كتاب : معجم الأدباء
المؤلف : ياقوت الحموي

ولا من في جنازتها تجار ... يكون وداعهم نفض النعال
أهكذا تؤبن أخوات الملوك؟ والله لو كان هذا في أذني عبيدها لكان قبيحاً. وأخبرني عن قولك:
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ... فإن لحت حاضت في الخدور العواتق
أهكذا تنسب بالمحبوبين؟ وعن قولك في هجاء ابن كيغلغ:
وإذا أشار محدثاً فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم
أما كان لك في أفانين الهجاء التي تصرفت فيها الشعراء مندوحة عن هذا الكلام الرذل الذي ينفر عنه كل طبع، ويمجه كل سمع. وعن قولك:
وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلاً
أفتعلم مرئياً يتناوله النظر لا يقع عليه اسم شيء؟ وما أراك نظرت إلا إلى قول جرير:
مازلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلاً تكر عليهم ورجالاً
فأحلت المعنى عن جهته، وعبرت عنه بغير عبارته. وعن قولك:
أليس عجيباً أن وصفك معجز ... وأن ظنوني في معاليك تظلع
فاستعرت الظلع لظنونك، وهي استعارة قبيحة وتعجبت من غير متعجب، لأن من أعجز وصفه لم يستنكر قصور الظنون وتحيرها في معاليه، وإنما نقلته وأنشدته من قول أبي تمام:
ترقت مناه طود عز لو ارتقت ... به الريح فتراً لانثنت وهي ظالع
وعن قولك تمدح كافوراً:
فإن نلت ما أملت منك فربما ... شربت بماء يعجز الطير ورده
إنها مدح أو ذم؟ قال: مدح. قلت: إنك جعلته بخيلاً لا يوصلك إلى خيره من جهته، وشبهت نفسك في وصولك إلى ما وصلت إله منه بشربك من ماء يعجز الطير ورده لبعده وترامي موضعه. وأخبرني أيضاً عن قولك في صفة كلب وظبي:
فصار ما في جلده في المرجل ... فلم يضرنا معه فقد الأجدل
فأي شيء أعجبك من هذا الوصف؟ أعذوبة عبارته؟، أم لطف معناه؟، أما قرأت رجز ابن هانئ و طرد ابن المعتز؟ أما كان هناك من المعاني التي ابتدعها هذان الشاعران وغرر المعاني التي اقتضباها ما تتشاغل به عن بنيات صدرك هذه؟. وألا اقتصرت على ما في أرجوزتك هذه من الكلام السليم ولم تسف إلى هذه الألفاظ القلقة والأوصاف المختلفة، فأقبل علي ثم قال: أين أنت من قولي؟:
كأن الهام في الهيجاء عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد
وقد صغت الأسنة من هموم ... فما يخطرن إلا في فؤاد
وأين أنت من قولي في صفة جيش؟:
في فيلق من حديد لو رميت به ... صرف الزمان لما دارت دوائره
وأين أنت من قولي؟:
لو تعقل الشجر التي قابلتها ... مدت محيية إليك الأغصنا
وأين أنت من قولي؟:
أيقدح في الخيمة العذل ... وتشمل من دهره يشمل
وما اعتمد الله تقويضها ... ولكن أشار بما تفعل
وفيها أصف كتيبة:
وملومة زرد ثوبها ... ولكنه بالقنا مخمل
وأين أنت عن قولي؟:
ألناس ما لم يروك أشباه ... والدهر لفظ وأنت معناه
والجود عين وأنت ناظرها ... والبأس باع وفيك يمناه
أما يلهيك إحساني في جميع هذه عن إساءتي في تلك؟ قلت: ما أعرف لك إحساناً في جميع ما ذكرته، إنما أنت سارق متبع، وآخذ مقصر، وفيما تقدم من هذه المعاني التي ابتكرها أصحابها مندوحة عن التشاغل بقولك. فأما قولك: كأن الهام في الهيجا عيون البيت فهو منقول من بيت منصور النمري:
فكأنما وقع الحسام بهامة ... خدر المنية أو نعاس الهاجع
وأما قولك: في فيلق، البيت فنقلته. نقلاً لم تحسن فيه من قول الناجم:
ولي في حامد أمل بعيد ... ومدح قد مدحت به طريف
مديح لو مدحت به الليالي ... لما دارت علي لها صروف
والناجم إنما نظمه من قول أرسطاطاليس، قد تكلمت بكلام لو مدحت به الدهر لما دارت علي صروفه. وأما قولك: لو تعقل الشجر التي قابلتها البيت هذا معنى متداول تساجلته الشعراء وأكثرت فيه، فمن ذلك قول: الفرزدق:
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
ثم تكرر في أفواه الشعراء إلى أن قال أبو تمام:
لو سعت بقعة لإعظام أخرى ... لسعى نحوها المكان الجديب
وأخذه البحتري فقال:

لو أن مشتاقاً تكلف غير ما ... في وسعه لمشى إليك المنبر
وأما قولك: وما اعتمد الله تقويضهاً فقد نظرت فيه إلى قول رجل مدح بعض الأمراء بالموصل وقد كان عزم على السير فاندق لواؤه فقال:
ما كان مندق اللواء لريبة ... تخشى ولا أمر يكون مزيلا
لكن لأن العود ضعف متنه ... صغر الولاية فاستقل الموصلا
وأما قولك: وملمومة زرد ثوبهاً فمن قول أبي نواس:
أمام خميس أرجوان كأنه ... قميص محوك من قنا وجياد
وأما قولك: الناس ما لم يروك أشباه، فمن قول علي ابن نضر بسام في عبيد الله بن سليمان يرثيه:
قد استوى الناس ومات الكمال ... وصاح صرف الدهر أين الرجال؟
هذا أبو القاسم في نعشه ... قوموا انظروا كيف تزول الجبال؟
فقوله: قد استوى الناس ومات الكمال، هو قولك: الناس ما لم بروك أشباه. فقال بعض من حضر: ما أحسن قوله: قوموا انظروا كيف تزول الجبال! فقال أبو الطيب: اسكت ما فيه من حسن، ألم يسرقه من قول النابغة الذبياني؟:
يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم ... وكيف بحصن والجبال جنوح؟
فقال الحاتمي فقلت: قد سرقه النابغة من أوس حين قال:
ألم تكسف الشمس شمس النها ... ر والبدر للقمر الواجب
لفقد فضالة لا يستوي ال ... قعود ولا خلة الذاهب
قلت: والله لئن كان أخذه فقد أحسن وأخفى الأخذ. فقال الرجل أجل. فقال المتنبي: يا محسد خذ بيده وأخرجه يريد بمحسد ابنه. فرجعت إلى أن تركه ثم قلت له: وأما قولك: والدهر لفظ وأنت معناه، فمن قول من قول الأخطل إن كان البيت له في عبد الملك بن مروان:
وإن أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر لا عار بما فعل الدهر
وقد قال جرير حين قال له الفرزدق:
فإني أنا الموت الذي هو نازل ... بنفسك فانظر كيف أنت تحاوله؟
وقال جرير:
أنا الدهر يفنى والدهر خالد ... فجئني بمثل الدهر شيئاً تطاوله
ثم قلت له: أترى أن جريراً أخذ قوله: يفنى الموت من أحد، وأن أحداً شركه في إفناء الموت؟ ففكر طويلاً ثم قال لا، قلت: بلى عمران بن حطان حيث يقول:
لن بعجز الموت شيء دون خالقة ... والموت فان إذا ما ناله الأجل
وكل كرب أمام الموت متضع ... بالموت والموت فيما بعده جلل
فأمات الموت وأحياه وما سبقه إلى ذلك أحد. ثم قلت له: أترى أن البيت المتقدم الذي يقول فيه: لك الدهر لا عار بما فعل الدهر، مأخوذ من أحد؟ فأطرق هنيهة ثم قال: وما تصنع بهذا؟ قلت يستدل على موضعك ومواضع أمثالك من سرقة الشعر. فقال: الله المستعان، أساء سمعاً فأساء إجابة، ما أردت ما ذهبت إليه. قلت: فإنه أخذه من قول النابغة وهو أول من ابتكره:
وعيرتني بنو ذبيان خشيته ... وما علي بأن أخشاك من عار
ثم أخذه أبو تمام فأحسن بقوله:
خشعوا لصولتك التي هي فبهم ... كالموت يأتي ليس فيه عار
قال: ومن أبو تمام؟ قلت: الذي سرقت شعره فأنشدته. قال: هذه خلائق السفهاء لا خلائق العلماء. قلت أجل، أنت سفهت رأيي ولم يكن سفيهاً ألست القائل؟
ذي المعالي فليعلون من تعالى ... هكذا هكذا وإلا فلالا
شرف ينطح الثريا بروقي ... ه وفخر يقلقل الأجبالا
قال بلى. قلت فإنك أخذت البيت الأول من بيت بكر بن النطاح:
يتلقى الندى بوجه حيي ... وصدور القنا بوجه وقاح
هكذا هكذا تكون المعالي ... طرق الجد غير طرق المزاح
وأخذت البيت الثاني فأفسدته من قول أبي تمام:
همة تنطح الثريا وجد ... آلف للحضيض فهو حضيض
قال: وبأي شيء أفسدته؟ قلت: بأن جعلت للشرف قرناً، قال: وأني لك بذلك؟ قلت ألم تقل: ينطح السماء بروقيه؟ والروقان: القرنان؟ قلت أجل، إنما هي استعارة؟ قلت نعم، هي استعارة خبيثة. قال: أقسمت غير محرج في قسمي إنني لم أقرأ شعراً قط لأبي تمامكم هذا. فقلت: هذه سوءة لو سترتها كان أولى. قال: السوءة قراءة شعر مثله، أليس هو الذي يقول:
خشنت عليه أخت بني خشين ... وأنجح فيك قول العاذلين
والذي يقول:

لعمري لقد حررت يوم لقيته ... لو أن القضاء وحده لم يبرد
والذي يقول:
تكاد عطاياه يجن جنونها ... إذا لم يعوذها بنغمة طالب
والذي يقول:
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت ... أعمارهم قبل نضج التين والعنب
والذي يقول:
ولي ولم يظلم وهل ظلم امرؤ ... حث النجاء وخلفه التنين
والذي يقول:
فضربت الشتاء في أخدعيه ... ضربة غادرته عوداً ركو
والذي يقول:
كانوا رداء زمانهم فتصدعوا ... فكأنما لبس الزمان الصوفا
والذي يقول:
أقول لقرحان من البين لم يصب ... رسيس الهوى بين الحشا والترائب
ما قرحان البين اخرس الله لسانه؟ فأحفظني ذلك وقلت: يا هذا، من أدل الدليل على أنك قرأت شعر هذا الرجل تتبعك مساويه: فهل في الدالة على اختلاقك إنكاره أوضح مما ذكرته؟ وهل يصم أبا تمام أو يسمه بميسم النقيصة ما عددته من سقطاته وتخونته من أبياته، وهو الذي يقول في النونية:
نوالك رد حسادي فلولا ... وأصلح بين أيامي وبيني
فهلا اغتفرت لأول لهذا البيت الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله؟ وأما قوله:
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت ... أعمارهم قبل نضج التين والعنب
فلهذا البيت خبر لو استقريت صفحة لأقصرت عما تناولته بالطعن فيه. ثم قصصت الخبر وقلت في هذه القصيدة مالا يستطيع أحد من متقدمي الشعراء وأمراء الكلام وأرباب الصناعة أن يأتي بمثله. قال: وما هو؟ قلت لو قال قائل: إن أحداً لم يبتدي بأوجز ولا أحسن ولا أخصر من قوله:
ألسيف أصدق إنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
لما عنف في ذلك. وفيها يقول:
رمى بك الله برجيها فهدمها ... ولو رمى بك غير الله لم يصب
وفيها يقول:
لما رأى الحرب رأى العين توفلس ... والحرب مشتقة المعنى من الحرب
وفيها يقول:
فتح تفتح أبواب السماء له ... وتبرز الأرض في أبرادها القشب
وفيها يقول:
بكر فما افترعتها كف حادثة ... ولا ترقت إليها همة النوب
وفيها يقول:
غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى ... يشبها وسطها صبح من اللهب
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت ... عن لونها وكأن الشمس لم تغب
وفيها يقول:
أجبته معلناً بالسيف منصلتاً ... ولو أجبت بغير السيف لم تصب
وأما قوله: أقول لقرحان من البين، فإنه يريد رجلاً لم يقطعه أحبابه ولم يبينوا عنه قبل ذلك، وإذا كانت حاله كذلك كان موقع البين أشد عليه وأفت في عضده، والأصل في هذا: أن القرحان الذي لم يجدر قط. وقد قال جرير:
وكنت من زفرات البين قرحاناً
وفي هذه القصيدة من المعاني الرائعة، والتشبيهات الواقعة، والاستعارات البارعة ما يغتفر معه هذا البيت وأمثاله. على أنا أبنا عن صحته معناه وعن أمثاله، فمن ذلك:
إذا العيس لاقت بي أبا دلف فقد ... تقطع ما بيني وبين النوائب
يرى أقبح الأشياء أوبة آمل ... كسته يد المأمول حلة خائب
وأحسن من نور يفتحه الندى ... بياض العطايا في سواد المطالب
وقد علم الأفشين وهو الذي به ... يصان رداء الملك عن كل جاذب
بأنك لما استحكم النصر واكتسى ... إهابي تسفى في وجوه التجارب
تجللته بالرأي حتى أريته ... به ملء عينيه مكان العواقب
بأرشق إذ سالت عليهم غمامة ... جرت بالعوالي والتعاق الشوارب
ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت ... حياضك منه في العصور الذواهب
ولكنه فيض العقول إذا انجلت ... سحائب جود أعقبت بسحائب

فبهره مما أوردته ما قصر عنان عبارته، وحبس بنيات صدره، وعقل عن الإجابة لسانه، كاد يشغب لولا ما تخوفه من عاقبة شغبه، وعرفه من مكاني في تلك الأيام، وأن ذلك لا يتم له، فما زاد على أن قال: قد أكثرت من أبي تمام، لا قدس الله أبا تمام وذويه. قلت: ولا قدس السارق منه والواقع فيه. ثم قلت له: ما الفرق - في كلام العرب - بين التقديس والقداس والقادس؟ فقال: وأي شيء غرضك في هذا؟ فقلت: المذاكرة. فقال: بل المهاترة ثم قال: التقديس: التطهير في كلام العرب، ولذلك سمي القدس قدساً لأنه يشتمل على الذي به الطهور، وكل هذه الأحرف تؤول إليه.
فقلت له: ما أحسبك أنعمت النظر في شيء من علوم العرب، ولو تقدمت منك مطالعة لها لما استجزت أن تجمع بين معاني هذه الكلمات مع تباينها، وذلك لأن القداس بتشديد الدال: حجر يلقى في البئر ليعلم به غزارة مائها من قلته، حكى ذلك ابن الأعرابي، والقداس: الجمان، حكى ذلك الخليل واستشهد بقوله: كنظم قداس سلكه متقطع والقادس: السفينة. قال الشاعر يصف ناقةً:
وتهفو بهاد لها متلع ... كما اقتحم القادس الأردمونا
فلما علوته بالكلام قال: يا هذا، مسلمة إليك اللغة. قلت: وكيف تسلمها وأنت أبو عذرتها؟ ومن نصابها وسرها، وأولى الناس بالتحقق بها والتوسع في اشتقاقها والكلام على أفانينها، وما أحد أولى بأن يسأل عن لغته منك. فشرعت الجماعة الحاضرة في إعفائه وقبول عذره والتواطؤ له، وقال كل منهم: أنت أولى بالمراجعة والمياسرة لمثل هذا الرجل من كل أحد. وكنت قد بلغت شفاء نفسي وعلمت أن الزيادة على الحد الذي انتهيت إليه ضرب من البغي لا أراه في مذهبي، ورأيت له حق القدمة في صناعته. فطأطأت له كتفي واستأنفت جميلاً من وصفه، ونهضت فنهض لي مشيعاً إلى الباب حتى ركبت وأقسمت عليه أن يعود إلى مكانه، وتشاغلت بقية يومي بشغل عن لي تأخرت معه عن حضرة المهلب وانتهى إليه الخبر، وأتتني رسله ليلاً فأتيته فأخبرته بالقصة على الحال، فكان من سروره وابتهاجه بما جرى ما بعثه على مباكرة معز الدولة قائلاً له: أعلمت ما كان من فلان والمتنبي؟ قال نعم، قد شفا منه صدورنا.

محمد بن الحسن الزبيدي الإشبيلي
أبو بكر النحوي اللغوي. سكن قرطبة من بلاد الأندلس، وأخذ عن أبي إسماعيل القالي، واعتمد عليه الحكم ابن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس - والحكم هو المتغلب على بلاد الغرب المتقلب بالمستنصر - في تعليم ولده، مات الزبيدي بإشبيلية في جمادى الأولى سنة تسع وسبعين وثلاثمائة. كذا ذكر ابن بشكوال.
وقال الحميدي: توفي قريباً من سنة ثمانين وثلاثمائة، وروى عنه غير واحد منهم: ابنه الوليد محمد وإبراهيم ابن محمد الأفليلي النحوي وغيرهما. والزبيدي نسبة إلى زبيد ابن صعب بن سعد العشيرة رهط عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وقد ذكر الحميدي في كتابه في باب الحسن بن عبد الله ابن مذحج بن محمد بن عبيد الله بن بشير بن أبي حمزة بن ربيعة بن مذحج بن الزبيدي: سمع بالأندلس من عبيد الله بن يحيى ابن يحيى الليثي ومن غيره وسمع. وكانت وفاته بالأندلس قريباً من سنة عشرين وثلاثمائة، وقد سمعت من يقول: إنه والد أبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي النحوي مؤلف كتاب الواضح، ويشبه أن يكون ذلك والله أعلم.
قال الحميدي: أبو بكر الزبيدي من الأئمة في اللغة والعربية، وألف في النحو كتاباً سماه كتاب الواضح. واختصر كتاب العين اختصاراً حسناً، وله كتاب في أبنية سيبويه، وله كتاب ما يلحن فيه عوام الأندلس، وكتاب طبقات النحويين.
قال المؤلف: وقد نقلت إلى كتابي هذا ما نسبته إليه. وبلغني أن أهل الغرب يتنافسون في كتبه خصوصاً كتابه الذي اختصره من كتاب العين، لأنه أتمه باختصاره وأوضح مشكله، وزاد فيه ما عساه كان مفتقراً إليه، وله غير ما ذكرناه من التصانيف في كل نوع من الأدب.
قال الحميدي: وكان شاعراً كثير الشعر، أخبرنا أبو عمر ابن عبد البر قال: كتب الزبيدي إلى أبي مسلم بن فهد:
أبا مسلم إن الفتى بجنانه ... ومقوله لا بالمراكب واللبس

وليس ثياب المرء تغني قلامة ... إذا كان مقصوراً على قصر النفس
وليس يقيد العلم والحلم والحجى ... أبا مسلم طول القعود على الكرسي
قال: وقال أبو محمد علي بن أحمد: كتب الوزير أبو الحسن جعفر بن عثمان المصحفي إلى صاحب الشرطة أبي بكر محمد ابن الحسن الزبيدي بمنظوم بين له فيه الخطأ بتصريح وهو:
قل للوزير السني محتده ... لي ذمة منك أنت حافظها
عناية بالعلوم معجزة ... قد بهظ الأولين باهظها
يقر لي عمرها ومعمرها ... فيها ونظامها وجاحظها
قد كان حقاً قبول حرمتها ... لكن صرف الزمان لافظها
وفي خطوب الزمان لي عظة ... لو كان يثني النفوس واعظها
إن لم تحافظ عصابة نسبت ... إليك قدماً فمن يحافظها؟
لا تدعن حاجتي مطرحة ... فإن نفسي قد فاظ فائظها
فأجابه المصحفي:
خفض فواقاً فأنت أوحدها ... علماً ونقابها وحافظها
كيف تضع العلوم في بلد ... أبناءه كلهم تحافظها؟
ألفاظهم كلها معطلة ... ما لم يعول عليك لافظها
من ذا يساويك إن نطقت وقد ... أقر بالعجز عنك جاحظها؟
علم ثنى العالمين عنك كما ... ثنى سنا الشمس من يلاحظها
فقد أتتني فديت شاغله ... للنفس أن قلت فاظ فائظها
فأوضحنها نفز بنادرة ... قد بهظ الأولين باهظها
فأجابه الزبيدي وضمن الشعر الشاهد على ذلك:
أتاني كتاب من كريم مكرم ... فنفس عن نفس تكاد تفيظ
فسر جميع الأولياء وروده ... وسئ رجال آخرون وغيظوا
لقد حفظ العهد الذي قد أضاعه ... لدى سواه والكريم حفيظ
وباحث عن فاظت وقبلي قالها ... رجال لديهم في العلوم حظوظ
روى ذاك عن كيسان سهل وأنشدوا ... مقال أبي الغياظ وهو مغيظ
فلا حفظ الرحمن روحك حية ... ولا هي في الأرواح حين تفيظ
قال الحميدي: قال لي أبو محمد: وقد يقال: فاضت نفسه بالضاد، ذكر يعقوب ابن السكيت في كتاب الألفاظ له. قال: وله - وقد استأذن الحكم المستنصر في الرجوع إلى إشبيلية فلم يأذن له فكتب إلى جارية له هناك تدعى سلمى - :
ويحك يا سلم لا تراعي ... لا بد للبين من زماع
لا تحسبيني صبرت إلا ... كصبر ميت على النزاع
ما خلق الله من عذاب ... أشد من وقفة الوداع
ما بينها والحمام فرق ... لولا المناحات والنواعي
إن يفترق شملنا وشيكا ... من بعد ما كان ذا اجتماع
فكل شمل إلى افتراق ... وكل شعب إلى انصداع
وكل قرب إلى بعاد ... وكل وصل إلى انقطاع
قال المؤلف: هذا آخر ما كتبنا من كتاب الحميدي وهو الذي وجدناه فيه من خبره.

محمد بن الحسن المذحجي أبو عبد الله
يعرف بان بالكتاني، ذكره الحميدي في تاريخ الأندلس وقال: له مشاركة قوية في علم الأدب والشعر، وله تقدم في علوم الطب والمنطق والكلام في الحكم، ورسائل في كل ذلك وكتب معروفة، مات بعد الأربعمائة، وله كتاب محمد وسعدي مليح في معناه.
ومن شعره:
ألا قد هجرنا الهجر واتصل الوصل ... وبانت ليالي البين واشتمل الشمل
فسعدي نديمي والمدامة ريقها ... ووجنتها روضي وقبلتها النقل
ومنه أيضاً:
نأيت عنكم فلا صبر ولا جلد ... وصحت واكبدي حتى مضت كبدي
أضحى الفراق رفيقاً لي يوصلني ... بالبعد والشجو والأحزان والكمد
وبالوجوه التي تبدو فأنشدها ... وقد وضعت على قلبي يدي بيدي
إذا رأيت وجوه الطير قلت لها: ... لا بارك الله في الغربان والصرد
محمد بن الحسن الجبلي النحوي
ذكره الحميدي في تاريخه أيضاً، وهو أديب شاعر كثير القول كان يقرأ عليه الأدب

وأنشدني لنفسه:
وما الأنس بالأنس الذين عهدتهم ... بأنس ولمن فقد أنسهم أنس
إذا سلمت نفسي وديني منهم ... فحسبي أن العرض مني لهم ترس
قال ابن ماكولا: قتل سنة خمس وأربعمائة، وقال لي الحميدي: تركته حيا.

محمد بن الحسن البرجي
الأديب الأصفهاني قال ابن مندة: مات في محرم سنة ثمان وأربعين وأربعمائة.
محمد بن الحسين الفارسي
بن محمد بن الحسين بن عبد الوارث أبو الحسين الفارسي النحوي ابن أخت أبي علي الفارسي، وأخذ عن خاله علم العربية، وطوف الآفاق ورجع إلى الوطن، وكان خاله أوقده على الصاحب بن عباد إلى جهة الري فارتضاه وأكرم مثواه، ثم تغرب أبو الحسين ولقي الناس في انتقاله، وورد خراسان ونزل بنيسابور دفعات، وأملي بها من الأدب والنحو ما سارت به الركبان، وآل أمره إلى أن وزر للأمير شاد عرسي ستان ثم أختص بالأمير إسماعيل بن سبكتكين بغزنة ووزر له، ثم عاد إلى نيسابور، ثم توجه إلى مكة وجاور بها ثم عاد إلى غزنة ورجع إلى نيسابور، ثم انتقل إلى أسفراين، ثم استوطن جرجانة إلى أن مات، وقرأ عليه أهلها منهم: عبد القاهر الجرجاني وليس له أستاذ سواه، وللصاحب بن عباد مكاتبات إليه مدونة، وله تصانيف منها: كتاب الهجاء، وكتاب الشعر. مات سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، ومن شعره:
ولا غصن إلا ما حواه قباؤه ... ولا دعص إلا ما خبته مآزره
وأمضى من السيف المنوط بحضره ... إذا شيم سيف تنتضيه محاجره
محمد بن الحسين الطبري
بن محمد الطبري النحوي يعرف بابن نجدة مشهور في أهل الأدب، وله خط مرغوب فيه، قرأ على الفضل بن الحباب الجمحي بن خليفة، ومن شعره:
شفاء العمى حسن السؤال وإنما ... يطيل العمى طول السكوت على الجهل
فكن سائلاً عما عناك فإنما ... خلقت أخا عقل لتسأل بالعقل
محمد بن حمد بن محمد
بن عبد الله بن محمود ابن فورجة بضم الفاء وسكون الواو وتشديد الراء المفتوحة وفتح الجيم، والبروجردي، أديب فاضل مصنف، له كتاب الفتح على أبي الفتح، والتجني على ابن جني، يرد فيه على أبي الفتح بن جني في شرح شعر المتنبي، ومولده في ذي الحجة سنة ثلاثين وثلاثمائة، كان موجوداً سنة خمس وخمسين وأربعمائة ومن شعره:
أيها القاتلي بعينيه رفقاً ... إنما يستحق ذا من قلاكا
أكثر اللائمون فيك عتابي ... أنا واللائمون فيك فداكا
إن لي غيرة من اسمي ... إنه دائماً يقبل فاكا
محمد بن حيويه بن المؤمل
الوكيل أبو بكر بن أبي روضة الكرجي النحوي، روي عن إبراهيم بن الحسين، ومحمد بن المغيرة السكري من أهل همذان، وروي عنه كامل بن أحمد النحوي، وأبو الحسن ابن الصباح، وأبو سعد بن عبد الرحمن بن محمد الإدريسي السمرقندي الحافظ وقال لا أعتمد عليه، وقد تكلموا فيه، وليس عندهم بذاك، وسئل عن سنة فقال: مائة واثنتي عشرة سنة، ومات سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة.
محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي
أبو عبد الله، كان مولى لبني هاشم لأنه من موالي العباس ابن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وكان أبوه زياد عبداً سندياً، وكان من أكابر أئمة اللغة المشار إليهم في معرفتها نحوياً، لم يكن للكوفيين أشبه برواية البصريين منه رواية لأشعار القبائل ناسباً. وكان ربيباً للمفضل الضبي، سمع منه الدواوين وصححها، وأخذ عن الكسائي كتاب النوادر، وأخذ عن أبي معاوية الضرير والقاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود القاضي، وأخذ عنه إبراهيم الحربي، وأبو عكرمة الضبي، وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وابن السكيت، وكانت طريقته طريقة الفقهاء والعلماء، وكان أحفظ الناس للغات والأيام والأنساب.
وقال أبو العباس ثعلب: قال لي ابن الأعرابي: أمليت قبل أن تجيئني يا أحمد حمل جمل. وقال ثعلب: انتهى علم اللغة والحفظ إلى ابن الأعرابي، وكان يزعم أن الأصمعي وأبا عبيدة لا يحسنان قليلاً ولا كثيراً.

وقال ثعلب: سمعت ابن الأعرابي يقول في كلمة رواها الأصمعي: سمعت من ألف أعرابي خلاف ما قاله الأصمعي. وقال: شاهدت ابن الأعرابي وكان يحضر مجلسه زهاء مائة إنسان، كل يسأله أو يقرأ عليه ويجيب من غير كتاب. قال: ولزمته بضع عشرة سنة ما رأيت بيده كتاباً قط، وما أشك في أنه أملي على الناس ما يحمل على أجمال، ولم ير أحد في علم الشعر واللغة أغزر منه.
وقال محمد بن الفضل الشعراني: كان للناس رؤساء، كان سفيان الثوري رأساً في الحديث، وأبو حنيفة رأساً في القياس، والكسائي رأساً في القرآن، فلم يبن الآن رأس في فن من الفنون أكبر من ابن الأعرابي فإنه رأس في كلام العرب، وكان ممن وسم بالتعليم، فكان يأخذ كل شهر ألف درهم فينفقها على أهله وإخوانه، وتماسك في آخر أيامه بعد سوء حاله. ويحكي أنه اجتمع أبو عبد الله بن الأعرابي وأبو زياد الكلابي على الجسر ببغداد، فسأل أبو زياد ابن الأعرابي عن قول النابغة على ظهر منباة فقال: النطع بفتح النون وسكون الطاء، فقال أبو زياد: النطع بكسر النون وفتح الطاء. فقال أبو عبد الله نعم. وإنما أنكر أبو زياد النطع بفتح النون وسكون الطاء لأنها لم تكن لغته، ورأى ابن الأعرابي في مجلسه يوماً رجلين يتحدثان فقال لأحدهما: من أين أنت؟ فقال من أسفيجاب، وقال للآخر من أين أنت؟ فقال من الأندلس، فعجب من ذلك وأنشد
رقيقان شتى ألف الدهر بيننا ... وقد يلتقي الشتى فيأتلفان
ثم أملى علي من حضر مجلسه بقية الأبيات الآتيه
نزلنا على قيسية يمنية ... لها نسب في الصالحين هجان
فقالت وأرخت جانب الستر بيننا ... لأية أرض أم من الرجلان؟
فقلت لها: أما رفيقي فقومه ... تميم وأما أسرتي فيماني
رفيقان شتى ألف الدهر بيننا ... وقد يلتقي الشتى فيأتلفان
وحكى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: اجتمع عندنا أبو نصر أحمد بن حاتم وابن الأعرابي فتجاذبا الحديث إلى أن حكى أبو نصر أن أبا الأسود دخل على عبيد الله بن زياد وعليه ثياب رثة فكساه ثياباً جدداً من غير أن يعرض به بسؤال فخرج وهو يقول:
كساك ولم تستكسه فاحمدنه ... أخ لك يعطيك الجزيل وناصر
فإن أحق الناس إن كنت مادحاً ... بمدحك من أعطاك والعرض وافر
فأنشد أبو نصر قافية البيت الأول، وياصر بالياء يريد ويعطف، فقال له ابن الأعرابي وناصر بالنون، فقال دعني يا هذا ويا صرى وعليك بناصرك. وحدث الصولي قال: غني في مجلس الواثق بشعر الأخطل:
وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسوار
فقيل بسوار وبسئار، فوجه إلى ابن الأعرابي وهو يومئذ بسر منرأي فسأل عن ذلك فقال: بسوار يريد بوثاب أي لا يثب على ندمائه، وبسئار: أي لا يفضل في القدح سؤره وقد رويا جميعاً، فأمر له الواثق بعشرة آلاف درهم. وحكى عن ابن الأعرابي أنه روي قول الشاعر:
ولاعيب فينا غير عرق لمعشر ... كرام وأنا لا نحط على النمل
نحط بحاء مهملة وقال معناه: إنا لا نحط على بيوت النمل لنصيب ما جمعوه وهذا تصحيف، وإنما الرواية لا نخط على النمل واحدتها نملة، وهي قرحة تخرج بالجنب تزعم المجوس أن ولد الرجل إذا كان من أخته ثم خط على النملة شفى صاحبها، ومعنى البيت: إنا لسنا بمجوس ننكح الأخوات. وعن أبي عمران قال: كنت عند أبي أيوب أحمد ابن محمد بن شجاع فبعث غلامه إلى أبي عبد لله بن الأعرابي يسأله المجيء إليه فعاد إليه الغلام فقال: قد سألته ذلك فقال لي: عندي قوم من الأعراب، فإذا قضيت أربي معهم أتيت. قال الغلام: وما رأيت عنده أحداً إلا أني رأيت بين يديه كتباً ينظر فيها، فينظر في هذا مرة وفي هذا مرة، ثم ما شعرنا حتى جاء فقال له أيوب: إنه ما رأى عندك أحداً وقد قلت له أنا مع قوم من الأعراب، فإذا قضيت أربي أتيت فأنشد:
لنا جلساء ما نمل حديثهم ... ألباء مأمونون غيباً ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ... وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا
فلا فتنة نخشى ولا سوء عشرة ... ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا
فإن قلت أموات فما أنت كاذب ... وإن قلت أحياء فلست مفندا

وقال محمد بن حبيب: سأل أبا عبد الله بن الأعرابي في مجلس واحد عن بضع عشرة مسالة من شعر الطرماح يقول في كلها لا أدري ولم أسمع، أفأحدث لك برأيي؟ وقال أبو العباس ثعلب: سمعت ابن الأعرابي يقول: من لا قبول عليه فلا حياة لأدبه. وقال: ما رأيت قوماً أكذب على اللغة من قوم يزعمون أن القرآن مخلوق. واغتاب رجل عنده بعض العلماء فقال له: لو لم نقل فينا ما قلت عندنا فلا تجلسن إلينا. وله من التصانيف كتاب النوادر وهو كبير، كتاب الأنواء، كتاب صفة النخل، كتاب صفة الزرع، كتاب الخيل، كتاب النبت والبقل، كتاب نسب الخيل، كتاب تاريخ القبائل، كتاب تفسير الأمثال، كتاب النبات، كتاب معاني الشعر، كتاب صفة الدرع، كتاب الألفاظ، كتاب نوادر الزبيريين، كتاب نوادر بني فقعس، كتاب الذباب وغير ذلك.
قال أبو العباس ثعلب: سمعت ابن الأعرابي يقول: ولدت في الليلة التي مات فيها أو حنيفة. وقال أبو غالب علي بن النضر: توفي ابن الأعرابي سنة ثلاثين ومائتين، وقيل سنة إحدى وثلاثين، وقيل سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وقد بلغ من العمر إحدى وثمانين سنة وأربع أشهر وثلاثة أيام، وكانت وفاته في خلافة الواثق بن المعتصم، وصلى عليه قاضي احمد بن أبي داؤد الإيادي.

محمد بن زيد بن مسلمة
أبو الحسن النحوي المعروف بابن أبي الشملين، لا أعرف من حاله إلا ما قرأته في كتاب أدب المريض والعائد لأبي شجاع البسطامي قال: كتب أبو محمد بن علي بن سمعون النرسي الحافظ بخطه وأذن لنا في روايته عنه: أخبرنا محمد بن علي بن عبد الرحمن، أنشدنا أبو الحسن محمد بن زيد بن مسلمة النحوي قال: أنشدنا أبو علي الفارسي والسيرافي قالا: أنشدنا أبو بكر السراج قال: عدنا أبا الحسن ابن الرومي في مرضه فأنشدنا لنفسه:
ولقد سئمت مآربي ... فكأن أطيبها خبيث
إلا الحديث فإنه ... مثل اسمه أبداً حديث
محمد بن السرى بن سهل
أبو بكر السراج البغدادي النحوي. قال المرزباني: كان أحدث أصحاب أبي العباس المبرد مع ذكاء وفطنة، قرأ عليه كتاب سيبويه، ثم اشتغل بالموسيقى فسئل عن مسألة بحضرة الزجاج فأخطأ في جوابها فوبخه الزجاج وقال مثلك يخطئ في مثل هذه المسألة؟ والله لو كانت في منزلي لضربتك، ولكن المجلس لا يحتمل ذلك. فقال: قد ضربتني يا أبا إسحاق، وكان علم الموسيقى قد شغلني عن هذا الشأن، ثم رجع إلى كتاب سيبويه ونظر في دقائقه، وعول على مسائل الأخفش والكوفيين، وخالف أصول البصريين في مسائل كثيرة. ويقال: ما زال النحو مجنوناً حتى عقله ابن السراج بأصوله، وكان أحد العلماء المذكورين وأئمة النحو المشهورين، وإليه انتهت الرياسة في النحو بعد المبرد.
وأخذ عنه أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، وأبو سعيد السيرافي، وأبو علي الفارسي، وعلي بن عيسى الرماني.
ويحكي أنه اجتمع هو وأبو بكر بن مجاهد وإسماعيل القاضي في بستان وكان فيه دولاب، فعن لهم أن يبعثوا بإدارتها فلم يقدروا على ذلك، فالتفت أحدهم وقال: أما تستحيون؟ مقرئ البلد ونحويه وقاضيه لا يجئ منهم ثور.
وحكى أن أبا بكر بن السراج كان يهوى جارية فجفته، فاتفق وصول الإمام المكتفي في تلك الأيام من الرقة فاجتمع الناس لرؤيته، فلما شاهد أبو بكر جمال المكتفي تذكر جمال معشوقته وجفاءها له، فانشد بحضرة أصحابه:
ميزت بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي
حلفت لنا ألا تخون عهودنا ... فكأنما حلفت لنا ألا تفي
والله لا كلمتها ولو أنها ... كالبدر أو الشمس أو كالمكتفي
ثم إن أبا عبد الله محمد بن إسماعيل بن زنجي الكاتب أنشدها لأبي العباس بن الفرات وقال هي لابن المعتز، وأنشدها أبو العباس للقاسم بن عبيد الله الوزير، فاجتمع الوزير بالمكتفي وأنشدها إياه وقال للمكتفي: هي لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر، فأمر بألف دينار فوصلت إليه فقال ابن زنجي: ما أعجب هذه القصة، يعمل أبو بكر بن السراج أبياتاً تكون سبباً لوصول الرزق إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر!.

