كتاب : المحلى
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري

وَذَهَبَ الأَوْزَاعِيُّ إلَى أَنَّ النَّوْمَ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَيْف كَانَ. وَهُوَ قَوْلٌ صَحِيحٌ, عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَنْ مَكْحُولٍ وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ نَذْكُرُ بَعْضَ ذَلِكَ بِإِسْنَادِهِ ; لإِنَّ الْحَاضِرِينَ مِنْ خُصُومِنَا لاَ يَعْرِفُونَهُ, وَلَقَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ الإِجْمَاعَ عَلَى خِلاَفِهِ جَهْلاً وَجُرْأَةً.
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَوْنِ اللَّهِ, حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ, حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ, حدثنا شُعْبَةُ, عَنْ قَتَادَةَ, عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْتَظِرُونَ الصَّلاَةَ فَيَضَعُونَ جُنُوبَهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَنَامُ ثُمَّ يَقُومُونَ إلَى الصَّلاَةِ " .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ, حدثنا خَالِدٌ, هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ, حدثنا شُعْبَةُ, عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْت أَنَسًا يَقُولُ: "كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنَامُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ, وَلاَ يَتَوَضَّئُونَ " فَقُلْت لِقَتَادَةَ: سَمِعْته مِنْ أَنَسٍ قَالَ إي وَاَللَّهِ.
قال أبو محمد: “ لَوْ جَازَ الْقَطْعُ بِالإِجْمَاعِ فِيمَا لاَ يُتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَشِذَّ عَنْهُ أَحَدٌ لَكَانَ هَذَا يَجِبُ أَنْ يُقْطَعَ فِيهِ بِأَنَّهُ إجْمَاعٌ, لاَ لِتِلْكَ الأَكَاذِيبِ الَّتِي لاَ يُبَالِي مَنْ لاَ دِينَ لَهُ بِإِطْلاَقِ دَعْوَى الإِجْمَاعِ فِيهَا.
وَذَهَبَ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ إلَى أَنَّ النَّوْمَ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إلاَّ نَوْمَ الْمُضْطَجِعِ فَقَطْ, وَهُوَ قَوْلٌ رُوِيَ, عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُمَا, وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ صَحَّ عَنْهُ, وَصَحَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعَنْ عَطَاءٍ وَاللَّيْثِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ لاَ يَنْقُضُ النَّوْمُ الْوُضُوءَ إلاَّ أَنْ يَضْطَجِعَ أَوْ يَتَّكِئَ أَوْ

مُتَوَكِّئًا عَلَى إحْدَى أَلْيَتَيْهِ أَوْ إحْدَى وَرِكَيْهِ فَقَطْ, وَلاَ يَنْقُضُهُ سَاجِدًا أَوْ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ رَاكِعًا, طَالَ ذَلِكَ أَوْ قَصُرَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ نَامَ سَاجِدًا غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ فَوُضُوءُهُ بَاقٍ, وَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ بَطَلَ وُضُوءُهُ, وَهُوَ لاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْغَلَبَةِ فِيمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَالصَّلاَةَ مِنْ غَيْرِ هَذَا, وَهُوَ قَوْلٌ لاَ نَعْلَمُهُ, عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ إلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ ذَلِكَ, عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالْحَكَمِ, وَلاَ نَعْلَمُ كَيْفَ قَالاَ.
وقال مالك وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَنْ نَامَ نَوْمًا يَسِيرًا وَهُوَ قَاعِدٌ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ وَكَذَلِكَ النَّوْمُ الْقَلِيلُ لِلرَّاكِبِ, وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ نَحْوَ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ أَيْضًا, وَرَأْيِ أَيْضًا فِيمَا عَدَا هَذِهِ الأَحْوَالِ أَنَّ قَلِيلَ النَّوْمِ وَكَثِيرَهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ, وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ, وَذُكِرَ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَصِحَّ.
وقال الشافعي: جَمِيعُ النَّوْمِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ, قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ إلاَّ مِنْ نَامَ جَالِسًا غَيْرَ زَائِلٍ, عَنْ مُسْتَوَى الْجُلُوسِ, فَهَذَا لاَ يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ, طَالَ نَوْمُهُ أَوْ قَصُرَ, وَمَا نَعْلَمُ هَذَا التَّقْسِيمَ يَصِحُّ, عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ, إلاَّ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ ذَكَرَ ذَلِكَ, عَنْ طَاوُوس وَابْنِ سِيرِينَ, وَلاَ نُحَقِّقُهُ.
قال أبو محمد: “ احْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ النَّوْمَ حَدَثًا بِالثَّابِتِ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ, وَلاَ يُعِيدُ وُضُوءًا ثُمَّ يُصَلِّي.
قال أبو محمد: “ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ, لإِنَّ عَائِشَةَ, رضي الله عنها, ذَكَرَتْ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ قَالَ: إنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ, وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي" فَصَحَّ أَنَّهُ عليه السلام بِخِلاَفِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ, وَصَحَّ أَنَّ نَوْمَ الْقَلْبِ الْمَوْجُودِ مِنْ كُلِّ مَنْ دُونَهُ هُوَ النَّوْمُ الْمُوجِبُ لِلْوُضُوءِ, فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَوَجَدْنَا مِنْ حُجَّةِ مَنْ لاَ يَرَى الْوُضُوءَ مِنْ النَّوْمِ إلاَّ مِنْ الاِضْطِجَاعِ حَدِيثًا رُوِيَ فِيه: "إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ" وَحَدِيثًا

آخَرَ فِيهِ: "أَعَلَيَّ فِي هَذَا وُضُوءٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لاَ إلاَّ أَنْ تَضَعَ جَنْبَك" وَحَدِيثًا آخَرَ فِيهِ: "مَنْ وَضَعَ جَنْبَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ" .
قال أبو محمد: “ وَهَذَا كُلُّهُ لاَ حُجَّةَ فِيهِ.
أَمَّا الْحَدِيثُ الأَوَّلُ فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ السَّلاَمِ بْنِ حَرْبٍ, عَنْ أَبِي خَالِدٍ الدَّالاَنِيِّ, عَنْ قَتَادَةَ, عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَعَبْدُ السَّلاَمِ ضَعِيفٌ لاَ يُحْتَجُّ بِهِ, ضَعَّفَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ, وَالدَّالاَنِيُّ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ,
رُوِّينَا, عَنْ شُعْبَةَ, أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَسْمَعْ قَتَادَةُ مِنْ أَبِي الْعَالِيَةِ إلاَّ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ, لَيْسَ هَذَا مِنْهَا, فَسَقَطَ جُمْلَةً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

وَالثَّانِي لاَ تَحِلُّ رِوَايَتُهُ إلاَّ عَلَى بَيَانِ سُقُوطِهِ ; لاَِنَّهُ رِوَايَةُ بَحْرِ بْنِ كُنَيْزٍ السَّقَّاءِ, وَهُوَ لاَ خَيْرَ فِيهِ مُتَّفَقٌ عَلَى إطْرَاحِهِ, فَسَقَطَ جُمْلَةً.
وَالثَّالِثُ رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَحْيَى وَهُوَ ضَعِيفٌ يُحَدِّثُ بِالْمَنَاكِيرِ فَسَقَطَ هَذَا

الْبَابُ كُلُّهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
وَذَكَرُوا أَيْضًا حَدِيثًا فِيهِ: "إذَا نَامَ الْعَبْدُ سَاجِدًا بَاهَى اللَّهُ بِهِ الْمَلاَئِكَةَ" وَهَذَا لاَ شَيْءَ ; لاَِنَّهُ مُرْسَلٌ لَمْ يُخْبِرْ الْحَسَنَ مِمَّنْ سَمِعَهُ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إسْقَاطُ الْوُضُوءِ عَنْه"ُ.
وَذَكَرُوا أَيْضًا حَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ أَحَدُهُمَا, عَنْ عَطَاءٍ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَالآخَرُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ, عَنْ نَافِعٍ, عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِيهِمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ الصَّلاَةَ حَتَّى نَامَ النَّاسُ ثُمَّ اسْتَيْقَظُوا ثُمَّ نَامُوا, ثُمَّ اسْتَيْقَظُوا, فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: الصَّلاَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّوْا, وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ تَوَضَّئُوا.
قال أبو محمد: “ وَالثَّانِي مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ, عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ, عَنْ أَنَسٍ: "أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنَاجِي رَجُلاً, فَلَمْ يَزَلْ يُنَاجِيه حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ, ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى بِهِمْ" وَحَدِيثًا ثَابِتًا مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ, عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعِشَاءِ, حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ: نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ, فَخَرَجَ عليه السلام".
قال أبو محمد: “ وَكُلُّ هَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَحْوَالِ النَّائِمِ, وَلاَ بَيْنَ أَحْوَالِ النَّوْمِ, لاَِنَّهَا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ حَالِ مَنْ نَامَ كَيْف نَامَ, مِنْ جُلُوسٍ أَوْ اضْطِجَاعٍ أَوْ اتِّكَاءٍ أَوْ تَوَرُّكٍ أَوْ اسْتِنَادٍ, وَإِنَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَا مَنْ لاَ يَرَى الْوُضُوءَ مِنْ النَّوْمِ أَصْلاً, وَمَعَ ذَلِكَ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّ

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بِنَوْمِ مَنْ نَامَ, وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْوُضُوءِ, وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ إلاَّ فِيمَا عَلِمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَقَرَّهُ, أَوْ فِيمَا أَمَرَ بِهِ, أَوْ فِيمَا فَعَلَهُ, فَكَيْفَ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ: "أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إسْلاَمٌ يَوْمئِذٍ إلاَّ بِالْمَدِينَةِ, فَلَوْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام عَلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَكَانَ حَدِيثُ صَفْوَانَ نَاسِخًا لَهُ ; لإِنَّ إسْلاَمَ صَفْوَانَ مُتَأَخِّرٌ فَسَقَطَ التَّعَلُّقُ بِهَذِهِ الأَخْبَارِ جُمْلَةً, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ".
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فَلاَ مُتَعَلَّقَ لِمَنْ ذَهَبَ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا لاَ بِقُرْآنٍ, وَلاَ بِسُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ سَقِيمَةٍ, وَلاَ بِعَمَلِ صَحَابَةٍ, وَلاَ بِقَوْلٍ صَحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم,, وَلاَ بِقِيَاسٍ, وَلاَ بِاحْتِيَاطٍ, وَهِيَ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا تَرَى لَيْسَ لاَِحَدٍ مِنْ مُقَلِّدِيهِمْ أَنْ يَدَّعِيَ عَمَلاً إلاَّ كَانَ لِخُصُومِهِ أَنْ يَدَّعِيَ لِنَفْسِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَدْ لاَحَ أَنَّ كُلَّ مَا شَغَبُوا بِهِ مِنْ أَفْعَالِ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, فَإِنَّمَا هُوَ إيهَامٌ مُفْتَضَحٌ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمْ نَامُوا عَلَى الْحَالِ الَّتِي يُسْقِطُونَ الْوُضُوءَ عَمَّنْ نَامَ كَذَلِكَ, فَسَقَطَتْ الأَقْوَالُ كُلُّهَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَنِ إلاَّ قَوْلَنَا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
قال أبو محمد: “ وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو النَّوْمُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ النَّوْمُ حَدَثًا وَأَمَّا أَنْ لاَ يَكُونَ حَدَثًا, فَإِنْ كَانَ لَيْسَ حَدَثًا فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ, كَيْفَ كَانَ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ, وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِهِمْ, وَإِنْ كَانَ حَدَثًا فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ كَيْف كَانَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ, وَهَذَا قَوْلُنَا فَصَحَّ أَنَّ الْحُكْمَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ أَحْوَالِ النَّوْمِ خَطَأٌ وَتَحَكُّمٌ بِلاَ دَلِيلٍ, وَدَعْوَى لاَ بُرْهَانَ عَلَيْهَا.

فإن قال قائل: إنَّ النَّوْمَ لَيْسَ حَدَثًا, وَإِنَّمَا يُخَافُ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ الْمَرْءُ, قلنا لَهُمْ: هَذَا لاَ مُتَعَلِّقَ لَكُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ, لإِنَّ الْحَدَثَ مُمْكِنٌ كَوْنُهُ مِنْ الْمَرْءِ فِي أَخَفِّ مَا يَكُونُ مِنْ النَّوْمِ, كَمَا هُوَ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِي النَّوْمِ الثَّقِيلِ وَمُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْجَالِسِ كَمَا هُوَ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُضْطَجِعِ, وَقَدْ يَكُونُ الْحَدَثُ مِنْ الْيَقْظَانِ, وَلَيْسَ الْحَدَثُ عَمَلاً يَطُولُ, بَلْ هُوَ كَلَمْحِ الْبَصَرِ, وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّوْمُ الْكَثِيرُ مِنْ الْمُضْطَجِعِ لاَ حَدَثَ فِيهِ, وَيَكُونُ الْحَدَثُ فِي أَقَلِّ مَا يَكُونُ مِنْ نَوْمِ الْجَالِسِ, فَهَذَا لاَ فَائِدَةَ لَهُمْ فِيهِ أَصْلاً,
وَأَيْضًا فَإِنَّ خَوْفَ الْحَدَثِ لَيْسَ حَدَثًا, وَلاَ يَنْتَقِضُ بِهِ الْوُضُوءُ, وَإِنَّمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ يَقِينُ الْحَدَثِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَإِذْ الأَمْرُ كَمَا ذَكَرْنَا فَلَيْسَ إلاَّ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ خَوْفَ كَوْنِ الْحَدَثِ حَدَثًا, فَقَلِيلُ النَّوْمِ وَكَثِيرُهُ يُوجِبُ نَقْضَ الْوُضُوءِ, لإِنَّ خَوْفَ الْحَدَثِ جَارٍ فِيهِ, وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ خَوْفَ الْحَدَثِ لَيْسَ حَدَثًا, فَالنَّوْمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَبَطَلَتْ أَقْوَالُ هَؤُلاَءِ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِيَقِينٍ لاَ شَكَّ فِيهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ قَوْمٌ أَحَادِيثَ مِنْهَا مَا يَصِحُّ وَمِنْهَا مَا لاَ يَصِحُّ, يَجِبُ أَنْ نُنَبِّهَ عَلَيْهَا بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى.
مِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ, رضي الله عنها, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ ; لإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لاَ يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ" , وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ "لَعَلَّهُ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ لاَ يَدْرِي" وَحَدِيثُ أَنَسٍ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَنَمْ حَتَّى يَدْرِيَ مَا يَقْرَأُ" .
قال أبو محمد: “ هَذَانِ صَحِيحَانِ, وَهُمَا حُجَّةٌ لَنَا, لإِنَّ فِيهِمَا أَنَّ النَّاعِسَ لاَ يَدْرِي مَا يَقْرَأُ, وَلاَ مَا يَقُولُ, وَالنَّهْيُ, عَنِ الصَّلاَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ جُمْلَةً, فَإِذْ النَّاعِسُ لاَ يَدْرِي مَا يَقُولُ فَهُوَ فِي حَالِ ذَهَابِ الْعَقْلِ بِلاَ شَكٍّ, وَلاَ يَخْتَلِفُونَ أَنَّ مَنْ ذَهَبَ

عَقْلُهُ بَطَلَتْ طَهَارَتُهُ, فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ النَّوْمُ كَذَلِكَ.
وَالآخَرُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ فَإِذَا نَامَتْ الْعَيْنُ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ" . وَالثَّانِي مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ, عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ" .
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ: لَوْ صَحَّا لَكَانَا أَعْظَمَ حُجَّةً لِقَوْلِنَا, لإِنَّ فِيهِمَا إيجَابَ الْوُضُوءِ مِنْ النَّوْمِ جُمْلَةً, دُونَ تَخْصِيصِ حَالٍ مِنْ حَالٍ, وَلاَ كَثِيرَ نَوْمٍ مِنْ قَلِيلِهِ, بَلْ مِنْ كُلِّ نَوْمٍ نَصًّا, وَلَكِنَّا لَسْنَا مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِمَا لاَ يَحِلُّ الاِحْتِجَاجُ بِهِ نَصْرًا لِقَوْلِهِ, وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَانِ أَثَرَانِ سَاقِطَانِ لاَ يَحِلُّ الاِحْتِجَاجُ بِهِمَا.
أَمَّا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ فَمِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ, عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ, عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَرَاوِيهِ أَيْضًا بَقِيَّةُ, عَنِ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ, وَكِلاَهُمَا ضَعِيفٌ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

والمذي والبول والغائط من أي موضع خرجا إلخ
- مَسْأَلَةٌ: وَالْمَذْيُ وَالْبَوْلُ وَالْغَائِطُ مِنْ أَيْ مَوْضِعٍ خَرَجَا
مِنْ الدُّبُرِ وَالإِحْلِيلِ أَوْ مِنْ جُرْحٍ فِي الْمَثَانَةِ أَوْ الْبَطْنِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجَسَدِ أَوْ مِنْ الْفَمِ. فأما الْمَذْيُ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ تَطْهِيرِ الْمَذْيِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَنْ وَجَدَهُ: "وَلْيَتَوَضَّأْ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَة" . وَأَمَّا الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ فَإِجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ, وَأَمَّا قَوْلُنَا مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ خَرَجَ فَلِعُمُومِ أَمْرِهِ عليه السلام بِالْوُضُوءِ مِنْهُمَا, وَلَمْ يَخُصَّ خُرُوجَهُمَا مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا, وَهَذَانِ الاِسْمَانِ وَاقِعَانِ عَلَيْهِمَا فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَنَا عليه السلام مِنْ حَيْثُ مَا خَرَجَا, وَمِمَّنْ قَالَ بِقَوْلِنَا هَهُنَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ, وَلاَ حُجَّةَ لِمَنْ أَسْقَطَ الْوُضُوءَ مِنْهُمَا إذَا خَرَجَا مِنْ غَيْرِ الْمَخْرَجَيْنِ لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ سَقِيمَةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٍ, بَلْ الْقُرْآنُ جَاءَ بِمَا قُلْنَاهُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وَقَدْ يَكُونُ خُرُوجُ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ مِنْ غَيْرِ الْمَخْرَجَيْنِ, فَلَمْ يَخُصَّ تَعَالَى بِالأَمْرِ بِالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ مِنْ ذَلِكَ حَالاً دُونَ حَالٍ, وَلاَ الْمَخْرَجَيْنِ مِنْ غَيْرِهِمَا, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

والريح الخارجة من الدبر خاصة لا غيره
160 - مَسْأَلَةٌ: وَالرِّيحُ الْخَارِجَةُ مِنْ الدُّبُرِ خَاصَّةً لاَ مِنْ غَيْرِهِ
بِصَوْتٍ خَرَجَتْ أَمْ بِغَيْرِ صَوْتٍ. وَهَذَا أَيْضًا إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ, وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ الْفَسْوِ وَالضُّرَاطِ, وَهَذَانِ الاِسْمَانِ لاَ يَقَعَانِ عَلَى الرِّيحِ أَلْبَتَّةَ إلاَّ إنْ خَرَجَتْ مِنْ الدُّبُرِ, وَإِلاَّ فَإِنَّمَا يُسَمَّى جُشَاءً أَوْ عُطَاسًا فَقَطْ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

فمن كان مستنكحا بشيء مما ذكرنا توضأ ولا بد لكل صلاة
161- مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ كَانَ مُسْتَنْكِحًا بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا تَوَضَّأَ, وَلاَ بُدَّ لِكُلِّ صَلاَةٍ
فَرْضًا أَوْ نَافِلَةً, ثُمَّ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِيمَا خَرَجَ مِنْهُ مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ أَوْ فِيمَا بَيْنَ وُضُوئِهِ وَصَلاَتِهِ, وَلاَ يُجْزِيه الْوُضُوءُ إلاَّ فِي أَقْرَبِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وُضُوءُهُ مِنْ صَلاَتِهِ, وَلاَ بُدَّ لِلْمُسْتَنْكِحِ أَيْضًا أَنْ يَغْسِلَ مَا خَرَجَ مِنْهُ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَذْيِ حَسْبَ طَاقَتِهِ, مِمَّا لاَ حَرَج عَلَيْهِ فِيهِ, وَيَسْقُطُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ عَلَيْهِ الْحَرَجُ مِنْهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ إبْطَالِ الْقِيَاسِ مِنْ صَدْرِ كِتَابِنَا هَذَا, مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقوله تعالى :{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ, وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} فَصَحَّ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالصَّلاَةِ وَالْوُضُوءِ مِنْ الْحَدَثِ, وَهَذَا كُلُّهُ حَدَثٌ, فَالْوَاجِبُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَسْتَطِيعُ, وَمَا لاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ, وَلاَ عُسْرَ, وَهُوَ مُسْتَطِيعٌ عَلَى الصَّلاَةِ وَعَلَى الْوُضُوءِ لَهَا, وَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ, فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِمَا, وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ لِلاِمْتِنَاعِ مِمَّا يَخْرُجُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ, وَفِيمَا بَيْنَ وُضُوئِهِ وَصَلاَتِهِ, فَسَقَطَ عَنْهُ, وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي غَسْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ مِنْ ذَلِكَ. قال أبو محمد: “ وَهَذَا قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الظَّاهِرِ.
وقال أبو حنيفة: يَتَوَضَّأُ هَؤُلاَءِ لِكُلِّ وَقْتِ صَلاَةٍ, وَيُبْقُونَ عَلَى وُضُوئِهِمْ إلَى دُخُولِ وَقْتِ صَلاَةٍ آخَرَ فَيَتَوَضَّئُونَ. وقال مالك: لاَ وُضُوءَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. وقال الشافعي: يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةِ فَرْضٍ فَيُصَلِّي بِذَلِكَ الْوُضُوءِ مَا شَاءَ مِنْ النَّوَافِلِ خَاصَّةً.
قَالَ عَلِيٌّ: إنَّمَا قَالُوا كُلَّ هَذَا قِيَاسًا عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ, عَلَى حَسْبِ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ

مِنْهُمْ فِيهَا, وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ. ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَاطِلاً, لإِنَّ الثَّابِتَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ هُوَ غَيْرُ مَا قَالُوهُ لَكِنَّ مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي بَابِ الْمُسْتَحَاضَةِ, وَهُوَ وُجُوبُ الْغُسْلِ لِكُلِّ صَلاَةِ فَرْضٍ, أَوْ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ثُمَّ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَتَمَةِ. ثُمَّ لِلصُّبْحِ. وَدُخُولُ وَقْتِ صَلاَةٍ مَا لَيْسَ حَدَثًا بِلاَ شَكٍّ, وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَدَثًا فَلاَ يَنْقُضُ طَهَارَةً قَدْ صَحَّتْ بِلاَ نَصٍّ وَارِدٍ فِي ذَلِكَ, وَإِسْقَاطُ مَالِكٍ الْوُضُوءَ مِمَّا قَدْ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ بِالإِجْمَاعِ وَبِالنُّصُوصِ الثَّابِتَةِ خَطَأٌ لاَ يَحِلُّ.
وَقَدْ شَغَبَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا بِمَا رُوِّينَا, عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الْمَذْيِ. قَالَ عُمَرُ: إنِّي لاََجِدُهُ يَنْحَدِرُ عَلَى فَخِذِي عَلَى الْمِنْبَرِ فَمَا أُبَالِيه وَقَالَ سَعِيدٌ مِثْلُ ذَلِكَ, عَنْ نَفْسِهِ فِي الصَّلاَةِ: فَأَوْهَمُوا أَنَّهُمَا رضي الله عنهما كَانَا مُسْتَنْكِحَيْنِ بِذَلِكَ.
قال أبو محمد: “ وَهَذَا كَذِبٌ مُجَرَّدٌ, لاَ نَدْرِي كَيْفَ اسْتَحَلَّهُ مَنْ أَطْلَقَ بِهِ لِسَانَهُ, لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الأَثَرِ, وَلاَ مِنْ غَيْرِهِ نَصٌّ, وَلاَ دَلِيلٌ بِذَلِكَ, وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الإِقْدَامِ عَلَى مِثْلِ هَذَا, وَإِنَّمَا الْحَقُّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ لاَ يَرَى الْوُضُوءَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ, لإِنَّ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ لَمْ تَبْلُغْ عُمَرَ ثُمَّ بَلَغَتْهُ فَرَجَعَ إلَى إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْهُ.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي دُلَيْمٍ, حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ, حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ, حدثنا مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ, عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ, عَنْ أَبِي حَبِيبِ بْنِ يَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ, عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَيَا إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَخَرَجَ إلَيْهِمَا أُبَيّ وَقَالَ: إنِّي وَجَدْت مَذْيًا فَغَسَلْت ذَكَرِي وَتَوَضَّأْت, فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَوَ يُجْزِئُ ذَلِكَ قَالَ نَعَمْ. قَالَ عُمَرُ: أَسَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ.
حدثنا حمام, حدثنا ابْنُ مُفَرِّحٍ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا الدَّبَرِيُّ, حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ, عَنْ مَعْمَرٍ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ, عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ, عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: إنَّهُ لَيَخْرُجُ مِنْ أَحَدِنَا مِثْلُ الْجُمَانَةِ فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَغْسِلْ ذَكَرَهُ

وَلْيَتَوَضَّأْ, وبه إلى عَبْدِ الرَّزَّاقِ, عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَذْيِ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ, فَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ, عَنْ عُمَرَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا خَطَأٌ ظَاهِرٌ ; لإِنَّ مِنْ الْمُحَالِ الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ إنْسَانٌ مُتَوَضِّئًا طَاهِرًا لِنَافِلَةٍ إنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَهَا غَيْرَ مُتَوَضِّئٍ, وَلاَ طَاهِرٍ لِفَرِيضَةِ إنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَهَا, فَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قَطُّ نَصُّ قُرْآنٍ, وَلاَ سُنَّةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٍ, وَلاَ وَجَدُوا لَهُ فِي الآُصُولِ نَظِيرًا, وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ نَظَرٍ وَقِيَاسٍ, وَهَذَا مِقْدَارُ نَظَرِهِمْ وَقِيَاسِهِمْ, وَبَقِيَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ عَارِيًّا مِنْ أَنْ تَكُونُ لَهُ حُجَّةٌ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ أَوْ سَقِيمَةٍ أَوْ مِنْ إجْمَاعٍ أَوْ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ أَوْ مِنْ قِيَاسٍ أَصْلا.ً

فهذه الوجوه تنققض الوضوء عمدا كان أو نسيانا أو بغلبة
162 - مَسْأَلَةٌ: فَهَذِهِ الْوُجُوهُ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عَمْدًا كَانَ أَوْ نِسْيَانًا أَوْ بِغَلَبَةٍ
وَهَذَا إجْمَاعٌ إلاَّ مَا ذَكَرْنَا مِمَّا فِيهِ الْخِلاَفُ, وَقَامَ الْبُرْهَانُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

ومس الرجل ذكر نفسه خاصة عمدا بأي شيء مسه
163 - مَسْأَلَةٌ: وَمَسُّ الرَّجُلِ ذَكَرَ نَفْسِهِ خَاصَّةً عَمْدًا بِأَيِّ شَيْءٍ مَسَّهُ
مِنْ بَاطِنِ يَدِهِ أَوْ مِنْ ظَاهِرِهَا أَوْ بِذِرَاعِهِ حَاشَا مَسِّهِ بِالْفَخِذِ أَوْ السَّاقِ أَوْ الرِّجْلِ مِنْ نَفْسِهِ فَلاَ يُوجِبُ وُضُوءًا وَمَسُّ الْمَرْأَةِ فَرْجَهَا عَمْدًا كَذَلِكَ أَيْضًا سَوَاءً سَوَاءً, وَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالنِّسْيَانِ, وَمَسِّ الرَّجُلِ ذَكَرَ غَيْرِهِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ مَيِّتٍ أَوْ حَيٍّ بِأَيِّ عُضْوٍ مَسَّهُ عَمْدًا مِنْ جَمِيعِ جَسَدِهِ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ, وَمَسُّ الْمَرْأَةِ فَرْجَ غَيْرِهَا عَمْدًا أَيْضًا كَذَلِكَ سَوَاءً سَوَاءً, لاَ مَعْنَى لِلَّذَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, فَإِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى ثَوْبٍ رَقِيقٍ أَوْ كَثِيفٍ, لِلَذَّةٍ أَوْ لِغَيْرِ لَذَّةٍ, بِالْيَدِ أَوْ بِغَيْرِ الْيَدِ, عَمْدًا أَوْ غَيْرَ عَمْدٍ, لَمْ يَنْقُضْ الْوُضُوءَ, وَكَذَلِكَ إنْ مَسَّهُ بِغَلَبَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ فَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاهُ حَمَامُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا الدَّبَرِيُّ, حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ, عَنْ مَعْمَرٍ, عَنِ الزُّهْرِيِّ, عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: "تَذَاكَرَ هُوَ وَمَرْوَانُ الْوُضُوءَ, فَقَالَ مَرْوَانُ حَدَّثَتْنِي بُسْرَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الْفَرْجِ" .

