الحرب لم تقعد بهم أمهاتهم ... وآباؤهم آباء صدق فأنجبوا
وتمثل الحجاج بهذه الأبيات على منتزه فقال: أنتم يأهل الشاعم كما قال حريث بن محفض - وذكر هذه الأبيات - فقام حريث بن محفض فقال: أنا والله حريث ابن محفض. قال: فما حملك أن سابقتني؟ قال: لم أتمالك إذ تمثل الأمير بشعري حتى أعلمته مكاني.

ثم قال أبو الحسن بن عبدوس: فلم يفرج عنا غيره. قال أبو أحمد: واجتمع يوماً في منزلي بالبصرة أبو رياش وأبو الحسين بن لنكك - رحمهما الله - فتقاولا، فكان فيما قال أبو رياش لأبي الحسين: أنت كيف تحكم على الشعر والشعراء وليس تفرق بين الزفيان والرقبان؟ فأجاب أبو الحسين ولم يقنع ذاك أبا رياش، وقاما على شغب وجدال.
قال أبو أحمد: فأما الرقبان بالراء والقاف وتحت الباء نقطة: فشاعر جاهلي قديم يقال له أشعر الرقبان وأما الزفيان بالزاي والفاء وتحت الياء نقطتان: فهو من بني تميم من بني سعد بن زيد مناة بن تميم يعرف بالزفيان السعدي، راجز كثير الشعر، وكان على عهد جعفر بن سليمان، وهو الزفيان بن مالك بن عوافة القائل:
وصاحبي ذات هباب دمشق ... كأنها بعد الكلال زورق
قال: وذكر أبو حاتم آخر يقال له الزفيان، وأنه كان مع خالد بن الوليد حين أقبل من البحرين، فقال:
تهدى إذا خوت النجوم صدورها ... ببنات نعش أو بضوء الفرقد
فقد أخبرنا به أبو الحسين بن الطيوري ببغداد قال: حدثنا أبو سعيد السقطي بالبصرة قال: أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد بن إسماعيل بن زيد بن حكيم العسكري إملاء سنة ثمانين وثلاثمائة بتستر، فذكر مجالس من أماليه هي عندي، وقرأت على أبي علي أحمد بن الفضل بن شهريار بأصبها عن السقطي: هذه فوائد عن أبي أحمد وغيره. وأما الأبيات المقصودة فعندي في أجزاء أذربيجان على نسق لا أذكر موضعها، إلا أن فيها قصة معناها: أن الصاحب أبا القاسم إسماعيل بن عباد بن العباس الوزير، كان يتمنى لقاء أبي أحمد العسكري، ويكاتبه على ممر الأوقات، ويستميل قلبه فيعتل عليه بالشيخوخة والكبر، إذ عرف أنه يعرض بالقصد إليه والوفود عليه. فلما يئس منه احتال في جذب السلطان إلى ذلك الصوب وكتب إليه حين قرب من عسكر مكرم كتاباً يتضمن علوماً نظماً ونثراً، ومما ضمنه من المنظوم قوله:
ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم ... ضعفنا فما نقوى على الوخدان
أتيناكم من بعد أرض نزوركم ... وكم منزل بكر لنا وعوان
نسائلكم هل من قرىً لنزيلكم؟ ... بملء جفون لا بملء جفان
فلما قرأ أبو أحمد الكتاب، أقعد تلميذاً له فأملى عليه الجواب عن النثر نثراً، وعن النظم نظماً، وبعث به إليه في الحال، وكان في آخر جواب أبياته التي ذكر على الحال: وقد حيل بين العير والنزوان وهو تضمين، إلا أن الصاحب استحسنه ووقع ذلك منه موقعاً عظيماً وقال: لو عرفت أن هذا المصراع يقع في هذه القافية لم أتعرض لها، وكنت قد ذهلت عنه وذهب علي. ثم إن أبا أحمد قصده وقت حلوله بعسكر مكرم بلده ومعه أعيان أصحابه وتلامذته في ساعة لا يمكن الوصول إليه إلا لمثله، وأقبل عليه بالكلية بعد أن أقعده في أرفع موضع من مجلسه، وتفاوضا في مسائل فزادت منزلته عنده، وأخذ أبو أحمد منه بالحظ الأوفر، وأدر على المتصلين به إدراراً كانوا يأخذونه إلى أن توفي. - وبعد وفاته أيضاً فيما أظن - ، ولما نعي إليه أنشد فيه:
قالوا مضى الشيخ أبو أحمد ... وقد رثوه بضروب الندب
فقلت: ما من فقد شيخ مضى ... لكنه فقد فنون الأدب
ثم ذكر السلفي وفاته كما تقدم، هذا آخر ما ذكره من خبر أبي أحمد، هذا كله من كتاب السلفي، ثم وجدت ما أنبأني به أبو الفرج بن الجوزي عن ابن ناصر ع أبي زكريا التبريزي، وعن أبي عبد الله بن الحسن الحلواني، عن أبي الحسن علي بن المظفر البندنيجي قال: كنت أقرأ بالبصرة على الشيوخ، فلما دخلت سنة تسع وسبعين وثلاثمائة إلى الأهواز، بلغني حال أبي أحمد العسكري، فقصدته وقرأت عليه، فوصل فخر الدولة والصاحب بن عباد، فبينا نحن جلوس نقرأ عليه وصل إليه ركابي ومعه رقعة ففضها وقرأها وكتب على ظهرها جوابها، فقلت أيها الشيخ: ما هذه الرقعة؟ فقال: رقعة الصاحب كتب إلي:
ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم ... ضعفنا فما نقوى على الوخدان
الأبيات الثلاثة المتقدمة. قلت: فما كتبت إليه في الجواب؟ قال قلت:
أروم نهوضاً ثم يثني عزيمتي ... تعوذ أعضائي من الرجفان
فضمنت بيت ابن الشريد كأنما ... تعمد تشبيهي به وعناني

أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
قال: ثم نهض وقال: لابد من الحمل على النفس، فإن الصاحب لا يقنعه هذا، وركب بغلة وقصده، فلم يتمكن من الوصول إلى الصاحب لاستيلاء الحشم، فصعد تلعة ورفع صوته بقول أبي تمام.
مالي أرى القبة الفيحاء مقفلة ... دوني وقد طال ما استفتحت مقفلها
كأنها جنة الفردوس معرضة ... وليس لي عمل زاك فأدخلها
قال: فناداه الصاحب: ادخلها يا أبا أحمد فلك السابقة الأولى، فتبادر إليه أصحابه فحملوه حتى جلس بين يديه، فسأله عن مسألة فقال أبو أحمد: الخبير صادفت، فقال الصاحب يا أبا أحمد: تغرب في كل شيء حتى في المثل السائر؟ فقال: تفاءلت عن السقوط بحضرة مولانا وإنما كلام العرب سقطت، ووجدت بعد ذلك أنه توفي في سنة سبع وثمانين وثلاثمائة.
وحدث ابن نصر قال: حدثني أبو أحمد العسكري بالبصرة، قال: كان أبو جعفر المجوسي عامل البصرة رجلاً واسع النفس، وكان يتعاهد الشعراء ويراعيهم، مثل العصفري والنهرجوري وغيرهم وهم يهجونه، وكان هذا - وهذان خصوصاً - من أوضاعهم، وقد رأيت النهرجوري قال: فلما مات أبو الفرج رثاه النهرجوري بقوله:
يا ليت شعري وليت ربما ... صحت فكانت لنا من العبر
هل أرين شوثناً وأمته ... رابكة حوله على البقر
يقدمهم أربعون لبسهم ... مع حلية الحرب حلة النمر
وأنت فيهم قد ابترزت لنا ... كالشمس في نروها أو القمر
قد نكحوا الأمهات واتكلوا ... على عقيق الأبوال في الطهر
وشارفوا والنساء قد ولدت ... غسل مضاريطها من الوضر
وأصبحوا أشبه البرية بالظ ... ظرف وأولى بكل مفتخر
شوثن عند المجوس، يجري مجرى المهدي، ويزعمون أنه يخرج وقدامه أربعون نفساً، على كل منهم جلد النمر، فيعيدون دين النور. قال: فقلت يا أبا أحمد، هذه بالهجاء أشبه منها بالمرثية بكثير. قال: هكذا قصد النهرجوري - لا بارك الله فيه - وقد عاتبته وقلت له: ما استحق أبو جعفر هذا منك. فقال: ما تعديت مذهبه الذي يعترف به.
ووجدت في تاريخ أصفهان من تأليف الحافظ أبي نعيم قال: الحسن بن عبد الله بن سعيد بن الحسين، ابو أحمد العسكري الأديب أخو أبي علي قدم أصبهان قديماً، وسمع من الفضل بن الخصيب وسمع عنه أبي وابن زهير وغيرهما، تأخر موته توفي في صفر سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة.

الحسن بن عبد الله بن سهل
ابن سعيد بن يحيى، بن مهران، أبو هلال اللغوي العسكري. قال أبو طاهر السلفي: وكان لأبي أحمد تلميذ وافق اسمه اسمه، واسم أبيه اسم أبيه، وهو عسكري أيضاً، فربما اشتبه ذكره بذكره إذا قيل الحسن بن عبد الله العسكري الأديب، فهو أبو هلال الحسن بن عبد الله ابن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران اللغوي العسكري، سألت الرئيس أبا المظفر محمد بن أبي العباس الأبيوردي - رحمه الله - بهمذان عنه، فأثنى عليه ووصفه بالعلم والفقه معاً وقال: كان يبرز احترازاً من الطمع والدناءة والتبذل، وذك فيه فصلاً هو في سؤالاتي عنه، وكان الغالب عليه الأدب والشعر. وله في اللغة: كتاب سماه بالتلخيص وهو كتاب مفيد، وكتاب صناعتي النظم والنثر وهو أيضاً كتاب مفيد جداً، ومن جملة من روى عنه أبو سعد السمان الحافظ بالري، وأبو الغنائم بن حماد المقرئ إملاء.
وأنشدني أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري لنفسه:
قد تخطاك شباب ... وتغشاك مشيب
فأتى ما ليس يمضي ... ومضى ما لا يئوب
فتأهب لسقام ... ليس يشفيه طبيب
لا توهمه بعيداً ... إنما الآتي قريب
ومما أنشدنا القاضي أبو أحمد الموحد بن محمد بن عبد الواحد الحنفي بتستر قال: أنشدنا ابو حكيم أحمد ابن إسماعيل العسكري قال: أنشدناه أبو هلال الحسن ابن عبد الله بن سهل اللغوي لنفسه بالعسكر:
إذا كان مالي مال من يلقط العجم ... وحالي فيكم حال من حاك أو حجم
فأين انتفاعي بالأصالة والحجى ... وما ربحت كفي من العلم والحكم؟
ومن ذا الذي في الناس يبصر حالتي ... فلا يلعن القرطاس والحبر والقلم

ومما أنشدنا القاضي أبو أحمد الحنفي بتستر قال: أنشدنا أبو حكيم اللغوي قال: أنشدنا أبو هلال العسكري لنفسه:
جلوسي في سوق أبيع وأشتري ... دليل على أن الأنام قرود
ولا خير في قوم تذل كرامهم ... ويعظم فيهم نذلهم ويسود
ويهجوهم عني رثاثة كسوتي ... هجاء قبيحاً ما عليه مزيد
ومما أنشدناه أبو غالب الحسين بن أحمد بن الحسين القاضي بالسوس قال: أنشدنا المظفر بن طاهر بن الجراح الأستراباذي قال: أنشدني أبو هلال الحسن بن عبد الله ابن سهل اللغوي العسكري لنفسه:
يا هلالاً من القصور تدلى ... صام وجهي لمقلتيه وصلى
لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلى؟؟
لو تفرغت لاستطالة ليلى ... ولرعي النجوم كنت مخلاً
هذا آخر ما ذكره السلفي من حال أبي هلال. قال مؤلف الكتاب: وهذه الأبيات الأخيرة التي منها:
لست أدري أطال ليلي أم لا
والبيت الذي بعده رأيته في بعض الكتب منسوباً إلى خالد الكاتب والله أعلم. هذا عن السلفي. وذكر غيره: أن أبا هلال كان ابن أخت أبي أحمد، وله من الكتب بعد ما ذكره السلفي: كتاب جمهرة الأمثال، كتاب معاني الأدب، كتاب من احتكم من الخلفاء إلى القضاة، كتاب التبصرة وهو كتاب مفيد، كتاب شرح الحماسة، كتاب الدرهم والدينار، كتاب المحاسن في تفسير القرآن خمس مجلدات، كتاب العمدة، كتاب فضل العطاء على العسر، كتاب ما تحلن فيه الخاصة، كتاب أعلام المعاني في معاني الشعر، كتاب الأوائل، كتاب ديوان شعره، كتاب الفرق بين المعاني، كتاب نوادر الواحد والجمع. قال المؤلف: وأما وفاته فلم يبلغني فيها شيء، غير أني وجدت في آخر كتاب الأوائل من تصنيفه: وفرغنا من إملاء هذا الكتاب يوم الأربعاء لعشر خلت من شعبان سنة خمس وتسعين وثلاثمائة. ولبعضهم:
وأحسن ما قرأت على كتاب ... بخط العسكري أبي هلال
فلو أني جعلت أمير جيش ... لما قاتلت إلا بالسؤال
فإن الناس ينهزمون منه ... وقد ثبتوا لأطراف العوالي
وقال أبو هلال العسكري في تفضيل الشتاء على غيره من الأزمة:
فترت صبوتي وأقصر شجوي ... وأتاني السرور من كل نحو
إن روح الشتاء خلص روحي ... من حرور تشوي الوجوه وتكوي
برد الماء والهوا وكأن قد ... سرق البرد من جوانح خلو
ريحه تلمس الصدور فتشفي ... وغماماته تصوب فتروي
لست أنسى منه دماثة دجن ... ثم من بعده نضارة صحو
وجنوباً يبشر الأرض بالقط ... ر كما بشر العليل ببرو
وغيوماً مطرزات الحواشي ... بوميض من البروق وخفو
كلما أرخت السماء عراها ... جمع القطر بين سفل وعلو
وهي تعطيك حين هبت شمالاً ... برد ماء فيها ورقة جو
وترى الأرض في ملاءة ثلج ... مثل ريط لبسته فوق فرو
فاستعار العرار منها لباساً ... سوف يمنى من الرياح بنضو
فكأن الكافور موضع ترب ... وكأن الجمان موضع فرو
وليال أطلن مدة درسي ... مثلما قد مددن في عمر لهوي
مر لي بعضها بفقه وبعض ... بين شعر أخذت فيه ونحو
وحديث كأنه عقد ريا ... بت أرويه للرجال وتروى
في حديث الرجال روضة أنس ... بات يرعى بأهل نبل وسرو

الحسن بن عبد الله العثماني

أبو علي النيسابوري. ذكره عبد الغافر في كتاب السياق وقال: إنه مات في شهور سنة نيف وسبعين وأربعمائة. ووصفه فقال: هو الإمام الكامل البارع في فنه، المعجز في نكته، له التصانيف المشهورة في التذكير والخطب وطرف الأشعار والرسائل والموشحات الغريبة، والصناعات البديعة، والترصيعات الرشيقة في النظم والنثر، بحيث يستفيد منها الأكابر والأماثل، ويستضيء بنورها البلغاء في المحافل. تفقه على الجويني، ثم انتقل إلى ناحية بشت وسكنها، ووافى بها قيولاً بالغاً، فصار مشاراً إليه في عصره تحترمه الصدور. قال: وافيت الناحية فرأيت ازدحاماً على قبره في الموسم وتناحراً عليه، وكان أكثر ميله إلى مقولاته في تصانيفه ومجموعاته نظماً ونثراً دون المنقول.

الجزء التاسع
الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي
أبو محمد القاضي. ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: هو حسن التصنيف مليح التأليف، سلك طريقة الجاحظ وكان شاعراً، وقد سمع الحديث ورواه.
مات في حدود سنة ستين وثلاثمائةٍ. قال: وله من الكتب: كتاب ربيع المتيم في أخبار العشاق. كتاب الفلك في مختار الأخبار والأشعار. كتاب أمثال النبي صلى الله عليه وسلم. كتاب الريحانتين الحسن والحسين. كتاب إمام التنزيل في علم القرآن. كتاب النوادر والشوارد. كتاب أدب الناطق. كتاب المرائي والتعازي. كتاب رسالة السفر. كتاب مباسطة الوزراء. كتاب المناهل والأعطان والحنين إلى الأوطان. كتاب الفاصل بين الراوي والواعي.
وكان القاضي الخلادي من أقران القاضي التنوخي، وقد مدح عضد الدولة أبا شجاعٍ بمدائح، وبينه وبين الوزير المهلبي وأبي الفضل بن العميد مكاتبات ومجاوبات، منها ما نقلته من مزيد التاريخ لأبي الحسن محمد بن سليمان بن محمدٍ، الذي زاده على تاريخ السلامي في ولاة خراسان.
قال: حدثني عبد الله بن إبراهيم قال: لما استوزر أبو محمد المهلبي كتب إليه أبو محمد الخلادي في التهنئة: " بسم الله الرحمن الرحيم " الحمد لله مانح الجزيل، ومعود الجميل، ذي المن العظيم، والبلاء الجسيم:
الآن حين تعاطى القوس باريها ... وأبصر السمت في ظلماء ساريها
الآن عاد إلى الدنيا مهلبها ... سيف الخلافة بل مصباح داجيها
أضحى الوزراة تزهى في مواكبها ... زهو الرياض إذا جاءت غواديها
تاهت علينا بميمون نقيبته ... قلت لمقداره الدنيا وما فيها
موفق الرأي مقرون بغرته ... نجم السعادة يرعاها ويحميها
معز دولتها هنئتها فلقد ... أيدتها بوثيق من رواسيها
تهنئة مثلى من أولياء الوزير - أطال الله بقاءه - الدعاء أفضله ما صدر عن نيةٍ لا يرتاب بها ولا يخشى مذقها، وكان غيب صاحبه أفضل من مشهده، فهنأ الله الوزير كرامته، وأحلى له ثمرة ما منحه، وأحمد بدأه وعاقبته، ومفتتحه وخاتمته، حتى تتصل المواهب عنده اتصالاً في مستقبله ومستأنفه يوفى على متقدمه بمنه.
وكتابي هذا - أيد الله الوزير - من المنزل برامهرمز، وأنا عقيب علةٍ ومنحةٍ، ولولا ذلك لم أتأخر عن حضرته - أجلها الله - مهنئاً ومسلماً، فإن رأى الوزير شرفني بجواب هذا الكتاب. فكتب إليه المهلبي جوابه: بسم الله الرحمن الرحيم، وصل كتابك يا أخي - أطال الله بقاءك، وأدام عزك وتأييدك ونعماك - المتضمن نفيس الجواهر من بحار الخواطر، الحاوي ثمار الصفاء من منبت الوفاء وفهمته، ووقع ما أهديته من نظمٍ ونثرٍ وخطابٍ وشعرٍ، موقع الري من ذي الغلة، والشفاء من ذي العلة، والفوز من ذي الخيبة، والأدب من ذي الغيبة، وما ضاءت حال إلا وأنت الأولى بسرورها، والأغبط بحبورها، إذ كنت شريك النفس في السراء وماسيها في الضراء، وتكلفت الإجابة عما نظمت على كثرة من الشغل ألا عنك، وزهدٍ في المطاولة إلا فيك. والعذر في تقصيرها عن الغاية واضح، ودليل العجلة فيها لائح، وأنت بمواصلتي بكتبك وأخبارك وأوطارك مسؤول، والجرى على عادتك المأثورة وسيرتك المشكورة مأمول، وأنا والله على أفضل عهدك، وأحسن ظنك، وأوكد ثقتك، ومشتاق إليك:
مواهب الله عندي لا يوازيها ... سعي ومجهود وسعى لا يدانيها
لكن أقصى المدى شكري لأنعمه ... وتلك أفضل قربى عند مؤتيها

والله أسأل توفيقاً لطاعته ... حتى يوافق فعلى أمره فيها
وقد أتتني أبيات مهذبة ... ظريفة جزلة وقت حواشيها
ضمنتها حسن أوصافٍ وتهنئةٍ ... أنت المهنى بباديها وتاليها
ودعوة صدرت عن نيةٍ خلصت ... لا شك فيها أجاب الله داعيها
وأنت أوثق موثوقٍ بنيته ... وأقرب الناس من حالٍ نرجيها
فثق بنيل المنى في كل منزلةٍ ... أصبحت تعمرها عندي وتبنيها
وكتب أبو الفضل محمد بن الحسين بن العميد إلى القاضي أبي محمد الخلادي: بسم الله الرحمن الرحيم: أيها القاضي الفاضل - أطال الله بقاك، وأدام عزك ونعماك - . من أسر داءه وستر ظماءه، بعد عليه أن يبل من غلته، وقد غمرني منذ قرأت كتابك إلى الشريف - أيده الله - شوق استجذب نفسي واستفزها، ومد جوانحي وهزها، ولا شفاء إلا قربك ومجالستك، ولا دواء إلا طلعتك ومؤانستك، ولا وصول إلى ذلك إلا بزيارتك أو استزارتك، فإن رأيت أن تؤثر أخفهما عليك، وتعلمني آثرهما لديك، وتقوم ما ألبسته في ذلك فعلت، فإني أراعيه أشد المراعاة، وأتطلعه في كل الأوقات، وأعد على الفوز به الساعات. فأجابه الخلادي: " بسم الله الرحمن الرحيم " : قرأت التوقيع - أطال الله الأستاذ الرئيس - فشحذ الفطنة وآنس الوحدة، وألبس العزة وأفاد البهجة، وقلت كما قال رؤبة، لما استزاره أبو مسلمٍ صاحب الدعوة:
لبيك إذا دعوتني لبيكا ... أحمد ربي سابقاً إليكا
فأما الإجابة عن أفصح بيانٍ خط بأكرم بنانٍ، وأوضح للزهر المؤنق لمالك رقاب المنطق، فما أنا منها بقريب وهيهات وأنى لي التناوش من مكانٍ بعيدٍ لكني على الأثر، ولا أتأخر عن الوقت المنتظر، إن شاء الله تعالى.
قال: وكان أبو محمدٍ الخلادي ملازماً لمنزله، قليل البروز لحاجته. وقيل له في ذلك: فروى عن أبي الدرداء: نعم صومعة الرجل بيته، يكف فيه سمعه وبصره. وروى عن ابن سيرين أنه قال: العزلة عبادة. وقال: خلاؤك أقنى لحياتك. وقال: عز الرجل في استغنائه عن الناس، والوحدة خير من جليس لبسوء. وأنشد لابن قيس الرقيات:
اهرب بنفسك واستأنس بوحدتها ... تلق السعود إذا ما كنت منفردا
ليت السباعلنا كانت معاشرةً ... وإننا لا نرى ممن نرى أحدا
إن السباع لتهدا في مرابضها ... والناس ليس بهادٍ شرهم أبدا
ثم صار الخلادي إلى أبي الفضل بن العميد، فلما فتشه شاهد منه علماً غزيراً، وقبس أدباً كثيراً. وقال الخلادي: إن أعجب الأستاذ معرفتي صحبته، وتعلقت به وأقمت عنده وبين يديه. وكتب الخلادي إلى منزله برامهرمز: " بسم الله الرحمن الرحيم " : قد وردت من الأستاذ الرئيس على ضياء باهرٍ، وربيع زاهرٍ، ومجلس قد استغرق جميع المحاسن، وحف بالأشراف والأكارم، وجلساء أقرانٍ أعداد عامٍ، كأنهم نجوم السماء، ومن طالبيٍ أرج المعاطف، وصلب المكاسر، جامعٍ إلى شرف الحسب ديناً وظرفاً، وإلى كرم المحتد رحمةً وفضلاً، وكاتبٍ حصيفٍ، وشاعرٍ مفلقٍ، وسميرٍ آنق وفقيهٍ جدلٍ، وشجاعٍ بطلٍ:
كرام المساعي لا يخاف جليسهم ... إذا نطق العوراء غرب لسان
إذا حدثوا لم تخش سوء استماعهم ... وإن حدثوا أدوا بحسن بيان
ووضعنا الزيارة حيث لا يزرى بنا كرم المزور ولا يعاب الزور. يجد الأستاذ عندي كل يومٍ مكرمةً وميرةً تطويان مسافة الرجاء، وتتجاوزان غايات الشكر والثناء، والبشر والدعاء، فزاد الله في تبصيره حقوق زواره، وتيسيري لشكري مباره.
قال الثعالبي: ومن ملح ما قيل في ابن خلادٍ قوله:
قل لابن خلادٍ إذا جئته ... مستنداً في المسجد الجامع
ها زمان ليس يحظى به ... حدثنا الأعمش عن نافع
ومن ملحه قوله وقد طولب بالخراج:
يا أيها المكثر فينا الزمجرة ... ناموسه دفتره والمحبره
قد أبطل الديوان كتب الشجره ... والجامعين كتاب الجمهره
هيهات لن يعبر تلم القنطره ... نحو الكسائي وشعر عنتره
ودغفل وابن لسان الحمره ... ليس سوى المنقوشة المدوره

ذكر السمعاني في كتاب النسب، قال القاضي أبو محمدٍ الحسن بن عبد الرحمن بن خلادٍ الرامهرمزي: كان فاضلاً مكثراً من الحديث، ولي القضاء ببلاد الخوز ورحل قبل التسعي ومائتين، وكتب عن جماعةٍ من أهل شيراز، ذكره أو عبد الله محمدبن عبد العزيز الشيرازي القصار في تاريخ فارس وقال: بلغني أنه عاش برامهرمز إلى قرب الستين وثلاثمائةٍ.