قال أبو الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي: توفي أبو بكر ابن السراج يوم الأحد لثلاث ليال بقين من ذي الحجة سنة ست عشرة وثلاثمائة في خلافة المقتدر. وله من المصنفات: كتاب الأصول وهو أحسنها وأكبرها وإليه المرجع عند اضطراب النقل واختلافه جمع فيه أصول علم العربية، وأخذ مسائل سيبويه ورتبها أحسن ترتيب، وكتاب جمل الأصول وهو الأصول الأصغر، وشرح كتاب سيبويه، والموجز، وكتاب الاشتقاق لم يتم كتاب الرياح والهواء والنار، كتاب الشعر والشعراء، كتاب الجمل، كتاب احتجاج القراء، كتاب الخط، كتاب المواصلات والمذكرات، كتاب الهجاء وغير ذلك.
وحكى الرماني قال: ذكر كتاب الأصول بحضرته فقال قائل: هو أحسن من المقتضب. فقال أبو بكر لا نقل هكذا وأنشد:
ولو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بسعدي شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها فقلت: الفضل للمتقدم
وقال أبو علي الفارسي: جئت لأسمع من كتاب سيبويه وحملت إليه ما حملت، فلما انتصف الكتاب عسر على إتمامه فانقطعت عنه لتمكني من مسائله، فقلت في نفسي بعد مدة: إذا عدت إلى فارس وسئلت عن إتمامه فإن قلت نعم كذبت، وإن قلت لا بطلت الرواية فدعتني الضرورة أن حملت إليه رزمة وأقبلت إليه، فلما أبصرني من بعيد أنشد:
كم قد تجرعت من غيظ ومن حنق ... لكن تجدد وجدي هون الماضي
وكم غضبت ولم يلووا على غضبي ... فعدت طوعاً بقلب ساخط راضي

محمد بن سعدان بقلب الضرير
أبو جعفر الكوفي النحوي المقرئ، ولد سنة إحدى وستين ومائة، وروي عن عبد الله بن إدريس وأبي معاوية الضرير، وروي عنه محمد بن سعد كاتب الواقدي، وعبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل، وأبن المرزبان وكان ثقة، وكان يقرأ بقراءة حمزة، ثم اختار لنفسه ففسد عليه الأصل والفرع إلا أنه كان نحوياً. وقال بعضهم: أخذ ابن سعدان القراءات عن أهل مكة والمدينة والشام والكوفة والبصرة ونظر في الاختلاف وكان ذا علم بالعربية، وصنف كتاباً في النحو، وكتاباً في القراءات.
قال ابن عرفه: مات يوم عيد الأضحى سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وكان ذلك في خلافة الواثق بن المعتصم، وله ولد يقال له إبراهيم من أهل العلم.
وقال الداني في طبقات القراء: أخذ القراءة عرضاً عن سليم بن عيسى عن حمزة، وعن يحيى بن المبارك اليزيدي عن أبي عمرو عن إسحاق بن محمد المسيبي عن نافع وعن معلى ابن منصور عن أبي بكر بن عاصم، وروى عنه القراء محمد ابن أحمد بن واصل وهو أجل أصحابه وأثبتهم له.
محمد بن سعد ويقال ابن سعيد الرباحي
بالباء الموحدة، أبو عبد لله الأعرج الطليطلي الخطيب النحوي اللغوي، أصله من قلعة رباح من أعمال طليطلة بالأندلس، رحل إلى المشرق وسمع بمصر ابن الورد وابن السكن وحدث وأفاد، مولده سنة تسع وثلاثمائة، وتوفي في ربيع الآخر سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
محمد بن سعيد
أبو جعفر البصير الموصلي العروضي النحوي، كان أبو إسحاق الزجاج معجباً به، وكان في النحو ذا قدم ثابتة، اجتمع يوماً مع أبي علي الفارسي عند أبي بكر بن شقير فقال لأبي علي: في أي شيء تنظر يا فتى؟ فقال في التصريف، فجعل يلقي عليه المسائل على مذهب البصريين والكوفيين حتى ضجر، فهرب أبو علي منه إلى النوم وقال: إني أريد النوم. فقال: هربت يا فتى؟ فقال: نعم هربت، وكان ذكياً فهيماً - له في الشعر رتبة عالية - إماماً في استخراج المعمي والعروض، قال له الزجاج يوماً وقد سأله عن أشياء من العروض: يا أبا جعفر، لو رآك الخليل لفرح بك، قرأ عليه عبيد الله بن جعفر الأسدي النحوي وغيره.
محمد بن سلام الجمحي
بن عبد الله بن سالم الجمحي البصري أبو عبد الله، كان من أعيان أهل الأدب، وألف كتاباً في طبقات الشعراء، وله غريب القرآن، وأخذ عن حماد بن سلمة ومبارك بن فضالة وجماعة. وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل وابنه عبد الله وأبو العباس ثعلب وأحمد علي بن الأبار.
قال أبو خليفة: ابيضت لحية محمد بن سلام ورأسه وله سبع وعشرين سنه. وقال محمد بن أحمد بن يعقوب بن شبة: حدثنا جدي قال: كان محمد بن سلام له علم بالشعر والأخبار وهما من جملة علوم الأدب.

وقال الحسين بن فهم: قدم علينا محمد بن سلام سنة اثنتين وعشرين ومائتين فاعتل علة شديدة فما تخلف عنه أحد، وأهدى له الأجلاء أطباءهم، فكان ابن ما سويه من جملة من أهدى إليه، فلما جسه ونظر إليه قال له: لا أرى بك من العلة ما أرى بك من الجزع. فقال: والله ما ذاك على الدنيا مع اثنتين وسبعين سنة، ولكن الإنسان في غفلة حتى يوقظ بعلة. فقال ابن ماسويه: لا تجزع فقد رأيت في عرقك من الحرارة الغريزية ما إن سلمت ممن العوارض بلغك عشر سنين. قال ابن فهم: فوافق كلامه قدراً، فعاش محمد بن سلام بعد ذلك عشر سنين. وتوفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكان ذلك في السنة التي مات فيها الواثق وبويع المتوكل بن المعتصم؟ وقال موسى بن هارون: توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين.

محمد بن سليمان البغدادي
ابن قطر مش بن تركان شاه أبو نصر، البغدادي المولد السمرقندي الأصل، النحوي اللغوي الأديب، أحد أدباء عصرنا، واعيان أولي الفضل بمصرنا، تجمعت فيه أشتات الفضائل، وقد أخذ من كل فن من العلم بنصيب وافر، وهو من بيت الإمارة، وكانت له اليد الباسطة في حل إقليدس وعلم الهندسة مع اختصاصه التام بالنحو واللغة وأخبار الأمم والأشعار، خلف له والده أموالاً كثيرة فضيعها في القمار واللعب بالنرد، حتى احتاج إلى الوراقة فكان يورق بأجرة بخطه المليح الصحيح المعتبر، فكتب كثيراً من الكتب حتى ذكر الإمام الناصر فولاه حاجب الحجاب، فلم يزل بها إلى أن مات في ربيع الآخر سنة عشرين وستمائة، ومولده في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وله شعر رائق فمن ذلك:
ولا الذي سخر قلبي لها ... عبد كما سخرني قلبها
ما فرحي في حبها غير أن ... زين عندي هجرها قلبها
محمد بن طويس القصري
أبو الطيب، هو من النحويين المعتزلة، أحد تلاميذ أبي علي الفارسي، أملي عليه المسائل القصريات وبه سميت، وأظنه من قصر ابن هبيرة من نواحي الكوفة، وقرأت في المفاوضة أنه لما كان حدثاً كان أبوة علي الفارسي يتعشقه ويخصه بالطرف ويحرص على الإملاء عليه والالتفات إليه، مات شاباً.
محمد بن حمدان الدلفي العجلي
أبو الحسن النحوي من أصحاب أبي الحسن علي الرماني كان نحوياً فاضلاً بارعاُ، شرح ديوان المتنبي ومات بمصر سنة ستين وأربعمائة.
محمد بن عبد الله بن قادم
أبو جعفر النحوي، كان حسن النظر في علل النحو، وكان يؤدب ولد سعيد بن قتيبة الباهلي، وكان من أعيان أصحاب الفراء وأخذ عنه ثعلب. حكى عنه قال: وجه إلي إسحاق ابن إبراهيم المصعبي يوماً فأحضرني ولم أدر ما السبب، فلما قربت من مجلسه تلقاني ميمون بن إبراهيم كاتبه على الرسائل وهو على غاية الهلع والجزع، فقال لي بصوت خفي: إنه إسحاق، ومر غير متلبث حتى رجع إلى مجلس إسحاق فراعني ذلك، فلما مثلت بين يديه قال لي: كيف يقال: وهذا المال مال أوهذا المال مالاً؟ قال: فعلمت ما أراد ميمون، فقلت: الوجه مال، ويجوز مالاً، فأقبل إسحاق على ميمون يغلطه وقال: الزم الوجه في كتبك ودعنا من يجوز ويجوز ورمى بكتاب كان في يده، فسألت عن الخبر، فإذا ميمون قد كتب إلى المأمون - وهو ببلاد الروم عن إسحاق وذكر مالاً حمله إليه - وهذا المال مالاً. فخط المأمون على الموضع من الكتاب ووقع بخطه على الحاشية: تخاطبني بلحن؟ فقامت القيامة على إسحاق، فكان ميمون بعد ذلك يقول: لا أدري كيف ابن قادم أبقى على روحي ونعمتي.

وحكى عن أحمد بن إسحاق بن بهلول: أنه دخل هو وأخوه بغداد فدار على الحلق يوم الجمعة فوقف على رجل يتلهب ذكاء ويجيب عن كل مت يسأل عنه من مسائل الأدب والقرآن فقلنا: من هذا؟ قالوا ثعلب، فبين نحن كذلك، إذ ورد شيخ يتوكأ على عصا فقال لأهل الحلقة أفرجوا للشيخ فأفرجوا له حتى جلس إلى جانبه، ثم إن سائلاً سأل ثعلباً عن مسألة فقال: الرؤاسي فيها كذا، وقال الكسائي كذا، وقال الفراء كذا، وقال هشام كذا، وقلت أنا كذا، فقال له الشيخ: لا أراني اعتقد فيها إلا جوابك، فالحمد لله الذي بلغني فيك هذه المنزلة. فقلنا: من هذا الشيخ؟ فقيل: أستاذه ابن قادم، وكان ابن قادم يعلم المعتز قبل الخلافة، فلما ولي بعث إليه فقيل له: أجب أمير المؤمنين، فقال أليس هو ببغداد يعني المستعين؟ فقالوا: لا وقد ولي المعتز، وكان قد حقد عليه بطريق تأديبه له، فخشي من بادرته، فقال لعياله: عليكم السلام، فخرج ولم يرجع إليهم وذلك في سنة إحدى وخمسين ومائتين، وله من الكتب: الكافي في النحو، المختصر فيه أيضاً، وكتاب غرائب الحديث.

محمد بن عبد الله بن محمد
بن أبي الفضل أبوة عبد الله المرسي السلمي، شرف الدين الأديب النحوي، المفسر المحدث الفقيه أحد أدباء عصرنا، أخذ من النحو والشعر بأوفر نصيب، وضرب فيه بالسهم المصيب، وخرج التخاريج، وتكلم على المفصل للزمخشري، وأخذ عليه عدة مواضع بلغني أنها سبعون موضعاً أقام على خطئها البرهان، واستدل على سقمها ببيان، وله عدة تصانيف، خرج من بلاد المغرب سنة سبع وستمائة، ودخل مصر وسار إلى الحجاز ودخل مع قافلة الحجاج إلى بغداد، وأقام بها يسمع ويقرأ الفقه والخلاف والأصلين بالنظامية، ورحل إلى خراسان ووصل إلى مرو الشاهجان، وسمع بنيسابور وهراة ومرو، ولقي المشايخ وعاد إلى بغداد، وأقام بحلب ودمشق ورأيته بالموصل، ثم حج ورجع إلى دمشق ثم عاد إلى المدينة فأقام على الإقراء. ثم انتقل إلى مصر وأنابها سنة أربع وعشرين وستمائة ولزم النسك والعبادة والانقطاع.
أخبرني أن مولده بمرسية سنة سبعين وخمسمائة، وأنه قرأ القرآن على ابن غلبون وغيره، والنحو على أبي الحسن علي ين يوسف بن شريك الداني، والطيب بن محمد بن الطيب النحوي، والشلوبيني، وتاج الدين الكندي، والأصول على إبراهيم بن دقماق والعميدي، والخلاف على معين الدين الجاجرمي، وسمع الحديث الكثير بواسط من ابن عبد السميع، ومن ابن الماندائي ومشيخته، وبهمذان من جماعة، وبنيسابور صحيح مسلم من المؤيد الطوسي وجزءا من ابن نجيد، ومن منصور بن عبد المنعم الفراوي، وأم المؤيد زينب بنت الشعري، وبهراة من ابن روح الهروي، وبمكة من الشريف يونس بن يحيى الهاشمي، وكان نبيلاً ضريراً يحل بعض مشكلات إقليدس، وحدث بكتاب السنن الكبرى للبيهقي عن منصور بن عبد المنعم الفراوي، وبكتاب غريب الحديث للخطابي، صنف الضوابط النحوية في علم العربية، والإملاء على المفصل، وتفسيراً للقرآن سماه ري الظمآن في تفسير القرآن كبير جداً قصد فيه ارتباط الآي بعضها ببعض، وكتاباً في أصول الفقه والدين، وكتاباً في البديع والبلاغة، وله تفسير القرآن الأوسط عشرة أجزاء، وتفسير القرآن الصغير ثلاثة أجزاء، ومختصر صحيح مسلم، والكافي في النحو وتعليق الموطأ وتعاليق أخرى، وكان كثير الشيوخ والسماع. وحدث بالكثير بمصر والشام والعراق والحجاز، وكانت له كتب في البلاد التي ينتقل فيها بحيث لا يستصحب كتباً في سفره اكتفاء بما له من الكتب في البلد الذي يسافر إليه، وله النظم الرائق، والنثر الفائق، فمن شعره قوله:
من كان يرغب في النجاة فما له ... غير اتباع المصطفى فيما أتى
ذاك السبيل المستقيم وغيره ... سبل الغواية والضلالة والردى
فاتبع كتاب الله والسنن التي ... صحت فذاك إذا اتبعت هو الهدى
ودع السؤال بكم وكيف فإنه ... باب يجر ذوي البصيرة للعمى
ألدين ما قال النبي وصحبه ... والتابعون ومن مناهجهم قفا
وقال أيضاً:
قالوا فلان أزال بهاءه ... ذاك العذار وكان بدر تمام
فأجبتهم: بل زاد نور بهائه ... ولذا تضاعف فيه فرط غرامي
إستقصرت ألحاظه فتكاتها ... فأتى العذار يمدها بسهام
وقال:

قالوا محمد قد كبرت وقد أتى ... داعي المنون وما اهتممت بزاد
قلت: الكريم من القبيح لضيفه ... عند القدوم مجيئه بالزاد

محمد بن عبد الله بن محمد بن موسى
أبو عبد الله الكرماني النحوي الوراق، كان عالماً فاضلاً عارفاً بالنحو واللغة، مليح الخط صحيح النقل يورق بالأجرة، قرأ على ثعلب وخلط المذهبين، وله من الكتب: الموجز في النحو، وكتاب آخر فيه لم يتم، والجامع في اللغة ذكر فيه ما أغفله الخليل في العين، وما ذكر أنه مهمل وهو مستعمل وقد أهمل، وكان بينه وبن ابن دريد مناقضة، مات سنة تسع وعشرين وثلاثمائة
محمد بن عبد الله أبو الخير
الضرير المروزي النحوي، كان فقيهاً فاضلاً أديباً لغوياً نحوياً، تفقه على القفال المروزي فبرع في الفقه، واشتهر في النحو واللغة والأدب.
قال السمعاني. كان من أصحاب الرأي فصار من أصحاب الحديث بصحبته الإمام أبا بكر القفال، سمع الحديث منه ومن أبي نصر المحمودي، وروى عنه القاضي الحافظ أبو منصور السمعاني، وكان إذا دخل في داره يقرأ عليه الفقهاء الأدب والباب مردود، فإذا اجتاز به القفال راكباً وسمع صوت حافر فرسه على الأرض قام إلى داخل الدار لئلا يسمع الصوت القفال تعظيماً للأستاذ. مات أبو الخير سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة.
والمروزي هذا هو المعروف بالمسعودي عند الشافعية، وقد يلقبونه بأبي عبد الله وهو أحد أئمتهم، معدود من أقران شيخه القفال، وله شرح على مختصر المازني عمدة في المذهب. ومن شعره:
تنافى المال والعقل ... فما بينها شكل
هما كالورد والنر ... جس لا يحويهما فصل
فعقل حيث لا مال ... وما حيث لا عقل
محمد بن عبد الله
خطيب القلعة الفخرية أبو عبد لله المعروف بالخطيب الإسكافي، الأديب اللغوي صاحب التصانيف الحسنة أحد أصحاب ابن عباد الصاحب، وكان من أهل أصبهان وخطيباً بالري.
قال ابن عباد: فاز بالعلم من أهل أصبهان ثلاثة: حائك وحلاج وإسكاف. فالحائك أبو المرزوقي. والحلاج أبو منصور ماشد، والإسكاف أبو عبد الله الخطيب. وصنف كتاب غلط كتاب العين، والغرة تتضمن شيئاً من غلط أهل الأدب، ومبادئ اللغة وشوهد كتاب سيبويه، ونقد الشعر، ودرة التنزيل وغرة التأويل في الآيات المتشابهة، وكتاب لطف التدبير في سياسات الملوك وغير ذلك، توفي سنة عشرين وأربعمائة.
محمد بن عبد الرحمن
بن محمد بن مسعود ابن احمد بن الحسين بن مسعود أبو سعيد البندهي، وكان يكتب بخطه البنجديهي، اللغوي الفقيه الشافعي، من أهل الفضل والأدب والدين والورع. ورد بغداد ثم الشام وحصل له سوق نافقة وقبول تام عند صلاح الدين بن أيوب، وأقبلت عليه الدنيا فحصل كتباً لم تحصل لغيره ووقفها بخانقاه السميساطي، وأكثرها من خزنة كتب حلب التي أباح له السلطان صلاح الدين أن يأخذ منها ما شاء، وكان البنجديهي يعلم الملك الأفضل أبا الحسن علي بن صلاح الدين وحدث وأملى بالشام، وصنف شرحاً لمقامات الحريري في خمس مجلدات متوسطة استوعب وأحسن فيها ما شاء، ولد في وقت الغروب ليلة الثلاثاء غرة ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، ومات بدمشق في ليلة السبت التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة أربعة وثمانين وخمسمائة، وكان كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات
قالت عهدتك تبكي ... دماً حذار التنائي
فلم تعوضت عنا ... بعد الدماء بماء؟
فقلت ما ذاك مني ... لسلوة أو عزاء
لكن دموعي شابت ... من طول عمر بكائي
محمد بن عبد الملك بن زهر

ابن عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر الأندلسي الإشبيلي أبو بكر، ولد بإشبيلية ونشأ بها، وحفظ القرآن وسمع الحديث، واقبل على الأدب واللغة والعربية فبرع في ذلك كله، وعانى الشعر فبلغ الإجادة فيه، وكان يحفظ شعر ذي الرمة، وانفرد بالإجادة فينظم الموشحات التي فاق بها أهل المغرب على أهل المشرق، ولازم عبد الملك الباجي سبع سنين، وقرأ عليه المدونة في مذهب مالك، وأخذ صناعة الطب عن أبيه أبي مروان عبد الملك، وباشر أعمالها ففاق أهل زمانه، وخدم بها دولة الملثمين في آخر عهدهم، ثم خدم بها دولة الموحدين بني عبد المؤمن. ومات في أول دولة الناصر محمد، وكان حسن المعالجة جيد التدبير لا يماثله أحد في ذلك، وكان صحيح البنية قوي الأعضاء، وبلغ الشيخوخة ولم يفقد قوة عضو من أعضائه إلا ثقلاً في السمع اعتراه في أواخر عمره.
حكى أبو مروان محمد بن احمد الباجي أن أبا بكر بن زهر كان شديد البأس يجذب قوساً مائة وخمسين رطلاً بالإشبيلي وهو ست عشرة أوقية، وكان يحسن اللعب بالشطرنج بارعاً فيه، ولد سنة سبع وخمسمائة، وتوفي بمراكش سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وقيل في أول سنة ست وتسعين، ودفن بمقابر الشيخ وقد ناهز التسعين.
ومن شعر الوزير أبي بكر بن زهر قوله:
إني نظرت إلى المرآة إذ جليت ... فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا
رأيت فيها شييخاً لست أعرفه ... وكنت أعهده من قبل ذاك الفتى
فقلت أين الذي بالأمس كان هنا ... متى ترحل عن هذا المكان متى؟
فاستجهلتني وقالت لي وما نطقت ... قد كان ذاك وهذا بعد ذاك أتى
كان الغواني يقلن يا أخي ولقد ... صار الغواني يقلن اليوم يا أبتا
وقال في كتاب حيلة البرء لجالينوس وأجاد:
حيلة البرء صنفت لعليل ... يترجى الحياة أو لعليله
فإذا جاءت المنية قالت ... حيلة البرء: ليس في البرء حيلة
ومن موشحاته قوله:
أيها الشاكي إليك المشتكي ... قد دعوناك وإن لم تسمع
ونديم همت في غرته وشربت الراح من راحته كلما استيقظت من سكرته
جذب الزق إليه واتكا ... وسقاني أربعاً في أربع
غصن بان مال من حيث استوى بات من يهواه من فرط الجوى خفق الأحشاء موهون القوى
كلما فكر في البين بكى ... ما له يبكي بما لم يقع
ليس لي صبر ولا لي جلد يا لقوم هجروا واجتهدوا أنكروا شكواي مما أجد
إن مثلي حقه أن يشتكي ... كمد اليأس وذل الطمع
ما لعيني عشيت بالنظر أنكرت بعدك ضوء القمر وإذا ما شئت فاسمع خبري
قرهت عيني من طول البكا ... وبكا بعضي على بعضي معي
كبد حرى ودمع يكف يعرف الذنب ولا يعترف أيها المعرض عما أصف
قد نما حبك عندي وزكا ... لا يظن الحب أني مدعي
ومن موشحاته أيضاً:
شاب مسك الليل كافور الصباح ... ووشت بالروض أعراف الرياح
فاسقنيها قبل نور الفلق وغناء الورق بين الورق كاحمرار الشمس عند الشفق
نسج المزج عليها حين لاح ... فلك اللهو وشمس الاصطباح
وغزال سامني بالملق وبرى جسمي وأذكى حرقي أهيف مذ سل سيق الحدق
قصرت عنه مشاهير الصفاح ... وانثنت بالذعر أغصان الرماح
صار بالذل فؤادي كلفا وجفوني ساهرات وطفا كلما قلت جوى الحب انطفا
أمرض القلب بأجفان صحاح ... وسبى العقل بجد ومزاح
يوسفي الحسن عذب المبتسم قمري الوجه ليلي اللمم عنتري البأس عبسي الهمم
غصني القد مهضوم الوشاح ... ما درى الوصل طائي السماح
قد بالقد فؤادي هيفاً وسبا عقلي لما انعطفا ليته بالوصل أحيا دنفا
مستطار العقل مقصوص الجناح ... ما عليه في هواه من جناح
يا علي أنت نور المقل جد بوصل منك لي يا أملي كم أغنيك إذا ما لحت لي
طرقت والليل ممدود الجناح ... مرحباً بالشمس من غير صباح
وقال أيضاً:
لله ما صنع الغرام بقلبه ... وأودى به لما ألم بلبه
لباه لما أن دعاه وهكذا ... من يدعه داعي الغرام يلبه

بأبي الذي لا يستطيع لعجبه ... رد السلام وإن شككت فعج به
ظبي من الأعراب ما ترك الضنا ... في لحظة من سلوة لمحبه
إن كنت تنكر ما جنى بلحاظه ... في سلبه يوم الغوير فسل به
أو شئت أن تلقى غزالاً أغيداً ... في سربه أسد العرين فسر به
ياما أميلحه وأعذب ريقه ... وأعزه وأذلني في حبه
بل ما أليطف وردة في خده ... وأرقها وأشد قسوة قلبه
كم من خمار دون خمرة ريقه ... وعذاب قلب دون رائق عذبه
نادى بنفسج عارضيه وقد بدا ... : يا عاشقين تمتعوا من قربه
وقال أيضاً:
مازلت اسقيهم وأشرب فضلهم ... حتى سكرت ونالهم ما نالني
والخمر تعلم حين تأخذ ثارها ... أني أملت إناءها فأمالني
وقال أيضاً وأوصى أن يكتب على قبره:
تأمل بحقك يا واقفاً ... ولاحظ مكاناً دفعت إليه
فإني حذرت منه الأنا ... م وهأنا قد صرت رهناً لديه

محمد بن عبد الملك
أبو عبد الله الكلثومي النحوي من الفضلاء الكبراء علامة في الإعراب واللغة والحساب ومعرفة الأيام والأنساب والنجوم، دخل خوارزم مع عدة من الأدباء والشعراء حين ضاق بهم الحال بخراسان وأنشد بها:
تقول سعاد ما تغرد طائر ... على فنن إلا وأنت كئيب
أجارتنا إنا غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب
أجارتنا إن الغريب وإن غدت ... عليه غوادي الصالحات غريب
أجارتنا من يغترب يلق للأذى ... نوائب تقذى عينه فيشيب
يحن إلى أوطانه وفؤاده ... له بين أحناء الضلوع وجيب د
سقى الله ربعاً بالعراق فإنه ... إلي وإن فارقته لحبيب
أحن إليه من خراسان نازعاً ... وهيهات لو أن المزار قريب
وإن حنيناً من خوارزم ينتهي ... إلى منتهى أرض العراق عجيب
محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم
أبو عمر الزاهد المطرز الباوردي غلام ثعلب اللغوي، من أئمة اللغة وأكابر أهلها وأحفظهم لها. قال أبو علي ابن أبي علي التنوخي عن أبيه: ومن الرواة الذين لم يرقط أحفظ منهم أبو عمر الزاهد محمد بن عبد الواحد المعروف بغلام ثعلب، أملي من حفظه ثلاثين ألف ورقة في اللغة فيما بلغني، وكان لسعة حفظه يطعن بعض أهل الأدب ولا يوثقونه في علم اللغة، حتى قال عبيد الله بن أبي الفتح: لو طائر طار في الجو لقال أبو عمر الزاهد: حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي ويذكر في معنى ذلك شيئاً، وكان المحدثون يوثقونه.
قال الخطيب البغدادي: رأيت جميع شيوخنا يوثقونه ويصدقونه، وكان يسأل عن الشيء فيجيب عنه، ثم يسأل عنه بعد سنة فيجيب بذلك الجواب. ويروي أن جماعة من أهل بغداد اجتازوا على قنطرة الصراة وتذكروا ما يرمي له من الكذب فقال أحدهم: أنا أصحف له القنطرة وأساله عن معناها فننظر ما يجيب.
فلما دخلوا عليه قال له الرجل: أيها الشيخ، ما الهرطنق عند العرب؟ فقال كذا وكذا، وذكر شيئاً فتضاحك الجماعة وانصرفوا، فلما كان بعد شهر أرسلوا إليه شخصاً آخر فسأله عن الهرطنق فقال: أليس قد سئلت عن هذه المسألة منذ كذا وكذا ثم قال: هو كذا وكذا كما أجاب أولاً، قال القوم: فما ندري من أي الأمرين نعجب، من حفظه إن كان علماً؟ أم من ذكائه إن كان كذباً؟ فإن كان علماً فهو اتساع عجيب، وإن كان كذباً فكيف تناول ذكاؤه المسألة وتذكر الوقت بعد أن مر عليه زمان فأجاب بذلك الجواب بعينه. وحكى أن معز الدولة بن بويه قلد شرطة بغداد غلاماً تركياً من مماليكه اسمه خواجا، فبلغ ذلك أبا عمر الزاهد وكان يملي كتابه اليواقيت في اللغة، فقال للجماعة في مجلس الإملاء: اكتبوا يا قوتة خواجا، الخواج في أصل اللغة: الجوع، ثم فرع هذا باباً وأملاه عليهم، فاستعظموا كذبه وتتبعوه، فقال أبو علي الحاتمي وكان من أصحابه: أخرجنا في أمالي الحامض عن ثعلب عن ابن الأعرابي: الخواج: الجوع.

وحكى رئيس الرؤساء أبو القاسم علي بن الحسن عمن حدثه: أن أبا عمر الزاهد كان يؤدب ولد القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، فأملى على الغلام نحواً من ثلاثين مسألة في النحو، وذكر غريبها وختمها ببيتين من الشعر، وحضر أبو بكر بن دريد وأبو بكر بن الأنباري وأبو بكر ابن مقسم العطار المقرئ عند القاضي أبي عمر، فعرض عليهم تلك المسائل فما عرفوا منها شيئاً وأنكروا الشعر، فقال لهم القاضي: ما تقولون فيها؟ فقال ابن الأنباري: أنا مشغول بتصنيف مشكل القرآن ولست أقول شيئاً. وقال ابن مقسم مثل ذلك واعتذر باشتغاله بالقراءات.
وقال ابن دريد: هذه المسائل من موضوعات أبي عمر الزاهد ولا أصل لشيء منها في اللغة وانصرفوا، فبلغ ذلك أبا عمر فاجتمع بالقاضي وسأله إحضار دواوين جماعة من قدماء الشعراء عينهم ففتح القاضي خزانته وأخرج له تلك الدواوين، فلم يزل أبو عمر الزاهد يعمد إلى كل مسألة منها ويخرج لها شاهداً من تلك الدواوين ويعرضه على القاضي حتى استوفى جميع المائل ثم قال: وهذان البيتان أنشدهما ثعلب بحضرة القاضي وكتبهما القاضي بخطه على ظهر الكتاب كما ذكر أبو عمر وانتهت القصة إلى ابن دريد، فلم يذكر أبا عمر الزاهد بلفظه إلى أن مات. وقال رئيس الرؤساء أيضاً: رأيت أشياء كثيرة مما أنكر على أبي عمر ونسب فيها إلى الكذب فوجدتها مدونة في كتب اللغة، وخاصة في الغريب المصنف لأبي عبيد.
وقالب أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن رهان الأسدي: لم يتكلم في اللغة أحد من الأولين والآخرين بأحسن من كلام أبي عمر الزاهد، أخذ أبو عمر عن أبي العباس ثعلب وصحبه زماناً طويلاً فنسب إليه وعرف بغلام ثعلب، وأخذ عنه أبو علي الحاتمي الأديب الكاتب اللغوي، وأبو القاسم ابن برهان وغيرهما.
وروى عنه أبو الحسن محمد بن رزقويه وأبو علي ابن شاذان وغيرهما. وقال أبو الحسن المرزباني: كان إبراهيم بن أيوب بن ماسي ينفذ إلى أبي عمر الزاهد كفايته وقتاً فقطع ذلك عنه مدة لعذر ثم أنفذ إليه جملة ما كان انقطع عنه، وكتب إليه رقعة يعتذر بها من تأخير رسمه فرده، وأمر بعض من كان عنده من أصحابه أن يكتب له على ظهر رقعته:
أكرمتنا فملكتنا ... وتركتنا فأرحتنا
وكانت صناعة أبي عمر الزاهد التطريز فنسب إليها، وكان جماعة من الأشراف والكتاب يحضرون مجلسه للسماع منه وكان قد جمع جزأ في فضائل معاوية، فكان لا يمكن احداً من السماع حتى يبتدئ بقراءة ذلك الجزء.
وعن محمد بن العباس بن الفرات قال: كان مولد أبي عمر الزاهد سنة إحدى وستين ومائتين، وقال الخطيب البغدادي: توفي يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وذلك في خلافة المطيع لله. ودفن يوم الاثنين في الصفة التي تقابل قبر معروف الكرخي وبينهما عرض الطريق. وعن أبي الحسن ابن رزقويه: توفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. والصحيح الأول. ولأبي عمر من الكتب: شرح الفصيح لثعلب، وفائت الفصيح جزء لطيف، واليواقيت في اللغة، والمرجان في اللغة، والكتاب الحضري في الكلمات، وغريب الحديث، صنفه على مسند أحمد بن حنبل، كتاب المكنون والمكتوم، وفائت المستحسن، وكتاب ما أنكره الأعراب على أبي عبيدة فيما رواه، والموشح، والسريع، والتفاحة، وفائت الجمهرة، وفائت العين، وتفسير أسماء القراء، والمداخل في اللغة، وحل المداخل، والنوادر، وكتاب العشرات، وكتاب البيوع، وكتاب الشورى، والمستحسن في اللغة، وكتاب القبائل، وكتاب يوم وليلة، وكتاب الساعات وغير ذلك، وأملي في آخر كتابه اليواقيت في اللغة قوله:
لما فرغنا من نظام الجوهرة ... إعورت العين وفض الجمهرة
ووقف الفصيح عند القنطره وعن أبي علي الحاتمي: أنه اعتل فتأخر عن مجلس أبي عمر فسأل عنه فقيل: إنه كان عليلاً، فجاءه من الغد يعوده، فاتفق انه كان قد خرج إلى الحمام فكتب على باب داره بالإسفيداج:
وأعجب شيء سمعنا به ... عليل يعاد فلا يوجد
قال وهو من شعره. وحدث عباس بن محمد الكلوذاي قال: سمعت أبا عمر الزاهد يقول: ترك قضاء حقوق الإخوان مذلة، وفي قضائها رفعة، فاحمدوا الله تعالى على ذلك، وسارعوا في قضاء حوائجهم مسارهم تكافئوا عليه.
وحكى أبو الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي: قال: أنشد أبو العباس اليشكري في مجلس أبي عمر الزاهد يمدحه:

أبو عمر يسمو من العلم مرتقى ... يزل مساميه ويردى مطاوله
ولو أنني أقسمت ما كنت حانثاً ... بأن لم ير الراؤون حبراً يعادله
هو الشخت جسماً والسمين فضيلة ... فأعجب بمهزول سمان فضائله
تدفق بحراً بالمسائل زاخراً ... تغيب عمن لج فيه سواحله
إذا قلت شارفنا أواخر علمه ... تفجر حتى قلت هذي أوائله

محمد بن عبيد الله بن الحسن بن الحسين
ابن أبي البقاء البصري، قاضي البصرة أبو الفرج النحوي، قدم بغداد وواسط، وقرأ الأدب على أبي غالب بن بشران وغيره، والفقه على القاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق الشيرازي والماوردي، وسمع بالأهواز من الحسين الخوزي، وبالبصرة من الفضل القصباني وعبيد الله الرقي والحسن بن رجاء وابن الدهان النحويين، وروى عن الماوردي كتبه كلها، وكان حافظاً للفقه حسن المذاكرة كثير القراءة، محتشماً عن السلاطين، وله تصانيف حسان منها: مقدمة في النحو، كتاب المتقعرين. توفي في تاسع عشر المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وسمع في مرضه يقول: ما أخشى أن الله يحاسبني أنني أخذت شيئاً من وقف أو مال يتيم.
محمد بن عبيد الله أبو الفتح
ابن التعاويذي، ويعرف أيضاً بسبط ابن التعاويذي، وكلاهما نسبة لجده لأمه أبي محمد المبارك بن المبارك بن السراج الجوهري المعروف بابن التعاويذي الزاهد، كان شاعر العراق في وقته، وكان كاتباً بديوان الأقطاع ببغداد، واجتمع به العماد الكاتب الأصفهاني لما كان بالعراق وصحبه مدة، فلما انتقل العماد إلى الشام واتصل بالسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب كان ابن التعاويذي يراسله، فكان بينهما مراسلات ذكر بعضها العماد في الخريدة، وعمي أبو الفتح في آخر عمره سنة تسع وسبعين وخمسمائة، وله في ذلك أشعار كثيرة يندب بها بصره وزمان سبابه. مدح السلطان صلاح الدين بثلاث قصائد أنفذها إليه من بغداد، إحداها عارض بها قصيدة أبي المنصور علي ابن الحسن المعروف بصردر التي أولها:
أكذا يجازي كل قرين؟
فقال ابن التعويذي وأحسن ما شاء:
إن كان دينك في الصبابة ديني ... فقف المطي برملتي يبرين
والثم ثرى لو شارفت بي هضبه ... أيدي المطي لثمته بجفوني
وانشد فؤادي في الظباء معرضاً ... فبغير غزلان الصريم جنوني
ونشيدتي بين الخيام وإنما ... غالطت عنها بالظباء العين
لولا العدا لم أكن عن ألحاظها ... وقدودها بجآذر وغصون
لله ما اشتملت عليه قبابهم ... يوم النوى من لؤلؤ مكنون
من كل تائهة على أترابها ... في الحسن غانية عن التحسين
خود ترى قمر السماء إذا بدت ... ما بين سالفة لها وجبين
غادين ما لمعت بروق ثغورهم ... إلا استهلت بالدموع شؤوني
إن تنكروا نفس الصبا فلأنها ... مرت بزفرة قلبي المحزون
وإذا الركائب في المسير تلفتت ... فحنينها لتلفتي وحنيني
يا سلم إن ضاعت عهودي عندكم ... فأنا الذي استودعت غير أمين
أو عدت مغبوناً فما أنا في الهوى ... لكم بأول عاشق مغبون
رفقاً فقد عسف الفراق بمطلق ال ... عبرات في أسر الغرام رهين
مالي ووصل الغانيات أرومة ... ولقد بخلن علي بالماعون
وعلام أشكو والعهود نقضنها ... بلحاظهن إذا لوين ديوني
هيهات ما للغيد في حب امرئ ... أرب وقد أربي على الخمسين
ومن البلية أن تكون مطالبي ... جدوى بخيل أو وفاء خئوون
ليت الضنين على المحب بوصلة ... ألف السماحة عن صلاح الدين
ملك إذا علقت يد بذمامه ... علقت بحبل في الوفاء متين
قاد الجياد معاقلاً وإن اكتفى ... بمعاقل من رأيه وحصون
سهرت جفون عداه خيفة فاتح ... خلقت صوارمه بغير جفون