وأكل لحوم الإبل نية ومطبوخة أو مشوية عمدا وهو يدري أنه لحم لجمل إلخ
164 - مَسْأَلَةٌ: وَأَكْلُ لُحُومِ الإِبِلِ نِيئَةً وَمَطْبُوخَةً أَوْ مَشْوِيَّةً عَمْدًا وَهُوَ يَدْرِي أَنَّهُ لَحْمُ
جَمَلٍ أَوْ نَاقَةٍ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ, وَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَكْلُ شُحُومِهَا مَحْضَةً, وَلاَ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهَا غَيْرَ لَحْمِهَا, فَإِنْ كَانَ يَقَعُ عَلَى بُطُونِهَا أَوْ رُءُوسِهَا أَوْ أَرْجُلِهَا اسْمُ لَحْمٍ عِنْدَ الْعَرَبِ نَقَضَ أَكْلُهَا الْوُضُوءَ وَإِلاَّ فَلاَ, وَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كُلُّ شَيْءٍ مَسَّتْهُ النَّارُ غَيْرَ ذَلِكَ, وَبِهَذَا يَقُولُ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ وَجَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ, وَمِنْ الْفُقَهَاءِ أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ.

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا أَبُو كَامِلٍ الْفُضَيْلِ بْنِ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ وَالْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا, قَالَ الْفُضَيْلُ, حدثنا أَبُو عَوَانَةَ, عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ وَقَالَ الْقَاسِمُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى, عَنْ شَيْبَانَ, عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ وَأَشْعَثُ بْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ كِلاَهُمَا, عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ, عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: "سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ قَالَ: إنْ شِئْت فَتَوَضَّأْ, وَإِنْ شِئْت فَلاَ تَتَوَضَّأْ, قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ قَالَ: نَعَمْ فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ" .
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنُ أَيْمَنَ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, حدثنا أَبِي, حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, عَنِ الأَعْمَشِ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ, عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى, عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ, قَالَ: نَعَمْ" .
قال أبو محمد: “ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ أَبُو جَعْفَرٍ قَاضِي الرَّيِّ ثِقَةٌ.
قال أبو محمد: “ وَقَدْ مَضَى الْكَلاَمُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا فِي إبْطَالِ قَوْلِ مَنْ تَعَلَّلَ فِي رَدِّ السُّنَنِ بِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى, وَإِبْطَالِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَعَلَّ هَذَا الْوُضُوءَ غَسْلُ الْيَدِ, فَأَغْنَى, عَنْ إعَادَتِهِ, وَلَوْ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ بِهَذَا يُنْكِرُ عَلَى نَفْسِهِ الْقَوْلَ

بِالْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلاَةِ, وَلاَ يَرَى فِيهَا الْوُضُوءَ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ: لَكَانَ أَوْلَى بِهِ.
وَأَمَّا الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ, فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّتْ فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْهُ أَحَادِيثُ ثَابِتَةٌ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ أُمَّيْ الْمُؤْمِنِينَ وَأَبِي أَيُّوبَ وَأَبِي طَلْحَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ, رضي الله عنهم,, وَقَالَ بِهِ كُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا, وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو مَسْعُودٍ, وَجَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ جُمْلَةً وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَأَبُو مَيْسَرَةَ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَالزُّهْرِيُّ وَسِتَّةٌ مِنْ أَبْنَاءِ النُّقَبَاءِ مِنْ الأَنْصَارِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَعْمَرٌ وَأَبُو قِلاَبَةَ وَغَيْرُهُمْ, وَلَوْلاَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ.
كَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ, حدثنا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ, حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ, حدثنا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ آخِرُ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ فَصَحَّ نَسْخُ تِلْكَ الأَحَادِيثِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ ادَّعَى قَوْمٌ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُخْتَصَرٌ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا أَبُو دَاوُد, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ الْخَثْعَمِيُّ, حدثنا حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: "قُرِّبَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُبْزٌ وَلَحْمٌ فَأَكَلَ ثُمَّ دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ بِهِ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ طَعَامِهِ فَأَكَلَ ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلاَةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ" .
قال أبو محمد: “ الْقَطْعُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ مُخْتَصَرٌ مِنْ هَذَا قَوْلٌ بِالظَّنِّ, وَالظَّنُّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ بَلْ هُمَا حَدِيثَانِ كَمَا وَرَدَا.

قَالَ عَلِيٌّ: وَأَمَّا كُلُّ حَدِيثٍ احْتَجَّ بِهِ مَنْ لاَ يَرَى الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لإِنَّ أَحَادِيثَ إيجَابِ الْوُضُوءِ هِيَ الْوَارِدَةُ بِالْحُكْمِ الزَّائِدَةِ عَلَى هَذِهِ الَّتِي هِيَ مُوَافِقَةٌ لِمَا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ الأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ, وَلَوْلاَ حَدِيثُ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ الَّذِي ذَكَرْنَا لَمَا حَلَّ لاَِحَدٍ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ.
قال أبو محمد: “ فإن قيل: لِمَ خَصَّصْتُمْ لُحُومَ الإِبِلِ خَاصَّةً مِنْ جُمْلَةِ مَا نُسِخَ مِنْ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ
قلنا: لإِنَّ الأَمْرَ الْوَارِدَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ إنَّمَا هُوَ حُكْمٌ فِيهَا خَاصَّةً, سَوَاءٌ مَسَّتْهَا النَّارُ أَوْ لَمْ تَمَسَّهَا النَّارُ, فَلَيْسَ مَسُّ النَّارِ إيَّاهَا إنْ طُبِخَتْ يُوجِبُ الْوُضُوءَ مِنْهَا, بَلْ الْوُضُوءُ وَاجِبٌ مِنْهَا كَمَا هِيَ, فَحُكْمُهَا خَارِجٌ, عَنِ الأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ, وَبِنَسْخِ الْوُضُوءِ مِنْهُ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا أَكْلُهَا بِنِسْيَانٍ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمِ أَنَّهُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ فَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا, عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَسَوَاءٌ ذَلِكَ وَتَرْكُهُ إلاَّ أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ فِي إيجَابِ حُكْمِ النِّسْيَانِ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

ومس الرجل المرآة والمرآة الرجل بأي عضو مس أحدهما الآخر
165 - مَسْأَلَةٌ: وَمَسُّ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ وَالْمَرْأَةِ الرَّجُلَ بِأَيِّ عُضْوٍ مَسَّ أَحَدُهُمَا الآخَرَ
إذَا كَانَ عَمْدًا, دُونَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ أَوْ غَيْرُهُ, سَوَاءٌ أُمُّهُ كَانَتْ أَوْ ابْنَتُهُ, أَوْ مَسَّتْ ابْنَهَا أَوْ أَبَاهَا, الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ سَوَاءٌ, لاَ مَعْنَى لِلَّذَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ مَسَّهَا عَلَى ثَوْبٍ لِلَّذَّةِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ, وَبِهَذَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الظَّاهِرِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} .
قال أبو محمد: “ وَالْمُلاَمَسَةُ فِعْلٌ مِنْ فَاعِلَيْنِ, وَبِيَقِينٍ نَدْرِي أَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَا

مُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الآيَةِ, لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ فِي هَذَا لإِنَّ أَوَّلَ الآيَةِ وَآخِرَهَا عُمُومٌ لِلْجَمِيعِ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا.فَصَحَّ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لاَزِمٌ لِلرِّجَالِ إذَا لاَمَسُوا النِّسَاءَ, وَالنِّسَاءِ إذَا لاَمَسْنَ الرِّجَالَ, وَلَمْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى امْرَأَةً مِنْ امْرَأَةٍ, وَلاَ لَذَّةً مِنْ غَيْرِ لَذَّةٍ, فَتَخْصِيصُ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ, وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ.
وَادَّعَى قَوْمٌ أَنَّ اللَّمْسَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الآيَةِ هُوَ الْجِمَاعُ.
قال أبو محمد: “ وَهَذَا تَخْصِيصٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَيْهِ, وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَاسًا مِنْ لِمَاسٍ فَلاَ يُبَيِّنُهُ. نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى اللِّمَاسَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الآيَةِ هُوَ الْجِمَاعُ بِحَدِيثٍ فِيهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُ, وَلاَ يَتَوَضَّأُ" وَهَذَا حَدِيثٌ لاَ يَصِحُّ ; لإِنَّ رَاوِيَهُ أَبُو رَوْقٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ, وَمِنْ طَرِيقِ رَجُلٍ اسْمُهُ عُرْوَةُ الْمُزَنِيّ, وَهُوَ مَجْهُولٌ, رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الأَعْمَشِ, عَنْ أَصْحَابٍ لَهُ لَمْ يُسَمِّهِمْ, عَنْ عُرْوَةَ الْمُزَنِيِّ, وَهُوَ مَجْهُولٌ

وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ لإِنَّ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ مَنْسُوخٌ بِيَقِينٍ لاَِنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ, وَوَرَدَتْ الآيَةُ بِشَرْعٍ زَائِدٍ لاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ, وَلاَ تَخْصِيصُهُ.
وَذَكَرُوا أَيْضًا حَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: "الْتَمَسْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اللَّيْلِ فَلَمْ أَجِدْهُ, فَوَقَعَتْ يَدَيْ عَلَى بَاطِنِ قَدَمِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ".

قال أبو محمد: “ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لإِنَّ الْوُضُوءَ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْقَاصِدِ إلَى اللَّمْسِ, لاَ عَلَى الْمَلْمُوسِ دُونَ أَنْ يَقْصِدَ هُوَ إلَى فِعْلِ الْمُلاَمَسَةِ ; لاَِنَّهُ لَمْ يُلاَمِسْ, وَدَلِيلٌ آخَرُ, وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ فِي صَلاَةٍ, وَقَدْ يَسْجُدُ الْمُسْلِمُ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ, لإِنَّ السُّجُودَ فِعْلُ خَيْرٍ, وَحَتَّى لَوْ صَحَّ لَهُمْ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ فِي صَلاَةٍ وَهَذَا مَا لاَ يَصِحُّ فَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ, وَلاَ أَنَّهُ صَلَّى صَلاَةً مُسْتَأْنَفَةً دُونَ تَجْدِيدِ وُضُوءٍ, فَإِذًا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فَلاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ بِهِ أَصْلاً. ثُمَّ لَوْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ فِي صَلاَةٍ, وَصَحَّ أَنَّهُ عليه السلام تَمَادَى عَلَيْهَا أَوْ صَلَّى غَيْرَهَا دُونَ تَجْدِيدِ وُضُوءٍ وَهَذَا كُلُّهُ لاَ يَصِحُّ أَبَدًا فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ هَذَا الْخَبَرُ مُوَافِقًا لِلْحَالِ الَّتِي كَانَ النَّاسُ عَلَيْهَا قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ بِلاَ شَكٍّ, وَهِيَ حَالٌ لاَ مِرْيَةَ فِي نَسْخِهَا وَارْتِفَاعِ حُكْمِهِ بِنُزُولِ الآيَةِ, وَمِنْ الْبَاطِلِ الأَخْذُ بِمَا قَدْ تُيُقِّنَ نَسْخُهُ وَتَرْكُ النَّاسِخِ, فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِهَذَا الْخَبَرِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَالْخَبَرُ الثَّانِي مِنْ طَرِيقِ أَبِي قَتَادَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَمَلَ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ وَأُمَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَاتِقِهِ يَضَعُهَا, إذَا سَجَدَ, وَيَرْفَعُهَا إذَا قَامَ" .
قال أبو محمد: “ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ أَصْلاً لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ أَنَّ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا لَمَسَتْ شَيْئًا مِنْ بَشَرَتِهِ عليه السلام, إذْ قَدْ تَكُونُ مُوَشَّحَةً بِرِدَاءٍ أَوْ بِقُفَّازَيْنِ وَجَوْرَبَيْنِ, أَوْ يَكُونُ ثَوْبُهَا سَابِغًا يُوَارِي يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا, وَهَذَا الأَوْلَى أَنْ يُظَنَّ بِمِثْلِهَا بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ, وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ فَلاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ, فَيَكُونَ كَاذِبًا, وَإِذَا كَانَ مَا ظَنُّوا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ وَمَا قلنا مُمْكِنًا

وَاَلَّذِي لاَ يُمْكِنُ غَيْرُهُ, فَقَدْ بَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهِ, وَلَمْ يَحِلَّ تَرْكُ الآيَةِ الْمُتَيَقَّنِ وُجُوبُ حُكْمِهَا لِظَنٍّ كَاذِبٍ, وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} .
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْخَبَرَ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ لَيْسَ فِيهِمَا أَيَّهُمَا كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ, وَالآيَةُ مُتَأَخِّرَةُ النُّزُولِ, فَلَوْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام مَسَّ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا فِي الصَّلاَةِ لَكَانَ مُوَافِقًا لِلْحَالِ الَّتِي كَانَ النَّاسُ عَلَيْهَا قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ, وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ لَوْ صَحَّ لَهُمْ كَمَا يُرِيدُونَ فَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِلاَ شَكٍّ, وَلاَ يَحِلُّ الرُّجُوعُ إلَى الْمُتَيَقَّنِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَتَرْكُ النَّاسِخِ.
فَصَحَّ أَنَّهُمْ يُوهَمُونَ بِأَخْبَارٍ لاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْهَا, يَرُومُونَ بِهَا تَرْكَ الْيَقِينِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ.
وقال أبو حنيفة: لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ قُبْلَةٌ, وَلاَ مُلاَمَسَةٌ لِلَذَّةٍ كَانَتْ أَوْ لِغَيْرِ لَذَّةٍ, وَلاَ أَنْ يَقْبِضَ بِيَدِهِ عَلَى فَرْجِهَا كَذَلِكَ, إلاَّ أَنْ يُبَاشِرَهَا بِجَسَدِهِ دُونَ حَائِلٍ وَيَنْعَظُ فَهَذَا وَحْدَهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
وقال مالك: لاَ وُضُوءَ مِنْ مُلاَمَسَةِ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ, وَلاَ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ, إذَا كَانَتْ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ, تَحْتَ الثِّيَابِ أَوْ فَوْقَهَا, فَإِنْ كَانَتْ الْمُلاَمَسَةُ لِلَّذَّةِ فَعَلَى الْمُلْتَذِّ مِنْهُمَا الْوُضُوءُ سَوَاءٌ كَانَ فَوْقَ الثِّيَابِ أَوْ تَحْتَهَا, أَنْعَظَ أَوْ لَمْ يُنْعِظْ, وَالْقُبْلَةُ كَالْمُلاَمَسَةِ فِي كُلِّ ذَلِكَ, وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وقال الشافعي كَقَوْلِنَا, إلاَّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ مَسَّ شَعْرِ الْمَرْأَةِ خَاصَّةً لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
قال أبو محمد: “ أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرُ التَّنَاقُضِ, وَلاَ يُمْكِنُهُ التَّعَلُّقُ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ قَوْمٌ فِي الآيَةِ: إنَّ الْمُلاَمَسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهَا هُوَ الْجِمَاعُ فَقَطْ لاَِنَّهُ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ إذَا كَانَ مَعَهَا إنْعَاظٌ,
وَأَمَّا مُنَاقَضَتُهُ فَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ الْقُبْلَةِ يَكُونُ مَعَهَا إنْعَاظٌ فَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. وَبَيْنَ الْمُبَاشَرَةِ يَكُونُ مَعَهَا إنْعَاظٌ فَتَنْقُضُ الْوُضُوءَ, وَهَذَا فَرْقٌ لَمْ يُؤَيِّدْهُ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ, وَلاَ سَقِيمَةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٌ, بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِكُلِّ ذَلِكَ, وَمِنْ مُنَاقَضَاتِهِ أَيْضًا أَنَّهُ جَعَلَ الْقُبْلَةَ لِشَهْوَةٍ

وَاللَّمْسَ لِشَهْوَةٍ بِمَنْزِلَةِ الْقُبْلَةِ لِغَيْرِ الشَّهْوَةِ, وَاللَّمْسِ لِغَيْرِ الشَّهْوَةِ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ, ثُمَّ رَأَى أَنَّ الْقُبْلَةَ لِشَهْوَةٍ وَاللَّمْسَ لِشَهْوَةٍ رَجْعَةٌ فِي الطَّلاَقِ, بِخِلاَفِ الْقُبْلَةِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَاللَّمْسِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ, وَهَذَا كَمَا تَرَى لاَ اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ, وَلاَ التَّعَلُّقَ بِالسُّنَّةِ, وَلاَ طَرْدَ قِيَاسٍ, وَلاَ سَدَادَ رَأْيٍ, وَلاَ تَقْلِيدَ صَاحِبٍ, وَنَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي مُرَاعَاةِ الشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ, فَقَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ سَقِيمَةٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ ضَبْطِ قِيَاسٍ, وَلاَ احْتِيَاطٍ, وَكَذَلِكَ تَفْرِيقُ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ الشَّعْرِ وَغَيْرِهِ, فَقَوْلٌ لاَ يُعَضِّدُهُ أَيْضًا قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٌ, بَلْ هُوَ خِلاَفُ ذَلِكَ كُلِّهِ, وَهَذِهِ الأَقْوَالُ الثَّلاَثَةُ كَمَا أَوْرَدْنَاهَا لَمْ نَعْرِفْ, أَنَّهُ قَالَ بِهَا أَحَدٌ قَبْلَهُمْ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فإن قيل: قَدْ رَوَيْتُمْ, عَنِ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ: إذَا قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ لِشَهْوَةٍ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَعَنْ حَمَّادٍ: أَيُّ الزَّوْجَيْنِ قَبَّلَ صَاحِبَهُ وَالآخَرُ لاَ يُرِيدُ ذَلِكَ, فَلاَ وُضُوءَ عَلَى الَّذِي لاَ يُرِيدُ ذَلِكَ, إلاَّ أَنْ يَجِدَ لَذَّةً, وَعَلَى الْقَاصِدِ لِذَلِكَ الْوُضُوءُ. قلنا: قَدْ صَحَّ, عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَحَمَّادٍ إيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْ الْقُبْلَةِ عَلَى الْقَاصِدِ بِكُلِّ حَالٍ, وَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَاللَّذَّةُ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْقَوْلِ, وَبِهِ نَقُولُ, وَلَيْسَ ذَلِكَ قَوْلَ مَالِكٍ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ مَالِكًا لاَ يَرَى الْوُضُوءَ مِنْ الْمُلاَمَسَةِ إلاَّ حَتَّى يَكُونَ مَعَهَا شَهْوَةٌ, ثُمَّ لاَ يَرَى الْوُضُوءَ يَجِبُ مِنْ الشَّهْوَةِ دُونَ مُلاَمَسَةٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ لاَ يُوجِبُ الْوُضُوءَ عَلَى انْفِرَادِهِ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ إيجَابُ الْوُضُوءِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا.

وإيلاج الذكر فيث الفرج يوجب الوضوء كان معه إنزال أو لم يكن
166 - مَسْأَلَةٌ: وَإِيلاَجُ الذَّكَرِ فِي الْفَرْجِ يُوجِبُ الْوُضُوءَ, كَانَ مَعَهُ إنْزَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ, حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ, حدثنا هِشَامٌ, هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ, عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, عَنِ الرَّجُلِ يُصِيبُ مِنْ الْمَرْأَةِ ثُمَّ يَكْسَلُ, قَالَ: يَغْسِلُ مَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَرْأَةِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي". وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا, عَنْ شُعْبَةَ, عَنِ الْحَكَمِ, عَنْ أَبِي صَالِحٍ, عَنْ ذَكْوَانَ, عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَالْوُضُوءُ لاَ بُدَّ مِنْهُ مَعَ الْغُسْلِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وحمل الميت في نعش أو في غيره
167 - مَسْأَلَةٌ: وَحَمْلُ الْمَيِّتِ فِي نَعْشٍ أَوْ فِي غَيْرِهِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الأَسَدِيُّ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ, حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ, حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ, حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو, عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ حَمَلَهَا فَلْيَتَوَضَّأْ" . قال أبو محمد: “ يَعْنِي الْجِنَازَةَ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ, عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ إِسْحَاقَ مَوْلَى زَائِدَةَ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِسْحَاقُ مَوْلَى زَائِدَةَ ثِقَةٌ مَدَنِيٌّ وَتَابِعِيٌّ, وَثَّقَهُ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْكُوفِيُّ وَغَيْرُهُ, وَرَوَى, عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَرُوِّينَاهُ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ, عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كُنْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ فِي جِنَازَةٍ, فَلَمَّا جِئْنَا دَخَلَ

الْمَسْجِدَ, فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بَيْتَهُ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ لِي: أَمَا تَوَضَّأْتَ قُلْت: لاَ, فَقَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمَنْ دُونَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ إذَا صَلَّى أَحَدُهُمْ عَلَى الْجِنَازَةِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَكْتُوبَةَ تَوَضَّأَ, حَتَّى إنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ فَيَدْعُو بِالطَّشْتِ فَيَتَوَضَّأُ فِيهَا.
قال أبو محمد: “ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُضُوءُهُمْ, رضي الله عنهم,, لإِنَّ الصَّلاَةَ عَلَى الْجِنَازَةِ حَدَثٌ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ إلاَّ إتْبَاعُ السُّنَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا, وَالسُّنَّةُ تَكْفِي. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَقْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ الَّتِي لَمْ يَقُلْهَا أَحَدٌ قَبْلَهُمْ كَثِيرًا, كَالأَبْوَابِ الَّتِي قَبْلَ هَذَا الْبَابِ بِبَابَيْنِ, وَكَنَقْضِ الْوُضُوءِ بِمِلْءِ الْفَمِ مِنْ الْقَلْسِ دُونَ مَا لاَ يَمْلَؤُهُ مِنْهُ, وَسَائِرُ الأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنْهُمْ, لَمْ يَتَعَلَّقُوا فِيهَا بِقُرْآنٍ, وَلاَ سُنَّةٍ, وَلاَ بِقِيَاسٍ, وَلاَ بِقَوْلِ قَائِلٍ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

وظهور دم الإستحاضة أو العرق السائل من الفرج إذا كان بعد انفطاع الحيض
168 - مَسْأَلَةٌ: وَظُهُورُ دَمِ الاِسْتِحَاضَةِ أَوْ الْعِرْقِ السَّائِلِ مِنْ الْفَرْجِ إذَا كَانَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ
فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْوُضُوءَ, وَلاَ بُدَّ لِكُلِّ صَلاَةٍ تَلِي ظُهُورَ ذَلِكَ الدَّمِ سَوَاءٌ تَمَيَّزَ دَمُهَا أَوْ لَمْ يَتَمَيَّزْ, عَرَفَتْ أَيَّامَهَا أَوْ لَمْ تَعْرِفْ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ, عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ, عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "اُسْتُحِيضَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ فَسَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنِّي أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ, فَأَدَعُ الصَّلاَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ, فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْك أَثَرَ الدَّمِ وَتَوَضَّئِي وَصَلِّي فَإِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ" .
حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَخْبَرَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ مِنْ كِتَابِهِ, عَنْ مُحَمَّدٍ, هُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ

وَقَّاصٍ, عَنِ ابْنِ شِهَابٍ, عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ, عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: "أَنَّهَا كَانَتْ تُسْتَحَاضُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إذَا كَانَ الْحَيْضُ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ, فَأَمْسِكِي, عَنِ الصَّلاَةِ, وَإِذَا كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِي فَإِنَّهُ عِرْقٌ" .
قَالَ عَلِيٌّ: فَعَمَّ عليه السلام كُلَّ دَمٍ خَرَجَ مِنْ الْفَرْجِ بَعْدَ دَمِ الْحَيْضَةِ وَلَمْ يَخُصَّ وَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْهُ, لاَِنَّهُ عِرْقٌ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِإِيجَابِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلاَةٍ عَلَى الَّتِي يَتَمَادَى بِهَا الدَّمُ مِنْ فَرْجِهَا مُتَّصِلاً بِدَمِ الْمَحِيضِ: عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ, وَابْنُ عَبَّاسٍ وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ, وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ, وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ. قَالَتْ عَائِشَةُ, رضي الله عنها, تَغْتَسِلُ وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ, عَنْ إسْمَاعِيلَ, عَنْ أَبِي خَالِدٍ, عَنِ الشَّعْبِيِّ, عَنْ امْرَأَةِ مَسْرُوقٍ, عَنْ عَائِشَةَ, وَمِنْ طَرِيقِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ, وَعَنْ شُعْبَةَ, عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ, وَعَنْ قَتَادَةَ, عَنِ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ:

الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ, عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ, عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي الَّتِي يَتَمَادَى بِهَا الدَّمُ إنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ, وَعَنْ شُعْبَةَ, عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ.
قال أبو محمد: “ وقال أبو حنيفة فِي الْمُتَّصِلَةِ الدَّمِ كَمَا ذَكَرْنَا إنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِدُخُولِ كُلِّ وَقْتِ صَلاَةٍ, فَتَكُونُ طَاهِرًا بِذَلِكَ الْوُضُوءِ, حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ صَلاَةٍ أُخْرَى فَيَنْتَقِضُ وُضُوءُهَا وَيَلْزَمُهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ لَهَا. وَرَوَى, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ, عَنْ أَبِي يُوسُفَ, عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ: إذَا تَوَضَّأَتْ إثْرَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلصَّلاَةِ أَنَّهَا تَكُونُ طَاهِرًا إلَى خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ, وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ, وَحَكَى أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ, عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إلاَّ أَنَّهَا تَكُونُ طَاهِرًا إلَى دُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ. وَغَلَّبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ.
قال أبو محمد: “ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. بَلْ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَشْبَهُ بِأَقْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وقال مالك: لاَ وُضُوءَ عَلَيْهَا مِنْ هَذَا الدَّمِ إلاَّ اسْتِحْبَابًا لاَ إيجَابًا, وَهِيَ طَاهِرٌ مَا لَمْ تُحْدِثْ حَدَثًا آخَرَ.
وقال الشافعي وَأَحْمَدُ: عَلَيْهَا فَرْضًا أَنْ تَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلاَةِ فَرْضٍ وَتُصَلِّيَ بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ النَّوَافِلِ مَا أَحَبَّتْ, قَبْلَ الْفَرْضِ وَبَعْدَهُ بِذَلِكَ الْوُضُوءِ.
قال أبو محمد: “ أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَخَطَأٌ, لاَِنَّهُ خِلاَفٌ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ, وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْمُنْقَطِعِ مِنْ الْخَبَرِ إذَا وَافَقَهُمْ, وَهَهُنَا مُنْقَطِعٌ أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ مَا أَخَذُوا بِهِ, وَهُوَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَمُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ, عَنْ وَكِيعٍ, عَنِ الأَعْمَشِ, عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ, عَنْ عُرْوَةَ, عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام فَقَالَتْ: إنِّي أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ قَالَ لاَ, إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ, فَاجْتَنِبِي الصَّلاَةَ أَيَّامَ مَحِيضِكِ ثُمَّ اغْتَسِلِي وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاَةٍ وَصَلِّي, وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ.