الحسن بن عثمان بن حماد
بن حسان بن عبد الرحمن ابن يزيد، أبو حسان الزيادي البغدادي القاضي، من أعيان أصحاب الواقدي، وروى عن الهيثم بن عدي، وهشيم بن بشير وغيرهما، وكان أديباً فاضلاً نسابةً، أخبارياً جواداً كريماً سمحاً. مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين، أو ثلاثٍ وأربعين ومائتين عن تسعً وثمانين سنةً، مات هو والحسن بن علي بن الجعد في وقتٍ واحدٍ، وكان الزيادي حينئذٍ على قضائه مدينة المنصور، وكان الزيادي يصنف الكتب ويصنف له، وكانت له خزانة كتبٍ حسنةٍ كثيرةٍ، وله من الكتب على ما ذكر محمد بن إسحاق: كتاب عروة بن الزبير. كتاب طبقات الشعراء. كتاب الآباء والأمهات. وقال الحافظ أبو القاسم: سمع بدمشق الوليد بن مسلمٍ، وشعيب بن إسحاق، وعمر بن عبد الواحد، وعمر بم سعيدٍ، والوليد بن محمدٍ الموقري، ومعروف بن عبد الله الخياط، وهارون بن عمر الدمشقي، ومحمد بن إسحاق بن بلال بن أبي الدرداء، وسعيد بن عيينة، وشعيب بن صفوان، وابن عيينة، ومعتمر بن سليمان، وجرير بن عبد الحميد، وحماد بن زيدٍ، ووكيع بن الجراح، وأبا داود الطيالسي. روى عنه أبو العباس الكديمي، وإسحق بن الحسن الحربي، ومحمد بن محمدٍ الباغندي، وأبو بكر بن أبي الدنيا، وذكر الجهشياري في كتاب الوزراء: أن رجلاً من أهل خراسان أودع أبا حسان الريادي القاضي عشرة آلاف درهمٍ، وأنها صادفت منه خلةً فأنفقها، وقدّر أن يأتي ما يرد على الخراساني مكانها إلى أن ينصرف الخراساني من الحج، فحدث للخراساني أمر قطعه عن الحج وعزم على الانصراف إلى بلده، فصار إلى أبي حسان يلتمس ماله، فتعلل عليه ودافعه وتحير، وضاقت الحيلة عليه، وعاد الخراساني مراراً فدافعه، ثم وعده في يومٍ بعينه، واشتد غمه وقلقه، وأجنع على بذل وجهه إلى بعض إخوانه، فلما كان في ليلة اليوم الذي وعد الرجل فيه، امتنع عليه النوم من شدة قلقه، فقام في بعض الليل فقصد دينار بن عبد الله، فلما صار في بعض الطريق تلقاه رسول لدينارٍ يسأل عن أبي حسان، فلما سمع ذكره سأله عن سببه، وتعرف إليه فقال له: أبو عليٍ دينار يقرأ عليك السلام ويقول لك: قسمت شيئاً على عيالنا، وذكرت من في منزلك منهم، فوجهت إليهم بعشرة آلاف درهمٍ، فقبلها وحمد الله وصار إلى منزله فسلمها إلى الخراساني، وصار إلى دينار بن عبد الله شاكراً له وعرفه خبره. فقال له دينار: فأرانا إنما وجهنا بمال الخراساني، فعلى ماذا يعتمد العيال؟ وأمر له بعشرة آلاف درهم أخرى.
وفي سنة ثمان عشرة ومائتين: كتب المأمون من الثغر إلى إسحاق بن ابراهيم المصعبي وإلى بغداد، في امتحان القضاة والشهود والمحدثين بالقرآن، فمن أقر أنه خلوق محدث خلى سبيله، ومن أبى عليه أعلمه به ليأمر فيه برأيه، فأحضر إسحاق أبا حسانً الزيادي، وبشر بن الوليد الكندي، وعلي بن أبي مقاتلٍ، والفضل بن غانمٍ، والذيال بن هيثمٍ وسجادة، والقواريري، وأحمد بن حنبلٍ، وقتيبة، وسعدويه الواسطي، وعلي بن الجعد، وسعد بن أبي إسرائيل، وابن الهرش، وابن علية الأكبر، ويحيى بن عبد الرحمن الرياشي، وشيخاً آخر من ولد عمر بن الخطاب كان قاضي الرقة، وأبا نصير التمار وأبا معمرٍ القطيعي، ومحمد بن حاتم بن ميمونٍ ومحمد بن نوحٍ المضروب، وابن فرحان وجماعةً، ومنهم النضر ابن شميلٍ، وأبو عليٍ عاصم، وأبو العوام البزاز، وابن شجاعٍ، وعبد الرحمن بن إسحاق، فأدخلوا على إسحاق فقرأ عليهم كتاب المأمون مرتين حتى فهموه، ثم كلم رجلاً رجلاً منهم، فيجيب بما يغالط به أو يصرح، حتى قال لأبي حسانٍ الزيادي: ما عندك؟ وقرأ عليه كتاب المأمون فأقر بما فيه ثم قال: من لم يقل هذا القول فهو كافر.

فقال له إسحاق: القرآن مخلوق هو؟ قال: القرآن كلام الله، والله خالق كل شيءٍ، وأمير المؤمنين إمامنا، وبسببه سمعنا عامة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وقد قلده الله أمرنا، فصار يقيم حجنا وصلاتنا، ونؤدي إليه زكوات أموالنا، ونجاهد معه، ونرى إمامته، فإن أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا. قال: القرآن مخلوق؟ فأعاد مقالته. قال إسحاق: فإن هذه مقالة أمير المؤمنين. قال: قد تكون مقالته ولا يأمر بها الناس، وإن أخبرتني أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول: قلت ما أمرتني به، فإنك الثقة فيما أبلغتني عنه. قال: ما أمرني أن أبلغك شيئاً. قال أبو حسان: وما عندي إلا السمع والطاعة، فأمرني آتمر. قال: ما أمرني أن آمركم، وإنما أمرني أن أمتحنكم، فتركه والتفت إلى أحمد بن حنبل فسأله. قال الحافظ أبو القاسم: وليس كما يظنه الناس من ولد زياد بن أبيه، وإنما تزوج أجداده أم ولدٍ لزيادٍ، فقيل له الزيادي، قال ذلك أحمد بن أبي طاهرٍ صاحب كتاب بغداد.

الحسن بن علي بن الحرمازي
أبو عليٍ، هو مولى لبني هاشمٍ، ثم مولى آل سليمان بن علي بن عبد الله بن عباسٍ، وإنما نزل بالبصرة في بني حرمازٍ فنسب إليهم، والحرماز لقب واسمه الحارث بن مالك بن عمرو بن تميم بن مرٍ بالبادية، نأ ثم قدم البصرة فأقام بها.
وحدث المبرد قال: كان التوزي والحرمازي والحرمي يأخذون عن أبي عبيدة وأبي زيدٍ سعيد بن أوسٍ الأنصاري والأصمعي، وكان هؤلاء الثلاثة أكبر أصحابه، وكان من هؤلاء في السن: إبراهيم الزيادي والمازني والرياشي. قال أبو الطيب اللغوي صاحب كتاب مراتب النحويين: كان الحرمازي في ناحية همرو بن مسعدة، فخرج عمرو إلى الشام فقال الحرمازي:
أقام بأرض الشام فاختل جانبي ... ومطلبه بالشام غير قريب
ولا سيما من مفلسٍ حلف نقرسٍ ... أما نقر في مفلسٍ بعجيب
وحدث أبو العيناء قال: اعتل الحرمازي وكان له صديق من الهاشميين، فمل يعده فكتب إليه:
متى تشفيك واجبة الحقوق ... إذا كان اللقاء على الطريق؟
إذا ما لم يكن إلا سلام ... فما يرجو الصديق من الصديق؟
مرضت ولم تعدني عمر شهرٍ ... وليس ذاك فعل أخٍ شقيق
وقال الحرمازي وكتب بها إلى محمد بن عبيد الله العتبي:
بنفسي أنت قد جاء ... ك ما عندي من كتبك
فلا تبعد من الإفضا ... ل ما نرجوه من قربك
فما زلت أخا جودٍ ... وإفضالٍ على صحبك
وسل قلبك عما ل ... ك في قلبي من حبك
فقد أخبرني القلب ... بما قد حل في قلبك
فها إني لك الراضي ... وها إني لراضٍ بك
وكان بعض الهاشميين قد وعد الحرمازي وعداً فأخره، فكتب إليه:
رأيت الناس قد صدقوا ومانوا ... ووعدك كله خلف ومين
وعدت فما وفيت لنا بوعدٍ ... وموعود الكريم عليه دين
ألا يا ليتني استبقيت وجهي ... فإن بقاء وجه الحر زين
الحسن بن علي المدائني النحوي
قال أبو إسحاق بن إبراهيم بن سعيدٍ الحبال: مات لثلاثٍ بقين من جمادى الأولى سنة تسعٍ وسبعين وثلاثمائةٍ. وكان إماماً فاضلاً تخرج به جماعة وافرة في العددد.
الحسن بن علي بن عمر ويقال عمار
المعروف بابن المصحح، أبو محمدٍ التيمي النحوي، سمع أبا بكرٍ عبد الله الجناني، وأبا بكر بن أبي الحديد. وأبا نصرٍ حديد بن جعفر الرماني. روى عنه عبد العزيز الكتاني، ونجاء بن أحمد، وأبو القاسم النسيب، وسئل عنه فقال: ثقة. ومات لسبعٍ بقين من رجبٍ سنة أربعٍ وأربعين وأربعمائةٍ. ذكر ذلك كله أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر في تاريخ دمشق.
الحسن بن علي بن مقلة

بن الحسن بن عبد الله بن مقلة أبو عبد الله، ومقلة اسم أمٍ لهم كان أبوها يرقصها. فيقول يا مقلة أبيها فغلب عليها، وأبو عبد الله هو أخو الوزير أبي عليٍ محمد بن عليٍ، وهو المعروف بجودة الخط الذي يضرب به المثل. كان الوزير أوحد الدنيا في كتبه فلم الرقاع والتوقيعات، لا ينازعه في ذلك منازع، ولا يسمو إلى مساماته ذو فضلٍ بارعٍ، وكان أبو عبد الله هذا أكتب من أخيه في قلم الدفاتر والنسخ، مسلماً له فضلته غير مفاضلٍ في كتبته. ومولد أبي عبد الله في سلخ رمضان سنة ثمان وسبعين ومائتين، ومات في شهر ربيعٍ الآخر سنة ثمانٍ وثلاثين وثلاثمائةٍ. ومات أبوه أبو العباس علي بن الحسن في ذي الحجة سنة تسعٍ وثلاثمائةٍ. وله يوم مات سبع وستون سنةً وأشهر. وصلى عليه ابنه أبو عليٍ.
ولأخيه أبي علي ترجمة في بابه مفردة، لما اشترطنا في ذكر أرباب الخطوط المنسوبة وكان أبوهما الملقب بمقلة أيضاً كاتباً مليح الخط. وقد كتب في زمانهما وبعدهما، جماعة من أهلهما وولدخما ولم يقاربوهما وإنما يندر الواحد منهم الحرف بعد الحرف، والكلمة بعد الكلمة، وإنما كان الكمال لأبي عليٍ وأبي عبد الله أخيه. فممن كتب من أولادهما: أبو محمدٍ عبد الله، وأبو الحسن ابنا أبي عليٍ، وأبو أحمد سليمان بن أبي الحسن، وأبو الحسين علي بن أبو عليٍ، وأبو الفرج العباس بن علي بن مقلة. ومات أبو الحسن علي بالفالج والسكتة، في سنة ستٍ وأربعين وثلاثمائةٍ، ومولده سنة خمسٍ وثلاثمائةٍ.
حدث ابن نصرٍ قال: وجدت بخط أبي عبد الله بن مقلة على ظهر جزءٍ، وغنتني ابنة الحفار:
إلى سامع الأصوات من أبعد المسرى ... شكوت الذي ألقاه من ألم الذكرى
فيا ليت شعري والأماني ضلة ... أيشعر بي من بت أرعى له الشعرى؟
قال ابن نصرٍ: فقلت كفى ابنة الحفار هذا الصوت أن يذكرها ويكتبها أبو عبد الله بن مقلة بخطه. وحدث أبو نصرٍ قال: حدثني أبو القاسم بن الرقي منج سيف الدولة قال: كنت في صحبة سيف الدولة في غداة المصيبة المعروفة، وكان سيف الدولة قد انكسر يومئذٍ كسرةً قبيحةً، ونجا بحشاشته بعد أن قتلت عساكره قال: فسمعت سيف الدولة يقول وقد عاد إلى حلب: هلك مني من عرض ما كان في صحبتي خمسة آلاف ورقةٍ بخط أبي علي بن مقلة. قال: فاستعظمت ذلك وسألت بعض شيوخ خدمه الخاصة عن ذلك. فقال لي: كان أبو عبد الله منقطعاً إلى بني حمدان سنين كثيرةً يقومون بأمره أحسن القيام، وكان ينزل في دارٍ قوراء حسنةٍ، وفيها فرش تشاكلها ومجلس دست، وله شيء للنسخ وحوض فيه محابر وأقلام، فيقوم ويتمشى في الدار إذا ضاق صدره، ثم يعود فيجلس في بعض تلك المجالس وينسخ ما يخف عليه، ثم ينهض ويطوف على جوانب البستان، ثم يجلس في مجلسٍ آخر وينسخ أوراقاً أخر على هذا، فاجتمع في خزائنهم من خطه ما لا يحصى.
وجدت بعض أهل الفضل عن بعضهم قال: حضرت مجلس أبي عليٍ محمد بن علي بن مقلة في أيام وزارته وقد عرضت عليه رقاع، وتوقيعات وتسبيبات قد رد عليها بخطه أخوه أبو عبد الله، ثم رفعت إلى أبي عليٍ فكان ينظر فيها ويمضيها وقد عرف صورتها. وكان أبو عبد الله حاضراً، فلما فرغ منها التفت إليه فقال: يا أبا عبد الله قد خففت عنا حتى أثقلت، وخشينا أن نثقل عليك، فأرح نفسك من هذا التعب. فضحك أبو عبد الله وقال: السمع والطاعة.
وقال ثابت بن سنانٍ: لما ولي أبو علي بن مقلة الوزارة للمقتدر في سنة ست عشرة وثلاثمائة، قلد أخاه أبا عبد الله الحسن بن عليٍ ديوان الضياع الخاصة، وديوان الضياع المستحدثة، وديوان الدار الصغيرة. وصودر أبو عبد الله في أيام القاهر على خمسين ألف دينارٍ بعد أن حلف أنه لا يملك إلا بساتين وما ورثه من زوجته، وقيمة الجميع نحو مائة ألف درهمٍ.

الحسنبن يزداد بن هرمز
ابن شاهوه، أبو عليٍ الأهوازي المقرئ، صاحب التصانيف المشهورة. قال ابن عساكر: قدم دمشق في ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائةٍ وسكنها، وقرأ القرآن برواياتٍ كثيرةٍ وأقرأه، وصنف كتاباً في القرآن، وحدث عن خلقٍ كثيرٍ، منهم نصر بن أحمد المرجي، وأبو حفصٍ الكتاني، والمعافا بن زكريا بن طرارٍ، وروى عنه الخطيب أبو بكرٍ ثابت وغيره.

قال ابن عساكر: أنبأنا أبو طاهر بن الحنائي، أنبأنا أبو عليٍ الأهوازي، حدثنا أبو زرعة أحمد بن محمد بن عبد الله بن سعيدٍ القشيري، حدثني جدي لأمي الحسن بن سعيدٍ، حدثنا أبو عليٍ الحسين بن إسحاق الدقيقي، حدثنا أبو زيدٍ حماد بن دليلٍ عن سفيان الثوري، عن قيس بن مسلمٍ، عن عبد الرحمن بن سابطٍ، عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كانت عشية عرفة هبط الله عز وجل إلى السماء الدنيا فيطلع إلى أهل الموقف فيقول: مرحباً بزواري الوافدين إلى بيتي، وعزتي لأنزلن إليكم، ولأساوي منزلكم بنفسي، فينزل إلى عرفة فيعممه بمغفرته، ويعطيهم ما يسألون إلا المظالم ويقول: يا ملائكتي، لنشهدكم أني قد غفرت لهم، ولا يزال كذلك إلى أن تغيب الشمس، ويكون أمامهم إلى المزدلفة، ولا يعرج إلى السماء تلك الليلة، فإذا أسفر الصبح ووقفوا عند المشعر الحرام غفر لهم حتى المظالم، ثم يعرج إلى السماء إلى منى " . هذا حديث منكر، وفي إسناده غير واحدٍ من المجهولين. وللأهوازي أمثاله في كتابٍ جمعه في الصفات سماه كتاب البيان، في شرح عقود أهل الإيمان، أودعه أحاديث منكرة، كحديث: " إن الله تعالى لما أراد أن يخلق نفسه خلق الخيل فأجراها حتى عرقت، ثم خلق نفسه من ذلك العرق " مما لا يجوز أن يروى ولا يحل أن يعتقد، وكان مذهبه مذهب السالمية، يقول بالظاهر، ويتمسك بالأحاديث الضعيفة التي تقوي له رأيه، وحديث إجراء الخيل موضوع، وضعه بعض الزنادقة ليشنع بهعلى أصحاب الحديث في رواياتهم المستحيلة، فيقبله بعض من لا عقل له ويراه، وهو مما يقطع ببطلانه شرعاً وعقلاً. قال الأهوازي: ولدت في سابع عشر من المحرم سنة اثنتين وستين وثلاثمائةٍ. ومات في رابع ذي الحجة سنة ستٍ وأربعين وأربعمائةٍ.
قال ابن عساكر: وسمعت أبا الحسن علي بن أحمد بن منصور يحكي عن أبيه قال: لما ظهر من الأهوازي الإكثار من الروايات في القراءات اتهم في ذلك، فسار رشاء بن نظيف، وأبو القاسم بن الفرات، وابن القماح إلى العراق لكشف ما وقع في نفوسهم منه، ووصلوا إلى بغداد وقرؤوا على بعض الشيوخ الذين روى عنهم الأهوازي، وجاءوا بالإجازات عنهم وبخطوطهم، فمضى الهوازي إليهم وسألهم أن يروه تلك الخطوط التي معهم، ففعلوا ودفعوها إليه، فأخذها وغير أسماء من سمى ليستر دعواه فعادت عليه بركة القرآن فلم يفتضح. وبلغني أنهم سالوا عنه بعض المقرئين الذي ذكر أنه قرأ عليهم وحكوه له، فقال: هذا الذي تذكرونه قد قرأ علي جزءاً أو نحوه. قال: وقال حدثني أبي قال: عاتبت أو عوتب أبو طاهرٍ الواسطي المقرئ في القراءة على الأهوازي فقال: أقرأ عليه العلم ولا أصدقه في حرفٍ واحدٍ. قال وحدثني أبو طاهرٍ محمد بن الحسن بن علي بن المليحي قال: كنت عند رشاء بن نظيف في داره على باب الجامع، - وله طاقة إلى الطريق - فاطلع فيها وقال: قد عبر رجل كذاب، فاطلعت فوجدت الأهوازي. قال: وقال ابن الأكفاني قال لنا الكتاني: كان الأهوازي مكثراً من الحديث، وصنف الكثير في القراءات، وكان حسن التصنيف، وجمع في ذلك شيئاً كثيراً، وفي أسانيد القراءات غرائب كان يذكر في مصنفاته أنه أخذها روايةً وتلاوةً، وأن سيوخه أخذوها روايةً وتلاوةً. ولما توفي كانت له جنازة عظيمة.

الحسن بن علي بن بركة بن عبيدة
أبو محمدٍ المقرئ النحوي الفرضي، من ساكني الكرخ بدرب رباحٍ، مات في ثامن عشر شوال سنة اثنتين وثمانين وخمسمائةٍ. وكان فاضلاً قارئاً نحوياً لغوياً فرضياً. قرأ القرآن بالروايات على الشيخ أبي محمد بن بنت الشيخ، وبالكوفة على عمر بن ابراهيم العلوي، وقرأ النحو على أبي السعادات بن الشجري، ولازمه حتى برع في فنه، وتصدر مدةً طويلةً لإقراء القرآن والنحو واللغة والفرائض، وأنشد له العماد في الخريدة شعراً قاله في المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين، وهو:
يا خير مستخلفٍ عمت نوافله ... وطبق الأرض بعد المحل نائله
أحيت لنا سيرة المهدي سيرته ... عدلاً وبذلاً فما تحصى فواضله
إمام حقٍ بعهد الله محتفظ ... وكل شيءٍ حواه فهو باذله
خير الخلائق أضحى لا ينازعه ... منهم إمام وإن جلت أوائله

فالمصطفى جاء بعد الأنبياء وما ... فيهم على فضلهم خلق يعادله
وله في المستضيء أيضاً:
هذه دولة تخيرها الل ... ه فدامت لنا سجيس الليالي
دونة روضة رباها وجادت ... من لهاها بوابلٍ متوالي
واستعادت صعب المقادة بالعد ... ل ودانت لها قلوب الرجال
وأضاءت بالمستضيء بأمر الل ... ه لا زال ملكه في اتصال
ملك عم بره كل برٍ ... وأباح الآمال في الأحوال
وأغاث الأنام منه سجال ... بعد إمحالهم عقيب سجال
طبق الأرض منهم فضل عدلٍ ... وكفاها بوائق الزلزال
جعل الله ودكم يا نبي العب ... باس فرضاً من أشرف الأعمال
وعليكم صلاتنافي التحيا ... ت توالى لأنكم خيرآل
يا بني عم أحمد طاب محيا ... كم ومن قبل طبتم في الظلال
الحسن بن عليٍ الجويني الكاتب
أبو علي صاحب الخط المنسوب، كان مقيماً ببغداد، ولا أدري أولد بها أم انتقل إليها، لأنه لما انتقل إلى مصر كان يعرف بها بالبغدادي، وكان يلقب فخر الكتّاب. مات بمصر لعشرٍ خلون من صفرٍ سنة ستٍ وثمانين وخمسمائةٍ.
سمعت جماعةً من أهل الكتابة المتحققين بها يقولون: لم يكتب أحد بعد أبي الحسن علي بن هلال بن البواب أجود من الجويني، وكان أستاذه في الكتابة، يعقوب الغزنوي، كتب عليه ببغداد إلا أنه أبرّ عليه، وزاد حتى لا تناسب بين خطيهما، وكان من شيمة الجويني أنه ما كتب شيئاً قط بخطه كثر أو قل، دق أو جل، إلا ويكتب في آخره: " كتبه علي بن الحسن الجويني " وكتب عليه جماعة من الكتاب وافتخروا بأستاذينه، كابن القيسراني وغيره، وكان ينتقل في البلاد حتى حط بركه بالديار المصرية، ونفق بها سوقه، وعلا على أبناء جنسه قدره، وعظم شأنه، وارتفع مكانه، وكان مع ذلك لا يترك هيئته وسمته، فإنه كان يتزيا زي أهل التصوف، وبلغ من علو قدره بالديار المصرية إلى أن ولي ولده عز الدين إبراهيم ولاية القاهرة، بعد ما ولي ولاية الإسكندرية مدةً، وكان محمود السيرة رأيت أهل مصر ممن شاهد ولايته يحسن الثناء عليه، وكان ملوكي الهمة، شريف النفس - أعني ولده عز الدين إبراهيم - وكان فخر الكتاب يقول الشعر ويتعاناه، إلا أنه لم يكن فيه بذاك. ومن شعره يمدح القاضي الفاضل وهو من أجود شعره:
لولا انقطاع الوحي كان منزلاً ... في الفاضل بن عليٍ البيساني
نثني عليه بمثل ما تثني على ... أفعاله المرضية الملكان
ومن شعره في الزهد:
كم كادت الأوطان تشغلنا ... بزخارف الدنيا عن الله
حتى تغربنافكم غيرٍ ... يقطعن عقل الغافل اللاهي

الحسن بن علي بن إبراهيم بن الزبير

أبو محمدٍ المصري، أخو الرشيد أحمد بن عليٍ وقد تقدم ذكره، وكان من أهل أسوان من غسان، وكان الحسن هذا يلقب القاضي المهذب. مات في ربيعٍ الآخر سنة إحدى وستين وخمسمائةٍ بمصر، وكان كاتباً مليح الحظ فصيحاً جيد العبارة، وكان أشعر من أخيه الرشيد، وكان قد اختص بالصالح بن رزيك وزير المصريين، وقيل: إن أكثر الشعر الذي في ديوان الصالح إنما هو عمل المهذب بن الزبير، وحصل له من الصالح مال جم، ولم ينفق عنده أحد مثله وكان القاضي عبد العزيز بن الحباب المعروف بالجليس هو الذي قرظه عند الصالح حتى قدمه، فلما مات الجليس شمت به ابن الزبير ولبس في جنازته ثياباً مذهبةً، فنقص بهذا السبب واستقبحوا فعله، ولم يعش بعد الجليس إلا شهر واحداً. وصنف المهذب كتاب الأنساب، وهو كتاب كبير أكثر من عشرين مجلداً، كل مجلد عشرون كراساً، رأيت بعضه فوجدته مع تحققي هذا العلم وبحثي عن كتبه غايةً في معناه لا مزيد عليه، يدل على جودة قريحة مؤلفه، وكثرة اطلاعه، إلا أنه حذا فيه حذو أحمد بن يحيى بن جابرٍ البلاذري، وأوجز في بعض أخباره عن البلاذري، إلا أنه إذا ذكر رجلاً ممن يقتضي الكتاب ذكره، لا يتركه حتى يعرفه بجهده من إيرادشيءٍ من شعره وخبره. وكان المهذب قد مضى إلى بلاد اليمن في رسالةٍ من بعض ملوك مصر، واجتهد هناك في تحصيل كتب النسب، وجمع منها ما لم يجتمع عند أحدٍ، حتى صح له تأليف هذا الكتاب.
وكان أخوه الرشيد لما مضى إلى اليمن وادعى الخلافة كما ذكرناه في ترجمته نمي خبره إلى المعروف بالداعي، فقبض عليه قبضاً لا نعلم كيفيته وهم بقتله، فكتب المهذب هذا إلى الداعي بقصيدته المشهورة يمدحه ويستعطفه حتى أطلقه. والقصيدة:
يا ربع أين ترى الأحبة يمموا ... هل أنجدوا من بعدنا أم اتهموا؟
رحلوا وقد لاح الصباح وإنما ... يسري إذا جن الظلام الأنجم
وتعوضت بالأنس روحي وحشةً ... لا أوحش الله النازل منهم
لولاهم ما قمت بين ديارهم ... حيران أستاف الديار وألثم
أمنازل الأحباب أين هم وأي ... ن الصبر من بعد التفرق عنهم؟
يا ساكني البلد الحرام وإنما ... في الصدر مع شحط المزار سكنتم
يا ليتني في النازلين عشيةً ... بمنىً وقد جمع الرفاق الموسم
فأفوز إن غفل الرقيب بنظرةٍ ... منكم إذ لبى الحجيج وأحرموا
لإني لأذكركم إذا ما أشرقت ... شمس الضحى من نحوكم فأسلم
لا تبعثوا لي في النسيم تحيةً ... إني أغار من النسيم عليكم
إني امرؤ قد بعت حظي راضياً ... من هذه الدنيا بحظي منكم
فسلوت إلا عنكم وقنعت إل ... ا منكم وزهدت إلا فيكم
ورأيت كل العالمين بمقلةٍ ... لو ينظر الحساد ما نظرت عموا
ما كان بعد أخي الذي فارقته ... ليبوح إلا بالشكاية لي فم
هو ذاك لم يملك علاه مالك ... كلا ولا وجدي عليه متيم
أقوت مغانيه وعطل ربعه ... ولربما هجر العرين الضيغم
ورمت به الأهوال همة ماجدٍ ... كالسيف يمضي عزمه ويصمم
يا راحلاً بالمجد عنا والعلا ... أترى يمون لكم إلينا مقدم؟
يفديك قوم كنت واسط عقدهم ... ما إن لهم مذ غبت شمل ينظم
لك في رقابهم وإن هم أنكروا ... منن كأطواق الحمام وأنعم
جهلوا فظنوا أن بعدك مغنم ... لما رحلت وإنما هو مغرم
فلقد أقر العين أن عداك قد ... هلكوا ببغيهم وأنت مسلم
لم يعصم الله ابن معصومٍ من ال ... آفات واخترم اللعين الأخرم
واعتضت بعدهم بأكرم معشرٍ ... بدؤوا لك الفعل الجميل وتمموا
فلعمر مجدك إن كرمت عليهم ... إن الكريم على الكرام مكرم
أقيال بأسٍ خير من حملوا القنا ... وملوك قحطان الذين هم هم
متواضعون ولو ترى ناديهم ... ما اسطعت من إجلالهم تتكلم