لو أن لليث الهزبر سطاه لم ... يلجأ إلى غاب له وعرين
أضحت دمشق وقد حللت بجوها ... مأوى الضعيف وموئل المسكين
لك عفة في قدرة وتواضع ... في عزة وصرامة في لين
وأريتنا بجميل صنعك ما روى ال ... راوون عن أمم خلت وقرون
وضمنت أن تحي لنا أيامهم ... بالمكرمات فكنت خير ضمين
كاد الأعادي أن يصيبك كيدها ... لو لم تكدك برأيها المأفون
تخفي عداوتها وراء بشاشة ... فتشف عن نظر لها مشفون
دفنت حبائل مكرها فرددتها ... تبلى بغيظ صدورها المدفون
وعلمت ما أخفوا كأن قلوبهم ... أفضت إليك بسرها المخزون
فهوت نجوم سعودهم وقضى لهم ... بالنحس طائر جدك الميمون
وأما قصيدته الثانية فهي:
حتام أرضي في هواك وتغضب ... وإلى متى تجني علي وتعتب؟
ما كان لي لولا ملالك زلة ... لما مللت زعمت أني مذنب
خذ في أفانين الصدود فإن لي ... قلباً على العلات لا يتقلب
أتظنني أضمرت يوماً سلوة ... هيهات عطفك من سلوى أقرب
لي فيك نار جوانح لا تنطفي ... شوقاً وماء مدامع لا ينضب
أنسيت أياماً لنا وليالياً ... للهو فيها والخلاعة ملعب
أيام لا الواشي يش بتولهى ... بك للرقيب ولا العذول يؤنب
قد كنت تصفي المودة راكباً ... في الحب من أخطاره ما أركب
واليوم أقنع أن يمر بمضجعي ... في النوم طيف خيالك المتأوب
قالت وريعت من بياض مفارقي ... ونحول جسمي بان عنك الأطيب
إن تنقمي سقمي فخصرك ناحل ... أو تنكري شيبي فثغرك أشنب
يا طالباً بعد المشيب غضارة ... من عيشه ذهب الزمان المذهب
أتروم بعد الأربعين تعدها ... وصل الدمى؟ هيهات عز المطلب
لولا الهوى العذري يا دار الهوى ... ما هاج لي ذكراك برق خلب
كلا ولا استسقيت للطلل الحيا ... وندا صلاح الدين هام صيب
ثم مضى في المدح فأجاد وأحسن، وأما الثالثة فنكتفي بإيراد أبيات من مديحها قال:
فلا يضجرنك ازدحام الوفود ... عليك وكثرة ما تبذل
فإنك في زمن ليس فيه ... جواد سواك ولا مفضل
وقد قل في أهله المنعمون ... وقد كثر البائس المرمل
وما فيه غيرك من يستماح ... وما فيه إلاك من يسأل
وقال من قصيدة يندب بصره:
لقد رمتني رميت بالأذى ... بنكبة قاصمة الظهر
وأوترت في مقلة قلما ... علمتها باتت على وتر
جوهرة كنت ضنيناً بها ... نفيسة القيمة والقدر
إن أنا لم أبك عليها دماً ... فضلاً عن الدمع فما عذري؟
مالي لا أبكي على فقدها ... بكاء خنساء على صخر
وقال أيضاً في ذلك من أبيات:
حالان مستنى الحوا ... دث منها بفجيعتين
إظلام عين في ضيا ... ء من مشيب سرمدين
صبح وإمساء معاً ... لا خلفة فاعجب لذين
قد رحت في الدنيا من الس ... سراء صفر الراحتين
أسوان لا حي ولا ... ميت كهمزة بين بين
وقال أيضاً في ذلك من أبيات:
فهأنا كالمقبور في كسر منزلي ... سواء صباحي عنده ومسائي
يرق ويبكي حاسدي لي رحمة ... وبعداً لها من رقة وبكاء
وقال في الشيخوخة:
من شبه العمر بالكاس يرسو ... قذاه ويرسب في أسفله
فإني رأيت القذى طافياً ... على صفحة الكاس من أوله
وقال في الهرم أيضاً:
وعلو السن قد كس ... سر بالشيب نشاطي

كيف سموه علوا ... وهو أخذ في انحطاط
وقال في ذلك أيضاً:
أسفت وقد نفت عني الليالي ... جديداً من شباب مستعار
وكان يقيم عذري في زمان الص ... صبا لون الشبيبة في عذاري
ولم أكره بياض الشيب إلا ... لأن العيب يظهر في النهار
وقال أيضاً:
سقاك سار من الوسمي هتان ... ولا رقت للغوادي فيك أجفان
يا دار لهوى وإطرابي ومعهد أت ... رابي وللهو أوطار وأوطان
أعائد لي ماض من جديد هوى ... أبليته وشباب فيك فينان؟
إذ الرقيب لنا عين مساعدة ... والكاشحون لنا في الحب أعوان
وإذ جميلة توليني الجميل وعن ... د الغانيات وراء الحسن إحسان
ولي إلى البان من رمل الحمى طرب ... فاليوم لا الرمل يصيبني ولا البان
وما عسى يدرك المشتاق من وطر ... إذ بكى الربع، والأحباب قد بانوا
إن المغاني معان والمنازل أم ... وات إذا لم يكن فيهن سكان
لله كم قمرت لي بجوك أق ... مار وكم غازلتني فيك غزلان
وليلة بات يجلو الراح من يده ... فيها أغن خفيف الروح جذلان
خال من الهم في خلخاله حرج ... فقلبه فارغ والقلب ملآن
يذكي الجوى بارد من ريقه شبم ... ويوقد الظرف طرف منه وسنان
إن يمس ريان من ماء الشباب فلي ... قلب إلى ريقه المعسول ظمآن
بين السيوف وعينيه مشاركة ... من أجله قيل للأغماد أجفان
فكيف أصحوا غراماً أو أفيق جوى ... وقده ثمل بالتيه نشوان؟
أفديه من غادر بالعهد غادرني ... صدوده ودموعي فيه غدران
في خده وثناياه ومقلته ... وفي عذاريه للعشاق بستان
شقائق وأقاح نبته خضل ... ونرجس أنا منه الدهر سكران
وكان له راتب في الديوان فلما عمى طلب أن يجعل باسم أولاده، ثم كتب هذه القصيدة ورفعها إلى الخليفة الناصر التمس بها تجديد راتب مدة حياته:
خليفة الله أنت بالدين والد ... نيا وأمر الإسلام مضطلع
أنت لما سنه الأئمة أع ... لام الهدى مقتف ومتبع
قد عدم العدم في زمانك والجو ... ر معاً والخلاف والبدع
فالناس في الشرع والسياسة وال ... إحسان والعدل كلهم شرع
يا ملكاً يردع الحوادث وال ... أيام عن ظلمها فترتدع
ومن له أنعم مكررة ... لنا مصيف منها ومرتبع
أرضى قد أجدبت وليس لمن ... أجدب يوماً سواك منتجع
ولي عيال لا در درهم ... قد أكلوا دهرهم وما شبعوا
إذا رأوني ذا ثروة جلسوا ... حولي ومالوا إلي واجتمعوا
وطالما قطعوا حبالي إع ... راضاً إذا لم تكن معي قطع
يمشون حولي شتى كأنهم ... عقارب كلما سعوا لسعوا
فمنهم الطفل والمراهق والر ... ضيع يحبو والكهل واليفع
لا قارح منهم أؤمل أن ... ينالني خيرة ولا جذع
لهم حلوق تفضي إلى معد ... تحمل في الأكل فوق ما تسع
من كل رحب المعاء أجوف نا ... ري الحشا لا يمسه الشبع
لا يحسن المضغ فهو يطرح في ... فيه بلا كلفة ويبتلع
ولي حديث يلهي ويعجب من ... يوسع لي خلقه ويستمع
نقلت رسمي جهلاً إلى ولد ... لست بهم ما حييت أنتفع
نظرت في نفعهم وما أنا في اج ... تلاب نفع الأولاد مبتدع
وقلت هذا بعدي يكون لكم ... فما أطاعوا أمري ولا سمعوا

واختلسوه مني فما تركوا ... عيني عليه ولا يدي تقع
فبئس والله ما صنعت فأض ... ررت بنفسي وبئس ما صنعوا
فإن أردتم أمراً يزول به ال ... خصام من بيننا ويرتفع
فاستأنفوا لي رسماً أعود على ... ضنك معاشي به فيتسع
وإن زعمتم أني أتيت بها ... خديعة فالكريم ينخدع
حاشا لرسم الكريم ينسخ من ... نسخ دواوينكم فينقطع
فوقعوا لي بما سألت فقد ... أطمعت نفسي واستحكم الطمع
ولا تطيلوا معي فلست ولو ... دفعتموني بالراح أندفع
وحلفوني ألا تعود يدي ... ترفع في نقله ولا تضع
وكل شعر أبي الفتح غرر وديوانه كبير يدخل في مجلدين، جمعه بنفسه قبل أن يضر وافتتحه بخطبة لطيفة ورتبه على أربعة أبواب، وما حدث من شعره بعد المعي سماه الزيادات، وهي ملحقة ببعض نسخ ديوانه المتداولة، وبعض النسخ خلو منها.
وله كتاب سماه الحجبة والحجاب في مجلد كبير ونسخه قليلة. ولد أبو الفتح بن التعاويذي في اليوم العاشر من رجب سنة تسع عشرة وخمسمائة، وتوفي في ثاني شوال سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ببغداد ودفن في مقبرة باب أبرز.

محمد بن عثمان بن بلبل
أبو عبد الله. لغوي نحوي، صحب السيرافي والفارسي وروى عنه كتابه الحجة في القراءات، وسمعه ابن بشران النحوي، وقرأ على ابن خالويه وبرع في الشعر والأدب، وتوفي يوم الجمعة لسبع بقين من رمضان سنة عشر وأربعمائة، ومن شعره يمدح الوزير سابور
أضحى الرجاء لبرق جودك شائماً ... وارتاد روض الحمد وهفاً ناعما
سميت نفسي غذ رجوتك واثقاً ... ودعوتها لك مذ خدمتك خادما
فمتى أقوم بشكر نعمتك التي ... عقدت علي من الخطوب تمائما
لا زال جدك للعدو مزاحماً ... يعلو وآناف البغاة رواغما
محمد بن عثمان بن مسيح
أبو بكر المعروف بالجعد، الشيباني النحوي، أحد أصحاب أبي الحسن بن كيسان، كان من العلماء الفضلاء مقدماً في النحو واللغة والأدب، وله من الكتب: كتاب الألفات، والناسخ والمنسوخ، كتاب معاني القرآن، كتاب القراءات، المختصر في النحو، كتاب الهجاء، كتاب المقصور والممدود، كتاب المذكر والمؤنث، كتاب العروض، كتاب خلق الإنسان، كتاب الفرق، مات سنة نيف وعشرين وثلاثمائة.
محمد بن علي بن إبراهيم بن زبرج
أبو المنصور بن أبي البقاء البغدادي، قرأ النحو على أبي السعادات هبة الله بن علي بن الشجري، واللغة على أبي منصور موهوب بن أحمد الجواليقي، وسمع الحديث من جده لأمه أبي العباس أحمد بن القاسم بن قريش، وأبي القاسم هبة الله ابن الحصين، وأبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري، سمع منه القاضي أبو المحاسن عمر بن علي بن الخضر القرشي، وأبو المفاخر محمد بن محفوظ الجرباذقاني، وعبد الرحمن بن يعيش بن سعدان القواريري، كان إماماً في النحو والعلوم العربية وتصدر للقراء، وكتب الخط المليح مع الصحة والضبط، وكان بينه وبين أبي محمد بن الخشاب البغدادي النحوي منافرات ومناظرات، ولد في ربيع الأول سنة أربع وثمانين، ومات يوم الثلاثاء خامس عشر جمادى الأولى سنة ست وخمسين وخمسمائة.
محمد بن علي بن أحمد
أبو عبيد الله الحلي المعروف بابن حميدة النحوي، كانت له معرفة جيدة بالنحو واللغة، قرأ على أبي محمد بن الخشاب البغدادي ولازمه حتى برع في علم العربية، وصنف كتباً منها: شرح أبيات الجمل لأبي بكر بن السراج، شرح اللمع لابن جني، وشرح المقامات الحريرية، وكتاب التصريف، والروضة في النحو، والأدوات في النحو أيضاً، وكتاب الفرق بين الضاد والظاء، ومولده سنة ست وثمانين وأربعمائة، ومات سنة خمسين وخمسمائة، أنشدني أبو الحسن علي بن نصر بن هارون الحلي قال: أنشدني محمد بن علي بن حميدة الحلي لنفسه:
سلام على تلك المعاهد والربا ... وأهلاً بأرباب القباب ومرحبا
وسقياً لربات الحجال وأهلها ... ورعياً لأرباب الخدور بيثربا
أحن لتياك الحجال وإن غدت ... ربائبها تبدي إلي التجنبا

وأصبوا لربع العامرية كلما ... تذكرت من جرعائها لي ملعبا
فلا هم إلا دون همي غدوة ... إذا جرت النكباء أوهبت الصبا

محمد بن أبي سارة علي
أبو جعفر الرؤاسي ابن أخي معاذ الهراء، وسمي الرؤاسي لعظم رأسه، كان إماماً في النحو بارعاً في العربية، وهو أستاذ أبي الحسن علي بن حمزة الكسائي.
قال أبو محمد درستويه: زعم أبو العباس بن يحيى ثعلب: أن أول من وضع من الكوفيين كتاباً في النحو أبو جعفر الرؤاسي وكان يقول: كان الرؤاسي أستاذ الكسائي والفراء، وقال أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء: لما خرج الكسائي إلى بغداد قال لي الرؤاسي: قد خرج الكسائي إلى بغداد وأنت أميز منه، فجئت إلى بغداد فرأيت الكسائي فسألته عن مسائل الرؤاسي فأجابني بخلاف ما عندي، فغمزت قوماً من علماء الكوفيين كانوا معي فقال الكسائي: مالك قد أنكرت؟ لعلك من أهل الكوفة فقلت نعم، فقال: الرؤاسي يقول كذا وكذا وليس صواباً، فقد سمعت العرب تقول كذا وكذا حتى أتى على مسائل الرؤاسي فلزمته.
وحكى عن الرؤاسي أنه قال: أرسل إلي الخليل بن أحمد يطلب كتابي فبعثته إليه فقرأه ووضع كتابه، وكان أبو جعفر الرؤاسي رجلاً صالحاً ورعاً، وله تصانيف كثيرة منها: كتاب معاني القرآن، كتاب الوقف والإبتداء الكبير، كتاب الوقف والابتداء الصغير، والفيصل في العربية، وكتاب التصغير وغير ذلك.
محمد بن علي بن إسماعيل العسكري
أبو بكر المعروف بمبرمان النحوي، أخذ عن المبرد وعن أبي إسحاق إبراهيم الزجاج وأكثر عنه، وأخذ عنه أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي وأبو علي الفارسي، وكان إماماً في النحو قيماً به، وكان مع علمه وفضله سخيفاً إذا أراد أن يمضي لمصلحة طرح نفسه في طبق حمال وشده بحبل، وربما كان معه ما يتنقل به نحو نبق وغيره فيأكل ويرمي الناس بالنوى يتعمد رؤوسهم، وربما بال على رأس الحمال فإذا قيل له في ذلك اعتذر، وقال بعض معاصريه يهجوه:
صداع من كلامك يعترينا ... وما فيه لمستمع بيان
مكابرة ومخرقة وبهت ... لقد أبرمتنا يا مبرمان
وكان المبرد يقول: تلاميذ أبي رجلان: أحدهما التكلاباذي يقرأ على أبي ثم يقول: قال المازني فيعلو، والآخر مبرمان يقرأ عليه ثم يقول: قال الزجاج فيسفل. وكان أبو بكر مبرمان ضنيناً بالقراءة عليه، لا يقرئ كتاب سيبويه إلا بمائة دينار، فقصده أبو هاشم الجبائي لقراءة الكتاب عليه فقال له مبرمان: قد عرفت الرسم؟ فقال أبو هاشم نعم، ولكن أسألك النظرة وأحمل إليك شيئاً يساوي أضعاف الرسم فأودعه عندك إلى أن يصل إلي مال لي في بغداد فأحمله إليك واسترد الوديعة، فتمنع قليلاً ثم أجابه، فعمد أبو هاشم إلى زنفيلجة حسنة مغشاة بالأدم محلاة فملأها حجارة وقفلها وختمها وحملها إلى مبرمان فوضعها بين يديه، فلما رأى منظرها وثقلها لم يشك في حقيقة ما ذكره، فوضعها عنده وأخذ عنه، فلما ختم الكتاب قال له المبرمان: احمل إلي مالي قبلك. فقال: أنفذ معي غلامك حتى أدفع إليه الرسم. فأنفذه معه إلى منزله، فلما جاء أبو هاشم إلى بيته كتب إلى مبرمان رقعة يقول فيها: قد تأخر حضور المال وأرهقني السفر، وقد أبحت لك التصرف في الزنفيلجة وهذا خطى لك حجة بذلك. وخرج أبو هاشم لوقته إلى البصرة ومنها إلى بغداد، فلما وصلت الرقعة إلى مبرمان استدعى بالزنفيلجة وفتحها فإذا فيها حجارة فقال: سخر منا أبو هاشم - لا حياه الله - واحتال علي بما لم يتم لغيره.
ولمبرمان من الكتب: شرح كتاب سيبويه لم يتم، وشرح شواهد سيبويه، كتاب المجموع على العلل، والتلقين في النحو، والمجاري، كتاب صفة شكر المنعم، وشرح كتاب الأخفش وغير ذلك، توفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة.
محمد بن علي بن الحسين بن عمر
أبو الحسن بن أبي الصقر الواسطي، كان فقيهاً أديباً شاعراً تفقه في بغداد على أبي إسحاق الشيرازي، وعلق عنه تعليقات وسمع منه ومن أبي بكر الخطيب وأبي سعد المتولي، وروى عنه أبو غالب الذهلي والحافظ محمد بن ناصر الدين، وأبو منصور موهوب الجواليقي وغيرهم، وكان شديد التعصب لمذهب الإمام الشافعي، وظهر ذلك في قصائد المعروفة بالشافعية، وغلب عليه الأدب والشعر فبرع فيهما، وجود الخط فبلغ فيه الغاية وجمع ديوانه في مجلد، ومن شعره:

من عارض الله في مشيئته ... فما لديه من بطشه خبر
لا يقدر الخلق باجتهادهم ... إلا على ما جرى به القدر
وقال أيضاً:
كل رزق ترجوه من مخلوق ... يعتريه ضرب من التعويق
وأنا قائل واستغفر ال ... له مقال المجاز لا التحقيق
لست أرضى من فعل إبليس شيئاً ... غير ترك السجود للمخلوق
وقال:
من قال لي جاه ولي حشمة ... ولي قبول عند مولانا
ولم يعد ذاك بنفع على ... صديقه لا كان من كانا
وقال وقد طعن في السن وعجز عن المشي:
كل أمر إذا تفكرت فيه ... أو تأملته رأيت ظريفاً
كنت أمشي على اثنتين قوياً ... صرت أمشي على ثلاث ضعيفا
وحضر عزاء طفل وهو يرتعش من الكبر، فتغامز عليه الحاضرون يشيرون إلى موت الطفل وطول حياته مع هذه السن، ففطن لهم وقال:
إذا دخل الشيخ بين الشباب ... عزاء وقد مات طفل صغير
رأيت اعتراضاً على الله إذ ... توفي الصغير وعاش الكبير
فقل لابن شهر وقل لابن دهر ... وما بين ذلك: هذا المصير
وقال أيضاً:
علة سميت ثمانين عاماً ... منعتني للأصدقاء القياما
فإذا عمروا تمهد عذري ... عندهم بالذي ذكرت وقاما
وقال:
ابن أبي الصقر افتكر ... وقال في حال الكبر
والله لولا بولة ... تحرقني وقت السحر
لما ذكرت أن لي ... ما بين فخذي ذكر
وقال:
وحرمة الود مالي عندكم عوض ... لأنني ليس لي في غيركم غرض
أشتاقكم وبودي لو يواصلني ... لكم خيال ولكن لست أغتمض
وقد شرطت على صحب صحبتهم ... بأن قلبي لكم من دونهم فرضوا
ومن حديثي بكم قالوا: به مرض ... فقلت: لا زال عني ذلك المرض
وقال:
ولما إلى عشر تسعين صرت ... ومالي إليها أب قبل صارا
تيقنت أني مستبدل ... بداري داراً والجار جارا
فتبت إلى الله مما مضى ... ولن يدخل الله من تاب نارا
وكان مولد ابن أبي الصقر في ذي القعدة سنة تسع وأربعمائة، وتوفي يوم الخميس رابع عشر جمادى الأولى سنة ثمان وستين وأربعمائة.

محمد بن علي بن عمر
أبو منصور بن الجبان، أحد حسنات الري وعلمائها الأعيان، جيد المعرفة باللغة، باقعة الوقت وفرد الدهر، وبحر العلم وروضة الأدب، تصانيفه سائرة في الآفاق، كان من ندماء الصاحب بن عباد ثم استوحش منه، وصنف أبنية الأفعال، وشرح الفصيح والشامل في اللغة، قرئ عليه في سنة ست عشرة وأربعمائة.
قال ابن مندة، قدم أصبهان فتكلم فيه من قبل مذهبه، وقرأ عليه مسند الروياني بسماعه من جعفر بن فناكي، وابتلى بحب غلام يقال له البركاني، فاتفق أن الغلام حج فلم يجد بداً من مرافقته، فلما أحرم قال: اللهم لبيك اللهم لبيك، والبركاني ساقني إليك، وأبتلى بفراقه وبرح به فكتب إليه:
يا وحشتي لفراقكم ... أترى يدوم على هذا؟
ألموت والأجل المتا ... ح وكل معضلة ولاذا
ومن كلامه: قياسات النحو تتوقف ولا تطرد كقميص له جربانات، فصاحبه كل ساعة يخرج رأسه من جربانة، ومن تصانيفه أيضاً: كتاب سماه انتهاز الفرص في تفسير المقلوب من كلام العرب، قرأه عليه عبد الواحد بن برهان، ومن شعره يمدح الصاحب بن عباد:
ليهنك الأهنآن الملك والعمر ... ما سير الأسيران الشعر والسمر
وطال عمر سناك المستضاء به ... ما عمر الأبقيان الكتب والسير
يفدي الورى كلهم كافي الكفاة فقد ... صفا به الأفضلان العدل والنظر
له مكارم لا تحصى محاسنها ... أيحسب الأكثران الرمل والشجر؟
لكيده النصر من دون الحسام وإن ... تمرد الأشجعان الترك والخزر
ما سار موكبه إلا ويخدمه ... في سيره الأسنيان الفتح والظفر

وإن أمر على طرس أنامله ... أغضى له الأبهجان الوشي والزهر
دامت تقبلها صيد الملوك كما ... يقبل الأكرمان الركن والحجر

محمد بن علي
أبو سهل الهروي النحوي اللغوي، ولد في رمضان سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، وأخذ عن صاحب الغريبين أبي عبيد أحمد بن محمد الهروي، وروي عنه وعن أبي يعقوب النجيرمي وأبي أسامة جنادة بن محمد النحوي رئيس المؤذنين بجامع عمرو، وله من الكتب: شرح الفصيح ومختصره، وكتاب أسماء الأسد، كتاب أسماء السيف. مات بمصر يوم الأحد ثالث المحرم سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
محمد بن علي
أبو بكر المراغي النحوي، قرأ علي أبي إسحاق إبراهيم الزجاج، وكان عالماً أديباً أقام بالموصل زمناً طويلاً، وله من الكتب: المختصر في النحو، وشرح شواهد الكتاب - كتاب سيبويه - .
محمد بن علي
أبو الحسن الدقيقي النحوي، ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، أخذ عن أبي الحسن الرماني وغيره. وصنف المرشد في النحو، وكتاب المسموع من كلام العرب وغير ذلك.
محمد بن علي بن أبي مروان الأموي
أبن أخي المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن الخليفة المرواني بالأندلس، كان أديباً فاضلاً شاعراً ومن شعره:
كم تصاب أردفته بتصاب ... واصطباح وصلته باغتباق
وكئوس أعطيتها بدر تم ... جل أن يعتريه نقص المحاق
وغصون جنيت منا ثماراً ... لم يشنها تساقط الأوراق
زمن لو بكيته حسب وجدي ... كنت أبكيه من دم الأحداق
وقال:
قد رضيت الهوى لنفسي خلا ... ورأيت الممات في الحب سهلا
وتذللت للحبيب وعز الصب ... ب في سنة الهوى أن يذلا
يأبى من أحل قتلي عمداً ... ومباح لسيدي ما استحلا
سوف أجزي الحبيب بالصد ودا ... مستجداً بالقطيعة وصلا
وإذا ما استزاد تيهاً وعجباً ... زدت طوعاً له خضوعاً وذلا
وقال:
تبدت بأكناف الحجاز ديارها ... فأوقد نار الوجد في القلب نارها
كأني بأنفاسي استمدت ضرامها ... وعن كبدي الحري تلظى استعارها
يحن إليها القلب حتى كأنما ... إليه تناهيها ومنه انتشارها
وقال:
لئن وعدتني وصلها وصل عاتب ... يجاحدني وعدي وينكرني حقي
فأفضل صوب الغيث في الأرض دافق ... وأبلغه ما جاء بالرعد والبرق
فإن ما نعتني فضل إنجاز موعد ... فإن الحيا الممنوع أشهى إلى الخلق
فلا كان لي في الأرض رزق أناله ... إذا لم يكن في نيل موعدها رزقي
وقال:
ومختطف للعين بت أشيمه ... مخالسة والليل حيران مطرق
سرى يخبط الظلماء حتى كأنه ... بوجدي يسري أو بقلبي يخفق
وقال:
غير مستنكر همول دموعي ... في التصابي وغير بدع خشوعي
ليس عزي إلا فناء اعتزازي ... وارتقائي إلا بقاء خضوعي
وبحسبي أني ألاقي عذولي ... باصطبار عاص ودمع مطيع
وقال:
ولما حمى الشوق المبرح ناظري ... كراه حذاراً أن يريني مثاله
شربت عقاراً ذكرتني ريقه ... ونشوتها أهدت إلى خياله
فيا نشوة كانت على الصب نعمة ... أنالت يدي ما لم أؤمل نواله
وقال:
راجعه شوقه فحنا ... وشفه شجوه فأنا
وسال من دمعه مصون ... أظهر ما كان مستكنا
فعاد فيه الهوى يقينا ... وكان عند الرقيب ظنا
لو كان يلقى الذي ألاقي ... أوسعني رحمه وحنا
وقال:
بين أجفانها وبين ضلوعي ... نازعتني الحياة أيدي المنون
لست أدري أعن مدى طرفها الفا ... تن موتي أم طرفي المفتون؟
وقال:
يا ربيعي ما كان ضرك لوجد ... ت علينا كما يجود الربيع
ورده ذاهب ووردك باق ... وهو سمح به وأنت منوع

كن شفيعي إليك يا جنة الخلد ... فمالي غير الخضوع شفيع

محمد بن عمران بن موسى بن سعيد
ابن عبد الله المرزباني. أبو عبد الله الراوية الأخباري الكاتب، كان راوية صادق اللهجة، واسع المعرفة بالروايات كثير السماع، روى عن البغوي وطبقته، وأكثر روايته بالإجاز لكنه يقول فيها أخبرنا، وكان ثقة صدوقاً من خيار المعتزلة.
قال أبو القاسم الأزهري: كان المرزباني يضع المحبرة وقنينة النبيذ فلا يزال يكتب ويشرب. وقال القاضي الحسين بن علي الصيمري: سمعت المرزباني يقول: كان في داري خمسون ما بين لحاف ودواج معدة لأهل العلم الذين يبيتون عندي، وصنف كتباً كثيرة في أخبار الشعراء والأمم والرجال والنوادر، وكان حسن الترتيب لما يصنفه، يقال إنه أحسن تصنيفاً من الجاحظ، ولد في جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين ومائتين، وتوفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة. وقال الخطيب: سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
وله من التصانيف: أخبار الشعراء المشهورين والمكثرين من المحدثين وأنسابهم وأزمانهم، وأولهم بشار بن برد وآخرهم ابن المعتز عشرة آلاف ورقة، أخبار أبي تمام نحو مائة ورقة، أخبار أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة أكثر من مائة ورقة، أخبار الأولاد والزوجات والأهل وما جاء فيهم من مدح وذم نحو مائتي ورقة، أخبار البرامكة من ابتداء أمرهم إلى انتهائه مشروحاً نحو خمسمائة ورقة، أخبار عبد الصمد بن المعذل الشاعر، أخبار محمد بن حمزة العلاف نحو مائة ورقة، أشعار النساء نحو ستمائة ورقة، أشعار الجن المتمثلين فيمن تمثل منهم بشعر أكثر من مائة ورقة، الأنوار والثمار فيما قيل الورد والنرجس وجميع الأنوار من الأشعار وما جاء فيها من الآثار والأخبار، ثم ذكر الثمار وجميع الفواكه وما جاء فيها، مستحسن النظم والنثر، تلقيح العقول أكثر من مائة باب وهو أكثر من ثلاثة آلاف ورقة، الرياض في أخبار المتيمين من الشعراء الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين والمحدثين، شعر حاتم الطائي، كتاب الأزمنة ألف ورقة، ذكر فيه أحوال الفصول الأربعة والحر والغيوم والبروق والرياح والأمطار، وأوصاف الربيع والخريف وطرفاً من الفلك وأيام العرب والعجم وسنينهم وما يلحق بذلك من الأخبار والأشعار، كتاب الأوائل في أخبار الفرس القدماء وأهل العدل والتوحيد وشيء من مجالسهم نحو ألف ورقة، كتاب الدعاء نحو مائتي ورقة، كتاب ذم الحجاب نحو مائتي ورقة، كتاب ذم الدنيا نحو خمسمائة ورقة، كتاب الشباب والشيب نحو ثلاثمائة ورقة، كتاب الزهد وأخبار الزهاد، كتاب الشعر وهو جامع لفضائله وذكر محاسنه وأوزانه وعيوبه، وأجناسه وضروبه ومختاره وأدب قائليه ومنشديه، وبيان منحوله ومسروقه وغير ذلك، كتاب الفرج نحو مائة ورقة، كتاب العبادة نحو أربعمائة ورقة، كتاب المحتضرين نحو مائة ورقة، كتاب المراثي نحو خمسمائة ورقة، كتاب المغازي ثلاثمائة ورقة، كتاب نسخ العهود إلى القضاة نحو مائتي ورقة، كتاب الهدايا نحو ثلاثمائة ورقة، كتاب المديح في الولائم والدعوات نحو خمسمائة ورقة، المتوج في العدل وحسن السيرة أكثر من مائة ورقة، المرشد في أخبار المتكلمين نحو مائة ورقة، المستطرف في الحمقى والنوادر نحو ثلاثمائة ورقة، المشرف في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه ومواعظه ووصاياه، المفضل في البيان والفصاحة نحو ثلاثمائة ورقة، المزخرف في الإخوان والأصحاب أكثر من ثلاثمائة ورقة، المعجم ذكر فيه الشعراء على حروف المعجم فيه نحو خسمة آلاف اسم ألف ورقة، المقتبس في أخبار النحويين البصريين وأول من تكلم في النحو وأخبار القراء والرواة من أهل البصرة والكوفة نحو ثمانين ورقة، الموسع فيما أنكره العلماء على بعض الشعراء من كسر ولحن وعيوب الشعر ثلاثمائة ورقة، المنير في التوبة والعمل الصالح نحو أربعمائة ورقة، المفيد في أخبار الشعراء وأحوالهم في الجاهلية والإسلام ودياناتهم ونحلهم نيف وخمسة آلاف ورقة، الموثق في أخبار الشعراء الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين على طبقاتهم نيف وخمسة آلاف ورقة، الواثق في وصف أحوال الغناء وأخبار المغنين والمغنيات الإملاء والأحرار وله غير ذلك.
أبو جعفر الكوفي النحوي

كان يؤدب عبد الله بن المعتز وكان نحوياً عارفاً بالقراءة والعربية بعيد النظر في البوادر، روى أنه حين كان يؤدب ابن المعتز أقرأه يوماً سورة والنازعات وقال له: إذا سألك أمير المؤمنين في أي سورة أنت؟ فقل له: أنا السورة التي تلي سورة عبس، فلما سأله أبوه المعتز عن ذلك قال له: أنا في السورة التي تلي عبس. فقال له: من علمك هذا؟ فقال: مؤدبي أبو جعفر فأمر له بعشرة آلاف درهم، وكان أبو جعفر عالماً بالحديث والأثر وثقه الحافظ علي بن عمر وغيره.

محمد بن عمر بن عبد العزيز
ابن إبراهيم بن عيسى بن مزاحم المعروف بابن القوطية الإشبيلي الأصل القرطبي أبو بكر اللغوي النحوي الأديب الشاعر، كان أعلم أهل زمانه باللغة والعربية إماماً مقدماً فيهما، وأروى أهل عصره للأشعار والأخبار لا يشق في ذلك غباره، ولا يلحق شأوه، وكان مع ذلك فقيهاً متمكناً حافظاً للحديث والآثار، غير أنه لم يكن له في ذلك أصول يرجع إليها فلم يكن ضابطاً للرواية، وكان ما يسمع منه من ذلك إنما يحمل على المعنى دون اللفظ، وكان كثيراً ما يقرأ عليه ما لا رواية له على سبيل الضبط والتصحيح، وكان مضطلعاً بأخبار الأندلس رواية لسير ملوكها وأمرائها وعلمائها وشعرائها، حافظاً لأخبارهم يملي ذلك عن ظهر قلبه، وكان أكثر ما يؤخذ عنه ويقرأ عليه كتب اللغة.
ولما دخل أبو علي القالي الأندلس اجتمع به، وكان يبالغ في تقديمه وتعظيمه حتى قال له الخليفة المستنصر الحكم بن عبد الرحمن: من أنبل من رأيته ببلدنا في اللغة؟ فقال: أبو بكر ابن القوطية، ومما كان يزيد علمه وفضله اتصافه بالزهد والتقوى والنسك، وكان في أول أمره ينظم الشعر بالغاً فيه حد الإجادة مع الإحسان في المطالع والمقاطع وتخير الألفاظ الرشيقة والمعاني الشريفة، ثم ترك ذلك وأقبل على النسك والانفراد.
قال الثعالبي: أخبرني أبو سعيد بن دوست قال: أخبرني الوليد بن بكر الفقيه: أن أبا بكر يحيى بن هذيل الشاعر زار يوماً ابن القوطية في ضيعة له بسفح جبل قرطبة وكان منفرداً فيه عن الناس فألفاه خارجاً منها فلما رآه ابن القوطية استبشر به. فبادره يحيى بن هذيل ببيت حضرة على البديهة فقال:
من أين أقبلت يا من لا شبيه له ... ومن هو الشمس والدنيا له فلك
فتبسم وأجابه مسرعاً بقوله:
من منزل يعجب النساك خلوته ... وفيه ستر على الفتاك إن فتكوا
قال ابن هذيل: فما تمالكت أن قبلت يده إذ كان شيخي وأستاذي، وكان الشعر أقل صنائعه لكثرة علومه وغرائبه. سمع أبو بكر ابن القوطية من قاسم بن أصبغ وابن الأغبش وأبي الوليد الأعرج ومحمد بن عبد الوهاب ابن مغيث، وسمع بقرطبة من طاهر بن عبد العزيز، وسمع بإشبيلية من محمد بن عبد الله بن الفرق وسعيد بن جابر وحسن ابن عبد الله الزبيدي وغيرهم، ولقي أكثر مشايخ عصره بالأندلس فأخذ عنهم وأكثر النقل من فوائدهم، وروى عنه الشيوخ والكهول وطال عمره، فسمع الناس منه طبقة بعد طبقة، ومن تصانيفه: كتاب تصاريف الأفعال وهو أول مصنف في ذلك، ثم تبعه ابن القطام السعدي فوضع كتابه على منواله، كتاب المقصور والممدود جمع فيه فأوعى فأعجز من بعده عن أن يأتوا بمثله، وفاق به من تقدمه، وله شرح أدب الكتاب، وتاريخ الأندلس وغير ذلك.
مات ابن القوطية يوم الثلاثاء لسبع بقين من ربيع الأول سنة سبع وستين وثلاثمائة بمدينة قرطبة، ودفن يوم الأربعاء وقت صلاة العصر بمقبرة قريش، والقوطية نسبة إلى القوط، وهم ينسبون إلى قوط بن حام بن نوح، كانوا بالأندلس من أيام إبراهيم عليه السلام، ومن شعر أبي بكر بن القوطية:
ضحى أناخوا بوادي الكلح عيسهم ... فأوردوها عشاء أي إيراد
أكرم به وادياً حل الحبيب به ... ما بين رند وخابور وفرصاد
يا وادياً سار عنه الركب مرتحلاً ... بالله قل أين سار الركب يا وادي؟
أبالغضا نزلوا أم للوى عدلوا ... أم عنك قد رحلوا خلفاً لميعادي؟
بانوا وقد أورثوا جسمي الضنا وكأن ... كان النوى لهم أولى بمرصاد
وقال:
ضحك الثرى وبدا لك استبشاره ... واخضر شاربه وطر عذاره

ورنت حدائقه وآزر نبته ... وتبسمت أنواره وثماره
واهتز قد الغصن لما أن كسى ... ورقاً كديباج يروق وإزاره
وتعممت صلع الربى بنيانها ... وترنمت في لحنها أطياره

محمد بن واقد
الواقدي المدني مولى الأسلميين، أحد أوعية العلم وصاحب التصانيف الكثيرة، وسمع من مالك بن أنس والثوري ومعمر بن راشد بن أبي ذؤيب وغيرهم، وروي عنه جماعة من الأعيان وكاتبه محمد بن سعد الزهري، وكان عارفاً برأي مالك وسفيان الثوري.
وقال أبو داود الحافظ: بلغني أن ابن المديني قال: كان الواقدي يروي ثلاثين ألف حديث غريب، وكان ذلك إلى حفظه المنتهي في المغازي والسير والأخبار وأيام الناس والوقائع والفقه وغير ذلك، ولقي الواقدي ابن جريج وابن عجيلان ومعمراً وثور بن يزيد.
وقال الإمام إبراهيم الحربي: الواقدي أمين الناس على الإسلام. وقال البخاري: سكتوا عنه. وقال محمد بن إسحاق: والله لولا أنه عندي ثقة ما حدثت عنه. وقال مصعب بن الزبير: والله ما رأينا مثل الواقدي، وقال: أيضاً: الواقدي ثقة مأمون.
وقال الإمام إبراهيم الحربي: من قال إن مسائل مالك وابن أبي ذؤيب تؤخذ من أوثق من الواقدي فلا تصدقه. وقال الحافظ الدراوردي: الواقدي أمير المؤمنين في الحديث. وقال محمد بن سلام الجمحي: الواقدي علم دهره. وقال جابر ابن كردي: سمعت يزيد بن هارون يقول: الواقدي ثقة، ووثقه أيضاً أبو عبيد القاسم بن سلام.
وقال الخطيب في تاريخه: قدم الواقدي بغداد وولي قضاء الجانب الشرقي منها، وهو ممن طبق الأرض شرقها وغربها ذكره، ولم يخف على أحد عرف الأخبار أمره، وسارت الركبان بكتبه في فنون العلم من المغازي والسير والطبقات وأخبار النبي صلى الله عليه وسلم والأحداث الكائنة في وقته وبعد وفاته، وكتب الفقه واختلاف الناس في الحديث وغير ذلك، وكان جواداً مشهوراً بالسخاء - انتهى - . وسئل معن القزاز عن الواقدي فقال: أنا أسأل عن الواقدي؟ والواقدي يسأل عني، يعني تحري الواقدي في معرفة الرجال.
قال المؤلف: وهو مع ذلك ضعفه طائفه من المحدثين كابن معين وأبي حاتم والنسائي وابن عدي وابن راهويه والدارقطني، أما في أخبار الناس والسير والفقه وسائر الفنون فهو ثقة بإجماع، وكان الرشيد قد ولاه القضاء بشرقي بغداد، ثم ولاه المأمون القضاء بعسكر المهدي وكان يكرم جانبه ويبالغ في رعايته، وكتب الواقدي إلى المأمون مرة يشكو ضائقة ركبه بسببها دين وعين مقداره، فوقع المأمون على قصته بخطه: فيك خلتان: سخاء وحياء، فالسخاء أطلق يديك بتبذير ما ملكت، والحياء حملك على أن ذكرت لنا بعض دينك، وقد أمرنا لك بضعف ما سألت، وإن كنا قصرنا عن بلوغ حاجتك فبجنايتك على نفسك، وإن كنا بلغنا بغيتك فزد في بسطة يدك، فإن خزائن الله مفتوحة، ويده بالخير مبسوطة، وأنت حدثتني حين كنت على قضاء الرشيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزبير: يا زبير، إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش، ينزل الله سبحانه وتعالى للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل عليه. قال الواقدي: نسيت الحديث، وكان تذكيره لي به أعجب من صلته.