قَالَ: قَالُوا هَذَا عَلَى النَّدْبِ, قِيلَ لَهُمْ: وَكُلُّ مَا أَوْجَبْتُمُوهُ مِنَّا لاِسْتِطْهَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَعَلَّهُ نَدْبٌ, وَلاَ فَرْقَ, وَهَذَا قَوْلٌ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الشَّرَائِعِ كُلِّهَا مَعَ خِلاَفِهِ لاَِمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ, عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُتَعَلَّقًا فِي قَوْلِهِمْ هَذَا, لاَ بِقُرْآنٍ, وَلاَ بِسُنَّةٍ, وَلاَ بِدَلِيلٍ, وَلاَ بِقَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ بِقِيَاسٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفَاسِدٌ أَيْضًا لاَِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْخَبَرِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ, وَمُخَالِفٌ لِلْمَعْقُولِ وَلِلْقِيَاسِ, وَمَا وَجَدْنَا قَطُّ طَهَارَةً تَنْتَقِضُ بِخُرُوجِ وَقْتٍ وَتَصِحُّ بِكَوْنِ الْوَقْتِ قَائِمًا, وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا بِأَنْ قَالُوا: قَدْ وَجَدْنَا الْمَاسِحَ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ تَنْتَقِضُ طَهَارَتُهُمَا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ لَهُمَا فَنَقِيسُ عَلَيْهِمَا الْمُسْتَحَاضَةَ.
قال أبو محمد: “ الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ ; لاَِنَّهُ قِيَاسٌ خَطَأٌ وَعَلَى خَطَإٍ, وَمَا انْتَقَضَتْ قَطُّ طَهَارَةُ الْمَاسِحِ بِانْقِضَاءِ الأَمَدِ الْمَذْكُورِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كَمَا كَانَ, وَيُصَلِّي مَا لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ بِحَدَثٍ مِنْ الأَحْدَاثِ, وَإِنَّمَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِمَنْعِهِ مِنْ الاِبْتِدَاءِ لِلْمَسْحِ فَقَطْ, لاَ بِانْتِقَاضِ طَهَارَتِهِ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُمْ مَا ذَكَرُوا فِي الْمَاسِحِ وَهُوَ لاَ يَصِحُّ لَكَانَ قِيَاسُهُمْ هَذَا بَاطِلاً لأَنَّهُمْ قَاسُوا خُرُوجَ وَقْتِ كُلِّ صَلاَةٍ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ عَلَى انْقِضَاءِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي الْحَضَرِ, وَعَلَى انْقِضَاءِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ فِي السَّفَرِ. وَهَذَا قِيَاسٌ سَخِيفٌ جِدًّا, وَإِنَّمَا كَانُوا يَكُونُونَ قَائِسِينَ عَلَى مَا ذَكَرُوا لَوْ جَعَلُوا الْمُسْتَحَاضَةَ تَبْقَى بِوُضُوئِهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً فِي الْحَضَرِ, وَثَلاَثَةً فِي السَّفَرِ, وَلَوْ فَعَلُوا هَذَا لَوَجَدُوا فِيمَا يُشْبِهُ بَعْضَ ذَلِكَ سَلَفًا, وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ, فَقَدْ صَحَّ عَنْهُمْ أَنَّهَا تَغْتَسِلُ مِنْ الظُّهْرِ إلَى الظُّهْرِ, وَأَمَّا قَوْلُهُمْ هَذَا فَعَارٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِيهِ سَلَفٌ, وَمَا نَعْلَمُ لِقَوْلِهِمْ حُجَّةً, لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ

مِنْ سُنَّةٍ, وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ, وَلاَ مِنْ مَعْقُولٍ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الَّتِي اُخْتُلِفَ فِيهَا, عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ أَشْبَهُ بِأُصُولِهِمْ ; لإِنَّ أَثَرَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَيْسَ هُوَ وَقْتُ صَلاَةِ فَرْضٍ مَارًّا إلَى وَقْتِ الظُّهْرِ, وَهُوَ وَقْتُ تَطَوُّعٍ, فَالْمُتَوَضِّئَةُ فِيهِ لِلصَّلاَةِ كَالْمُتَوَضِّئَةِ لِصَلاَةِ الْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ, وَلاَ يُجْزِيهَا ذَلِكَ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فَخَطَأٌ وَمِنْ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ فِي الدِّينِ الَّذِي لَمْ يَأْتِ بِهِ قَطُّ نَصٌّ, وَلاَ دَلِيلٌ أَنْ يَكُونَ إنْسَانٌ طَاهِرًا إنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ تَطَوُّعًا وَمُحْدِثًا غَيْرَ طَاهِرٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِعَيْنِهِ إنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فَرِيضَةً, هَذَا مَا لاَ خَفَاءَ بِهِ وَلَيْسَ إلاَّ طَاهِرًا أَوْ مُحْدِثًا, فَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا فَإِنَّهَا تُصَلِّي مَا شَاءَتْ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ, وَإِنْ كَانَتْ مُحْدِثَةً فَمَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ لاَ فَرْضًا, وَلاَ نَافِلَةً.
وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا يَدْخُلُ عَلَى الْمَالِكِيِّينَ فِي قَوْلِهِمْ: مَنْ تَيَمَّمَ لِفَرِيضَةٍ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ مَا شَاءَ مِنْ النَّوَافِلِ, وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ نَافِلَةً قَبْلَ تِلْكَ الْفَرِيضَةِ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ, وَلاَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ صَلاَتَيْ فَرْضٍ, فَهَذَا هُوَ نَظَرُهُمْ وَقِيَاسُهُمْ وَأَمَّا تَعَلُّقٌ بِأَثَرٍ, فَالآثَارُ حَاضِرَةٌ وَأَقْوَالُهُ حَاضِرَةٌ.
قال أبو محمد: “, وَهُمْ كُلُّهُمْ يَشْغَبُونَ بِخِلاَفِ الصَّاحِبِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ وَجَمِيعُ الْحَنَفِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ قَدْ خَالَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَائِشَةَ وَعَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ, رضي الله عنهم,, وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمْ يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, فِي ذَلِكَ وَخَالَفَ الْمَالِكِيُّونَ فِي ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ كَمَا أَوْرَدْنَا, فَصَارَتْ أَقْوَالُهُمْ مُبْتَدَأَةً مِمَّنْ قَالَهَا بِلاَ بُرْهَانٍ أَصْلاً. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

قال علي لا ينقض الوضوء شيء غير ماذكرنا
169 - مَسْأَلَةٌ: قَالَ عَلِيٌّ: لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ شَيْءٌ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا
لاَ رُعَافٌ, وَلاَ دَمٌ سَائِلٌ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْجَسَدِ أَوْ مِنْ الْحَلْقِ أَوْ مِنْ الأَسْنَانِ أَوْ مِنْ الإِحْلِيلِ أَوْ مِنْ الدُّبُرِ, وَلاَ حِجَامَةٌ, وَلاَ فَصْدٌ, وَلاَ قَيْءٌ كَثُرَ أَوْ قَلَّ, وَلاَ قَلْسٌ, وَلاَ قَيْحٌ, وَلاَ مَاءٌ, وَلاَ دَمٌ تَرَاهُ الْحَامِلُ مِنْ فَرْجِهَا, وَلاَ أَذَى الْمُسْلِمِ, وَلاَ ظُلْمُهُ, وَلاَ مَسُّ الصَّلِيبِ وَالْوَثَنِ, وَلاَ الرِّدَّةُ, وَلاَ الإِنْعَاظُ لِلَذَّةٍ أَوْ لِغَيْرِ لَذَّةٍ, وَلاَ الْمَعَاصِي مِنْ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا, وَلاَ شَيْءَ يَخْرُجُ

مِنْ الدُّبُرِ لاَ عُذْرَةَ عَلَيْهِ, سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الدُّودُ وَالْحَجَرُ وَالْحَيَّاتُ, وَلاَ حُقْنَةٌ, وَلاَ تَقْطِيرُ دَوَاءٍ فِي الْمَخْرَجَيْنِ, وَلاَ مَسُّ حَيَا بَهِيمَةٍ, وَلاَ قُبُلَهَا, وَلاَ حَلْقُ الشَّعْرَ بَعْدَ الْوُضُوءِ, وَلاَ قَصُّ الظُّفْرِ, وَلاَ شَيْءٌ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ مِنْ قَصَّةٍ بَيْضَاءَ أَوْ صُفْرَةٍ أَوْ كُدْرَةٍ أَوْ كَغُسَالَةِ اللَّحْمِ أَوْ دَمٍ أَحْمَرَ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ حَيْضٌ, وَلاَ الضَّحِكُ فِي الصَّلاَةِ, وَلاَ شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: “ بُرْهَانُ إسْقَاطِنَا الْوُضُوءَ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا, هُوَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ بِإِيجَابِ وُضُوءٍ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَلاَ شَرَّعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَحَدٍ مِنْ الإِنْسِ وَالْجِنِّ إلاَّ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ, وَمَا عَدَاهَا فَبَاطِلٌ, وَلاَ شَرْعَ إلاَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَتَانَا بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَفِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا خِلاَفٌ نَذْكُرُ مِنْهُ مَا كَانَ الْمُخَالِفُونَ فِيهِ حَاضِرِينَ, وَنَضْرِبُ عَمَّا قَدْ دَرَسَ الْقَوْلَ بِهِ إلاَّ ذِكْرًا خَفِيفًا. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كُلُّ دَمٍ سَائِلٍ أَوْ قَيْحٍ سَائِلٍ أَوْ مَاءٍ سَائِلٍ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ سَالَ مِنْ الْجَسَدِ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ, فَإِنْ لَمْ يَسِلْ لَمْ يُنْقَضْ الْوُضُوءُ مِنْهُ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ ذَلِكَ مِنْ الأَنْفِ أَوْ الآُذُنِ, فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الأَنْفِ أَوْ الآُذُنِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دَمًا أَوْ قَيْحًا فَبَلَغَ إلَى مَوْضِعِ الاِسْتِنْشَاقِ مِنْ الأَنْفِ أَوْ إلَى مَا يَلْحَقُهُ الْغُسْلُ مِنْ دَاخِلِ الآُذُنِ فَالْوُضُوءُ مُنْتَقِضٌ, وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ إلَى مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَنْتَقِضْ الْوُضُوءُ, فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الأَنْفِ مُخَاطٌ أَوْ مَاءٌ فَلاَ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ, وَكَذَلِكَ إنْ خَرَجَ مِنْ الآُذُنِ مَاءٌ فَلاَ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ.
قَالَ: فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْجَوْفِ إلَى الْفَمِ أَوْ مِنْ اللِّثَاتِ دَمٌ فَإِنْ كَانَ غَالِبًا عَلَى الْبُزَاقِ فَفِيهِ الْوُضُوءُ وَإِنْ لَمْ يَمْلاَْ الْفَمَ, وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْبُزَاقِ فَلاَ وُضُوءَ فِيهِ, فَإِنْ تَسَاوَيَا فَيُسْتَحْسَنُ فَيَأْمُرُ فِيهِ بِالْوُضُوءِ, فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْجُرْحِ دَمٌ فَظَهَرَ وَلَمْ يَسِلْ فَلاَ وُضُوءَ فِيهِ, فَإِنْ سَالَ فَفِيهِ الْوُضُوءُ, فَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْجُرْحِ دُودٌ أَوْ لَحْمٌ فَلاَ وُضُوءَ فِيهِ, فَإِنْ خَرَجَ الدُّودُ مِنْ الدُّبُرِ فَفِيهِ الْوُضُوءُ, فَإِنْ عَصَبَ الْجُرْحَ نَظَرَ, فَإِنْ كَانَ لَوْ تُرِكَ سَالَ فَفِيهِ الْوُضُوءُ, وَإِنْ كَانَ لَوْ تُرِكَ لَمْ يَسِلْ فَلاَ وُضُوءَ.

مِنْ الدُّبُرِ لاَ عُذْرَةَ عَلَيْهِ, سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الدُّودُ وَالْحَجَرُ وَالْحَيَّاتُ, وَلاَ حُقْنَةٌ, وَلاَ تَقْطِيرُ دَوَاءٍ فِي الْمَخْرَجَيْنِ, وَلاَ مَسُّ حَيَا بَهِيمَةٍ, وَلاَ قُبُلَهَا, وَلاَ حَلْقُ الشَّعْرَ بَعْدَ الْوُضُوءِ, وَلاَ قَصُّ الظُّفْرِ, وَلاَ شَيْءٌ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ مِنْ قَصَّةٍ بَيْضَاءَ أَوْ صُفْرَةٍ أَوْ كُدْرَةٍ أَوْ كَغُسَالَةِ اللَّحْمِ أَوْ دَمٍ أَحْمَرَ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ حَيْضٌ, وَلاَ الضَّحِكُ فِي الصَّلاَةِ, وَلاَ شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: “ بُرْهَانُ إسْقَاطِنَا الْوُضُوءَ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا, هُوَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ بِإِيجَابِ وُضُوءٍ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَلاَ شَرَّعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَحَدٍ مِنْ الإِنْسِ وَالْجِنِّ إلاَّ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ, وَمَا عَدَاهَا فَبَاطِلٌ, وَلاَ شَرْعَ إلاَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَتَانَا بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَفِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا خِلاَفٌ نَذْكُرُ مِنْهُ مَا كَانَ الْمُخَالِفُونَ فِيهِ حَاضِرِينَ, وَنَضْرِبُ عَمَّا قَدْ دَرَسَ الْقَوْلَ بِهِ إلاَّ ذِكْرًا خَفِيفًا. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كُلُّ دَمٍ سَائِلٍ أَوْ قَيْحٍ سَائِلٍ أَوْ مَاءٍ سَائِلٍ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ سَالَ مِنْ الْجَسَدِ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ, فَإِنْ لَمْ يَسِلْ لَمْ يُنْقَضْ الْوُضُوءُ مِنْهُ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ ذَلِكَ مِنْ الأَنْفِ أَوْ الآُذُنِ, فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الأَنْفِ أَوْ الآُذُنِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دَمًا أَوْ قَيْحًا فَبَلَغَ إلَى مَوْضِعِ الاِسْتِنْشَاقِ مِنْ الأَنْفِ أَوْ إلَى مَا يَلْحَقُهُ الْغُسْلُ مِنْ دَاخِلِ الآُذُنِ فَالْوُضُوءُ مُنْتَقِضٌ, وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ إلَى مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَنْتَقِضْ الْوُضُوءُ, فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الأَنْفِ مُخَاطٌ أَوْ مَاءٌ فَلاَ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ, وَكَذَلِكَ إنْ خَرَجَ مِنْ الآُذُنِ مَاءٌ فَلاَ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ.
قَالَ: فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْجَوْفِ إلَى الْفَمِ أَوْ مِنْ اللِّثَاتِ دَمٌ فَإِنْ كَانَ غَالِبًا عَلَى الْبُزَاقِ فَفِيهِ الْوُضُوءُ وَإِنْ لَمْ يَمْلاَْ الْفَمَ, وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْبُزَاقِ فَلاَ وُضُوءَ فِيهِ, فَإِنْ تَسَاوَيَا فَيُسْتَحْسَنُ فَيَأْمُرُ فِيهِ بِالْوُضُوءِ, فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْجُرْحِ دَمٌ فَظَهَرَ وَلَمْ يَسِلْ فَلاَ وُضُوءَ فِيهِ, فَإِنْ سَالَ فَفِيهِ الْوُضُوءُ, فَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْجُرْحِ دُودٌ أَوْ لَحْمٌ فَلاَ وُضُوءَ فِيهِ, فَإِنْ خَرَجَ الدُّودُ مِنْ الدُّبُرِ فَفِيهِ الْوُضُوءُ, فَإِنْ عَصَبَ الْجُرْحَ نَظَرَ, فَإِنْ كَانَ لَوْ تُرِكَ سَالَ فَفِيهِ الْوُضُوءُ, وَإِنْ كَانَ لَوْ تُرِكَ لَمْ يَسِلْ فَلاَ وُضُوءَ.

يُفَرِّقُ بَيْنَ مِلْءِ الْفَمِ مِنْ الْقَيْءِ وَالْقَلْسِ وَمَا دُونَ مِلْءِ الْفَمِ مِنْ الْقَيْءِ وَالْقَلْسِ, وَلاَ بَيْنَ مَا يَخْرُجُ مِنْ نَفَّاطَةٍ فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَمَا يَسِيلُ مِنْ الأَنْفِ فَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ, وَلاَ فِيهِ ذِكْرُ دَمٍ خَارِجٍ مِنْ الْجَوْفِ, وَلاَ مِنْ الْجَسَدِ, وَلاَ مِنْ اللَّثَاةِ, وَلاَ مِنْ الْجُرْحِ, وَإِنَّمَا فِيهِمَا الْقَيْءُ وَالْقَلْسُ وَالرُّعَافُ فَقَطْ فَلاَ عَلَى الْخَبَرَيْنِ اقْتَصَرُوا, كَمَا فَعَلُوا بِزَعْمِهِمْ فِي خَبَرِ الْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ وَالْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ, وَلاَ قَاسُوا عَلَيْهِمَا فَطَرَدُوا قِيَاسَهُمْ, لَكِنْ خَلَّطُوا تَخْلِيطًا خَرَجُوا بِهِ إلَى الْهَوَسِ الْمَحْضِ فَقَطْ, فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَوْ صَحَّ وَقَدْ خَالَفُوهُ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الأَوْزَاعِيِّ, عَنْ يَعِيشَ بْنِ الْوَلِيدِ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ, عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَتَوَضَّأَ" فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: صَدَقْتَ, أَنَا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ, عَنْ مَعْمَرٍ, عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ, عَنْ يَعِيشَ بْنِ الْوَلِيدِ, عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ, عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: "اسْتَقَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفْطَرَ وَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ".
قال أبو محمد: “ هَذَا الْحَدِيثُ الأَوَّلُ فِيهِ يَعِيشُ بْنُ الْوَلِيدِ, عَنْ أَبِيهِ وَلَيْسَا مَشْهُورَيْنِ وَالثَّانِي مُدَلِّسٌ لَمْ يَسْمَعْهُ يَحْيَى مِنْ يَعِيشَ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ مُتَعَلَّقٌ ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "مَنْ تَقَيَّأَ فَلْيَتَوَضَّأْ" وَلاَ أَنَّ وُضُوءَهُ عليه السلام كَانَ مِنْ أَجْلِ الْقَيْءِ, وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ عليه السلام التَّيَمُّمُ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِذَلِكَ, وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا فَرْقٌ بَيْنَ مَا يَمْلاَُ الْفَمَ مِنْ الْقَيْءِ وَبَيْنَ مَا لاَ يَمْلَؤُهُ, وَلاَ فِيهِمَا شَيْءٌ غَيْرَ الْقَيْءِ, فَلاَ عَلَى مَا فِيهِمَا اقْتَصَرُوا, وَلاَ قَاسُوا عَلَيْهِمَا قِيَاسًا مُطَّرِدًا.
وَذَكَرُوا أَيْضًا الْحَدِيثَ الثَّابِتَ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام: "إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ" وَأَوْجَبَ عليه السلام فِيهِ الْوُضُوءَ, قَالُوا: فَوَجَبَ ذَلِكَ فِي كُلِّ عِرْقٍ سَائِلٍ.
قال علي: وهذا قِيَاسٌ, وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ لاَِنَّهُ إذَا لَمْ يُجِزْ أَنْ يَقِيسُوا دَمَ الْعِرْقِ الْخَارِجِ مِنْ الْفَرْجِ عَلَى دَمِ الْحَيْضِ الْخَارِجِ

مِنْ الْفَرْجِ, وَكِلاَهُمَا دَمٌ خَارِجٌ مِنْ الْفَرْجِ, وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُقَاسَ دَمٌ خَارِجٌ مِنْ غَيْرِ الْفَرْجِ عَلَى دَمٍ خَارِجٍ مِنْ الْفَرْجِ, وَأَبْطَلُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَاسَ الْقَيْحُ عَلَى الدَّمِ, وَلاَ يَقْدِرُونَ عَلَى ادِّعَاءِ إجْمَاعٍ فِي ذَلِكَ, فَقَدْ صَحَّ, عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي مِجْلَزٍ الْفَرْقُ بَيْنَ الدَّمِ وَالْقَيْحِ, وَأَبْطَلُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَاسَ الْمَاءُ الْخَارِجُ مِنْ النَّفَّاطَةِ عَلَى الدَّمِ وَالْقَيْحِ, وَلاَ يُقَاسُ الْمَاءُ الْخَارِجُ مِنْ الأَنْفِ وَالآُذُنِ عَلَى الْمَاءِ الْخَارِجِ مِنْ النَّفَّاطَةِ, وَأَبْطَلُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ دَمُ الْعِرْقِ الْخَارِجُ مِنْ الْفَرْجِ يُوجِبُ الْوُضُوءَ, قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ, وَيَكُونَ الْقَيْءُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إلاَّ حَتَّى يَمْلاََ الْفَمَ, ثُمَّ لَمْ يَقِيسُوا الدُّودَ الْخَارِجَ مِنْ الْجُرْحِ عَلَى الدُّودِ الْخَارِجِ مِنْ الدُّبُرِ, وَهَذَا مِنْ التَّخْلِيطِ فِي الْغَايَةِ الْقُصْوَى.
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا كُلَّ ذَلِكَ عَلَى الْغَائِطِ لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ نَجَاسَةٌ قلنا لَهُمْ: قَدْ وَجَدْنَا الرِّيحَ تَخْرُجُ مِنْ الدُّبُرِ فَتَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَلَيْسَتْ نَجَاسَةً, فَهَلاَّ قِسْتُمْ عَلَيْهَا الْجَشْوَةَ وَالْعَطْسَةَ, لاَِنَّهَا رِيحٌ خَارِجَةٌ مِنْ الْجَوْفِ كَذَلِكَ, وَلاَ فَرْقَ وَأَنْتُمْ قَدْ أَبْطَلْتُمْ قِيَاسَكُمْ هَذَا فَنَقَضْتُمْ الْوُضُوءَ بِقَلِيلِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَكَثِيرِهِ, وَلَمْ تَنْقُضُوا الْوُضُوءَ مِنْ الْقَيْحِ وَالْقَيْءِ وَالدَّمِ وَالْمَاءِ إلاَّ بِمِقْدَارِ مِلْءِ الْفَمِ أَوْ بِمَا سَالَ أَوْ بِمَا غَلَبَ, وَهَذَا تَخْلِيطٌ وَتَرْكٌ لِلْقِيَاسِ.
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ رُوِيَ الْوُضُوءُ مِنْ الرُّعَافِ وَمِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ, عَنْ عَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ سِيرِينَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَفِي الرُّعَافِ, عَنِ الزُّهْرِيِّ, نَعَمْ. وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ, رضي الله عنهم, وَعَنْ عَطَاءٍ الْوُضُوءُ مِنْ الْقَلْسِ وَالْقَيْءِ وَالْقَيْحِ, وَعَنْ قَتَادَةَ فِي الْقَيْحِ, وَعَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ فِي الْقَلْسِ, وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْقَيْءِ, قلنا: نَعَمْ إلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ حَدَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِمِلْءِ الْفَمِ, وَلَوْ كَانَ فَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ خَالَفَ