وكفاهم شرفاً ومجداً أنهم ... قد أصبح الداعي المتوج منهم
هو بدر تمٍ في سماء علاهم ... وبنو أبيه بنو رويعٍ أنجم
ملك حماه جنة لعفاته ... لكنه للحاسدين جهنم
أثني عليك بما مننت وأنت من ... أوصاف مجدك يا مليكاً أعظم
فاغفر لي التقصير فيه وعده ... مع ما تجود به علي وتنعم
مع أنني سيرت فيك شوارداً ... كالدر بل أبهى لدى من يفهم
تغدو وهوج الذاريات رواكد ... وتبيت تسري والكواكب نوم
وإذا المآثر عددت في مشهدٍ ... فبذكرها يبدا المقال ويختم
وإذ تلا الراوون محكم آيها ... صلى عليك السامعون وسلموا
وكفى برأي إمام عصرك ناقضاً ... ما أحكم الأعداء فيك وأبرموا
وأنشدني أبو طاهرٍ إسماعيل بن عبد الرحمن الأنصاري المصري بمصر في سنة اثنتي عشرة وستمائةٍ، قال: أنشدني أبو محمدٍ الحسن بن علي بن الزبير مطلع قصيدةٍ:
أعلمت حين تجاور الحيان ... أن القلوب مواقد النيران
وعلمت أن صدورنا قد أصبحت ... في القوم وهي مرابض الغزلان
وعيوننا عوض العيون أمدها ... ما غادروا فيها من الغدران
ما الوجد هز قناتهم بل هزها ... قلبي لما فيه من الخفقان
وتراه يكره أن يرى أظعانهم ... فكأنما أصبحت في الأظعان
وكان لما جرى لأخيه الرشيد ما جرى من اتصاله بالملك صلاح الدين يوسف بن أيوب عند كونه محاصراً للإسكندرية كما ذكرنا في بابه، قبض شاور على المهذب وحبسه، فكتب إلى شاور شعراً كثيراً ليستعطفه فلم ينجع حتى التجأ إلى ولده الكامل أبي الفوارس شجاع بن شاورٍ مدحه بأشعارٍ كثيرةٍ وهو في الحبس حتى قام بأمره واستخرجه من حبسه، وضمه إليه واصطنعه فمن ذلك قوله من قصيدة:
أيا صاحبي سجن الخزانة خليا ... نسيم الصبا يرسل إلى كبدي نفحا
فإن تحبساني في النجوم تجبراً ... فلن تحبس مني له الشكر والمدحا
وكتب إليه:
وما كنت أخشى قبل سجنكما على ... دموعي أن يقطرن خوف المقاطر
وما لي من أشكو إليه أذاكما ... سوى ملك الدنيا شجاع بن شاور
ومما قاله فيه وهو لعمري من رائق الشعر وجيده:
إذا أحرقت في القلب موضع سكناها ... فمن ذا الذي من بعد يكرم مثواها؟
وإن نزفت ماء العيون بهجرها ... فمن أي عينٍ تأمل العيس سقياها؟
وما الدمع يوم البين إلا لآلئ ... على الرسم في رسم الديار نثرناها
وما أطلع الزهر الربيع وإنما ... رأى الدمع أجياد الغصون فحلاها
ولما أبان البين سر صدورنا ... وأمكن فيها العين النجل مرماها
عددنا دموع العين لما تحدرت ... دروعاً من الصبر الجميل نزعناها
ولما وقفنا للوداع وترجمت ... لعيني عما في الضمائر عيناها
بدت صورة في هيكلٍ فلو أننا ... ندين بأديان النصارى عبدناها
وما طرباً صغنا القريض وإنما ... جلا اليوم مرآة القرائح مرآها
وليالي كانت في ظلام شبيبتي ... سراي وفي ليل الذوائب مسراها
تأرج أرواح الصبا كلما سرى ... بأنفاس ريا آخر الليل رياها
ومهما أدرنا الكأس باتت جفونه ... من الراح تسقينا الذي قد سقيناها
ومنها:
ولو لم يجد يوم الندى في يمينه ... لسائله غير الشبيبة أعطها
فيا ملك الدنيا وسائس أهلها ... سياسة من قاس الأمور وقاساها
ومن كلف الأيام ضد طباعها ... فعاين أهوال الخطوب فعاناها
عسى نظرة تجلو بقلبي وناظري ... صداه فإني دائماً أتصداها

وحدثني الشريف أبو جعفر محمد بن عبد العزيز الإدريسي أن السبب في حبسه كان: أنه كاتب شيركوه الملقب بأسد الدين وهو نازل على بلبيس بعساكره في محاربة شاور، فلما رحل أسد الدين عن بلبيس، ومن شعره:
يجور على العشاق والعدل دأبه ... ويقطعني ظلماً وصنعته الوصل
ومن شعره أيضاً:
ولئن ترقرق دمعه يوم النوى ... في الطرف منه وما تناثر عقده
فالسيف أقطع ما يكون إذا غدا ... متحيراً في صفحتيه فرنده
ومنه أيضاً:
لقد طال هذا الليل بعد فراقه ... وعهدي به قبل الفراق قصير
فكيف أرجي الصبح بعدهم وقد ... تولت شموس بعدهم وبدور
ومنه أيضاً:
يعنفني من لو تحقق ما الهوى ... لكان إلى من قد هويت رسولي
بنفسي بدر لو رآه عواذلي ... على الحب فيه فاد كل عذول
ومنه أيضاً:
أقصر فديتك عن لومي وعن عذلي ... أو لا فخذ لي أماناً من ظبا المقل
من كل طرفٍ مريض الجفن ينشدني ... يا رب رامٍ بنجدٍ من بني ثعل
إن كان فيه لنا وهو السقيم شفا ... فربما صحت الأحسام بالعلل
وقال يرثي صديقاً له وقد وقع المطر يوم موته:
بنفسي من أبكى السموات فقده ... بغيثٍ ظنناه نوال يمينه
فما استعبرت إلا أسىً وتأسفاً ... وإلا فماذا القطر في غير حينه
وله أيضاً:
لا ترج ذا نقصٍ ولو أصبحت ... من دونه في الرتبة الشمس
كيوان أعلى كوكبٍ موضعاً ... وهو إذا أنصفته نحس
وله أيضاً:
فدع التمدحبالقديم فكم عفا ... في هذه الآكام قصردائر
لإيوان كسرى اليوم عند خرابه ... خير لعمرك منه قصر عامر

الحسن بن علي بن أبي مسلم
المعمر بن عبد الملك بن ناهوج الإسكافي الأصل، البغدادي المولد والدار، أبو البدر بن أبي منصورٍ، من أهل باب الأزج، أحد الكتاب المتصرفين في خدمة الديوان الإمامي هو وأبوه، وكان فيه فضل وأدب بارع، وعربية وتصرف في فنونها، ويكتب خطاً على طريقة أبي علي بن مقلة قل نظيره فيه، وله خصائص، ولقي المشايخ، وصنف عدة تصانيف في الأدب حسنةً، وتنقل في الولايات إلى أن رتب مشرفاً بالديوان العزيز في سادس شهر رمضان سنة ستٍ وثمانين وخمسمائةٍ، فكان على ذلك إلى أن عزل في سابع ذي الحجة سنة ثمانٍ وثمانين وخمسمائةٍ، وكان صحب أبا محمد بن الخشاب النحوي وقرأ عليه وبحث معه، وعلق عنه تعاليق وقفت على بعضها فوجدتها منبئةً عن يدٍ باسطةٍ في هذا الفن من العلم، ورأيت بخطه في حلب تعاليق وكتباً واختيارات ونظماً ونثراً تدل على قريحةٍ سالمةٍ، ونفسٍ عالمةٍ، تقلل النظير، وتؤذن بالعلم الغزير. ومما بلغني من شعره:
وعلى الكثيب مخمر من تيهه ... كالبدر من حسنٍ وليس بآفل
حجبوه بالبيض الفواصل ما دروا ... من حسنه وسيوفهم كالقاصل
رشأ كأن لحاظه مطرورة ... قذفت بها غرضاً حنية نابل
وكأن سحر بلاغةٍ في لفظه ... أخذ يعقدها نوافث بابل
وكان خرج من بغداد حاجاً سنة تسعٍ وثمانين وخمسمائةٍ أو نحوها فجاور بمكة، ثم صار منها إلى الشام وأقام بحلب مدةً، ثم انتقل إلى مصر فسكنها إلى أن مات بها في ثامن عشر رمضان سنة ستٍ وتسعين وخمسمائةٍ، عن سبعٍ وستين سنةً، ودفن بالقرافة، وحدث بذلك ابنه أبو منصورٍ علي.

وقرأت بخط ابن أبي سالمٍ الذي لا أرتاب به ما صورته: نسخة كتابٍ كتبته إلى القاضي الفاضل عند قدومي من الحجاز إلى مصر في جمادى الآخرة، سنة اثنتين وتسعين وخمسمائةٍ: لو كانت المودات - أطال الله بقاء المجلس السامي - في نعمةٍ خصيبة المرتع، وعيشةٍ عذبة المنبع - وأدام علاه في سعادةٍ لا تتطرق إلى صافي بردها السابغ حوادث الأقدار - و لا يتطرق صافي وردها السائغ بحوادث الأكدار، وحرسمواهبه لديه ما لزم السكون أول المشددين، ولا زالت ثاويةً بجنابه حتى يلتقي المخففان من كلمتن، ولا فتئت منح التوفيق مصاحبةً له ما اشتبه الذاتي بالعرض اللازم، وذم المفرط في أمره وأحمد الحازم، لا تقرع أبوابها، ولا تتدرع زينة لبوسها وأثوابها إلا عن معرفةٍ في المشاهد سابقةٍ، أو ماتةٍ قائدةٍ، أو ذريعةٍ سائقةٍ والتعاضد والتضافر سابق للصفة، وإنما للنفوس سرائر أهواءٍ تحن إلى التداني إن تباعدت الشعوب وتنازحت الديار، كما لتباينها أسباب تتنافر من أجلها وإن تقاربت الأنساب، وتنازحت المقار، والفضائل الفاضلية القريرة، والمناقب الشهيرة التي قد سار ذكرها في الآفاق سير القمر، وعطلت مزيتها مروي السير، وتليت محاسنها كما تتلى السور، وصار الفوز بمناسمة رياها من أفضل ما أسفر عنه سفر، ولو عاينها الصدر الأول لمدح في دراستها السهر، وما جدب السمر، فلا غرو أن تحن النفوس إلى محل كمالها، ومأوى تضافر أضدادها التي انفرد بجمالها ومثوى مواهبها التي هبطت إليه من المحل الأرفع لما سمي لها وسما لها، ومن هو أمينها المصدق لظنونها، ويمينها إذا كان غيره يمينها وشمالها، وقد زادها إفراط حسن التبيان، فلله در ذلك البيان، فلكم استفادت حجته إلى أمر الله من اطوائف والفرق، وكم قص كتابه من كتائب الضلال وفرق.
ثم ذكر وصف بلاغته بما أطال فيه، ووصف البحر ركبه حتى خلص إلى مصر، ثم قال: وقد أرسل هذه الخدمة مستخرجة للإذن في الحضور والتشرف بميمون اللقاء، وإن زاحم به أوقات الطاعات ومواقيت الأذكار. وشغل على اختصاره عن شيء من المهام والأوطار. وللمتوكل لنفسه أن يدعي أن في ذلك ضرباً من ضروب البر، فإنه قد أصبح ولله الحمد في هذا الطرف لقاطنيه وطارقيته كالأب البر. والمنشود من الأريحية الكريمة إكرام مثوى خدمته، وتلقيها بما يزيل عنها انقباض الغريب ووحشته، وحيرة القادم ودهشته، فعنده حياء طبيعي لعلةٍ متجاوزةٍ للقدر المحمود غذيت به طفلاً،فإن رمت غيره عصاني وأعرتني به ألفة المهد. وكتب إليه بعد الحضور عنده رقعةً منها: وحضر الشيخ النفيس وصحبته ما قابل كريم الاهتمام الذي صدر عنه من الأدعية والأثنية بما لا يزال يواليه ويرفعه ويهديه، ولق أخجله أن يرى نفسه في صورة مثقلٍ، أو يرى بعين غير موحدٍ في دين هواه متنقلٍ. ومقترحه أن يخص من حسن الرأي العالي بشعار يبهج ولا ينهج، ويشرع له سبيلاً في الفخر وينهج، وأن يشير بأسطرٍ بالخط الكريم يفوق المال، ويبقى الجمال، فأبقى السمات ما خطته يمينه، وأثبت الصفات ما دل عليه تزيينه، وأزكى الشهادات ما تطوع به كرمه، وأعطر رياض الحمد ما أنبتته ديمه. وقد حصل الخادم بين نزاع يحضه على حضور الخدمة وينشطه، وخوف إبرامٍ يقبضه ويثبطه. وقد ترجم عن حاله هذه بأبيات الشاعر أبي عبد الله وهي:
حالة قد حصلت للخوف منها ... حول دار الأستاذ في عشواء
لإن تأخرت أو تقدمت فيها ... ساء ظني في الموضعين برائي
لست أدري من الضلال أقدا ... مي خير في ذاك أم من ورائي؟
أوثر الخدمة التي تؤثر اسمي ... عندكم في جريدة الأولياء
ثم أخشى أني أعد إذاجئ ... ت من المبرمين والثقلاء
قد تحيرت فاجعلوا أنتم اسمي ... حيث شئتم من هذه الأسماء
ومن خطه: ومن عبث الخاطر وهوسه أبيات تشوفت فيها الحجاز بعد مجاورتي بالحم الشريف بمكة - قدسها الله - سنة اثنتين أو ثلاثٍ وسبعين وهي:
خليلي هل يشفي من الوجد وقفة ... بخيف منىً والسامرون هجوع؟
وهل للييلات المحصب عودة ... وعيشٍ مضى بالمأزمين رجوع؟
وهل سرحة بالسفح من أيمن الصفا ... رعت من عهودي ما أضاع مضيع؟

وهل قوضت خيم على أبرق الحما ... وما ذاك من غدر الزمان بديع؟
وهل تردن ماءً بشعب ابن عامرٍ ... حوائم لو يقضى لهن شروع؟
وما ذاك إلا عارض من طماعةٍ ... له بقلوب العاشقين ولوع
وإني متى أعص التجلد والأسى ... فللشوق مني والغرام مطيع
فيا جيرتي إذ للزمان نضارة ... وعودي نضار والخيام جميع
بنعمان والأيام فينا حميدة ... ووادي الهوى للنازلين مريع
وما أزمع الحي اليمانون نيةً ... ولا ريع بالبين المشت مروع
كفى حزناً أني أبيت وبيننا ... من البيد معدو الفجاج وسيع
أعالج نفساً قد تولى بها الأسى ... وطرفاً يجف المزن وهو هموع
ومن خطه أيضاً بيتان صدرت بهما كتاباً في هذه الرقعة إلى بعض الخوان بمكة - حرسها الله تعالى - :
ألا قل لجيران الصفا ليت داعي الت ... فرق أعمي يوم راح مناديا
لعمري لقد ودعت يوم وداعكم ... بشعب المنقى شعبةً من فؤاديا
ومن خطه رسالة كتبها إلى الفاضل أيضاً يسأله شيئاً من رسائله، قال في آخرها: فصار العوارف التي اقتصر في ذكرها على الإيماء وقوفاً مع محتد سيدنا - أطال الله بقاءه - مبسوط اليد في عباد الله بالفرض، مقرضاً له عناء همه فيهم أحسن القرض، منجزاً لهم ما وعد. " وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " عند الخادم. ومثله كالبيت من القريض قبل القافية، والمريض الذي مطلته الأيام بالعافية، فلا يكمل ذاك ولا يتطرب به المشوق، ولا يترنم به الكئيب، ولا يتسلى به الغريب دون تمامه، وتكافؤ أجزاء نظامه، وعبقه بمسك ختامه، ولا يحس هذا بلذةٍ على الحقيقة - وإن شرفت - حتى يجد روحه روح الشفاء فيدرك مزيتها بطرق الصحة، ومروءتها بحلسة سمعها، وتساعفه الأقدار بتكميلها لك وجمعها.
وما أسفي إلا عليها فإنني ... بقرطاسها لا بالدنانير أكلف
فجد لي بما أهواه منها فإنني ... سألحف في استيهابها وأكلف
وما هذه الأهواء إلا غرائز ... قبيح لدى نقادها المتكلف
وإن كان الخادم عن حال من شرف بهذا من أفناء الناس، ولم يكمل بعدته الإستئناس، فليس له أن يكون معترضاً، ولا أن يتلقى ذلك بغير التسليم والرضا، فإن الخدمة السامية هي التي تبين لديها الأقدار، وبأفعالها تترتب المنازل وتتفات الأخطار.
وكنت عند كوني بمرو عرض علي شيخنا فخر الدين أبو المظفر عبد الرحيم بن تاج الإسلام أبي سعدٍ السمعاني - تغمده الله برحمته - جزءاً يشتمل على رسائل للحسن القطان إلى الرشيد الوطواط محشوة بالسب له والثلب تصريحاً لا تعريضاً، ويلزمه الحجة في أنه نهب كتبه وسلبه نتيجة عمره، ويستحسب الله عليه. وضاق نطاق الزمان من تحصيلها وكتبها، وقلت:
وكم منيةٍ خلفت خلفي وبغية ... ومن حاج نفسٍ حال من دونها الترك
إذا ذكرتها تانفس حنت وأرزمت ... وودت لفرط الوجد أدركها الفتك
سلام على تلك الديار وقدست ... نفوس بمثواها ثوى العلم والنسك
وبقيت نفسي إليها متطلعةٍ، وإلى مكنونها متلفتةً، فظفرت برسائل الرشيد محمد بن محمد بن عبد الجليل العمري البلخي المعروف بالوطواط، متضمنة لأجوبة يدل آخرها على إضراب القطان عن تهمته، والإذعان بإبراء ساحته: نسخة الرسالة الأولى:

" بسم الله الرحمن الرحيم " قرع سمعي من أفواه الواردين وألسنة الطارئين على خوارزم أن سيدنا - أدام الله فضله - كلما تفرغ من مهمات نفسه، ووظائف درسه أقبل بمجامعه على أكل لحمي، والإطناب في سبي وشتمي، وينسبني إلى الإغارة على كتبه، ويبالغ في هتك أستار الكرم وحجبه. أهذا يليق بالفضل والمروءة؟ أو يجمل بالكرم والفتوة أن يفتري على أخيه الميلم بمثل هذا الكذب المقلق، والبهتان المؤلم، والله إذا نفخ في الصور يوم النشور، وبعثت هذه الرمم البالية، من الأجداث متدرعةٍ ملابس الحياة الثانية، وجمعت عباد الله في مواقف العرصات، وتطايرت صحائف الأعمال إلى أربابها، وسئلت كل نفسٍ عما كسبت، فمن مسيءٍ يسحب على وجهه إلى النار، ومن محسن يحمل على أعطاف الملائكة إلى الجنة، لم يتعلق في ذلك المقام الهائل أحد بذيلي طالباً مني ملكاً غصبته، ولا مالاً نهبته، أو دماً سفكته، أو ستراً هتكته، أو شخصاً قتلته، أو حقاً أبطلته، وهاأنذا قد آتاني الله من الوجه الحلال قريباً من ألف مجلدٍ من الكتب النفيسة، والدفاتر الفائقة، والنسخ الشريفة، ووقفت كلها على خزائن الكتب المبنة في بلاد الإسلام - عمرها الله - لينتفع المسلمون بها، ومن كانت عقيدته هكذا كيف يستجيز من نفسه أن يغير على كتب إمامٍ من شيوخ العلم، أنفق جميع عمره حتى حصل أوراقاً يسيرة، لو بيعت في الأسواق لما أحضر بثمنها مائدة لئيمٍ، الله الله، لا يفترين سيدنا - أدام الله فضله - ، فافتراء الكذب على مثلي ذنب يتعثر في أذياله يوم القيامة، وليخافن الله الذي لا إله إلا هو، وليتذكرن يوماً يثاب الصادق فيه على صدقه، ويعاقب الكاذب على كذبه، والسلام. فورد على الرشيد جواب عن هذه الرسالة يكون في نحو كراستين يغلظ له في القول، ويصرح فيه بالسب والتهمة، فكتب الرشيد:

" بسم الله الرحمن الرحيم " ورد كتاب سيدنا - أطال الله بقاءه في دولة مفترة المباسم، ونعمةٍ متجددة المراسيم - مشتملاً من الإيذاء والإيحاش، والإبذاء والإفحاش على كلماتٍ، بل على ظلماتٍ، لو أطفأ - أدام الله علوه - بعض لهبه، وسكن نائرة غضبه، ثم عاد إليه متصفحاً لألفاظه ومبانيه، لما ارتضى ذلك من دينه وعقله، ولكا استحسنه من كرمه وفضله، إلا أني أعذره فيما قال، قصر كلامه أو طال، لعلمي أنه - أدام الله علوه - مسلوب مغلوب، جريح أسنة القهر، طريح صدمات الدهر، عضته أنياب النوائب، وخدشته أظفار المصائب، نهبت كتبه وأمواله، وغصبت رحاله وأثقاله، وطالب الثأر يقصد كل راجلٍ وفارسٍ، وصاحب الضالة يتهم كل قائمٍ وجالسٍ، ولقد علم سيدنا - أدام الله علوه - أن وقعة مرو عمرها الله كانت واقعةً عامةً، شملت كل جبهةٍ وحافرٍ، وطبقت كل صائحٍ وصافرٍ، وكان قد لحقت في ذلك الوقت بعسكر خوارزمشاه من طبقات الناس أوزاع وأخياف، ومن حشرات الأرض أنواع وأصناف، قصارى همهم القتل والإغارة، ومنتهى أربهم الإحراق والإبارة وأوباش مرو أيضاً كانوا يخرجون من مكامنهم في الليالي، ويتعرضون لبيوت السادات والموالي، فليسس بمستبعدٍ أن يكون قد ظفر بكتبه من أولئك الأقوام أحد لا يعرف شأنه، ولا يعلم مكانه، أما أنا فالله تعالى يعلم - وقد خاب من استشهده باطلاً - أني ما فتحت للإغارة بابه، ولا نهبت كتابة، بل ذهبت يوماً على مقتضى إشارته الكريمة لأحمل كتبه إلى المعسكر، فلما دخلت داره الرفيعة، ورأيت كتباً كثيرةً فوق ما يحيط به عد، أو يشتمل عليه حد، فقلت: تقل هذه أمر مشكل، وحمل هذه خطب معضل، فتركتها بحالها في أماكنها، وخليتها برمتها في معادنها، وخرجت كما دخلت خالي الحقائب، فارغ الزكائب، فإن كنت غصبت يوم وقعة مرو أو قبلها أو بعدها من كتبه - أدام الله علوه - كتاباً أو جزءاً أو دفتراً أو من سائر أمواله شيئاً صغر أو جل، كثر أو قل، أو رضيت أن يغصبه أحد من أتباعي والمنتمين إلي، أو عرفت غاصباً غصبه، أو ناهباً نهبه، فأخفيت ذلك عنه، أو كتمته منه، فأنا بريء من الله وهو بريء مني، وإن كنت فعلت بنفسي شيئاً مما ذكرت، أو رضيت أن يفعله أحد من المتعلقين بي، أو عرفت فاعلاً فعله، فعلي لله أن أحج بيته المعظم المكرم راجلاً راجلاً حافياً، وعلى عاتقي الزاد والمزادة عشر مراتٍ، وإن كنت فعلت شيئاً من ذلك، أو رضيت أن يفعله أحد من المتعلقين بي، أو عرفت فاعلاً فعله، فكل مالٍ ملكته يميني فهو في سبيل الله على مساكين الحرمين، وإن كنت فعلت شيئاً من ذلك، أو رضيت أن يفعله أحد من المتعلقين بي أو عرفت فاعلاً فعله، فكل عبدٍ ملكته أو أملكه فهو حر، وإن كنت فعلت شيئاً من ذلك، أو رضيت أن يفعله أحد من المتعلقين بي أو عرفت فاعلاً فعله، فكل امرأة تزوجتها أو أتزوجها فهي طالق مني ثلاث طلقاتٍ، هذه الأيمان والنذور كتبتها ببناني، وأجريتها على لساني، لا خوفاً من غوائله، ولا هرباً من حبائله، فإن الصلح آمن أهله، والإسلام جب ما قبله، ولكن إظهاراً لخلو راحتي، وبراءة ساحتي، وشفقةً عليه - أدام الله علوه - وصيانةً لفاضلٍ مثله لا مثيل له في أقطار الشرق والغرب، وأقاصي البر والبحر، أن يسلك طريقةً غير مستصوبةٍ ويختار شريعةً غير مستعذبةٍ. - عصمنا الله وإياه - مما يورث ذماً، ويعقب إثما.
وقد بعث في قران هذه الخدمة خدمةً أخرى مفرطةً في الطول، مجررةً للذيول، منسوجةً على منوال آخر، كالكي للداء إذا استحكمت شدته، وتطاولت مدته، وعجز الأساة عن معالجته، والأطباء عن مداواته، وهديته - أدام الله علوه - فيها النجدين، وأريته الطريقين، ودفعت عنان الإختيار إليه، ووضعت زمام الإسار في يديه، ليسلك منهما ما يشاء، إما ما يسر به وإما ما يساء. - وفقه الله للصواب والأصلح، وأسعدة بالأرشد والأنجح، وجعله من الصالحين المصلحين، والفائزين المعليمن - إن شاء الله تعالى والسلام.
وكتب إليه مع الكتاب المتقدم ذكره:

" بسم الله الرحمن الرحيم " : صادفني - أطال الله بقاك في دولةٍ مشرقة الكواكب، ونعمةٍ هاطلة السحائب، وسلامةٍ طيبة المشارع والمشارب - خطابه الكريم وكتابه الشريف بخوارزم، وأنا ناعم البال منتظم الحال، ومنة النفس في دعةٍ، ومن العيش في سعةٍ، والحمد لله على ذلك، وبه الثقة والحول، وله المنة والطول، وحين تنسمت من يد حامله رياه، وثبت من مكاني مستقبلاً إياه، ومددت إليه يميني مد معزٍ مكرمٍ. وأخذته بطرف كمي أخذ مجلٍ معظمٍ، وقلت في نفسي: كرامة ساقها الله تعالى إلي، وسعادة ألقت أنوارها علي، وأرسلت في الحال قاصداً ذروات الأشراف، وسروات الأطراف، وبعثت في الساعة مرعاً إلى رجالات الأخبية والأبنية، وساكنة الأباطح والأودية، ودعوت من كل حلةٍ رئيسها وزعيمها، ومن كل خطةٍ كبيرها وعظيمها، حتى اجتمع عندي البدوي والحضري، واحتشد في ربعي الربعي والمضري، ثم عرضت عليهم كتاباً شريفاً بختمه، وحنيت ظهري لتقبيله ولثمه، وطلبت خطيباً مصقعاً من بلغاء بني معدٍّ صحيح اللسان، فصيح البيان، ووضعت له في منزلي منبراً من الساج، مغشى بالدرر والديباج، ليصعد به ذرا الأعواد، ويقرأه على رؤوس الأشهاد، فرفع الكل أصواتهم يمنةً ويسرةً، وسألوني خفيةً وجهرةً، ما هذا الذي تظهره لنا وتعرضه؟ وتوجب علينا سماعه وتفرضه؟ فقلت: كتاب إمامٍ لم تلمح عين الزمان لمثله، ولم تسمح يد الليالي بشكله، كتاب إمامٍ هو في العلم صاحب آياتٍ، وفي الفضل سابق غاياتٍ، إمام تطلع نجوم الجو دون قدره، وتحسد رياض الخلد أطايب صدره، كتاب إمامٍ تم به حساب العلماء، كما تم برسول الله صلى الله عليه وسلم حساب الأنبياء، صحيفة فخرٍ حررتها يد بيضاء، وقلادة مجدٍ رصعتها همة روعاء، ونشرت من معالي سيدنا - أدام الله علوه ومفاخره - وذكرت من مناقبه ومآثره، ما امتلأ بنشره النادي، وسال من ذكره الوادي، فسكنوا وسكتوا، وأصغوا وأنصتوا، فلما فضضت ختامه، وحدرت لثامه، وشاهدت في أثنائه من الفزع الأكبر، وعاينت في أدراجه من أهوال يوم المحشر، ما أطال السهاد، وأطار الرقاد، وشق جلباب الصبر ومريطاء الجلد، وجرح سواد العين وسويداء الخلد، حسبته حلةً خسروانيةً، فوجدته حربةً هندوانيةً، كتاب لا بل كتائب تفل كل جيشٍ، وخطاب لا بل خطوب تكدر كل عيشٍ، وكلام لا بل في الأضالع كلام، وفصول لا بل في الجوانح نصول، وأسجاع مؤنقة لا بل أوجاع موبقة، كله كأنه نازلة الدهر، وقاصمة الظهر، كأنما ألفاظه أنياب الأراقم، ومعانيه أظفار الضراغم، وهو - أدام الله علوه - دفاع الأمراض بطبه، فلم أمرضني بفضائح سبه؟ ونطاسي الجراح بعلمه، فلم جرحني بقبائح ظلمه؟
وممن أرجى شفاء السقام ... ومسقمتي جفوات الطبيب
ما هذا الإنذار والإيعاد؟ وما هذا الإبراق والإرعاد؟ كأنه صاحب دلدل وفارس يليلٍ، أو كأنه من أقيال اليمن، وأبطال الزمن، أو كأنه ثعبان الحرب، وشيطان الطعن والضرب، وذكر البول، أولى به من ذكر الهول. وحديث البراز أولى به من حديث البراز:
إن للهجر رجالاً ... ورجالاً للوصال

قال - أدام الله علوه - : مصصت دمي من عرقي، أوليس يدري أن امتصاص الدماء من خصائص بضاعته، والتصرف في اللحوم والعظام من لوازم صناعته؟ - رحم الله - امرأً عرف قدره، ولم يتعد طوره، وشر ما في بني آدم من الخصال الذميمة، والأفعال اللئيمة، إيذاء الصغار والكبار، وإيحاش العبيد والأحرار. وهذا له: - أدام الله فضله - جبلة فطر عليها، وطبيعة استرسل معها، وسجية شهر بين العامة والخاصة بها، يشتم كل يوم في منزله ومكانه، وعلى سدة داره وطرف دكانه، خلقاً كثيراً، وجماً غفيراً، من الرافعين قصصاً إليه، والعارضين عللهم عليه، فيرجعون وجفونهم تتصوب عبراتها، وقلوبهم تتصعد زفراتها، لما يلاقون من سوء خلقه، ويقاسون من خشونة نطقه، ويقفلون وألم ذلك التهجم والإعراض، والوقيعة في الأحشاب والأعراض، أشد عليهم من ألم الأسقام والأمراض ولهذا جعل شخصه وصير نفسه، - مع أنه أفضل زمانه، وأعلم أولاد قرانه - ضحكة الأداني والأقاصي، وسخرةً للأذناب والنواصي، حتى صار بحيث إذا مشى في الأسواق تعادى صبيان البلد حوله فيسخرون منه، ويضحكون عليه، وينعرون في قفاه، ولا أقول فيه - أدام الله علوه - إلا ما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي في ابن المقفع حين رأى كمال فضله، ونقصان عقله: علم وافر، وعقل قاصر. ومن قصور عقل ابن المقفع: أنه مر ببيت النار وكان من أولاد كسرى، فتنفس الصعداء، وتمثل ببيت الأحوص بن محمدٍ الأنصاري:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
فاتهم بالمجوسية، فألقى في تنورٍ مسجورٍ فأحرق، وما أصدق من قال: قيراط عقلٍ، خير من قنطار فضلٍ ومثقال حلمٍ، أنفع من مكيال علمٍ. أنكر - أدام الله علوه - رشاد مذهبي وإنكاره ضلال، وجحد سداد سيرتي وجحوده باطل محال، فيا طير الله جمجمة فرخت فيها الأضاليل وباضت، ويا أسكت الله شقشقةً دفعت منها الأباطيل وفاضت، ولا أعني بهذه الجمجمة إلا جمجمته التي لا عقل فيها، ولا أريد بهذه الشقشقة إلا شقشقته التي يباينها الصدق وينافيها. حتى متى يتهمني بظنه؟ وإلى كم يجرعني دردي دنه؟ أيحسب - أدام الله علوه - أن ظنه الباطل، وخياله الفاسد، ووهمه الكاذب، وحي من السماء إلهي، أو إلهام في الحقيقة رباني، أو آية نفث بها روح القدس في روعه، لا بل هو واحد من أبناء زماننا، وهذا شر الأزمنة، عجم الشيطان عوده فاستلانه، فصير خزانة خياله مكانه، فهذه الخطرات التي تختلج في جنانه وتدور حول حسبانه من تلك الخيالات الشيطانية، لا من الإلهامات الربانية. ولقد بلغني من أفواه الرواة وألسنة الثقات، أنه: - أدام الله علوه - أخذ بعين هذه التهمة الكاذبة قبل هذا واحداً من أعيان جلدته، وسكان بلدته، وهو مسعود بن المنتخب، - رحمه الله - فأغار على أهله وبيته، وتعرض لحيه وميته، وخرب دوره ورباعه، وغصب أثاثه وباعه، من غير حجةٍ صححها، ولا بينةٍ أوضحها، - اللهم اصرع الظالم على الهامة، وخذ منه للمظلوم حتى يرضى عنه يوم القيامة - ومما أقضى منه العجب أن عهدي به - أدام الله عزه - قد كان يخرب الأبدان، فها هو الآن يخرب الأوطان، وما أسرع الدهرإلى تغير البشر، وما أقدره على تبديل الصور والسير.