وعن ابن أبي الأزهر قال: حدثني أبو سهل الداري عمن حدثه عن الواقدي قال: كان لي صديقان أحدهما هاشمي وكنا كنفس واحدة فنالتني ضيقة شديدة وحضر العيد فقالت امرأتي: أما نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدة، وأما صبياننا هؤلاء فقد قطعوا قلبي رحمة لهم، لأنهم يرون صبيان الجيران قد تزينوا في عيدهم وأصلحوا ثيابهم وهم على هذه الحال من الثياب الرثة، فلو احتلت بشيء نصرفه في كسوتهم قال: فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة علي بما حضر، فوجه إلى كيساً مختوماً ذكر أن فيه ألف درهم، فما استقر قراري إذ كتب إلى الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صاحبي، فوجهت إليه الكيس بحاله، وخرجت إلى المسجد فأقمت فيه ليلى مستحيياً من امرأتي، فلما دخلت عليها وأخبرتها بما فعلت استحسنت ما كان مني ولم تعنفني عليه. فبينا أنا كذلك إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته فقال لي: أصدقني عما فعلته فيما وجهت إليك، فعرفته الخبر على وجهه فقال: إنك وجهت إلي وما أملك على الأرض إلا ما بعثت به إليك، وكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة فوجه إلي كيسي بخاتمي، قال الواقدي: فتقاسمنا الكيس أثلاثاً ونمى الخبر إلى المأمون، فدعاني فشرحت له الخبر، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار لكل واحد ألفا دينار، وللمرأة ألف دينار.
وروى ابن سعد عن الواقدي أنه قال: ما من أحد إلا وكتبه أكثر من حفظه، وحفظي أكثر من كتبي وقال يعقوب بن شيبه: لما تحول الواقدي من الجانب الغربي يقال أنه حمل كتبه على عشرين ومائة وقر، وقيل كان له ستمائة قمطر كتب، ولد سنة ثلاثين ومائة، وتوفي عشية يوم الاثنين حادي عشر ذي الحجة سنة سبع ومائتين عن سبعة وسبعين عاماً ودفن في مقابر الخيزران. وله من الكتب: كتاب الاختلاف يحتوي على اختلاف أهل المدينة والكوفة في الشفعة والصدقة والعمرى والرقبى والوديعة وعلى كتب الفقه الباقية، كتاب غلط الحديث، كتاب السنة والجماعة وذم الهوى، كتاب ذكر القرآن، كتاب الآداب، كتاب الترغيب في علم القرآن، التاريخ الكبير، كتاب التاريخ والمغازي والبعث، أخبار مكة، كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب السقيفة وبيعة أبي بكر، كتاب سيرة أبي بكر ووفاته، كتاب الردة والدار، كتاب السيرة، كتاب أمر الحبشة والفيل، كتاب حرب الأوس والخزرج، كتاب المناكح، كتاب يوم الجمل، كتاب صفين، كتاب مولد الحسن والحسين، كتاب مقتل الحسين، كتاب فتوح الشام، كتاب فتوح العراق، كتاب ضرب الدنانير والدراهم، كتاب مراعي قريش والأنصار في القطائع ووضع عمر الدواوين، كتاب الطبقات، تاريخ الفقهاء.

محمد بن فتوح بن عبد الله بن حميد

أبو عبد الله الأزدي الحميدي الحافظ المؤرخ الأديب أصله من قرطبة، وولد بميورقة جزيرة بالأندلس قبل العشرين وأربعمائة، وكان يحمل على الكتف للسماع سنة خمس وعشرين وأربعمائة، وأول من سمع منه أبو القاسم أصبغ، وتفقه بابن أبي زيد القيرواني، وروى عنه رسالته ومختصر المدونة، ورحل سنة ثمان وأربعين وأربعمائة إلى المشرق فج وسمع بمكة، وقدم مصر فسمع بها من الضراب والقراعي وغيرهما. وكان سمع بالأندلس من الحافظ ابن عبد البر، وأبي محمد بن حزم الظاهري ولازمه وقرأ عليه أكثر مصنفاته وأكثر من الأخذ عنه، وشهر بصحبته وكان على مذهبه إلا أنه لم يتظاهر بذلك، وسمع بإفريقية ودمشق، وأقام بواسط مدة ثم رجع إلى بغداد واستوطنها، وروى عن الخطيب البغدادي وكتب عنه أكثر مصنفاته، وروى عنه الأمير الحافظ الأديب أبو نصر علي بن ماكولا وقال: أخبرنا صديقنا أبو عبد الله الحميدي وهو من أهل العلم والفضل والتيقظ: لم أر مثله في عفته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم. وقال بعض أكابر عصره ممن لقي الأئمة: لم تر عيناي مثل أبي عبد الله لحميدي في فضله ونبله ونزاهته وغزارة علمه، وحرصه على نشر العلم وبثه في أهله، وكان ورعاً ثقة إماماً في علم الحديث وعلله، ومعرفة متونه ورواته، محققاً في علم الأصول على مذهب أصحاب الحديث، متبحراً في علم الأدب والعربية وكان يقول: ثلاثة أشياء من علوم الحديث يجب تقديم الاهتمام بها: العلل وأحسن كتاب صنف فيها كتاب الدارقطني، ومعرفة المؤتلف والمختلف، وأحسن كتاب وضع فيه كتاب الأمير أبي نصر بن ماكولا، ووفيات الشيوخ وليس فيها كتاب. وقد كنت أردت أن أجمع في ذلك كتاباً فقال لي الأمير ابن ماكولا: رتبه على حروف المعجم بعد أن رتبته على السنين.
قال أبو بكر بن طرخان: فشغله عنه الصحيحان إلى أن مات، توفي ببغداد ليلة الثلاثاء سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وكان أوصى مظفر بن رئيس الرؤساء أن يدفنه عند قبر بشر الحافي، فخالف وصيته ودفنه في مقبرة باب البزر، فلما مضت مدة رآه مظفر في النوم يعاتبه على مخالفته، فنقل في صفر سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى مقبرة باب حرب ودفن عند قبر بشر، ووجد كفنه حين نقل وبدنه طرياً تفوح منه رائحة الطيب.
صرف الحميدي جذوة المقتبس في أخبار علماء الأندلس ألفه في بغداد وذكر في خطبته أنه كتبه من حفظه، وتاريخ الإسلام، والأماني الصادقة، وتسهيل السبيل إلى علم الترسيل، والجمع بين الصحيحين للبخاري ومسلم، وكتاب ذم النميمة، والذهب المسبوك في وعظ الملوك، وكتاب ما جاء من النصوص والأخبار في حفظ الجار، ومخاطبات الأصدقاء في المكاتبات واللقاء، وكتاب من ادعى الأمان من أهل الإيمان، ومن شعره:
كلام الله عز وجل قولي ... وما صحت به الآثار ديني
وما اتفق الجميع عليه بدءاً ... وعوداً فهو عن حق مبين
فدع ما صد عن هذا وهذا ... تكن منها على عين اليقين
وقال:
ألفت النوى حتى أنست بوحشتي ... وصرت بها لا بالصبابة مولعا
فلم أحص كم رافقت فيها مرافقاً ... ولم أحص كم يممت في الأرض موضعا
ومن بعد جوب الأرض شرقاً ومغرباً ... فلا بد لي م أن أوافي مصرعا
وقال:
لقاء الناس ليس يفيد شيئاً ... سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال

محمد بن فرج
أبو جعفر الغساني الكوفي النحوي، أخذ عن سلمة بن عاصم صاحب الفراء. وقال الداني: أخذ القراءة عن أبي عمرو الدوري وله عنه نسخة، وروي عنه الحروف أحمد بن جعفر بن عبيد الله ابن المنادي ومحمد بن الحسن النقاش، وأبو مزاحم الخاقاني وغيرهم.
محمد بن القاسم

وقيل ابن خلاد بن ياسر بن سليمان الهاشمي بالولاء أبو عبد الله المعروف بأبي العيناء، الأخباري الأديب الشاعر، روي عن ابن عاصم النبيل، وسمع من الأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد الأنصاري والعتبي غيرهم، وحدث عنه الصولي ابن نجيح وأحمد بن كامل وآخرون، وكان فصيحاً بليغاً من ظرفاء العالم آية في الذكاء واللسن وسرعة الجواب، فمن لطائفه: أنه شكا تأخر أرزاقه إلى عبيد الله بن سليمان فقال له: ألم نكن كتبنا لك إلى ابن المدبر فما فعل في أمرك؟ قال جرني على شوك المطل، وحرمني ثمرة الوعد، فقال: أنت اخترته. فقال: وما علي وقد اختار موسى قومه سبعين رجلاً فما كان منهم رشيد، فأخذتهم الرجفةً، واختار النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي سرح كاتباً فلحق بالمشركين مرتداً، واختار علي بن أبي طالب أبا موسى الأشعري حكماً فحكم عليه. وحجبه بعض الأمراء ثم كتب إليه يعتذر منه فقال: تجبهني مشافهة وتعتذر إلى مكاتبة؟. وقال: أخجلني ابن صغير لعبد الرحمن بن خاقان قلت له: وددت أن لي ابناً مثلك قال: هذا بيدك، قلت: كيف ذلك؟ قال: تحمل أبي على امرأتك فتلد لك ابناً مثلي. وبلغه أن المتوكل قال: لولا أنه ضرير لنادمناه فقال: إن أعفاني من رؤية الأهلة وقراءة نقش الفصوص صلحت للمنادمة. ودخل على المتوكل في قصره المعروف بالجعفري سنة ست وأربعين ومائتين فقال له: ما تقول في دارنا هذه؟ فقال: إن الناس بنوا الدور في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك، فاستحسن كلامه ثم قال له: كيف شربك للخمر؟ قال: أعجز عن قليله، وأفتضح عند كثيره. فقال له: دع هذا عنك ونادمنا فقال: أنا رجل مكفوف وكل من في مجلسك يخدمك وأنا محتاج أن أخدم، ولست آمن من أن تنظر إلي بعين راض وقلبك علي غضبان، أو بعين غضبان وقلبك راض، ومتى لم أميز بين هذين هلكت، فأختار العافية على التعرض للبلاء. فقال: بلغني عنك بذاء في لسانك، فقال: يا أمير المؤمنين، قد مدح الله تعالى وذم فقال: (نعم العبد أنه أواب)، وقال عز وجل: (هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم). وقال الشاعر:
إذا أنا المعروف لم أثن صادقاً ... ولم أشتم النكس اللئيم المذمما
ففيم عرفت الخير والشر باسمه؟ ... وشق لي الله المسامع والفما؟
قال: فمن أين أنت؟ قال من البصرة: قال: فما تقول فيها؟ قال: ماؤها أجاج، وحرها عذاب، وتطيب في الوقت الذي تطيب فيه جهنم. قرأت في تاريخ دمشق قال: قرأت على زاهر بن طاهر عن أبي بكر البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت عبد العزيز بن عبد الملك الأموي يقول: سمعت إسماعيل بن محمد النحوي يقول: سمعت أبا العيناء يقول: أنا والحافظ وضعنا حديث فدك وأدخلناه على الشيوخ في بغداد فقبلوه إلا ابن شيبة العلوي قال: لا يشبه آخر هذا الحديث أوله فأبي أن يقبله، وكان أبو العيناء يحدث بهذا بعد ما كان، وكان جد أبي العيناء الأكبر يلقى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأساء المخاطبة بينه وبينه، فدعا عليه بالعمى له ولولده من بعده، فكل من عمي من ولد أبي العيناء فهو صحيح النسب فيهم.
وقال المبرد: إنما صار أبو العيناء أعمى بعد أن نيف على الأربعين، وخرج من البصرة واعتلت عيناه فرمى فيهما بما رمى، والدليل على ذلك قول أبي البصير:
قد كنت خفت يد الزما ... ن عليك إذ ذهب البصر
ولم ادر أنك بالعمى ... تغنى ويفتقر البشر
وقال أحمد بن أبي دؤاد لأبي العيناء: ما اشد ما أصابك في ذهاب بصرك؟ قال أبدأ بالسلام، وكنت أحب أن أكون أنا المبتدئ، وأحدث من لا يقبل على حديثي ولو رأيته لم أقبل عليه. فقال له ابن أبي دؤاد: أما من بدأك بالسلام فقد كافأته بجميل بيتك له، ومن أعرض عن حديثك إنما أكسب نفسه من سوء الأدب أكثر مما نالك من سوء الإعراض. وقال محمد بن خلف المرزبان: قال لي أبو العيناء: أتعرف في شعراء المحدثين رشيداً الرياحي؟ قال: فقلت لا. قال: بل هو القائل في:
نسب لابن قاسم ما تراث ... فهو للخير صاحب وقرين
أحول الهين والخلائق زين ... لا احولال بها ولا تلوين
ليس للمرء شائناً حول العي ... ن إذا كان فعله لا يشين

فقلت له: وكنت قبل العمى أحول؟ أمن السقم إلى البلى؟ فقال: هذا أظرف خبر تعرج به الملائكة إلى السماء اليوم. وقال: أيما أصلح، من السقم إلى البلى؟ أو حال العجوز أصلحها الله من القيادة إلى الزناء؟. وحمله بعض الوزراء على دابة فانتظر علفها فلما أبطأ عليه قال: أيها الوزير، هذه الدابة حملتني عليها أو حملتها علي. وقال له المتوكل: هل رأيت طالبياً الوجه؟ قال نعم: رأيت ببغداد - منذ ثلاثين - واحداً قال: نجده كان مؤاجراً وكنت أنت تقود عليه، فقال يا أمير المؤمنين: أو يبلغ هذا من فراغي أدع موالي مع كثرتهم وأقود على الغرباء؟ فقال المتوكل للفتح: أردت أن أشتفي منهم فاشتفي لهم مني. وقال له يوماً: إن سعيد بن عبد الملك يضحك منك فقال: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون. وقال له ابن ثوابة يوماً: كتمت أنفاس الرجال فقال: حيث كانوا وراء ظهرك. وقال له جناح بن سلمة يوماً: ما ظهورك وقد خرج توقيع أمير المؤمنين في الزنادقة؟ فقال له: أستدفع الله عنك وعن أصهارك. ودخل يوماً على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وهو يلعب بالشطرنج فقال: في أي الحيزين أنت؟ فقال في حيز الأمير - أيده الله - وغلب عبيد الله فقال: يا أبا العيناء، قد غلبنا وقد أصابك خمسون رطل ثلج فقام ومضى إلى ابن ثوابة وقال: إن الأمير يدعوك، فلما دخلا قال: أيد الله الأمير، قد جئتك بجبل همذان وما سبذان ثلجاً فخذ منه ما شئت، وكان بينه وبين محمد بن مكرم مداعبة فسمع ابن مكرم أبا العيناء يقول في دعائه: يا رب سائلك، فقال يا ابن الفاعلة: ومن ليس سائله؟! وقال له ابن مكرم يوماً يعرض به: كم عدد المكدين بالبصرة؟ فقال له: مثل عدد البغائين ببغداد، وقال له ابن مكرم ذات يوم: هممت أن آمر غلامي أن يدوس بطنك فقال: الذي تخلفه على عيالك إذا ركبت، أو الذي تحمله على ظهرك إذا نزلت؟. وقال ابن مكرم يوماً: مذهبي الجمع بين الصلاتين فقال له: صدقت تجمع بينهما بالترك. وقيل له: ما تقول في محمد بن مكرم والعباس بن رستم؟ فقال: هما الخمر والميسر، إثمهما أكبر من نفعهما؟ وقال ابن مكرم له يوماً: أحسبك لا تصوم شهر رمضان، فقال له ويلك، وتدعني امرأتك الصوم؟ وبات ليلة عند ابن مكرم فجعل ابن مكرم يفسو عليه فقام أبو العيناء وصعد السرير فارتفع إليه فساؤه، فصعد إلى السطح فبلغته رائحته فقال: يابن الفاعلة، ما فساؤك إلا دعوة مظلوم. وقدم إليه ابن مكرم يوماُ جنب شواء فلما جسه قال: ليس هذا جنباً، هذا شريجة قصب.
ومر يوماً على دار عدو له فقال: ما خبر أبي محمد؟ فقالوا كما تحب. قال: فمالي لا أسمع الرنة والصياح؟. ووعده ابن المدبر بدابة فلما طالبه قال: أخاف أن أحملك عليها فتقطعني ولا أراك فقال: عدني أن تضم إليها حماراً لأواظب مقتضياً، ووعده يوماً أ يعطيه بغلاً فلقيه في الطريق فقال: كيف أصبحت يا أبا العيناء؟ فقال: أصبحت بلا بغل فضحك منه وبعث به إليه. وقالت له قينة: هب لي خاتمك وأذكرك به، فقال لها: اذكري أنك طلبته مني ومنعتك.

ولما استوزر صاعد عقب إسلامه صار أبو العيناء إلى بابه فقيل له يصلي، فعاد فقيل يصلي فقال: معذور، ولكل جديد لذة. وحضره يوماً ابن مكرم وأخذ يؤذيه ثم قال: الساعة والله أنصرف، فقال أبو العيناء: ما رأيت من يتهدد بالعافية غيرك. وقال له ابن الجماز المغني: هل تذكر سالف معاشرتنا؟ فقال: إذ تغنينا ونحن نستعفيك. ودخل على أبي الصقر إسماعيل بن بلبل الوزير فقال له: ما الذي أخرك عنا يا أبا العيناء؟ فقال: سرق حماري، فقال وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك. قال فهلا أتيتنا على غيره؟ قال: قعد بي عن الشراء قلة يساري، وكرهت ذل المكاري ومنه العواري. وقيل له إلى متى تمدح الناس وتهجوهم؟ فقال: ما دام المحسن بحسن والمسيء يسيء، وأعوذ بالله أن أكون كالعقرب تلسب النبي والذمي. ودخل على ابن ثوابة عقب كلام جرى بينه وبين الوزير أبي الصقر بن بلبل وكان ابن ثوابة تطاول على الوزير فقال به أبو العيناء: بلغني ما جرى بينك وبين الوزير، وما منعه من استقصاء الجواب إلا أنه لم يجد فيك عزا فيضعه، ولا مجداً فينقصه، وبعد: فإنه عاف لحمك أن يأكله، واستقل دمك أن يسفكه. فقال ابن ثوابة وما أنت والدخول بيني وبين هؤلاء يا مكدي؟ فقال: لا تنكر على ابن ثمانين قد ذهب بصره وجفاه سلطانه أن يعول على إخوانه فيأخذ من أموالهم، ولكن أشد من هذا من يستنزل الماء من أصلاب الرجال فيستفرغه في جوفه، فيقطع نسلهم ويعظم أوزارهم. فقال ابن ثوابة: ما تساب اثنان إلا غلب ألأمهما. فقال أبو العيناء: وبذا غلبت أبا الصقر بالأمس فأفحمه. وخاصم يوماً علوياً فقال له العلوي: تخاصمني وقد أمرت أن تقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد فقال: لكني أقول الطيبين الطاهرين فتخرج أنت. وقال له ابن الجهم يوماً: يا مخنث. فقال: (وضرب لنا مثلاً ونسى خلقه).
ولما وكل موسى بن عبد الملك الأصبهاني بنجاح بن سلمة ليستأديه ما عليه من الأموال عاقبه موسى فهلك ابن سلمة في المطالبة والعقاب، فلقى بعض الرؤساء أبا العيناء وقال له: ما عندك من خبر نجاح بن سلمة؟ فقال أبو العيناء: فوكزه موسى فقضى عليه. فبلغت كلمته موسى فلقيه وقال له: أبي تولع؟ والله لأقومنك، فقال له أبو العيناء: أتريد أن تقتلني كما قلت نفساً بالأمس؟.
وقال له العباس بن رستم يوماً: أنا أكفر منك فقال له: لأنك تكفر ومعك خفير مثل عبيد الله بن يحيى وابن أبي دؤاد، وأنا أكفر بلا خفارة.
وقال أبو العيناء: مررت يوماً في درب بسر من رأي، فقال لي غلام: يا مولاي، في الدرب حمل سمين والدرب خال، فأمرته أن يأخذه وغطيته بطيلساني وصرت إلى منزلي، فلما كان من الغد جاءتني رقعة من بعض رؤساء ذلك الأرب مكتوب فيها: جعلت فداك ضاع لنا بالأمس حمل فأخبرني صبيان دربنا أنك أنت أخذته فأمر برده متفضلاً، فكتب إليه: يا سبحان الله! ما أعجب هذا الأمر، مشايخ دربنا يزعمون أنك بغاء وأكذبهم أنا ولا أصدقهم، وتصدق أنت صبيان دربك أني أخذت الحمل؟ قال: فسكت ولم يعاودني.
وقال له رجل من بني هاشم: بلغني أنك بغاء فقال: وما أنكرت من ذلك مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مولى القوم منهم)، فقال الهاشمي: إنك دعي فينا. قال بغائي صحيح نسبي فيكم. ولقيه. بعض الكتاب في السحر فقال متعجباً من بكوره: يا أبا عبد الله، أتبكر في مثل هذا الوقت؟ فقال له أبو العيناء: أتشاركني في الفعل وتنفرد بالتعجب؟ ودعا أبو العيناء سائلاً ليعيشه فلم يدع شيئاً إلا أكله فقال له: يا هذا دعوتك رحمه فاتركني رحمة. ووقف عليه رجل من العامة فلما أحس به قال: من هذا؟ قال: رجل من بني آدم، قال أبو العيناء: مرحباً بك - أطال الله بقاءك - ، كنت أظن أن هذا النسل قد انقطع.
وكنت إلى بعض الرؤساء وقد وعده بشيء فلم ينجزه: ثقتي بك تمنعني من استطبائك، وعلمي بشغلك يدعوني إلى تذكيرك، ولست آمن - مع استحكام ثقتي بطولك والمعرفة بعلو همتك - اخترام الأجل، فإن الآجال آفات الآمال - فسح الله في أجلك - وبلغك منتهى أملك، والسلام. وغداة ابن مكرم يوماً فقدم إليه عراقاً فلما جسه قال: قدركم هذه طبخت بالشطرنج. وقدم يوماً إليه قدراً فوجدها كثيرة العظام فقال له: هذه أم قبر؟ وأكل عنده يوماً فسقى على المائدة ثلاث شربات باردة ثم استقى فسقى شربة حارة فقال: لعل مزملتكم تعتريها حمى الربع.

ودخل يوماً على المتوكل فقدم إليه طعام فغمس أبو العيناء لقمته في خل كان حاضراً وأكلها فتأذى بالحموضة وفطن المتوكل له فجعل يضحك، فقال لا تلمني يا أمير المؤمنين، فقد محت حلاوة الإيمان من قلبي.
وأكل يوماً عند بعض أصحابه طعاماً وغسل يده عشرات مرات فلم تنق فقال: كادت هذه القدر أن تكون إلا نسباً وصهراً.
وقال له رجل من ولد سعيد بن مسلم: إن أبي يبغضك، فقال: يا بني لي أسوة بآل محمد صلى الله عليه وسلم. واعترضه يوماً أحمد بن سعيد فسلم عليه فقال له أبو العيناء: من أنت؟ قال: أنا أحمد بن سعيد. فقال: إني بك لعارف، ولكن عهدي بصوتك يرتفع إلى من أسفل، فما له ينحدر علي من علو؟ قال: لأني راكب فقال: عهدي بك وأنت في طمرين لو أقسمت على الله في رغيف لأعضك بم تكره.
ودق إنسان عليه الباب فقال: من هذا؟ قال أنا، فقال أنا والدق سواء.
وذكر يوماً ولد موسى بن عيسى فقال: كأن أنوفهم قبور نصبت على غير قبلة. وقيل له: لم اتخذت خادمين أسودين؟ قال: أما أسودان، فلئلا أتهم بهما، وأما خادمان فلئلا يتهما بي.
وقال يوماً لابن ثوابة: إذ شهدت على الناس ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون، شهد عليك أنتن عضو فيك.
وقال ابن ثوابة يوماً: أما والله أحبك بكل جوارحي، فقال أبو العيناء: إلا بعضو واحد - أيدك الله - فبلغ ذلك ابن أبي دؤاد فقال: قد وفق في التحديد عليه. سئل يوماً عن مالك بن طوق فقال: لو كان في بني إسرائيل حين نزلت آية البقرة ما ذبحوا غيره.
وقال أبو العيناء: أنا أول من أظهر العقوق بالبصرة قال لي أبي يا بني: إن الله تعالى قرن طاعته بطاعتي فقال: (اشكر لي ولوالديك)، فقلت له: يا أبت، إن الله ائتمنني عليك ولم يأتمنك علي، فقال تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق). وقال له عبيد الله بن سليمان: اعذرني فإني مشغول عنك فقال له: إذا فرغت لم أحتج إليك، يعني إذا عزل. ووضع أبو العيناء كتاباً في ذم أحمد بن الخطيب حكى فيه: أن جماعة من الفضلاء اجتمعوا في مجلس وكل منهم يكره ابن الخصيب لما كان فيه من الفدامة والجهالة والتغفل، فتجاذبوا أطراف الملح في ذمه فقال أحدهم: كان جهله غامراً لعقله، وسفهه قاهراً لحلمه. وقال آخر: لو كان دابة لتقاعس في عنانه، وحرن في ميدانه. وقال آخر: كنت إذا وقع لفظه في سمعي أحسست النقصان في عقلي.
وقال بعض كتابه: كنت أرى قلم ابن الخصيب يكتب بما لا يصيب، ولو نطق بنوك عجب. وقال إبراهيم ابن المدبر: كنت يوماً عنده فقدم الطعام وفيه هليون فأكب عليه فقلت له: أراك راغباً في الهليون فقال: إنه يزيد الباه. وقال آخر: لو غابت عنه العافية لنسيها. وقال أبو العيناء في آخر هذا التصنيف: كان ابن الخصيب إذا ناظر شغب، وربما رفس من ناظره إذا عجز عن الجواب، وخفى عليه الصواب، واستولت عليه البلادة، وعرى كلامه عن الإفادة، وكان إذا دنوت منه غرك، وإن بعدت عنه ضرك، فحياته لا تنفع، وموته لا يضر.

وقال أبو الخطيب في تاريخه: أخبرنا الأزهري، أخبرنا محمد بن جعفر التميمي، أخبرنا الصولي عن أبي العيناء قال: سبب تحولي من البصرة أني رأيت غلاماً ينادي عليه بثلاثين ديناراً يساوي ثلاثمائة دينار، فاشتريته وكنت أبني داراً فأعطيته عشرين ديناراً لينفقها على الصناع، فأنفق عشرة واشترى بعشرة ملبوساً له فقلت ما هذا؟ فقال: لا تجعل فإن أرباب المروءات لا يعتبون على غلمانهم هذا، فقلت في نفسي: أنا اشتريت الأصمعي ولم أدر، ثم أردت أن أتزوج امرأة سراً من بنت عمي فاستكتمته ودفعت إليه ديناراً يشتري به حوائج وسمكاً هازباً فاشترى غيره فغاظني فقال: رأيت بقراط يذم الهازبا فقلت: يا ابن الفاعلة، لم أعلم أني اشتريت جالينوس، فضربته عشر مقارع فأخذني وضربني سبعاً وقال: يا مولاي، الأدب ثلاث، وإنما ضربتك سبعاً قصاصاً. قال فرميته فشججته فذهب إلى بنت عمي وقال: الدين النصيحة ومن غشنا فليس منا. إن مولاي قد تزوج واستكتمني فقلت: لا بد من تعريف مولاتي الخبر فضربني وشجني. فمنعتني بنت عمي دخول الدار وحالت ما بيني وبين ما فيها، وما زالت كذلك حتى طلقت المرأة، وسمته بنت عمي الغلام الناصح، فلم يمكني أن أكلمه فقلت: أعتق هذا وأستريح، فلما أعتقته لزمني وقال: الآن وجب حقك علي، ثم إنه أراد الحج فزودته فغاب عشرين يوماً ورجع وقال: قطع الطريق ورأيت حقك قد وجب. ثم أراد الغزو فجهزته، فلما غاب بعت مالي بالبصرة وخرجت منها خوفاً أن يرجع.
ولد أبو العيناء بالأهواز سنة إحدى وتسعين ومائة، وتوفي ببغداد في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وقيل سنة اثنتين وثماني ومائتين.
وقال ابنه أبو جعفر: مات أبي لعشرة ليال خلون من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين ومائتين.
ومن شعره:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وسمعي منهما نور
قلب ذكي وعقل غير ذي خطل ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور
وقال:
حمدت إلهي إذ بلاني بحبها ... على حول يغني عن النظر الشذر
نظرت إليها والرقيب يظنني ... نظرت إليه فاسترحت من العذر
وقال يهجو أسد بن جوهر:
تعس الزمان لقد أتى بعجاب ... ومحا رسوم الظرف والآداب
وافي بكتاب لو انبسطت يدي ... فيهم رددتم إلى الكتاب
جيل من الأنعام إلا أنهم ... من بينها خلقوا بلا أذناب
لا يعرفون إذا الجريدة جردت ... ما بين عياب إلى عتاب
أو ما ترى أسد جوهر قد غدا ... متشبهاً بأجلة الكتاب
فإذا أتاه مسائل في حاجة ... رد الجواب له بغير جواب
وسمعت من غث الكلام ورثه ... وقبيحه باللحن والإعراب
ثكلتك أمك هبك من بقر الفلا ... ما كنت تغلط مرة بصواب!
وقال في الوزير أحمد بن الخصيب:
قل للخليفة يا ابن عم محمد ... أشكل وزيرك إنه ركال
قد أحجم المتظلمون مخافة ... منه وقالوا ما نروم محال
ما دام مطلقة علينا رجله ... أو دام للنزق الجهول مقال
قد نال من أعراضنا بلسانه ... ولرجله بين الصدور مجال
إمنعه من ركل الرجال وإن ترد ... مالا فعند وزيرك الأموال
وقال:
ألحمد لله ليس لي فرس ... ولا على باب منزلي حرس
ولا غلام إذا هتفت به ... بادر نحوي كأنه قبس
إبني غلامي وزوجتي أمتي ... ملكنيها الملاك والعرس
غنيت باليأس واعتصمت به ... عن كل فرد بوجهه عبس
فما يراني ببابه أبداً ... طلق المحيا سمح ولا شرس
وقال:
من كان يكلك درهمين تعلمت ... شفتاه أنواع الكلام فقالا
وتقدم الفصحاء فاستمعوا له ... ورأيته بن الورى مختالا
لولا دراهمه التي في كيسه ... لرأيته شر البرية حالا
إن الغني إذا تكلم كاذباً ... قالوا صدقت وما نطقت محالا
وإذا الفقير أصاب قالوا لم يصب ... وكذبت يا هذا وقلت ضلالا

إن الدراهم في المواطن كلها ... تكسو الرحال مهابة وجلالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحة ... وهي السلاح لمن أراد قتالا
وقال:
تولت بهجة الدنيا ... فكل جديدها خلق
وخان الناس كلهم ... فما أدري بمن أثق
رأيت معالم الخيرا ... ت سدت دونها الطرق
فلا حسب ولا أدب ... ولا دين ولا خلق
وقال:
ألم تعلمي يا عمرك الله أنني ... كريم على حين الكرام قليل
وإني لا أخزي إذ قيل مقتر ... جواد وأخزي أن يقال بخيل
وإلا يكن عظمي طويلاً فإنني ... له بالخصال الصالحات وصول
إذا كنت في القوم الطوال فضلتهم ... بطولي لهم حتى يقال طويل
ولا خير في حسن الجسوم وطولها ... إذا لم يزن طول الجسوم عقول
وكائن رأينا من جسوم طويلة ... تموت إذا تحيهن أصول
ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو وأما وجهه فجميل
وقال:
يا ويح هذي الأرض ما تصنع ... أكل حي فوقها تصرع؟
تزرعهم حتى إذا ما أتوا ... أشدهم تحصد ما تزرع

محمد بن القاسم
ابن محمد بن بشار بن الحسين بن بيان بن سماعة بن فروة ابن قطن بن دعامة أبو بكر بن الأنباري، النحوي اللغوي الأديب، كان من أعلم الناس بنحو الكوفيين وأكثرهم حفظاً للغة، وكان صدوقاً زاهداً متواضعاً فاضلاً، أديباً ثقة خيراً من أهل السنة حسن الطريقة، أخذ عن أبي العباس ثعلب وخلق.
وروى عنه الدارقطني وجماعة وكتب عنه وأبودحي، وكان يملي في ناحية من المسجد وأبوه في ناحية أخرى، ومرض فعاده أصحابه فرأوا من انزعاج والده أمراً عظيماً فطيبوا نفسه فقال: كيف لا أنزعج وهو يحفظ جميع ما ترون، وأشار إلى خزانة مملوءة كتباً.
وقال أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي: كان أبو بكر ابن الأنباري يحفظ ثلاثمائة ألف بيت شاهداً في القرآن، وكان يحفظ مائة وعشرين تفسيراً بأسانيدها. وقال له أبو الحسن العروضي: قد أكثر الناس في حفظك فكم تحفظ؟ فقال ثلاثة عشر صندوقاً. قال: وسألته جارية الراضي يوماً عن تعبير رؤيا فقال: أنا حاقن ثم مضى من يومه فحفظ كتاب الكرماني في التعبير وجاء من الغد وقد صار معبراً للرؤيا.
وقال حمزة بن محمد طاهر الدقاق: كان أبو بكر بن الأنباري يملي كتبه المصنفة ومجالسه المشتعلة على الحديث والتفسير والأخبار والأشعار كل ذلك من حفظه. وقال محمد ابن جعفر التميمي. أما أبو بكر بن الأنباري فما رأينا أحفظ منه ولا أغزر منه علماً، وكان يحفظ ثلاثة عشر صندوقاً وهذا مما لم يحفظه أحد قبله ولا بعده.
وقال أبو العباس يونس النحوي: كان أبو بكر آية من آيات الله تعالى في الحفظ، وكان أحفظ الناس للغة والشعر. وحكى أبو الحسن الدارقطني: أنه حضر مجلس إملائه في يوم جمعة فصحف اسماً أورده في إسناد حديث، إما كان حبان فقال حيان. قال الدارقطني: فأعظمت أن يحمل عن مثله في فضله وجلالته وهم وهبت أن أوقفه على ذلك، فلما فرغ من إملائه تقدمت إليه فذكرت له وهمه، وعرفته صواب القول فيه وانصرفت، ثم حضرت الجمعة الثانية مجلسه فقال أبو بكر للمستملي: عرف جماعة الحاضرين أنا صحفنا الاسم الفلاني لما أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية، ونبهنا ذلك الشاب على الصواب وهو كذا، وعرف ذلك الشاب أنا رجعنا إلى الأصل فوجدناه كما قال.

وقال أحمد بن يوسف الأصبهاني: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله، عمن آخذ علم القرآن؟ فقال عن أبي بكر الأنباري. وقال أبو الحسن العروضي: اجتمعت أنا وأبو بكر بن الأنباري عند الراضي بالله على الطعام وكان الطباخ قد عرف ما يأكل أبو بكر، وشوى له قلية يابسة قال: فأكلنا نحن ألوان الطعام وأطايبه وهو يعالج تلك القلية، ثم فرغنا وأتينا بحلوى فلم يأكل منها فقمنا وملنا إلى الخيش، فنام بين يدي الخيش ونمنا نحن في خيشين ولم يشرب ماء إلى العصر، فلما كان بعد العصر قال: يا غلام، الوظيفة، فجاءه بماء من الجب وترك الماء المزمل بالثلج فغاظني أمره وصحت: يا أمير المؤمنين، فأمر بإحضاري وقال: ما قصتك؟ فأخبرته وقلت: يا أمير المؤمنين، يحتاج هذا إلى أن يحال بينه وبين تدبير نفسه لأنه يقتلها، ولا يحسن عشرتها، فضحك وقال له: في هذا لذة وقد جرت له به عادة وصار آلفاً لذلك فلن يضره، ثم قلت له: يا أبا بكر، لم تفعل هذا بنفسك؟ فقال: أبقي علي حفظي ويحكي أنه كان يأخذ الرطب ويشمه ويقول: أما إنك طيب ولكن أطيب منك ما وهب الله لي من العلم وحفظه.
وحكى أنه مر يوماً بالنخاسين فرأى جارية تعرض حسنة الصورة كاملة الوصف قال: فوقعت في قلبي ثم مضيت إلى دار أمير المؤمنين الراضي بالله فقال: أين كنت إلى الساعة؟ فعرفته الأمر وأخبرته بالجارية فأمر بشرائها وحملت إلى منزلي ولم أعلم، فجئت فوجدتها في المنزل فقلت لها: اعتزلي إلى الاستبراء وكنت أطلب مسألة قد خفيت علي فاشتغل قلبي بالجارية فقلت للخادم: خذها وامض بها إلى النخاس فليس يبلغ قدرها أن يشغل قلبي عن علمي فأخذها الغلام فقالت: دعني حتى أكلمه فقالت لي: أنت رجل لك محل وعقل، فإذا أخرجتني ولم تبن ذنبي لم آمن أن يظن الناس بي ظناً قبيحاً فعرفنيه قبل أن تخرجني، فقلت: مالك عندي ذنب غير أنك شغلتني عن علمي، فقالت هذا سهل عندي قال: فبلغ الراضي ما كان من أمري فقال. لا ينبغي أن يكون العلم في قلب أحداً أحلى منه في قلب هذا الرجل. ولابن الأنباري شعر لطيف فمن ذلك قوله:
إذا زيد شرا زاد صبراً كأنما ... هو المسك ما بين الصلاية والفهر
فإن فتيت المسك يزداد طيبه ... على السحق والحر اصطباراً على الضر
ومن أماليه:
فهلا منعتم إذ منعتم كلامها خيالاً يوافيني على النأي هاديا
سقى الله أطلالاً بأكثبه الحمى ... وإن كن قد أبدين للناس ما بيا
منازل لو مرت بهن جنازتي ... لقال الصدى يا صاحبي انزلا بيا
وأملي أيضاً:
وبالهضبة البيضاء إن زرت أهلها ... مهاً مهملات ما عليهن سائس
خرجن لخوف الريب من غير ريبة ... عفائف باغي اللهو منهن آئس
ولأبي بكر بن الأنباري من التصانيف: غريب الحديث قيل إنه خمس وأربعون ورقة أملاه من حفظه.
ومما أملاه أيضاً من مصنفاته: كتاب الهاءات نحو ألف ورقة، وشرح الكافي نحو ألف ورقة، وكتاب الأضداد وما ألف في الأضداد أكبر منه، وكتاب المذكر والمؤنث ما صنف أحد أتم منه، ورسالة المشكل رد فيها على ابن قتيبة وأبي حاتم السجستاني، وكتاب المشكل في معاني القرآن بلغ فيه إلى طه وأملاه سنين كثيرة ولم يتمه، وشرح الجاهليات سبعمائة ورقة، وكتاب الوقف والابتداء، والكافي في النحو، والزاهر، وكتاب اللامات، وشرح المفضليات، والأمالي، وأدب الكاتب، والواضح في النحو، والموضع في النحو أيضاً، وشرح شعر النابغة، وشرح شعر الأعشى، وشرح شعر زهير، وشعر الراعي، والمقصور والممدود، وكتاب الألفات، وكتاب الهجاء والمجالسات، وكتاب مسائل ابن شنبوذ، وكتاب الرد على من خالف مصحف عثمان وغير ذلك، وكانت ولادة أبي بكر بن الأنباري يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة إحدى وسبعين ومائة، وتوفي ليلة عيد النحر سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.