هَؤُلاَءِ نُظَرَاؤُهُمْ. فَصَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَدْخَلَ إصْبَعَهُ فِي أَنْفِهِ فَخَرَجَ فِيهَا دَمٌ فَفَتَّهُ بِأُصْبُعِهِ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ, وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَصَرَ بَثْرَةً بِوَجْهِهِ فَخَرَجَ مِنْهَا دَمٌ فَفَتَّهُ بَيْنَ إصْبَعَيْهِ وَقَامَ فَصَلَّى, وَعَنْ طَاوُوس أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى فِي الرُّعَافِ وُضُوءًا وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى فِي الرُّعَافِ وُضُوءًا, وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى فِي الْقَلْسِ وُضُوءًا, وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى فِي الْقَلْسِ وُضُوءًا.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ لاَ يَرَوْنَ الْغُسْلَ مِنْ الْمَنِيِّ إذَا خَرَجَ مِنْ الذَّكَرِ لِغَيْرِ لَذَّةٍ, وَهُوَ الْمَنِيُّ نَفْسُهُ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عليه السلام فِيهِ الْغُسْلَ ثُمَّ يُوجِبُونَ الْوُضُوءَ مِنْ الْقَيْحِ يَخْرُجُ مِنْ الْوَجْهِ قِيَاسًا عَلَى الدَّمِ يَخْرُجُ مِنْ الْفَرْجِ وَالْعَجَبُ كُلُّهُ أَنَّهُمْ سَمِعُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَهْيِهِ, عَنِ الذَّكِيَّةِ بِالسِّنِّ فَإِنَّهُ عَظْمٌ, فَرَأَوْا الذَّكَاةَ غَيْرَ جَائِزَةٍ بِكُلِّ عَظْمٍ, ثُمَّ أَتَوْا إلَى قَوْلِهِ عليه السلام فِي وُضُوءِ الْمُسْتَحَاضَةِ فَإِنَّهُ عِرْقٌ فَقَاسُوا عَلَى دَمِ الرُّعَافِ وَاللَّثَاةِ وَالْقَيْحِ فَهَذَا مِقْدَارُ عِلْمِهِمْ بِالْقِيَاسِ, وَمِقْدَارُ اتِّبَاعِهِمْ لِلآثَارِ, وَمِقْدَارُ تَقْلِيدِهِمْ مَنْ سَلَفَ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْعِلَّةَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ لِلْمَخْرَجِ وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لِلْخَارِجِ وَعَظُمَ تَنَاقُضُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا, وَتَعْلِيلُ كِلاَ الرَّجُلَيْنِ مُضَادٌّ لِتَعْلِيلِ الآخَرِ وَمُعَارِضٌ لَهُ, وَكِلاَهُمَا خَطَأٌ ; لاَِنَّهُ قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ, وَدَعْوَى لاَ دَلِيلَ عَلَيْهَا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
قال أبو محمد: “ وَيُقَالُ لِلشَّافِعِيَّيْنِ وَالْحَنَفِيِّينَ مَعًا: قَدْ وَجَدْنَا الْخَارِجَ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ مُخْتَلِفَ الْحُكْمِ, فَمِنْهُ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ كَالْحَيْضِ وَالْمَنِيِّ وَدَمِ النِّفَاسِ, وَمِنْهُ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ فَقَطْ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالرِّيحِ وَالْمَذْيِ, وَمِنْهُ مَا لاَ يُوجِبُ شَيْئًا كَالْقَصَّةِ الْبَيْضَاءِ, فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنْ تَقِيسُوا مَا اشْتَهَيْتُمْ فَأَوْجَبْتُمْ فِيهِ الْوُضُوءَ قِيَاسًا عَلَى مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ, دُونَ أَنْ تُوجِبُوا فِيهِ الْغُسْلَ قِيَاسًا عَلَى مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مِنْ ذَلِكَ, أَوْ دُونَ أَنْ لاَ تُوجِبُوا فِيهِ شَيْئًا قِيَاسًا عَلَى مَا لاَ يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَهَلْ هَذَا إلاَّ التَّحَكُّمُ بِالْهَوَى الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْحُكْمَ بِهِ وَبِالظَّنِّ الَّذِي أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لاَ يُغْنِي

مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا, وَمَعَ فَسَادِ الْقِيَاسِ وَمُعَارَضَةِ بَعْضِهِ بَعْضًا.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَلَمْ يَقِيسُوا هَهُنَا فَوُفِّقُوا, وَلاَ عَلَّلُوا هَهُنَا بِخَارِجٍ, وَلاَ بِمَخْرَجٍ, وَلاَ بِنَجَاسَةٍ فَأَصَابُوا, وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي تَعْلِيلِهِمْ الْمُلاَمَسَةَ بِالشَّهْوَةِ, وَفِي تَعْلِيلِهِمْ النَّهْيَ, عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ, وَالْفَأْرَةُ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ, لَوُفِّقُوا وَلَكِنْ لَمْ يُطَرِّدُوا أَقْوَالَهُمْ. فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ عَلَيْنَا. وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْمُرْسَلِ, وَقَدْ أَوْرَدْنَا فِي هَذَا الْبَابِ مُرْسَلاَتٍ لَمْ يَأْخُذُوا بِهَا, وَهَذَا أَيْضًا تَنَاقُضٌ.
وَأَمَّا الْوُضُوءُ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِ فَقَدْ
رُوِّينَا, عَنْ عَائِشَةَ, رضي الله عنها, قَالَتْ: يَتَوَضَّأُ أَحَدُكُمْ مِنْ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ, وَلاَ يَتَوَضَّأُ مِنْ الْكَلِمَةِ الْعَوْرَاءِ يَقُولُهَا لاَِخِيهِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: لاََنْ أَتَوَضَّأَ مِنْ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَوَضَّأَ مِنْ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْحَدَثُ حَدَثَانِ, حَدَثُ الْفَرْجِ وَحَدَثُ اللِّسَانِ وَأَشَدُّهُمَا حَدَثُ اللِّسَانِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: إنِّي لاَُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ, إلاَّ أَنْ أُحْدِثَ أَوْ أَقُولَ مُنْكَرًا, الْوُضُوءُ مِنْ الْحَدَثِ وَأَذَى الْمُسْلِمِ. وَعَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ: الْوُضُوءُ يَجِبُ مِنْ الْحَدَثِ وَأَذَى الْمُسْلِمِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ دَاوُد بْنِ الْمُحَبَّرِ, عَنْ شُعْبَةَ, عَنْ قَتَادَةَ, عَنْ أَنَسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ الْحَدَثِ وَأَذَى الْمُسْلِمِ".
قَالَ عَلِيٌّ: دَاوُد بْنُ الْمُحَبَّرِ كَذَّابٌ, مَشْهُورٌ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ, وَلَكِنْ لاَ فَرْقَ بَيْنَ تَقْلِيدِ مَنْ ذَكَرْنَا قَبْلُ فِي الْوُضُوءِ مِنْ الرُّعَافِ وَالْقَيْءِ وَالْقَلْسِ, وَالأَخْذِ بِذَلِكَ الأَثَرِ السَّاقِطِ, وَبَيْنَ تَقْلِيدِ مَنْ ذَكَرْنَا هَهُنَا فِي الْوُضُوءِ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِ, وَالأَخْذِ بِهَذَا الأَثَرِ السَّاقِطِ, بَلْ هَذَا عَلَى أُصُولِهِمْ أَوْكَدُ لإِنَّ الْخِلاَفَ هُنَالِكَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, مَوْجُودٌ, وَلاَ مُخَالِفَ يُعْرَفُ هَهُنَا لِعَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ, رضي الله عنهم,, وَهُمْ يُشَنِّعُونَ مِثْلَ هَذَا إذَا وَافَقَهُمْ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عِنْدَنَا إلاَّ فِيمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قُرْآنٍ أَوْ خَبَرٍ.
وَأَمَّا مَسُّ الصَّلِيبِ وَالْوَثَنِ فَإِنَّنَا رُوِّينَا, عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ, عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ

عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ, عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ: " أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه اسْتَتَابَ الْمُسْتَوْرِدَ الْعِجْلِيَّ, وَأَنَّ عَلِيًّا مَسَّ بِيَدِهِ صَلِيبًا كَانَتْ فِي عُنُقِ الْمُسْتَوْرِدِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلِيٌّ فِي الصَّلاَةِ قَدَّمَ رَجُلاً وَذَهَبَ, ثُمَّ أَخْبَرَ النَّاسَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لِحَدَثٍ أَحْدَثَهُ, وَلَكِنَّهُ مَسَّ هَذِهِ الأَنْجَاسَ فَأَحَبَّ أَنْ يُحْدِثَ مِنْهَا وُضُوءًا "
وَرُوِّينَا أَثَرًا مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ, عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ, عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ, عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بُرَيْدَةَ وَقَدْ مَسَّ صَنَمًا فَتَوَضَّأَ".
قَالَ عَلِيٌّ: صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ ضَعِيفٌ لاَ يُحْتَجُّ بِهِ, وَلَقَدْ كَانَ يُلْزِمُ مَنْ يُعَظِّمُ خِلاَفَ الصَّاحِبِ وَيَرَى الأَخْذَ بِالآثَارِ الْوَاهِيَةِ مِثْلَ الَّذِي قَدَّمْنَا أَنْ يَأْخُذَ بِهَذَا الأَثَرِ, فَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا يَأْخُذُونَ بِهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ, وَلاَ يُعْرَفُ لِعَلِيٍّ هَهُنَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم,, وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضُوا فِيهِ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عِنْدَنَا إلاَّ فِي خَبَرٍ ثَابِتٍ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ الْقُرْآنِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ سِيَّمَا وَعَلِيٌّ رضي الله عنه قَدْ قَطَعَ صَلاَةَ الْفَرْضِ بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ, وَمَا كَانَ رضي الله عنه لِيَقْطَعَهَا فِيمَا لاَ يَرَاهُ وَاجِبًا.
فَإِنْ قَالُوا: لَعَلَّ هَذَا اسْتِحْبَابٌ قلنا: وَلَعَلَّ كُلَّ مَا أَوْجَبْتُمْ فِيهِ الْوُضُوءَ مِنْ الرُّعَافِ وَغَيْرِهِ تَقْلِيدًا لِمَنْ سَلَفَ إنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَابٌ وَكَذَلِكَ الْمَذْيُ, وَهَذَا كُلُّهُ لاَ مَعْنَى لَهُ وَإِنَّمَا هِيَ دَعَاوٍ مُخَالِفَةٌ لِلْحَقَائِقِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الرِّدَّةُ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ تَوَضَّأَ وَاغْتَسَلَ لِلْجَنَابَةِ أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً فَاغْتَسَلَتْ مِنْ الْحَيْضِ ثُمَّ ارْتَدَّا ثُمَّ رَاجَعَا الإِسْلاَمَ دُونَ حَدَثٍ يَكُونُ مِنْهُمَا, فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ, وَلاَ سَقِيمَةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قِيَاسٌ بِأَنَّ الرِّدَّةَ حَدَثٌ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ, وَهُمْ يُجْمِعُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ لاَ تَنْقُضُ غُسْلَ الْجَنَابَةِ, وَلاَ غُسْلَ الْحَيْضِ, وَلاَ أَحْبَاسَهُ السَّالِفَةَ, وَلاَ عِتْقَهُ السَّالِفَ, وَلاَ حُرْمَةَ الرَّجُلِ, فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنَّهَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ, فَهَلاَّ قَاسُوا الْوُضُوءَ عَلَى الْغُسْلِ فِي ذَلِكَ, فَكَانَ يَكُونُ أَصَحَّ قِيَاسٍ

لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الْقِيَاسِ صَحِيحًا, فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} قلنا هَذَا عَلَى مَنْ مَاتَ كَافِرًا لاَ عَلَى مَنْ رَاجَعَ الإِسْلاَمَ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ, عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} وقوله تعالى: {وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} شَهَادَةٌ صَحِيحَةٌ قَاطِعَةٌ لِقَوْلِنَا, لاَِنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ فِي أَنَّ مَنْ ارْتَدَّ ثُمَّ رَاجَعَ الإِسْلاَمَ وَمَاتَ مُسْلِمًا فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْخَاسِرِينَ, بَلْ مِنْ الرَّابِحِينَ الْمُفْلِحِينَ, وَإِنَّمَا الْخَاسِرُ مَنْ مَاتَ كَافِرًا, وَهَذَا بَيِّنٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَأَمَّا الدَّمُ الظَّاهِرُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ, فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أُمِّ عَلْقَمَةَ, عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْحَامِلَ تَحِيضُ, وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ, وَرُوِّينَا, عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ لاَ حَائِضٌ وَرُوِيَ, عَنْ مَالِكٍ, أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَامِلِ تَرَى الدَّمَ أَنَّهَا لاَ تُصَلِّي إلاَّ أَنْ يَطُولَ ذَلِكَ بِهَا فَحِينَئِذٍ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي, وَلَمْ يَحِدَّ فِي الطُّولِ حَدًّا, وَقَالَ أَيْضًا لَيْسَ أَوَّلُ الْحَمْلِ كَآخِرِهِ, وَيَجْتَهِدُ لَهَا, وَلاَ حَدَّ فِي ذَلِكَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ, عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ الْحَامِلَ وَإِنْ رَأَتْ الدَّمَ فَإِنَّهَا تَتَوَضَّأُ وَتُصَلِّي, وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ, وَأَحَدُ قَوْلَيْ الزُّهْرِيِّ, وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَدَاوُد وَأَصْحَابِهِمْ: قال أبو محمد: “ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى, عَنْ طَلاَقِ الْحَائِضِ وَأَمَرَ بِالطَّلاَقِ فِي حَالِ الْحَمْلِ, وَإِذَا كَانَتْ حَائِلاً فَصَحَّ أَنَّ حَالَ الْحَائِضِ وَالْحَائِلِ غَيْرُ حَالِ الْحَامِلِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُخَالِفُونَ لَنَا عَلَى أَنَّ ظُهُورَ الْحَيْضِ اسْتِبْرَاءٌ وَبَرَاءَةٌ مِنْ الْحَمْلِ, فَلَوْ جَازَ أَنْ تَحِيضَ الْحَامِلُ لَمَا كَانَ الْحَيْضُ بَرَاءَةً مِنْ الْحَمْلِ, وَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ, وَإِذَا كَانَ لَيْسَ حَيْضًا, وَلاَ عِرْقَ اسْتِحَاضَةٍ فَهُوَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْغُسْلِ, وَلاَ لِلْوُضُوءِ إذْ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ نَصٌّ, وَلاَ إجْمَاعٌ وَكَذَلِكَ دَمُ

النِّفَاسِ فَإِنَّمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ, لاَِنَّهُ دَمُ حَيْضٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا بَعْدَ هَذَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الذَّبْحِ وَالْقَتْلِ وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً, فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ لاَ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ, لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَكَذَلِكَ مَنْ مَسَّ الْمَرْأَةَ عَلَى ثَوْبٍ, لاَِنَّهُ إنَّمَا لاَمَسَ الثَّوْبَ لاَ الْمَرْأَةَ, وَكَذَلِكَ مَسُّ الرَّجُلِ الرَّجُلَ بِغَيْرِ الْفَرْجِ وَمَسُّ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَبِغَيْرِ الْفَرْجِ وَالإِنْعَاظُ وَالتَّذَكُّرُ وَقَرْقَرَةُ الْبَطْنِ فِي الصَّلاَةِ وَمَسُّ الإِبْطِ وَنَتْفُهُ وَمَسُّ الآُنْثَيَيْنِ وَالرُّفْغَيْنِ وَقَصُّ الشَّعْرِ وَالأَظْفَارِ لإِنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَأْتِ نَصٌّ, وَلاَ إجْمَاعٌ بِإِيجَابِ الْوُضُوءِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ.
وَقَدْ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ فِي بَعْضِ مَا ذَكَرْنَا بَلْ فِي أَكْثَرِهِ بَلْ فِي كُلِّهِ, طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ, فَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْ قَرْقَرَةِ الْبَطْنِ فِي الصَّلاَةِ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ, وَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ فِي الإِنْعَاظِ وَالتَّذَكُّرِ وَالْمَسِّ عَلَى الثَّوْبِ لِشَهْوَةٍ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ, وَرُوِّينَا إيجَابَ الْوُضُوءِ فِي مَسِّ الإِبْطِ, عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمُجَاهِدٍ, وَإِيجَابَ الْغُسْلِ مِنْ نَتْفِهِ, عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَعَنْ مُجَاهِدٍ الْوُضُوءُ مِنْ تَنْقِيَةِ الأَنْفِ. وَرُوِّينَا, عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُجَاهِدٍ وَذَرٍّ وَالِدِ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ إيجَابَ الْوُضُوءِ مِنْ قَصِّ الأَظْفَارِ وَقَصِّ الشَّعْرِ, وَأَمَّا الدُّودُ وَالْحَجَرُ يَخْرُجَانِ مِنْ الدُّبُرِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُوجِبْهُ مَالِكٌ, وَلاَ أَصْحَابُنَا, وَقَدْ رُوِّينَا, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَسَّ أُنْثَيَيْهِ أَوْ رُفْغَيْهِ فَلْيَتَوَضَّأْ" وَلَكِنَّهُ مُرْسَلٌ لاَ يُسْنَدُ.
وَأَمَّا الصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ وَالدَّمُ الأَحْمَرُ فَسَيُذْكَرُ فِي الْكَلاَمِ فِي الْحَيْضِ إنْ شَاءَ اللَّهُ حُكْمُهُ وَإِنَّهُ لَيْسَ حَيْضًا, وَلاَ عِرْقًا, فَإِذًا لَيْسَ حَيْضًا, وَلاَ عِرْقًا فَلاَ وُضُوءَ فِيهِ. إذْ لَمْ يُوجِبْ فِي ذَلِكَ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ.
وَأَمَّا الضَّحِكُ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّا رُوِّينَا فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْهُ أَثَرًا وَاهِيًا لاَ يَصِحُّ

لاَِنَّهُ إمَّا مُرْسَلٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيِّ وَعَنِ الْحَسَنِ, عَنْ مَعْبَدِ بْنِ صُبَيْحٍ وَمَعْبَدِ الْجُهَنِيِّ, وَأَمَّا مُسْنَدٌ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ وَأَبِي مُوسَى وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَجَابِرٍ وَأَبِي الْمَلِيحِ, وَرُوِّينَا إيجَابَ الْوُضُوءِ مِنْهُ, عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالأَوْزَاعِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ.
فأما حَدِيثُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادَةَ التَّتَرِيِّ, عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي حَيْلَةَ وَهُوَ مَجْهُولٌ, وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى فَفِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ, وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَفِيهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي الْمُخَارِقِ وَهُوَ غَيْرُ ثِقَةٍ وَأَمَّا حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فَفِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ وَهُمَا ضَعِيفَانِ, وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَفِيهِ أَبُو سُفْيَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ, وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الْمَلِيحِ فَفِيهِ الْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ.
وَلاَ حُجَّةَ إلاَّ فِي الْقُرْآنِ أَوْ أَثَرٍ صَحِيحٍ مُسْنَدٍ.
وَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْمَالِكِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِالْمُتَوَاتِرِ مِنْ الأَخْبَارِ حَتَّى ادَّعَوْا التَّوَاتُرَ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَالْقَائِلِينَ بِمُرْسَلِ سَعِيدٍ وطَاوُوس أَنْ يَقُولُوا بِهَذِهِ الآثَارِ, فَإِنَّهَا أَشَدُّ تَوَاتُرًا مِمَّا ادَّعَوْا لَهُ التَّوَاتُرَ, وَأَكْثَرُ ظُهُورًا فِي عَدَدِ مَنْ أَرْسَلَهُ مِنْ النَّهْيِ, عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ وَالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ, وَسَائِرُ مَا قَالُوا بِهِ مِنْ الْمَرَاسِيلِ.
وَكَذَلِكَ كَانَ يَلْزَمُ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ الْمُخَالِفِينَ الْخَبَرُ الصَّحِيحَ فِي الْمُصَرَّاةِ وَفِي حَجِّ الْمَرْأَةِ, عَنِ الْهَرِمِ الْحَيِّ وَفِي سَائِرِ مَا تَرَكُوا فِيهِ السُّنَنَ الثَّابِتَةَ لِلْقِيَاسِ أَنْ يَرْفُضُوا هَذَا الْخَبَرَ الْفَاسِدَ قِيَاسًا عَلَى مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الضَّحِكَ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ, فَكَذَلِكَ لاَ يَجِبُ أَنْ يَنْقُضَهُ فِي الصَّلاَةِ, وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَطَّرِدُونَ الْقِيَاسَ, وَلاَ يَتَّبِعُونَ السُّنَنَ, وَلاَ يَلْتَزِمُونَ مَا أَحَلُّوا مِنْ قَبُولِ الْمُرْسَلِ وَالْمُتَوَاتِرِ, إلاَّ رَيْثَمَا

يَأْتِي مُوَافِقًا لاِرَائِهِمْ أَوْ تَقْلِيدِهِمْ, ثُمَّ هُمْ أَوَّلُ رَافِضِينَ لَهُ إذَا خَالَفَ تَقْلِيدَهُمْ وَآرَاءَهُمْ. وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.وَيُقَالُ لَهُمْ: فِي أَيِّ قُرْآنٍ أَوْ فِي أَيِّ سُنَّةٍ أَوْ فِي أَيِّ قِيَاسٍ وَجَدْتُمْ تَغْلِيظَ بَعْضِ الأَحْدَاثِ فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا, وَتَخْفِيفُ بَعْضِهَا قَدْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إلاَّ مِقْدَارًا حَدَّدْتُمُوهُ مِنْهَا وَالنَّصُّ فِيهَا كُلِّهَا جَاءَ مَجِيئًا وَاحِدًا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ", وَلاَ يَخْفَى عَلَى ذِي عَقْلٍ أَنَّ بَعْضَ الْحَدَثِ حَدَثٌ, فَإِذَا هُوَ كَذَلِكَ فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ, وَمَا لَمْ يَكُنْ حَدَثًا فَكَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ لاَ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

المجلد الثاني
المجلد الخامس
تابع كتاب الصلاة

تابع صلاة المسافر
من خرج عن بيوت مدينته أو قريته أو موضع سكناه فمشى ميلا فصاعدا
بِسْمِ اللََّهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ
513 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ خَرَجَ، عَنْ بُيُوتِ مَدِينَتِهِ, أَوْ قَرْيَتِهِ, أَوْ مَوْضِعِ سُكْنَاهُ فَمَشَى مِيلاً فَصَاعِدًا:
صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَلاَ بُدَّ إذَا بَلَغَ الْمِيلَ, فَإِنْ مَشَى أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ: صَلَّى أَرْبَعًا.
قَالَ عَلِيٌّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: كَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه كَتَبَ: إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالاً يَخْرُجُونَ إمَّا لِجِبَايَةٍ, وَأَمَّا لِتِجَارَةٍ, وَأَمَّا لِجَشَرٍ1 ثُمَّ لاَ يُتِمُّونَ الصَّلاَةَ, فَلاَ تَفْعَلُوا, فَإِنَّمَا يَقْصُرُ الصَّلاَةَ.
مَنْ كَانَ شَاخِصًا, أَوْ بِحَضْرَةِ عَدُوٍّ2.
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ: لاَ يُصَلِّي3 الرَّكْعَتَيْنِ جَابٍ, وَلاَ تَاجِرٌ, وَلاَ تَانٍ, إنَّمَا يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ مَنْ كَانَ مَعَهُ4 الزَّادُ وَالْمَزَادُ5.
قَالَ عَلِيٌّ: الثَّانِي هُوَ صَاحِبُ الضَّيْعَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: هَكَذَا فِي كِتَابِي وَصَوَابُهُ عِنْدِي: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ.
ـــــــ
1 بفتح الجيم والشين المعجمة قال في اللسان "وفي حديث عثمان ضي الله عنه أنه قال: لا يغرنكم جشركم من صلاتكم فإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو يحضره عدو, قال أبو عبيد: الجشر القوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى وبتيتون مكانهم ولا يأوون إلى البيوت وربما رأوه سفرا فقصروا الصلاة ف4نهاهم عن ذلك لأن المقام في المرعى وإن طال فليس بسفر" ا هـ وفي النسخة رقم "16" "لجش" وهو تصحيف وخطأ.
2 انظر الطحاوي "ج 1 ص 247".
3 في النسخة رقم "45" "لا يصل".
4 في النسخة رقم "16" "مع" وهو خطأ.
5 انظر الطحاوي "ج 1 ص 247".

وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لاَ يَغُرَّنَّكُمْ سَوَادُكُمْ هَذَا مِنْ صَلاَتِكُمْ, فَإِنَّهُ مِنْ مِصْرِكُمْ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْت مَعَ حُذَيْفَةَ بِالْمَدَائِنِ فَاسْتَأْذَنْته أَنْ آتِيَ أَهْلِي بِالْكُوفَةِ, فَأَذِنَ لِي وَشَرَطَ عَلَيَّ أَنْ لاَ أُفْطِرَ، وَلاَ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى أَرْجِعَ إلَيْهِ, وَبَيْنَهُمَا نَيِّفٌ وَسِتُّونَ مِيلاً.
وَهَذِهِ أَسَانِيدُ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ: أَنْ لاَ يَقْصُرَ إلَى السَّوَادِ, وَبَيْنَ الْكُوفَةِ وَالسَّوَادِ: سَبْعُونَ مِيلاً1.
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ, وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: لاَ يَطَأُ أَحَدُكُمْ بِمَاشِيَتِهِ أَحْدَابَ الْجِبَالِ, وَبُطُونَ الأَوْدِيَةِ, وَتَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ سَفَرٌ, لاَ، وَلاَ كَرَامَةَ, إنَّمَا التَّقْصِيرُ فِي السَّفَرِ الْبَاتُّ, مِنْ الآُفُقِ إلَى الآُفُقِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَاصِم، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: السَّفَرُ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ: الَّذِي يُحْمَلُ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ.
وَعَنْ أَبِي وَائِلٍ شُقَيْقِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنْ قَصْرِ الصَّلاَةِ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى وَاسِطَ.
فَقَالَ: لاَ تُقْصَرُ الصَّلاَةُ فِي ذَلِكَ, وَبَيْنَهُمَا مِائَةُ مِيلٍ وَخَمْسُونَ مِيلاً.
فَهُنَا قَوْلٌ: وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ أَدْنَى مَا يُقْصِرُ الصَّلاَةَ إلَيْهِ: مَالٌ لَهُ بِخَيْبَرَ, وَهِيَ مَسِيرَةُ ثَلاَثٍ فَوَاصِلٌ2 لَمْ يَكُنْ يُقْصِرُ فِيمَا دُونَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, وَحُمَيْدٍ, كِلاَهُمَا، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُقْصِرُ الصَّلاَةَ فِيمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ, وَخَيْبَرَ, وَهِيَ كَقَدْرِ الأَهْوَازِ مِنْ الْبَصْرَةِ, لاَ يَقْصُرُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ.
قَالَ عَلِيٌّ: بَيْنَ الْمَدِينَةِ, وَخَيْبَرَ كَمَا بَيْنَ الْبَصْرَةِ, وَالأَهْوَازِ: وَهُوَ مِائَةُ مِيلٍ وَاحِدَةٌ غَيْرُ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ.
ـــــــ
1 الكلمة تقرأ في الأصل "سبعون" تقرأ "تسعون" لإهمالها واشتباه رسمها.
2 هكذا في النسخة رقم "16" وفي النسخة رقم "45" "قواصد" بدون نقط وكلاهما ظاهر أنه خطأ والظن أن الكلمة محرفة فيحرر.

وَهَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, ثُمَّ، عَنْ نَافِعٍ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَرُوِّينَا، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ:، أَنَّهُ قَالَ: لاَ قَصْرَ فِي أَقَلِّ مِنْ اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ مِيلاً, كَمَا بَيْنَ الْكُوفَةِ, وَبَغْدَادَ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ الطَّائِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ الْوَالِبِيِّ1 الأَسَدِيِّ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ، عَنْ تَقْصِيرِ الصَّلاَةِ فَقَالَ: حَاجٌّ, أَوْ مُعْتَمِرٌ, أَوْ غَازٍ قُلْت: لاَ, وَلَكِنَّ أَحَدَنَا تَكُونُ لَهُ الضَّيْعَةُ بِالسَّوَادِ, فَقَالَ: تَعْرِفُ السُّوَيْدَاءَ قُلْت: سَمِعْت بِهَا وَلَمْ أَرَهَا, قَالَ: فَإِنَّهَا ثَلاَثٌ وَلَيْلَتَانِ2 وَلَيْلَةٌ لِلْمُسْرِعِ, إذَا خَرَجْنَا إلَيْهَا قَصَرْنَا.
قَالَ عَلِيٌّ: مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى السُّوَيْدَاءِ: اثْنَانِ وَسَبْعُونَ مِيلاً, أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ فَرْسَخًا.
َهَذِهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى يَقُولُ: سَمِعْت سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ يَقُولُ: إذَا سَافَرْت ثَلاَثًا فَاقْصُرْ الصَّلاَةَ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, كِلاَهُمَا، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ:، أَنَّهُ قَالَ فِي قَصْرِ الصَّلاَةِ, قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَتِهِ: مَسِيرَةَ ثَلاَثٍ وَقَالَ سُفْيَانُ فِي رِوَايَتِهِ: إلَى نَحْوِ الْمَدَائِنِ يَعْنِي مِنْ الْكُوفَةِ, وَهُوَ نَحْوُ نَيِّفٍ وَسِتِّينَ مِيلاً, لاَ يَتَجَاوَزُ ثَلاَثَةً وَسِتِّينَ، وَلاَ يَنْقُصُ، عَنْ وَاحِدٍ وَسِتِّينَ.
وَبِهَذَيْنِ التَّحْدِيدَيْنِ جَمِيعًا يَأْخُذُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الثَّلاَثِ: سَيْرُ الأَقْدَامِ وَالثِّقَلِ وَالإِبِلِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لاَ قَصْرَ فِي أَقَلَّ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلاَثٍ, وَلَمْ نَجِدْ عَنْهُ تَحْدِيدَ الثَّلاَثِ.
َعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَصْرِ الصَّلاَةِ: فِي مَسِيرَةِ ثَلاَثٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ: حدثنا يَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: سَمِعْت الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ يَقُولُ: لاَ تُقْصَرُ الصَّلاَةُ فِي أَقَلَّ مِنْ مَسِيرَةِ لَيْلَتَيْنِ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ الْحَسَنِ: لاَ تُقْصَرُ الصَّلاَةُ إلاَّ فِي لَيْلَتَيْنِ, وَلَمْ نَجِدْ عَنْهُ3 تَحْدِيدَ اللَّيْلَتَيْنِ.
ـــــــ
1 في النسخةرقم "16" "علي بن ربيعة الرأي" وهو خطأ غريب.
2 كذا في الأصل بنصب لبلتبن.
3 في النسخة رقم "16" "عنده" وهو خطأ.

وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ مِثْلُهُ, قَالَ: وَبِهِ يَأْخُذُ قَتَادَةُ.
وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ مِثْلُهُ, إلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ وَلَمْ نَجِدْ، عَنْ قَتَادَةَ, وَلاَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: تَحْدِيدَ الْيَوْمَيْنِ.
وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا سَافَرْت يَوْمًا إلَى الْعِشَاءِ فَأَتِمَّ, فَإِنْ زِدْت فَقَصْرٌ.
وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ: حدثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ، عَنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ إلَى الْعَتَمَةِ, إلاَّ فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ1 فِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْغَازِ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيِّ2، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: قُلْت لاِبْنِ عَبَّاسٍ: أَقْصُرُ إلَى عَرَفَةَ قَالَ: لاَ, وَلَكِنْ إلَى الطَّائِفِ وَعُسْفَانَ, فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلاً.
وَعَنْ مَعْمَرٍ أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ.
َهَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَبِهَذَا يَأْخُذُ اللَّيْثُ, وَمَالِكٌ فِي أَشْهَرِ أَقْوَالِهِ عَنْهُ. وَقَالَ: فَإِنْ كَانَتْ أَرْضٌ لاَ أَمْيَالَ فِيهَا فَلاَ قَصْرَ فِي أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلثِّقَلِ قَالَ: وَهَذَا أَحَبُّ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ إلَيَّ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ: لاَ قَصْرَ إلاَّ فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً فَصَاعِدًا وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ قَصْرَ إلاَّ فِي اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً فَصَاعِدًا. وَرُوِيَ عَنْهُ: لاَ قَصْرَ إلاَّ فِي أَرْبَعِينَ مِيلاً فَصَاعِدًا.
وَرَوَى عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: لاَ قَصْرَ إلاَّ فِي سِتَّةٍ وَثَلاَثِينَ مِيلاً فَصَاعِدًا ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ بِالْمَبْسُوطِ. وَرَأَى لاَِهْلِ مَكَّةَ خَاصَّةً فِي الْحَجِّ خَاصَّةً: أَنْ يَقْصُرُوا الصَّلاَةَ إلَى مِنًى فَمَا فَوْقَهَا, وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ:، أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ خَرَجَ ثَلاَثَةَ أَمْيَالٍ كَالرِّعَاءِ وَغَيْرِهِمْ فَتَأَوَّلَ فَأَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إلاَّ الْقَضَاءُ فَقَطْ.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "اختلفوا".
2 الغاز: بالغين المعجمة والزاي وبينهما ألف, والجرشي: بضم الجيم وفتح الراء وكسر الشين المعجمة. وفي النسخة رقم "16" "هشام بن ربيعة أبو الغاز الجرشي" وفي النسخة رقم "45" "هشام بن ربيعة بن الغاز الجرشي" وكلاهما خطأ والصواب ما ذكرنا.

وَرُوِّينَا، عَنِ الشَّافِعِيِّ: لاَ قَصْرَ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً بِالْهَاشِمِيِّ.
وَهَهُنَا أَقْوَالٌ أُخَرُ أَيْضًا: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ شُبَيْلٍ1، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ قَالَ: قُلْت لاِبْنِ عَبَّاسٍ: أَقْصُرُ إلَى الآُبُلَّةِ قَالَ: تَذْهَبُ وَتَجِيءُ فِي يَوْمٍ قُلْت: نَعَمْ, قَالَ: لاَ, إلاَّ يَوْمٌ مُتَاحٌ.
وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ, قُلْت لاِبْنِ عَبَّاسٍ: أَقْصُرُ إلَى مِنًى أَوْ عَرَفَةَ قَالَ: لاَ, وَلَكِنْ إلَى الطَّائِفِ, أَوْ جُدَّةَ, أَوْ عُسْفَانَ, فَإِذَا وَرَدْت عَلَى مَاشِيَةٍ لَك, أَوْ أَهْلٍ: فَأَتِمَّ الصَّلاَةَ.
قَالَ عَلِيٌّ: مِنْ عُسْفَانَ إلَى مَكَّةَ بِتَكْسِيرِ الْحُلَفَاءِ2 اثْنَانِ وَثَلاَثُونَ مِيلاً. وَأَخْبَرَنَا الثِّقَاتُ أَنَّ مِنْ جُدَّةَ إلَى مَكَّةَ: أَرْبَعِينَ مِيلاً3.
وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْغَازِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لاَ تُقْصَرُ الصَّلاَةُ إلاَّ فِي يَوْمٍ تَامٍّ وَعَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَافَرَ إلَى رِيمٍ فَقَصَرَ الصَّلاَةَ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَهِيَ عَلَى ثَلاَثِينَ مِيلاً مِنْ الْمَدِينَةِ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ: إذَا خَرَجْتَ فَبِتَّ فِي غَيْرِ أَهْلِكَ فَاقْصُرْ, فَإِنْ أَتَيْتَ أَهْلَكَ فَأَتْمِمْ.
وَبِهِ يَقُولُ الأَوْزَاعِيُّ: لاَ قَصْرَ إلاَّ فِي يَوْمٍ تَامٍّ وَلَمْ نَجِدْ، عَنْ هَؤُلاَءِ تَحْدِيدَ الْيَوْمِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَصَدَ إلَى ذَاتِ النُّصْبِ, وَكُنْت أُسَافِرُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ الْبَرِيدَ فَلاَ يَقْصُرُ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: ذَاتُ النُّصْبِ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلاً.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ: حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ4 بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: خَرَجْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إلَى ذَاتِ النُّصْبِ وَهِيَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلاً فَلَمَّا أَتَاهَا قَصَرَ الصَّلاَةَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا هُشَيْمٌ أَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ
ـــــــ
1 شبيل بضم الشين المعجمة وهو ابن عزرة بن عمير الضبعي وشيخه أبو جمرة – بالجيم والراء- اسمهلا نصر ابن عمران الصبعي وفي النسخة رقم "16" "شبيل بن جمرة" وهو خطأ.
2 كذا في الأصلين.
3 ما بين جدة ومكة من سبعين إلى ثمانين ألف متر تقريبا فهو أكثر من أربعين ميلا.
4 بالخاء المعجمة مصغر.

سَبْرَةَ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَرَجَ إلَى النُّخَيْلَةِ فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ, وَالْعَصْرَ: رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ رَجَعَ مِنْ يَوْمِهِ, وَقَالَ: "أَرَدْت أَنْ أُعَلِّمَكُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم".
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ: حدثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ1، حدثنا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ: خَرَجْت مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إلَى أَرْضِهِ بِبَذْقِ سِيرِينَ وَهِيَ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةِ فَرَاسِخَ فَصَلَّى بِنَا الْعَصْرَ فِي سَفِينَةٍ, وَهِيَ تَجْرِي بِنَا فِي دَجْلَةَ قَاعِدًا عَلَى بِسَاطٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ, ثُمَّ صَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبَزَّازِ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُمَيْرٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنِ ابْنِ السِّمْطِ هُوَ شُرَحْبِيلُ أَنَّهُ أَتَى أَرْضًا يُقَالُ لَهَا "دَوْمِينُ" مِنْ حِمْصٍ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ مِيلاً فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ, فَقُلْت لَهُ: أَتُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ يُصَلِّي بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ, وَقَالَ: "أَفْعَلُ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ"2.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُمَيْرٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: خَرَجَ ابْنُ السِّمْطِ هُوَ شُرَحْبِيلُ إلَى أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا "دَوْمِينُ" مِنْ حِمْصٍ عَلَى ثَلاَثَةَ عَشَرَ مِيلاً, فَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ, وَقَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يُصَلِّي بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: "أَفْعَلُ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ".
وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ إلَى شُرَحْبِيلَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ3.
قَالَ عَلِيٌّ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي طَرِيقِ الْحَجِّ لَمْ يَسْأَلْهُ، وَلاَ أُنْكِرُ ذَلِكَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْوَرْدِ بْنِ ثُمَامَةَ4، عَنِ اللَّجْلاَجِ قَالَ: كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ثَلاَثَةَ أَمْيَالٍ فَيَتَجَوَّزُ فِي الصَّلاَةِ فَيُفْطِرُ5 وَيَقْصُرُ.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "45" "من طريق حماد بن زيد" بدون نقط وهو خطأ.
2 كلمة "يفعل" سقطت من النسخة رقم "16".
3 في النسخة رقم "16" "عن ابن عمير".
4 في النسخة رقم "45" "عن أبي الورد عن ثمامة" وهو خطأ.
5 في النسخة رقم "16" "فيفطر" وما هنا أحسن.

وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ: حدثنا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، حدثنا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْت مُيَسَّرَ1 بْنَ عِمْرَانَ بْنِ عُمَيْرٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ خَرَجَ2 مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ رَدِيفُهُ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ, فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ, وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ شُعْبَةُ: أَخْبَرَنِي بِهَذَا مُيَسَّرُ بْنُ عِمْرَانَ, وَأَبُوهُ عِمْرَانُ بْنُ عُمَيْرٍ شَاهِدٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: عُمَيْرٌ هَذَا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ فَيْرُوزَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ خَلْدَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تُقْصَرُ الصَّلاَةُ فِي مَسِيرَةِ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ هَذَا طَائِيٌّ وَلاَّهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْقَضَاءَ بِالْكُوفَةِ, مَشْهُورٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا وَكِيعٌ، حدثنا مِسْعَرٌ، هُوَ ابْنُ كِدَامٍ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إنِّي لاَُسَافِرُ السَّاعَةَ مِنْ النَّهَارِ فَأَقْصُرُ, يَعْنِي الصَّلاَةَ.
مُحَارِبٌ هَذَا سُدُوسِيٌّ قَاضِي الْكُوفَةِ, مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ, أَحَدُ الأَئِمَّةِ, وَمِسْعَرٌ أَحَدُ الأَئِمَّةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى: حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ: سَمِعْت جَبَلَةَ بْنَ سُحَيْمٍ يَقُولُ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لَوْ خَرَجْتُ مِيلاً قَصَرْت الصَّلاَةَ.
جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ تَابِعٌ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ كِلاَهُمَا، عَنْ غُنْدَرٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ الْهُنَائِيِّ3 قَالَ: سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، عَنْ قَصْرِ الصَّلاَةِ فَقَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلاَثَةِ فَرَاسِخَ شَكَّ شُعْبَةُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ".
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يُجِيبَ أَنَسٌ إذَا سُئِلَ إلاَّ بِمَا يَقُولُ بِهِ
ـــــــ
1 بضم الميم وفتح الياء المثناة وكسر السين المهملة المشددة وآخره راء.
2 كلمة "خرج" سقطت من النسخة رقم "16" خطأ.
3 بضم الهاء وفتح النون وكسر الهمزة.

وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ: أَنَّ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ أَفْطَرَ فِي مَسِيرٍ لَهُ مِنْ الْفُسْطَاطِ إلَى قَرْيَةٍ عَلَى ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ مِنْهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ: حدثنا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَقَدْ كَانَتْ لِي أَرْضٌ عَلَى رَأْسِ فَرْسَخَيْنِ فَلَمْ أَدْرِ أَأَقْصُرُ الصَّلاَةَ إلَيْهَا أَمْ أُتِمُّهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَرْمَلَةَ قَالَ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ: أَأَقْصُرُ الصَّلاَةَ وَأُفْطِرُ فِي بَرِيدٍ مِنْ الْمَدِينَةِ قَالَ: نَعَمْ, وَهَذَا إسْنَادٌ كَالشَّمْسِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ زَمْعَةَ، هُوَ ابْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ هُوَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: يُقْصَرُ فِي مَسِيرَةِ سِتَّةِ أَمْيَالٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا وَكِيعٌ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ: لَوْ خَرَجْت إلَى دَيْرِ الثَّعَالِبِ لَقَصَرْت.
وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ, وَسَالِمٍ أَنَّهُمَا أَمَرَا رَجُلاً مَكِّيًّا بِالْقَصْرِ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى, وَلَمْ يَخُصَّا حَجًّا مِنْ غَيْرِهِ, وَلاَ مَكِّيًّا مِنْ غَيْرِهِ.
وَصَحَّ عَنْ كُلْثُومِ بْنِ هَانِئٍ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ, وَقَبِيصَةِ بْنِ ذُؤَيْبٍ: الْقَصْرُ فِي بِضْعَةَ عَشَرَ مِيلاً1. وَبِكُلِّ هَذَا نَقُولُ, وَبِهِ يَقُولُ أَصْحَابُنَا فِي السَّفَرِ: إذَا كَانَ عَلَى مِيلٍ فَصَاعِدًا فِي حَجٍّ, أَوْ عُمْرَةٍ, أَوْ جِهَادٍ, وَفِي الْفِطْرِ, فِي كُلِّ سَفَرٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَهِمَ مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا أَوْرَدْنَا: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ, وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ, وَدِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ, وَابْنُ عُمَرَ, وَأَنَسٌ, وَشُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ. وَمِنْ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ, وَالشَّعْبِيُّ, وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ, وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ, وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ, وَكُلْثُومُ بْنُ هَانِئٍ, وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ, وَغَيْرُهُمْ. وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ, وَيَدْخُلُ فِيمَنْ قَالَ بِهَذَا: مَالِكٌ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ, عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ فِي الْمُفْطِرِ مُتَأَوِّلاً, وَفِي الْمَكِّيِّ يَقْصُرُ بِمِنًى وَعَرَفَةَ.
ـــــــ
1 البضع في العدد بكسر الباء بعض العرب يفتحها وهو ما بين الثلاث إلى التسع, والميل بكسر اللام منتهى مد البصر والفرسخ ثلاثة أميال ا هـ الجوهري.

قَالَ عَلِيٌّ: وَإِنَّمَا تَقَصَّيْنَا الرِّوَايَاتِ فِي هَذِهِ الأَبْوَابِ, لاَِنَّنَا وَجَدْنَا الْمَالِكِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ قَدْ أَخَذُوا يُجَرِّبُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي دَعْوَى الإِجْمَاعِ عَلَى قَوْلِهِمْ بَلْ قَدْ هَجَمَ عَلَى ذَلِكَ كَبِيرٌ مِنْ هَؤُلاَءِ وَكَبِيرٌ مِنْ هَؤُلاَءِ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَمْ أَجِدْ أَحَدًا قَالَ بِأَقَلَّ مِنْ الْقَصْرِ فِيمَا قلنا بِهِ, فَهُوَ إجْمَاعٌ وَقَالَ الآخَرُ: قَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ, وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ فَاحْتَسَبْنَا الأَجْرَ فِي إزَالَةِ ظُلْمَةِ كَذِبِهِمَا، عَنِ الْمُغْتَرِّ بِهِمَا, وَلَمْ نُورِدْ إلاَّ رِوَايَةً مَشْهُورَةً ظَاهِرَةً عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالنَّقْلِ, وَفِي الْكُتُبِ الْمُتَدَاوَلَةِ عِنْدَ صِبْيَانِ الْمُحَدِّثِينَ, فَكَيْفَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ1.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا مَنْ قَالَ بِتَحْدِيدِ مَا يُقْصَرُ فِيهِ بِالسَّفَرِ, مِنْ أُفُقٍ إلَى أُفُقٍ, وَحَيْثُ يُحْمَلُ الزَّادُ وَالْمَزَادُ وَفِي سِتَّةٍ وَتِسْعِينَ مِيلاً, وَفِي اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ مِيلاً, وَفِي اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ مِيلاً, وَفِي ثَلاَثَةٍ وَسِتِّينَ مِيلاً, أَوْ فِي أَحَدٍ وَسِتِّينَ مِيلاً, أَوْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً, أَوْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً, أَوْ أَرْبَعِينَ مِيلاً, أَوْ سِتَّةٍ وَثَلاَثِينَ مِيلاً: فَمَا لَهُمْ حُجَّةٌ أَصْلا، وَلاَ مُتَعَلِّقَ, لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ سَقِيمَةٍ, وَلاَ مِنْ إجْمَاعٍ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ, وَلاَ رَأْيٍ سَدِيدٍ, وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ لاَ مُخَالِفٍ لَهُ مِنْهُمْ وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلاَ وَجْهَ لِلاِشْتِغَالِ بِهِ.
ثُمَّ نَسْأَلُ مَنْ حَدَّ مَا فِيهِ الْقَصْرُ, وَالْفِطْرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، عَنْ أَيِّ مِيلٍ هُوَ ثُمَّ نَحُطُّهُ
ـــــــ
1 هذه الكتب التي كانت متداولة عند صبيان المحدثين في عصر ابن حزم – القرن الخامس ومن أهمها مصنف ابن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق واختلاف العلماء لابن المنذر -: صارت في عصرنا هذا بل وقبله بقرون من النوادر الغالية التي لا يسمع اسمها إلا الخواص من كبار المطلعين على كتب السنة, وعامة المشتغلين بالحديث لا يعرفونها, وأصولها فقدت تقريبا من المكاتب الإسلامية وبقيت منها قطع قليلة, وقد علمنا أن مصنف ابن أبي شيبة يوجد منه نسختان بمكاتب الاستانة ولا ندري ماذا يفعل بهما الأتراك وبغيرهما من كتب الإسلام النادرة بعد أن أعلنوا خروجهم على الدين وأبدوا صفحتهم في عداء الإسلا؟ وسمعنا أيضا أن مصنف عبد الرزاق موجود في الأقطار اليمنية حفظها الله با هذا المحلى نفسه نلقي كل مشقة في سبيل تصحيح أصوله بعد أن كادت نسخة تفقد من بلاد الإسلام, لولا أن قيض الله لاحيائه الستاذ الشيخ "محمد منير الدمشقي" مدير إدارة الطباعة المنيرية حفظه الله وجزاه عم المسلمين أحسن الجزاء ة. ولعل ناشري الكتب في العالم الإسلامي يهتمون بنشر ما يجدون من آثار لعلمائتا لو كانت في أمة من الأمم الأخرىلطاروا بها. والله الههدي إلى سواء السبيل.

مِنْ الْمِيلِ عَقْدًا أَوْ فَتَرًا أَوْ شِبْرًا, وَلاَ نَزَالُ نَحُطُّهُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ التَّحَكُّمِ فِي الدِّينِ, أَوْ تَرْكِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَسَقَطَتْ هَذِهِ الأَقْوَالُ جُمْلَةً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَلاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ بِابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا أَنَّهُ قَدْ خَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ التَّحْدِيدُ بِالأَمْيَالِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا, وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ مَنْ دُونَهُمَا. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ عَنْهُمَا أَشَدُّ الاِخْتِلاَفِ كَمَا أَوْرَدْنَا.
فَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, وَحُمَيْدٍ كِلاَهُمَا، عَنْ نَافِعٍ, وَوَافَقَهُمَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لاَ يَقْصُرُ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتَّةٍ وَتِسْعِينَ مِيلاً.
وَرَوَى مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْصُرُ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ, وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ الْقَصْرِ فِي أَقَلَّ.
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ الْغَازِ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: لاَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ إلاَّ فِي الْيَوْمِ التَّامِّ وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ يُقْصَرُ فِي الْبَرِيدِ. وقال مالك: ذَاتُ النُّصْبِ, وَرِيمٌ: كِلْتَاهُمَا مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى نَحْوِ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ.
وَرَوَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ الْوَالِبِيُّ: لاَ قَصْرَ فِي أَقَلَّ مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ مِيلاً.
وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ أَجَلُّ مِنْ نَافِعٍ أَنَّهُ قَصَرَ إلَى ثَلاَثِينَ مِيلاً.
وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ أَخِيهِ حَفْصُ بْنُ عَاصِمٍ وَهُوَ أَجَلُّ مِنْ نَافِعٍ وَأَعْلَمُ بِهِ أَنَّهُ قَصَرَ إلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلاً.
وَرَوَى عَنْهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ خَلْدَةَ, وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ, وَجَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ وَكُلُّهُمْ أَئِمَّةٌ: الْقَصْرَ فِي أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ, وَفِي ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ, وَفِي مِيلٍ وَاحِدٍ, وَفِي سَفَرِ سَاعَةٍ. وَأَقْصَى مَا يَكُونُ سَفَرُ السَّاعَةِ مِنْ مِيلَيْنِ إلَى ثَلاَثَةٍ.
وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَوَى عَنْهُ عَطَاءٌ: الْقَصْرَ إلَى عُسْفَانَ, وَهِيَ اثْنَانِ وَثَلاَثُونَ مِيلاً, وَإِذَا وَرَدْت عَلَى أَهْلٍ أَوْ مَاشِيَةٍ فَأَتِمَّ, وَلاَ تَقْصُرْ إلَى عَرَفَةَ، وَلاَ مِنًى.
وَرَوَى عَنْهُ مُجَاهِدٌ: لاَ قَصْرَ فِي يَوْمٍ إلَى الْعَتَمَةِ, لَكِنْ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَرَوَى عَنْهُ أَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ: لاَ قَصْرَ إلاَّ فِي يَوْمٍ مُتَاحٍ1.
وَقَدْ خَالَفَهُ مَالِكٌ فِي أَمْرِهِ عَطَاءً: أَنْ لاَ يَقْصُرَ إلَى مِنًى، وَلاَ إلَى عَرَفَةَ, وَعَطَاءٌ مَكِّيٌّ, فَمِنْ
ـــــــ
1 بتشديد التاء المثناة من فوق أي يوم يمتد سيره من أول النهار إلى خره ومتح النهار إذا طال وامتد.

الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ قَوْلِهِ حُجَّةً وَجُمْهُورُ قَوْلِهِ لَيْسَ حُجَّةً!!
وَخَالَفَهُ أَيْضًا مَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ: إذَا قَدِمْت عَلَى أَهْلٍ أَوْ مَاشِيَةٍ فَأَتِمَّ الصَّلاَةَ.
فَحَصَلَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ: خَارِجًا، عَنْ أَنْ يَقْطَعَ بِأَنَّهُ تَحْدِيدُ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, وَلاَ وُجِدَ بَيِّنًا، عَنْ أَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُ حَدَّ مَا فِيهِ الْقَصْرُ بِذَلِكَ. وَلَعَلَّ التَّحْدِيدَ الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّمَا هُوَ مِنْ دُونِ عَطَاءٍ, وَهُوَ هِشَامُ بْنُ رَبِيعَةَ. وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ مَنَعَ الْقَصْرَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ فَسَقَطَتْ أَقْوَالُ مَنْ حَدَّ ذَلِكَ بِالأَمْيَالِ الْمَذْكُورَةِ سُقُوطًا مُتَيَقَّنًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ رَجَعْنَا إلَى قَوْلِ مَنْ حَدَّ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ, أَوْ يَوْمَيْنِ, أَوْ يَوْمٍ وَشَيْءٍ زَائِدٍ, أَوْ يَوْمٍ تَامٍّ, أَوْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ: فَلَمْ نَجِدْ لِمَنْ حَدَّ ذَلِكَ بِيَوْمٍ وَزِيَادَةِ شَيْءٍ مُتَعَلِّقًا أَصْلاً, فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ.
فَنَظَرْنَا فِي الأَقْوَالِ الْبَاقِيَةِ1 فَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ مُتَعَلِّقًا إلاَّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَابْنِ عُمَرَ فِي نَهْيِ الْمَرْأَةِ عَنِ السَّفَرِ: فِي بَعْضِهَا: "ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" وَفِي بَعْضِهَا: "لَيْلَتَيْنِ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" وَفِي بَعْضِهَا: "يَوْمًا وَلَيْلَةً إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" وَفِي بَعْضِهَا: "يَوْمًا إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ". فَتَعَلَّقَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِمَّا ذَكَرْنَا.
فأما مَنْ تَعَلَّقَ بِلَيْلَتَيْنِ, أَوْ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ: فَلاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ أَصْلاً; لاَِنَّهُ قَدْ جَاءَ ذَلِكَ الْحَدِيثُ بِيَوْمٍ, وَجَاءَ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ, فَلاَ مَعْنَى لِلتَّعَلُّقِ بِالْيَوْمَيْنِ, وَلاَ بِالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ, دُونَ هَذَيْنِ الْعَدَدَيْنِ الآخَرَيْنِ أَصْلاً. وَإِنَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْغَبَ هَاهُنَا بِالتَّعَلُّقِ بِالأَكْثَرِ مِمَّا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ, أَوْ بِالأَقَلِّ مِمَّا ذُكِرَ فِيهِ وَأَمَّا التَّعَلُّقُ بِعَدَدٍ قَدْ جَاءَ النَّصُّ بِأَقَلَّ مِنْهُ, أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ, فَلاَ وَجْهَ لَهُ أَصْلاً, فَسَقَطَ هَذَانِ الْقَوْلاَنِ أَيْضًا.
فَنَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَنْ تَعَلَّقَ بِالثَّلاَثِ, أَوْ بِالْيَوْمِ: فَكَانَ مِنْ شَغَبِ مَنْ تَعَلَّقَ بِالْيَوْمِ أَنْ قَالَ: هُوَ أَقَلُّ مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ, فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ حَدُّ السَّفَرِ الَّذِي مَا دُونَهُ بِخِلاَفِهِ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَدًّا لِمَا يُقْصَرُ فِيهِ قَالُوا: وَكَانَ مَنْ أَخَذَ بِحَدِّنَا قَدْ اسْتَعْمَلَ حُكْمَ اللَّيْلَتَيْنِ وَالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَالثَّلاَثِ, وَلَمْ يَسْقُطْ مِنْ حُكْمِ مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ شَيْئًا: وَهَذَا أَوْلَى مِمَّنْ أَسْقَطَ أَكْثَرَ مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "45" "الثابتة" وهو خطأ.

قَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْنَا لَهُمْ: تَأْتُوا بِشَيْءٍ فَإِنْ كُنْتُمْ إنَّمَا تَعَلَّقْتُمْ بِالْيَوْمِ; لاَِنَّهُ أَقَلُّ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ: فَلَيْسَ كَمَا قُلْتُمْ, وَقَدْ جَهِلْتُمْ أَوْ تَعَمَّدْتُمْ!
فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ يَوْمًا وَلَيْلَةً إلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا".
وَرَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ يَوْمًا وَلَيْلَةً إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا".
وَرَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ تُسَافِرُ لَيْلَةً إلاَّ وَمَعَهَا رَجُلٌ ذُو حُرْمَةٍ مِنْهَا".
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ".
وَرَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: "أَنْ تُسَافِرَ بَرِيدًا" وَسَعِيدٌ أَدْرَكَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَمِعَ مِنْهُ.
فَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, ثُمَّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ, وَعَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ كَمَا أَوْرَدْنَا.
وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَمْ يَضْطَرِبْ عَلَيْهِ، وَلاَ اُخْتُلِفَ عَنْهُ.
كَمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ كِلاَهُمَا، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، حدثنا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ, هُوَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ, وَلاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ".
فَعَمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَتِهِ كُلَّ سَفَرٍ دُونَ الْيَوْمِ وَدُونَ الْبَرِيدِ وَأَكْثَرَ مِنْهُمَا, وَكُلُّ سَفَرٍ

قَلَّ أَوْ طَالَ فَهُوَ عَامٌّ لِمَا فِي سَائِرِ الأَحَادِيثِ وَكُلُّ مَا فِي سَائِرِ الأَحَادِيثِ فَهُوَ بَعْضُ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا فَهُوَ الْمُحْتَوِي عَلَى جَمِيعِهَا, وَالْجَامِعُ لَهَا كُلِّهَا, وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَدَّى مَا فِيهِ إلَى غَيْرِهِ, فَسَقَطَ قَوْلُ مَنْ تَعَلَّقَ بِالْيَوْمِ أَيْضًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَنْ حَدَّ ذَلِكَ بِالثَّلاَثِ فَوَجَدْنَاهُمْ يَتَعَلَّقُونَ بِذِكْرِ الثَّلاَثِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَبِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمَسْحِ: "لِلْمُسَافِرِ ثَلاَثًا بِلَيَالِيِهِنَّ, وَلِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً" لَمْ نَجِدْهُمْ مَوَّهُوا بِغَيْرِ هَذَا أَصْلاً.
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَالُوا: مَنْ تَعَلَّقَ بِالثَّلاَثِ كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الصَّوَابِ1, لاَِنَّهُ إنْ كَانَ عليه السلام ذَكَرَ نَهْيَهُ، عَنْ سَفَرِهَا ثَلاَثًا قَبْلَ نَهْيِهِ، عَنْ سَفَرِهَا يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ: فَالْخَبَرُ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ الْيَوْمُ هُوَ الْوَاجِبُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ, وَيَبْقَى نَهْيُهُ، عَنْ سَفَرِهَا ثَلاَثًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ, بَلْ ثَابِتٌ كَمَا كَانَ. وَإِنْ كَانَ ذُكِرَ نَهْيُهُ، عَنْ سَفَرِهَا ثَلاَثًا بَعْدَ نَهْيِهِ، عَنْ سَفَرِهَا يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ: فَنَهْيُهُ عَنِ السَّفَرِ ثَلاَثًا هُوَ النَّاسِخُ لِنَهْيِهِ إيَّاهَا عَنِ السَّفَرِ أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ قَالُوا: فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ صِحَّةِ حُكْمِ النَّهْيِ عَنِ السَّفَرِ ثَلاَثًا إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَعَلَى شَكٍّ مِنْ صِحَّةِ النَّهْيِ لَهَا عَمَّا دُونَ الثَّلاَثِ, فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ الْيَقِينُ لِلشَّكِّ!!
قال علي: وهذا تَمْوِيهٌ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ ثَلاَثَةٍ:
أَحَدُهَا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ النَّهْيُ أَنْ تُسَافِرَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ.
رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ".
وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ قَزَعَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ2 فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ, وَوَكِيعٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا إلاَّ وَمَعَهَا أَخُوهَا أَوْ أَبُوهَا أَوْ زَوْجُهَا أَوْ ابْنُهَا, أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا".
فَإِنْ كَانَ ذِكْرُ الثَّلاَثِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مُخْرِجًا لِمَا دُونَ الثَّلاَثِ, مِمَّا3 قَدْ ذُكِرَ أَيْضًا
ـــــــ
1 في النسخة رقم "45" "من الصلوات" وما هنا أحسن وأصح.
2 في النسخة رقم "45" "لا تسافر امرأة".
3 في النسخة رقم "45" "لما" وهو خطأ.

فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ, عَنْ حُكْمِ الثَّلاَثِ: فَإِنَّ ذِكْرَ مَا فَوْقَ الثَّلاَثِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مُخْرِجٌ لِلثَّلاَثِ أَيْضًا, وَإِنْ ذُكِرَتْ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، عَنْ حُكْمِ مَا فَوْقَ الثَّلاَثِ, وَإِلاَّ فَالْقَوْمُ مُتَلاَعِبُونَ مُتَحَكِّمُونَ بِالْبَاطِلِ.
وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إنَّهُمْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ صِحَّةِ حُكْمِ مَا فَوْقَ الثَّلاَثِ وَبَقَائِهِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ, وَعَلَى شَكٍّ مِنْ صِحَّةِ بَقَاءِ النَّهْيِ، عَنِ الثَّلاَثِ, كَمَا قَالُوا فِي الثَّلاَثِ وَفِيمَا دُونَهَا سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَلاَ فَرْقَ.
فَقَالُوا: لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَ الثَّلاَثِ وَبَيْنَ مَا فَوْقَ الثَّلاَثِ فَقِيلَ لَهُمْ: قُلْتُمْ بِالْبَاطِلِ, قَدْ صَحَّ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ حَدَّ مَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ فِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ لاَ بِثَلاَثٍ.
فَكَيْفَ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلٌ قَالَه رَجُلاَنِ مِنْ التَّابِعِينَ, وَرَجُلاَنِ مِنْ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ, وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ فَمَا يَعُدُّهُ إجْمَاعًا إلاَّ مَنْ لاَ دِينَ لَهُ، وَلاَ حَيَاءَ!!
فَكَيْفَ وَإِذْ قَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَدَّ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ مِيلاً إلَى السُّوَيْدَاءِ مَسِيرَةَ ثَلاَثٍ, فَإِنَّ تَحْدِيدَهُ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ: أَنْ لاَ قَصْرَ فِيمَا دُونَهُ لِسِتَّةٍ وَتِسْعِينَ مِيلاً: مُوجِبٌ أَنَّ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ ثَلاَثٍ, لإِنَّ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ مِيلاً, وَمُحَالٌ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْعَدَدَيْنِ ثَلاَثًا مُسْتَوِيَةً!!
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ عَارَضَ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ حَدَّ بِالْيَوْمِ الْوَاحِدِ, وَقَوْلُهُمْ: نَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ صِحَّةِ اسْتِعْمَالِنَا نَهْيَهُ عليه السلام، عَنْ سَفَرِهَا يَوْمًا وَاحِدًا مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ وَنَهْيَهَا، عَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ, لاَِنَّهُ إنْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ سَفَرِهَا ثَلاَثًا هُوَ الأَوَّلُ أَوْ هُوَ الآخِرُ, فَإِنَّهَا مَنْهِيَّةٌ أَيْضًا، عَنِ الْيَوْمِ, وَلَيْسَ تَأْخِيرُ نَهْيِهَا، عَنِ الثَّلاَثِ بِنَاسِخٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ نَهْيِهِ عليه السلام عَمَّا دُونَ الثَّلاَثِ, وَأَنْتُمْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ مُخَالَفَتِكُمْ لِنَهْيِهِ عليه السلام لَهَا عَمَّا دُونَ الثَّلاَثِ, وَخِلاَفُ أَمْرِهِ عليه السلام بِغَيْرِ يَقِينٍ لِلنَّسْخِ لاَ يَحِلُّ, فَتَعَارَضَ الْقَوْلاَنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرْنَا قَاضٍ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ, وَكُلُّهَا بَعْضُ مَا فِيهِ, فَلاَ يَجُوزُ1 أَنْ يُخَالِفَ مَا فِيهِ أَصْلاً لإِنَّ مَنْ عَمِلَ بِهِ فَقَدْ عَمِلَ بِجَمِيعِ الأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ, وَمَنْ عَمِلَ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الأَحَادِيثِ دُونَ سَائِرِهَا فَقَدْ خَالَفَ نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "45" "فلا يجب" وما هنا أصح.

صلى الله عليه وسلم, وَهَذَا لاَ يَجُوزُ.
قَالَ عَلِيٌّ: ثُمَّ لَوْ لَمْ تَتَعَارَضْ الرِّوَايَاتُ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ نَهْيُ الْمَرْأَةِ، عَنْ سَفَرِ مُدَّةٍ مَا إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ, وَلاَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ مُدَّةُ مَسْحِ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ ذِكْرٌ أَصْلاً لاَ بِنَصّ، وَلاَ بِدَلِيلٍ عَلَى الْمُدَّةِ الَّتِي يَقْصُرُ فِيهَا وَيُفْطِرُ, وَلاَ يَقْصُرُ, وَلاَ يُفْطِرُ فِي أَقَلَّ مِنْهَا.
وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْقَصْرَ فِي الضَّرْبِ فِي الأَرْضِ مَعَ الْخَوْفِ. وَذَكَرَ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَذَكَرَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ فَجَعَلَ هَؤُلاَءِ حُكْمَ نَهْيِ الْمَرْأَةِ عَنِ السَّفَرِ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ, وَحُكْمُ مَسْحِ الْمُسَافِر: دَلِيلٌ عَلَى مَا يَقْصُرُ فِيهِ وَيُفْطِرُ, دُونَ مَا لاَ قَصْرَ فِيهِ، وَلاَ فِطْرَ, وَلَمْ يَجْعَلُوهُ دَلِيلاً عَلَى السَّفَرِ الَّذِي يَتَيَمَّمُ فِيهِ مِنْ السَّفَرِ الَّذِي لاَ يُتَيَمَّمُ فِيهِ.
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ, وَمَا لاَ تُقْصَرُ فِيهِ عَلَى مَا تُسَافِرُ فِيهِ الْمَرْأَةُ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ, وَمَا لاَ تُسَافِرُهُ, وَعَلَى مَا يَمْسَحُ فِيهِ الْمُقِيمُ, وَمَا لاَ يَمْسَحُ.
قلنا لَهُمْ: وَلِمَ فَعَلْتُمْ هَذَا وَمَا الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ أَوْ مَا الشَّبَهُ بَيْنَهُمَا وَهَلاَّ قِسْتُمْ الْمُدَّةَ الَّتِي إذَا نَوَى إقَامَتَهَا الْمُسَافِرُ أَتَمَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا وَمَا يَعْجِزُ أَحَدٌ أَنْ يَقِيسَ بِرَأْيِهِ حُكْمًا عَلَى حُكْمٍ آخَرَ وَهَلاَّ قِسْتُمْ مَا يَقْصُرُ فِيهِ عَلَى مَا لاَ يَتَيَمَّمُ فِيهِ فَهُوَ أَوْلَى إنْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا, أَوْ عَلَى مَا أَبَحْتُمْ فِيهِ لِلرَّاكِبِ التَّنَفُّلَ عَلَى دَابَّتِهِ.
ثم نقول لَهُمْ: أَخْبِرُونَا، عَنْ قَوْلِكُمْ: إنْ سَافَرَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ قَصَرَ وَأَفْطَرَ, وَإِنْ سَافَرَ أَقَلَّ لَمْ يَقْصُرْ وَلَمْ يُفْطِرْ: مَا هَذِهِ الثَّلاَثَةُ الأَيَّامُ أَمِنْ أَيَّامِ حُزَيْرَانَ أَمْ مِنْ أَيَّامِ كَانُونَ الأَوَّلِ فَمَا بَيْنَهُمَا وَهَذِهِ الأَيَّامُ الَّتِي قُلْتُمْ, أَسَيْرُ الْعَسَاكِرِ أَمْ سَيْرُ الرِّفَاقِ عَلَى الإِبِلِ, أَوْ عَلَى الْحَمِيرِ, أَوْ عَلَى الْبِغَالِ, أَمْ سَيْرُ الرَّاكِبِ الْمُجِدِّ أَمْ سَيْرُ الْبَرِيدِ أَمْ مَشْيُ الرَّجَّالَةِ. وَقَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّ مَشْيَ الرَّاجِلِ الشَّيْخِ الضَّعِيفِ فِي وَحْلٍ وَوَعِرٍ, أَوْ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ: خِلاَفُ مَشْيِ الرَّاكِبِ عَلَى الْبَغْلِ الْمُطِيقِ فِي الرَّبِيعِ فِي السَّهْلِ, وَأَنَّ هَذَا يَمْشِي فِي يَوْمٍ مَا لاَ يَمْشِيهِ الآخَرُ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ.
وَأَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ الأَيَّامِ: كَيْفَ هِيَ أَمَشْيًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ أَمْ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ, أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ قَلِيلاً, أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ قَلِيلاً أَمْ النَّهَارُ وَاللَّيْلُ مَعًا أَمْ كَيْفَ هَذَا؟!
وَأَخْبِرُونَا: كَيْفَ جَعَلْتُمْ هَذِهِ الأَيَّامَ ثَلاَثًا وَسِتِّينَ مِيلاً عَلَى وَاحِدٍ وَعِشْرِينَ مِيلاً كُلَّ يَوْمٍ؟

وَلَمْ تَجْعَلُوهَا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ مِيلاً عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِيلاً كُلَّ يَوْمٍ أَوْ اثْنَيْنِ وَثَلاَثِينَ مِيلاً كُلَّ يَوْمٍ أَوْ عِشْرِينَ مِيلاً كُلَّ يَوْمٍ أَوْ خَمْسَةً وَثَلاَثِينَ مِيلاً كُلَّ يَوْمٍ فَمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَكُلُّ هَذِهِ الْمَسَافَاتِ تَمْشِيهَا الرِّفَاقُ, وَلاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى تَحْدِيدِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا دُونَ سَائِرِهِ إلاَّ بِرَأْيٍ فَاسِدٍ. وَهَكَذَا يُقَالُ لِمَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ, أَوْ بِلَيْلَةٍ, أَوْ بِيَوْمٍ, أَوْ بِيَوْمَيْنِ, وَلاَ فَرْقَ.
فَإِنْ قَالُوا: هَذَا الاِعْتِرَاضُ يَلْزَمُكُمْ أَنْ تُدْخِلُوهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِهِ الْمَرْأَةَ أَنْ لاَ تُسَافِرَ ثَلاَثًا أَوْ لَيْلَتَيْنِ, أَوْ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ يَوْمًا إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ, وَفِي تَحْدِيدِهِ عليه السلام مَسْحَ الْمُسَافِرِ ثَلاَثًا وَالْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً.
قلنا، وَلاَ كَرَامَةَ لِقَائِلِ هَذَا مِنْكُمْ: بَلْ بَيْنَ تَحْدِيدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَحْدِيدِكُمْ أَعْظَمُ الْفَرْقِ, وَهُوَ أَنَّكُمْ لَمْ تَكِلُوا الأَيَّامَ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا حَدًّا لِمَا يَقْصُرُ فِيهِ وَمَا يُفْطِرُ, أَوْ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ كَذَلِكَ, الَّتِي جَعَلَهَا مِنْكُمْ مَنْ جَعَلَهَا حَدًّا: إلَى مَشْيِ الْمُسَافِرِ الْمَأْمُورِ بِالْقَصْرِ أَوْ الْفِطْرِ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ بَلْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ جَعَلَتْ لِذَلِكَ حَدًّا مِنْ مِسَاحَةِ الأَرْضِ لاَ يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْءٌ; لاَِنَّكُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ مَشَى ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ كُلَّ يَوْمٍ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلاً, أَوْ عِشْرِينَ مِيلاً لاَ يَقْصُرُ, فَإِنْ مَشَى يَوْمًا وَلَيْلَةً ثَلاَثِينَ مِيلاً فَإِنَّهُ لاَ يَقْصُرُ. وَاتَّفَقْتُمْ أَنَّهُ مَنْ مَشَى ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ كُلَّ يَوْمٍ بَرِيدًا غَيْرُ شَيْءٍ أَوْ جَمَعَ ذَلِكَ الْمَشْيَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ لاَ يَقْصُرُ وَاتَّفَقْتُمْ مَعْشَرَ الْمُمَوِّهِينَ بِذِكْرِ الثَّلاَثِ لَيَالِي فِي الْحَدِيثَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ مَشَى مِنْ يَوْمِهِ ثَلاَثًا وَسِتِّينَ مِيلاً فَإِنَّهُ يَقْصُرُ وَيُفْطِرُ. وَلَوْ لَمْ يَمْشِ إلاَّ بَعْضَ يَوْمٍ وَهَذَا مُمْكِنٌ جِدًّا, كَثِيرٌ فِي النَّاسِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَرْأَةَ بِأَنْ لاَ تُسَافِرَ ثَلاَثًا أَوْ يَوْمًا إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ. وَأَمْرُهُ عليه السلام الْمُسَافِرَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ بِالْمَسْحِ ثُمَّ يَخْلَعُ, لإِنَّ هَذِهِ الأَيَّامَ مَوْكُولَةٌ إلَى حَالَةِ الْمُسَافِرِ وَالْمُسَافِرَةِ, عَلَى عُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام الَّذِي لَوْ أَرَادَ غَيْرَهُ لَبَيَّنَهُ لاُِمَّتِهِ. فَلَوْ أَنَّ مُسَافِرَةً خَرَجَتْ تُرِيدُ سَفَرَ مِيلٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تَخْرُجَهُ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ إلاَّ لِضَرُورَةٍ وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا سَافَرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلاَثَةَ أَمْيَالٍ يَمْشِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِيلاً لَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ وَلَوْ سَافَرَ يَوْمًا وَأَقَامَ آخَرَ وَسَافَرَ ثَالِثًا لَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ الأَيَّامَ الثَّلاَثَةَ كَمَا هِيَ. وَحَتَّى لَوْ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ عليه السلام إلاَّ خَبَرُ الثَّلاَثِ فَقَطْ لَكَانَ الْقَوْلُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إنْ خَرَجَتْ فِي سَفَرٍ مِقْدَارَ قُوَّتِهَا فِيهِ أَنْ لاَ تَمْشِيَ إلاَّ مِيلَيْنِ مِنْ نَهَارِهَا

أَوْ ثَلاَثَةً: لَمَا حَلَّ, لَهَا إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ. فَلَوْ كَانَ مِقْدَارُ قُوَّتِهَا أَنْ تَمْشِيَ خَمْسِينَ مِيلاً كُلَّ يَوْمٍ لَكَانَ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ مَسَافَةَ مِائَةِ مِيلٍ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ1 لَكِنْ وَحْدَهَا. وَاَلَّذِي حَدَّهُ عليه السلام فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ مَعْقُولٌ مَفْهُومٌ مَضْبُوطٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِمِسَاحَةٍ مِنْ الأَرْضِ لاَ تَتَعَدَّى, بَلْ بِمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ اسْمَ سَفَرِ ثَلاَثٍ أَوْ سَفَرِ يَوْمٍ, وَلاَ مَزِيدَ وَاَلَّذِي حَدَّدْتُمُوهُ أَنْتُمْ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلاَ مَفْهُومٍ، وَلاَ مَضْبُوطٍ أَصْلاً بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَظَهَرَ فَرْقُ مَا بَيْنَ قَوْلِكُمْ وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, وَتَبَيَّنَ فَسَادُ هَذِهِ الأَقْوَالِ كُلِّهَا بِيَقِينٍ لاَ إشْكَالَ فِيهِ, وَأَنَّهَا لاَ مُتَعَلِّقَ لَهَا، وَلاَ لِشَيْءٍ2 مِنْهَا لاَ بِقُرْآنٍ، وَلاَ بِسُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَلاَ سَقِيمَةٍ, وَلاَ بِإِجْمَاعٍ، وَلاَ بِقِيَاسٍ، وَلاَ بِمَعْقُولٍ, وَلاَ بِقَوْلِ صَاحِبٍ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ نَفْسِهِ, فَكَيْفَ أَنْ لاَ يُخَالِفَهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ بِيَقِينٍ.
فَإِنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الأَخْبَارِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُ حَقٌّ كُلُّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَمُقْتَضَاهَا, مَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْهَا خَالَفَ الْحَقَّ, لاَ سِيَّمَا تَفْرِيقُ مَالِكٍ بَيْنَ خُرُوجِ الْمَكِّيِّ إلَى مِنًى وَإِلَى عَرَفَةَ فِي الْحَجِّ فَيَقْصُرُ: وَبَيْنَ سَائِرِ جَمِيعِ بِلاَدِ الأَرْضِ يَخْرُجُونَ هَذَا الْمِقْدَارَ فَلاَ يَقْصُرُونَ، وَلاَ يُعْرَفُ هَذَا التَّفْرِيقُ، عَنْ صَاحِبٍ، وَلاَ تَابِعٍ قَبْلَهُ.
وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ مُقَلِّدِيهِ بِأَنْ قَالَ: إنَّمَا ذَلِكَ لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ" وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ: بِمِنًى.
قال علي: وهذا لاَ يَصِحُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْلاً, وَإِنَّمَا هُوَ مَحْفُوظٌ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ لَهُمْ, لاَِنَّهُ كَانَ يَلْزَمُهُمْ إذْ أَخْرَجُوا حُكْمَ أَهْلِ مَكَّةَ بِمِنًى، عَنْ حُكْمِ سَائِرِ الأَسْفَارِ مِنْ أَجْلِ مَا ذَكَرُوا: أَنْ يَقْصُرَ أَهْلُ مِنًى بِمِنًى وَبِمَكَّةَ; لاَِنَّهُ عليه السلام لَمْ يَقُلْ لاَِهْلِ مِنًى: أَتِمُّوا.
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ عُرِفَ أَنَّ الْحَاضِرَ لاَ يَقْصُرُ قِيلَ لَهُمْ: صَدَقْتُمْ, وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ الأَسْفَارِ لَهُ حُكْمُ الإِقَامَةِ فَإِنَّهُمْ لاَ يَقْصُرُونَ فِيهَا, فَإِنْ كَانَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى مِنْ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَتِلْكَ الْمَسَافَةُ فِي جَمِيعِ بِلاَدِ اللَّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ، وَلاَ فَرْقَ, إذْ لَيْسَ
ـــــــ
1 في نسخة رقم "16" "إلا مع ذي محرم" وهو خطأ ظاهر.
2 في الأصلين "ولا بشيء" وهو خطأ ظاهر.