قرأت في بعض الكتب أن خليفةً من الخلفاء رأى في منامه أن واحداً من ندمائه وثب عليه ليقتله، فلما أصبح استدعى النديم وأمر بقتله، فقال له النديم: ماذا فعلت من الذنب حتى استوجبت هذه العقوبة؟ قال الخليفة: ما فعلت شيئاً، ولكني رأيت في المنام أنك تقتلني، فقال له النديم: إن يوسف بن يعقوب - صلوات الله وسلامه عليهما - مع كونه صديقاً نبياً احتاجت رؤياه إلى تعبيره، وافتقرت أحاديثه إلى تأويلٍ وتفسيرٍ. أفتستغني رؤياك عن مثل ذلك؟ فضحك الخليفة وخلاه. وأنا أقول: هكذا ظنون جميع ذوي الألباب، معرضة للخطأ والصواب، كأنه - أدام الله علوه - تفرد بينهم بذاته، وتوحد بعظمة صفاته، فتنزهت ظنونه عن السهو، وتقدست أحاديثه عن اللغو، عصمنا الله من الكبر البائن والعجب الشائن، أما حان أن ينتبه - أدام الله علوه - من غفلته ويستيقظ من رقدته، وقد بلغ غاية شيبه، وأخذ الموت بلحيته وجيبه، يقرع كل ساعةٍ منادى الفناء في أذنه الصماء، أن أترك أوطانك، واهجر أهلك وجيرانك، وارحل إلى جهنم بخيلك ورجلك، فإنها قد أوقدت نيرانها لأجلك، وما حرص جهنم على شيء كحرصها على إحراق شيخٍ غويٍ، وهمٍ غبيٍ، سيئ الخليقة، مذموم الطريقة، يتظاهر بالإثم والعدوان، ويتبع خطوات الشيطان، وهو - أدام الله علوه - بلغ ساحل الحياة، ووقف على ثنية الوداع، وهم بحر عمره بالنضوب ومال نجم بقائه للغروب، فما ظنه؟ هل في الحياة طمع وقد بليت جدته وفنيت مدته، وتراجع أمره، وأربي على الثمانين عمره؟:
أيرجو الفتى عوداً إلى طيباته ... وقد جاوزت رأس الثمانين سنه
كتبت هذه الأحرف على سبيل النموذج والجواب بعد في الجراب، والسيف لم يسل من القراب فإن انزجر - أدام الله علوه - واتعظ، وترك الفظاظة والغلظ، وعاد إلى كرم العهد، وصفاء الود فأنا خادم مخلص، وعبد مطيع، وتلميذ معتقد:
وإلا فعندي للعدو وقائع ... تريه المنايا لا ينادي وليدها
الحسن بن محمدٍ المهلبي أبو محمدٍ
قد سقطت من نسختنا أوائل الترجمة قصيدة يخاطب فيها أبا جعفرٍ الصيمري، ويذكر المهلبي - وكان في صحبته - :
ماذا لقينا من القاطول لا هطلت ... فيه السحاب ولا سقته تهتانا
فقد سددناه وارتدت غواديه ... حسرى ولم نأل إحكاماً وإتقاناً
وقد دعمنا له سكراً سما وطما ... حتى توهمه راوه ثهلانا
واستفرغ الوسع حتى طم خادمك ال ... مهلبي وقاسى فيه أشجانا
نجاه منه بآراءٍ مثقفة ... تخالها في ظلام الليل نيرانا
رميت بحرأ بطودٍ فاستكانله ... كرهاً وأيقظت فيما بات يقظانا
وما تقابل بالإقبال ممتنعاً ... إلا تبدل بالعصيان إذعانا

ثم خرج معز الدولة والصيمري إلى الموصل لقتال ناصر الدولة، فاستخلف الصيمري المهلبي وأبا الحسن طازاد بن عيسى على الأمور بمدينة السلام إلى أن عاد، ثم خرج الصيمري إلى البطيحة لطلب عمران بن شاهين، واستناب بحضرة معز الدولة أبا محمدٍ وحد في سنة ثمانٍ وثلاثين وثلاثمائةٍ، فخدم أبو محمدٍ معز الدولة خدمة خفف بها عنه وخف على قلبه، فقبله ومال إليه، وبلغ أبا جعفرٍ ذلك فثقل عليه، فتطلب لأبي محمدٍ الذنوب وتحمل ما أنكره عليه، وأطلق فيه لسانه بالوقيعة والتهدد، وبلغ أبا محمدٍ ذلك، فقلق واستشعر النكبة والهلكة، لأنه لم طمع من معز الدولة في نصرته عليه، وعصمته منه، فما راعه إلا ورود كتاب الطائر بوفاة الصيمري، فجلس له في العزاء، وأظهر له الحزن الشديد ولزم منزله، واستدعاه معز الدولة وأمره بالحضور وتمشية الأمور، إلى أن يقلد من يرى تقليده الوزارة وترشح للوزارة جماعة، منهم أبو عليٍ الحسن بن هارون بن نصرٍ، وأبو عليٍ الحسن بن محمد الطبري، وأبو الحسن محمد بن أحمد المافروخي، وأبو عبد الله محمد بن أحمد الخوميني وبذلوا البذول، وضمنوا الأموال، ووسط أبو عليٍ الطبري في أمره والدة معز الدولة، وبذل مائتي ألف درهمٍ عاجلةً على سبيل الهدية بمطالبه معز الدولة، فحمل منه مائةً وثمانين ألف درهمٍ وقال: قد بقي بقية يسيرة إذا ظهر أمري حملتها، فقال معز الدولة: لا أفعل إلا بعد استيفاء المال، فعلم الطبري أنه خدع، وندم على ما حمله. ثم حضر الجماعة المترشحون الخاطبون وكل منه يعتقد أنه المختار المقلد، وجلسوا في خركاةٍ ينتظرون الإذن، ثم وصل القوم ووقفوا على مراتبهم، ودخل أبو محمدٍ بعدهم وقام في أخرياتهم، فلما تكامل الناس أسر معز الدولة إلى أبي عليٍ الحسن بن إبراهيم الخازن قولاً لم يسمع، فمشى إلى أبي محمدٍ المهلبي وقبل يده، وخاطبه بالأستاذية على ما كان أبو جعفرٍ يخاطب به، وحمله إلى الخزانة فخلع عليه القباء والسيف والمنطقة.
قال هلال: قال جدي: فوالله يا بني لقد رأيت الناس على طباقاتهم ممن أسميناه ومن يتلوهم من الجند وغيرهم، والسعيد من وصل إلى يده فقبلها. وعاد أبو محمدٍ إلى حضرة معز الدولة فخاطبه بالتعويل عليه ف تقلد وزارته وتدبير دولته، وشكره أبو محمدٍ شكراً أطال فيه، وخرج منصرفاً إلى داره، فقدم له شهري بمركبٍ ذهبٍ، وسار أبو محمدٍ سبكتكين الحاجب بين يديه والقواد والناس في موكبه، وذلك لثلاثٍ بقين من جمادى الأولى سنة تسعٍ وثلاثين وثلاثمائةٍ، ثم جددت له الخلع من دار الخلافة بالسواد والسيف والمنطقة، فأثقلته هذه الخلع - وكان ذا جثة و الزمان صيف - وقد مشى في تلك الصحون الكثيرة، فسقط عند دخوله إلى حضرة المطيع لله ووقع على ظهره فأقيم، وظن أنه يحصر لما جرى، فقال: يا أمير المؤمنين:
خرسنوه وما درى ما خراسا ... ن بلبس القباء والمزجين

ثم أكثر الشكر وأطال فيه، فاستحسنت منه هذه البديهة على تلك الصورة، وركب إلى داره وجميع الجيش معه وحجاب الخلافة ومعز الدولة بين يديه، فلما كانت سنة إحدى وخمسين وثلاثمائةٍ، لهج معز الدولة بذكر عمان، وحدث نفسه بأخذها، وأغراه بذلك المعروف بكرك أحد النقباء الأصاغر، فأمر المهلبي بالخروج بالخروج إليها فدافعه ووضع عليه من يزهده فيها فلم يزدد إلا لجاجاً، وكان أبو محمدٍ يؤذي حاشية معز الدولة فإنه ألزمهم تقسيطاً في نفقة البناء الذي استحدثه من غير أن يخرج بأحدٍ منهم إلى عسفٍ، فأحفظهم فعله، فبعثوا معز الدولة على إخراجه، فما ألح عليه ضمن له أن يستخرج من هؤلاء جملةً كبيرةً يستعين بها في هذا الوجه، فمكنه من ذلك بعد أن شرط عليه أخذ العفوة تجنب الإجحاف، فقبض على جماعةٍ وأخذ منهم ألفي درهمٍ، منها خمسمائة ألف درهمٍ من أبي عليٍ الحسن بن إبراهيم النصراني الخازن، ومعز الدولة على غاية العناية بأمره والثقة بأنه لا مال له، وأظهر أبو عليٍ الفقر وسوء الحال، وأنه اقترض المال الذي أداه من الناس، فشق ذلك على معز الدولة وظنه حقاً، واعتل أبو عليٍ عقيب ذلك ومات، فاعتقد معز الدولة أن أبا محمدٍ قتله لما عامله به، وأقبل عليه يلومه ويحلف له أنه يقيده به،، فلم يلتفت أبو محمدٍ إلى ذلك، وبادر إلى دار أبي عليٍ وقبض على خادمٍ له صغيرٍ كان يختصه ويثق به، ومناه ووعده، فدله على دفينٍ كان لأبي عليٍ في الدار فاستخرج منه عدة قماقم فيها نيف وتسعون ألف دينارٍ، وحملها إلى معز الدولة وقال له: هذا قدر أمانة خازنك الذي ظننت أني قد قتلته باليسير الذي أخذته لك منه، وما فيه درهم من مالك، وإنما اقترضه من أولادك وحرمك وغلمانك وشنع عليك. ثم تتبع أسبابه وأخذ منهم تمام مائتي ألف دينار، وقدر أبو محمدٍ أن معز الدولة يمكنه من الحاشية الباقين ويعفيه من الخروج فلم يفعل، وجد به جداً شديداً في الإنحدار، فانحدر في جمادى الآخرة من سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائةٍ، وتمادت أيامه بالبصرة للتأهب والاستعداد، وامتنع العسكر المجرد من ركوب البحر، فبلغ معز الدولة ذلك، فاتهمه بأنه بعث العسكر على الشغب، فكاتبه بالجد والإنكار عليه في توقفه وإلزام المسير، ووجد أعداؤه طريقاً للطعن عليه، واغتنموا تنكر معز الدولة عليه، وأقاموا في نفسه أنه انحدر من مدينة السلام وهو لا يعتقد العود إليها، وأنه سيغلب على البصرة كما تغلب البريديون، وأن العسكر الذي معه والعشائر هناك على طاعةٍ له، وعظموا عنده أحواله، فتدوخ معز الدولة بأقاويلهم، وعرف أبو محمدٍ ذلك فأطلق لسانه فيهم، وخرق الستر بينه وبينهم، وتطابقت الجماعة في المشورة على معز الدولة بالقبض عليه والإعتياض بأمواله عما يقدر حصوله من عمان، وجعلوه على ثقةٍ من أنهم يسدون مسده، فمال إلى قولهم وكتب إلى أبي محمدٍ يعفيه من الإتمام إلى عمان، ويرسم له الإنكفاء إلى مدينة السلام، وعلم أبو محمدٍ بالحال، ووطن نفسه على الصبر وركوب أصعب المراكب فيه، وأن يدخل فيما دخل فيه القوم، ويتولى هو مصادرة نفسه وأصحابه وخصومه وأعدائه، وكان ملياً بذلك، فهجمت عليه علته التي مات منها، وتردد بين إفاقةٍ ونكسةٍ إلى أن وردت الكتب باليأس منه، فأنفذ معز الدولة حينئذٍ أحد ثقاته على ظاهر العيادة له، وباطب الاستظهار على ماله وحاشيته، فألقاه في طريقه محمولاً في محفةٍ كبيرةٍ مملوءةٍ بالفرش الوثيرة، ومعه فيها من يخدمه ويعلله، ويتناوب في حملها جماعة من الحمالين، فلما انتهى إلى زواطا قضى نحبه ومضى لسبيله، وسقط الطائر بمدينة السلام بذلك، فقبض على أسبابه وحرمه وولده، فصودرت الجماعة، ووقع السرف في الاستقصاء عليهم، فلم يظهر لأبي محمدٍ مال صامت ولا ذخيرة باطنة، وبانت لمعز الدولة نصيحته، وبطلان النكير عليه، وقد كان يصل إليه من حقوق الرقاب في ضياعه وما يأخذه من إقطاعه، ويستثني به على عماله مال كثير يستوفيه جهراً من غير أن توقع فيه أمانة، وبصرف جميعه في مئونته ونفقاته وصلاته وهباته، وإلى هدايا جليلةٍ كان يتكلفها لمعز الدولة في أيام النواريز والمهاريج.

وعطف معز لدولة على الجماعة يطالبهم بالضمانات التي ضمنوها فاحتجوا بوفاته، ووعدوا بالبحث عن ودائعه، وتدافعت الأيام واندرج الأمر، فكان الذي صح من مال أبي محمدٍ ومال حرمه وأولاده وأسبابه خمسة آلاف درهمٍ، فيها الصامت والناطق والباطن، وأثمان الغلات وارتفاق الأملاك والأموال، وأموال جماعةٍ من التجار أخذت بالتأويلات، وكانت وفاته سبباً لصيانته عن عاجل ابتذالهم له، وصيانتهم عن آجل بلواهم به، وكانت مدة وزارته ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهرٍ، ووفاته في يوم السبت لثلاث ليالٍ بقين من سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائةٍ. ولأبي محمدٍ:
قضيت نحبي فسر قوم ... حمقى لهم غفلة ونوم
كأن يومي على حتم ... وليس للشامتين يوم
قال هلال: وحدثني أبو إسحاق جدي قال: صاغ أبو محمدٍ دواة ومرفعاً وحلاهما حليةً كثيرةً مشرقةً وكانت ذراعاً وكسراً في عرض شبر، وكذلك كانت آلاته عظاماً، حتى إن آلة دسته مثل مخاده مساند الدسوت إلى ما يجري هذا المجرى من آلات الاستعمال، وقدمت الدواة بين يديه في مرفعها وأبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي وأنا إلى جانبه، فتذاكرنا سراً حسن الدواة وجلالتها وعظمتها، ثم قال لي: ما كان أحوجني إليها لأبيعها وأتسع بثمنها، فقلت: وأي شيء يعمل الوزير؟ قال: يدخل في حر أمه وسمع أبو محمدٍ ما جرى بيننا بالإصغاء منه إلينا، وذهب ذاك علينا، فاجتمعت مع أبي أحمد من غدٍ فقال لي: عرفت خبر الدواة؟ قلت: لا. قال: جاءني البارحة رسول الوزير ومعه الدواة ومرفعها، ومنديل فيه عشر قطع ثياباً حساناً وخمسة آلاف درهمٍ وقال: الوزير يقول لك: أنا عارف بأمرك في قصور المواد عنك، وتضاعف المؤن عليك، وأنت تعرف شغلي وانقطاعي به عن كل حقٍ يلزمني، وقد آثرتك بهذه الدواة لما ظننته من استحسانك إياها اليوم عند مشاهدتك، وحملت معها ما تجدد به كسوتك وتصرفه في بعض نفقتك، وانصرف الرسول، وبقيت متحيراً متعجباً من اتفاق ما تجارينا به أمس زحدوث هذا على أثره، وتقدم أبو محمدٍ بصياغة دواةٍ أخرى على شكلها ومرفعٍ مثل مرفعها، فصيغت في أقرب مدةٍ، ودخلنا إلى مجلسه وقد فرغ منها وتركت بين يديه وهو يوقع منها.
ونظر أبو محمدٍ إلى وإلى أبي أحمد ونحن نلحظها فقال: هيه من منكما يريدها بشرط الإعفاء من الدخول فخجلنا وعلمنا أنه كان قد سمع قولنا. وقلنا: بل يمتع الله مولانا وسيدنا الوزير بها، ويبقيه حتى يهب ألفاً مثلها، اللهم أنت جدد الرحمة والرضوان عليه في كل ساعةٍ، بل لحظةٍ بل لمحةٍ، وعلى كل نفسٍ شريفةٍ وهمةٍ عاليةٍ، إنك العلي تحب معالي الأمور وأشرافها، وتبغض سفسافها.
قال: وحدث إبراهيم بن هلالٍ قال: كان أبو محمدٍ المهلبي يناصف العشرة أوقات خلوته، ويبسطنا في المزح إلى أبعد غايةٍ، فإذا جلس للعمل كان امرأ وقوراً، ومهيباً ومحذوراً، آخذاً في الجد الذي لا يتخونه نقص، ولا يتداخله ضعف، فاتفق أن صعد يوماً من طيارةٍ إلى داره - وقد حقنه البول وما كان يعتريه من سلسه - فقصد بعض الأخلية فوجده مقفلاً - وكذاك كانت عادته جاريةً في أخلية داره حفاظاً لها عن الابتذال - فأبى أن يدعو الفراش ويحضر، فقال لي متبادراً على نفسه:
فهبك طعامك استوثقت منه ... فما بال الكنيف عليه قفل؟
فقلت: لعمري إنه موضع عجبٍ، وإذا وقع الاجتياط في الأصل فقد استغنى عنه في الفرع، فضحك وقال: أوسعتنا هجاءً. فقلت: وجدت مقالاً. فقال: اسكت يا فاعل يا صانع.
قال أبو إسحق: وأجلسني معز الدولة لأكتب بين يديه وأبو محمدٍ المهلبي قائم فحجبني عن الشمس، فقال: كيف ترى هذا الظل؟ فقلت: ثخين. فقال: واعجباً! أحسن وتسئ. وضحك! ومن شعر المهلبي:
يا هلالاً يبدوا لتهتاج نفسي ... وهزاراً يشدو فيزداد عشقي
زعم الناس أن رقك ملكي ... كذب الناس أنت مالك رقي
وحدث أبو محمدٍ المهلبي قال: كنت أيام حداثتي وقصر حالي، وصغر تصرفي أسكن داراً لطيفةً - ونفسي مع ذلك تنازع في الأمور العظيمة، إلا أن الجد قاعد، والمقدور غير مساعدٍ - فأصبحت يوماً وقد جاء المطر وازدادت الحجرة إظلاماً، وصدري بها ضيقاً، فقلت:
أنا في حجرةٍ تجل عن الوص ... اف ويعمى البصير فيها نهارا

هي في الصبح كالظلام وفي اللي ... ل يولي الأنام عنها فرارا
أنا منها كأنني جوف بئرٍ ... أتقي عقرباً وأحذر فارا
وإذا ما الرياح هبت رخاءً ... خلت حيطانها تميد انهيارا
ورب عجل خرابها وأرحني ... من حذاري فقد مللت الحذارا
تحدث أبو الحسين هلال بن المحسن قال: حدث القاضي أبو بكر بن عند الرحمن بن خزيمة قال: كنت مع الوزير المهلبي بالأهواز، فاتفق أن حضرت عنده في يومٍ من شهر رمضان، والزمان صائف والحر شديد، ونحن في خيشٍ باردٍ، فسمع صوت رجلٍ ينادي على الناطف فقال: أما تسمع أيها القاضي صوت هذا البائس في مثل هذا الوقت؟ والشمس على رأسه، وحرها تحت قدميه، ونحن نقاسي في مكاننا هذا البارد ما يقاسيه من الحر؟ وأمر بإحضاره فأحضر، فرآه شيخاً ضعيفاً عليه قميص رث وهو بغير سراويل وفي رجله تاسومة مخلقة، وعلى رأسه مئزر، ومعه نبيخة فيها ناطف لا تساوي خمسة دراهم، فقال له: ألم يكن لك أيها الشيخ في طرفي النهار مندوحة عن مثل هذا الوقت؟ فتنفس الرجل وقال: ما أهون على الراقد سهر الساهد! وقال:
ما كنت بائع ناطفٍ فيما مضى ... لكن قضت لي ذاك أسباب القضا
وإذا المعيل تعذرت طلباته ... رام المعاش ولو على جمر الغضا
فقال له الوزير: أراك متأدباً، فمن أين لك ذلك؟ فقال: إني أيها الوزير من أهل بيتٍ لم يكن فيهم من صناعته ما ترى - وأسر إليه أنه من ولد معن بن زائدة - فأعطاه مائة دينارٍ وخمسة أثوابٍ، وجعل ذلك رسماً له في كل سنةٍ.
وحدث القاضي أبو عليٍ التنوخي قال: شاهدت أبا محمدٍ المهلبي قد ابتيع له في ثلاثة أيامٍ ورد بألف دينارٍ فرش به مجالس وطرحه في بركةٍ عظيمةٍ كانت في داره، ولها فوارات عجيبة يطرح الورد في مائها وينفضه، وبعد شرابه عليه وبلوغه ما أراده منه أنهبه، ولأبي عبيد الله الحسين بن أحمد بن الحجاج يرثي أبا محمدٍ:
يا معشر الالشعراء دعوة موجعٍ ... لا يرتجى فرح السلو لديه
عزوا القوافي بالوزير فإنها ... تبكي دماً بعد الدموع عليه
مات الذي أمسى الثناء وراءه ... وجميل عفو الله بين يديه
هدم الزمان بموته الحصن الذي ... كنا نفر من الزمان إليه
وتضاءلت همم المكارم والعلا ... وانبت حبل المجد من طرفيه
عمري لئن قادته أسباب الردى ... مثل الجواد يقاد في شطنيه
فليعلمن بنو بويهٍ أنما ... فجعت به أيام آل بويه
ولأبي محمدٍ المهلبي:
أمثلي يا أخي وقسيم نفسي ... يفارق عهده عند الفراق؟
ويسلو سلوةً من بعد بعدٍ ... وينسبه الشقيق إلى الشقاق
فأقسم بالعناق وتلك أشفى ... واوفى من يميني بالعتاق
لقد ألصقت بي طلباً قبيحاً ... تجافى جانباه عن التصاق
وحدث أبو النجيب شداد بن إبراهيم الجزري الشاعر الملقب بالظاهر قال: كنت كثير الملازمة للوزير محمدٍ المهلبي، فاتفق أني غسلت ثيابي وأنفذ إلي يدعوني، فاعتذرت بعذرٍ فلم يقبله وألح في استدعائي، فكتبت إليه:
عبدك تحت الحبل عريان ... كأنه لا كان شيطان
يغسل أثواباً كأن البلى ... فيها خليط وهي أوطان
أرق من ديني إن كان لي ... دين كما للناس أديان
كأنها حالي من قبل أن ... يصبح عندي لك إحسان
يقول من يبصرني معرضاً ... فيها وللأقوال برهان
هذا الذي قد نسجت فوقه ... عناكب الحيطان إنسان؟
فأنفذ لي جبةً وقميصاً وعمامةً وسراويل وكيساً فيه خمسمائة درهمٍ وقال: قد أنفذت لك ما تلبسه وتدفعه إلى الخياط ليصلح لك الثياب على ما تريده، فإن كنت غسلت التكة واللالكة فعرفني لأنفذ لك عوضها. ولأبي محمدٍ المهلبي:
ويومٍ كأن الشمس والغيم دونها ... حجاب به صينت فما يتهتك
عروس بدت في زرقة من ثيابها ... تجللها فيها رداء ممسك
قرأت بخط المحسن بن إبراهيم الصابئ: أنشدني والدي قال: أنشدني الوزير أبو محمدٍ المهلبي لنفسه:

إذا تكامل لي ما قد ظفرت به ... من طيب مسمعةٍ وصوت رنان
وقهوةٍ لو تراها خلت رقتها ... ديني ومن حاجزٍ إن شئت أغناني
فما أبالي بما لاقى الخليفة من ... بغي الخصي وعصيان ابن حمدان
وقال الصاحب بن عبادٍ: أنشدني الأستاذ أبو محمدٍ المهلبي لنفسه:
قال لي من أحب والبين قد جد ... د وفي مهجتي لهيب الحريق
ما الذي في الطريق تصنع بعدي ... قلت أبكي عليك طول الطريق؟
حدث أبو عليٍ التنوخي قال: كان أبو محمدٍ المهلبي يكثر الحديث على طعامه وكان طيب الحديث، وأكثره مذاكرة بالأدب وضروب الحديث على المائدة لكثرة من يجمعهم عليها من العلماء والكتاب والندماء، وكنت كثيراً ما أحضر، فقدم إليه في بعض الأيام حجل فقال لي: أذكرني هذا حديثاً طريفاً، وهو ما أخبرني به بعض من كان يعاشر الراسبي الأمير قال: كنت آكل معه يوماً وعلى المائدة خلق عظيم فيهم رجل من رؤساء الأكراد المجاورين لعمله، وكان ممن يقطع الطريق، ثم استأمن إليه فآمنه واختصه، وطالت أيامه معه وكان في ذلك اليوم على مائدته إذ قدم حجل فألقى الراسبي منه واحدةً إلى الكردي كما تلاطف الرؤساء مؤاكليهم، فأخذها الكردي فجعل يضحك، فتعجب الراسبي من ذلك وقال: ما سبب هذا الضحك وما جرى ما يوجبه؟ فقال: خبر كان لي، فقال: أخبرني به، فقال: شيء ظريف ذكرته لما رأيت هذه. قال: فما هو؟ قال: كنت أيام قطع الطريق قد اجتزت في المحجة الفلانية في الجبل الفلاني وأنا وحدي في طلب من آخذ ثيابه، فاستقبلني رجل وحده، فاعترضته وصحن عليه فاستسلم إلي ووقف، فأخذت ما كان معه وطالبته أن يتعرى ففعل ومضى لينصرف، فخفت أن يلقاه في الطريق من يستفزه علي فأطلب وأنا وحدي فأوخذ، فقبضت عليه وعلوته بالسيف لأقتله، فقال: يا هذا أي شيءٍ بيني وبينك؟ أخذت ثيابي ولا فائدة لك في قتلي، فكتفته ولم ألتفت إلى قوله، وأقبلت أقنعه بالسيف، فالتفت كأنه يطلب شيئاً فرأى حجلةً قائمةً على الجبل فصاح: يا حجلة اشهدي لي عند الله تعالى أني أقتل مظلوماً، فما زلت أضربه حتى قتلته، وسرت فما ذطرت هذا الحديث حتى رأيت هذه الحجلة، فذكرت حماقة هذا الرجل فضحكت، فانقلب عليه الراسبي في رأسه حرد وقال: لا جرم والله إن شهادة الحجلة عليك لا تضيع اليوم في الدنيا قبل الآخرة، وما آمنتك إلا على ما كان منك من إفساد السبيل، فاما الدماء فمعاذ الله أن أسقطها عنك يابن الفاعلة بالأمان، وقد أجرى الله على لسانك الإقرار عندي. يا غلمان اضربوا عنقه، قال: فبادر الغلمان إليه بسيوفهم يخبطونه حتى تدحرج رأسه بين أيديهم على المائدة وجرت جثته، ومضى الراسبي حتى أتم غداءه.
قال قال أبو عليٍ: حضرت أبا محمدٍ في وزارته، وقد دفع إليه شاعر رقعة صغيرة فقرأها وضحك وأمر له بألف درهمٍ، وطرح الرقعة فقرأتها وإذا فيها:
يا من إليه النفع والضر ... قد مس حال عبيدك الضر
لا تتركن الدهر يظلمني ... ما دام يقبل قولك الدهر

قال إبراهيم بن هلالٍ الصابئ: كان أبو محمدٍ يخاطب بالأستاذية. قال أبو عليٍ: كنت في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائةٍ ببغداد، فحضر أول يومٍ من شهر رمضان، فاصطحبت أنا وأبو الفتح عبد الواحد بن أبي عليٍ الحسين بن هارون الكاتب في دار أبي الغنائم الفضل بن الوزير أبي محمدٍ المهلبي لنهنئه بالشهر عند نوجه أبيه إلى عمان، وبلغ أبو محمدٍ إلى موضعٍ من أنهار البصرة يعرف بعلياباذ، ففترت نيته عن الخروج إلى عمان، واستوحش معز الدولة منه وفسد رأيه فيه، واعتل المهلبي هناك، ثم أمره معز الدولة بالرجوع من علياباذ، وألا يتجاوزه، وقد اشتدت علته والناس بين مرجفٍ بأنه يقبض عليه إذا حصل بواسط أو عند دخوله إلى بغداد، وقوم يرجفون بوفاته، وخليفته إذ ذاك على الوزارة ببغداد: أبو الفضل العباس بن الحسين بن عبد الله، وأبو الفرج محمد بن العباس بن الحسين، فجئنا إلى أبي الغنائم، ودخلنا إليه وهو جالس في عرضي داره التي كانت لأبيه على دحلة على الصراة عند شباك على دجلة، وهو في دست كبير عالٍ جالس وبين يديه الناس على طبقاتهم، فهنأناه بالشهر وجلسنا، وهو إذا ذاك صبي غير بالغ إلا أنه محصل، فلم يلبث أن جاءه أبو الفضل وأبو الفرج فدخلا إليه وهنآه بالشهر، فأجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره على طرف دسته في الموضع الذي فيه فضلة المخاد إلى الدست، ما تحرك لأحدهما ولا انزعج ولا شاركاه في الدست، وأخذا معه في الحديث، وزادت مطاولتهما، وأبو الفضل يستدعي خادم الحرم فيساره فيمضي ويعود ويخاطبه سراً، إلى أن جاءه بعد ساعةٍ فساره فنهض، فقال له أبو الفرج: إلى أين يا سيدي؟ فقال: أهنئ من يجب تهنئته واعود إليك، فكن مكانك، وكان أبو الفضل زوج زينة ابنة أخت أبي الغنائم من أبيه وأمه تجني، فحين دخل واطمأن قليلاً وقع الصراخ وتبادر الخدم والغلمان، ودعي الصبي وكان يتوقع أن يرد عليه خبر موت أبيه، لأنه كان عالماً بشدة علته، فقام فأمسكه أبو الفرج وقال: اجلس - وقبض عليه - وخرج أبو الفضل وقد قبض على تجني أم الصبي ووكل بها خدماً وختم الأبواب، ثم قال للصبي: قم يا أبا الغنائم إلى مولانا - يعني معز الدولة - فقد طلبك، وقد مات أبوك، فبكى الصبي وسعى إليه وعلق بدراعته وقال: يا عم الله الله في - يكررها - فضمه أبو الفضل إليه واستعبره وقال: ليس عليك بأس ولا خوف، وانحدروا إلى زبازبهم، فجلس أبو الفرج في زبزبه، وجلس أبو أبو الفرج في زبزبه وأجلس الغلام بين يديه، وأصعدت الزبازب تريد معز الدولة بباب الشماسية.
فقال أبو الفتح بن الحسين بن هارون: ما رأيت مثل هذا قط ولا سمعت، لعن الله الدنيا، أليس الساعة كان هذا الغلام في الصدر معظماً وخليفتا أبيه بين يديه، وما افترقا حتى صار بين أيديهما ذليلاً حقيراً، ثم جرى من المصادرات على أهله وحاشيته ما لم يجر على أحدٍ.
قال أبو عليٍ محمد بن وشاحٍ الكاتب: قال لي أبو الحسن محمد بن عبيد الله بن سكرة الهاشمي من ولد المهدي:خرجت إلى الأهواز قاصداً للوزير أبي محمدٍ الحسن بن محمدٍ المهلبي مادحاً له، فلما وصلت إليه أنشدته:
قفي حيث انتهيت من الصدود ... ولا تتعمدي قتل العميد
فقد وهواك أجل حلفي ... حميت نظيرتيك من الهجود
هجرت مقيمةً وظعنت غضبي ... فخربت الحديد على الحديد
فراق ظعينةٍ وفراق رأيٍ ... يكرهما علي فراق جود
ثلاث ما اجتمعن على ابن حبٍ ... صدود في صدودٍ في صدود
قال وانصرفت، فلما كان من الغد استدعاني وقال: اسمع وأنشدني لنفسه:
أتاني في قميص اللاذ يمشي ... عدو لي يلقب بالحبيب
فقلت له فديتك كيف هذا ... بلاواشٍ أتيت ولا رقيب؟
فقال الشمس أهدت لي قميصاً ... رقيق الجسم من شفق الغروب
فثوبي والمدام ولون خدي ... قريب من قريبٍ من قريب

الحسن بن محمدبن أبي الشخباء
بن عبد الصمد بن أبي الشخباء أبو عليٍ العسقلاني صاحب الرسائل، مات فيما ذكره علي بن بسامٍ في كتاب الذخيرة في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائةٍ معتقلاً بمصر في خزانة البنود.

وكان يلقب بالمجيد ذي الفضيلتين، أحد البلغاء الفصحاء الشعراء، له رسائل مدونة مشهورة، قيل: إن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن البيساني منها منها استمد، وبها اعتد، وأظنه كتب في ديوان الرسائل للمستنصر صاحب مصر، لأن في رسائله جواباتٍ إلى الفساسيري، إلا أن أكثر رسائله أخوانيات، وما كتبه عن نفسه إلى أصدقائه ووزراء أمراء زمانه، وها انا أكطتب منها ما سنح لتعرف قدر بضاعته، ومغزى صناعته نظماً ونثراً. قال من قصيدة:
أخذت لحاظي من جنا خديك ... أرش الذي لاقيت من عينيك
هيهات، إني وزنت بمهجتي ... نظري إليك فقد ربحت عليك
غضي جفونك وانظري تأثير ما ... صنعت لحاظك في بنان يديك
وهو ويك نضح دمي وعز علي أن ... ألقاك في عرض الخطاب بويك
فسلكت في فيض الدموع مسالكاً ... قصرت بها يد عامرٍ وسليك
صانوك بالسمر اللدان وصنتهم ... بنواظرٍ فحميتهم وحموك
لو يشهرون سيوف لحظك في الوغى ... لاستقرؤوا فيها قنا أبويك
وقد كتب إلى صديقٍ له: لما حديت ركاب مولاي أخذ صبري معه، وصحبه فلبي وتبعه:
فعجبت من جسمٍ مقيمٍ سائرٍ ... كمسير بيت الشعر وهو مقيد
وبقيت أقاسي أموراً تخف الحليم، وترعي الهشيم، إن رجوت منها غفلةً اقتحمت، وإن رمت منها فرجةً تضايقت والتحمت، وأما الوحشة فقد اصطحبت منها كأساً مترعةً، وتجرعت من صابها أم جرعةً، ورأيت فؤادي إذا مر ذكر مولاي، يكاد يخرج من خدره، ويرغب في مفارقة صدره، حنيناً يجدده السماع، وصدوداً ينتفض منه الأضلاع وزفرةً يدمي في غرارها، ويطلع في الترائب شرارها:
أداري شجاها كي تخلي مكانها ... وهيهات ألقت رحلها واطمأنت
وأما ما أعاني بعد مسيره فأشياء: منها عيث الألم مرةً، وزوال الاستمتاع بما يعرفه من تلك المسرة، ومنها اضطراري إلى كثرة مكابرة من أعلم دخل سرائره، واختلاف باطنه وظاهره، وتكلف اللقاء له بصفحةٍ مستبشرةٍ، وأخلاقٍ غير متوعرةٍ، والله يعلم نفور طباعي ممن رآه أهل الأدب من الأدب غفلاً، ومن ذخائره مقفلاً، لكن السياسة تقتضي اعتماد ما ذكرت ما ذكرت وتوجب قصد ما شرحت، وإن كان مورداً غير عذبٍ، وثقيلاً على العين والقلب:
ولربما ابتسم الفتى وفؤاده ... شرق الضلوع برنةٍ وعويل
ومنها انعكاس كثيرٍ من الآمال، وارتشاف الصبابة الباقية من الحال، بجوائح مصريةٍ وشاميةٍ، وفوادح أرضيةٍ وسماويةٍ، ولا أشكو بل أسلم له مذعناً، وأرى فعله كيف تصرفت الأحوال جميلاً حسناً:
ومن لم يسلم للنوائبأصبحت ... خلائقه طراً عليه نوائبا
والله تعالى المسؤول أن يهب لي من قرب مولاي ما يأسو هذه الكلوم، ويجددمن المسرة عافى الرسوم، فجميع الحوادث، وسائر النوائب الكوارث، إذا قربت الخطوة، واستجييت هذه الدعوة، تمسي غير مذكورةٍ، وبجناح التجاوز مكفورةً.
وكتب إلى أبي الفرج الموفقي جواباً عن رقعةٍ: وصلت رقعة مولاي والصبح قد سل على الأفق مقضبه، وأزال بأنوار الغزالة غيهبه، فكانت بشهادة الله صبح الآداب ونهارها، وثمار البلاغة وأزهارها، قد توشحت بضروبٍ من الفضل تقصر قاصية المدى، ويجري به في مضمار الأدب مفرداً:
فكان روض الحسن تنثره الصبا ... فأطلت من قرطاسها أتصفح
فأما ما تضمنته من وصفي، فقد صارت حضرته السامية تتسمح في الشهادة بذلك مع مناقشتها في هذه الطريقة، وانها لا توقع ألفاظها إلا مواقع الحقيقة. فإن كنت قد بهرجت عليها فلتراجع نقدها تجدني لا أستحق من ذلك الإسهاب فصلاً، ولا أعد لكلمةٍ واحدةٍ منه أهلاً، وبالجملة فالله ينهضني بشكر هذا الإنعام الذي يقف عنده الثنا، ويضلع، ويحصر دونه الخطيب المصقع:
هيهات تعيي الشمس كل مرامقٍ ... ويعوق دون منالها العيوق

واما الفضل الذي أودعه الرقعة الكريمة من قوله: " فأما فلان فيحل في قومه، ويفرح بالضيوف فرح حنيفة بابن الوليد، قدوره عمارية، وعطسات جواريه أسدية، ويهوين لو خلق الرجال خلق الضباب، يتضوعن النشر العبقسي، ويرضعن مراضع ثعالة المجاشعي " وما أمرت حضرته السامية من ذكر ما عندي فيه فقد تأملته طويلاً، وعثر الخادم فيه بما أنا ذاكره، رغباً في الرضا بما بلغت إليه المقدرة، وتجليل ذلك بسجوف الصفح.
أما قوله: " يفرح بالضيوف فرح حنيفة بابن الوليد " فيقع لي أنه أراد خالد بن الوليد المخزومي، وذلك أن مسيلمة الحنفي كان قد تنبأ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وحديثه المشهور - فبعث إليه أبو بكرٍ - رضي الله عنه - خالد بن الوليد المقدم ذكره في جيشٍ كثيفٍ من المسلمين، ففتح اليمامة وقتل مسيلمة وأباد جماعةً كثيرةً من بني حنيفة. وأما قوله " قدوره عمارية " فإن هذا الفصل اما كان مبنياً على الذم وجب أن يتطلب لهذا السبب معنىً يجب حمله عليه، ولم نجد ما ينسب إليه إلا قول الفرزدق:
لو أن قدراً بكت من طول ما حبست ... عن الحقوق بكت قدر ابن عمار
ما مسها دسم مذ فض معدنها ... ولا رأت بعد نار اليقين من نار
وأما قوله: " عطسات جواريه أسدية " فيقوى وهمي أنه أراد قول الأول في هجائه:
إذا أسدية عطست فنكها ... فإن عطاسها طرق الوداق
واما قوله: " يهوين لو خلق الرجل خلق الضباب فإن الجاحظ ذكر في كتاب الحيوان، أن للضب أيرين وللضبة حرين، وحكى أن أير الضب أصله واحد، وإنما تفرق فيصير أعلاه اثنين، واستشهد على ذلك بقول الفرزدق:
رعين الدبا والبقل حتى كأنما ... كساهن سلطان ثياب مراجل
سبحل له نزكان كانا فضيلةً ... على كل حافٍ في البلاد وناعلٍ
والنزك: اسم أير الضب. وأنشد الأصمعي لابن دزماء فيما رواه أبو خالدٍ النميري:
تفرقتم لا زلتم قرن واحدٍ ... تفرق أير الضب والصل واحد
ومن هنا قالت حبى المدنية لما عذلها أبوها في تزوجها ابن أم كلابٍ:
وددت بأنه ضب وأني ... ضبيبة كديةٍ وجدت خلاء
وأما قوله " يتضوعن النشر " فمن أمثال العرب: هو أخسر صفقة من شيخ مهوٍ، وهو بطن من عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن نزار بن معد بن عدنان، وكان من خبره أن إياداً كانت أفسى العرب، فوفد وافدهم إلى الموسم بسوق عكاظ ومعه حلة نفيسة فقال: يا معشر العرب، من يشتري مني مثلبة قومٍ لا تضره بحلتي هذه؟ فقال الشيخ المهوي: أنا أشتريها. فقال الإيادي: أشهدكم يا معشر العرب أني قد بعت فساء إيادٍ لوافد عبد القيس بحلتي هذه، وتصافحا متراضين وقد شهد عليهما أهل الموسم، فصارت عبد القيس أفسى العرب. وقيل لابن مناذرٍ: كيف الطريق إلى عبد القيس؟ فقال شم ومر:
فإن عبد القيس من لؤمها ... تفسو فساءً ريحه تعبق
من كان لا يدري لها منزلاً ... فقل له يمشي ويستنشق
وأما قوله: أعطش من ثعالة المجاشعي، فمن أمثال العرب فيما ذكره الكلبي قال: هما رجلان من بني مجاشع عطشا فالتقم كل واحدٍ منهما أير صاحبه يشرب بوله، فلم يغن عنهما شيئاً، وماتا عطشاً ووجدا على تلك الحال. قال جرير يهجو بني دارمٍ:
رضعتم ثم بال على لحاكم ... ثعالة حين لم يجدا الشرابا
هذا ما وقع لي في هذا الفصل، وأرجو أن أكون قد ذهبت إلى ما قصده قائله.
ومن كلامه يهنئ بكسر أتسز بن أوقٍ الغزي، وكان ذلك لثمان ساعاتٍ مضين من يوم الاثنين في العشر الأخيرة من جمادى الآخرة، سنة تسعٍ وستين وأربعمائةٍ:

" الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضلٍ عظيمٍ " قد ارتفع الخلاف بين الكافة أن الله ذخر للدولة الفاطمية - ثبت الله أركانها، من الحضرة العلية المنصورة الجيوشية - خلد الله سلطانها، من حمى سوادها، ونصر أعلامها، وضم نشرها، وحفظ سريرها ومنبرها، بعد أن كان العداء الذين ارتضعوا در أنعامها، وتوسموا بشرف أيامها، فطردت يد الاصطناع إملاقهم، وأثقلت قلائد الإحسان أعناقهم، فخفروا ذمم الولاء، وكفروا سوابغ الآلاء، ففجأتهم الحوادث من كل طريقٍ، زنعب بهم غراب الشتات والتفريق، واستباحتهم يد الشدائد " واتى الله بنيانهم من القواعد " ، ولم تزل النفوس منذ طرق أتسز اللعين هذه البلاد، وأنجم فيها الفساد، وتعدى حدود الله وكلماته، وتعرض لمساخطته ونقماته. عالمةً بأن إملاء الحضرة العلية - مد الله ظلها على الكافة - لم يكن عن استعمال رخصةٍ في هذه الحال، ولا سكونٍ إلى عوارض من الإغفال والإهمال، بل هو أمر ركب فيه متن التدبير، وجرت بمثله المقادير، واتبع فيه قوله تعالى: " فأمليت للذين كفروا، ثم أخذتهم فكيف كان نكير " وحين خدعته المطامع المردية إلى الأعمال القاهرة مؤملاً انفصام عروة الله المتينة، وأفول ما توقد من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ، سكنت النفوس إلى أن الحضرة العلية - ثبت الله مجدها - ستجرد له من عزماتها الماضية ما يعجل دماره، وتنتضي له من آرائها الكاملة ما يعفي آثاره، وحين اصطدمت الرجال، وتوالت الأنباء بانكسار اللعين، وما منحته الحضرة من النصر المبين، حتى نهبت الأموال وتحكمت السيوف بحكم القاد الغالب. وأكلتهم الحرب أكل الغرثان الساغب، وأنشبت فيهم أظفارها المنية، وكسيت الأرض من دمائهم حلةً عسجديةً، وولى المخذول على أدباره، ونكص على أعقابه بوبيل أوزاره، يخاف من نجوم الليل أن ترجمه، ومن شمس النهار أن تصطلمه، وترك ما معه يقسم يميناً وشمالاً، ومن حشده يقتل ركباناً ورجالاً، علم أن لله تعالى عنايةً بالدولة الزاهرة، وتحقق أن له سبحانه رعايةً بالملة الطاهرة، تحوط أقطارها، وتضاعف أنوارها، ولطفاً خفياً بهذه الرعية، ومشيئةً نافذةً في هذه البرية، التي لولا مقام الحضرة العلية لمزق أديمها، واستبيح حريمها، والله المحمود على ما منح من هذه النعمة، والمسؤول أن يشد ببقاء الحضرة العلية قواعد الإسلام والأقلام، ويسم بمحامدها أغفال الأيام، ويستخدم لها السيوف والأقلام، حتى لا يبقى على وجه الأرض مفحص قطاةٍ إلا وقد دوخها سنابك خيولها، ولا مسقط نواة إلا وقد ركزت فيه صدور رماحها ونصولها، فقد دفعت - أدام الله جمال الدنيا ببقائها، وأعز كمال الدين ببأسها وأصالة رأيها - خطباً جسيماً، واستلقحت من السياسة أمراً عقيماً، وأعادت شمل الأمة ملموماً نظيماً " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وكان فضل الله عليك عظيماً " فأما العبد المملوك فقد تلاعبت به أيدي الأقدار، وقذفته العطلة في هوةٍ بعيدة الأقطار، وهو يعد نفسه ويوقيها، ويسوفها ويمنيها، أن مراحم، الحضرة نصر الله أعلامها، تعيد كساد بضاعته نفاقاً، واضطرب حاله انتظاماً واتساقاً، وسكون ريحه خفوقاً، وغروب حظه شروقاً، إن شاء الله تعالى.
زكتب إلى بعض إخوانه: أغب كتاب مولاي حتى أضرم ناراً في الفؤاد، وحالف بين جفني والسهاد:
ثم وافى بلفظه الرائق العذ ... ب وأغنى عن الزلال البرود
وقوله أيضاً:
وقرأته متنزهاً ... في روضه وغديره
جمع البلاغة كلها ... تختال بين سطوره
فالدر في منظومه ... والسحر في منثوره
وعرفت ذكر الشوق الذي هيج أحزاناً، ونكأ قرحاً لا يندمل زماناً، وإن عندي بشهادة الله ما يضرم ناره، ويشب أواره، والله تعالى، يسهل من ألطافه الخفية ما يجمع الشمل، ويصل الحبل، ويقرب الدار، ويدني المزار، بمحمدٍ وآله والأئمة الأطهار.

وأما حالي بعده، وارتياحي إلى ما عنده، وتأسفي على الفائت من أخلاقه التي هي من الحسن أدق، ومن الماء أصفى وأرق: فحال صبٍ أخذ ما في فؤاده، وحولف بين طرفه وسهلاده، فحرم لذلك لذيذ رقاده، وأما عتبه علي لتأخر كتبي عنه، وبعدها منه: فهو يعلم - حرس الله مدته - أنني إذا واصلت أو أغببت أنه سمير لخاطري، وإن غاب عن ناظري، وهو نازل بضمائري، وإن بان من بين مخالطي ومعاشري:
يا غائباً عن ناظري ... وحاضراً في خاطري
لا تخش مني جفوةً ... فباطني كالظاهر
والله يعلم أني لم أغفل كتابه صرماً وهجراً، ولا أهملت مجاوبته نقضاً لمودته الكريمة ولا غدراً، فإنه من العين بمكان من السواد، ومن الصدر بموضع الفؤاد، وبسبب هذا الاعتقاد وما ذكرت من محض الوداد، أبثه أشجاناً، وأطلعه على أسراري إسراراً وإعلاناً، ثقةً بوده، وتمسكاً بوثيق عهده وعقده، لو رآني فسح الله مدته، وضاعف علي مودته، لرأى صباً قلبه خفيق، ودمعه طليق:
قلق الضمير بظبيةٍ وهنانةٍ ... فلها بقلبي هزة وعلوق
الوجه طلق والوشاح مهفهف ... والردف دعص والقوام رشيق
وتبسمت عن واضحٍ فضحت به ... سطع البروق ونم منه رحيق
هذه الأبيات تغني عما أردت أن أشرحه، وتنبيء عن مكنون ما سبيلي أن أثبته واوضحه، والله المسؤول أن يقضي مأربي بسعادة جده، ويزيل عني ما أخشاه بتمام إقباله ومجده، وكتابه هو فسحة للصدر، ومنية ما يطلب من الدهر، ولرأيه علوه في إمضائه إلي ووفوده علي.
وكتب إلى ابن المغربي يهنئه بالفتوح، - أدام الله بقاء سيدنا الوزير الأجل، وما سطع الصبح بعموده، وهمهم السحاب برعوده، وطلعت في الأفق أنجم سعوده - :
نعتده ذخر العلا وعتادها ... ونراه من كرم الزمان وجوده
الدهر يضحك من بشاشة بشره ... والعيش يطرب من نضارة عوده
فقد ألبس الله الدهر من مناقب الحضرة السامية ما أخرس الأئمة، وأفاض على الكلفة من آلائها ما تملك به رق المآثر، ويعجز عنه كل ناظمٍ وناثرٍ، يقصر عنه لسان البليغ ويفضل عن مقلة الناظر، فما ينفك - خلد الله أيامه - يذود عن الدولة برأيٍ صائبٍ، وحسامٍ قاضبٍ يتحاسد عليه الدرع والدراعة، ويتنافس فيه الصمصامة واليراعة، والملك بين هذين متين العماد، مستبحر الثماد:
ما زال قائد كتيبةٍ وكتيبةٍ ... بأصيل رأيي منصلٍ وفؤاد
شبهان من قلمٍ ومن صمصامةٍ ... شهراً ليوم ندىً ويوم جلاد
وما وقفت في هذا المقام موقفاً وحشياً، ولا وقع عندها موقعاً أجنبياً، بل اقتفت آثار أسلافٍ خفقت عليهم ألوية المعالي وبنودها، ووسمت بأسمائهم جباه الممالك وخدودها، وتحيف الكرم أموالهم وهي أثيثة الجناح، وذللت عزامهم النوب وهي شديدة الجماح:
كتاب ملكٍ يستقيم برأيهم ... أود الخلافة أو أسود الصباح
بصدور أقلام ترد إليهم ... سرف الرياسة أو صدور رماح
كان العبد خدم المجلس السامي بخدمةٍ قصدها التهنئة بما فتح الله تعالى من الظفر بالعدو الذي أطاع شيطانه، ومد في مضمار الغي أشطانه، واتبع ما أسخط الله وكره رضوانه، وجرى الله على جميل عادته في زلزلة أطواده، واستئصال أحزابه وأجناده، الذين غدت الرماح تستقي مياه نحورهم، والسيوف تنتهب ودائع صدورهم، والحمام يجول عليهم كل مجالٍ، ويستدنى إليهم نوازح الآجال:
ما طال بغي قط إلا غادرت ... فعلاته الأعمار غير طوال
فتح أضاء به الزمان وفتحت ... فيه الأسنة زهرة الآمال
وأرجو أن يكون التوفيق قضى بوصولها، وأذن في قبولها، فيمتد ظل، ويثري مقل، ويصوب عارض مستهل.
أيعجز فضلك عن خادمٍ ... وأنت بأمر الورى مستقل؟
وبحكم ما العبد عليه من تطلع الأمل القوي، وتوقع الإنعام الكسروي، عززها بهذه المناجاة، وإن كان على ثقةٍ أن رشاه قد ألقي في الغدير القريب، ورائده قد خيم بالمرتع الخصيب:
لو رأينا التوكيد خطة عجزٍ ... ما شفعنا الأذان بالتثويب
ولع - أدام الله عزه - الرأي العالي فيه، إن شاء الله تعالى.