الجزء التاسع عشر
محمد بن أبي القاسم بايجوك

أبو الفضل البقاليّ الخوارزميّ الآدميّ الملقب زين المشايخ، النحويّ الأديب، كان إماماً في الأدب وحجّة في لسان العرب، أخذ اللّغة وعلم الإعراب عن أبي القاسم الزمخشريّ وجلس بعده مكانه، وسمع الحديث منه ومن غيره. وكان جمّ الفوائد حسن الاعتقاد، كريم النّفس نزيه العرض غير خائض فيما لا يعنيه. له يد في الترسل ونقد الشعر. وله من التصانيف: مفتاح التنزيل، وتقويم اللسان في النحو، والإعجاب في الإعراب، والبداية في المعاني والبيان، وكتاب منازل العرب، وشرح أسماء الله الحسنى وغير ذلك. مات في سلخ جمادى الآخرة سنة اثنتين وستين وخمسمائة عن نيف وسبعين سنة.

محمد بن محمد بن جعفر بن مختار
أبو الفتح الواسطي النحوي، كان نحوياً فاضلاً جالس ابن كردان وسمع منه. وجالس أبا الحسين بن دينار وغيره. وكان حسن الإيراد جيد المحفوظ متيقظاً ولم يتصدر لإقراء النحو، بلغ تسعين سنة ومات سنة أربع وسبعين وخمسمائة.
محمد بن محمد بن جعفر
ٍ
أبو الحسن المعروف بابن لنكك البصري الشاعر الأديب، كان فرد البصرة وصدر أدبائها في زمانه، أدركته حرفة الأدب فقصر به جهده عن بلوغ الغاية التي كانت تسمو إليها نفسه، إذ كان التقدم في زمنه لأبي الطيب المتنبي وأبي رياش اليمامي، فكسدت بضاعته بنفاق سو قهما، وانحط نجحه عن مطلع سعادتهما، فولع بثلبهما والتشفي بهجوهما وذمهما، فكان أكثر شعره في شكوى الزمان وأهله وهجاء شعراء عصره، وكان أبلغ شعره ما لم يتجاوز البيتين والثلاثة. وكان يروي قصيدة دعبل آلتي أولها:
مدارس آيات خلت من تلاوةً
يرويها عن أبي الحسين العبداني عن أخيه عن دعبل، ورواها عنه ابن جخجخٍ النحوي ومن شعره:
نحن والله في زمان غشوم ... لو رأيناه في المنام فزعنا
يصبح الناس فيه من سوء حال ... حق من مات منهم أن يهنا
وقال:
جار الزمان علينا في تصرفه ... وأي دهر على الأحرار لم يجر؟
عندي من الدهر ما لو أن أيسره ... يلقي على الفلك الدوار لم يدر
وقال:
نحن من الدهر في أعاجيبا ... فنسأل الله صبر أيوبا
أقفرت الأرض من محاسنها ... فابك عليها بكاء يعقوبا
وقال:
زمان قد تفرع للفضول ... وسود كل ذي حمق جهول
فإن أحببتم فيه ارتفاعاً ... فكونوا جاهلين بلا عقول
وقال:
يعيب الناس كلهم الزمانا ... وما لزماننا عيب سوانا
نعيب زماننا والعيب فينا ... ولو نطق الزمان إذا هجانا
ذئاب كلنا في زي ناس ... فسبحان الذي فيه برانا
يعاف الذئب يأكل لحم ذئب ... ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
وقال أيضاً:
أقول لعصبة بالفقه صالت ... وقالت ما خلا ذا العلم باطل
أجل لا علم يوصلكم سواه ... إلى مال اليتامى والأرامل
أراكم تقبلون الحكم قلباً ... إذا ما صب زيت في القنادل
القنادل والقناديل بمعنىً، وصب الزيت فيها كناية عن الرشوة، وقال:
مضى الأحرار وانقرضوا وبادوا ... وخلفني الزمان على علوج
وقالوا قد لزمت البيت جداً ... فقلت لفقد فائدة الخروج
فمن ألقى؟ إذا أبصرت فيهم ... قروداً راكبين على السروج
زمان عز فيه الجود حتى ... كأن الجود في أعلى البروج
وقال:
يازماناً أليس الأح ... رار ذلاً ومهانة
لست عندي بزمان ... إنما أنت زمانه
كيف نرجو منك خيراً ... والعلى فيك مهانة؟
أجنون ما نراه ... منك يبدو أم مجانه؟
وقال يهجو أبا رياش اليمامي الشاعر المشهور:
نبئت أن أبا رياش قد حوى ... علم اللغات وفاق فيما يدعي
من مخبري عنه؟ فإني سائل ... من كان حنكة بأير الأصمعي
وقال يهجو أبا الطيب المتنبي وكان يزعم أن أباه كان سقاء بالكوفة:
قولا لأهل زمان لا خلاق لهم ... ضلوا عن الرشد من جهل بهم وعموا

أعطيتم المتنبي فوق منيته ... فزوجوه برغمٍ أمهاتكم
لكن بغداد جاد الغيث ساكنها ... نعالهم في قفا السقاء تزدحم
وقال فيه أيضاً:
ما أوقح المتنبي ... فيما حكى وادعاه
أبيح مالاً عظيماً ... أباح قفاه
يا سائلي عن غناه ... من ذاك كان غناه
إن كان ذاك نبياً ... فالجاثليق إلاه
وقال فيه:
متنبيكم ابن سقاء كوفا ... ن ويوحي من الكنيف إليه
كان من فيه يسلح الشعر حتى ... سلحت فقحة الزمان عليه
وقال في الرملي الشاعر:
حلف الرملي فيما ... قص عني وحكاه
يدعي يوم اصطلحنا ... أنني قبلت فاه
لم أقبل فاه لكن ... قبلت نعلي قفاه
وقال في مبرمان النحوي:
صداع من كلامك يعترينا ... وما فيه لمستمع بيان
مكابرة ومخرقة وبهت ... لقد أبرمتنا يا مبرمان
وقال:
تولى شباب كنت فيه منعماً ... تروح وتغدو دائم الفرحات
فلست تلاقيه ولو سرت خلفه ... كما سار ذو القرنين في الظلمات
وقال:
قد شربنا على شقائق روض ... شربت عبرة السحاب السكوب
صبغت من دم القلوب فما تب ... صر إلا تعلقت بالقلوب
وقال أيضاً وفيه الإيمان إلى حديث: - امرؤ القيس قائد الشعراء إلى النار - :
إذا خفق اللواء علي يوماً ... وقد حمل امرؤ القيس اللواء
رجوت الله لا أرجو سواه ... لعل الله يرحم من أساء

محمد بن حامد بن عبد الله بن علي
أبو عبد الله المعروف بالعماد الكاتب الأصبهاني. ولد بأصبهان يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وخمسمائة ونشأ بها، وقدم بغداد شاباً وانتظم في سلك صلبة المدرسة النظامية فتفقه بها بأبي منصور سعيد بن محمد بن الرزاز، وسمع منه ومن أبي بكر الأشقر وأبي الحسن علي بن عبد السلام وأبي القاسم علي بن الصباغ وأبي منصور بن خيرون وأبي المكارم المبارك بن علي السمرقندي وجماعة. وأجاز له أبو عبد الله الفراوي وأبو القاسم بن الحصين، ثم عاد إلى أصبهان فتفقه بها أيضاً على محمد بن عبد اللطيف الخجندي، وأبي المعالي الوركاني، ثم رجع إلى بغداد واشتغل بصناعة الكتابة فبرع فيها ونبغ، فاتصل بالوزير عون الدين يحيى بن هبيرة فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط. ولما توفي الوزير ابن هبيرة وتشتت شمل المنتسبين إليه، أقام العماد مدة ببغداد منكد العيش فانتقل إلى دمشق ووصل إليها في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة، فأنزله قاضي القضاة كمال الدين أبو الفضل محمد بن الشهرزوري بالمدرسة النورية الشافعية المنسوبة إلى العماد الآن المعروفة بالعمادية، وإنما نسبت إليه لأن الملك نور الدين ولاه إياها سنة سبع وستين وخمسمائة، وكان العماد له معرفة بنجم الدين أيوب والد السلطان صلاح الدين، عرفه بتكريت حين كان نجم الدين والياً عليها، فلما سمع نجم الدين بوصوله بادر لتبجيله والسلام عليه في منزله. ومدحه العماد إذ ذاك بقصيدة أولها:
يوم النوى ليس من عمري بمحسوب ... ولا الفراق إلى عيشي بمنسوب
ما اخترت بعدك لكن الزمان أتىكرها بما ليس يا محبوب محبوبي
أرجو إيابي إليكم غانماً عجلاً ... فقد ظفرت بنجم الدين أيوب
موفق الرأي ماضي العزم مرتفع ... على الأعاجم والأعاريب
أحبك الله إذ لازمت نصرته ... على جبين بتاج الملك معصوب

وهي طويلة فشكره نجم الدين وأحسن إليه وأكرمه، وقدمه على الأعيان وميزه وعرف به ابنه صلاح الدين، وكان القاضي كمال الدين بن الشهرزوري يحضر مجالس العماد ويذاكره بمسائل الخلاف في الفروع، فنوه القاضي بذكر العماد عند السلطان نور الدين، وذكر له تقدمه في العلم والكتابة وأهله لكتابة الإنشاء، فتردد العماد في الدخول فيما لم يتقدم له اشتغال طويل به، مع توفر مواد هذه الصناعة عنده خوفاً من التقصير فيما لم يمارسه، ثم أقدم بعد الإحجام فباشرها وأجاد فيها حتى زاحم القاضي الفاضل بمنكب ضخم، وكان ينشئ الرسائل بالفارسية أيضاً فيجيد فيها إجادته بالعربية، وعلت منزلته عند نور الدين وصار صاحب سره، وفوض إليه تدريس المدرسة العمادية كما تقدم، وولاه الإشراف على ديوان الإنشاء، ولما توفي نور الدين وولى ابنه الملك الصالح إسماعيل أغراه بالعماد جماعة كانوا يحسدونه ويكرهونه، فخاف على نفسه وخرج من دمشق قاصداً بغداد، فوصل إلى الموصل ومرض بها ولما أبل من مرضه، بلغه خروج السلطان صلاح الدين من مصر قاصداً دمشق ليستولي عليها، فعزم على الرجوع إلى الشام وخرج من الموصل سنة سبعين وخمسمائة فوصل إلى دمشق وسار منها إلى حلب، وصلاح الدين يومئذ نازل عليها فلاقاه في حمص وقد استولى على قلعتها، فلزم بابه ومدحه بقصيدة طويلة كان نظمها قبلاً في الشوق إلى دمشق والتأسف عليها فجعل مدح صلاح الدين مخلصها أولها:
أجيران جيرون مالي مجير ... سوى عدلكم فاعدلوا أو فجوروا
ومالي سوى طيفكم زائر ... فلا تمنعوه إذا لم تزوروا
يعز علي بأن الفؤاد ... لديكم أسير وعنكم أسير
وماكنت أعلم أني أعي ... ش بعد الأحبة إني صبور
وفت أدمعي غير أن الكرى ... وقلبي وصبري كل غدور
إلى ناس باناس لي صبوة ... لها الوجد داع وذكرى تثير
يزيد اشتياقي وينمو كما ... يزيد يزيد وثور يثور
ومن بردى برد قلبي المشوق ... فها أنا من حره أستجير
وبالمرج مرجو عيشي الذي ... على ذكره العذب عيشي مرير
فقدتكم ففقدت الحياة ... ويوم اللقاء يكون النشور
تطاول سؤلي عند القصير ... فعن نيله اليوم باعي قصير
وكن لي بريداً بباب البريد ... فأنت بأخبار شوقي خبير
ومنها:
ترى بالسلامة يوماً يكون ... بباب السلامة مني عبور؟
وإن جوازي بباب الصغير ... لعمري من العمر حظ كبير
وماجنة الخلد إلا دمشق ... وفي القلب شوقاً إليها سعير
وجامعها الرحب والقبة ال ... منيفة والفلك المستدير
وفي قبة النسر لي سادة ... بهم للمكارم أفق منير
وباب الفراديس فردوسها ... وسكانها أحسن الناس حور
وبرزة فالسهم فالنيربا ... ن فجنات رقتها فالكفور
كان الجواسق مأهولة ... بروج تطلع منها البدور
بنيربها يستنير الفؤاد ... ويربو بربوتها لي السرور
ومنها:
وأين تأملت فلك يدور ... وعين تفور ونهر يمور
وأين نظرت نسيم يرق ... وزهر يروق وروض نضير
ومنذ ثوى نور دين الإ ل ... ه لم يبق للدين والشام نور
وللناس بالملك الناصر الص ... لاح ونصر وخير
هو الشمس أنوارها بالبلاد ... ومطلعها سرجه والسرير
إذ ما سطا أو حبا واحتبي ... فما الليث أو حاتم أو ثبير
بيوسف مصر وأيامه ... تقر العيون وتشفي الصدور

وقد أطال نفسه في هذه القصيدة وكلها غرر وقد اكتفينا بما أوردناه منها، ثم لزم العماد من ذلك اليوم باب السلطان صلاح الدين ينزل لنزوله، ويرحل لرحيله، ولم يغش مجالسه ملازماً لخدمته حتى قربه واستكتبه واعتمد عليه، فتصدر وزاحم الوزراء وأعيان الدولة، وعلا قدره وطار صيته، وكان إذا انقطع القاضي الفاضل عن الديوان ناب عنه في النظر عليه وألقى إليه السلطان مقاليده، وركن إليه بأسراره فتقدم الأعيان، وأشير إليه بالبنان، وكان بينه وبين القاضي الفاضل مراسلات ومحاورات، فمن ذلك أنه لقي القاضي يوماً وهو راكب على فرس فقال له: سر فلا كبا بك الفرس، فقال له الفاضل: دام علا العماد، وكلا القولين يقرأ عكساً وطرداً واجتمعا يوماً في موكب السلطان وقد ثار الغبار لكثرة الفرسان وتعجب القاضي من ذلك، فأنشد العماد:
أما الغبار فإنه ... مما أثارته السنابك
والجو منه مظلم ... لكن أنارته السنابك
يا دهر لي عبد الرح ... يم فلست أخشى مس نابك
ولما توفي السلطان صلاح الدين رحمه الله اختلت أحوال العماد ولزم بيته، وأقبل على التصنيف والإفادة حتى توفي يوم الاثنين مستهل رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وله من المصنفات: خريدة القصر وجريدة العصر، ذيل به زينة الدهر لأبي المعالي سعد بن علي الحظيري الوراق، جمع العماد في هذا الكتاب تراجم شعراء الشام والعراق ومصر والجزيرة والمغرب وفارس ممن كان بعد المائة الخامسة إلى ما بعد سنة سبعين وخمسمائة، وهو يدخل في عشر مجلدات لطيفة، وله البرق الشامي وهو تاريخ بدأ فيه بذكر نفسه ونشأته ورحلته من العراق إلى الشام، وأخباره مع الملك العادل نور الدين والسلطان صلاح الدين وما جرى له في خدمتهما، وذكر فيه بعض الفتوحات بالشام وأطرافها وهو بضعة مجلدات، وله الفيح القسي في الفتح القدسي في مجلد كبير، وكتاب السيل على الذيل جعله ذيلاً على كتابه خريدة القصر، وله نصرة الفطرة وعصرة القطرة في أخبار الدولة السلجوقية، وله رسأل ة سماها عتبى الزمان وتسمى أيضاً العتبى والعقبى، وكتاب سماه نحلة الرحلة، ذكر فيه اختلال الأحوال وتغير الأمور بعد موت السلطان صلاح الدين، واختلاف أولاده وما وقع من الخلاف بين الأمراء والعمال، وله ديوان رسائل في مجلدات، وديوان شعر في مجلدين، وديوان دويبت صغير وغير ذلك.

ومن إنشاء العماد الكاتب الكتاب الذي كتبه عن السلطان صلاح الدين إلى ديوان الخلافة ببغداد مبشراً بفتح بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة افتتحه بقوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض)، ثم قال: الحمد لله الذي أنجز لعباده الصالحين وعد الاستخلاف، وقهر بأهل التوحيدأهل الشرك والخلاف، وخص سلطان الديوان العزيز بهذه الخلافة، ومكن دينه المرتضى وبدل الأمان بالمخافة، وذخر هذا الفتح الأسني والنصر الأهني للعصر الإمامي النبوي الناصري على يد الخادم أخلص أوليائه، والمختص من الاعتزاز باعتزائه إليه وانتمائه، وهذا الفتح العظيم، والنجح الكريم، قد انقرضت الملوك الماضية والقرون الخالية على مسرة تمنيه، وحبرة ترجيه، ووحشة اليأس من تسنيه، وتقاصرت عنه طوال الهمم، وتخاذلت عن الانتصار له أملاك الأمم، فالحمد لله الذي أعاد القدس إلى القدس، وطهره من الرجس، وحقق من فتحه ما كان في النفس، وبدل بوحشة الكفر فيه من الإسلام الأنس، وجعل عز يومه ماحياً ذل أمس، وأسكنه الفقهاء والعلماء بعد الجهال والضلال من بطرك وقسٍ، وعبدة الصليب ومستقبلي الشمس، وقد أظهر الله على المشركين الضالين جنوده المؤمنين العالمين، وقطع دابر القوم الظالمين والحمد لله رب العالمين. فكأن الله شرف هذه الأمة فقال لهم: اعزموا على اقتناء هذه الفضيلة التي بها فضلكم، وحقق في حقكم امتثال أمره الذي خالفه اليهود في قوله: (ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم). هذا الفتح قد أقدر الله على افتضاضه بالحرب العوان، وجعل ملائكته المسومة له من أعز الأنصار وأظهر الأعوان، وأخرج من بيته المقدس يوم الجمعة أهل يوم الأحد، ومع من كان يقول: (إن الله ثالث ثلاثةً) بمن يقول: (هو الله أحد)، وأعان الله بإنزال الملائكة والروح، وأتى بهذا النصر الممنوح الذي هو فتح الفتوح، وقد تعالى أن يحيط به وصف البليغ نظماً ونثراً، وعبد الله في البيت المقدس سراً وجهراً، وملكت بلاد الأردن وفلسطين غوراً ونجداً، وبراً وبحراً، وملئت إسلاماً وقد كانت ملئت كفراً، وتقاضى الخادم دين الدين الذي غلق رهنه دهراً، والحمد لله وشكراً، حمداً يجد للإسلام كل يوم نصراً، ويزيد وجوه أهله بشرى فتتوجه بشراً، والكتاب طويل ذكر فيه فصولاً عن الوقائع التي تقدمت فتح المقدس فاكتفينا منه بما أوردناه، وللعماد قصيدة من قصائده الطوال ضمنها فتح القدس وفلسطين، ومدح السلطان صلاح الدين، اقتصرنا على ايراد طرف منها قال:
أطيب بأنفاس تطيب لكم نفساً ... وتعتاض من ذكراكم وحشي أنسا
وأسأل عنكم عافيات دوارس ... غدت بلسان الحال ناطقة خرسا
معاهدكم ما بالها كعهودكم ... وقد كررت من درس آثارها درسا؟
وقد كان في حدسي لكم كل طارف ... وما جئتم من هجركم خالف الحدسا
أرى حدثان الدهر ينسى حديثه ... وأما حديث الغدر منكم فلا ينسى
تزول الجبال الراسيات وثابت ... رسيس غرام في فؤادي لكم أرسى
حسبت حبيبي قاس القلب وحده ... وقلب الذي يهوى بحمل الهوى أقسى
ومنها:
وإن نهاري صار ليلاً لبعدكم ... فما أبصرت عيني صباحاً ولا شمسا
بكيت على مستودعات خدوركم ... كما قد بكت قدماً على صخرها الخنسا
فلا تحبسوا عني الجميل فإنني ... جعلت على حبي لكم مهجتي حبسا
ومنها:
رأيت صلاح الدين أفضل من غدا ... وأشرف من أضحى وأكرم من أمسى
وقيل لنا في الأرض سبعة أبحر ... ولسنا نرى إلا أنامله الخمسا
سجيته الحسنى وشيمته الرضا ... وبطشته الكبرى وعزته القعسا
فلا عدمت أيامنا منه مشرفاً ... ينير بما يولي ليالينا الدمسا
جنودك أملاك السماء وظنهم ... أعاديك جناً في المعارك أو إنسا
سحبت على الأردن ردنا من القنا ... ردينية ملداً وخطية ملسا
ونعم مجال الخيل حطين لم تكن ... معاركها للجرد ضرساً ولا دهسا

غداة أسود الحرب معتقلو القنا ... أساود تبغي من نحور العدا نهسا
أتوا شكس الأخلاق خشناً فلينت ... حدود الرفاق الخشن أخلاقها الشكسا
طردتهم في الملتقى وعكستهم ... مجيداً بحكم العزم طردك والعكسا
فكيف مكست المشركين رؤوسهم ... ورأيك في الإحسان أن تطلق المكسا
كسرتهم إذ صح عزمك فيهم ... ونكستهم من بعد أعلامهم نكسا
بواقعة رجت بها أرض جيشهم ... ومارت كما بست جبالهم بسا
بطون ذئاب البر صارت قبورهم ... ولم ترض أرض أن تكون لهم رمسا
وحامت على نار المواضي فراشهم ... لتطفا فزادت من خمودهم قبسا
وقد خشعت أصوات أبطالها فما ... يعي السمع إلا من صليل الظبي همسا
تقاد بدأماء الدماء ملوكهم ... أساري كسفن اليم نيطت بها القلسا
سبايا بلاد الله مملوءة بها ... وقد عرضت نخساً وقد شريت بخسا
يطاف بها الأسواق لا راغب لها ... لكثرتها كم كثرة توجب الوكسا
شكا يبساً رأس البرنس الذي به ... فندى حسام حاسم ذلك اليبسا
حسا دمه ماضي الغرار لغدره ... وماكان لولا غدره دمه يحسى
ومنها:
ومن قبل فتح القدس كنت مقدساً ... فلا عدمت أخلافك الطهر والقدسا
نزعت لباس الكفر عن قدس أرضها ... وألبستها الدين الذي كشف اللبسا
ومنها:
جرى بالذي تهوى القضاء وظاهرت ... ملائكة الرحمن أجنادك الحمسا
وكم لبني أيوب عبد كعنترٍ ... إن ذكروا بالبأس لم يذكروا عبسا
ومن غزلياته قوله:
أفدي الذي خلبت قلبي لواحظه ... وخلفت لذعات الوجد في كبدي
صفات ناظره سقم بلا ألم ... سكر بلا قدح جرح بلا قود
على محياه من نار الصبا شعل ... وورد خديه من ماء الجمال ندى
ومن حكمياته:
إقنع ولا تطمع فإن الغنى ... كماله في عزة النفس
فإنما ينقص بدر الدجا ... لأخذه الضوء من الشمس
وقال:
وما هذه الأيام إلا صحائف ... يؤرخ فيها ثم يمحى ويمحق
ولم أر في دهري كدائرة المنى ... توسعها الآمال والعمر ضيق

محمد بن محمد بن عباد
أبو عبد الله البغدادي المقري النحوي، كان مقدماً في علم القراءات بارعاً في النحو وعلوم العربية، قرأ النحو على أبي سعيد السيرافي النحوي، وأخذ عنه القراءة أبو العباس أحمد بن الفرج بن منصور بن محمد بن الحجاج بن هارون. وصنف كتاب الوقف والابتداء وأجاد فيه، وسمعه منه أبو العباس بن هارون المذكور، توفي أبو عبد الله بن عباد البغدادي يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
محمد بن محمد بن عبد الجليل
ابن عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن يحيى بن مردويه بن سأل م بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رشيد الدين المعروف بالوطواط، الأديب الكاتب الشاعر، كان من نوادر الزمان وعجائبه، وأفراد الدهر وغرائبه، أفضل زمانه في النظم والنثر، وأعلم الناس بدقائق كلام العرب، وأسرار النحو والأدب، طار في الآفاق صيته، وسار في الأقاليم ذكره، وكان ينشئ في حالةٍ واحدةٍ بيتاً بالعربية من بحر وبيتاً بالفارسية من بحر آخر ويمليهما معاً، وله من التصانيف: حدائق السحر في دقائق الشعر باللغة الفارسية ألفه لأبي المظفر خوارزم شاه، وعارض به كتاب ترجمان البلاغة لفرحي الشاعر الفارسي، وللوطواط أيضاً ديوان رسائل عربي، وديوان رسائل فارسي، وتحفة الصديق من كلام أبي بكر الصديق، وفصل الخطاب من كلام عمر بن الخطاب، وأنس اللهفان من كلام عثمان بن عفان، ومطلوب كل طالب من كلام على بن أبي طالب وغير ذلك. مولده ببلخ، ومات بخوارزم سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، ومن رسائله ما كتبه لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري وهي:
لقد حاز جار الله دام جماله ... فضائل فيها لا يشق غباره

تجدد رسم الفضل بعد اندراسه ... بآثار جار الله فالله جاره
أنا منذ لفظتني الأقدار من أوطاني، ومعاهد أهلي وجيراني إلى هذه الخطة التي هي اليوم بمكان جار الله أدام الله دولته جنة للكرام، وجنة من نكبات الأيام كانت قصوى منيتي وقصارى بغيني أن أكون أحد الملازمين لسدته الشريفة التي هي مخيم السيادة ومقبل أفواه السادة من ألقى فيها عصاه حاز في الدارين مناه، ونال في المحلين مبتغاه، ولكن سوء التقصير أو مانع التقدير حرمني تلك الخدمة، وحرم على هذه النعمة، والآن أظن وظن المؤمن لا يخطئ، أن آفل جدي هم بالإشراق، وذابل إقبالي أقبل على الإبراق، وذابل إقبالي أقبل على الإبراق، فقد أجد في نفسي نوراً مجدداً يهديني إلى جنته، ومن شوقي داعياً موفقاً يدعوني إلى حضرته، ويقرع لسان الهيبة كل ساعة سمعي بنداء: اخلع نعلك، واطرح بالواد المقدس رحلك، ولا تحفل بحقد حاقد وحسد حاسد، فإن حضرة جار الله أوسع من أن تضيق على راغب في فوائده، وأكرم من أن تستثقل وطأة طالب لعوائده، ومع هذا أرجو إشارة تصدر من مجلسه المحروس إما بخطه الشريف، فإن في ذلك شرفاً لي يدوم مدى الدهر والأيام، وفخراً يبقى على مر الشهور والأعوام، وإما على لسان من يوثق بصدق مقالته، ويعتمد على تبليغ رسأل ته من المنخرطين في سلك خدمته، والراتعين في رياض نعمته، ورأيه في ذلك أعلى وأصوب.
ومن إنشائه أيضاً تقليد حسبة صدر عن ديوان خوارزم وهو: إن أولى الأمور بأن تصرف أعنة العناية إلى ترتيب نظامه، وتقصر الهمم على مهمة إتمامه، أمر يتعلق به ثبات الدين، ويتوقف عليه صلاح المسلمين، وهو أمر الاحتساب، فإن فيه تثبيت الزائغين عن الحق، وتأديب المنهمكين في الفسق، وتقوية أعضاد أرباب الشرع وسواعدها، وإجراء معاملات الدين على قوانينها وقواعدها، وينبغي أن يكون متقلد هذا الأمر موصوفاً بالديانة، معروفاً بالصيانة، معرضاً عن مراصد الريب، بعيداً عن مواقف التهم والعيب، لابساً مدارع السداد، سأل كاً مناهج الرشاد، والشيخ الإمام فلان أدام الله فضله متحلٍ بهذه الخصائص المذكورة، والفضائل المشهورة، ومستظهر في دولتنا للحقوق الفرضية، ومستشعر للصفات المرضية، فقلدناه هذا الأمر الذي هو من مهمات الأعمال ومعظمات الأشغال، واعتمدنا في التقليد والتقلد على دينه المتين وفضله المبين، وعقيدته الطاهرة وأمانته الظاهرة، وأمرناه أولاً: أن يجعل التقوى شعاره والزهد دثاره، والعلم معلمه والدين مناره، ثم يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ويقيم حدود الشرع على وفق النصوص والأخبار ومقتضى السنن والآثار، من غير أن يتسور الحيطان، ويتسلق الجدران، ويرفع الحجب المسدولة، ويكسر الأبواب المسدودة ويسلط الأوباش على دور المسلمين وحرم المؤمنين، فيغيروا على أموالهم، ويمدوا الأيدي إلى نسائهم وأطفالهم، ويظهروا ما أمر الله تعالى بستره وإخفائه، ونهى عن إشاعته وإفشائه، فإن عبادة الأوثان خير من ذلك الاحتساب والعقوبة أجدر بمباشر ذلك من الأجر والثواب، وأمرناه أن يبالغ في تعديل المكاييل والموازين على وفق أحكام الشرع والدين، فإن وجد تفاوتاً في شيء منها سواه وعدله، وغيره وبدله، وأدب صاحبه على رؤوس الأشهاد، لينزجر عن مثلهأهل الخيانة والفساد، وليعلم أنه في عهده ما يطوي وينشر، وينهي ويأمر، يوم ينشر الديوان، وينصب الميزان (يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم).
وسبيل الأئمة والعلماء، وكافة الرعايا حاطهم الله أن يتوفروا على تعظيم قدره وتفخيم أمره، ويبالغوا فيما يرجع إلى تمهيد قواعد حرمته، وتشييد أركان حشمته، ولا يعترضوا عليه في شغل الاحتساب، فإن ذلك أمانة هو حاملها، ووديعة هو ضامنها والسلام.
ولرشيد الدين شعر دون نثره جودة، فمن ذلك قصيدة أوردها ضمن كتاب إلى صدر الدين بن نظام الدين رئيس جرجان:
جنابك صدر دين الله حصن ... لأهل الفضل من نوب الزمان
وصدرك في الخطوب إذا ألمت ... محط رحال حفاظ القران
وجودك دونه فيض الغوادي ... وعزمك دونه حد السنان
وبابك فيه مسكن كل عاف ... وعفوك فيه مأمن كل جاني
غدوت قريع فرسان القوافي ... وحائز سبقها يوم الرهان

لقد بلغت قاصية المعالي ... كما ملكت ناصية المعاني
وأعجزت الأفاضل في التحدي ... بمعجزة الفصاحة والبيان
يشق سناك جلباب الليالي ... وجنح ظلامها ملقي الجران
بك الآداب آهلة المغاني ... ودار المجد شاهقة المباني
فما لك في فحول الفضل ند ... ولا لك في رجال العلم ثاني
مغانيك الرحاب رياض عزٍ ... سقى صوب الحيا تلك المغاني
نمتك عصابة بيض هجان ... وهل تلد الهجان سوى الهجان؟
لقد أخرجت من أزكى نصاب ... وقد أرضعت من أصفى لبان
فأنت الغيث في وقت العطايا ... وأنت الليث في يوم الطعان
أتتني منك آيات تحاكي ... بدائع نظمها عقد الجمان
بلفظٍ مثل أفراد اللآلي ... وخط مثل أصداغ الغواني
فألبسني كتابك بعد خوف ... من الحدثان أردية الأمان
وقد شاهدت في الدنيا عياناً ... بما أهديت روضات الجنان
بقيت مدى الزمان حليف أمن ... ويمن تجتني ثمر الأماني
وطاوعك الأسافل والأعالي ... وتابعك الأباعد والأداني
صديقك ساحب ذيل المعالي ... وخصمك لابس ثوب الهوان
وقال:
ست بليت بها والمستعاذ به ... من شرها من إليه الخلق يبتهل
نفسي وإبليس والدنيا التي فتنت ... من قبلنا والهوى والحرص والأمل
إن لم تكن منك يا مولاي واقية ... من شرها الجم أعيت عبدك الحيل
وقال:
تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت ... وتحدث من بعد الأمور أمور
وتجري الليالي باجتماع وفرقةٍ ... وتطلع فيها أنجم وتغور
فمن ظن أن الدهر باقٍ سروره ... فقد ظن عجزاً لايدوم سرور
وقال:
اذا ما شئت أن تحيا سعيداً ... وتنجو في الحساب من الخصوم
فلا تصحب سوى الأخيار واصرف ... حياتك في مدارسة العلوم

محمد بن أبي سعيد محمد
المعروف بابن شرف، الجذامي القيرواني الأديب الكاتب الشاعر أبو عبد الله. روى عن أبي الحسن القابسي، وأبي عمران الفاسي، وقرأ النحو على أبي عبد الله محمد بن جعفر القزاز، وأخذ العلوم الأدبية عن أبي إسحاق إبراهيم الحصري وغيرهم فبرع في الكتابة والشعر، وتقدم عند الأميرالمعز بن باديس أميرإفريقية، وكانت القيروان في عهده وجهة العلماء والأدباء، تشد إليها الرحال من كل فج لما يرونه من إقبال المعز على أهل العلم والأدب وعنايته بهم.
وكان ابن شرف وابن رشيق صاحب العمدة متقدمين عنده على سائر من في حضرته من الأفاضل والأدباء، فكان يقرب هذا تارة ويدني ذاك تارة، فتنافسا وتنافرا ثم تهاجيا، ولكن لم يتغير أحدهما على الآخر بما جرى بينهما من المناقصات، ولم يزل ابن شرف ملازماً لخدمة المعز إلى أن هاجم عرب الصعيد القيروان، واضطر المعز إلى الخروج منها إلى المهدية سنة سبع وأربعين وأربعمائة، فخرج ابن شرف وسائر الشعراء معه إليها واستقروا بها، فأقام ابن شرف مدة بالمهدية ملازماً خدمة المعز وابنه تمم، ثم خرج منها قاصداً صقلية ولحق به رفيقه ابن رشيق فاجتمعا بها ومكثا بها مدة، ثم استنهضه ابن شرف على دخول الأندلس، فتردد ابن رشيق وأنشد:
مما يزهدني في أرض أندلس ... أسماء مقتدر فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
فأجابه ابن شرف على الفور:
إن ترمك الغربة في معشر ... قد جبل الطبع على بعضهم
فدارهم ما دمت في دارهم ... وأرضهم ما دمت في أرضهم
ثم شخص ابن شرف منفرداً إلى الأندلس، وتنقل في بلادها وسكن المرية بعد مقارعة أهوالٍ ومقاومة خطوب، وتردد على ملوك الطوائف كآل عباد وغيرهم، وتوفي بإشبيلية سنة ستين وأربعمائة، ومن شعره:
لك مجلس كملت دواعي لهونا ... فيه ولكن تحت ذاك حديث
غنى الذباب فظل يزمر حوله ... فيه البعوض ويرقص البرغوث

وقال في وصف وادي عذراء بمدينة برجة من أعمال المرية:
رياض غلائلها سندس ... توشت معاطفها بالزهر
مدامعها فوق خط الريا ... لها نظرة فتنت من نظر
وكل مكان بها جنة ... وكل طريق إليها سفر
وقال في ليلة أنس باردة ممطرة:
ولقد نعمت بليلة جمد الحيا ... في الأرض فيها والسماء تذوب
جمع العشاءين المصلي وانزوى ... فبها الرقيب كأنه مرقوب
والكأس كاسية القميص يديرها ... ساقٍ كخود كفه مخضوب
هي وردة في خده وبكأسها الد ... دري منها عسجد مصبوب
مني إليه ومن يديه إلى يدي ... الشمس تطلع تارة وتغيب
وقال:
قالوا تسابقت الحمي ... رفقلت من عدم السوابق
خلت الدسوت من الرخا ... خ ففرزنت فيها البيادق
وقال:
إذا صحبت الفتى جد وسعد ... نحامته المكاره والخطوب
ووافاه الحبيب بغير وعد ... طفيلياً وقاد له الرقيب
وعد الناس ضرطته غناء ... وقالوا إن فسا قد فاح طيب
وقال:
ولقد يهون أن يخونك كاشح ... كون الخيانة من أخ وخدين
لقى أخو يعقوب يعقوب الأذى ... وهما جميعاً في ثياب جنين
ومضى عقيل عن عليٍ خاذلاً ... ورأى الأمين جناية المأمون
فعلى الوفاء سلام غير معاين ... شخصاً له إلا عيان ظنون
وقال في الحر يخدم أصحابه:
خادمنا خيرنا وأفضلنا ... نطرح أعباءنا ويحملها
فنحن يسرى اليدين تخدمها ... يمناهما الدهر وهي أفضلها
وقال في مليح اسمه عمر:
يا أعدل الناس اسماً كم تجور علي ... فؤاد مضناك بالهجران والبين
أظنهم سلبوك القاف من قمر ... فأبدلوها بعين خيفة العين
وقال يمدح شيخه أبا الحسن علي بن أبي الرجال:
جاور علياً ولا تحفل بحادثة ... إذا أدرعت فلا تسأل عن الأمل
اسم حكاه المسمى في الفعال وقد ... حاز العليين من قول ومن عمل
فالماجد السيد الحر الكريم له ... كالنعت والعطف والتوكيد والبدل
زان العلا وسواه شانها وكذا ... تميز الشمس في الميران والحمل
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل
وقال:
كسيت قناع الشيب قبل أوانه ... وجسمي عليه للشباب وشاح
ويارب وجهٍ فيه للعين نزهة ... أمانع عيني منه وهو مباح
وقال من قصيدة فيما حل بالقيروان:
ترى سيئات القيروان تعاظمت ... فجلت عن الغفران والله غافر
تراها أصيبت بالكبائر وحدها ... ألم تك قدماً في البلاد الكبائر؟
تكشفت الأستار عن أهلها وكم ... أقيمت ستور دونهم وستائر
وقال:
إحذر محاسن أوجه فقدت محا ... سن نفسها ولو أنها أقمار
سرج تلوح إذا نظرت وأنها ... نور يضئ وإن مست فنار
وقال:
وما بلوغ الأماني من مواعدها ... إلا كأشعب يرجو وعد عرقوب
وقد تخلف مكتوب القضاء بها ... فكيف لي بقضاء غير مكتوب؟
ولابن شرفٍ القيرواني من التصانيف: أبكار الأفكار جمع فيه ما اختاره من شعره، وأعلام الكلام مجموع فيه فوائد ولطائف وملح منتخبة، ورسأل ة الانتقاد وهي على طراز مقامةٍ نقد فيها شعر طائفة من شعراء الجاهلية والإسلام، وديوان شعر وغير ذلك.