إلاَّ سَفَرٌ أَوْ إقَامَةٌ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ، وَلاَ فَرْقَ.
وَقَدْ حَدَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ الْمَشَقَّةُ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْنَا هَذَا بَاطِلٌ لإِنَّ الْمَشَقَّةَ تَخْتَلِفُ, فَنَجِدُ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشْيُ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ حَتَّى لاَ يَبْلُغَهَا إلاَّ بِشِقِّ النَّفْسِ, وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا, يَكَادُ أَنْ يَكُونَ الأَغْلَبَ, وَنَجِدُ مَنْ لاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ الرُّكُوبُ فِي عِمَارِيَّةٍ فِي أَيَّامِ الرَّبِيعِ مُرَفَّهًا مَخْدُومًا شَهْرًا وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ, فَبَطَلَ هَذَا التَّحْدِيدُ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَلْنَقُلْ الآنَ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ عَلَى بَيَانِ السَّفَرِ الَّذِي يَقْصُرُ فِيهِ وَيُفْطِرُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ:
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَقَالَ عُمَرُ, وَعَائِشَةُ, وَابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الصَّلاَةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ, وَلَمْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ الْمُسْلِمُونَ بِأَجْمَعِهِمْ سَفَرًا مِنْ سَفَرٍ, فَلَيْسَ لاَِحَدٍ أَنْ يَخُصَّهُ إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ مُتَيَقَّنٍ.
فإن قيل: بَلْ لاَ يَقْصُرُ، وَلاَ يُفْطِرُ إلاَّ فِي سَفَرٍ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْقَصْرِ فِيهِ وَالْفِطْرِ.
قلنا لَهُمْ: فَلاَ تَقْصُرُوا، وَلاَ تُفْطِرُوا إلاَّ فِي حَجٍّ, أَوْ عُمْرَةٍ, أَوْ جِهَادٍ, وَلَيْسَ هَذَا قَوْلُكُمْ, وَلَوْ قُلْتُمُوهُ لَكُنْتُمْ قَدْ خَصَّصْتُمْ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ بِلاَ بُرْهَانٍ, وَلَلَزِمَكُمْ فِي سَائِرِ الشَّرَائِعِ كُلِّهَا أَنْ لاَ تَأْخُذَا فِي شَيْءٍ مِنْهَا لاَ بِقُرْآنٍ, وَلاَ بِسُنَّةٍ إلاَّ حَتَّى يُجْمِعَ النَّاسُ عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْهَا, وَفِي هَذَا هَدْمُ مَذَاهِبِكُمْ كُلِّهَا, بَلْ فِيهِ الْخُرُوجُ عَلَى الإِسْلاَمِ, وَإِبَاحَةِ مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الدِّينِ كُلِّهِ, إلاَّ حَتَّى يُجْمِعَ النَّاسُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَهَذَا نَفْسُهُ خُرُوجٌ، عَنِ الإِجْمَاعِ.
وَإِنَّمَا الْحَقُّ فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ حَتَّى يَصِحَّ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ أَوْ مَنْسُوخٌ, فَيُوقَفُ عِنْدَ مَا صَحَّ مِنْ ذَلِكَ, فَإِنَّمَا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم لِيُطَاعَ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَلَمْ يَبْعَثْهُ اللَّهُ تَعَالَى لِيُعْصَى حَتَّى يُجْمِعَ النَّاسُ عَلَى طَاعَتِهِ, بَلْ طَاعَتُهُ وَاجِبَةٌ قَبْلَ أَنْ يُطِيعَهُ أَحَدٌ. وَقَبْلَ أَنْ يُخَالِفَهُ أَحَدٌ, لَكِنْ سَاعَةَ يَأْمُرُ بِالأَمْرِ, هَذَا مَا لاَ يَقُولُ مُسْلِمٌ خِلاَفَهُ, حَتَّى نَقَضَ مَنْ نَقَضَ وَالسَّفَرُ: هُوَ الْبُرُوزُ، عَنْ مَحَلَّةِ الإِقَامَةِ, وَكَذَلِكَ الضَّرْبُ فِي الأَرْضِ, هَذَا الَّذِي لاَ يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خُوطِبْنَا وَبِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ سِوَاهُ, فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ

عَنْ هَذَا الْحُكْمِ إلاَّ مَا صَحَّ النَّصُّ بِإِخْرَاجِهِ ثُمَّ وَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ خَرَجَ إلَى الْبَقِيعِ لِدَفْنِ الْمَوْتَى, وَخَرَجَ إلَى الْفَضَاءِ لِلْغَائِطِ وَالنَّاسُ مَعَهُ فَلَمْ يَقْصُرُوا، وَلاَ أَفْطَرُوا, وَلاَ أَفْطَرَ، وَلاَ قَصَرَ فَخَرَجَ هَذَا، عَنْ أَنْ يُسَمَّى سَفَرًا, وَعَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ, فَلَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نُوقِعَ اسْمَ سَفَرٍ وَحُكْمَ سَفَرٍ إلاَّ عَلَى مَنْ سِمَاهُ مَنْ هُوَ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ سَفَرًا, فَلَمْ نَجِدْ ذَلِكَ فِي أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ. فَقَدْ رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: لَوْ خَرَجْت مِيلاً لَقَصَرْت الصَّلاَةَ, فَأَوْقَعْنَا اسْمَ السَّفَرِ وَحُكْمَ السَّفَرِ فِي الْفِطْرِ وَالْقَصْرِ عَلَى الْمِيلِ فَصَاعِدًا, إذْ لَمْ نَجِدْ عَرَبِيًّا، وَلاَ شَرِيعِيًّا عَالِمًا أَوْقَعَ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ اسْمَ سَفَرٍ, وَهَذَا بُرْهَانٌ صَحِيحٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فإن قيل: فَهَلاَّ جَعَلْتُمْ الثَّلاَثَةَ الأَمْيَالَ كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَذِي الْحُلَيْفَةِ حَدًّا لِلْقَصْرِ وَالْفِطْرِ, إذْ لَمْ تَجِدُوا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَصَرَ، وَلاَ أَفْطَرَ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ.
قلنا: وَلاَ وَجَدْنَا عليه السلام مَنْعًا مِنْ الْفِطْرِ وَالْقَصْرِ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ, بَلْ وَجَدْنَاهُ عليه السلام أَوْجَبَ، عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ مُطْلَقًا, وَجَعَلَ الصَّلاَةَ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ مُطْلَقًا.
فَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
وَالْمِيلُ: هُوَ مَا سُمِّيَ عِنْدَ الْعَرَبِ مِيلاً, وَلاَ يَقَعُ ذَلِكَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَلْفَيْ ذِرَاعٍ.
فإن قيل: لَوْ كَانَ هَذَا مَا خَفِيَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ, وَلاَ عَلَى عُثْمَانَ, وَلاَ عَلَى مَنْ لاَ يَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ, فَهُوَ مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى.
قلنا: قَدْ عَرَفَهُ عُمَرُ, وَابْنُ عُمَرَ, وَأَنَسٌ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَالتَّابِعِينَ.
ثُمَّ نَعْكِسُ عَلَيْكُمْ قَوْلَكُمْ: فَنَقُولُ لِلْحَنَفِيِّينَ: لَوْ كَانَ قَوْلُكُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَقًّا مَا خَفِيَ عَلَى عُثْمَانَ, وَلاَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ, وَلاَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ, وَلاَ عَلَى مَنْ لاَ يَعْرِفُ قَوْلَكُمْ, كَمَالِكٍ, وَاللَّيْثِ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَغَيْرِهِمْ, مِمَّنْ لاَ يَقُولُ بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَهُوَ مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى.
وَنَقُولُ لِلْمَالِكِيِّينَ: لَوْ كَانَ قَوْلُكُمْ حَقًّا مَا خَفِيَ عَلَى كُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ, وَهُوَ مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى.
إلاَّ أَنَّ هَذَا الإِلْزَامَ لاَزِمٌ لِلطَّوَائِفِ الْمَذْكُورَةِ لاَ لَنَا; لأَنَّهُمْ يَرَوْنَ هَذَا الإِلْزَامَ حَقًّا, وَمَنْ حَقَّقَ شَيْئًا لَزِمَهُ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نُحَقِّقُ هَذَا الإِلْزَامَ الْفَاسِدَ بَلْ هُوَ عِنْدَنَا وَسْوَاسٌ وَضَلاَلٌ, وَإِنَّمَا حَسْبُنَا اتِّبَاعُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عليه السلام, عَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ, وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ, وَمَا مِنْ شَرِيعَةٍ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا إلاَّ قَدْ عَلِمَهَا بَعْضُ السَّلَفِ وَقَالَ بِهَا, وَجَهِلَهَا بَعْضُهُمْ

فَلَمْ يَقُلْ بِهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ مَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ: إنَّ مِنْ الْعَجَبِ تَرْكَ سُؤَالِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْعَظِيمَةِ, وَهِيَ حَدُّ السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ وَيُفْطَرُ فِيهِ فِي رَمَضَانَ.
فَقُلْنَا: هَذَا أَعْظَمُ بُرْهَانٍ, وَأَجَلُّ دَلِيلٍ, وَأَوْضَحُ حُجَّةٍ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٍ وَتَمْيِيزٍ عَلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ لِذَلِكَ أَصْلاً إلاَّ مَا سُمِّيَ سَفَرًا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَهُمْ عليه السلام, إذْ لَوْ كَانَ لِمِقْدَارِ السَّفَرِ حَدٌّ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا لَمَا أَغْفَلَ عليه السلام بَيَانَهُ أَلْبَتَّة, وَلاَ أَغْفَلُوا هُمْ سُؤَالَهُ عليه السلام عَنْهُ, وَلاَ اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ نَقْلِ تَحْدِيدِهِ فِي ذَلِكَ إلَيْنَا, فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ جُمْلَةً, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ, وَلاَحَ بِذَلِكَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْهُمْ قَنَعُوا بِالنَّصِّ الْجَلِيِّ, وَإِنَّ كُلَّ مَنْ حَدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا فَإِنَّمَا هُوَ وَهْمٌ أَخْطَأَ فِيهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى أَنَّهُ إذَا فَارَقَ بُيُوتَ الْقَرْيَةِ وَهُوَ يُرِيدُ إمَّا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. وَأَمَّا أَرْبَعَةَ بُرُدٍ أَنَّهُ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ. فَنَسْأَلُهُمْ: أَهُوَ فِي سَفَرٍ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ أَمْ لَيْسَ فِي سَفَرٍ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ بَعْدُ, لَكِنَّهُ يُرِيدُ سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ بَعْدُ, وَلاَ يَدْرِي أَيَبْلُغُهُ أَمْ لاَ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِ الأَمْرَيْنِ.
فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ فِي سَفَرٍ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ بَعْد, وَلَكِنَّهُ يُرِيدُهُ, وَلاَ يَدْرِي أَيَبْلُغُهُ أَمْ لاَ, أَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ أَبَاحُوا لَهُ الْقَصْرَ, وَهُوَ فِي غَيْرِ سَفَرٍ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ, مِنْ أَجْلِ نِيَّتِهِ فِي إرَادَتِهِ سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ, وَلَزِمَهُمْ أَنْ يُبِيحُوا لَهُ الْقَصْرَ فِي مَنْزِلِهِ وَخَارِجِ مَنْزِلِهِ بَيْنَ بُيُوتِ قَرْيَتِهِ, مِنْ أَجْلِ نِيَّتِهِ فِي إرَادَتِهِ سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ، وَلاَ فَرْقَ. وَقَدْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: عَطَاءٌ, وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ, وَغَيْرُهُمَا, إلاَّ أَنَّ هَؤُلاَءِ يُقِرُّونَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي سَفَرٍ, ثُمَّ يَأْمُرُونَهُ بِالْقَصْرِ, وَهَذَا لاَ يَحِلُّ أَصْلاً.
وَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُوَ فِي سَفَرٍ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ هَدَمُوا كُلَّ مَا بَنَوْا, وَأَبْطَلُوا أَصْلَهُمْ وَمَذْهَبَهُمْ, وَأَقَرُّوا بِأَنَّ قَلِيلَ السَّفَرِ وَكَثِيرَهُ: تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ, لاَِنَّهُ قَدْ يَنْصَرِفُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْمِقْدَارَ الَّذِي فِيهِ الْقَصْرُ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّ مَا دُونَ الْمِيلِ مِنْ آخِرِ بُيُوتِ قَرْيَتِهِ لَهُ حُكْمُ الْحَضَرِ, فَلاَ يُقْصَرُ فِيهِ، وَلاَ يُفْطَرُ, فَإِذَا بَلَغَ الْمِيلَ فَحِينَئِذٍ صَارَ فِي سَفَرٍ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ وَيُفْطَرُ فِيهِ, فَمِنْ حِينَئِذٍ

يَقْصُرُ وَيُفْطِرُ, وَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ فَكَانَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ فَإِنَّهُ يُتِمُّ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي سَفَرٍ يَقْصُرُ فِيهِ بَعْدُ.

حكم المسافر لا فرق بين سفر بر أو بحر أو نهر
514 - مَسْأَلَةٌ: وَسَوَاءٌ سَافَرَ فِي بَرٍّ, أَوْ بَحْرٍ, أَوْ نَهْرٍ ,
كُلُّ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا, لاَِنَّهُ سَفَرٌ، وَلاَ فَرْقَ.

إذا أقام المسافر لحج أو عمرة أو جهاد في مكان واحد
515 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ سَافَرَ الْمَرْءُ فِي جِهَادٍ, أَوْ حَجٍّ, أَوْ عُمْرَةٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الأَسْفَارِ:
فَأَقَامَ فِي مَكَان وَاحِدٍ عِشْرِينَ يَوْمًا بِلَيَالِيِهَا: قَصَرَ, وَإِنْ أَقَامَ أَكْثَرَ: أَتَمَّ وَلَوْ فِي صَلاَةٍ وَاحِدَةٍ.
ثُمَّ ثَبَتْنَا بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ سَفَرَ الْجِهَادِ, وَسَفَرَ الْحَجِّ, وَسَفَرَ الْعُمْرَةِ, وَسَفَرَ الطَّاعَةِ, وَسَفَرَ الْمَعْصِيَةِ, وَسَفَرَ مَا لَيْسَ طَاعَةً، وَلاَ مَعْصِيَةً: كُلُّ ذَلِكَ سَفَرٌ, حُكْمُهُ كُلُّهُ فِي الْقَصْرِ وَاحِدٌ. وَإِنَّ مَنْ أَقَامَ فِي شَيْءٍ عِشْرِينَ يَوْمًا بِلَيَالِيِهَا فَأَقَلَّ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ، وَلاَ بُدَّ, سَوَاءٌ نَوَى إقَامَتَهَا أَوْ لَمْ يَنْوِ إقَامَتَهَا, فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ إقَامَةَ مُدَّةِ صَلاَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَكْثَرَ: أَتَمَّ، وَلاَ بُدَّ, هَذَا فِي الصَّلاَةِ خَاصَّةً.
وَأَمَّا فِي الصِّيَامِ فِي رَمَضَانَ فَبِخِلاَفِ ذَلِكَ, بَلْ إنْ أَقَامَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فِي خِلاَلِ السَّفَرِ لَمْ يُسَافِرْ فِيهِمَا: فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ فِيمَا يَسْتَأْنِفُ1 وَكَذَلِكَ إنْ نَزَلَ وَنَوَى إقَامَةَ لَيْلَةٍ وَالْغَدِ, فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ وَيَصُومَ.
فَإِنْ وَرَدَ عَلَى ضَيْعَةٍ لَهُ, أَوْ مَاشِيَةٍ, أَوْ دَارٍ, فَنَزَلَ هُنَالِكَ: أَتَمَّ, فَإِذَا رَحَلَ مِيلاً فَصَاعِدًا: قَصَرَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَجْمَعَ عَلَى إقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ الصَّلاَةَ وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَأَصْحَابُهُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ، حدثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، حدثنا عَاصِمٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بِمَكَّةَ سَبْعَ عَشَرَةَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ أَقَامَ سَبْعَ عَشَرَةَ بِمَكَّةَ قَصَرَ, وَمَنْ أَقَامَ فَزَادَ أَتَمَّ.
وَرُوِيَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ: إذَا أَجْمَعَ إقَامَةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً: أَتَمَّ, فَإِنْ نَوَى أَقَلَّ: قَصَرَ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إذَا أَجْمَعْتَ إقَامَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً فَأَتِمَّ الصَّلاَةَ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: إذَا أَقَمْت عَشْرًا فَأَتِمَّ الصَّلاَةَ. وَبِهِ يَأْخُذُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ,
ـــــــ
1 في النسخة رقم "45" "لما يستأنف".

من ابتدأ صلاة و هو مقيم ثم نوى فيها أن يقيم
516 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ ابْتَدَأَ صَلاَةً وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ نَوَى فِيهَا السَّفَرَ, أَوْ ابْتَدَأَهَا وَهُوَ مُسَافِرٌ ثُمَّ نَوَى فِيهَا أَنْ يُقِيمَ:
أَتَمَّ فِي كِلاَ الْحَالَيْنِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الإِقَامَةَ غَيْرُ السَّفَرِ وَأَنَّهُ لاَ يَخْرُجُ، عَنْ حُكْمِ الإِقَامَةِ مِمَّا هُوَ إقَامَةٌ إلاَّ مَا أَخْرَجَهُ نَصٌّ. فَهُوَ إذَا نَوَى فِي الصَّلاَةِ سَفَرًا فَلَمْ يُسَافِرْ بَعْدُ, بَلْ هُوَ مُقِيمٌ, فَلَهُ حُكْمُ الإِقَامَةِ. وَإِذَا افْتَتَحَهَا وَهُوَ مُسَافِرٌ فَنَوَى فِيهَا الإِقَامَةَ فَهُوَ مُقِيمٌ بَعْدُ لاَ مُسَافِرٌ, فَلَهُ أَيْضًا حُكْمُ الإِقَامَةِ. إذْ إنَّمَا كَانَ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ بِالنَّصِّ الْمُخْرِجِ لِتِلْكَ الْحَالِ، عَنْ حُكْمِ الإِقَامَةِ, فَإِذَا بَطَلَتْ تِلْكَ الْحَالُ بِبُطْلاَنِ نِيَّتِهِ صَارَ فِي حَالِ الإِقَامَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

من ذكر و هو في سفر صلاة نسيها أو نام عنها في إقامتها
517 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ ذَكَرَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ صَلاَةً نَسِيَهَا أَوْ نَامَ عَنْهَا فِي إقَامَتِهِ
صَلاَّهَا رَكْعَتَيْنِ، وَلاَ بُدَّ, فَإِنْ ذَكَرَ فِي الْحَضَرِ صَلاَةً نَسِيَهَا فِي سَفَرٍ صَلاَّهَا أَرْبَعًا، وَلاَ بُدَّ.
وقال الشافعي: يُصَلِّيهَا فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ: أَرْبَعًا.
وقال مالك: يُصَلِّيهَا إذَا نَسِيَهَا فِي السَّفَرِ فَذَكَرَهَا فِي الْحَضَرِ: رَكْعَتَيْنِ وَإِذَا نَسِيَهَا فِي الْحَضَرِ فَذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ صَلاَّهَا: أَرْبَعًا. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الأَصْلَ الإِتْمَامُ, وَإِنَّمَا الْقَصْرُ رُخْصَةٌ.
قال علي: وهذا خَطَأٌ, وَدَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَلَوْ أَرَدْنَا مُعَارَضَتَهُ لَقُلْنَا: بَلْ الأَصْلُ الْقَصْرُ, كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ، رضي الله عنها، "فُرِضَتْ الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَ فِي صَلاَةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ عَلَى الْحَالَةِ الآُولَى". وَلَكِنَّا لاَ نَرْضَى بِالشَّغَبِ, بَلْ نَقُولُ: إنَّ صَلاَةَ السَّفَرِ أَصْلٌ, وَصَلاَةَ الإِقَامَةِ أَصْلٌ, لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا فَرْعًا لِلآُخْرَى, فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ.
وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِأَنَّ الصَّلاَةَ إنَّمَا تُؤَدَّى كَمَا لَزِمَتْ إذَا فَاتَتْ.
قال علي: وهذا أَيْضًا دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ خَطَأٌ, وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يُخَالِفُ هَذَا الأَصْلَ وَيَهْدِمُهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ, إلاَّ هُنَا فَإِنَّهُ تَنَاقُضٌ, وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقُولُ: مَنْ فَاتَتْهُ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ لاَ يُصَلِّيهَا إلاَّ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ. وَمَنْ فَاتَتْهُ فِي حَالِ مَرَضِهِ صَلَوَاتٌ كَانَ حُكْمُهَا لَوْ صَلاَّهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا أَوْ مُومِئًا فَذَكَرَهَا فِي صِحَّتِهِ: فَإِنَّهُ لاَ يُصَلِّيهَا إلاَّ قَائِمًا. وَمَنْ ذَكَرَ فِي حَالِ الْمَرَضِ الْمَذْكُورِ صَلاَةً فَاتَتْهُ فِي صِحَّتِهِ كَانَ حُكْمُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا قَائِمًا فَإِنَّهُ لاَ يُصَلِّيهَا إلاَّ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا. وَمَنْ صَلَّى فِي حَالِ خَوْفٍ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا صَلاَةً نَسِيَهَا فِي حَالِ الأَمْنِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّيهَا رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا. وَمَنْ

إن صلى مسافر بصلاة أمام مقيم
518 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ صَلَّى مُسَافِرٌ بِصَلاَةِ إمَامٍ مُقِيمٍ
قَصَرَ، وَلاَ بُدَّ, وَإِنْ صَلَّى مُقِيمٌ بِصَلاَةِ مُسَافِرٍ أَتَمَّ، وَلاَ بُدَّ, وَكُلُّ أَحَدٍ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ, وَإِمَامَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلآخَرِ جَائِزَةٌ، وَلاَ فَرْقَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي عَاصِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ، عَنِ الصَّلاَةِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: رَكْعَتَانِ قُلْتُ: كَيْفَ تَرَى وَنَحْنُ هَهُنَا بِمِنًى قَالَ: وَيْحَك سَمِعْتَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَآمَنْتَ بِهِ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ إنْ شِئْت أَوْ دَعْ وَهَذَا بَيَانٌ جَلِيٌّ بِأَمْرِ ابْنِ عُمَرَ الْمُسَافِرَ1 أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ الْمُقِيمِ رَكْعَتَيْنِ فَقَطْ.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "45" "بيان جلى من ابن عمر للمسافر" الخ.

وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ حَذْلَمٍ1. قَالَ: كَانَ أَبِي إذَا أَدْرَكَ مِنْ صَلاَةِ الْمُقِيمِ رَكْعَةً وَهُوَ مُسَافِرٌ صَلَّى إلَيْهَا أُخْرَى, وَإِذَا أَدْرَكَ رَكْعَتَيْنِ اجْتَزَأَ بِهِمَا.
قَالَ عَلِيٌّ: تَمِيمُ بْنُ حَذْلَمٍ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.
وَعَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَطَرِ بْنِ فِيلٍ2، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: إذَا كَانَ مُسَافِرًا فَأَدْرَكَ مِنْ صَلاَةِ الْمُقِيمِ رَكْعَتَيْنِ اعْتَدَّ بِهِمَا.
وَعَنْ شُعْبَة، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ قَالَ: سَمِعْت طَاوُوسًا وَسَأَلْته، عَنْ مُسَافِرٍ أَدْرَكَ مِنْ صَلاَةِ الْمُقِيمِينَ رَكْعَتَيْنِ قَالَ: تُجْزِيَانِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا مَا قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى لِسَانِهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَصَلاَةَ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، حدثنا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى، هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "إنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَ، عَنِ الْمُسَافِرِ الصِّيَامَ"3 وَنِصْفَ الصَّلاَةِ وَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام مَأْمُومًا مِنْ إمَامٍ مِنْ مُنْفَرِدٍ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
قَالَ عَلِيٌّ: وَالْعَجَبُ مِنْ الْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ, وَالْحَنَفِيِّينَ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّ الْمُقِيمَ خَلْفَ الْمُسَافِرِ يُتِمُّ، وَلاَ يَنْتَقِلُ إلَى حُكْمِ إمَامِهِ فِي التَّقْصِير, وَإِنَّ الْمُسَافِرَ خَلْفَ الْمُقِيمِ يَنْتَقِلُ إلَى حُكْمِ إمَامِهِ فِي الإِتْمَامِ. وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ, وَلَوْ صَحَّ قِيَاسٌ فِي الْعَالَمِ لَكَانَ هَذَا أَصَحَّ قِيَاسٍ يُوجَدُ, وَلَكِنْ هَذَا مِمَّا تَرَكُوا فِيهِ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ وَالْقِيَاسَ.
وَمَا وَجَدْت لَهُمْ حُجَّةً إلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إنَّ الْمُسَافِرَ إذَا نَوَى فِي صَلاَتِهِ الإِقَامَةَ لَزِمَهُ إتْمَامُهَا, وَالْمُقِيمُ إذَا نَوَى فِي صَلاَتِهِ السَّفَرَ لَمْ يَقْصُرْهَا, قَالَ: فَإِذَا خَرَجَ بِنِيَّتِهِ إلَى الإِتْمَامِ فَأَحْرَى أَنْ يَخْرُجَ إلَى الإِتْمَامِ بِحُكْمِ إمَامِهِ
قال علي: وهذا قِيَاسٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ; لاَِنَّهُ لاَ نِسْبَةَ، وَلاَ شَبَهَ بَيْنَ صَرْفِ النِّيَّةِ مِنْ سَفَرٍ إلَى إقَامَةٍ وَبَيْنَ الاِئْتِمَامِ بِإِمَامٍ مُقِيمٍ, بَلْ التَّشْبِيهُ بَيْنَهُمَا هَوَسٌ ظَاهِرٌ
ـــــــ
1 بفتح الحاء المهملة وإسكان الذال المعجمة وفتح اللام.
2 كذا في جميع الأصول, وضبط في النسخة رقم "14" بالقلم بكسر الفاء ولم أجد له ترجمة ولا ذكرا في شيء من الكتب.
3 في النسخة رقم "16" "الصوم" زما هنا هو الموافق للنسخة رقم "14 و45" وللنسائي "ج 1 ص 315.

وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ" فقُلْنَا لَهُمْ: فَقُولُوا لِلْمُقِيمِ خَلْفَ الْمُسَافِرِ: أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ إذَنْ فَقَالَ قَائِلُهُمْ: قَدْ جَاءَ: "أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ". فَقُلْنَا: لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ عَلَيْكُمْ; لإِنَّ فِيهِ أَنَّ الْمُسَافِرَ لاَ يُتِمُّ, وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَأْمُومٍ، وَلاَ إمَامٍ, فَالْوَاجِبُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْمُسَافِرَ جُمْلَةً يَقْصُرُ, وَالْمُقِيمَ جُمْلَةً يُتِمّ, وَلاَ يُرَاعِي أَحَدٌ مِنْهُمَا حَالَ إمَامِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

صلاة الخوف
من حضره خوف من عدو ظالم كافر أو باغ من المسلمين أو غير ذلك و هم ثلاثة فصاعدا

صلاة الخوف
519 - مَسْأَلَةٌ: مَنْ حَضَرَهُ خَوْفٌ مِنْ عَدُوٍّ ظَالِمٍ كَافِرٍ, أَوْ بَاغٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ, أَوْ مِنْ سَيْلٍ, أَوْ مِنْ نَارٍ, أَوْ مِنْ حَنَشٍ, أَوْ سَبُعٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَهُمْ فِي ثَلاَثَةٍ فَصَاعِدًا:
فَأَمِيرُهُمْ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَجْهًا, كُلُّهَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ بَيَّنَّاهَا غَايَةَ الْبَيَانِ وَالتَّقَصِّي فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَإِنَّمَا كَتَبْنَا كِتَابَنَا هَذَا لِلْعَامِّيِّ وَالْمُبْتَدِئِ وَتَذْكِرَةً لِلْعَالِمِ, فَنَذْكُرُ هَهُنَا بَعْضَ تِلْكَ الْوُجُوهِ, مِمَّا يَقْرُبُ حِفْظُهُ وَيَسْهُلُ فَهْمُهُ, وَلاَ يَضْعُفُ فِعْلُهُ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ كَانَ فِي سَفَرٍ, فَإِنْ شَاءَ صَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمُوا, ثُمَّ تَأْتِي طَائِفَةٌ أُخْرَى فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ وَيُسَلِّمُونَ, وَإِنْ كَانَ فِي حَضَرٍ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ, وَإِنْ كَانَتْ الصُّبْحُ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ, وَإِنْ كَانَتْ الْمَغْرِبُ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ ثَلاَثَ رَكَعَاتٍ, الآُولَى فَرْضُ الإِمَامِ, وَالثَّانِيَةُ تَطَوُّعٌ لَهُ.
وَإِنْ شَاءَ فِي السَّفَرِ أَيْضًا صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً ثُمَّ تُسَلِّمُ تِلْكَ الطَّائِفَةُ وَيُجْزِئُهُمَا, وَإِنْ شَاءَ هُوَ سَلَّمَ, وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُسَلِّمْ, وَيُصَلِّي بِالآُخْرَى رَكْعَةً وَيُسَلِّمُ وَيُسَلِّمُونَ وَيُجْزِئُهُمْ. وَإِنْ شَاءَتْ الطَّائِفَةُ أَنْ تَقْضِيَ الرَّكْعَةَ وَالإِمَامُ وَاقِفٌ فَعَلَتْ, ثُمَّ تَفْعَلُ الثَّانِيَةُ أَيْضًا كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ الصُّبْحُ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الآُولَى رَكْعَةً ثُمَّ وَقَفَ، وَلاَ بُدَّ وَقَضَوْا رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا, ثُمَّ تَأْتِي الثَّانِيَةُ فَيُصَلِّي بِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ, فَإِذَا جَلَسَ قَامُوا فَقَضَوْا رَكْعَةً, ثُمَّ سَلَّمَ وَيُسَلِّمُونَ فَإِنْ كَانَتْ الْمَغْرِبُ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الآُولَى رَكْعَتَيْنِ, فَإِذَا جَلَسَ قَامُوا فَقَضَوْا رَكْعَةً وَسَلَّمُوا وَتَأْتِي الآُخْرَى فَيُصَلِّي بِهِمْ الرَّكْعَةَ الْبَاقِيَةَ, فَإِذَا قَعَدَ صَلُّوا رَكْعَةً ثُمَّ جَلَسُوا وَتَشَهَّدُوا, ثُمَّ صَلَّوْا الثَّالِثَةَ ثُمَّ يُسَلِّمُ وَيُسَلِّمُونَ.
فَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ, أَوْ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَتُجْزِئُهُ وَأَمَّا الصُّبْحُ.