وكتب إلى صارم الدولة بن معروفٍ: - أدام الله بقاء الحضرة الصارمية - يجري القدر على حسب أهويتها، ويعقد الظفر بعزائم ألويتها، ويحلى بذكرها ترائب الأيام العاطلة، وينجز بكرمها عدات الحظوظ المماطلة، ما أصحب الجامح، وأضاء السماك الرامح، وعافت الماء الإبل الطوامح.
وما سحبت في مفرق الأرض ذيلها ... خوافق ريحٍ للسحاب لواقح
إذا رفض الناس المديح وطلقوا ... بنات العلا زفت إليه المدائح
أيام الناس شهود مختلفة في الأقوال، وصنوف متباينة الأحوال، فيوم تؤرخ السير بسودده وسنائه، وينطق بمحامد قومٍ ألسنة أبنائه، ويوم يخبو في موقف الجد شهابه، ويعبق بمسك المدام إهابه، فالحمد لله الذي جعل الحضرة سامية عقال الخطوب العوارم، ونظام المحاسن والمكارم، يعتدها الزمن نسيم أصائله، وزهر خمائله، وشموس مشارقه، وتيجان مفارقه، فيجب على كل من ضم اليراعة بنانه، وأطلق في ميدان البراعة عنانه، ألا يخلي مجلسه من مدحٍ معروضةٍ، وخدمٍ مفروضةٍ، يسهب فيها الواصف ويوجبها الإنعام المتراصف:
عسى منة تقوى على شكر منه ... وهيهات أعيا البحر من هو راشف
ولو كنت لا تولي يداً مستجدةً ... إلى أن توفى شكر ما هو سالف
حميت حريم المال من سطوة الندى ... وغاضت وحاشاها لديك العوارف
وكم عزمةٍ في الشكر كانت قويةً ... فأضعفها إحسانك المتضاعف
رعى الله من عم البرية عدله ... فأنصف مظلوم وأومن خائف
له منن في حرب خطبٍ عواطف ... دماث وفي صدر الخطوب عواصف
فكم أهلٍ هدته نصر الله عزائمها بعد الضلال، وحرٍ استنقذته من حبائل الإقلال، ومرهقٍ خففت عنه وطأة الزمن المتثاقل، وطريدٍ بوأته من حرمها أمنع المعاقل:
منازل عزٍ لو يحل ابن مزنةٍ ... بها لسلا عما له من منازل
فيا صارماً يعطي وينسى عطاءه ... ولم نر سيفاً ذا وفاء ونائل
يكاد يفيض البرق من وجناته ... إذا ما أتاه سائل بوسائل
إذا هو عرى سيفه من عموده ... وأفضي بفضفاضٍ من السرد ذابل
وقد صبغ النقع النهاربصيغةٍ ... ترى ناصلاً منها بياض المناصل
رأيت متون الخيل تحمل ضيغماً ... مرير مذاق الكيد حلو الشمائل
يلذ له طعم الكماة كأنما ... جرى الشنب المعسول فوق العواسل
وكم أخرست أطرافها من غماغمٍ ... لأقرابه واستنطقت من ثواكل
من القوم تترك لهم عند كاشحٍ ... طوال ردينياتهم من طوائل
إذا ما سروا خلف العدو وهجروا ... تظلل من أرماحهم في ظلائل
وما ذبلت يوماً خميلة عزةٍ ... إذا زرعت فيها كعوب الذوابل
أوائل مجدٍ لم يزل فاخراً بها ... تميم بن مرٍ أو كليب بن وائل
ثم جاءته مناقب الحضرة العلية، فتم بها مناقب تميمٍ، وحكم لآل القعقاع أمر حكيم، ونصر لواء بني نصرٍ، وأبدرت أهلة بني بدرٍ، ونبه منبه هوازن، وظهرت مزينة ومازن، وضحك لعبسٍ عابس الدهر، وراحت الكملة كاملة الفخر، وزادت مغايظ الأزد، وقشرت قشيراً عن بلوغ المجد، وأغمدت سيوف بني غامدٍ، وصارت همدان كالجمر كالجمر الهامد، ومذحج كالعنس مذللةً، وحمير بالراية الحمراء متظللةً، وطوت طيئ عملها استخذاءً، وغصت جفنة جفونها استحياءً - فحرس الله محاسن الحضرة السامية - التي جباه الأنام بها موسومة، وتمم نعمها التي هي بينها وبين الناس مقسومة، ولا زالت الدولة الفاطمية تحمد عزائمها التي شهدت لها بمداومة الكفاءة وأنشرت من النصائح كل رميمٍ رفاتٍ:
كأنك حين ضل الناس عنها ... هديت إلى رضا هادي الرعاة
مزيل المال من ملك الأعادي ... وناظم شمله بعد الشتات
سيينطق بالثناء على عليٍ ... وعترته المنابر صامتات
فقاد له إلى بغداد قوداً ... تجلى لحمها جنب الفرات
عليها كل داني الحلم ثبتٍ ... سفيه السيف من بعد الثبات

كأنهم إذا التحموا المنايا ... يقيدون الحياة من الممات
يسابقون إلى العدو الأعنة، فتطعن عزائمهم قبل الأسنة، ويقتدون بالحضرة السامية في خوض الرهج، وإرخاص المهج، وتحكل الأعباء، في موالاة أصحاب العباء - ولا سلب الله هذا الثغر وأهله - : ما وهب لهم من إنعامه الذي يتهافت إليهم متناسقاً، ويعيد غصن مجدهم ناصراً باسقاً:
إذا ما فلي الناس السماح عشقته ... وأحسن ما تسدى المكارم عاشقا
حمى الله من كيد الزمان خلائقاً ... وسعت بها يا بن الكرام خلائقا
إذا ظلموا كانت شموساً طوالعاً ... وإن أجدبوا كانت غيوثاً دوافقا
وقد زاد شهر الصوم ربعك صابحاً ... له بأفاويق السعود وغابقا
تنور بالقرآن أسداف ليله ... فيبيض منها كل ما كان غاسقا
تأرج من تقواك فيه لطائم ... يظل لها عرنين عامك ناشقا
فعش أبداً ما شوهد الأفق أورقا ... وراح قضيب الأيك أخضر أورقا
إذا عد قوم للمعالي أخامصاً ... عددناك تيجاناً لها ومفارقا

الحسن بن محمدبن حمدون
بن الحسن بن محمد بن حمدون أبو سعد بن أبي المعالي بن أبي سعدٍ الكاتب. قد تقدم ذكر أبيه صاحب الديوان بهاء الدين أبي المعالي، وذكر عمه أبي نصرٍ محمد بن الحسن كاتب الإنشاء، وكان أبو سعدٍ هذا في حادي عشر المحرم سنة ثمانٍ وستمائةٍ كما نذكره فيما بعد. ومولدهفي صفرٍ سنة سبعٍ وأربعين وخمسمائةٍ. وكان - رحمه الله - من الأدباء العلماء الذين شاهدناهم، زكي النفس، طاهر الأخلاق، عالي الهمة، حسن الصورة، مليح الشيبة، ضخم الجثة، كث اللحية طويلها، طويل القامة، نظيف اللبسة، ظريف الشكل، وهو ممن صحبته فحمدت صحبته، وشكرت أخلاقه، وكان قد ولي عدة ولاياتٍ عاينت منها النظر في البيمارستان العضدي، وكانت هيبته فيه ومكانته منه أعظم من مكانة أرباب الولايات الكبار، لأن الناس يرونه بعين العلم والبيت القديم في الرياسة، ثم ولي عند الضرورة كتابة السكة بالديوان العزيز ببغداد، يرزق عشرة دنانير في الشهر، وسألته: فقلت حمدون الذي تنسبون إليه، أهو حمدون نديم المتوكل ومن بعده من الخلفاء؟ فقال: لا، نحن من آل سيف الدولة بن حمدان بن حمدون من بين تغلب، هذا صورة لفظه.
وكان من المحبين للكتب واقتنائها، والمبالغين في تحصيلها وشرائها، وحصل له من أصولها المتقنة وأمهاتها المعينة، ما لم يحصل أحد للكثير، ثم تقاعد به الدهر وبطل عن العمل، فرأيته يخرجها ويبيعها وعيناه تذرفان بالدموع كالمفارق لأهله العزاء، والمفجوع بأحبابه الأوداء. فقلت له: هون عليك - أدام الله أيامك - فإن الدهر ذو دولٍ، وقد يسعف الزمان ويساعد وترجع دولة العز وتعاود، فتستخلف ماهو أحسن منها وأجود. فقال: حسبك يا بني: هذه نتيجة خمسين سنةً من العمر أنفقتها في تحصيلها، وهب أن المال يتيسر. والأجل يتأخر - وهيهات - فحينئذً لا أحصل من جمعها بعد ذلك إلا على الفراق، الذي ليس بعده تلاقٍ، وأنشد بلسان الحال:
هب الدهر أرضاني وأعتب صرفه ... وأعقب بالحسنى وفك من الأسر
فمن لي بأيام الشباب التي مضت ... ومن قبل بما قد مر في البؤس من عمري؟؟
ثم أدركته منيته ولم ينل أمنيته، وكان حرصاً على العلم، فجمع من أخبار العلماء، وصنف من أخبار الشعراء وألف كتباً كان لا يجسر على إظهارها خوفاً مما طرق أباه مع شدة احترازٍ، وبالجملة: فعاش في زمن سوءٍ وخليفةٍ غشومٍ جائرٍ، كان إذا تنفس خاف أن يكون على نفسه رقيب يؤدي به إلى العطب، وهو كان آخر من بقي من هذا البيت القديم، والركن الدعيم، ولم يخلف إلا ابنةً مزوجةً من ابن الدوامي، وما أظنها معقبةً أيضاً، وكان مع اغتباطه بالكتب ومنافسته ومناقشته فيها جواداً بإعارتها، ولقد قال لي يوماً - وقد عجبت من مسارعته إلى إعارتها للطلبة - : ما بخلت بإعارة كتابٍ قط ولاأخذت عليه رهناً. ولا أعلم أنه مع ذلك فقد كتاباً في عاريةٍ قط. فقلت: الأعمال بالنيات، وخلوص نيتك في إعارتها لله حفظها عليك.

وكتب بخطه الرائق طرائف الكتب الكثيرة الكبار والصغار المروية، وقابلها وصححها وسمعها على المشايخ. فكان ممن لقي من المشايخ: أبو بكرٍ محمد بن عبيد الله الزاغوني، والنقيب أبو جعفرٍ أحمد بن محمد بن عبدٍ العباسي المكي، وأبو حامدٍ محمد بن الربيع الغرناطي مغربي قدم عليهم، وأبو المعالي محمد بن محمد بن النحاس العطار، ووالده أبو المعالي بن حمدون، وأبو الفتح محمد بن عبد الباقي بن سليمان المعروف بابن البطي، وجماعة بعدهم كثيرة كابن كليب الحراني، وابن بوشٍ وغيرهم.
وروى شيئاً من مسموعاته يسيراً، وكان مؤيد الدين محمد بن محمدٍ القمئ نائب الوزارة ببغداد: قد خرج إلى ناحية خوزستان حيث عصى سنجر مملوك الخليفة بها حتى قبض عليه وعاد به وفي صحبته عز الدين نجاح الشرابي، فخرج الناس لتلقيه عند عوده في المحرم سنة ثمانٍ وستمائةٍ، وكان تاج الدين فيمن يخرج خرج لتلقيه عند عوده في المحرم سنة ثمانٍ وستمائةٍ، وكان عبلاً ترفاً معتاداً للدعة والراحة، ملازماً لعقر داره، وكان الحر شديداً والوقت صائفاً، فلما انتهى إلى المدائن اشتد عليه الحر وتكاثف، حتى أفضى به إلى التلف، فمات - رحمه الله - في الوقت المقدم ذكره بالمدائن، بينه وبين بغداد سبعة فراسخ، فخمل إلى بغداد ودفن بمقبرة موسى بن جعفرٍ بباب التين ت رحمه الله، ورضي عنه.
الحسن بن محمدٍ الصغاني النحوي
ويقال صاغان - من بلاد ما وراء النهر - قدم العراق وحج، ثم دخل اليمن ونفق له بها سوق، وكان وروده إلى عدن سنة عشرٍ وستمائةٍ، وله تصانيف في الأدب، منها: تكملة العزيزي، وكتاب في التصريف ومناسك الحج ختمه بأبياتٍ قالها وهي:
شوقي إلى الكعبة الغراء قد زادا ... فاستحمل القلص الوخادة الزادا
أراقك الحنظل العامي منتجعاً ... وغيرك انتجع السعدان وارتادا
أتعبت سرحك حتى آض عن كثبٍ ... نياقها رزحاً والصعب منقادا
فاقطع علائق ما ترجوه من نشب ... استودع الله أموالاً وأولادا
وكان يقرأ عليه بعدن معالم السنن للخطابي، وكان معجباً بهذا الكتاب وبكلام مصنفه ويقول: إن الخطابي جمع لهذا الكتاب جراميزه، وقال لأصحابه: احفظوا غريب أبي عبيدٍ القاسم بن سلامٍ، فمن حفظه ملك ألف دينارٍ، فإني حفظته فملكتها، وأشرت على بعض أصحابي بحفظه وملكها. وفي سنة ثلاث عشرة وستمائةٍ كان بمكة، وقد رجع من اليمن وهو آخرالعهد به.

الحسن بن المظفر النيسابوري
أبو عليٍ، أديب نبيل، شاعر مصنف، ذكره أبو أحمد بن أرسلان في تاريخ خوارزم فقال: مات أبو عليٍ الحسن بن المظفر الأديب الضرير النيسابوري ثم الخوارزمي في الرابع من شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وأربعمائةٍ، وأثنى عليه ثناءً طويلاً زعم فيه أنه كان مؤدب أهل خوارزم في عصره، ومخرجهم وشاعرهم ومقدمهم والمشارإليه منهم، وهو شيخ أبي القاسم الزمخشري قبل أبي مضر، وله نظم ونثر. وذكر أن له ولداً اسمه عمر وكنيته أبو حفصٍ، أديب فقيه فاضل، وله شعر منه:
سبحان من ليس في السماء ولا ... في الأرض ند له وأشباه
أحاط بالعالمين مقتدراً ... أشهد أن لا إله إلا هو
وخاتم المرسلين سيدنا ... أحمد رب السماء سماه
أشرقت الأرض بعد بعثته ... وحصحص الحق من محياه
ومات أبو حفصٍ هذا في شعبان سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائةٍ ووجدت للحسن بن المظفر من التصانيف: كتاب تهذيب ديوان الأدب، وكتاب تهذيب إصلاح المنطق، وكتاب ذيله على تتمة اليتيمة لم أقف على اسمه، كتاب ديوان شعره مجلدتان، كتاب ديوان رسائله، كتاب محاسن من اسمه الحسن، كتاب زيادات أخبار خوارزم. نقلت من الكتاب الذي وصل به تتمة اليتيمة، وذكر فيه أشياء من شعره ورسائله ختم بها كتابه، وهو أنه قال: الحسن بن المظفر النيسابوري مؤلف الكتاب: نيسابوري المحتد، خوارزمي المولد، وممن كان عارفاً بنفسه، غير مفتونٍ بنظمه ونثره، فإنه سلك طريق أبي منصور الثعالبي - رحمه الله - فيما أورده من شعره في آخر كتاب تتمة اليتيمة، فأورد نبذاً مما يستحسن من كلامه، ويستبدع مننظامه، فمن نثره الساذج رقعة له:

عرف الله الشيخ الرئيس بركة شهر رمضان، ووفقه من طاعته لما يكتسب به من العفو، ولولا العذر الواقع من الوصول لقصدت مجلسه - أعلاه الله - بالتهنئة والتسليم وقضاء حقه العظيم، هذا - أدام الله تمكينه - وعهدي به يعدني من جملة عياله، ويخصني كل وقتٍ بأفضاله، فليت شعري لم عدل إلى الفطام من ذلك الإنعام؟ فإن كان نسيان فقد جاءه ذكرى، وإن كان هجران فحاشاه من هجري. وله من أخرى: الشيخ يسترق الأحرار بعوائد فضله وبواديه، حتى لا حر بواديه. ومن نظمه:
أهلاً بعيشٍ كان جد موات ... أحيا من اللذات كل موات
أيام سرب الأنس غير منفرٍ ... والشمل غير مروعٍ بشتات
عيش تحسر ظله عنا فما ... أبقى لنا شيئاً سوى الحسرات
ولقد سقاني الدهر ماء حياته ... والآن يسقيني دم الحيات
لهفي لأحرارٍ منيت ببعدهم ... كانوا على غير الزمان ثقاتي
قد زالت البركات غنى كلها ... بزيال سيدنا أبي البركات
ركن العلا والمجد والكرم الذي ... قد فات في الحلبات أي فوات
فارقت طلعته المنيرة مكرهاً ... فبقيت كالمحصور في الظلمات
أضحي وأمسي صاعداً زفراتي ... لفراقه متحدراً عبراتي
وأنشد فيه لنفسه:
جبينك الشمس في الأضواء والقمر ... يمينك البحر في الإرواء والمطر
وظلك الحرم المحفوظ ساكنه ... وبابك الركن للقصاد والحجر
وسيبك الرزق مضمون لكل فمٍ ... وسيفك الأجل الجاري به القدر
أنت الهمام بل البدر التمام بل الس ... يف الحسام بل الصارم الذكر
وأنت غيث الأنام المستغاث به ... إذا أغارت على أبنائها الغير
وأنشد انفسه:
أريا شمالٍ أم نسيم من الصبا ... أتانا طروقاً أم خيال لزينبا؟
أم الطالع المسعود طالع أرضنا ... فأطلع فيها للسعادة كوكباً؟
قال أبو عليٍ الضرير: رأيت ابن هودار في المنام بعد موته فقلت له: لقد تحولت من دارٍ إلى دارٍ، فهل رأيت قراراً يا بن هودار؟ قال: فأجابني:
لا بل وجدت عذاباً لا انقطاع له ... مدى الليل ورباً غير غفار
ومنزلاً مظلماً في قعر هاويةٍ ... قرنت فيها بكفارٍ وفجار
فقل لأهلي موتوا مسلمين فما ... للكافرين لدي الباري سوى النار
الحسن بن ميمونٍ النصري
أحد بني نصر بن قعين بن طريف بن أسد بن خزيمة. روى عنه محمد بن النطاح، وكان أخيارياً عارفاً، ذكره محمد بن إسحاق وقال: له من الكتب كتاب الدولة، كتاب المآثر.

الحسن بن أبي المعالي
ابن مسعود بن الحسين أبو عليٍ الحلي المعروف بابن الباقلاني النحوي. ولد سنة ثمانٍ وستين وخمسمائةٍ، وهو أحد أئمة العربية في العصر، سمع من أبي الفرج بن كليبٍ وغيره، وقرأ العربية على أبي البقاء العكبري، واللغة على أبي محمد بن المأمون، وقرأ الكلام والحكمة على الإمام نصير الدين الطوسي، وانتهت إليه الرياسة في هذه الفنون وفي علم النحو، وأخذ فقه الحنفية عن أبي المحاسن بن إسماعيل الدانغاني الحنفي، ثم انتقل إلى مذهب الإمام الشافعي، وكان ذا فهمٍ ثاقبٍ وذكاءٍ وحرصٍ على العلم، وكان كثير المحفوظ - وكتب الكثير بخطه - ذا وقارٍ مع التواضع ولين الجانب، لقيته ببغداد سنة سبعٍ وثلاثين وستمائةٍ، وكان آخر العهد به.
أبو الحسن البوراني النحوي
ذكره محمد بن إسحاق في نحاة المعتزلة ووصفه بالتدقيق في مسائل الكتاب لسيبويه، وكان من طبقة أبي عليٍ الفارسي.
الحسين بن أحمد بن بطويه
أبو عبد الله النحوي لا أعلم من أمره شيئاً، ومن شعره:
وماذا عليهم لو أقاموا فسلموا ... وقد علموا أني مشوق متيم
سروا ونجوم الليل زهر طوالع ... على أنهم في الليل للناس أنجمد
وأخفوا على تلك المطايا مسرهم ... فنم عليهم في الظلاء التبسم
وقال:
وإذا الدر زان حسن وجوهٍ ... كان للدر حسن وجهك زينا

وتزيدين أطيب الطيب طيباً ... إن تمسيه أين مثلك أينا؟

الحسين بن أحمد بن خالويه
ابن حمدان أبو عبد الله اللغوي النحوي من كبار أهل اللغة والعربية أصله من همذان، ودخل بغداد طالباً للعلم سنة أربع عشرة وثلاثمائةٍ، فلقي فيها أكابر العلماء وأخذ عنهم، فقرأ القرآن على الإمام ابن مجاهدٍ، والنحو والأدب على أبي بكر بن دريدٍ وأبي بكر بن الأنباري ونفطويه، وأخذ اللغة عن أبي عمر الزاهد، وسمع من محمدٍ بن مخلدٍ العطار وغيره.
وقرأ على أبي سعيدٍ السيرافي، وأخذ عنه المعافا بن زكريا النهرواني وآخرون، وانتقل إلى الشام ثم إلى حلب فاستوطنها، وتقدم في العلوم حتى كان أحد أفراد عصره، وكانت الرحلة إليه من الآفاق، واختص بسيف الدولة بن حمدان وبنيه، وقرأ عليه آل حمدان، وكانوا يجلونه ويكرمونه، فانتشر علمه وذاع صيته وله مع أبي الطيب المتنبي مناظرات. ودخل يوماً على سيف الدولة فلما مثل بين يديه قال له: اقعد ولم يقل اجلس. قال ابن خالويه: فعلمت بذلك اعتلاقه بأهداب الأدب، واطلاعه على أسرار كلام العرب. قلت " قال ابن خالويه ذلك هذا، " لأنه يقال للقائم اقعد، وللنائم والساجد اجلس " .
وقال أبو عمروٍ الداني في طبقات القراء: كان ابن خالويه عالماً بالعربية، حافظاً للغة، بصيراً بالقراءة ثقةً مشهوراً، روى عنه غير واحدٍ من شيوخنا عند المنعم بن غلبون، والحسن بن سليمان وغيرهما. وروى أن رجلاً جاء إلى ابن خالويه وقال له: أريد أن أتعلم من العربية ما أقيم به لساني، فقال: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو فما تعلمت ما أقيم به لساني.
وذكر ابن خالويه في أماليه: أن سيف الدولة سأل جماعةً من العلماء بحضرته ذات ليلةٍ: عل هل تعرفون اسماً ممدوداً وجمعه مقصور؟ فقالوا: لا، فقال لي: ما تقول أنت؟ قلت: أنا أعرف اسمين، قال: ما هما؟ قلت: لا أقول لك إلا بألف درهمٍ لئلا تؤخذ بلا شكرٍ، وهما الصحراء وصحارى، وعذراء وعذارى. قال: سمعت ابن الأنباري يقول: اللئيم الراضع الذي يتخلل ويأكل خلالته.
وقال: حدثنا نفطويه عن أبي الجهم عن الفراء أنه سمع أعرابياً يقول: قضت علينا السلطان. قلت: السلطان يذكر ويؤنث والتذكير أعلى، ومن أنثه ذهب به إلى الحجة، وحكي عن أبي عمر الزاهد أنه قال في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أكلتم فرازموا " أي افصلوا بين اللقمة والطعام باسم الله تعالى.
وحكى عنه أبو بكرٍ الخوارزمي وهو من تلامذته أنه قال: كل عطرٍ مائعٍ فهو الملاب، وكل عطر يابسٍ فهو الكباء، وكل عطرٍ يدق فهو الألنجوج. ولابن خالويه من التصانيف: كتاب أسماء الأسد ذكر له فيه خمسمائة اسمٍ، وإعراب ثلاثين سورةً، والبديع في القراءات، وكتاب اشتقاق خالويه، وكتاب " ليسن " وهو كتاب نفيس، وكتاب الاشتقاق، وكتاب الحمل في النحو، وكتاب المقصود والممدود، وكتاب المذكر والمؤنث، وشرح مقصورة ابن دريدٍ، وكتاب الألفات، وكتاب الآل، ذكر في أوله أن الآل ينقسم إلى خمسةٍ وعشرين قسماً، وذكر فيه الأئمة الاثني عشر ومواليدهم ووفياتهم وغير ذلك. مات ابن خالويه في حلب سنة سبعين وثلاثمائةٍ. ومن شعره:
ألجود طبعي وليس لي مال ... فكيف يبذل من القرض يحتال؟
فهاك حظي فخذه اليوم تذكرةً ... إلى اتساعي فلي في الغيب آمال
وقال:
إذا لم يكن صدر المجالس سيداً ... فلا خير فيمن صدرته المجالس
وكم قائلٍ مالي رأيتك راجلاً ... فقلت له من أجل أنك فارس
وقال:
أيا سائلي عن قد محبوبتي الذي ... كلفت به وجداً وهجت غراما
أبى قصر الأغصان ثم رأى القنا ... طوالاً فأضحى بين ذاك قواما
الحسين بن أحمد بن محمد

ابن جعفر بن محمدٍ المعروف بابن الحجاج الكاتب الشاعر أبو عبد الله شاعر مفلق قالوا إنه في درجة امرئ القيس، لم يكن بينهما مثلهما وإن كان جل شعره مجون وسخف، وقد أجمع أهل الأدب على أنه مخترع طريقته في الخلاعة والمجون لم يسبقه إليها أحد، ولم يلحق شأوه فيها لاحق، قدير على ما يريده من المعاني الغاية في المجون مع عذوبة الألفاظ وسلاستها، وله مع ذلك في الجد أشياء حسنة لكنها قليلة، ويدخل شعره في عشر مجلداتٍ أكثره هزل مشوب بألفاظ المكدين والخلديين والشطار ولكنه يسمعه أهل الأدب على علاته، ويتفكهون بثمراته، ويستملحون بنات صدره المتهتكات، ولا يستنقلون حركاتهن لخفتها وإن بلغت في الخفة غاية الغايات.
وإني لأقول كما قال أبو منصورٍ: لولا قول إبراهيم بن المهدي: إن جد الأدب جد وهزله هزل، لصنت كتابي هذا عن مثل هذا المجون. وحديثٍ كله ذو شجونٍ.
ولقد مدح الملوك والمراء والوزراء والرؤساء، فلم يخل شعره فيهم من هيبة المقام من هزلٍ وخلاعةٍ. فلم يعدوه مع ذلك من الشناعة، وكان عندهم مقبولاً مسموعاً غالي المهر والسعر، وكان يتحكم على الأكابر والرؤساء بخلاعته، ولا يحجب عن المراء والوزراء مع سخافته، يستقبلونه بالبشاشة والإكرام، ويقابلون إساءته بالإحسان والإنعام، وناهيك برجلٍ يصف نفسه بمثل قوله:
رجل يدعي النبوة في السخ ... ف ومن ذا يشك في الأنباء
جاء بالمعجزات يدعو إليها ... فأجيبوا يا معشر السخفاء
حدث السن لم يزل يتلقى ... علمه بالمشايخ الكبراء
خاطر يصفع الفرزدق في الشع ... ر ونحو ينيك أم الكسائي
غير أني أصبحت أضيع في القو ... م من البدر في ليالي الشتاء
وقوله في وصف شعره:
بالله يا أحمد بن عمروٍ ... تعرف للناس مثل شعري؟
شعر يفيض الكنيف منه ... من جانبي خاطري وفطري
فلفظه منتن المعاني ... كأنه فلتة بجحر
لو جد شعري رأيت فيه ... كواكب الليل كيف نتسري
وإنما هزله مجون ... يمشي به في المعاش أمري
وقال:
فإن شعري ظريف ... من بابة الظرفاء
ألذ معنىً وأشهى ... من أسماع الغناء
وقال:
إن عاب ثعلب شعري ... أو عاب خفة روحي
خرئت في باب أفعل ... ت من كتاب الفصيح
وقال في الأمير عز الدولة بختيار:
فديت وجه الأمير من قمرٍ ... يجلو القذى نوره عن البصر
فديت من وجهه يشككني ... في أنه من سلالة البشر
إن زليخا لو أبصرتك لما ... ملت إلى الحشر لذة النظر
ولم تقس يوسفاً إليك كما ... نجم السهى لا يقاس بالقمر
وكان يا سيدي قميصك إن ... هربت منها ينقد من دبر
بل وحياتي لوكنت يوسفها ... لم تك من تهمة العزيز بري
لأنني عالم بأنك لو ... شممت ريا نسيمها العطر
سنقتها وانزلقت تتبعها ... ما بين تلك البيوت و الحجر
وقد علمنا بأن سيدناال ... أمير ممن يقول بالبظر
ولم تكن تلك تشتكي أبداً ... ما كان من يوسفٍ من الحذر
طبعك كالماء في سهولته ... لكن أبو الزبرقان من حجر
إن الملوك الشباب ما خلقوا ... إلا صلاب الفياش والكمر
وقال يشكو سوء وابعث بها إلى ابن العميد:
فداؤك نفس عبدٍ أنت مولىً ... له يرجوك يا خير الموالي
حديثي منذ عهدك بي طويل ... فهل لك في الأحاديث الطوال؟
فإني بين قومٍ ليس فيهم ... فتىً ينهي إلى الملك اختلالي
فلحمي ليس تطبخه قدوري ... وحوتي ليس تقليه المقالي
وماءئ قد خلت منه جبابي ... وخبزي قد خلت منه سلالي
وكيسي الفارغ المطروح خلفي ... بعيد العهد بالقطع الحلال
أفكر في مقامي وهو صعب ... وأصعب منه عن وطني ارتحالي