محمد بن محمد بن القاسم بن أحمد
ابن خديو الأخسيكاني أبو الوفاء المعروف بابن أبي المناقب، كان إماماً في اللغة أديباً فاضلاً صالحاً عارفاً بالأدب والتاريخ حسن الشعر، مات في آخر ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة ومن شعره:
اذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ... ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي ... دعته إليه من حلاوة عاجل
وقال:

ارحم أخي عباد الله كلهم ... وانظر إليهم بعين اللطف والشفقة
وقر كبيرهم وارحم صغيرهم ... وراع في كل خلق وجه من خلقه

محمد بن محمد بن أحمد الرامش
بن همماه الرامش أبو نصر النحوي النيسابوري، كان مبرزاً في القراءات وعلوم الحديث، ذا حظ وافر من العربية واللغة، وله شعر صالح، سمع الحديث من أصحاب الأضم وغيرهم. ورحل وتخرج به جماعة وأملي بنيسابور، وأخذ الأدب عن أبي العلاء المعري وغيره. ولد سنة أربع وأربعمائة، ومات في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين وأربعمائة.
ومن شعره:
ولما برزنا للرحيل وقربت ... كرام المطايا والركاب تسير
وضعت على صدري يدي مبادراً ... فقالوا محب للعناق يشير
فقلت ومن لي بالعناق وإنما ... تداركت قلبي حين كاد يطير
وقال:
وإذا لقيت صعوبة في حاجة ... فاحمل صعوبها على الدينار
وابعثه فيما تشتهيه فإنه ... حجر يلين سائر الأحجار
محمد بن محمد بن موهب
بن محمد أبو العز المعروف بابن الخرساني، النحوي العروض الشاعر الكاتب، كان عارفاً بالأدب شديد العناية بالعروض، وله شعر كثير سمع ابن نبهان وغيره. وقرأ على أبي منصور الجواليقي. وله مصنف في العروض وتصانيف أدبية وديوان شعر وتغير ذهنه بآخره، ولد سنة أربع وتسعين وأربعمائة، ومات يوم الأحد مستهل رمضان سنة ست وسبعين وخمسمائة. ومن شعره قوله:
أنا راض منكم بأيسر شيء ... يرتضيه لعاشقٍ معشوق
بسلامٍ من الطريق إذا ما ... جمعتنا بالاتفاق طريق
ومدح شخصاً بقصيدة منها:
إذا عجفت آمالنا عند معشرٍ ... غدا نجمها عند الزعيم خطائطا
فبلغت الحيص بيص الشاعر فقال: كل كلام في الدنيا يزاد لحناً، تكلمت بصادين فانقلبت الدنيا، وهذا ما يقوله أحد شيئاً وديوان ابن الخراساني هذا كبير يدخل في عشر مجلدات لطيفة، ومن شعره أيضاً:
إن شئت ألا تعد غمراً ... فخل زيداً وخل عمرا
واستعن الله في أمور ... ما زلن طول الزمان أمرا
ولا تخالف مدى الليالي ... لله حتى الممات أمرا
واقنع بما راج من طعامٍ ... والبس إذا ما عريت طمرا
وقال:
قد فلت إذ لحظته عيني مرة ... فاحمر من خجلٍ وفرط تصلف
عيني التي غرست نجدك وردة ... من ذا يقول لغارسٍ لاتقطف؟
يا سافكا دمي الحرام بطرفه ... أو ما تخاف الله يوم الموقف؟
أرويته عن عالمٍ أوجدته ... في مسند أقرأته في مصحف؟؟
محمد بن محمد بن يحيى
بن بحر الشيخ تاج الدين أبو العلاء العلوي السند بيسي الواسطي الفقيه الشافعي النحوي،أخذالنحو عن أبي الفضل بن جهورٍ وغيره، وصحب الشيوخ وبرع في النحو وشرح الكلام، وكان فاضلاً تصدر في هذا الشأن وأقرأ مدة، توفي بعد سنة أربعين وخمسمائة.
محمد بن أبي محمد

بن محمد حجة الدين أبو حعفر المعروف بابن ظفر الصقلي الأصل، المكي النحوي اللغوي الأديب، مولده بصقلية ونشأ بمكة ورحل إلى مصر وإفريقية وأقام بالمهدية مدة، وشهد الحروب بها وأخذت من المسلمين وهو هناك، ثم انتقل إلى صقلية ثم عاد إلى مصر ورحل منها إلى حلب وأقام فيها بمدرسة ابن أبي عصرون، ولما وقعت فيها الفتنة بين الشيعة وأهل السنة نهبت كتبه فيما نهب، وخرج منها إلى حماة فصادف فيها قبولاً فسكن بها وأجري له راتب من ديوانها وكان دون الكفاف، فلم يزل يكابد الفقر إلى أن مات بها سنة خمس وستين وخمسمائة، وله من التصانيف: التفسير الكبير، وينبوع الحياة تفسير أيضاً، وكتاب الاشتراك اللغوي، وكتاب الاستنباط المعنوي، وأنباء نجباء الأبناء، وسلوان المطاع في عدوان الأتباع، والقواعد والبيان في النحو، وحاشية على درة الغواص للحريري رد فيها عليه، والمطول شرح مقامات الحريري، والمختصر شرحها أيضاً، والتنقيب على ما في المقامات من الغريب، وأسأل يب الغاية في أحكام آية، وخير البشر بخير البشر ذكر فيه الإرهاصات التي كانت بين ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، وإكسير كيمياء التفسير، وأرجوزة في الفرائض، وملح اللغة وهو فيما اتفق لفظه واختلف معناه، ومعاتبة الجريء على معاقبة البريء وغير ذلك.

محمد بن محمود بن الحسن
ابن هبة الله بن محاسن صاحبنا الإمام محب الدين بن النجار، البغدادي الحافظ المؤرخ الأديب العلامة أحد أفراد العصر الأعلام، ولد ببغداد في ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع من ابن كليب والحافظ أبي الفرج بن الجوزي الواعظ وأصحاب ابن الحصين، ورحل إلى الشام ومصر والحجاز وخراسان وأصبهان ومرو وهراة ونيسابور، وسمع الكثير وحصل الأصول والمسانيد، واستمرت رحلته سبعاً وعشرين سنة. واشتملت مشيخته على ثلاثة آلاف شيخ، وكان إماماً حجة ثقة حافظاً مقرئاً أديباً عارفاً بالتاريخ وعلوم الأدب، حسن الإلقاء والمحاضرات، وكان له شعر حسن، وله التصانيف الممتعة، منها تاريخ بغداد ذيل به علة تاريخ مدينة السلام للحافظ أبي بكر أحمد بن عليٍ الخطيب البغدادي واستدرك فيه عله، وهو تاريخ حافل دل على تبحره في التاريخ وسعة حفظه للتراجم والأخبار، وله المختلف والمؤتلف ذيل به كتاب الأميرابن ماكولا، والمتفق والمفترق في نسبة رجال الحديث إلى الآباء والبلدان، وجنة الناظرين في معرفة التابعين، والعقد الفائق في عيون أخبار الدنيا ومحاسن تواريخ الخلائق، وكتاب القمر المنير في المسند الكبير ذكر فيه الصحابة الرواة وما لكل واحد من الحديث، والكمال في معرفة الرجال، ومعجم الشيوخ، ونزهة الورى في أخبار القرى، والدرة الثمينة في أخبار المدينة، ومناقب الإمام الشافعي، وروضة الأوليا في مسجد إيليا، والزهر في محاسن شعراء العصر، والأزهار في أنواع الأشعار، ونزهة الطرف في أخبارأهل الظرف، وغرر الفؤاد حافل في ست مجلدات، وسلوة الوحيد، وإخبار المشتاق، وجموع نحافيه نحو نشوار المحاضرة للتنوخي التقطه من أفواه الرجال، والشافي في الطب وغير ذلك. وأنشدني لنفسه قال:
وقائلٍ قال يوم العيد لي ورأى ... تململي ودموع العين تنهمر
مالي أراك حزيناً باكياً أسفاً ... كأن قلبك فيه النار تستعر؟
فقلت: إني بعيد الدار عن وطن ... ومملق الكف والأحباب قد هجروا
ونظر إلى غلام تركي حسن الصورة فرمد من يومه فقال:
وقائل قال قد نظرت إلى ... وجهٍ مليحٍ فاعتادك الرمد
فقلت: إن الشمس المنيرة قد ... يعشى بها الناظر الذي يقد
وقال أيضاً:
إذا لم تكن حافظاً واعياً ... فجمعك للكتب لا ينفع
أتنطق بالجهل في مجلس ... وعلمك في البيت مستودع؟
محمد بن المرزبان
أبو العباس الدميري، كان فاضلاً بليغاً مؤرخاً عالماً بمجاري اللغة، تصدر عنه الكتاب الكبار، وكان أحد التراجمة ينقل الكتب الفارسية إلى العربية، له أكثر من خمسين منقولاً من كتب الفرس، وله بضعة عشر كتاباً في الأوصاف منها: وصف الفارس والفرس، ووصف السيف، ووصف القلم، وله الحاوي في علوم القرآن سبعة وعشرون جزءاً، وكتاب الحماسة، وأخبار عبد الله بن جعفر بن أبيطالب وغير ذلك.

أخذ ابن المرزبان عن الزبير بن بكار والرمادي، وروي عنه أبو عمر بن حيوة وجماعة، وتوفى سنة تسع وثلاثمائة.

محمد بن المستنبر بن أحمد
أبو على المعروف بقطرب، البصري النحوي اللغوي، سمي قطرباً لأنه كان يبكر إلى سيبويه للأخذ عنه، فإذا خرج سيبويه سحراً رآه على بابه فقال له يوماً: ما أنت إلا قطرب ليل، والقطرب دويبة تدب ولا تفتر فلقب بذلك، وهو أحد أئمة النحو واللغة،أخذالنحو عن سيبويه وأخذ عن عيسى بن عمر وجماعة من علماء البصرة، وأخذ عن النظام المتكلم إمام المعتزلة وكان على مذهبه، ولما صنف كتابه في التفسير أراد أن يقرأ في الجامع فخاف من العامة وإنكارهم عليه، لأنه ذكر فيه مذهبأهل الاعتزال، فاستعان بجماعة من أصحاب السلطان ليتمكن من قراءته في الجامع، واتصل قطرب بأبي دلف العجلي وأدب ولده، وأخذ عنه ابن السكيت وقال: كتبت عنه قمطراً ثم تبينت أنه يكذب في اللغة فلم أذكر عنه شيئاً.
توفي أبو علي ببغداد سنة ست ومائتين. وله من التصانيف: كتاب معاني القرآن، وغريب الحديث، وإعراب القرآن، والمثلث في اللغة، وكتاب الرد على الملحدين في متشابه القرآن، وكتاب الفرق، وكتاب الاشتقاق، وكتاب الأضداد، وكتاب فعل وأفعل، وكتاب النوادر، وكتاب الأصوات، وكتاب الأزمنة، وكتاب القوافي، وكتاب خلق الإنسان وكتاب خلق الفرس، وكتاب الهمزة، وكتاب العلل في النحو، ومجاز القران، والمصنف الغريب في اللغة وغير ذلك.
ومن شعره:
إن كنت لست معي فالذكر منك معي ... يراك قلبي إذا ما غبت عن بصري
والعين تبصر من تهوى وتفقده ... وناظر القلب لا يخلو من النظر
وقال:
لقد غرت الدنيا رجالاً فأصبحوا ... بمنزلة ما بعدها متحول
فساخط عيش ما يبدل غيره ... وراض بعيش غيره سيبدل
وبالغ أمر كان يأمل غيره ... ومصطلم من دون ما كان يأمل
محمد بن مسعود
أبو بكر الخشني الأندلسي الجياني المعروف بابن أبي الركب، نحوي عظيم من مفاخر الأندلس، لغوي أديب شاعر،أخذالنحو عن ابن أبي العافية، وروي عن أبي الحسين ابن سراج وأبي علي الصدفي وجماعة وتصدر للإقرار. كان متقناً لمسائل سيبويه، فرحل الناس إليه لقراءة الكتاب عليه وانتقل بآخره إلى غرناطة فأقرأ بها، وولى الصلاة والخطبة بجامعها، وله شرح كتاب سيبويه، توفي في منتصف ربيع الأول سنة أربع وأربعين وخمسمائة. ومن شعره:
بساط ذي الأرض سندس ... وماؤها العذب لؤلؤي
كأنها البكر حين تجلى ... والزهر من فوقها الحلي
محمد بن مسعود العشامي
الأصبهاني المعروف بالفخر، النحوي، له تصانيف في الأدب مرغوب فيها، وشعر متداول ورسائل مدونة فائقة في الفقه والفرائض والحساب والمساحة، توفي بعد سنة ست وخمسمائة.
محمد بن المعلى بن عبد الله
أبو عبد الله الأسدي الأزدي النحوي اللغوي، روي عن الفضل بن سهل وأبي كثير الأعرابي وابن لنكك الشاعر والصولي أبي إسحاق إبراهيم وابن دريد اللغوي إجازة وغيرهم. وله شرح ديوان تميم بن مقبل وغير ذلك.
محمد بن مناذر
مولى بنى صبير بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم أبو جعفر، وقيل أبو عبد الله، وقيل أبو ذريحٍ، وذريح ابن له مات صغيراً، وهو شاعر فصيح متقدم في العلم باللغة إمام فيها،أخذعنه كثير من اللغويين. وكان في أول أمره ناسكاً يتأله ثم ترك ذلك وهجا الناس، وتهتك فوعظته المعتزلة فلم يتعظ، فزجروه فهجاهم وقذفهم حتى نفى عن البصرة إلى الحجاز فمات هناك سنة ثمان وتسعين ومائة، وكان قارئاً تروى عنه حروف يقرأ بها. وصحب الخليل بن أحمد وأبا عبيدة وأخذ عنهما الأدب واللغة، وله معرفة بالحديث، روى عن سفيان بن عيينة وسفيان النوري وشعبة وجماعة، وذكر ليحيى بن معين فقال: لا يروي عنه من فيه خير، وذكر له مرة فقال: أعرفه كان يرسل العقارب في المسجد بالبصرة حتى تلسع الناس، وكان يصب المداد بالليل في أماكن الوضوء حتى يسود وجوههم.
وقال أبو العتاهية يوماً لابن مناذر: كيف أنت في الشعر فقال: أقول في الليلة عشرة أبيات إلى خمسة عشر. فقال أبو العتاهية: لو شئت أن أقول في الليلة ألف بيت لقلت.
فقال أجل والله لأنك تقول:

ألا يا عتبة الساعة ... أموت الساعة الساعة
وتقول:
ياعتب مالي ولك ... يا ليتى لم أرك
وأنا أقول:
ستظلم بغداد ويجلو لنا الدجى ... بمكة ما عشنا ثلاثة أبحر
إذا وردوا بطحاء مكة أشرقت ... بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فما خلقت إلا لجود أكفهم ... وأرجلهم إلا لأعواد منبر
ولو أردت مثله لتعذر عليك الدهر، وإني لا أعود نفسي مثل كلامك الساقط فخجل أبو العتاهية. وقال يوماً ليونس النحوي يعرض به: أينصرف جبل أم لا؟ فقل له: لقد عرفت ما أردت يابن الزانية، فانصرف وأعد شهوداً ثم جاءه وأعاد السؤال، وعرف يونس ما أراد فقال الجواب ما سمعته أمس.
قال الجاحظ: كان ابن مناذر مولى سليمان القهرماني، وسليمان مولى عبيد الله ابن أبيبكرة، وعبيد الله مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مولى مولى مولى، ثم ادعى أبو بكرة أنه ثقفي وادعى سليمان أنه تميمي، وادعى ابن مناذر أنه من بني صبير بن يربوع، فهو دعي مولى دعيٍ مولى دعيٍ، وهذا مما لم يجتمع في غيره، وعن محمد بن يزيد النحوي: أن ابن مناذرٍ كان إذا قيل له ابن مناذرٍ بفتح الميم يغضب ثم يقول: أمناذر الصغرى أم مناذر الكبرى؟ وهما كورتان من كور الأهواز، إنما هو مناذر على وزن مفاعل من ناذر فهو مناذر، ومما هدد به المعتزلة حين توعدوه ومنعوه من دخول المسجد قوله:
أبلغ لديك بنى تميم مألكاً ... عني وعرج في بني يربوع
إني أخ لكم بدار مضيعة ... بومٍ وغربانٍ عليه وقوع
يا للقبائل من تميمٍ ما لكم ... روبى ولحم أخيكم بمضيع
وإذا تخربت القبائل صلتم ... بفتى لكل ملمةٍ وفظيع
هبوا له فلقد أراه بنصركم ... يأوي إلى جبل أشم منيع
إن أنتم لم توتروا لأخيكم ... حتى يباء بوتره المتبوع
فخذوا المغازل بالأكف وأيقنوا ... ماعشتم بمذلةٍ وخضوع
إن كنتم حرباً على أحسابكم ... سمعاً فقد أسمعت كل سميع
أين الرياحيون لم أر مثلهم ... في النائبات وأين رهط وكيع؟
وروى المبرد عن أبي واثلة قال: كان أبان اللاحقي يولع بابن مناذر ويقول له: إنما أنت شاعر في المراثي فإذا مت فلا ترثني، وكثر ذلك من أبان عليه حتى أغضبه فقال يهجوه:
غنج أبانٍ ولبن منطقه ... يخبر الناس أنه حلقي
داء به تعرفون كلكم ... يا آل عبد الحميد في الأفق
حتى إذا ما المساء جلله ... كان أطباؤه على الطرق
ففرجوا عنه بعض كربته ... بمستطير مطوق العنق
وقال يرثى سفيان بن عيينة
يجني من الحكمة سفياننا ... ماتشتهى الأنفس ألوانا
يا واحد الأمة في عمله ... لقيت من ذي العرش غفرانا
راحوا بسفيان على عرشه ... والعلم مكسوين أكفانا

محمد بن منصور بن جميل
أبو عبد الله الغر الكاتب، نحوي لغوي أديب من أفاضل العصر، قدم بغداد في صباه وقرأ الأدب، ولازم مصدق بن شبيب النحوي حتى برع في النحو واللغة، وقرأ الفقه والفرائض والحساب وقال الشعر ومدح الناصر فعرف واشتهر، ورتب كتاباً في ديوان التركات مدة، ثم ولي نظره ثم ولي الصدرية بالمخزن، ثم عزل واعتقل وأفرج عنه بعد مدة، ورتب وكيلاً للأميرعدة الدين بن الناصر، وكان كاتباً بليغاً مليح الخط غزير الفضل متواضعاً، مليح الورة طيب الأخلاق، مات في شعبان سنة ست عشرة وستمائة.
محمد بن موسى بن عبد العزيز

أبو بكر الكندي المصري، وقيل أبو عمران بن الصيرفي ويعرف بابن الجبي ويلقب بسيبويه، كان عارفاً بالنحو والمعاني والقراءة والغريب والإعراب والأحكام وعلوم الحديث والرواية، واعتبني بالنحو والغريب حتى لقب بسيبويه لذلك، وله معرفة بأخبار الناس والنوادر والأشعار والفقه على مذهب الشافعي، جالس ابن الحداد الفقيه الشافعي وتتلمذ له، وسمع من أبي عبد الرحمن النسائي وأبي جعفر الطحاوي، وكان يتكلم في الزهد وأحوال الصالحين، عفيفاً متنسكاً ويظهر الاعتزال، اجتمعت فيه أدوات الأدباء والفقهاء والصلحاء والعباد والمتأدبين، وبلغ بذلك مبلغاً جالس به الملوك، وكان يظهر الكلام في الاعتزال في الأسواق فيتحمل لما هو عليه من العلم، ولحقته السوداء فاختلط ثم زادت عليه الوسوسة، وواصلته السوداء إلى أن مات في صفر سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة بمصر، وولد سنة أربع وثمانين ومائتين. ومن شعره:
من لم يكن يومه الذي هو فيه ... أفضل من أمسه ودون غده
فالموت خير له وأروح من ... حياة سوء تفت في عضده

محمد بن موسى الحدادي البلخي
النحوي الشاعر، يقال أخرجت بلخ أربعة من الأفراد، أبا القاسم الكعبي في علم الكلام، وأبا زيد البلخي في البلاغة والتأليف، وسهل بن الحسن في الشعر الفارس، ومحمد بن موسى الحدادي في العربية والشعر العرب، وكان الحدادي يكتب للحسين بن علي، وشعره سائر مدون أكثره أمثال وحكم منه:
يسرنى من حسد الناس لي ... أني فيهم غير محروم
وأنني من كرم لابس ... وأنني عارٍ من اللوم
وقال:
إن كنت أشكو ما يدق ... ق عن الشكاية في القريض
فالفيل يضجر وهو أع ... ظم ما رأيت من البعوض
وقال:
ما بال فرقة شملنا لاتجمع ... وإلى متى يصل الزمان ويقطع؟
كم خلفت تلك الركاب وراءها ... من منزل فيه لنا مستمتع
فالورد يلطم خده لمصابنا ... وعيون نرجسه علينا تدمع
محمد بن موسى بن أبيمحمد
بن مؤمن الكندي أبو بكر النحوي، كتب الحديث والنحو وأكثر، وكان رجلاً فاضلاً صالحاً، توفي في ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة وقد قارب الثمانين.
محمد بن ميمون الأندلسي
القطربي أبو بكر النحوي يعرف بمركوش، كان بارعا في النحو مشهوراً بالأدب. ومن شعره في غلام قص من شعره:
تبسم عن مثل نور الأفاحي ... وأقصدنا بمراضٍ صحاح
ومر يميس كما ماس غصن ... يلاعب عطفيه موج الرياح
وقصر من ليله ساعة ... فأعقب ذلك ضوء الصباح
وإني وإن رغم العاذلو ... ن من خمر أجفانه غير صاح
ولأبي بكر بن ميمون من التصانيف: شرح الجمل في النحو، شرح مقامات الحريري وغير ذلك.
محمد بن نصر بن صغير بن داغر
ابن محمد بن خالد، من ولد خالد بن الوليد الصحابي الجليل شرف الدين المخزومي المعروف بابن القيسراني الحلبي الأديب الشاعر، كان شاعراً مجيداً وأديباً متفنناً، كان وابن منير الطرابلسي شاعري الشام في عهد الملك العادل نور الدين بن زنكي، ولهما القصائد الطنانة في مدحه، قرأ الأدب على توفيق بن محمد الدمشقي وابن الخياط الشاعر، وسمع بحلب من هاشم بن أحمد الحلبي وأبي طاهر الخطيب، وسمع منه أبو سعيد السمعاني والحافظ بن عساكر وأبو المعالي الحظيري الأديب الشاعر وغيرهم. وكان هو وابن منير يشبهان بجرير والفرزدق للمناقصات والوقائع التي جرت بينهما، واتفق موتهما في سنة واحدة، فقد مات ابن منير في حلب في جمادى الآخرة، وفي ثاني عشر شعبان وصل إلى دمشق ابن القيسراني باستدعاء الأميرمجير الدين فمات بعد وصوله بعشرة أيام، وذلك ليلة الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وكانت ولادته سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وله شعر كثير مدون أجاد في أكثره، فمن ذلك قصيدة مدح بها الملك العادل نور الدين حين أسر جوسلين واستولى على بلاده بشمالي حلب سنة خمس وأربعين وخمسمائة قال:
دعا ما ادعى من غره النهي والأمر ... فما الملك إلا ما حباك به الأمر

ومن ثنت الدنيا إليه عنانها ... تصرف فيما شاء عن إذنه الدهر
ومن راهن الأقدار في صهوة العلا ... فلن تدرك الشعرى مداه ولا الشعر
ولم لا يلي أسنى الممالك مالك ... زعيم جيوش من طلائعها النصر
ليهن دمشقاً أن كرسي ملكها ... حبا منك صدراً ضاق عن همه الصدر
وأنك نور الدين مذ زرت أرضها ... سمت بك حتى انحط عن نسرها النسر
خطبت فلم يحبك عنها وليها ... وخطب العلا بالسيف ما دونه ستر
جلاها لك الإقبال حورية السنا ... عليها من الفردوس أردية خضر
خلوب أكنت من هواك محبة ... نمت فانتمت جهراً وسر الهوى جهر
فإن صافحت يمناك من بعد هجرها ... فأحلى التلاقي ما تقدمه هجر
وهل هي إلا كالحصان تمنعت ... دلالاً وإن عز الحيا وغلا المهر؟
ولكن إذا ما قسها بصداقها ... فليس له قدر وليس لها قدر
هي الثغر أمسى بالكراديس عابساً ... وأصبح عن باب الفراديس يفتر
على أنها لو لم تجبك إنابة ... لأرهقها من بأسك الخوف والذعر
فلما وقفت الخيل ناقعة الصدى ... على بردى من فوقها الورق النضر
فمن بعد ما أوردتها حومة الوغى ... وأصدرتها والبيض من علق حمر
وجللتها نقعاً أضاع شياتها ... فلا شهبها شهب ولا شقرها شقر
علا النهر لما كاثر الغصب القنا ... مكاثرة في كل نحر لها نحر
وقد شرقت أجرافه بدم العدى ... إلى أن جري العاصي وضحضاحه غمر
صدعتهم صدع الزجاجة لايد ... لجابرها ما كل كسر له جبر
فلا ينتحل من بعدها الفخر دائل ... فمن بارز الإبرنز كان له الفخر
ومن بز أنطاكية من مليكها ... أطاعته ألحاظ المؤللة الخزر
ومنها:
طغى وبغى عدوا على غلوائه ... فأوبقه الكفران عدواه والكفر
وألقت بأيديها إليك حصونه ... ولو لم تجيء طوعاً لجاء بها القسر
فسر واملأ الدنيا ضياء وبهجة ... فبالأفق الداجي إلى ذا السناهر
كأني بهذا الحزم لا فل حده ... قصاه بالأقصى وقد قضى الأمر
وقد أصبح البيت المقدس طاهراً ... وليس سوى جاري الدماء له طهر
وقد أدت البيض الحداد فروضها ... فلا عهدة في عنق سيف ولا نذر
وصلت بمعراج النبي صوارم ... مساجدها شفع وساجدها وتر
وإن تتيمم ساحل البحر مالكاً ... فلا عجب أن يملك الساحل البحر
سللت سيوفاً أثكلت كل بلدة ... بصاحبها حتى تخوفك البدر
إذا سار نور الدين في عزماته ... فقولا لليل الفجر قد طلع الفجر
ولو لم يسر في عسكر من جنوده ... لكان له من نفسه عسكر مجر
مليك سمت شم المنابر باسمه ... كما قد زهت تيهاً به الأنجم الزهر
فيا كعبة مازال في عرصانها ... مواسم حج لا يروعها النفر
خلعت على الأيام من حلل العلا ... ملابس من أعلامها الحمد والشكر
وتوجت ثغر الشام منك جلالة ... تمنت لها بغداد لو أنها ثغر
فلا تفتخر مصر علينا بنيلها ... فيمناك نيل كل مر بها مصر
رددت الجهاد الصعب سهلاً سبيله ... ويا طالما أمسى ومسلكه وعر
وقال يمدح أبا غانم سعد بن طارق:
خاطر بقلبك إما صبوة الغالي ... فيما أحب وإما سلوة السأل ي
من كل ذي هيف ترنو لواحظه ... إليك من لهذم في صدر عسأل
كم ليلة بت من كأس وريقته ... نشوان أمزج سلسأل اً بسلسأل
وبات لا يحتمي عني مراشفه ... كأنما ثغره ثغر بلا والي

يا مطلقي ما بقي للسقم من جسدى؟ ... وفي يديهم فؤادي رهن أغلال
إن شئتم علم حالي بعد فرقتكم ... فأنصتوا للحمام العاطل الحالي
خذوا حديث غرامي عن مطوقة ... تتلو ضلالي في فرع من الضال
لم تتركوا لي سوى نفس أجود بها ... والجود بالنفس غير الجود بالمال
إذا غضبم وبات الوجد يشفع لي ... إلى رضاكم رأيت السقم أشفى لي
كأن عيني في فضل انسكابهما ... يدا أبي غانم جادت بأفضال
غمر يصدك عن تكذيب مادحه ... ماعند كفيه من تصديق آمال
يثرى فلا يستقر المال في يده ... كأنه عذل في سمع مختال
ميتم ببنات الفكر وهي به ... مفتونة فهو لا شاك ولا سأل ي
يا من يزار فيلقى عنده كرم ... بلا حجاب ومجد بالعلا حالي
من كان من عرب أو كان من عجم ... فأنت يا سعد من يمن وإقبال
وقال يمدح القاضي كمال الدين الشهرزوري:
أيا عاذلي في الحب مالي وللعذل؟ ... ويا هاجري هل من سبيل إلى الوصل؟
أحين استجارتك الملاحة في الهوى؟ ... بخلت كأن الحسن في ذمة البخل
لي الله من صب تملكه الجوى ... فأمسى أسيراً رهن حبلٍ من الخبل
منيت بمثل البدر في مستقره ... يريك المنال الصعب في المنظر السهل
إذا ما التقينا جال طرفي وطرفه ... فانظر من دمع وينظر من نصل
فيا ويح قلبي من بلاه بحبه ... ومن دل ألحاظي على ذلك الدل؟
ويا لي من ليل طويل كهجره ... وصبرٍ ضعيفٍ ضعف أجفانه النجل
ألفت قلاه واستطبت مطاله ... وأطيب ما جاء الوصال على مطل
وقالوا حباك الشيب بالحلم والنهى ... ومن لي بأيام الشيبة والجهل
ليالي أجتاب الليالي صبوة ... ورامي غرامي لا يرى موقع النبل
متى ماخلا قلب المحب من الهوى ... فيالك من ربعٍ أقام بلا أهل
ألم تر أن الشيب بين جوانحي ... أقام مقام الفضل عند أبيالفضل؟
عقيد المعالي بين كفيه والندى ... مواثيق عقد لا تروع بالحل
ويبسم عن ثغرٍ يبشر بالجدا ... كما بشر البرق اليماني بالوبل
مناقبه بين الورى مستفيضة ... إذا رويت لم تعتبر صحة النقل
وما العلم إلا سيرة شهدت بها ... أسانيدها أورد فرع إلى أصل
متى ارتجل الإيجاز في صدر دسته ... رأيت الخطاب الفصل في ذلك الفصل
غريب العلى يفتن في مكرماته ... إذا ما انقضى شكل بدا بك في شكل
وجدنا ابن عبد الله أندى من الحيا ... وأغلى محلاً منه في زمن المحل
فطوراً يباريه الرجاء على النوى ... وطوراً تناجيه المطالب في الرحل
إليك انتضى شوقي إليك عزيمة ... هي النصل تحت الليل أو سمة النصل
على سابح يطوى المدى بسنابك ... لمستها فوق الصفا طاعة الرمل
إلى ماجد أمواله بيد الندى ... فليس عليها من وكيل سوى البذل
أبا الفضل كم لي في مساعيك مدحة ... ألذ على الأفواه من ضرب النحل
فريدة لفظ في فريد محاسنٍ ... فتلك بلا مثل وأنت بلا مثل
وقال:
خذوا حيث غرامي عن ضني بدني ... أغنى لسان الهوى عن دمعي اللسن
وخبروني عن قلبي ومالكه ... فربما أشكل المعنى على الفطن
من ذا الذي ترهب الأبطال صولته ... زيد الفوارس أم سيف بن ذي يزن؟
وما جفون إذا سلت صوارمها ... تجاذبت مهج الأفران في قرن
هذا الذي سلب العشاق نومهم ... أما ترى عينه ملآى من الوسن؟

تفرق الحسن إلا في محاسنه ... ويلاه من فتنٍ جمعن في فنن
أمسى غرامي بذاك القد يوهمنى ... أن اعتلاك الصبا شوقاً إلي الغصن
إذا الصبابة عاطتنى مدامتها ... فما فؤادي على سرٍ بمؤتن
أعيا اللوائم سمعي غير لائمة ... للشيب ما لت إلى عيني عن أذني
حتى إذا ما تناهى العذل في كلفي ... قامت إلي بنات الدهر تعذلني
فما ثنت ناظري عن منظر حسن ... حتى أرتني مكاني من أبي الحسن
وقال:
مررنا في ديار بني عدي ... يجاذب لوعتي شرق وغرب
يتيمنى بأرض الشام حب ... ويعطفنى على بغداد حب
غرام طارف وهوى تليد ... لكل صبابة في القلب شعب
فلا وأبيك ما هومت إلا ... سرى لهما خيال لا يغب
فكل هوىً يطالبنى بقلبٍ ... وهل لي غير هذا القلب قلب؟
وقال:
لا يغرنك من السيف المضا ... فالظبى ما نظرت منها الظباء
مرهفات الحد أمضاها المها ... وقضاها للمحبين القضاء
حدق علتها صحتها ... ربما كان من الداء الدواء
وقال:
تظلمت من أجفانهن إلى النوى ... سفاهاً وهل يعدى البعاد على القرب؟
ولما دنا التوديع قلت لصاحبي ... حنانيك سربي عن ملاحظة السرب
إذا كانت الأحداق نوعاً من الظبى ... فلا شك أنا للحظ ضرب من الضرب
وقال:
رنا بطرفٍ مريض الجفن منكسر ... فمن رأى جؤذراً يلهو بآساد؟
جفن روى عنه ما يرويه من سقمٍ ... جسمى فصح به نقلي وإسنادي
وقال:
إذا ما تأملت القوام مهفهفاً ... تأملت سيفاً بيز جفنيه مرهفاً
وطرفاً تخلى عن سقامي سقامه ... فهلا شفى من بات منه على شفا
وقال:
بالسفح من لبنان لي ... قمر منازله القلوب
حملت تحيته الشما ... ل فردها عني الجنوب
فرد الصفات غريبها ... والحسن في الدنيا غريب
لم أنس ليلة قال لي ... لما رأى جسدي يذوب
بالله قل لي يافتى ... ماتشتكي؟ قلت الطبيب
وقال:
بين فتور المقلتين والكحل ... هوى له من كل قلب ما انتحل
توق من فتكاتها لواحظاً ... أما ترى تلك الظبي كيف تسل؟
ويلاه من نواظر سواحر ... ما عقل العقل بها إلا اختبل
لو لم تكن أجفانها نوابلاً ... لما برت أسهمها من المقل
يا رامياً مسمومة نصاله ... عيناك للقارة قل لي أم ثعل؟
كم عاذلٍ خوفني من لحظه ... إليك عني سبق السيف العذل
وله من قصيدة في الملك العادل نور الدين وأجاد:
حصن بلادك هيبة لا رهبة ... فالدرع من عدد الشجاع الحازم
هيهات يطمع في محلك طامع ... طال البناء على يمين الهادم
كلفت همتك السمو فحلقت ... فكأنما هي دعوة في ظالم
وأظن أن الناس لما لم يروا ... عدلاً كذلك أرجفوا بالقائم
وقال أيضاً في قصيدة يهنئه بها باستيلائه على سنجار وأعمال الفرات:
في عسكرٍ يخفي كواكب ليله ... نقع فيطلعها القنا الخطار
جرار أذيال العجاج وراءه ... وأمامه بل جحفل جرار
تدني لك الغايات همتك التي ... كبرت كذا همم الملوك كبار
وملكت سنجاراً وما من بلدة ... إلا تمنت أنها سنجار
وبسطت بالأموال كفا طالما ... طالت به الآمال وهي قصار
وثنى الفرات إلى يديك عنانه ... والبحر ما اتصلت به الأنهار
ومنها:
تدعو البلاد إليك ألسنة الظبى ... فتجيبك الأنجاد والأغوار
حتى عمدت الدين يا ابن عماده ... بقناً أسنتها عليه منار
ومنها:
أمضى السلاح على عدوك بغية ... بالغدر يطعن في الوغى الغدار

فاحسم عناد ذوي العناد بجحفل ... كالليل فيه من الصفاح نهار
جند على جرد أمام صدورها ... صدر عليه من اليقين صدار
قد بايع الإخلاص بيعة نصرة ... ولكل هادي أمة أنصار
وإذا الملوك تثاقلت عن غاية ... فأرادها خفت به الأقدار

محمد بن نصر الله بن الحسين
بن عنين الدمشقي الأنصاري، أصله من الكوفة من الخطة المعروفة بمسجد بني النجار، وولد بدمشق يوم الاثنين تاسع شعبان سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وهو من أفاضل العصر لغوي أديب شاعر مجيد، نشأ بدمشق وأخذ عن الحافظ أبي القاسم بن عساكر وغيره وهو يستحضر كتاب الجمهرة لابن دريد، وبرع في الشعر وحل الألغاز، ورحل إلى العراق والجزيرة وخراسان وأذربيجان وخوارزم، ودخل الهند ورحل إلى اليمن ومنها إلى الحجاز ثم إلى مصر ثم رجع إلى دمشق وهو مولع بالهجو، وله في ذلك قصيدة طويلة سماها مقراض الأعراض، ويقال: إنه يخل بالصلاة ويصل ابنة العنقود، ورماه أبو الفتح بن الحاجب بالزندقة والله أعلم بصحة ذلك.
ولما كان بخوارزم حضر يوماً درس الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي المعروف بابن خطيب الري وكان يوماً باردا سقط فيه الثلج، فبينما الشيخ يلقي الدرس إذا سقطت حمامة بالقرب منه ووراءها طير من الجوارح يطاردها، فلما صارت بين الناس خاف الجارح وطار، ولم تقدر الحمامة على النهوض مما لحقها من الخوف والبرد، فرق لها الإمام فخر الدين وأخذها بيده وحنى عليها، فأنشده ابن عنين مرتجلاً:
يا ابن الكرام المطعمين إذا اشتووا ... في يوم مسغبةٍ وثلجٍ خاشف
العاصمين إذا النفوس تطايرت ... بين الصوارم والوشيج الراعف
من نبأ الورقاء أن محلكم ... حرم وأنك ملجأ للخائف؟
وفدت عليك وقد تدانى حتفها ... فحبوتها ببقائها المستأنف
لو أنها تحبى بمال لانثنت ... من راحتيك بنائل متضاعف
جاءت سليمان الزمان بشكوها ... والموت يلمع من جناحي خاطف
قرم يطاردها فلما استأمنت ... بجنابه ولى بقلب واجف
وله من قصيدة كتب بها إلى العادل يشكو الغربة والشوق إلى الشام:
ماذا على طيف الأحبة لو سرى ... وعلهم لو سامحوني بالكرى
جنحوا إلى قول الوشاة وأعرضوا ... والله يعلم أن ذلك مفترى
يا معرضاً عني بغير جناية ... إلا لما نقل العذول وزورا
هبني أسأت كما تقول وتفتري ... وأتيت في حبيك شيئا منكرا
ما بعد بعدك والصدود عقوبة ... يا هاجري ما آن لي أن تغفرا؟
لا تجمعن على عتبك والنوى ... حسب المحب عقوبة أن يهجرا
عبء الصدود أخف من عبء النوى ... لو كان لي في الحب أن أتخيرا
فسقى دمشق ووادييها والحمى ... متواصل الإرهام منفصم العرى
حتى ترى وجه الرياض بعارض ... أحوى وفود الدوح أبيض أزهرا
تلك المنازل لا ملاعب عالج ... ورمال كاظمة ولاوادي القرى
أرض إذا مرت بها ريح الصبا ... حملت على الأغصان مسكا أذفرا
فارقتها لا عن رضا وهجرتها ... لا عن قلىً ورحلت لا متخيرا
أسعى لرزقٍ في البلاد مشتت ... ومن العجائب أن يكون مقترا
وأصون وجه مدائحي متقنعاً ... وأكف ذيل مطامعي متسترا
ومنها في الشكوى والدخول إلى المديح:
أشكو إليك نوىً تمادى عمرها ... حتى حسبت اليوم منها أشهرا
لا عيشي تصفو ولا رسم الهوى ... يعفو ولا جفني يصافحه الكرى
أضحى عن الربع المريع محولاً ... وأبيت عن ورد النمير منفرا
ومن العجائب أن يقيل بظلكم ... كل الورى ونبذت وحدي بالعرا
وأول قصيدته المسماة مقراض الأعراض قوله:
أضالع تنطوى على كرب ... ومقلة مستهلة الغرب