فبي مرضان مختلفان حالي ال ... عليلة منهما تمسي بحال
إذا عالجت هذا جف كبدي ... وإن عالجت ذلك ربا طحالي
وقال في مثل ذلك أيضاً:
يا سيد عشت في نعمٍ ... تأوي إليها موابذ العجم
بديهتي في الخصام حاضرة ... أشهر في الخافقين من علم
والخط خطي كما تراه ولا ال ... زهرة بين القرطاس والقلم
هذا وخبزي حافٍ بلا مرقٍ ... فكيف لو ذقت لذة الدسم؟
مالي وللحم إن شهوته ... قد تركتني لحماً على وضم
وما لحلقي والخبز يجرحه ... بالملح يشكو مرارة اللقم
وقال في مثل ذلك:
خليلي قد اتسعت محنتي ... علي وضاقت بها حيلتي
عذرت عذاري في شيبه ... وما لمت إذ شمطت لمتي
إلى كم يخاسسني دائماً ... زماني المقبح في عشرتي
تحيفني ظالماً غاشماً ... وكدر بعد الصفا عيشتي
وكنت تماسكت فيما مضى ... فقد خانني الدهر في مسكتي
إلى منزلٍ لا يوارى إذا ... تربعت فيه سوى سوءتي
مقيماً أروح إلى حجرةٍ ... كقبري وما حضرت ميتتي
إذا ما لم ألم صديقي به ... على رغبةٍ منه في زورتي
فرشت لع فيه بسط الحدي ... ث من باب بيتي إلى صفتي
ومعدته في خلال الكلا ... م تشكو خواها إلى معدتي
وقد فت في عضدي ما به ... ولكن به غلبت علتي
وأغدو غدواً خليقاً بأن ... يزيد به الله في شقوتي
فأية دارٍ تيممتها ... تيمم بوابها حجتي
وإن أنا زاحمت حتى أموت ... دخلت وقد زهقت مهجتي
فيرفعني الناس عند الوصول ... إليهم وقد سقطت عمتي
وإن نهضوا بعد للإنصرا ... ف أسرعت في إثرهم نهضتي
وإن قدموا خيلهم للركوب ... خرجت فقدمت لي ركبتي
وفي جمل الناس غلمانهم ... وليس سوائي في جملتي
ولا لي غلام فأدعو به ... سوى من أبوه أخو عمتي
وكنت مليحاً أروق العيو ... ن قبلاً فقد قبحت خلقتي
وقوسني الهم حتوى انطويت ... فصرت كأني أبو جدتي
وكان المزين فيما مضى ... تكسر أمشاطه طرتي
وكنت برأسٍ كلون الغداف ... فقد صرت أصلع من فيشتي
ويا رب بيضاء رود الشبا ... ب كانت تحن إلى وصلتي
فصارت تصد إذا أبصرت ... مشيبي وتغضبت من صلعتي
على أنني قلت يوماً لها ... وقد أمضت العزم في هجرتي
دعي عنك ما فوقه عمتي ... فإن جمالي ورا تكتي
هناك سيء يسر العيو ... ن طويل عريض على دقتي
وقال:
ويحكم يا كهول أو يا شيوخ ال ... فسق أو يا معشر الفتيان
إشربوها حمراء مما اقتناها ... آل دير العاقول للقربان
بكؤوسٍ كأنها ورق النس ... رين فيها شقائق النعمان
إشربوها وكل إثمٍ عليكم ... إن شربتم بالرطل في ميزاني
في ليالٍ لو أنها دفعتني ... وسط ظهري وقعت في رمضان
وقال يستهدي أبا تغلب بن حمدان فرساً:
اسمع المدح الذي لو قيل في ... أحدٍ غيرك قالوا سرقا
جاء يهديك مهراً أدهماً ... يركب الفارس منه غسقا
كالدجى تبصر من غرته ... فوق أطباق دجاه فلقا
جل أن يلحق مطلوباً ومن ... طلب الريح عليه لحقا
فتراه واقفاً في سرجه ... يتلظى من ذكاه قلقا
فإذا طاب به المشي مضى ... وهو كالريح يشق الطرقا
كالسحاب الجون إلا أنه ... ليس يسفي الأرض إلا عرقا
جمع الأمرين يعدو المرطي ... في مدى السبق ويمشي العنقا
واستدعاه الوزير للخروج معه إلى القتال فقال من قصيدةٍ:

يا سائلي عن بكاي حين أرى ... دموع عيني تسابق المطرا
ساعة قيل الوزير منحدر ... أسرع دمعي وفاض منحدرا
وقلت يا نفس تصبرين وهل ... يعيش بعد الفراق من صبرا؟
شاورته والهوى يفتته ... والرأي رأي الصواب قد حضرا
أهوى انحداري والحزم يكرهه ... وتارك الحزم يركب الغررا
لأنني عاقل ويعجبني ... لزوم بيتي وأكره السفرا
الخيش نصف النهار يعجبني ... والماء بالثلج بارداً خصرا
والشرب في روشني أقول به ... كيما أرى منه والقمرا
ولا أقود الخيل العتاق بلى ... أسوق بين الأزقة البقرا
من كل جاموسةٍ لعنبلها ... رأس بقرنيه يفلق الحجرا
قد نفخ الشحم جوفها فغدا ... كأنه بطن ناقةٍ عشرا
تركض مثل الحصان نافرةً ... ومن يرد الحصان إن نفرا؟
أحسن في الحرب من صفوفكم ... غداً قعودي أصفف الطررا
هيهات أن أحضر القتال وأن ... ترى بعينيك فيه لي أثرا
بل الذي لا يزال يعجبني ال ... دبيب بالليل خاءفاً حذرا
الدف عند الصباح دبدبتي ... وبوقي الناي كلما زمرا
هذا اعتقادي وهكذا أبداً ... أرى لنفسي وأنت كيف ترى؟
ومن مقطعاته:
ملك لو لم يكن من ملكه ... غير دارٍ وشحت بالنعم
لو رمى شداد فيها طرفه ... زهدته بعدها في إرم
وقال:
صنعت في دارك فوارةً ... أغرقتفي الأرض بها الأنجما
فاض على نجم السهى ماؤها ... فأصبحت أرضك تسقي السما
وقال:
واستوفعمر الدهر في نعمةٍ ... دون مداها موقف الحشر
مصيبة الحاسد في مكثها ... مصيبة الخنساء في صخر
وقال:
هذا حديثي تنمي عجائبه ... بكثرة القال فيه والقيل
أعجزني دفنه فشاع كما ... أعجز قابيل دفن هابيل
وقال:
قد رفع الصلح على غلتي ... واقتسموها كارةً كارةً
لا يفلس البقال إلا إذا ... تصالح السنور والفارة
وقال:
عجبت من الزمان وأي شيءٍ ... عجيبٍ لا أراه من الزمان
يصادر قوت جرذانٍ عجافٍ ... فيجعله لأوعالٍ سمان
وقال:
يا رائحاً في داره غادياً ... بغير معنىً وبلا فائده
قد جن أضيافك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائده
وقال:
فديت من لقبني مثل ما ... لقبته والحق لا يغضب
إن قلت يا عرقوب خادعتني ... يقول لم نفسك يا أشعب
وقال:
قد قلت لما غدا مدحي فما شكروا ... وراح ذمي فما بالوا ولا شعروا
علي نحت القوافي من معادنها ... وما علي إذ لم تفهم البقر
وقال:
الصبح مثل البصير نوراً ... والليل في صورة الضرير
فليت شعري بأي رأيٍ ... يختارأعمى على بصير؟
وقال:
إن بني برمك لو شاهدوا ... فعلك بالغائب والشاهد
ما اعترف الفضل بيحيى أباً ... ولا انتمى يحيى إلى خالد
وقال:
مولاي يا من كل شيءٍ سوى ... نظيره في الحسن موجود
إن كنت أذنبت بجهلي فقد ... أذنب واستغفر داود
ولطائف ابن الحجاج كثيرة، وفيما أوردناه منها كفاية. توفي يوم سابع عشر جمادى الآخرة، سنة إحدى وتسعين وثلاثمائةٍ، ودفن في بغداد عند مشهد موسى الكاظم بن جعفرٍ الصادق - رضي الله عنهما - وكان أوصى أن يدفن عند رجليه ويكتب على قبره: " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " . وكان من كبار شعراء الشيعة وقد رآه بعض أصحابه في المنام بعد موته فقال له: ما حالك فأنشد:
أفسد سوء مذهبي ... في الشعر حسن مذهبي
لم يرض مولاي على ... سبي لأصحاب النبي
ورثاه الشريف الرضي الموسوي بقصيدةٍ ارتجلها حين أتاه نعيه فقال:

نعوه على ضن قلبي به ... فلله ماذا نعى الناعيان
رضيع صفاء له شعبة ... من القلب مثل رصيع اللبان
بكيتك للشرد السائرا ... ت تعبث ألفاظها بالمعاني
مواسم ينهل منها الحيا ... بأشهر من مطلع الزبرقان
جوائف تبقى أخاديدها ... عماقاً وتعفو ندوب الطعان
تبض إلى اليوم آثارها ... بأحمر من عائد الطعن قاني
قعاقعهن تشن الحتوف ... إذا هن أوعدن لا بالشنان
وما كنت أحسب أن المنون ... تفل مضارب ذاك اللسان
لسان هو الأزرق القعضبي ... تمضمض في ريقه الأفعواني
له شفتا مبرد الهالكي ... أنحى بجانبه غير واني
إذا لز بالعرض مبراته ... تصدع صدع الرداء اليماني
يرى الموت أن قد طوى مضغةً ... ولم يطو إلا غرار السنان
فأين تسرعه للنضال ... وهباته للطزال اللدان
يشل الجوائح شل السياط ... ويلوي الجوانح لي العنان
فإن شاء كان حران الجماح ... وإن شاء كان جماح الحران
يهاب الشجاع غذاميره ... على البعد منه مهاب الجبان
وتعنو الملوك له خيفةً ... إذا راع قبل اللظى بالدخان
وكم صاحب كمناط الفؤاد ... عناني من يومه ما عناني
قد انتزعت يدي من المنون ... ولم يغن ضمي عليه بناني
فزال زيال الشباب الرطيب ... وخانك يوم لقاء الغواني
ليبك الزمان طويلاً عليك ... فقد كنت خفة روح الزمان

الحسين بن الحسن بن واسان
ابن محمدٍ أبو القاسم الواساني الدمشقي توفي سنة أربعٍ وتسعين وثلاثمائةٍ، شاعر مجيد برع وبرز في الهجاء، له فيه نفس طويل، فهو في عصره كابن الرومي في زمانه، وله أهاجٍ كثيرة في ابن القزاز لعداوةٍ تأصلت بينهما، وكان هجاؤه له سبباً لعزل الواساني عن عمله، ومن أجود شعره قصيدته النونية التي وصف بها دعوةً عملها في خمرايا من قرى دمشق قال:
من لعينٍ تجود بالهملان ... ولقلبٍ مدلهٍ حيران؟
يا خليلي أقصرا عن ملامي ... وارثيا لي في نكبتي وارحماني
ومتى ما ذكرت دعوة أبنا ... ء البغايا والعاهرات الزواني
فانتفا لحيتي وجزا سبالي ... وبنعلي الكثيف فاستقبلاني
ما الذي ساقني لحيني إلى حت ... في وما غالني وماذا دهاني؟
من عذيري من دعوةٍ أوهنت عظ ... مي وهدت بوقعها أركاني؟
كنت في منظرٍ ومستمعٍ من ... ها ومن ذا ينجو من الحدثان؟
فترت فطنتي وهجت على نف ... سي بلاءً ما كان في حسباني
كان عيشي صافٍ فكدره أه ... ل صفائي بنو أبي صفوان
فارثوا لي معاشر الناس من ض ... ري ومن طول محنتي وامتحاني
ضرب البوق في دمشق ونادوا ... لشقائي في سائر البلدان
النفير النفير بالخيل والرج ... ل إلى قفر ذا الفتى الواساني
جمعوا لي الجموع من جيل جيل ... ن وفرغانةٍ ومن ديلمان
ومن الروم والصقالب والتر ... ك وبعض البلغار واليونان
ومن الهند والأعاجم والبر ... بر والكيلجوج والبلقان
لم يحاشوا ممن عددت من الآ ... فاق من مسلمٍ ولا نصراني
والبوادي من الحجاز إلى نج ... دٍ معديها مع القحطاني
كل شكلٍ ما بين حدبٍ وحولً ... وأصمٍ والعمى والعوران
وشيوخٍ قب البطون وشبا ... نٍ رحاب الأشداق والمصران
كل ذي معدةٍ تقعقع جوعاً ... وهو شاكي السلاح بالأسنان
كل ذي اسمٍ مستغرب أعجميٍ ... منعت صرف إسمه علتان

كمرندٍ وطغتكين وطرخا ... ن وكسرى وخرمٍ وطغاني
وخمارٍ وزيركٍ وخوندٍ ... ومميشٍ وطشلمٍ وجوان
وطرادٍ وجهبلٍ وزيادٍ ... وشهابٍ وعامرٍ وسنان
غمر جمعوا بغير عقولٍ ... وازعاتٍ عني ولا أديان
هل سمعتم بمعشرٍ جمعوا الخي ... يل وساروا بالرجل والفرسان
رحلوا من بيوتهم ليلة المر ... فع من أجل أكلةٍ مجان
شره بارد وحرص على ال ... كل فويلي من معشرٍ مجان
لست أنسى مصيبتي يوم جاؤو ... ني وقد ضاق عنهم الواديان
وردوا ليلة الخميس علينا ... في خميسٍ ملء الربا والمغاني
متوالٍ كالسيل لا يلتقي من ... ه لفرط انتشاره الطرفان
أشرفوا بي على زروعٍ وأحطا ... بٍ وبيتٍ بخيره ملآن
لبنٍ فارسٍ وخبزٍ طريٍ ... وقدورٍ تغلي على الداركان
وشواءٍ من الجراء ومعل ... ف دجاجٍ وفائق الحملان
وشرابٍ ألذ من زورة المع ... شوق بعد الصدود والهجران
يخجل الورد في الروائح والطع ... م ويحكي شقائق النعمان
أذكرتني جيوشهم يوم جاؤو ... ني بيوم الكلاب والرحرحان
يقدم القوم أرحبي هريت الش ... شدق رحب المعي طويل اللسان
هو نمس الدجاج والبط والوز ... ز وذئب النعاج والخرفان
بسوادٍ من عظمه طبق الأر ... ض وخيلٍ يهوين كالظلمان
وأبو القاسم الكبير على طر ... فٍ كميتٍ أقب كالسرحان
وأخوه الصغير يعترض الخي ... ل على قارحٍ عريض اللبان
وهما يهويان بالساق والرج ... ل إلى ما يسوؤني مسرعان
والسري الذي سرى في جيوشٍ ... أضعفتني وقصرت من عناني
بفمٍ واسعٍ وشدقٍ رحيبٍ ... وبكفٍ تجول كالصولجان
وأخوه الفضل الذي بان للعا ... لم من فضله شفا النقصان
والشمولي حلقه حلق حما ... ل عريض الأكتاف عبل الجران
لست أنساه جاثياً جاحظ ال ... عين عبوساً في صورة الغضبان
كالعقاب الغرثان يقتنص اللح ... م ويهوى إلى طيور الخوان
والأديب الذي به كنت أعت ... د غزاني في الحين فيمن غزاني
وكذا الكاتب الذي كان جاري ... وصديقي ومشتكى أحزاني
وصديق الأشراف أخنى على خم ... ري وأفنى بالكرع ما في دناني
كلما شقق الفراريج شقق ... ت لغيظي من فعله قمصاني
وهو من أمره مجر رخى الب ... ال لم يعنه الذي قد عناني
مجرهد كالسوس في الصوف في الص ... يف بقلبٍ خالٍ من الإيمان
قلت قل لي يابن المبشر ما شأ ... نك من بين من غزاني وشأني؟
ليس هذا من شهوة الأكل هذا ... من طريق البغضاء والشنآن
قلت للفيلسوف لما غدا في ال ... أكل أعني فتى أبي عدنان
وأستحث الكؤوس صرفاً بلا مز ... جٍ ولاءً كالهائم الظمآن
ليت شعري أذاك من طب بقرا ... ط تعلمته وسمع الكيان؟
وبهذا تزداد بالعالم الجس ... مي علماً والعالم الروحاني
ثم لا تنس ما لقيت وما سم ... ت هواناً من عسكر الفرغان
أعجمي اللسان أفصح من ق ... سٍ إذا ما انتشى ومن سحبان
قال: قم فأتنا بخبزٍ ولحمٍ ... ونبيذٍ معتقٍ في الدنان
وغلامٍ مهفهفٍ حسن الوج ... ه يحاكي جماله غصن بان
لم توكل فرغان إلا بتفري ... غ دناني وصبها في القناني

إن من أعظم المصائب ياق ... م بلائي بذلك الطرمذان
رجل كالغنيق فدم بلا ل ... بٍ طويل في صورة الشيطان
بقفاً كالحديد يصمد للصف ... ع ورأسٍ أصم كالسندان
واسع الحلق ناقص الخلق والدي ... ن غليظ القذال كالفلتان
يبلع المطجنات بلعاً بلا مض ... غٍ ويحثو النبيذ كالعطشان
وأتوني بزامرٍ زمره يح ... كي ضراط العبيد والرعيان
ومغنٍ عناؤه يجشيء النف ... س ويأتي بالقيء والغثيان
قصدت هذه الطوائف خمرا ... يا ابتلاءً ونكبةً لامتحاني
قلت ما شأنكم فقالوا أغثنا ... ما طعمنا الطعام منذ ثمان
وأناخوا بنا فيالك من يو ... مٍ عصيبٍ من حادثات الزمان
نزلوا ساحتي وأطلقت الخي ... ل بزرع الحقول والبستان
أفقروني وغادروني بلا دا ... رٍ ولا ضيعةٍ ولا صيوان
أدهشوني وحيروني وقد صر ... ت ذهولاً أهيم كالسكران
أسمع اللفظ كالطنين فهم أل ... فاظهم ما لها لدى معاني
تركوني يا قوم أجرد من فر ... خٍ وأعرى ظهراً من الأفعوان
أكلوا لي من الجرادق ألفي ... ن بدبسٍ يسيل كالقطران
أكلوا لي ما حولها ثم مالوا ... كذئابٍ إلى سميد الفران
أكلوا لي من الجداء ثلاثي ... ن وسبعاً بالخل والزعفران
أكلوا ضعفها شواءً وضعفي ... ها طبيخاً من سائر الألوان
أكلوا لي تبالةً تبلت عق ... لي بعشرٍ من الدجاج سمان
أكلوا لي مضيرةً ضاعفت ضر ... ري بروس الجداء والحملان
أكلوا لي كشكيةً كشكت قل ... بي وهاجت بفقدها أشجاني
أكلوا لي سبعين حوتاً من النع ... ر طرياً من أعظم الحيتان
أكلوا لي عدلاً من المالح المق ... لو ملقىً في الخل والأذنان
أكلوا لي من القريشاء والبر ... ني والمعقلي والصرفان
ألف عدلٍ سوى المصغر والبر ... دي واللؤلؤي والصيخاني
أكلوا لي من الكزامخ والجو ... ز معاً والخلاط والأجبان
ومن البيض والمخلل ما تع ... جز عن جمعه قرى حوران
فتتوا لي من السفرجل والتف ... اح والرازقي والرمان
والرياحين ما رهنت عليه ... جبتي عند أحمد الفاكهاني
أذبلوا لي من البنفسج والنر ... جس ما ليس مثله في الجنان
ذبحوا لي بالرغم يا معشر النا ... س ثمانين رأس معزٍ وضان
ما كفاه تذبيحهم غنم الر ... ية حتى أتوا على الثيران
أكلوا كل ما حوته يميني ... وشمالي وما حوى جيراني
ثم قالوا هلم شيئاً فنادي ... ت غلامي قم ويك فاخبأ حصاني
لم تدع لي بطونكم يا بني البظ ... ر سواه وذا شطوبٍ يماني
فتمالوا علي شتماً ولعناً ... واستباحوا عرضي بكل لساني
ثم جاء المعقبون من السا ... سة والشاكري والعبدان
فرأيت الصراع والدفع واللط ... م وخرم النوف والآذان
ثم لما أتوا على كل شيء ... ختموا محنتي بكسر الأواني
ثم قاموا مثل البزاة إلى العص ... فور والعصفري والزربطان
فرأيت الطيور بعضاً على بع ... ضٍ وبعضاً ملقىً على الأغصان
أكلوا ما ذكرت ثم أراقوا ... يا صحابي كرا من الأشنان
ومن المحلب المطيب بالبا ... ن وماء الكافور سبع براني
شربوا لي عشرين ظرفاً من الرا ... ح لذيذ المذاق أحمر قاني

فأقاموا سواسهم والمكارو ... ن إلى أن سمعت صوت الأذان
يجمعون الأحطاب من حيث وافو ... ها فللظهر ضاع لي غيضتان
ومنها:
قطعوا اللوز والسفرجل أحطا ... باً ومالوا بها على غلماني
والنواطير مددوا وعلوهم ... حنقاً بالعصي والقضبان
طالبوني " بالشيء " في آخر اللي، ... ل وجمع النساء والمردان
قم فأسرع فبعضنا يطلب المر ... د وبعض مستهتر بالغواني
فتوهمته مزاحاً فجدوا ... قلت هذا ضرب من الهذيان
ليس يبقى على أرامل خمرا ... يا سوى بذلهن للضيفان
لو سمعتم يا قوم في غسق اللي ... ل بكاء النسوان والولدان
يتنادون بالعويل وبالوي ... ل وراء الأبواب والجدران
ومنها:
ثم راحوا بعد العشاء إلى دا ... ري فلم يتركوا سوى الحيطان
كان لي مفرش وكل مليحٍ ... فوقه مطرح من الميساني
وبساط من أحسن البسط مذخو ... ر لعرسٍ أو دعوةٍ أو ختان
غرقوه بالبصق والقيء والبو ... ل فأضحى وقدره بعرتان
أوقدوا زيتنا جزافاً بلا كي ... لٍ يكيلونه ولا ميزان
خلت داري يا إخوتي المسجد الجا ... مع ليلاً للنصف من شعبان
ثم لما انتهت بهم شدة الكظ ... ظة خروا صرعى إلى الأذقان
هوموا ساعةً كتهويمة الخا ... ئف في غير أرضه الفزعان
ثم قاموا ليلاً وقد جنح النس ... ر ومال السماك والفرقدان
يصرخون الصبوح يا صاحب البي ... ت فأبكوا عيني وراعوا جناني
سحبوني من عقر داري على وج ... هي كأني أدعى إلى السلطان
ومنها:
هل سمعتم فيما سمعتم بإنسا ... نٍ عراه في دعوةٍ ما عراني
أسعدوني يا إخوتي وثقاتي ... بدموعٍ يجري في الأجفان
إخوتي من لواكف الدمع محزو ... نٍ كئيبٍ مولهٍ حيران؟
هائم العقل ساهر الليل باكي ال ... عين واهي القوى ضعيف الجنان
لم يكن ذا القران إلا على شؤ ... مي فويلي من نحس ذاك القران
والقصيدة كلها غرر ولطائف، أجاد وأحسن فيها كل الإحسان، وأبان عن مقاصده بها أحسن بيانٍ. ومن شعر أبي القاسم أيضاً قوله:
لا تصغ للوم إن اللوم تضليل ... واشرب ففي الشرب للأحزان تحويل
فقد مضى القيظ واحتثت رواحله ... وطابت الراح لما آل أيلول
وليس في الأرض نبت يشتكي رمداً ... إلا وناظره بالطل مكحول
وقال:
ولما نضا وجه الربيع نقابه ... وفاحت بأطراف الرياض النسائم
فطارت عقول الطير لما رأينه ... وقد بهتت من بينهن الحمائم
وهمن جنوناً بالرياض وحسنها ... صدحن وفي أعناقهن التمائم
وقال:
أنلني بالذي استقرضت خطاً ... وأشهد معشراً قد شاهدوه
فإن الله خلاق البرايا ... عنت لجلال هيبته الوجوه
يقول: إذا تداينتم بدينٍ ... إلى أجلٍ مسمى فاكتبوه
وقال:
إذا دنت السحب الثقال وحثها ... من الرعد حادٍ ليس يبصر أكمه
أحاديثه مستهولات وصوته ... إذا انخفضت أصواتهن مقهقه
إذا صاح في آثارهن حسبته ... يجاوبه من خلفه صاحب له
وقال يهجو منشا بن إبراهيم القزاز:
إن منشا قد زاد في التيه ... وزاد في شامنا تعديه
فلا ابن هندٍ ولا ابن ذي يزنٍ ... ولا ابن ماء السما يدانيه
وهو مغيظ على الوصي ومن ... يعزى إليه ومن يواليه
يذكر أيام خيبرٍ بهم ... فهم قذىً جال في أماقيه