شوقاً إلى ساكني دمشق فلا ... عدت رباها مواطر السحب
ومن ثم أخذفي الهجو بنفس طويل، وتفنن بأساليب السب والثلب فأورد ما لا يحسن إيراده، وقال أيضاً في هجو أبيه:
وجنبي أن أفعل الخير والد ... ضئيل إذا ما عد أهل التناسب
يعيد من الحسنى قريب من الخنا ... وضيع مساعي الخير جم المعايب
إذا رمت أن أسمو صعوداً إلى العلا ... غدا عرقه نحو الدنية جاذبي
وقال يهجو كحالاً:
لو أن طلاب المطالب عندهم ... علم بأنك للعيون تعور
لأتوا إليك بكل ما أملته ... منهم وكان الجزاء الأوفر
ودعوك بالصباغ لما أن رأوا ... يعشي العيون لديك ماء أصفر
وبكفك الميل الذي يحكي عصا ... موسى وكم عين به تتفجر
وقال في العادل سيف الدين بن أيوب:
إن سلطاننا الذي نرتجيه ... واسع المال ضيق الإنفاق
هو سيف كما يقال ولكن ... قاطع للرسوم والأرزاق
وقال في المحدث الفاضل ابن دحية الكلبي وهو معاصر:
دحية لم يعقب فلم تعتزى؟ ... إليه بالبهتان والإفك
ما صح عند الناس شيء سوى ... أنك من كلب بلا شك
وقال يمدح فخر الدين الرازي وسيرها إليه من نيسابور إلى هراة:
ريح الشمال عساك أن تتحملي ... شوقي إلى الصدر الإمام الأفضل
وقفي بواديه المقدس وانظري ... نور الهدى متألقا لا يأتلي
من دوحة فخرية عمرية ... طابت مغارس مجدها المتأثل
مكية الأنساب زاك أصلها ... وفروعها فوق السماك الأعزل
واستمطري جدوى يديه فطالما ... خلف الحيا في كل عام ممحل
نعم سحائبها تعود كما بدت ... لايعرف الوسمي منها والولي
بحر تصدر للعلوم ومن رأى ... بحراً تصدر قبله في محفل؟
ومشمر في الله يسحب للتقى ... والدين سر بال العفاف المسبل
ماتت به بدع تمادى عمرها ... دهراً وكاد ظلامها لا ينجلي
فعلا به الإسلام أرفع هضبة ... ورسا سواه في الحضيض الأسفل
غلط امرؤ بأبي علي قاسه ... هيهات قصر عن مداه أبو علي
لو أن رسطاً ليس يسمع لفظةً ... من لفظة لعرته هزة أفكل
ويحار بطليموس لو لاقاه من ... برهانه في كل شكل مشكل
فلو أنهم جمعوا لديه تيقنوا ... أن الفضيلة لم تكن للأول
وبه يبيت الحلم معتصماً إذا ... هزت رياح الطيش ركني يذبل
يعفو عن الذنب العظيم تكرماً ... ويجود مسؤولاً وإن لم يسأل
أرض الإله بفضله ودفاعه ... عن دينه وأقر عين المرسل
يأيها المولى الذي درجاته ... ترنو إلى فلك الثوابت من عل
مامنصب الا وقدرك فوقه ... فبمجدك السامى يهنى ماتلى
فمتى أراد الله رفعة منصب ... أفضى إليك فنال أشرف منزل
لازال ربعك للوفود؟ثابة ... أبداً وجودك كف كل مؤمل؟
ولما كان بمصر أهدى اليه الشريف أبو الفضل سليمان الكحال خروفاً هزيلاً فكتب إليه يشكره ويداعبه فقال:
أبو الفضل وابن الفضل أنت وأهله ... فغير بديع أن يكون لك الفضل
أتتني أياديك التي لاأعدها ... لكثرتها لاكفر نعمى ولاجهل
ولكنني أنبيك عنها بطرفة ... تروقك ماوافى لها قبلها مثل
أتاني خروف ماشككت بأنه ... حليف هوىً قد شفه الهجر والعذل
إذا قام في شمس الظهيرة خلته ... خيالاً سرى في ظلمة ماله ظل
فناشدته مايشتهي؟ قال حلبة ... وقاسمته ماشاقه قال لي الأكل؟
فاحضرتها خضراء مجاجة الثرى ... مسلمةً ماحصى أوراقها الفتل
فظل يراعيها بعين ضعيفة ... وينشدها والدمع في العين منهل

أتت وحياض الموت بيني وبينها ... وجادت بوصل حين لاينفع الوصل
وقال:
ألين لصعب الخلق قاس فؤاده ... وأعتبه لو يرعوى من أعاتبه
من الترك مياس القوام منعم ... له الدر ثغر والزمرد شارب
أسأل عذاراً في أسيل كأنه ... عبير على كافور خديه ذائب
وقال:
ومهفهف رقت حواشي حسنه ... فقلوبنا وجداً عليه رقاق
لم يكس عارضه السواد وإنما ... نفضت عليه صباغها الأحداق
وشعره غرر كله وهو الآن حي مقيم في دمشق.

محمد بن هانئ
أبو القاسم الأزدي الأندلسي، من ولد روح بن حاتم ابن قبيصة بن المهلب، أديب شاعر مفلق، أشعر المتقدمين والمتأخرين من المغاربة، وهو عندهم كالمتنبي عندأهل المشرق، ولد بإشبيلية ونشأ بها، ونال حظاً واسعاً من علوم الأدب وفنونه، وبرز في الشعر فلم يباره في حلبته مبار، ولم يشق غباره لاحق، وكان متهماً بالفلسفة يسلك في أقواله وأشعاره مسلك المعري، وما زال يغلو في ذلك حتى تعدى الحق وخرج في غلوه إلى ما لا وجه له في التأويل، فأزعجه أهل الأندلس واضطروه إلى الخروج من وطنه، وأشار عليه صاحب إشبيلية بذلك درءا للفتنة، فخرج متنقلاً في البلاد ووصل إلى عدوة المغرب، فلقي بها جوهر القائد مولى المنصور فمدحه، ثم رحل إلى الزاب واتصل بجعفر ابن الأندلسية وأخيه يحيى فانتجع بابهما ولزم رحابهما، فاكرما وفادته واحسنا إليه، ثم بلغ خبره للمعز أبا تميم فاستقدمه واحسن نزله وبالغ في إكرامه، ولما رحل المعز إلى الديار المصرية استأذنه في الرجوع إلى عياله ليأتي بهم ويلحق به، فأذن له فخرج قاصداً بلده، فلما بلغ برقة نزل على أحد أعيانها للراحة فأضافه أيام فخرج ليلة سكران من بيته، فلما أصبح الناس وجدوه ملقي في سانية من سواني البلد مخنوقا بتكة سراويله ولم يعرف سبب ذلك ولا فاعله، وكانت وفاته كذلك يوم الأربعاء سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وقد جاوز الأربعين، ولما بلغ المعز خبر موته آسف عليه آسفا عظيما وقال: هذا الذي كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا ذلك، ومن غرر شعره قصيدته الرائية المشهورة التي مدح بها المعز المذكور وهي:
فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر ... وأمدكم فلق الصباح المسفر
وجنيتم ثمر الوقائع يانعاً ... بالنصر من ورق الحديد الأخضر
وضربتم هام الكماة ورعتم ... بيض الخدور بكل ليث مخدر
أبني العوالي السمهرية والسيو ... ف المشرفية والعديد الأكثر
من منكم الملك المطاع كأنه ... تحت السوابغ تبع في حمير
القائد الخيل العتاق شوازباً ... خزراً إلى لحظ السنان الأخزر
شعث النواصي حشرةً آذانها ... قب الأياطل داميات الأنسر
تنبو سنابكهن عن عفر الثرى ... فيطأن في خد العزيز الأصعر
جيش تقدمه الليوث وفوقه ... كالغيل من قصب الوشيج الأسمر
وكأنما سلب القشاعم ريشها ... مما يشق من العجاج الأكدر
وكأنما شملت قناة ببارق ... متألق أو عارض مثعنجر
تمتد ألسنة الصواعق فوقه ... عن ظلتي مزن عليه كنهور
ويقوده الليث الغضنفر معلماً ... في كل شنن اللبدتين غضنفر
نحر القبول من الدبور وسار في ... جيش الهرقل وعزمه الإسكندر
في فتية صدأ الدروع عبيرهم ... وخلوقهم علق النجيع الأحمر
لايأكل السرحان شلو طعينهم ... مما عليه من القنا المتكسر
اأنسوا بهجران الأنيس كأنهم ... في عبقري البيد جنة عبقر
ومنها:
قوم يبيت على الحشايا غيرهم ... ومبيتهم فوق الجياد الضمر
وتظل تسبح في الدماء قبابهم ... فكأنهن سفائن في أبحر
من كل أهرت كالح ذي لبدة ... أوكل أبيض واضح ذي مغفر
ومنها في ذكر الممدوح:
لي منهم سيف إذا جردته ... يوما ضربت به رقاب الأعصر
وفتكت بالزمن المدجج فتكة ال ... براض يوم هجائه ابن المنذر

صعب إذا نوب الزمان استصعبت ... متنمر للحادث المتنمر
فإذا عفا لم تلق غير مملك ... وإذا سطا لم تلق غير مظفر
وكفاك من حب السماحة أنها ... منه بموضع مقلة من محجر
فغمامه من رحمة وعراصه ... من جبنة ويمينه من كوثر
وقال أيضاً يمدحه من قصيدة:
ألؤلؤ دمع هذا الغيث أم نقط ... ما كان أحسنه لو كان يلتقط
بين السحاب وبين الريح ملحمة ... معامع وظبي في الجو تخترط
كأنه ساخط يرضى على عجل ... فما يدوم رضا منه ولا سخط
أهدى الربيع إلينا روضة آنفاً ... كما تنفس عن كافوره السفط
ومنها:
والريح تبعث أنفاساً معطرة ... مثل العبير بماء الورد يختلط
كأنما هي أنفاس المعز سرت ... لاشبهة للندى فيها ولاغلط
تالله لو كانت الأنواء تشبهه ... مامر بؤس على الدنيا ولاقنط
أبدى الزمان لنا من نور طلعته ... عن دولة ما بها وهن ولا سقط
حتى تسلط منه في الورى ملك ... رنت بدولته الأملاك والسلط
إمام عدل وفي في كل ناحية ... كما قضوا في الإمام العدل واشترطوا
قد بان بالفضل عن ماض ومؤتنف ... كالعقد عن طرفيه يفضل الوسط
وقال يمدح جعفر بن الأندلسية:
أليتنا إذ أرسلت وارداً وحفاً ... وبتنا نرى الجوزاء في أذنها شنفا
ولم يبق إرعاش المدام له يداً ... ولم يبق أعنات التثني له عطفا
تريف ثناه السكر إلا ارتجاجةً ... إذا كل عنها الخصر حملها الردفا
يقولون: حقف فوقه خيزرانة ... أما يعرفون الخيزرانه والحقفا؟
جعلنا حشايانا ثياب مدامنا ... وقدت لنا الظلماء من جلدها لحفا
فمن كبد تدنى إلى كبد هوىً ... ومن شفة توحي إلى شفة رشفا
بعيشك نبه كأسه وجفونه ... فقد نبه الإبريق من بعدما أغفى
وقد فكت الظلماء بعض قيودها ... وقد قام جيش الليل للفجر واصطفا
ومنها في المديح:
كان لواء الشمس غرة جعفر ... رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا
وقد جاشت الدأماء بيضاً صوارماً ... ومارنةً سمراً وفضفاضةً زغفا
وجاءت عتاق الخيل تجري كأنما ... تخط له أقلام آذانها صحفا
هنالك تلقى جعفراً غير جعفر ... وقد بدلت يمناه من رفقها عنفا
وكائن تراه في الكريهة جاعلاً ... عزيمته برقاً وصولته خطفا
وكائن تراه في المقامة جاعلاً ... مشاهده فصلاً وخطبته حرفا
وقد بلغ في هذه القصيدة غايات الإجادة ولولا طولها لاوردتها بتمامها، وقال يصف سيفا ليحي آخي جعفر المذكور:
لله أي شهاب حرب واقد ... صحب ابن ذي يزن وأدرك تبعا
في كف يحيى منه أبيض مرهف ... عرف المعز بآله فتشيعا
وجرى الفرند بصفحتيه كأنما ... ذكر القتيل بكر بلاء فدمعا
يكفيك مما شئت في الهيجاء أن ... تلقى العدا فتسل منه أصبعا
وقال أيضاً يمدح المعز وهي أول قصيدة مدحه بها حين قدم عليه بالقيروان:
هل من أعقه عالج يبرين ... أم منهما بقر الحدوج العين؟
ولمن ليال ماذممنا عهدها ... مذ كن إلا أنهن شجون
المشرقات كأنهن كواكب ... والناعمات كأنهن غصون
بيض وما ضحك الصباح وإنها ... بالمسك من طرر الحسان لجون
أدمى لها المرجان صفحة خده ... وبكى عليها اللؤلؤ المكنون
ومنها:
لأعطشن الروض بعدهم ولا ... يرويه لي دمع عليه هتون
أ أعير لحظ العين بهجة منظر ... وأخونهم؟ إني إذاً لخئون
لا الجو جو مشرق ولو اكتسى ... زهراً ولا الماء المعين معين
ومنها:

عهدي بذاك الجو وهو أسنة ... وكناس ذاك الخشف وهو عرين
هل يدنيني منه أجرد سابح ... مرح وجائلة النسوع أمون
ومنها في المديح:
ألروض ما قد قيل في أيامه ... لاأنه ورد ولانسرين
والمسك ماكتم الثرى من ذكره ... لاأن كل قراره دارين
ملك كما حدثت عنه رأفة ... فالخمر ماء والشراسة لين
شيم لوان اليم أعطى رفقها ... لم يلتقم ذا النون فيه النون
تالله لاظلل الغمام معاقل ... تأتي عليه ولا النجوم حصون
ووراء حق ابن الرسول ضراغم ... أسد وشهباء السلاح متون
ألطالبان المشرفية والقنا ... والمدركان النصر والتمكين
وصواهل لا الهضب يوم مغارها ... هضب ولا البيد الحزون حزون
جنب الحمام ومالهن قوادم ... وعلا الربود وما لهن وكون
فكأنما تحت الغبار كواكب ... وكأنما تحت الحديد دجون
عرفت بساعة سبقها لاأنها ... علقت بها يوم الرهان عيون
أجل علم البرق فيها أنها ... مرت بجانحتيه وهي ظنون
ومنها:
انظرإلى الدنيا بإشفاق فقد ... أرخصت هذا العلق وهو ثمين
لو يستطيع البحر لاستعدى علي ... جدوى يديك وإنه لقمين
امدده أو فاصفح له عن نيله ... فلقد تخوف أن يقال ضنين
واعذر أمية أن تغص بريقها ... فالمهل ما سقيته والغسلين
ألقت بأيدي الذل ملقى عمرها ... بالثوب إذ فغرت له صفين
وهذه القصيدة أطول قصائده وهي نيف وثمانون بيتاً اقتصرنا منها على ما أوردناه. وقال أيضاً في مجلس أنس حضره عند الأميرجعفر:
وثلاثة لم تجتمع في مجلس ... إلا لمثلك والأريب أريب
الورد في رامشنة من نرجس ... والياسمين وكلهن عجيب
فاصفر ذا واحمر ذا وابيض ذا ... فاتت بدائع أمرهن عجيب
فكأن هذا عاشق وكأن ذا ... ك معشق وكأن ذاك رقيب
وقال أيضاً في شمعة:
لقد أشبهتني شمعة في صبابتي ... وفي هول ماألقى وما أتوقع
نحول وحزن في فناء ووحدة ... وتسهيد عين واصفرار وأدمع
وقال أيضاً:
وليل بت أسقاها سلافاً ... معتقةً كلون الجلنار
كأن حبابها خرزات در ... علت ذهباً بأقداح النضار
بكف مقرطق يزهى بردف ... يضيق بحمله وسع الإزار
أقمت لشربها عبثاً وعندي ... بنات اللهو تعبث بالعقار
ونجم الليل يركض في الدياجي ... كأن الصبح يطلبه بثار

محمد بن هبيرة
أبو سعيد الأسدي النحوي المعروف بصعورا، من أعيان أهل الكوفة وعلمائها، عارف بالنحو واللغة وفنون الأدب، قدم بغداد واختص بعبد الله بن المعتز وعمل له رسالة فيما أنكرته العرب على أبي عبيد القاسم بن سلام ووافقته فيه، و أدب أولاد محمد بن يزداد وزير المأمون، وله كتاب فيما يستعمله الكاتب وغير ذلك.
محمد بن ولاد
هكذا اشتهر، وقيل: هو ابن الوليد أبو الحسين التميمي النحوي،أخذبمصر عن أبي علي الدينوري ختن ثعلب، ثم رحل إلى العراق وأخذ عن المبرد وثعلب، وكان جيد الخط والضبط وفيه عرج، وغلب عليه الشيب وتزوج الدينوري آمة، وله كتاب في النحو سماه المنمق لم يصنع فيه شيئا، وكتاب المقصور والممدود وغير ذلك.
وكان المبرد لا يمكن أحداً من نسخ كتاب سيبويه من عنده، فكلم ابن الولاد المبرد في نسخه على شيء سماه له فأجابه، فأكمل نسخه وأبي أن يعطيه شيئا حتى يقرأه عليه، فغضب المبرد وسعى به إلى بعض خدم السلطان ليعاقبه على ذلك، فالتجأ ابن ولاد إلى صاحب الخراج ببغداد وكان يؤدب ولده فأجابه، ثم ألح على المبرد حتى أقرأه الكتاب. مات ابن ولاد سنة ثمان وتسعين ومائتين وقد بلغ الخمسين. ومن شعره:
إذا ما طلبت أخاً مخلصاً ... فهيهات منك الذي تطلب

فكن بانفرادك ذا غبطة ... فما في زمانك من يصحب

محمد بن يحيى بن علي
بن مسلم ابن موسى بن عمران الحنفي الزبيدي أبو عبد الله النحوي، كانت له معرفة بالنحو واللغة والأدب، صحب الوزير ابن هبيرة مدة وقرأ عليه، وكان صبوراً على الفقر لايشكو حاله. قال ابن لجوزي: حدثني الوزير ابن هبيرة قال: جلست مع الزبيدي من بكرة إلى قريب الظهر وهو يلوك شيئا في فمه فسأل ته فقال: لم يكن عند ي شيء فأخذت نواة وجعلتها في فمي أتعلل بها، وكان يحكي عنه انه على مذهب السليمانية ويقول: إن الأموات يأكلون ويشربون في القبر، وإن العاصي لايلام لأنه بقدر الله تبارك وتعالى، وكان يقول: قل الحق وإن كان مراً. ودخل على الوزير الزينبي وعليه خلعة الوزارة والناس يهنونه فقال: هذا يوم عزاء لاهناء، فقيل لم؟ فقال: أيهنأ على لبس الحرير؟. وحكى عنه قال: خرجت إلى المدينة على الوحدة فآواني الليل إلى جبل فصعدت عليه وناديت: اللهم إني الليل ضيفك، ثم نزلت فتواريت عند صخرة فسمعت مناديا يناد ي: مرحبا يا ضيف الله، إنك مع طلوع الشمس تمر على قوم على بئر يأكلون خبزا وتمرا، فإذا دعوك فاجب فهذه ضيافتك، فلما كان من الغد سرت فلما كان وقت طلوع الشمس لاحت لي أهداف بئر فوجدت عندها قوما يأكلون خبزا وتمرا فدعوني إلى الأكل فأجبت. وله من التصانيف: منار الاقتضاء، ومنهاج الاقتفاء، وكتاب الرد على ابن الخشاب، وكتاب العروض، والمقدمة في النحو، وكتاب الحساب وكتاب القوافي، وكتاب تعليل قراءة: ونحن عصبة بالنصب. مات في ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
محمد بن يحيى بن محمد
أبو عبد الله بن الحذاء، التميمي الأندلسي، كان محدثاً فقيهاً وخطيباً بليغاً، عارفاً بفنون الأدب بارعاً بها، له معرفة تامة بعلم التعبير،أخذعن ابن عون الله وابن بطال وابن زرب وغيرهم، وتفقه علي ابن أبي زيد القيرواني وقرأ عليه تأليفه، ورحل إلى مصر فأخذ بها عن الحافظ عبد الغني والجوهري وغيرهما، ثم رجع إلى الأندلس فولى القضاء ببلنسية وغيرها، ثم رحل في فتنة البربر فاستوطن سر قسطة إلى أن مات بها سنة عشرة وأربعمائة.
ومن تصانيفه: كتاب الخطب والخطباء في مجلدين، والبشر ي في تعبير الرؤيا كبير يدخل في عشر مجلدات، والأنبياء بمعاني الأسماء - أسماء الله تعالى - ، والاستنباط لمعاني السنن والأحكام في عدة أسفار، والتعريف برجال الموطإ وغير ذلك.
محمد بن يحيى بن سعادة
أبو عبد الله المرسي، كان عالماً بالتفسير والحديث والكلام، خطيباً مصقعاً عارفاً بفنون الأدب، أخذعن أبي على الصدفي وأبي بكر بن العربي وأبي الوليد بن رشدواي الأسدي وغيرهم.
وولى القضاء والشورى بمرسية ثم بشاطبة فاستوطنها، ومولده بمرسية في رمضان سنة ست وتسعين وأربعمائة، وتوفي بشاطبة في العشر الأخير من ذي الحجة سنة أربع وستين وخمسمائة، ومن تصانيفه: شجرة الوهم المرقية إلى ذروة الفهم، وفهرست أسماء الشيوخ.
محمد بن يحيى
بن عبد الله بن العباس ابن محمد بن صول. الكاتب المعروف بالأصولي، كان جده ابن صول التركي أحد دعاة بني العباس، ولدابو بكر ببغداد ونشا بها، واخذ عن ثعلب والمبرد وأبي داود السجستاني، واخذ عنه أبو عبد الله المرزباني الكاتب الأخباري وغيره، وكان إخبارياً أديباً كاتباً، وكان نديماً للخلفاء متمكناً عندهم، نادم المكتفي ثم الراضي ثم المقتدر، وكان واحد عصره في لعب الشطرنج حتى قيل انه هو الذيوضعه وليس كذلك، وإنما وضع الشطرنج صصة الهندي لبهرام ملك الفرس.
حكى أن الراض بالله خرج إلى النزهة فأتى بستاناً مونقاً مزهراً فقال لمن حضر: هل رايتم منظر أحسن من هذا؟ فكل أثنى بما حضره ووصف محاسنه، فقال الراض: لعب الصولي بالشطرنج احسن من هذا ومما وصفتم.
وكان لأبي بكر الصولي خزانة أفردها لما جمع من الكتب المختلفة ورتبها فيها أجمل ترتيب، وكان يقول لآصحابه: كل مافي هذه الخزانة سماعي، وإذا أراد مراجعة كتاب منها قال: ياغلام هات الكتاب الفلاني، فسمعه يوما أبو سعيد العقيلي يقول ذلك فانشد:
إنما الصولي شيخ ... أعلم الناس خزانه
إن سألناه بعلم ... نبتغي عنه الإبانه
قال يا غلمان هاتوا ... رزمة العلم فلانه

وللصولي من التصانيف: أخبار ابن هرمة الشاعر، وأخبار أبي تمام، وأخبار أبي عمر بن العلاء وأخبار إسحاق الموصلي، وأخبار الحميري الشاعر، وأخبار القرامطة، وأدب الكاتب، وكتاب الأنواع، وكتاب العبادلة وكتاب الغرور، وكتاب الورقة، وكتاب الوزراء وغير ذلك. وكان خرج من بغداد لضيق لحقه فنزل البصرة وبها توفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.

محمدبن يزيد بن الكبر بن عمير
ابن حسان بن سليمان بن سعد بن عبدالله بن يزيد بن مالك ابن الحارث بن عامر بن عبد الله بن بلال بن عوف بن أسلم وهو ثمالة، ثم ينتهي إلى السد بن الغوث وهو الأزد، فهو الثمالي الأزدي البصري أبو العباس النحوي اللغوي الأديب، ولد بالبصرة يوم الاثنين غداة عيد الأضحى سنة عشرة ومائتين، وأخذ عن أبي عمر الجرمي وأبي عثمان المازني وقرأ عليهما كتاب سيبويه، وأخذ عن أبي حاتم السجستاني وأخذ عنه أبو بكر محمد بن يحيى الصولي ونفطوية وأبو علي الطوماري وغيرهم. وكان إمام العربية ببغداد وإليه انتهى علمها بعد طبقة الجرمي والمازني، وكان حسن المحاضرة فصيحاً بليغاً، مليح الأخبار ثقة فيما يرويه كثير النوادر فيه ظرافة ولباقة، وكان الإمام اسماعيل القاضي يقول: ما رأى محمد بن يزيد مثل نفسه، وإنما لقب بالمبرد لأنه لما صنف المازني كتاب الالف واللام سأل ه عن دقيقه وعويصه فأجابه بأحسن جواب، فقال له المازني: قم فأنت المبرد بكسر الراء، أي المثبت للحق، فحرفه الكوفيون وفتحوا الراء. وقال السيرافي: سمعت أبا بكر بن مجاهد يقول: مارأيت أحسن جواباً من المبرد في معاني القرآن فيما ليس فيه قول لمنقدم، ولقد فاتني منه علم كثير لقضاء ذمام ثعلب. وقال السيرافي أيضاً: سمعت نفطويه يقول: مارأيت أحفظ للأخبار بغير أسانيد من المبرد وأبي العباس بن الفرات. وقال المفجع البصري: كان المبرد لكثرة حفظه للغة وغريبها يتهم بالوضع فيها، فتواضعنا على مالة نساه عنها لاأصل لها لننظر ماذا يجيب؟ وكنا قبل ذلك تمارينا في عروض بيت الشاعر:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
فقال البعض: هو من البحر الفلاني، وقال آخرون: هو من البحر الفلاني، وتردد على أفواهنا من تقطيعه: القبعضنا، ثم ذهبنا إلى المبرد فقلت له: أيدك الله تعالى ما القبعض عند العرب؟ فقال هو القطن، وفي ذلك يقول الشاعر:
كان سنامها حشى القبعضا
قال: فقلت لأصحابي ترون الجواب والشاهد، فان كان صحيحاً فهو عجب، وإن كان مختلقاً على البديهة فهو أعجب وحكى ابن السراج قال: كان بين المبرد وثعلب ما يكون بين المعاصرين من المنافرة واشتهر ذلك حتى قال بعضهم:
كفى حزناً أنا جميعاً ببلدة ... ويجمعنا في أرضها شر مشهد
وكل لكل مخلص الود وامق ... ولكنه في جانب عنه مفرد
نروح ونغدو لاتزاور بيننا ... وليس بمضروب لنا يوم موعد
فابداننا في بلدة والتقاؤنا ... عسير كلقيا ثعلب والمبرد
وكان أهل التجميل يفضلون المبرد على ثعلب. وفي ذلك يقول أحمد بن عبد السلام:
رأيت محمد بن يزيد يسمو ... إلى الخيرات في جاه وقدر
جليس خلائف وغذى ملك ... وأعلم من رأيت بكل أمر
وفتيانية الظرفاء فيه ... وأبهة الكبير بغير كبر
فينثر إن أجال الفكر درا ... وينثر لؤلؤاً من غير فكر
وكان الشعر قد أودى فأحيا ... أبو العباس داثر كل شعر
وقالوا: ثعلب رجل عليم ... وأين النجم من شمس وبدر
وقالوا: ثعلب يفتي ويملي ... وأين الثعلبان من الهزبر
وهذا في مقالك مستحيل ... تشبه جدولاً وشلاً ببحر؟
وقال بعضهم في المبرد وثعلب:
أيا طالب العلم لاتجهلن ... وعذ بالمبرد أو ثعلب
تجد عند هذين علم الورى ... فلا تك كالجمل الأجرب
علوم الخلائق مقرونة ... بهذين في الشرق والمغرب

وقال أبو بكر بن الأزهر: حدثني أبو العباس المبرد قال: قال لي المازني: بلغني أنك تنصرف من مجلسنا فتصير إلى مواضع المجانين والمعالجين فما معنى ذلك؟ فقلت: أعزك الله تعالى، إن لهم طرائف من الكلام قال: فأخبرني بأعجب مارأيت من المجانين، قال فقلت: صرت يوما إليهم فمررت على شيخ منهم وهو جالس على حصير قصب فجاوزته إلى غيره فقال: سبحان الله تعالى أين السلام؟ من المجنون أنا أو أنت؟ فاستحيت منه وقلت: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال: لو كنت ابتدأت لأوجبت علينا حسن الرد، علي أنا نصرفسوء أدبك إلى أحسن جهاته من العذر، لأنه كان يقال: إن للداخل على القوم دهشة، أجلس - أعزك الله تعالى عندنا وأومأ إلى موضع من الحصير، فجلست إلى ناحية منه استرعى مخاطبته فقال لي وقد رأى معي محبرتي: أرى معك آلة رجلين أرجو ألا تكون أحدهما: أصحاب الحديث الأغثاث، أو الأدباء أصحاب النحو والشعر؟ قلت الأدباء، قال: أتعرف أبا عثمان المازني؟ قلت نعم، قال أتعرف الذي يقول فيه؟:
وفتىً من مازن ... أستاذ أهل البصرة
أمه معرفة ... وأبوه نكره
فقلت لا أعرفه فقال: أتعرف غلاماً له قد نبغ في هذا العصر معه له ذهن وحفظ، وقد برز في النحو يعرف بالمبرد؟ فقلت: أنا والله الخبير به، قال: فهل أنشدك شيئا من شعره؟ قلت: لا أحسبه يحسن قول الشعر، فقال: ياسبحان الله، أليس هو القائل:
حبذا ماء العناقي ... د بريق الغانيات
بهما ينبت لحمي ... ودمي أي نبات
أيها الطالب أشهى ... من لذيذ الشهوات
كل بماء المزن تفا ... ح خدود الفتيات
قلت: سمعته ينشد هذا في مجلس أنس فقال: ياسبحان الله، ألايستحي أن ينشد مثل هذا حول الكعبة؟! ثم قال: ألم تسمع ما يقولون في نسبه؟ قلت: يقولون هو من الأزد ازدشنوءة، ثم من ثمالة، قال: أتعرف القائل في ذلك؟:
سألنا عن ثمالة كل حي ... فقال القائلون ومن ثماله
فقلت: محمد بن يزيد منهم ... فقالوا: زدتنا بهم جهالة
فقال لي المبرد خل قومي ... فقومي معشر فيهم نذالة
فقلت أعرفه، هذا عبد الصمد بن المعذل يقولها فيه فقال: كذب فيما أدعاه، هذا كلام رجل لانسب له، يريد أن يثبت له بهذا الشعر نسباً، فقلت له أنت أعلم، فقال ياهذا: قد غلبت خفة روحك على قلبي، وقد أخرت ماكان يجب تقديمه، ما الكنية أصلحك الله؟ فقلت: أبو العباس. قال: فما الاسم؟ قلت محمد: قال فالأب؟ قلت يزيد، قال: قبحك الله، أحوجتني إلى الاعتذار مما قدمت ذكره، ثم وثب وبسط يده فصافحني فرأيت القيد في رجله فأمنت غائلته، فقال: يا أبا العباس، صن نفسك من الدخول في هذه المواضع، فليس يتهيأ في كل وقت أن تصادف مثلي على مثل حالتي ثم قال: أنت المبرد، أنت المبرد، وجعل يصفق وانقلبت عيناه واحمرت وتغيرت حالته، فبادرت مسرعاً خوف أن تبدر إلي منه بادرة، وقبلت منه الله نصحه ولم أعاود بعدها إلى تلك المواضع أبداً.
وقال الزجاج: لما قدم المبرد بغداد جئت لأناظره وكنت أقرأ على أبي العباس ثعلب فعزمت على أعناته فلما باحثته الجمني بالحجة، وطالبني بالعلة، وألزمني إلزامات لم أهتد إليها، فاستيقنت فصله، واسترجحت عقله، وأخذت في ملازمته، وكان المبرد يحب الاجتماع بأبي العباس ثعلب للمناظرة، وثعلب يكره ذلك.
حكى أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي وكان صديقهما قال: قلت لأبي عبد الله الدينسوري ختن ثعلب: لم يأبى ثعلب الاجتماع بالمبرد؟ فقال: لأن المبرد حسن العبارة، حلو الإشارة، فصيح اللسان، ظاهر البيان، وثعلب مذهبه مذهب المعلمين، فإذا اجتمعا في محفل حكم للمبرد على الظاهر إلى أن يعرف بالباطن.

وحكى أن بعض الأكابر من بني طاهر سأل أبا العباس ثعلباً أن يكتب له مصحفاً على مذهب أهل التحقيق، فكتب: والضحى بالياء، ومذهب الكوفيين أنه إذا كان كلمة من هذا النحو أو الهاضمة أو كسرة كتبت بالياء وإن كانت من ذوات الواو، والبصريون يكتبون بالألف، فنظر المبرد في ذلك المصحف فقال: ينبغي أن يكتب والضحا بالألف لأنه من ذوات الواو، فجمع ابن طاهر بينهما فقال المبرد لعلي: لم كتبت والضحى بالياء؟ فقال: لضمه أوله. فقال له: ولم إذا ضم أوله وهو من ذوات الواو تكتبه بالياء؟ فقال: لأن الضمة تشبه الواو، وما أوله واو يكون آخره ياء فتوهموا أن أوله واو. فقال المبرد: أفلا يزول هذا التوهم إلى يوم القيامة؟. ولبعضهم في مدح المبرد:
وإذا يقال من الفتى كل الفتى ... والشيخ والكهل الكريم العنصر
والمستضاء بعلمه وبرأيه ... وبعقله قلت: ابن عبد الاكبر
ولآخر في مدحه أيضاً:
وأنت الذي لايبلغ المدح وصفه ... وإن أطنب المداح مع كل مطنب
رأيتك والفتح بن خاقان راكباً ... فأنت عديل الفتح في كل موكب
وكان أميرالمؤمنين إذا رنا ... إليك يطيل الفكر بعد التعجب
وأوتيت علماً لايحيط بكنهه ... علوم بني الدنيا ولاعلم ثعلب
يروح إليك الناس حتى كأنهم ... ببابك في أعلى منىً والمحصب
مات أبو العباس المبرد في شوال، وقيل في ذي القعدة سنة خمس وثمانين ومائتين في خلافة المعتضد، وصلى عليه أبو محمد يوسف بن يعقوب القاضي ودفن في دار في مقابر باب الكوفة، ولما مات قال فيه ثعلب هذه الأبيات، وقيل هي لأبي بكر بن العلاف:
ذهب المبرد وانقضت أيامه ... وليذهبن إثر المبرد ثعلب
بيت من الآداب أضحى نصفه ... خراباً وباقي النصف منه سيخرب
فابكوا لما سلب الزمان ووطنوا ... للدهر أنفسكم على ما سلب
وتزودوا من ثعلب فبكأس ما ... شرب المبرد عن قريب يشرب
أوصيكم أن تكتبوا أنفاسه ... إن كانت الأنفاس مما يكتب
ومن شعر المبرد وقد بلغه أن ثعلباً نال منه:
رب من يعنيه حالي ... وهو لايجري ببالي
قلبه ملآن مني ... وفؤادي منه خالي
ولأبي العباس المبرد من التصانيف الكامل في الأدب وهو أشهر كتبه، والمقتضب في النحو وهو أكبر مصنفاته وأنفسها إلا أنه لم ينتفع به أحد.
قال أبو علي الفارس: نظرت في المقتضب فما انتفعت منه بشيء إلا بمسأل ة واحدة، وهي وقوع إذا جواباً للشرط في قوله تعالى: (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون)، ويزعمون أن سبب عدم الانتفاع به، أن هذا الكتاب أخذه ابن الرواندي الزنديق عن المبرد، وتناوله الناس من يد ابن الرواندي فكأنه عاد عليه شؤمه فلا يكاد ينتفع به.
ومن تصانيفه أيضاً: الروضة، والمدخل في كتاب سيبويه، وكتاب الاشتقاق، وكتاب المقصور والممدود، وكتاب المذكر والمؤنث، ومعاني القرآن ويعرف بالكتاب التام، وكتاب الخط والهجاء، وكتاب الأنواء والأزمنة، وكتاب احتجاج القراء وإعراب القران، وكتاب الحروف في معاني القرآن إلى سورة طه، وكتاب صفات الله جل وعلا، وكتاب العبارة عن أسماء الله تعالى، وشرح شواهد كتاب سيبويه، وكتاب الرد على سيبويه ومعنى كتاب الأوسط للأخفش، وكتاب الزيادة المنتزعة من كتاب سيبويه، ومعنى كتاب سيبويه، وكتاب الحروف، والمدخل في النحو، وكتاب الإعراب، وكتاب التصريف، وكتاب العروض، وكتاب القوافي، وكتاب البلاغة، والرسأل ة الكاملة، والجامع لم يتم، وقواعد الشعر، وكتاب ضرورة الشعر، وكتاب الفاضل والمفضول، والرياض المونقة، وكتاب الوشي، وكتاب شرح كلام العرب وتخليص ألفاظها ومزاوجة كلامها وتقريب مبانيها، وكتاب الحث على الأدب والصدق، وأدب الجليس، وكتاب الناطق، وكتاب الممادح والمقابح، وكتاب أسماء الواهي عند العرب، وكتاب ما اتفقت ألفاظه واختلفت معانيه في القرآن، وكتاب التعازي، وكتاب قحطان وعدنان، وطبقات التحو يين البصريين وأخبارهم وغير ذلك.