وقد حكى أن فاه أطيب من ... سرمي وأني ممن يعاديه
ومن يقول القبيح فيه ومن ... أصبح بالمعضرت يرميه
فسوكوه بكل طيبة الر ... ريح تعفى على مساويه
ومضمضوه بالخل واجتهدوا ... معاً بكل اجتهادكم فيه
وأطعموه من الجوارش ما ... يعمل بالمسك والأفاويه
وأنهلوه من خمرٍ معتقةٍ ... قد صانها القس في خوابيه
واستفقحوني واستنكهوه تروا ... أن لسرمي فضلاً على فيه
وأحملوا الكلب والحمار على ... عياله واصفعوا محبيه
وقال يهجو أبا الفضل يوسف بن عليٍ، ويعرض فيها أيضاً بمنشا بن إبراهيم القزاز، وكانت هذه القصيدة سبب عزله عن عمله:
يا أهل جيرون هل أسامركم ... إذا استقلت كواكب الحمل؟
بمالحٍ كالرياض باكرها ... نوء الثريا بعارضٍ هطل
أو مثل نظم الجمان ينظم في ال ... عقد ووشي البرود والحلل
يلذ للسامع الغناء بها ... على خفيف الثقيل والرمل
كنت على باب منزلي سحراً ... أنتظر الشاكري يسرج لي
وطال ليلي لحاجةٍ عرضت ... باكرتها والنجوم لم تزل
فمر بي في الظلام أسود كال ... أقيل عريض الأكتاف والعضل
أشغى له منخر ككوة ... تنورٍ وعين كمقلة الجمل
ومشفر مسبل كخر رحى ... على نيوبٍ مثل المدى عضل
مشقق الكعب أفدع اليد والر ... رجل طويل الساقين كالسبل
فأهدت الريح منه لي أرجاً ... مثل جني الروض في ندىً خضل
مسكاً وقفصيةً معتقةً ... شيبا ببانٍ وعنبرٍ شمل
فقلت ما هكذا يكون إذا انفض ... ض الندامى روائح السفل
أسود غادٍ من الأتون له ... عرف أميرٍ نشوان ذي ثمل
هذا ورب السماء أعجب من ... حمار وحشٍ في البر منتعل
أردده يا نصر كي أسائله ... فشأنه عضلة من العضل
فقال يخشى فوات حاجتنا ... وليس هذا من أكبر الشغل
فقلت ترك الفضول نصر وإن ... أنجاك عين الخمول والكسل
بادره من قلب أن يفوتك في ... مسيره بين هذه السبل
فصد عني تغافلاً ومضى ... يعجب من عقله ومن خللي
وصاح من خلفه رويدك يا ... أسود مالي بالعدو من قبل
إرجع إلى ذلك الرقيع وإن ... أطال في هذره فلا تطل
أجب إذا ما سئلت مقتصداً ... في القول واسكت إن أنت لم تسل
وهو بترك الفضولأجدر لو ... سلم من خفةً ومن خطل
فكر نحوي عجلان يعثر في ... مرطٍ كسيه مبرغثٍ قمل
وقد مذى والمذى يقطر من ... غرموله في الذيول كالوشل
وظن أني صيد فأبرز لي ... فيشلةً مثل ركبة الجمل
وقال لج داركم لأولجها ... فيك وإن كنت لم تبل فبل
ومنها:
قلت له لا عدمت برك قد ... بذلت ما لم يكن بمبتذل
لكنني والذي يمد لك ال ... عمر ويعطيك غاية الأمل
ما شق دبري مذ كنت فيشلة ... ولا انتخاب الأيور من عملي
ولا لهذا دعيت فابغ لمي ... لوخك من يستلذه بدلي
وهات قل لي من أين جئت ومن ... أين أقبلت يا أبا جعل؟
فقال لي: بت عند عاملكم ... هذا أبي الفضل يوسف بن علي
فصاك بي طيبه وصكت به ... مني صناناً في حدة البصل
تركته في النهار أخفش لا ... ينظر في خدمةٍ ولا عمل
قلت تطاولت وافتريت على ... شيخٍ نبيلٍ ينمى إلى نبل

أبوه قسطاً وجده صمع ... يدعى حنيناً وعمه الصملي
لعل ذا غيره فصفه فما ... يخدع مثلي بهذه الحيل
فإن تكن صادقاً نجوت وأنحي ... ت عليه باللوم والعذل
وإن تكن كاذباً صفعتك بالن ... عل فإن كنت قائلاً فقل
فقال يا سيدي عجلت بمك ... روهي وكان الإنسان من عجل
هذا الذي بت عنده نصف ... دون عجوزٍ وفوق مكتهل
في فيه نتن وتحت عصعصه ... عين تمج الصديد في دغل
أنتن من كل ما يقال إذا ... بالغ في الوصف ضارب المثل
وهو على ذاك مولع أبداً ... لشؤم بختي بالعض والقبل
له إذا ما علوته نفس ... أمضى من السيف في يدي بطل
والقصيدة طويلة نحو مائةٍ وأربعين بيتاً، وفيها من الفحش ما لا يجمل بالأديب ذكره، وفيما أوردناه كفاية، ومن شعره:
ومهفهفٍ يزهو علي بجيده ... وبخصره وبردفه وبساقه
وافى إلي وقلبه متخوف ... كتخوف المعشوق من عشاقه
حتى إذا مددته وحللت عن ... كفلٍ مباح الحل بعد وثاقه
فاحت على أصنة من ردفه ... بخلاف ما قد فاحمن أطواقه
فسألته ماذا فقال بحرقةٍ ... ودموعه تنهل من آماقه
هذا ابن بسطامٍ أتانيطارقاً ... بلطيف حيلته وحسن نفاقه
وعلا على ظهري ويلقم مثقبي ... برياله المنهل من أشداقه
فبقي صنان رضابه في فقحتي ... زمناً لحاه الله بعد فراقه
فالله يحرمه معيشته كما ... قد سد مكسب مثقبي ببصاقه

الحسين بن سعد بن الحسين بن محمد
ٍ
أبو عليٍ الآمدي اللغوي الشاعر الأديب، توفى ليلة الخميس خامس ربيعٍ الآخر سنة أربعٍ وأربعين وأربعمائةٍ. ولد بآمد ونشأ بها، ثم قدم بغداد فأخذ بها عن أبي يعلى الفراء، وأبي طالب بن غيلان، وأخذ بالشام عن جماعةٍ. ودخل أصبهان فاستوطنها ومات ودفن بها، وله مؤلفات. ومن شعره:
وأهيف مهزوز القوام إذا انثنى ... وهبت لعذري فيه ذنب اللوائم
بثغرٍ كما يبدو لك الصبح باسمٍ ... وشعرٍ كما يبدو لك الليل فاحم
مليح الرضا والسخط تلقاه عاتباً ... بألفاظ مظلومٍ وألحاظ ظالم
ومما شجاني أنني يوم بينه ... شكوت الذي ألقى إلى غير راحم
وحملت أثقال الهوى غير حاملٍ ... وأودعت أسرار غير كاتم
وأبرح ما لاقيته أن متلفي ... بما حل بي في حبه غير عالم
ولو أنني فيه سهرت لساهرٍ ... لهان ولكني سهرت لنائم
وقال:
أتنسب لي ذنباً ولم أك مذنباً ... وحماتنيفي الحب مالا أطيقه
وما طلبي للوصل حرص على البقا ... ولكنه أجر إليك أسوقه
وقال:
نوهم واشينا بليلٍ مزاره ... فهم ليسعى بيننا بالتباعد
فعانقته حتى اتحدنا تعانقاً ... فلما أتانا ما رأى غير واحد
وقال:
بنفسي وروحي ذلك العارض الذي ... غدا مسكه تحت السوالف سائلا
درى خده أني أجن من الهوى ... فهيأ لي قبل الجنون سلاسلا
وقال:
تصدر للتدريس كل مهوسٍ ... بليدٍ تسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيتٍ قديمٍ شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس
الجزء العاشر
الحسين بن الضحاك

ابن ياسرٍ البصري المعروف بالخليع أبو عليٍ، أصله من خراسان، وهو مولىً لولد سلمان بن ربيعة الباهلي الصحابي، فهو مولىً لا باهلي النسب كما زعم ابن الجراح، بصري المولد والمنشأ، وهو شاعر ماجن، ولذلك لقب بالخليع، وعداده في الطبقة الأولى من شعراء الدولة العباسية المجيدين، ولد سنة اثنتين وستين ومائةٍ، وتوفي في بغداد سنة خمسين ومائتين، وقد ناهز المائة، وكان شاعراً مطبوعاً حسن التصرف في الشعر، وكان أبو نواسٍ يغير على معانيه في الخمر، فإذا قال شيئاً فيها نسبه الناس إلى أبو نواسٍ، وله غزل كثير أجاد فيه، وهو أحد الشعراء المطبوعين الذين أغناهم عفو فرائحهم عن التكلف، وقد اتصل الحسين بن الضحاك بالخلفاء من بني العباس ونادمهم، وأول من جالس منهم: محمد الأمين بن هارون الرشيد، وكان اتصاله به سنة ثمانٍ وتسعين ومائةٍ، وهي السنة التي قتل فيها الأمين، وتنقل بعده في مجالس الخلفاء ونادمهم إلى الحين الذي مات فيه في زمن المستغين، وقيل في زمن المنتصر.
حدث الصولي عن عبد الله بن محمدٍ الفارسي عن ثمامة بن أشرس قال: لما قدم المأمون من خراسان وصار إلى بغداد، وأمر بأن يسمى له قوم من أهل الأدب ليجالسوه ويسامروه، فذكر له جماعة فيهم الحسين بن الضحاك، فقرأ أسماءهم حتى بلغ إلى اسم الحسين فقال: أليس هو الذي يقول في الأمين يعني أخاه:
هلا بقيت لسد فاقتنا ... أبداً وكان لغيرك التلف
فلقد خلفت خلائفاً سلفوا ... ولسوف يعوز بعدك الخلف
لا حاجة لي فيه، والله لا يراني أبداً إلا في الطريق، ولم يعاقب الحسين على ما كان من هجائه له وتعريضه به. قال: وانحدر إلى البصرة فاقام بها طول أيام المأمون، واستقدمه المعتصم من البصرة حين ولي الخلافة بعد موت المأمون، فلما دخل عليه استأذن في الإنشاد فأذن له، فأنشده يمدحه:
هلا سألت تلدد المشتاق ... ومننت قبل فراقه بتلاق
إن الرقيب ليستريب تنفس الص ... صعدا إليك وظاهر الإقلاق
ولئن أربت لقد نظرت بمقلةٍ ... عبري عليك سخينة الآماق
نفسي الفداء لخائفٍ مترقفبٍ ... جعل الوداع إشارة بعناق
إذ لا جواب لمفحمٍ متحيرٍ ... إلا الدموع تصان بالإطراق
ومنها:
خير الوفود مبشر بخلافةٍ ... خصت ببهجتها أبا إسحاق
وافته في الشهر الحرام سليمةً ... من كل مشكلةٍ وكل شقاق
أعطته صفقتها الضمائر طاعةً ... قبل الأكف بأوكد الميثاق
سكن الأنام إلى إمامٍ سلامةٍ ... عف الضمير مهذب الأخلاق
فحمي رعيته ودافع دونها ... وأجار مملقها من الإملاق
قل للألى صرفوا الوجوه عن الهدى ... متعسفين تعسف المراق
إني أحذركم بوادر ضيغمٍ ... دربٍ بخطم موائل الأعناق
متأهبٍ لا يستفز جنانه ... زجل الرعود ولامع الإبراق
لم يبق من متعزمين توثبوا ... بالشام غير جماجمٍ أفلاق
من بين منجدلٍ تمج عروقه ... علق الأخادع أو أسير وثاق
وثنى الخيول إلى معاقل قيصرٍ ... تختال بين أجرةٍ ودفاق
يحملن كل مشمرٍ متغشمٍ ... ليثٍ هزبرٍ أهرت الأشداق
حتى إذا أم الحصون منازلاً ... والموت بين ترائبٍ وتراق
هرت بطارقها هرير ثعالب ... بدهت بزأر قساورٍ طراق
ثم استكانت للحصار ملوكهم ... ذلاً ونيط حلوقهم بخناق
هربت وأسلمت البلاد عشيةً ... لم تبق غير حشاشة الأرماق
فلما أتمها قال له المعتصم، ادن مني، فدنا منه فملأفمه جوهراً من جوهرٍ كان بين يديه، ثم أمره بأن يخرجه من فيه،فأخرجه فأمر بأن ينظم ويدفع إليه ويخرج إلى الناس وهو في يده ليعلما موقعه منه ويعرفوا له فضله. وحدث الصولي عن عون بن محمدٍ الكندي قال: لما ولي المنتصر الخلافة دخل عليه الحسين بن الضحاك فهنأه بالخلافة وأنشده:

تجددت الدنيا بملك محمدٍ ... فأهلاً وسهلاً بالزمان المجدد
هي الدولة الغراء راحت وبكرت ... مشمرةً بالرشد في كل مشهدٍ
لعمري لقد شدت عرى الدين بيعة ... أعز بها الرحمن كل موحد
هنتك أمير المؤمنين خلافة ... جمعت بها أهواء أمة أحمد
فأظهر إكرامه والسرور به وقال له: إن في بقائك بهاءً للملك، وقد ضعفت عن الحركة، فكاتبني بحاجتك ولا تحمل على نفسك بكثرة الحركة، ووصله بثلاثة آلاف دينارٍ ليقضي بها ديناً بلغه أنه عليه، وقال في المنتصر أيضاً وهو آخر شعرٍ قاله:
ألا ليت شعري أبدر بدا ... نهاراً أم الملك المنتصر؟؟
إمام تضمن أثوابه ... على سرجه قمراً من بشر
حمى الله دولة سلطانه ... بجند القضاء وجند القدر
فلا زال ما بقيت مدة ... يروح بها الدهر أو يبتكر
واصطبح عند عبد الله بن العباس بن الفضل وخادم له قائم بين يديه يسقيه، فقال عبد الله: يا أبا عليٍ قد استحسنت سقي هذا الخادم، فإن حضرك شيء في هذا فقل، فقال:
أحيت صبوحي فكاهة اللاهي ... وطاب يومي بقرب أشباهي
فآثر اللهو في مكامنه ... من قبل يومٍ منغصٍ ناهي
بابنةٍ كرمٍ من كف منتطقٍ ... مؤتزرٍ بالمجون تياه
يسقيك من طرفه ومن يده ... سقي لطيفٍ مجربٍ داهي
كأساً وكأساً كأن شاربها ... حيران بين الذكور والساهي
وذكر الصولي في نوادره قال: حدثني علي بن محمد بن نصرٍ قال: حدثني خالي أحمد بن حمدون قال: قال الحسين بن الضحاك من أبياتٍ وقد عمر:
أما في ثمانين وفيتها ... عذير وإن أنا لم أعتذر
وقد رفع الله أقلامه ... عن ابن ثمانين دون البشر
وإني لمن أسراء الإله ... في الأرض نصب حروب القدر
فإن يقض لي عملاً صالحاً ... أثاب وإن يقض شراً غفر
وقال:
أصبحت من أسراء الله محتسباً ... في الأرض نحو قضاء الله والقدر
إن الثمانين إذ وفيت عدتها ... لن تبق باقيةً مني ولم تذر
قلت: والأصل في قول الحسين بن الضحاك هذا، الحديث الذي رواه ابن قتيبة في غريب الحديث. قال: حدثنا أبو سفيان الغنوي، حدثنا معقل بن مالكٍ عن عبد الرحمن بن سليمان، عن عبيد الله بن أنسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا بلغ العبد ثمانين سنةً فإنه أسير الله في الأرض، تكتب له الحسنات وتمحى عنه السيئات). وقال:
وصف البدر حسن وجهك حتى ... خلت أني وما أراك أراكا
وإذا ما تنفس النرجس الغض ... ض توهمته نسيم شذاكا
خدع للمنى تعللني في ... ك بإشراق ذا وبهجة ذاكا
وقال:
لا وحبيك لا أصا ... فح بالدمع مدمعا
من بكى شجوه استرا ... ح وإن كان موجعا
كبدي في هواك أس ... قم من أن تقطعا
لم تدع صورة الضنى ... في للسقم موضعا
وقال:
ألا إنما الدنيا وصال حبيب ... وأخذك من مشمولةٍ بنصيب
ولم أر في الدنيا كخلوة عاشقٍ ... وبذلة معشوقٍ ونوم رقيب
وقال يمدح الوزير الحسن بن سهلٍ:
أرى الآمال غير معرجاتٍ ... على أحدٍ سوى الحسن بن سهل
يباري يومه غده سماحاً ... كلا اليومين بان بكل فضل
أرى حسناً تقدم مستبداً ... ببعدٍ من رياسته وقبل
فإن حضرتك مشكلة بشكٍ ... شفاك بحكمةٍ وخطاب فصل
سليل مرازبٍ ترعوا حلوماً ... وراح صغيرهم بسداد كهل
ملوك إن جريت بهم أبروا ... وعزوا أن توازيهم بعدل
ليهنك أن ما أرجيرشد ... وما أمضيت من قولٍ وفعل
وأنك مؤثر للحق فيما ... أراك الله في قطعٍ ووصل
وأنك للجميع حيا ربيعٍ ... يصوب على قرارة كل محل
وقال يمدح الواثق لما ولي الخلافة:

أكتم وجدي فما ينكتم ... بمن لو شكوت إليه رحم
وإني على حسن ظني به ... لأحذر إن بحت أن يحتشم
ولي عند لحظته روعة ... تحقق ما ظنه المتهم
وقد علم الناس أني له ... محب وأحسبه قد علم
وإني لمغضٍ على لوعةٍ ... من الشوق في كبدي تضطرم
وعشية ودعت عن مدمعٍ ... سفوحٍ وزفرة قلب سدم
فما كان عند النوى مسعد ... سوى الدمع يغسل طرفاً كلم
سيذكر من بان أوطانه ... ويبكي المقيمين من لم يقم
ومنها في المديح:
إلى خازن الله في خلقه ... سراج النهار وبدر الظلم
ركبنا غرابيب زفافةٍ ... بدجلة في موجها الملتطم
إذا ما قصدنا لقاطولها ... ودهم قراقيرها تصطدم
وصرنا إلى خير مسكونةٍ ... تيممها راغب أو ملم
مباركةٍ شاد بنيانها ... بخير المواطن خير المم
كأن بها نشر كافورةٍ ... لبرد نداها وطيب النسم
كظهر الأديم إذا ما السحا ... ب صاب على متنها وانسجم
مبرأةٍ من وحول الشتاء ... إذا ما طمى وحله وارتكم
فما إن يزال بها راجل ... يمر الهوينا ولا يلتطم
ويمشي على رسله آمناً ... سليم الشراك نقي القدم
وللنون والضب في بطنها ... مراتع مسكونة والنعم
ومنهم:
يضيق الفضاء به إن عدا ... بطودي أعاريبه والعجم
ترى النصر يقدم راياته ... إذا ما خفقن أمام العلم
وفي الله دوخ أعداءه ... وجرد فهم سيوف النقم
وفي الله يكظم من غيظه ... وفي الله يصفح عمن ظلم
رأى شيم الجود محمودةً ... وما شيم الجود إلا قسم
فراح على نعمٍ واغتدى ... كأن ليس يحسن إلا نعم
وقال:
أتاني منك ما ليس ... على مكروهه صبر
فأغضيت على عمدٍ ... وقد يغضي الفتى الحر
وأدبتك بالهجر ... فما أدبك الهجر
ولا ردك عما كا ... ن منك النصح والزجر
فلما اضطرني المكر ... ه واشتد بي الأمر
تناولتك من ضري ... بما ليس له قدر
فحركت جناح الذل ... ل لما مسك الضر
إذا لم يصلح الخير ام ... رأً أصلحه الشر
وغضب عليه المعتص لشيءٍ جرى منه على النبيذ، فكتب إليه يسترضيه:
غضب الإمام أشد من أدبه ... وقد استجرت وعذت من غضبه
أصبحت معتصماً بمعتصمٍ ... أثنى الإله عليه في كتبه
لا والذي لم يبق لي سباً ... أرجو النجاة به سوى سببه
مالي شفيع غير حرمته ... ولكل من أشفى على عطبه

الحسين بن عبد اله بن يوسف
ابن أحمد بن شبلٍ أبو عليٍ البغدادي. ولد في بغداد وبها نشأ، وبها توفي سنة أربعٍ وسبعين وأربعمائةٍ. كان متميزاً بالحكمة والفلسفة، خبيراً بصناعة الطب، أديباً فاضلاً وشاعراً مجيداً، أخذ عن أبي نصرٍ يحيى بن جريرٍ التكريتي وغيره. وهو صاحب القصيدة الرائية التي نسبت للشيخ الرئيس ابن سينا وليست له، وقد دلت هذه القصيدة على علو كعبه في الحكمة والاطلاع على مكنوناتها، وقد سارت بها الركبان وتداولها الرواة، وهي:
بربك أيها الفلك المدار ... أقص ذا المسير أم اضطرار؟؟
مدارك قل لنا في أي شيءٍ ... ففي أفهامنا منك انبهار؟
وفيك نرى الفضاء وهل فضاء ... سوى هذا الفضاء به تدار؟
وعندك ترفع الأرواح أم هل ... مع الأجساد يدركها البوار؟
وموج ذي المجرة أم فرند ... على لجج الذراع لها مدار
وفيك الشمس رافعةً شعاعاً ... بأجنحةٍ قوادمها قصار
وطوق النجوم إذا تبدى ... هلالك أم يد فيها سوار

وأفلاذ نجومك أم حباب ... تؤلف بينه لجج غزار
وتنشر في الفضا ليلاً وتطوى ... نهاراً مثلماً يطوى الإزار
فكم بصقالها صدئ البرايا ... وما يصدأ لها أبداً غرار
تبادي ثم تخنس راجعاتٍ ... وتكنس مثلما كنس الصوار
فبينا الشرق يقدمها صعوداً ... تلقاها من الغرب انحدار
على ذا قد مضى وعليه يمضي ... طوال منىً وآجال قصار
وأيام تعرفنا مداها ... لها أنفاسنا أبداً شفار
ودهر ينثر الأعمار نثراً ... كما للورد في الروض انتثار
ودنيا كلما وضعت جنيناً ... غذته من نوائبها ظؤار
هي العشواء ما خبطت هشيم ... هي العجماء ما جرحت جبار
فمن يومٍ بلا أمسٍ ويومٍ ... بغير غدٍ إليه بنا يسار
ومن نفسين في أخذٍ وردٍ ... لروح المرء في الجسم انتشار
وكم من بعد ما كانت نفوسٍ ... إلى أجسامها طارت وطاروا
ألم تك بالجوارح آنساتٍ ... فأعقب ذلك الأنس النفار
فإن يك آدم أشقى بنيه ... بذنبٍ ماله منه اعتذار
ولم ينفعه بالأسماء علم ... وما نفع السجود ولا الجوار
فأخرج ثم أهبط ثم أودى ... فترب الساقيات له شعار
فأدركه بعلم الله فيه ... من الكلمات للذنب اغتفار
ولكن بعد غفرانٍ وعفوٍ ... يعير ما تلا ليلاً نهار
لقد بلغ العدو بنا مناه ... وحل بآدمٍ وبنا الصغار
وتهنا ضائعين كقوم موسى ... ولا عجل أضل ولا خوار
فيا لك أكلة لا زال منها ... علينا نقمة وعليه عار
نعاقب في الظهور وما ولدنا ... ويذبح في حشا الأم الحوار
وتنتظر البلايا والرزايا ... وبعد فللوعيد لنا انتظار
ونخرج كارهين كما دخلنا ... خروج الضب أخرجه الوجار
فماذا الإمتنان على وجودٍ ... لغير الموجدين به الخيار
وكان وجودنا خيراً لو أنا ... نخير قبله أو نستشار
أهذا الداء ليس له دواء ... وهذا الكسر ليس له انجبار؟
تحير فيه كل دقيقٍ فهمٍ ... وليس لعمق جرحهم انسبار
إذا التكوير غال الشمس عنا ... وغال كواكب الأفق انتثار
وبدلنا بهذي الأرض أرضاً ... وطوح بالسموات انفطار
وأذهلت المراضع عن بنيها ... لدهشتها وعطلت العشار
وغشي البدر من فرقٍ وذعرٍ ... خسوف ليس يجلى أو سرار
وسيرت الجبال فكن كثباً ... مهيلاتٍ وسجرت البحار
فأين ثبات ذي الألباب منا ... وأين مع الرجوم لنا اصطبار
وأين عقول ذي الأفهام مما ... يراد بنا وأين الإعتبار؟
وأين يغيب لب كان فينا ... ضياؤك من سناه مستعار؟
ولا أرض عصته ولا سماء ... ففيما يغول أنجمها انكدار
وقد وافته طائعةً وكانت ... دخاناً ما لقاتره شرار
قضاها سبعةً والأرض مهداً ... دحاها فهي للأموات دار
فما لسمو ما أعلى انتهاء ... وما لعلو ما أرسى فرار
ولكن ذا التهويل فيه ... لمن يخشى اتعاظ وازدجار
وقال:
بنا إلى الدير كوثاً صبابات ... فلا تلمني فما تغني الملامات
لا تبعدن وإن طال الزمان بها ... أيام لهوٍ عهدناها وليلات
فكم قضينا لبانات الشباب بها ... غنماً وكم بقيت عندي لبانات
ما مكنت دولة الأيام مقبلةً ... فانعم ولذ فإن العيش تارات
قبل ارتجاع الليالي فهي عارية ... فإنما منح الدنيا غرامات

قم فاجل في فلك البستان شمس ضحىً ... بروجها الزهر والجامات دارات
لعله إن دعا داعي الحمام بنا ... نقضي وأنفسنا منها رويات
بم التعلل لولا الراح في زمنٍ ... أحياؤه في سبات الهم أموات؟
بدت تحيي فقابلنا تحيتها ... وقد عراها لخوف المزج روعات
مدت أشعة برقٍ من أبارقها ... على مقابلها منها شعاعات
فلاح في ساق ساقيها خلاخل من ... تيرٍ وفي أوجه الندمان شارات
قد وقع الصفو سطراً من فواقعها ... لا فارقت شارب الراح المسرات
خذ ما تعجل واترك ما وعدت به ... وكن لبيباً فللتأخير آفات
وللسعادة أوقات مقدرة ... فيها السرور وللأحزان أوقات
وقال:
أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها
أجد بردها أو تشف مني حرارةً ... على كبدٍ لم يبق إلا صميمها
فإن الصبا ريح إذا ما تنفست ... على كبدٍ حراء قلت همومها
وقال:
ليكفكم ما فيكم من جوىً نلقى ... فمهلاً بنا مهلاً ورفقاً بنا رفقا
وحرمة وجدي لا سلوت هواكم ... ولا رمت منه لا فكاكاً ولا عتقا
سأزجر قلباً رام في الحب سلوةً ... وأهجره إن لم يمت بكم عشقا
صحبت الهوى يا صاح حتى ألفته ... فأضناه لي أشفى وأفناه أي لأبقى
فلا الصبر موجود ولا الشوق بارح ... ولا أدمعي تطفي لهيبي ولا ترقا
أخاف إذا ما الليل أخى سدوله ... على كبدي حرقاً ومن مقلتي غرقا
أيجمل أن أجزي من الوصل بالجفا ... فينعم طرفي والفؤاد بكم يشقي؟
أحظي هذا أم كذا كل عاشقٍ ... يموت ولا يحيا ويظمي فلا يسقي
سل الدهر عل الدهر يجمع شملنا ... فلم أر ذا حالٍ على حاله يبقى
وقال:
إذا كان دوني من بليت بجهله ... أبيت لنفسي أن أقابل بالجهل
وإن كنت أدنى منه في الحلم والحجا ... عرفت له حق التقدم والفضل
وإن كان مثلي في الفطانة والحجا ... أردت لنفسي أن أجل عن المثل
وقال:
وفي اليأس إحدى الراحتين لذي الهوى ... على أن إحدى الراحتين عذاب
أعف وبي وجد وأسلو وبي جوىً ... ولو ذاب مني أعظم وإهاب
وآنف أن تصطاد قلبي كاعب ... بلحظٍ وأن يروي صداي رضاب
فلا تنكروا عن الكريم على الأذى ... فحين تجوع الضاريات تهاب
وقال:
وكأنما الإنسان منا غيره ... متكون والحس منه معار
متصرف وله القضاء مصرف ... ومسير وكأنه مختار
طراً تصوبه الحظوظ وتارةً ... خطأ تحيل صوابه الأقدار
تعمى بصيرته ويبصر بعدما ... لا يسترد الفائت استبصار
وتراه يؤخذ قلبه من صدره ... ويرد فيه وقد جرى المقدار
فيظل يوسع بالملامة نفسه ... ندماً إذا عبثت به الأفكار
لا يعرف الإفراط في إيراده ... حتى يبينه له الإصدار
وقال:
تلق بالصبر ضيف الهم حيث أتى ... إن الهموم ضيوف أكلها المهج
فالخطب إن زاد يوماً فهو منتقص ... والأمر إن ضاق يوماً فهو منفرج
فروح النفس بالتعليل ترض به ... واعلم إلى ساعةٍ من ساعةٍ فرج
وقال:
إحفظ لسانك لا تبح بثلاثةٍ ... سرٍ ومالٍ ما استطعت ومذهب
فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثةٍ ... بمعكرٍ وبحاسدٍ ومكذب
وقال:
وعلى قدر عقله فاعتب المر ... ء وحاذر براً يصير عقوقا
كم صديقٍ بالعتب صار عدواً ... وعدوٍ بالحلم صار صديقا
وقال:
ثقلت زجاجات أتتنا فرغاً ... حتى إذا مثلت بصرف الراح
خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح
وقال:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15