محمد بن يوسف بن عمر بن علي

ابن منيرة الكفرطابي، ابوعبد الله النحوي نزيل شيراز، سمع الحديث على أبي السمح الحنبلي، وصنف بحر النحو نقض فيه مسائل كثيرة من أصول النحوبين، ونقد الشعر، وغريب القرآن، مات في رمضان سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.

أبو محمد الترسابادي النحوي
عرف كتاب سيبويه وأحكم مسائل الاخفش، ثم خرج إلى العراق فهابه علماء النحو وانقبضوا عن مناظرته، منهم الزجاج وابن كيسان. وحضر يوماً مجلس النحويين ببغداد فسئل عن مسأل ة وابن كيسان حاضر، فانقبض عن الإجابة إجلالاً لابن كيسان فقال له: يا أبا محمد، أجب فو الله أنت أحقنا بالانتصاب.
محمود بن جرير الضبي
الاصبهاني أبو مضر النحوي، كان يلقب فريد العصر، وكان وحيد دهره وأوانه في علم اللغة والنحو والطب، يضرب به المثل في أنواع الفضائل، أقام بخوارزم مدة وانتفع الناس بعلومه ومكارم أخلاقه وأخذوا عنه علماً كثيراً، وتخرج عليه جماعة من الأكابر في اللغة والنحو، منهم الزمخشري وهو الذي ادخل على خوارزم مذهب المعتزلة ونشره بها، فاجتمع عليه الخلق لجلالته وتمذهبوا بمذهبه، منهم أبو الاسم الزمخشري ولست أعرف له مع نباهة قدره وشيوع فكره مصنفاً مذكوراً، ولا تأليفاً مأثوراً، إلا كتاباً يشتمل على نتف وأشعار وحكايات وأخبار سماه زاد الراكب. مات بمرو سنة سبع وخمسمائة. ورثاه الزمخشري بقوله:
وقائلة ما هذه الدرر التي ... تساقطها عيناك سمطين سمطين
فقلت: هو الدر الذي قد حشا به ... أبو مضر عيني تساقط من عيني
محمود بن أبي الحسن بن الحسين
النيسابوري الغزنوي يلقب ببيان الحق، كان عالماً بارعاً مفسراً لغوياً فقهاً متفنناً فصيحاً، له تصانيف أدعى فيها الإعجاز، منها كتاب خلق الإنسان، وجمل الغرائب في تفسير الحديث، وإيجاز البيان في معاني القرآن وغير ذلك.
ومن شعره:
فلا تحقرن خلقاً من الناس عله ... ولي إله العالمين ولا تدري
فذو القدر عند الله يخفى على الورى ... كما خفيت عن علمهم ليلة القدر
محمود بن حمزة بن نصر الكرماني
النحوي، هو تاج القراء وأحد العلماء الفقهاء النبلاء، صاحب التصانيف والفضل، كان عجباً في دقة الفهم وحسن الاستنباط، لم يفارق وطنه ولا رحل، وكان في حدود الخمسمائة وتوفي بعدها. صنف لباب التفسير، والإنجاز في النحو اختصره من الإيضاح للفارسي، النظامي في النحو اختصره من اللمع لابن جني. الإفادة في النحو، العنوان فيه أيضاً. وله في موانه الصرف:
فمعرفة وتأنيث ونعت ... ونون قبلها ألف وجمع
وعجمة ثم تركيب وعدل ... ووزن الفعل والأسباب تسع
محمود بن عزيز العارض
أبو القاسم الخوارزمي الملقب شمس المشرق، كان من أفضل الناس في عصره في علم اللغة والأدب، لكنه تخطى إلى علم الفلسفة فصار مفتوناً بها ممقوتاً بين المسلمين، وكان سكوناً سكوتاً وقوراً، يطالع الفقه ويناظر في مسائل الخلاف أحياناً، سمع الحديث من أبي نصر القشيري وغيره، وأملى طرفاً من الحديث وشرحه بلفظ حسن ومعان لابأس بها. وكان الزمخشري يدعوه الجاحظ الثاني لكثرة حفظه وفصاحة لفظه. أقام مدة بخوارزم في خدمة خوارزم شاه مكرماً، ثم ارتحل إلى مرو فذبح بها نفسه بيده في أوائل سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، ووجد بخطه رقعة فيها: هذا ما عملته أيدينا فلا يؤاخذ به غيرنا.
محمود عمر بن احمد

أبو القاسم الزمخشري جار الله، كان إماماً في التفسير والنحو واللغة والأدب، واسع العلم كبير الفضل متفنناً في علوم شتىً، معتزل المذهب متجاهراً بذلك. قال ابن اخته أبو عمر وعامر بن الحسن المسار: ولد خالي بزمخشر من أعمال خوارزم يوم الأربعاء السابع والعشرين من رجب سنة سبع وستين وأربعمائة. واخذ الأدب عن أبي مضر محمود بن جريرالضبي الأصبهاني، وأبي الحسن علي ابن المظفر النيسابوري، وسمع من شيخ الاسلام أبي منصور نصر الحارثي، ومن أبي سعد الشقاني، وأصابه خراج في رجله فقطعها واتخذ رجلاً من خشب، وقيل أصابه برد الثلج في بعض أسفاره بنواحي خوارزم فسقطت رجله وحكى أن الدامغاني المتكلم الفقيه، سأله عن سبب قطع رجله فقال: دعاء الوالدة، وذلك أني أمسكت عصفوراً وأنا صبي صغير وربطت برجله خيطاً فأفلت من يدي ودخل خرقاً فجذبته فانقطعت رجله، فتألمت له والدتي وقالت: قطع الله رجلك كما قطعت، فلما رحلت إلى بخارى في طلب العلم سقطت عن الدابة في أثناء الطريق فانكسرت رجلي وأصابني من الألم ما أوجب قطعها، ولما قدم الزمخشري إلى بغداد قاصداً الحج زاره الشريف أبو السعادات هبة الله بن الشجري مهنئاً له بقدومه، فلما جلس إليه أنشده متمثلاً:
كانت مساءلة الركبان تخبرني ... عن أحمد بن دواد طيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري
وأنشد أيضاً:
واستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغر الخبر الخبر
ثم أخذ يثني عليه فلم ينطق الزمخشري حتى فرغ ابن الشجري من كلامه، فلما أتم كلامه شكر الشريف وعظمه، وتصاغر له ثم قال إن زيد الخيل دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بصر بالنبي صلى الله عليه وسلم رفع صوته بالشهادتين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يازيد الخيل: كل رجل وصف لي وجدته دون الصفة إلا أنت، فإنك فوق ما وصفت، وكذلك سيدنا الشريف، ثم دعا له وأثنى عليه. توفي أبو القاسم الزمخشري بقصبة خوارزم ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة.
ومن شعره:
ألعلم للرحمن جل جلاله ... وسواه في جهلاته يتغمغم
ماللتراب وللعلوم وإنما ... يسعى ليعلم أنه لايعلم
وقال أيضاً:
كثر الشك والخلاف وكل ... يدعى الفوز بالصراط السوي
فاعتصامي بلا إله سواه ... ثم حبي لأحمد وعلي
فاز كلب بحب أصحاب كهف ... كيف أشقى بحب آل نبي؟
وقال في مدح تفسير الكشاف:
إن التفاسير في الدنيا بلا عدد ... وليس فيها لعمري مثل كشافي
إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته ... فالجهل كالداء والكشاف كالشافي
ومن كلامه ما استخرجته من كتابة الأطواف قال: استمسك بحبل مواخيك ماستمسك باواخيك واصحبه ما صحب الحق وأذعن، وحل مع أهله وظعن، فان تنكرت أنحاؤه، ورشح بالباطل إناؤه، فتعوض عن صحبته وإن عوضت الشع، وتصرف بحبله ولو أعطيت النسع، فصاحب الصدق أنفع من الترياق النافع، وقرين السوء أضر من السم الناقع. وقال: الدعة من الضعة مرة لاتشره إليها نفس حرة. وقال: الكريم إذا ريم على الضيم نبا، والسرى متى سيم الخسف أبي، وقلما عرفت الأنفة والإباء في غير من شرفت منه الإباء. وقال: عزة النفس وبعد الهمة، الموت الأحمر والخطوب المدلهمة، ولكن من عرف منهل الذل فعافه، استعذب نقيع العز وذعافه. وقال: أحمق من النعامة من افتخر بالزعامة، لم أر أشقى من الزعيم، ولا أبعد منه من الفوز بالنعيم، هالك في الهوالك، خابط في الظلم الحوالك، على آثاره العفاء، أدركته بمجانيقها الضعفاء. وقال: الدنيا أدوار، والناس أطوار، فالبس لكل يوم بحسب مافيه من الطوارق، وجانس كل قوم بقدر مالهم من الطرائق، فلن تجري الأيام على أمنيتك، ولن تنزل الأقوام على قضيتك. وقال: ألا أحدثك عن بلد الشوم؟ ذلك بلد الوالي الغشوم، فإياك وبلد الجور، وإن كنت أعز من بيضة البلد، وأحظى أهله بالمال المثمر والولد، وتوقع أن تسقط فيه الطيور النواعق، وتأخذ أهله الرجفة والصواعق.

وقال: لا تقنع بالشرف التالد، فذلك الشرف للوالد، واضمم إلى التالد طريفاً حتى تكون بهما شريفاً، ولا تدل بشرف أبيك مالم تدل عليه بشرف فيك. وقال: كب الله على مناخره من زكى نفسه بمفاخره، على أن رب مساخر يعدها الناس مفاخر. وقال: ما لعلماء الشيء جمعوا عزائم الشرع ودونوها، ثم رخصوا فيها لأمراء السوء وهونوها، إنما حفظوا وعلقوا، وصفقوا وحلقوا، ليقمروا المال وييسروا، ويفقروا، الأيتام ويوسروا، أكمام واسعة، فيها أطلال لاسعة، وأقلام كأنها أزلام، وفتوى يعمل بها الجاهل فيستوي ومن إنشائه ما كتب به إلى حافظ الاسكندرية أبي الطاهر السلفي جواب عن كتاب كتبه إليه يستجير هبة وهو: ما مثلي مع أعلام العلماء، إلا كمثل السهام مع مصابيح السماء، والجهام الصفر والرهام مع الغوادي الغامرة للقيعان والآكام، والسكيت المخلف عن خيل السباق، والبغاث مع الطير العناق، وما التلقيب بالعلامة، إلا شبه الرقم والعلامة، والعلم مدينة أحد بابها الدراية، والثاني الرواية، وأنا في كلا البابين ذو بضاعة مزجاة، ظلي فيها أقلص من ظل حصاة، أما الرواية فحديثة الميلاد قريبة الأسناد لم تستند إلى علماء نحارير، ولا إلى أعلام مشاهير. وأما الدراية فتمد لا يبلغ أفواها، وبرض ما يبل شفاها، إلى أن قال: ولا يغرنكم قول فلان وفلان، في وذكر جماعة من العلماء والشعراء أثنوا عليه ومدحوه، ثم قال: فان ذلك اغترار بالظاهر المموه، وجهل بالباطن المشوه، ولعل الذي غرهم مني مارأوا من حسن النصح للمسلمين، وبلوغ الشفقة على المستفيدين، وقطع المطامع، وإفادة المبار والصنائع، وعزة النفس والربء بها عن السفاسف والإقبال على خويصتي والإعراض عما لا يعنيني فجللت في عيونهم، وغلطوا في ونسبوني إلى مالست منه في قبل ولادبير الخ، والكتاب طويل اقتصرت منه على ما أوردت. ولأبي القاسم من التصانيف: الكشاف في تفسير القرآن، الفائق في غريب الحديث، نكت الأعراب في غريب الإعراب في غريب إعراب القرآن، كتاب متشابه أسماء الرواة، مختصر الموافقة بين أهل البيت والصحابة، الأصل لأبي سعيد الرازي إسماعيل، الكلم النوابغ في المواعظ، أطواق الذهب في المواعظ، نصائح الكبار، نصائح الصغار، مقامات في المواعظ، نزهة المستأنس، الرسالة الناصحة، رسالة المسامة، الرائض في الفرائض، معجم الحدود، المنهاج في الأصول، ضالة الناشد، كتاب عقل الكل، النموذج في النحو، المفصل في النحو أيضاً، المفرد والمؤلف فيه أيضاً، صميم العربية، الأملي في النحو، أساس البلاغة في اللغة، جواهر اللغة، كتاب الأجناس، مقدمة الأدب في اللغة، كتاب الأسماء في اللغة، القسطاس في العروض، حاشية على المفصل، شرح مقاماته، روح المسائل، سوائر الأمثال، المستقصي في الأمثال، ربيع الأبرار في الأدب والمحاضرات، تسلية الضرير، رسالة الاسارا، أعجب العجب في شرح لامية العرب، شرح المفصل، ديوان التمثيل، ديوان خطب، ديوان شعر، شرح كتاب سيبويه، كتاب الجبال والأمكنة، شافي العي من كلام الشافعي، شقائق النعمان في حقائق النعمان في مناقب الإمام أبي حنيفة، المحاجاة ومنهم مهام أرباب الحاجات في الأحاجي والألغاز المفرد والمركب في العربية وغير ذلك.

محمود بن أبي المعالي
تاج الدين الحواري اللغوي الأديب الشاعر، أخذ الأدب عن سعيد بن أبي الفاضل الميداني وبرع في اللغة، وله النثر الفائق والشعر اللائق، وكان واحد نيسابور علماً وفضلاً وأدباً، وصنف كتاب ضالة الأديب في الجمع بين الصحاح والتهذيب، أخذ فيه على الجوهري في عدة مواضع، كان حياً سنة ثمانين وخمسمائة.
مدرك بن علي الشيباني
أعبر أبي من بادية البصرة، دخل بغداد صغيراً أو نشأ بها فتفقه وحصل العربية والأدب، وكان شاعراً أديباً فاضلاً، وكان كثيراً مايلم بدير الروم في الجانب الشرقي ببغداد وكان بدير الروم غلام من أولاد النصارى يقال له عمرو ابن يوحنا، وكان من أحسن الناس صورة وأكملهم خلقاً، وكان مدرك بن علي يهواه، وكان لمدرك مجلس تجتمع فيه الأحداث، فإن حضر شيخ أو صاحب حرمة قال له مدرك: فبيح بك أن تختلط بالأحداث والصبيان، فقم في حفظ الله فيقوم وكان عمرو يحضر مجلسه فعشقه مدرك وهام به، فجاء عمرو يوماً إلى المجلس فكتب مدرك رقعة وطرحها في حجره فإذا فيها:

بمجالس العلم التي ... بك تم حسن جموعها
إلا رثيت لمقلة ... غرقت بفيض دموعها
بيني وبينك حرمة ... الله في تضييعها
فقرأ الأبيات ووقف عليها من كان في المجلس، فاستحيا عمرو وانقطع عن الحضور، وغلب الأمر على مدرك فترك مجلسه ولزم دير الروم، وجعل يتبع عمراً حيث سار وقال فيه شعراً كثيراً.
قال الحريري: - وقد رأيت عمراً أبيض الرأس واللحية - ومن شعر مدرك فيه المزدوجه المشهورة وهي:
من عاشق ناء هواه داني ... ناطق دمع صامت اللسان
معذب بالصد والهجران ... موثق قلب مطلق الجسمان
من غير ذنب كسبت يداه ... غير هوى نمت به عيناه
شوقاً إلى رؤية من أشقاه ... كأنما عافاه من أضناه
يا ويحه من عاشق مايلقى ... من أدمع منهلة ما ترقا
ناطقة وما أجادت نطقا ... تخبر عن حب له استرقا
لم يبق منه غير طرف يبكي ... بأدمع مثل نظام السلك
تطفئ نيران الهوى وتذكي ... كأنها قطر السماء تحكي
إلى غزال من بني النصارى ... عذار خديه سبى العذارى
وغادر الأسد به حيارى ... في ربقة الحب له أسارى
رئم بدار الروم رام قتلي ... بمقلة كحلاء لامن كحل
وطرة بها استطار عقلي ... وحسن وجه وقبيح فعل
رئم به أي هزبر لم يصد؟ ... يقتل باللحظ ولا يخشى القود
متى يقل ها قالت الألحاظ قد ... كأنها ناسوته حين اتحد
ما أبصر الناس جميعا بدرا ... ولارأوا شمساً وغصناً نضرا
أحسن من عمرو فديت عمرا ... ظبي بعينه سقاني خمرا
هأنذا بقده مقدود ... والدمع في خدي له أخدود
ما ضر من فقري به موجود ... لولم يقبح فعله الصدود
إن كان ذنبي عنده الإسلام ... فقد سعت في نقصه الآثام
واختلت الصلاة والصيام ... وجاز في الدين له الحرام
يا ليتني كنت له صليبا ... أكون منه أبداً قريبا
أبصر حسناً وأشم طيباً ... لاواشياً أخشى ولا رقيبا
يا ليتني كنت له قرباناً ... ألثم منه الثغر والبنانا
أوجا ثليقا كنت أو مطراناً ... كيما يرى الطاعة لي إيمانا
يا ليتني كنت لعمرو مصحفاً ... يقرأ مني كل يوم أحرفا
أو قلماً يكتب بي ماألفا ... من أدب مستحسن قد صنفا
يا ليتني كنت لعمرو عوذه ... أوحلة يلبسها مقدوده
أو تركةً باسمه معدوده ... أوبيعةً بداره مشهوده
يا ليتني كنت له زناراً ... يديرني في الخصر كيف دارا
حتى إذا الليل طوى النهارا ... صرت له حينئذ إزارا
قد والذي يبقيه لي أفناني ... وابتز عقلي والضنا كساني
ظبي على البعاد والتداني ... حل محل الروح من جثماني
وا كبدي من خده المضرج ... وا كبدي من ثغره المفلج
لاشيء مثل الطرف منه الأدعج ... اذهب للنسك وللتحرج
إليك أشكو ياغزال الأنس ... مابي من الوحشة بعد الأنس
يامن هلالي وجهه وشمسي ... لاتقتل النفس بغير النفس
جدلي كما جدت بحسن الود ... وارع كما أرعى قديم العهد
واصدد كصدى عن طويل الصد ... فليس وجد بك مثل وجدي
هأنا في بحر الهوى غريق ... سكران من حبك لا أفيق
محترق ما مسني حريق ... يرثي لي العدو والصديق
فليت شعري فيك هل ترثى لي ... من سقم ومن ضناً طويل؟

أم هل إلى وصلك من سبيل ... لعاشق ذي جسد نحيل؟
في كل عضو منه سقم وألم ... ومقلة تبكي بدمع وبدم
شوقاً إلى شمس وبدر وصنم ... منه إليه المشتكي إذا ظلم
أقول إذا قام بقلبي أو قعد ... ياعمر ويا عامر قلبي بالكمد
أقسم بالله يمين المجتهد ... أن امرأ واصلته لقد سعد
يا عمرو ناشدتك بالمسيح ... إلاسمعت القول من فصيح
يخبر عن قلب له جريح ... باح بما يلقى من التبريح
يا عمرو بالحق من اللاهوت ... والروح روح القدس والناسوت
ذاك الذي في مهده المنحوت ... عوض بالنطق عن السكوت
بحق ناسوت ببطن مريم ... حل محل الريق منها في الفم
ثم استحال في قنوم الأقدم ... فكلم الناس ولما يفطم
بحق من بعد الممات قميصاً ... ثوباً على مقداره ما قصصا
وكان لله تقياً مخلصاً ... يشفي ويبري أكمهاً وأبرصا
بحق محبي صورة الطيور ... وباعث الموتى من القبور
ومن إليه مرجع الأمور ... يعلم مافي البر والبحور
بحق من في شامخ الصوامع ... من ساجد لربه وراكع
يبكي إذا ما نام كل هاجع ... خوفاً من الله بدمع هامع
بحق قوم حلقوا الرءوسا ... وعالجوا طول الحياة بوسا
وقرعوا في البيعة الناقوسا ... مشمعلين يعبدون عيسى
بحق ماري مريم وبولس ... بحق شمعون الصفا وبطرس
بحق دانيل بحق يونس ... بحق حزقيل وبيت المقدس
ونينوى إذ قام يدعو ربه ... مطهراً من كل سوء قلبه
ومستقيلاً فأقيل ذنبه ... ونال عند الله ما أحبه
بحق مافي قلة الميرون ... من نافع للداء والجنون
بحق ما يؤثر عن شمعون ... من بركات الخوص والزيتون
بحق أعياد الصليب الزهر ... وعيد شمعون وعيد الفطر
وبالشعانين العظيم القدر ... وعيد ما ماري الرفيع الذكر
وعيد شعياء وبالهياكل ... والدخن اللاتي بكف الحامل
يشفي بها من خبل كل خابل ... ومن دخيل السقم في المفاصل
بحق سبعين من العباد ... قاموا بدين الله في البلاد
وأرشدوا الناس إلى الرشاد ... حتى اهتدى من لم يكن بهاد
بحق ثنتي عشرة من الأمم ... ساروا إلى الأقطار يتلون الحكم
حتى إذا صبح الدجى جلا الظلم ... ساروا إلى الله ففازوا بالنعم
بحق مافي محكم الإنجيل ... من محكم التحريم والتحليل
مع خبر ذي نبأ جليل ... يرويه جيل قد مضى عن جيل
بحق مارعيد الشفيق الناصح ... بحق لوقا ذي الفعال الصالح
بحق تمليخا الحكيم الراجح ... والشهداء بالفلا الصحاصح
بحق معمودية الأرواح ... والمذبح المشهور في النواحي
ومن به من لابس الأمساح ... وعابد باك ومن نواح
بحق تقريبك في الأعياد ... وشربك القهوة كالفرصاد
وطول تفتيتك للأكباد ... بما يعنيك من السواد
بحق ما قدس شعيا فيه ... بالحمد لله وبالتنزيه
بحق نسطور ومايرويه ... عن كل ناموس له فقيه
شيخان كانا من شيوخ العلم ... وبعض أركان التقى والحلم
لم ينطقا قط بغير فهم ... موتهما كان حياة الخصم
بحرمة الأسقف والمطران ... والجاثليق العالم الرباني

والقس والشماس والديراني ... والبطرك الأكبر والرهبان
بحرمة المحبوس في أعلى الجبل ... ومار قولا حين صلى وابتهل
وبالكنيسات القديمات الأول ... وبالمسيح المرتضى وما فعل
بحرمة الأسقوفيا والبيرم ... وماحوى مفرق رأس مريم
بحرمة الصوم الكبير الأعظم ... وحق كل كاهن مقدم
بحق يوم الذبح ذي الإشراق ... وليلة الميلاد والتلاقي
والذهب المذهب للنفاق ... والفصح يا مهذب الأخلاق
بكل قداس على قداس ... قدسه القس مع الشماس
وقربوا يوم الخميس الناسي ... وقدموا الكأس لكل حاسى
الا رغبت في رضا أديب ... باعده الحب عن الحبيب
فذاب من شوق إلى المذيب ... أعلى مناه أيسر التقريب
فانظر أميري في صلاح أمري ... محتسباً في عظيم الأجر
مكتسباً في جميل الشكر ... في نثر ألفاظ ونظم شعر
ثم إن مدركاً وسوس وسل جسمه وذهب عقله وانقطع عن إخوانه ولزم الفراش.
حكى حسان بن محمد بن عيسى قال: حضرته عائدا مع جماعة من أصحابه فقال: الست صاحبكم القديم العشرة لكم؟ أما منكم أحد يسعدني بنظرة إلى وجه عمرو؟ قال فمضينا بأجمعنا إلى عمرو وقلنا له: إن كان قتل هذا الرجل ديناً فإن إحياءه مروءة، قال وما فعل؟ قلنا قد صار إلى حال مانحسبك تلحقه، قال فلبس ثيابه ثم نهض معنا، فلما دخلنا عليه سلم عليه عمرو وأخذ بيده فقال: كيف تجدك ياسيدي؟ فنظر إليه ثم أغمي عليه، ثم أفاق وهو يقول:
أنا في عافية إل ... لا من الشوق اليكا
أيها العائد مابي ... منك لايخفى عليكا
لاتعد جسماً وعد قل ... باً رهيناً في يديكا
كيف لايهلك مرشو ... ق بسهمي مقلتيكا
ثم إنه شهق شهقة فارق فيها الدنيا، فما برحنا حتى دفناه.

مرجي بن كوثر
أبو القاسم المقري النحوي المؤدب، أديب نحوي كان مقيماً بحلب، وله المفيد في النحو، وكتاب الضاد والظاء، وكانت بينه وبين أبي العلاء المعري مكاتبة.
مروان بن سعيد بن عباد بن حبيب
ابن المهلب بن أبي صفرة المهلي، أحد أصحاب الخليل ابن المتقدمين في النحو المبرزين فيه، سمعت بعض النحويين ينسب إليه هذا البيت:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله ألقاها
ولاأعلم من أمره غير هذا
مسعود بن علي بن أحمد
بن العباس الصواني البهيقي أبو المحاسن، قال البهيقي في الوشاح الزمان وأوحد الأقران، ومن لاينظر الأدب إلا بعينه، ولا يسمع الشعر إلا بإذنه، صنف تفسير القرآن، وشرح الحماسة، وصيقل الألباب في الأصول، والتوابع واللوامع في الأصول، والتذكرة أربع مجلدات، وأعلاق الملوين وأخلاق الأخوين مجلدان، والتنقيح في أصول الفقه، ونفثة المصدور، وديوان أشعاره مجلد.
مات في الثالث والعشرين من محرم سنة أربع وأربعين وخمسمائة. وله:
تكلف المجد أقوام وقد سئموا ... منه وإنك مشغوف به كلف
كأنك الدرة الزهراء في صدف ... والناس حولك طرا ذلك الصدف
مصدق بن شبيب بن الحسين
أبو الخير الصلحي النحوي، صحب الشيخ صدقة الواعظ وهو صبي وقرأ عليه القرآن وشيئاً من النحو، وقدم بغداد فقرأ على ابن الخشاب وحبشي وأبي الحسن بن العطار والكمال الأنباري، وطلب الأدب حتى برز فيه، وسمع الحديث وتخرج به جماعة مناهل الأدب، ولم يكن في العبارة بذلك وإنما كان رجلاً صالحاً، فكان تستفاد بركته، ولد سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، ومات في ليلة الإثنين الثالث والعشرين من ربيع الاول سنة خمس وستمائة.
مظفر بن إبراهيم

بن جماعة بن علي بن سامي ابن أحمد بن ناهض بن عبد الرزاق موفق الدين، أبو العز الأعمى العيلاني بالعين المهملة المصري، كان نحوياً عروضياً أديباً شاعراً مجيداً، صنف في العروض مختصراً دل على حذقه فيه. وله ديوان شعر، ولد لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وهو اليوم بها في قيد الحياة، ومن شعره الذي وصل إلينا قوله:
قبلته فتلظى ورد وجنته ... وفاح من عارضيه العنبر العبق
وجال بينهما ماء ومن عجب ... لاينطفي ذا و لاذا منه يحترق
وله:
يا نائماً أسهرني حبه ... وعائداً أمرضني طبه
وخادعاً رق لحبي له ... كلامه وقسا قلبه
قلنا على حسنك عيني جنت ... جثماني الناحل ماذنبه؟
وله أيضاً:
وشادن كان زمان الصبا ... بدولة المرد له صوله
قد كتب الشعر على خده ... خفض فهذا آخر الدولة
وله أيضاً:
قالوا عشقت وأنت أعمى ... ظبياً كحيل الطرف ألمى
والله ما عاينتها ... فكأنها شغفتك وهما
وخياله بك في المنا ... م فما أطاف ولا ألما
من أين أرسل للفؤا ... د وأنت لم تبصره سهما
ومتى رأيت جماله ... حتى كساك هواه سقما
وبأي جارحة وصل ... ت لوصفه نثراً ونظما
والعين راعية الهوى ... وبها يتم إذا استتما
فأجبت إني موسي ... ى العشق إنصاتاً وفهما
أهوى بجارحة السما ... ع ولا أرى ذات المسمى
وقال في شمعة:
جادت بجسم لسانه ذرب ... تبكي وتشكو الهوى وتلتهب
كأنها في يمين حاملها ... رمح لجين سنانه ذهب
وله:
وروضات بنفسجها ... بصبغة صنعة الباري
كخرم لازوردي ... على ألفات زنجار
وله:
هويت هلالاً سرى في الدجى ... وهاروت من جند أجفانه
فلا تعجبوا إن بدا وجهه ... نهاراً وعظمت من شانه
فإن الهلال يرى طالعاً ... مع الشمس في بعض أحيانه
وله أيضاً:
وزهرة لونها من العجب ... بيضاء فيها اصفرار مكتئب
كأنها درهم وقد جعلت ... في وسطه نقطة من الذهب

المعافي بن زكريا
بن يحيى بن حماد بن داود النهرواني الجريري بفتح الجيم نسبة إلى ابن جرير الطبري، المعروف بابن طرارة، كان من أعلم الناس بفقه مذهب ابن جرير والنحو واللغة وفنون الأدب والأخبار والأشعار، وكان ثقة ثبتا،أخذ الأدب عن أبي عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة المعروف بنفطويه وغيره. وروى عن أبي القاسم البغو وأبي حامد محمد بن هارون الحضرمي وأبي بكر بن داود وأبي سعيد العدوي ويحيى بن صاعد وغيرهم، وروى عنه جماعة منهم القاضي أبو الطيب الطبري وأبوالقاسم الأزهري وأحمد بن علي الثوري وأحمد بن عمر أبن روح، وولى القضاء بباب الطاق نيابة عن القاضي ابن صير، كتاب الجليس والأنيس في الأدب، والتفسير الكبير، ونصر مذهب ابن جرير الطبري ونوه به وحامى عنه.
قال أبو حيان التوحيدي: رأيته في جامع الرصافة وقد نام مستدبر الشمس في يوم شات وبه من أثر الفقر والبؤس والضر أمر عظيم مع غزارة علمه واتساع أدبه وفضله المشهور، ومعرفته بصنوف العلوم ولاسيما علم الأثر والأخبار وسير العرب وأيامها فقلت له: مهلاً أيها الشيخ وصبراً فإنك بعين الله ومرأى منه ومسمع، وما جمع الله لأحد شرف العلم وعز المال فقال: ما لابد منه من الدنيا فليس منه بد ثم قال:
يا محنة الدهر كفى ... إن لم تكفي فخفي
قد آن أن ترحمينا ... من طول هذا التشفي
طلبت جداً لنفسي ... فقيل لي قد توفي
فلا علومي تجدي ... ولا صناعة كفي
ثور ينال الثري ... يا وعالم متخفي

وقال أحمد بن عمر بن روح: إن المعافي بن زكريا حضر في دار بعض الرؤساء وكان هناك جماعة مناهل العلم فقالوا له: في أي نوع من العلم نتذاكر؟ فقال المعافي للرئيس صاحب الدار: إن خزانتك جمعت أنواع العلوم وأصناف الأدب، فإن رأيت أن تبعث الغلام إليها يضرب بيده إلى أي كتاب منها فيحمله إليك ثم نفتحه فنظر في أي علم هو؟ فنتذاكر ونتجارى فيه، فقال ابن روح: وهذا يدل على أن المعافي كان له أنسة بسائر العلوم، وكان أبو محمد الباقر يقول: إذا حضر المعافي فقد حضرت العلوم كلها، وكان يقول أيضاً: لو أن رجلاً أوصى بثلث ماله لاعلم الناس لوجب أن يدفع إلى المعافي. وكانت ولادته يوم الخميس لسبع خلون من رجب سنة خمس وثلاثمائة، وقيل سنة ثلاث، وتوفي يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة تسعين وثلاثمائة. ومن شعره:
خالق العالمين ضامن رزقي ... فلماذا أملك الخلق رقي؟
قد قضي لي بما علي ومالي ... خالقي جل ذكره قبل خلقي
أصحب البذل والندى في يساري ... ورفيقي في عسرتي حسن رفقي
فكما لا يرد عجزي رزقي ... فكذا لايجر رزقي حذقي
وذكر أنه عمل هذه الأبيات في معنى قول علي بن الجهم:
لعمرك ما كل التعطل ضابر ... ولا كل شغل فيه للمرء منفعة
إذا كانت الأرزاق في القرب والنوى ... عليك سواء فاغتنم راحة الدعه
وقال أيضاً:
ألا قل لمن كان لي حاسداً ... أتدري على من أسأت الأدب؟
أسأت على الله في فعله ... لأنك لم ترض لي ماوهب

- معاوبة بن عمر بن أبي عقرب
أبو نوفل الدولي، كان فقيهاً نحوياً، ذكر عن أبي عمرو ابن العلاء قال: كنت آتي أبا نوفل أنا وشعبة بن الحجاج، فكان شعبة يسأله عن الاثار وأسأله أنا عن النحو والشعر فلم يعلم شعبة شيئاً مما أسأل ه عنه، ولا أعلم أننا شيئاً مما يسأل عنه شعبة.
معمر بن المثنى
أبو عبيدة البصري مولى بني تيم، تيم قريش لا يتم الرباب، كان من أعلم الناس باللغة وأنساب العرب وأخبارها، وهو أول من صنف غريب الحديث، أخذعن يونس بن حبيب وأبي عمرو بن العلاء، وأسند الحديث إلى هشام بن عروة الإمام الحجة. قال يعقوب بن شيبة: سمعت ابن المديني يصحح رواية أبي عبيدة. وقال الدار قطي لابأس به، إلا أنه يتهم بشيء من رأي الخوارج ويتهم بالأحداث، واخذ عن أبي عبيدة أبو عبيد القاسم بن سلام، والأثرم علي بن المغيرة، وأبو عثمان المازني، وأبو حاتم السجستاني، وعمر بن شبة النميري وغيرهم. وقال أبو العباس المبرد: كان أبو عبيدة عالماً بالشعر والغريب والأخبار والنسب، وكان الأصمعي أعلم منه بالنحو، وكان العم من الأصمعي وأبي زيد بالأنساب، وكان أبو نواس يتعلم منه ويمدحه ويذم الأصمعي، سئل عن الأصمعي يوماً فقال: بلبل في قفص، وسئل عن أبي عبيدة فقال: أديم طوى على علم. وقال بعضهم: كان الطلبة إذا أتوا مجلس الأصمعي اشتروا البعر في سوق الدر، وإذا أتوا مجلس أبي عبيدة اشتروا الدر في سوق البعر، لأن الأصمعي كان حسن الإنشاء والزخرفة قليل الفائدة، وأبو عبيدة بضد ذلك. وقال يزيد بن مرة: كان أبو عبيدة ما يفتش عن العلوم إلا كان من يفتشه عنه يظن أنه لايحسن غيره، ولايقوم بشيء أجود من قيامه به. قال أبو حاتم: وكان مع علمه إذا قرأ البيت لم يقم إعرابه وينشده مختلف العروض. وقال ابن قتيبة: كان الغريب أغلب عليه وأيام العروض. وقال ابن قتيبة: كان الغريب أغلب عليه وأيام العرب أخبرها. وقال الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا إجماعي أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة.
ويحكى أنه كان يرى رأى الخوارج الإباضية. وقيل: كان شعوبياً يطعن في الأنساب. قال: قال أبو العيناء: قال رجل لأبي عبيدة ياأبا عبيدة: قد ذكرت الناس وطعنت في أنسابهم، فبالله إلا ماعرفتني من أبوك وماأصله؟

فقال: حدثني أبي أن أباه كان يهودياً. وحدث الصولي عن محمد بن سعيد عن عيسى بن اسماعيل قال: جلس إبان ابن عبد الحميد اللاحقي ليلة في قوم فثلب أبا عبيدة فقال في مجلسه: لقد أغفل السلطان كل شيء حين أغفل أخذ الجزية من أبان اللاحقي، وهو وأهله يهود وهذه منازلهم فيها أسفار التوراة وليس فيها مصحف، وأوضح دلالة على يهوديتهم أن أكثرهم يدعى حفظ التوراة ولايحفظ من القرآن مايصلى به، فبلغ ذلك أبان فقال:
لاتنمن عن صديق حديثاً ... واستعذ من تسرر النمام
واخفض الصوت إن نطقت بليل ... والتفت بالنهار قبل الكلام
وحكى أبو الحسن الأسدي قال: حدثنا حماد بن إسحاق الموصلي عن أبيه قال: أنشدت الفضل بن الربيع أبياتاً كان الأصمعي أنشدنيها في صفة فرس له وهي:
كأنه في الحل وهو سام ... مشتمل جاء من الحمام
يسور بين السرج واللجام ... سور القطا خف إلى اليمام
قال: ودخل الأصمعي فسمعني أنشدها فقال: هات بقيتها فقلت: ألم تقل إنه لم يبق منها شيء؟ فقال: مابقي منها إلا عيونها، ثم أنشد بعدها ثلاثين بيتاً فغاظى فعله، فلما خرج عرفت الفضل بن الربيع قلة شكره لعارفةٍ وبخله بما عنده، ووصفت له فضل أبي عبيدة معمر بن المثنى وعلمه ونزاهته، وبذله ماعنده واشتماله على جميع علوم العرب، ورغبته فيه حتى أنفذ إليه مالاً جليللاً واستقدمه فكنت سبب مجيئه من البصرة.
قال أبو عبيدة: أرسل إلى الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه سنة ثمان وثمانين ومائة، فقدمت إلى بغداد واستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت عليه وهو في مجلس له طويل عريض فيه بساط واحد قد ملاه، وفي صدره فرش عالية لا يرتقي إليها على كرسي وهو جالس عليها فسلمت عليه بالوزارة فرد وضحك إلي واستدناني حتى جلست إليه على فرشه ثم سألني وألطفني وباسطني وقال: أنشدني، فأنشدته فطرب وضحك وزار نشاطه، ثم دخل رجل في زي الكتاب له هيئة فأجلسه إلى جانبي وقال له: أتعرف هذا؟ قال لا: قال: هذا أبو عبيدة علامة أهل البصرة، أقدمناه لنستفيد من علمه، فدعا له الرجل وقرظه لفعله هذا وقال لي: إني كنت إليك مشتاقا، وقد سألت عن مسألة أفتأذن لي أن أعرفك إياها، فقلت هات، قال الله عز وجل: (طلعها كأنه رؤوس الشياطين)، وإنما يقع الوعد والأبعاد بما عرف مثله وهذا لم يعرف. فقلت: إنما كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وهم لم يروا الغول قط، ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به، فاستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل، وعزمت من ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن في مثل هذا وأشباهه وما يحتاج إليه من علمه، فلما رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته المجاز، وسألت عن الرجل السائل فقيل لي: هو من كتاب الوزير وجلسائه، وهو إبراهيم بن إسماعيل الكاتب.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15