فَاثْنَتَانِ، وَلاَ بُدَّ, وَالْمَغْرِبُ ثَلاَثٌ، وَلاَ بُدَّ, وَفِي الْحَضَرِ أَرْبَعٌ، وَلاَ بُدَّ.
سَوَاءٌ هَهُنَا الْخَائِفُ مِنْ طَلَبٍ1 بِحَقٍّ, أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} فَهَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي بِعُمُومِهَا الصِّفَاتِ الَّتِي قلنا نَصًّا.
ثُمَّ كُلُّ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَرْغَبَ، عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى آمِرًا لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مِنْ مِلَّتِهِ, وَمِلَّتُهُ هِيَ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ عليه السلام.
وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا بِيَسِيرٍ فِي بَابِ مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَوَجَدَ جَمَاعَةً يُصَلُّونَ يُصَلِّي صَلاَةً أُخْرَى فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ وَجَابِرٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ فِي الْخَوْفِ ثُمَّ سَلَّمَ, وَبِطَائِفَةٍ أُخْرَى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ". وَذَكَرْنَا مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ, فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ, وَهَذَا آخِرُ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم; لإِنَّ أَبَا بَكَرَةَ شَهِدَهُ مَعَهُ وَلَمْ يُسْلِمْ إلاَّ يَوْمَ الطَّائِفِ, وَلَمْ يَغْزُ عليه السلام بَعْدَ الطَّائِفِ غَيْرَ تَبُوكَ فَقَطْ. فَهَذِهِ أَفْضَلُ صِفَاتِ صَلاَةِ الْخَوْفِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ بِهَذَا الشَّافِعِيُّ, وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَيْضًا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: "فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاَةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا, وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ, وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةٌ ":
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ حَدَّثَنِي أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ هِلاَلٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمَ قَالَ: "كُنَّا مَعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِطَبَرِسْتَانَ فَقَالَ: أَيُّكُمْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الْخَوْفِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا, فَقَامَ حُذَيْفَةُ وَصَفَّ النَّاسَ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ صَفًّا خَلْفَهُ وَصَفًّا مُوَازِيَ الْعَدُوِّ, فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ خَلْفَهُ رَكْعَةً, وَانْصَرَفَ هَؤُلاَءِ إلَى مَكَانِ هَؤُلاَءِ, وَجَاءَ أُولَئِكَ, فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوا ". قَالَ سُفْيَانُ: وَحَدَّثَنِي الرُّكَيْنُ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "45" "من طلب".

ابْنُ الرَّبِيعِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ صَلاَةِ حُذَيْفَةَ.
قَالَ عَلِيٌّ: الأَسْوَدُ بْنُ هِلاَلٍ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ, وَثَعْلَبَةُ بْنُ زَهْدَمٍ أَحَدُ الصَّحَابَةِ حَنْظَلِيٌّ وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَمِعَ مِنْهُ وَرَوَى عَنْهُ.
وَصَحَّ هَذَا أَيْضًا مُسْنَدًا مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ, وَأَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ كِلاَهُمَا، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقِير، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرَ جَابِرٌ أَنَّ الْقَصْرَ الْمَذْكُورَ فِي الآيَةِ عِنْدَ الْخَوْفِ هُوَ هَذَا لاَ كَوْنُ الصَّلاَةِ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ.
وَصَحَّ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَظَاهِرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ, وَقَالَ بِهَذَا جُمْهُورٌ مِنْ السَّلَفِ. كَمَا رُوِيَ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَيَّامَ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ, لاَ يُنْكِرُ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ, وَعَنْ جَابِرٍ, وَغَيْرِهِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى بِمَنْ مَعَهُ صَلاَةَ الْخَوْفِ, فَصَلاَّهَا بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ، وَلاَ أَمَرَ بِالْقَضَاءِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُومِئُ بِرَكْعَةٍ عِنْدَ الْقِتَالِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ صَلَّى فِي الْخَوْفِ رَكْعَةً.
وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إذَا كَانَتْ الْمُسَايَفَةُ فَإِنَّمَا هِيَ رَكْعَةٌ يُومِئُ إيمَاءً حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ, رَاكِبًا كَانَ أَوْ مَاشِيًا.
وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ فِي صَلاَةِ الْمُطَارَدَةِ: رَكْعَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ مَكْحُولٍ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ: إذَا لَمْ يَقْدِرْ الْقَوْمُ عَلَى أَنْ يُصَلُّوا1 عَلَى الأَرْضِ صَلُّوا عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ رَكْعَتَيْنِ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرُوا فَرَكْعَةٌ وَسَجْدَتَانِ, فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا أَخَّرُوا حَيْثُ يَأْمَنُوا.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا تَأْخِيرُهَا، عَنْ وَقْتِهَا فَلاَ يَحِلُّ أَلْبَتَّةَ; لاَِنَّهُ لَمْ يَسْمَحْ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَأْخِيرِهَا، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَجْلاَنَ الأَفْطَسُ سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: كَيْف يَكُونُ قَصْرٌ وَهُمْ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ, يُومِئُ بِهَا حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "على أن لا يصلوا" وهو خطأ.

وَعَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ1 هُوَ سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ غُرَابٍ2 كُنَّا مَصَافِّي الْعَدُوِّ3 بِفَارِسَ, وَوُجُوهُنَا إلَى الْمَشْرِقِ, فَقَالَ هَرِمُ بْنُ حَيَّانَ: لِيَرْكَعْ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْكُمْ رَكْعَةً تَحْتَ جُنَّتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلْت الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ, وَحَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَقَتَادَةَ، عَنْ صَلاَةِ الْمُسَايَفَةِ فَقَالُوا: رَكْعَةٌ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ.
وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ مِثْلُ قَوْلِ الْحَكَمِ, وَحَمَّادٍ, وَقَتَادَةَ.
وَعَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} قَالَ: فِي الْعَدُوِّ يُصَلِّي رَاكِبًا وَرَاجِلاً يُومِئُ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ, وَالرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ تُجْزِئُهُ. وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ
قال علي: وهذانِ الْعَمَلاَنِ أَحَبُّ الْعَمَلِ إلَيْنَا, مِنْ غَيْرِ أَنْ نَرْغَبَ، عَنْ سَائِرِ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ, وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا. لَكِنْ مِلْنَا إلَى هَذَيْنِ لِسُهُولَةِ الْعَمَلِ فِيهِمَا عَلَى كُلِّ جَاهِلٍ, وَعَالِمٍ, وَلِكَثْرَةِ مَنْ رَوَاهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَلِكَثْرَةِ مَنْ قَالَ بِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَلِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ بِهِمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِمُوَافَقَتِهِمَا الْقُرْآنَ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ لاَ يُبَالِي بِالْكَذِبِ, عَصَبِيَّةً لِتَقْلِيدِهِ الْمُهْلِكِ لَهُ: الأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُمْ قَضَوْا!.
قال علي: هذا انْسِلاَخٌ مِنْ الْحَيَاءِ جُمْلَةً, وَقَصْدٌ إلَى الْكَذِبِ جِهَارًا، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: الأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُمْ أَتَمُّوا أَرْبَعًا!
وَقَالَ: لَمْ نَجِدْ فِي الآُصُولِ صَلاَةً مِنْ رَكْعَةٍ.
وَقُلْنَا لَهُمْ: وَلاَ وَجَدْتُمْ فِي الآُصُولِ صَلاَةَ الإِمَامِ بِطَائِفَتَيْنِ, وَلاَ صَلاَةً إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ, وَلاَ صَلاَةً يَقْضِي فِيهَا الْمَأْمُومُ مَا فَاتَهُ قَبْلَ تَمَامِ صَلاَةِ إمَامِهِ, وَلاَ صَلاَةً يَقِفُ الْمَأْمُومُ فِيهَا لاَ هُوَ يُصَلِّي مَعَ إمَامِهِ، وَلاَ هُوَ يَقْضِي مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ صَلاَتِهِ, وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَكُمْ جَائِزٌ فِي الْخَوْفِ, وَلاَ وَجَدْتُمْ شَيْئًا
ـــــــ
1 بفتح الميم وإسكان السين وفي النسخة رقم "ذ6" "عن أبي سلمة" وهو خطأ.
2 كذا في أكثر الأصول ولم أجد له ترجمة وضبط في النسخة رقم "14" "غزاب" بالغين والزاي المعجمتين ووضع عليه علامة التصحيح وما أظنه صحيحا فإن الذهبي لم يذكر في المشتبه "غزاب" ولن يذكر شرح القاموس مادة "غ ز ب".
3 أي نصف وجاه العدو وعذا هو الصواب الذي في النسخة رقم "14" وفي باقي الأصول "نصلي في العدو" وهو خطأ ظاهر.

مِنْ الدِّيَانَةِ حَتَّى جَاءَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى, وَالآُصُولُ لَيْسَتْ شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ
فإن قيل: قَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَضَاءِ رَكْعَةٍ.
قلنا: هَذَا انْفَرَدَ بِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ, وَهُوَ سَاقِطٌ لاَ تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا مُنِعَ مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْضُوا, بَلْ كَانَ يَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ جَائِزًا.
وقال بعضهم: قَدْ رُوِيَ، عَنْ حُذَيْفَةَ صَلاَةُ الْخَوْفِ رَكْعَتَيْنِ1 وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ.
قلنا: هَذَا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ, عَنْ شَرِيكٍ, وَهُوَ مُدَلِّسٌ, وَخَدِيجٍ, وَهُوَ مَجْهُولٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَكَانَ مَقْصُودًا بِهِ صَلاَةُ إمَامِهِمْ بِهِمْ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمِ بْنِ صُلَيْعٍ2 السَّلُولِيِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ قَالَ لِسَعِيدٍ: مُرْ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِك فَيُصَلُّونَ مَعَكَ, وَطَائِفَةً خَلْفَكُمْ, فَتُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَهَكَذَا نَقُولُ: فِي صَلاَةِ الإِمَامِ بِهِمْ.
وقال بعضهم: قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "صَلاَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى".
قلنا: نَعَمْ, إلاَّ مَا جَاءَ نَصٌّ فِيهِ أَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ مَثْنَى, كَالْوِتْرِ, وَصَلاَةِ الْخَوْفِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ مَثْنَى, كَالظُّهْرِ, وَالْعَصْرِ, وَالْعِشَاءِ.
وقال بعضهم: قَدْ نُهِيَ، عَنْ "الْبُتَيْرَاءِ".
قَالَ عَلِيٌّ: وَهَذِهِ كِذْبَةٌ وَخَبَرٌ مَوْضُوعٌ. وَمَا نَدْرِي "الْبُتَيْرَاءَ" فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وقال بعضهم: أَنْتُمْ تُجِيزُونَ لِلإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ إنْ شَاءَ رَكْعَةً وَيُسَلِّمَ, وَإِنْ شَاءَ وَصَلَهَا بِأُخْرَى بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ, وَبِيَقِينٍ نَدْرِي أَنَّ مَا كَانَ لِلْمَرْءِ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ فَهُوَ تَطَوُّعٌ لاَ فَرْضٌ, وَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمُحَالٌ أَنْ يَصِلَ فَرْضَهُ بِتَطَوُّعٍ لاَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا سَلاَمٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: إنَّمَا يَكُونُ مَا ذَكَرُوا فِيمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ, وَأَمَّا إذَا جَاءَ النَّصُّ فَالنَّظَرُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, لاَ يَحِلُّ بِهِ مُعَارِضَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
ثم نقول لَهُمْ: أَلَيْسَ مُصَلِّي الْفَرْضَ مِنْ إمَامٍ أَوْ مُنْفَرِدٍ عِنْدَكُمْ وَعِنْدَنَا مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَقْرَأَ مَعَ "أُمِّ الْقُرْآنِ" سُورَةً إنْ شَاءَ طَوِيلَةً وَإِنْ شَاءَ قَصِيرَةً وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَرَ عَلَى "أُمِّ الْقُرْآنِ" فَقَطْ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ تَسْبِيحَةً تَسْبِيحَةً وَإِنْ شَاءَ طَوَّلَهُمَا فَمِنْ قَوْلِهِمْ: نَعَمْ, فَقُلْنَا لَهُمْ: فَقَدْ أَبَحْتُمْ هَهُنَا مَا قَدْ حَكَمْتُمْ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ وَمُحَالٌ مَنْ صِلَتُهُ3
ـــــــ
1 كذا في الأصلين.
2 سليم بالسين وصليع بالصاد المهملة وبالتصغير فيهما.
3 أي من وصل الفرض بالتطوع ردا على من أنكر صلاة الإمام رعة فريضة بالطائفة. الأولى ثم صلاته أخرى تطكوعا بالطائفة الثانية موصولة بالأولى من غير فصل بالسلام وهكذا رسم في الأصلين "صلته" على هذا المعنى على الصواب وظن ناسخا الأصلين أن صوابه "صلاته" وهو ظن خطأبل الصواب ما ذكرنا.

فَرِيضَةٌ بِمَا هُوَ عِنْدَكُمْ تَطَوُّعٌ إنْ شَاءَ فَعَلَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا, بَلْ كُلُّ هَذَا خَيْرٌ فِيهِ الْبِرُّ, فَإِنَّ طَوَّلَ فَفَرْضٌ أَدَّاهُ, وَإِنْ لَمْ يُطَوِّلْ فَفَرْضٌ أَدَّاهُ, وَإِنْ كَانَ صَلَّى رَكْعَةً فِي الْخَوْفِ فَهِيَ فَرْضُهُ, وَإِنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَهُمَا فَرْضُهُ. كَمَا فَعَلَ عليه السلام وَكَمَا أَمَرَ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إن هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}.
قَالَ عَلِيٌّ: وَسَائِرُ الْوُجُوهِ الصِّحَاحِ الَّتِي لَمْ تُذْكَرُ أَخَذَ بِبَعْضِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَأَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ, وَابْنُ عُمَرَ, وَجَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ، رضي الله عنهم.
وَهَهُنَا أَقْوَالٌ لَمْ تَصِحَّ قَطُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ تُرْوَ عَنْهُ أَصْلاً, وَلَكِنْ رُوِيَتْ عَمَّنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ سَمُرَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ, وَالْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ. وَمِنْ التَّابِعِينَ: مَسْرُوقٌ, وَمِنْ الْفُقَهَاءِ: الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ, وَحُمَيْدُ الرُّؤَاسِيُّ صَاحِبُهُ. وَمِنْ جُمْلَتِهَا قَوْلٌ رُوِّينَاهُ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ, رَجَعَ مَالِكٌ إلَى الْقَوْلِ بِهِ, بَعْدَ أَنْ كَانَ يَقُولُ بِبَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي صَحَّتْ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ: أَنْ يَصُفَّ الإِمَامُ أَصْحَابَهُ طَائِفَتَيْنِ, إحْدَاهُمَا خَلْفَهُ, وَالثَّانِيَةُ مُوَاجِهَةٌ الْعَدُوَّ, فَيُصَلِّي الإِمَامُ بِالطَّائِفَةِ الَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا, فَإِذَا قَامَ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ ثَبَتَ وَاقِفًا وَأَتَمَّتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ لاَِنْفُسِهَا الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهَا, ثُمَّ سَلَّمَتْ وَنَهَضَتْ فَوَقَفَتْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ, وَالإِمَامُ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَاقِفٌ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ, وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ فَتَصُفَّ خَلْفَ الإِمَامِ وَتُكَبِّرُ, فَيُصَلِّي بِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بِسَجْدَتَيْهَا, هِيَ لَهُمْ أُولَى, وَهِيَ لِلإِمَامِ ثَانِيَةٌ, ثُمَّ يَجْلِسُ الإِمَامُ وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ, فَإِذَا سَلَّمَ قَامَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَقَضَتْ الرَّكْعَةَ الَّتِي لَهَا.
قال علي: وهذا الْعَمَلُ الْمَذْكُورُ قَضَاءُ الطَّائِفَةِ الآُولَى وَالإِمَامُ وَاقِفٌ, وَقَضَاءُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ أَنْ يُسَلِّمَ الإِمَامُ لَمْ يَأْتِ قَطُّ جَمْعُ هَذَيْنِ الْقَضَاءَيْنِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فِي شَيْءٍ مِمَّا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْلاً. وَهُوَ خِلاَفُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ; لاَِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} وَلاَِنَّ الطَّائِفَةَ لَمْ تُصَلِّ بَعْضَ صَلاَتِهَا مَعَهُ, وَمَا كَانَ خِلاَفًا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ دُونَ نَصٍّ مِنْ بَيَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَلاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ, وَلَيْسَ يُوجِبُ هَذَا الْقَوْلَ قِيَاسٌ, وَلاَ

نَظَرٌ. وَلَيْسَ تَقْلِيدُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رضي الله عنه بِأَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ, مِمَّنْ قَدْ ذَكَرْنَاهُ: كَعَمْرٍو, وَابْنِ عَمْرٍو, وَأَبِي مُوسَى, وَجَابِرٍ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَالْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو, وَحُذَيْفَةَ, وَثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ, وَأَنَسٍ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَمُرَةَ, وَغَيْرِهِمْ.
فإن قيل: إنَّ سَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ رَوَى بَعْضَ تِلْكَ الأَعْمَالِ وَخَالَفَهُ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ خَالَفَ مَا حَضَرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ لاَِمْرٍ عَلِمَهُ هُوَ نَاسِخٌ لِمَا رَوَاهُ.
قلنا: هَذَا بَاطِلٌ, وَحُكْمٌ بِالظَّنِّ, وَتَرْكٌ لِلْيَقِينِ, وَإِضَافَةٌ إلَى الصَّاحِبِ رضي الله عنه مَا لاَ يَحِلُّ أَنْ يُظَنَّ بِهِ, مِنْ أَنَّهُ رَوَى لَنَا الْمَنْسُوخَ وَكَتَمَ النَّاسِخَ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِكُمْ هَذَا وَبَيْنَ مِنْ قَالَ: لاَ يَصِحُّ عَنْهُ أَنَّهُ يُخَالِفُ مَا رَوَى, فَالدَّاخِلَةُ إنَّمَا هِيَ فِيمَا رُوِيَ مِنْهُ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ, لاَ فِيمَا رَوَاهُ هُوَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَسْنَا نَقُولُ: بِشَيْءٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ, بَلْ نَقُولُ: إنَّ الْحَقَّ أَخْذُ رِوَايَةِ الرَّاوِي, لاَ أَخْذُ رَأْيِهِ, إذْ قَدْ يَتَأَوَّلُ فِيهِمْ, وَقَدْ يَنْسَى, وَلاَ يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَكْتُمَ النَّاسِخَ وَيَرْوِي الْمَنْسُوخَ.
وَلاَ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُوهَمُوا هَهُنَا بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ; لإِنَّ ابْنَ عُمَرَ, وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ, وَالزُّهْرِيَّ: مُخَالِفُونَ لاِخْتِيَارِ مَالِكٍ, وَمَا وَجَدْنَا مَا اخْتَارَهُ مَالِكٌ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ إلاَّ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَحْدَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمِنْهَا قَوْلٌ رُوِّينَاهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, أَخَذَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إلاَّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَجَعَ عَنْهُ: وَهُوَ أَنْ يَصُفَّهُمْ الإِمَامُ صَفَّيْنِ: طَائِفَةٌ خَلْفَهُ, وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ: فَيُصَلِّي بِاَلَّتِي خَلْفَهُ رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا, فَإِذَا قَامَ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَقَفَ, وَنَهَضَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي صَلَّتْ مَعَهُ فَوَقَفُوا بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ, وَهُمْ فِي صَلاَتِهِمْ بَعْدُ. ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فَتُكَبِّرُ خَلْفَ الإِمَامِ, وَيُصَلِّي بِهِمْ الإِمَامُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ لَهُ وَهِيَ لَهُمْ الآُولَى, فَإِذَا جَلَسَ وَتَشَهَّدَ: سَلَّمَ, وَتَنْهَضُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي صَلَّتْ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ, وَهُمْ فِي صَلاَتِهِمْ, فَتَقِفُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ. وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ صَلَّتْ مَعَ الإِمَامِ الرَّكْعَةَ الآُولَى فَتَرْجِعُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّتْ فِيهِ مَعَ الإِمَامِ, فَتَقْضِي فِيهِ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ لَهَا, وَتُسَلِّمُ, ثُمَّ تَأْتِي فَتَقِفُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ. وَتَرْجِعُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّتْ فِيهِ مَعَ الإِمَامِ, فَتَقْضِي فِيهِ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ لَهَا. إلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ زَادَ مِنْ قِبَلِ رَأْيِهِ زِيَادَةً لاَ تُعْرَفُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ قَبْلَهُ: وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ: تَقْضِي الطَّائِفَةُ الآُولَى

الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهَا بِلاَ قِرَاءَةِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِيهَا. وَتَقْضِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهَا بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِيهَا، وَلاَ بُدَّ.
قال علي: وهذا عَمَلٌ لَمْ يَأْتِ قَطُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, وَذَلِكَ أَنَّ فِيهِ مِمَّا قَدْ يُخَالِفُ كُلَّ أَثَرٍ جَاءَ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ, تَأْخِيرُ الطَّائِفَتَيْنِ مَعًا إتْمَامَ الرَّكْعَةِ الْبَاقِيَةِ لَهُمَا إلَى أَنْ يُسَلِّمَ الإِمَامُ, فَتَبْتَدِئُ أُولاَهُمَا بِالْقَضَاءِ, ثُمَّ لاَ تَقْضِي الثَّانِيَةُ إلاَّ حَتَّى تُسَلِّمَ الآُولَى. وَفِيهِ أَيْضًا مِمَّا يُخَالِفُ كُلَّ أَثَرٍ رُوِيَ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ: مَجِيءُ كُلِّ طَائِفَةٍ لِلْقَضَاءِ خَاصَّةً إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّتْ فِيهِ مَعَ الإِمَامِ بَعْدَ أَنْ زَالَتْ عَنْهُ إلَى مُوَاجِهَةِ الْعَدُوِّ.
فإن قيل: قَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قلنا: قُلْتُمْ الْبَاطِلَ وَالْكَذِبَ, إنَّمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ طَرِيقٍ وَاهِيَةٍ خَبَرٌ فِيهِ ابْتِدَاءُ الطَّائِفَتَيْنِ مَعًا بِالصَّلاَةِ مَعًا مَعَ الإِمَامِ, وَأَنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي صَلَّتْ آخِرًا هِيَ بَدَأَتْ بِالْقَضَاءِ قَبْلَ الثَّانِيَةِ, وَلَيْسَ هَذَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, وَأَنْتُمْ تُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ, لاَ سِيَّمَا إذَا لَمْ يُرْوَ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلاَفُهُ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا تَخَيَّرْنَا ابْتِدَاءَ طَائِفَةٍ بَعْدَ طَائِفَةٍ اتِّبَاعًا لِلآيَةِ.
قلنا: فَقَدْ خَالَفْتُمْ الآيَةَ فِي إيجَابِكُمْ صَلاَةَ كُلِّ طَائِفَةٍ مَا بَقِيَ عَلَيْهَا بَعْدَ تَمَامِ صَلاَةِ الإِمَامِ, وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: {فلْيُصَلُّوا مَعَكَ} فَخَالَفْتُمْ الْقُرْآنَ, وَجَمِيعَ الآثَارِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا, وَجَمِيعَ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، بِلاَ نَظَرٍ، وَلاَ قِيَاسٍ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِنَادِرَةٍ, وَهِيَ:، أَنَّهُ قَالَ: يَلْزَمُ الإِمَامُ الْعَدْلَ بَيْنَهُمْ, فَكَمَا صَلَّتْ الطَّائِفَةُ الْوَاحِدَةُ أَوَّلاً فَكَذَلِكَ تَقْضِي أَوَّلاً!
قال علي: وهذا بَاطِلٌ, بَلْ هُوَ الْجَوْرُ وَالْمُحَابَاةُ, بَلْ الْعَدْلُ وَالتَّسْوِيَةُ هُوَ أَنَّهُ إذَا صَلَّتْ الْوَاحِدَةُ أَوَّلاً أَنْ تَقْضِيَ الثَّانِيَةُ أَوَّلاً, فَتَأْخُذَ كُلُّ طَائِفَةٍ بِحَظِّهَا مِنْ التَّقَدُّمِ وَبِحَظِّهَا مِنْ التَّأَخُّرِ.
وقال بعضهم: لَمْ نَرَ قَطُّ مَأْمُومًا بَدَأَ بِالْقَضَاءِ قَبْلَ تَمَامِ صَلاَةِ إمَامِهِ.
فَقِيلَ لَهُمْ: وَلاَ رَأَيْتُمْ قَطُّ مَأْمُومًا يَتْرُكُ صَلاَةَ إمَامِهِ وَيَمْضِي إلَى شُغْلِهِ وَيَقِفُ بُرْهَةً طَوِيلَةً بَعْدَ تَمَامِ صَلاَةِ إمَامِهِ لاَ يَقْضِي مَا فَاتَهُ مِنْهَا, وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: بِهَذَا بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ قِيَاسٍ, ثُمَّ تَعِيبُونَ مِنْ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْمُبِينُ لاَ سِيَّمَا تَقْسِيمُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَضَاءِ الطَّائِفَتَيْنِ, إحْدَاهُمَا بِقِرَاءَةٍ وَالآُخْرَى بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ, فَمَا عُرِفَ هَذَا، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ, وَلاَ يُؤَيِّدُهُ رَأْيٌ سَدِيدٌ, وَلاَ قِيَاسٌ.

وَمِنْهَا قَوْلٌ ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ, وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ اللُّؤْلُؤِيِّ, وَهُوَ: أَنْ لاَ تُصَلَّى صَلاَةُ الْخَوْفِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قال علي: وهذا خِلاَفُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
قَالَ عَلِيٌّ: إلاَّ أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ النِّكَاحَ بِسُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ خَاصٌّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّلاَةَ جَالِسًا كَذَلِكَ: لاَ يَقْدِرُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى أَبِي يُوسُفَ قَوْلَهُ هَهُنَا.
وَمِنْهَا قَوْلٌ رُوِّينَاهُ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ, وَمُجَاهِدٍ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتْبَةَ, وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ, وَهُوَ: أَنَّ تَكْبِيرَتَيْنِ فَقَطْ تُجْزِئَانِ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ.
وَرُوِّينَا أَيْضًا، عَنِ الْحَكَمِ, وَمُجَاهِدٍ: تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِئُ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ وَهَذَا خَطَأٌ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فإن قال قائل: كَيْف تَقُولُونَ بِصَلاَةِ الْخَوْفُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ, وَقَدْ رَوَيْتُمْ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلاَةَ الْخَوْفِ مَرَّةً, لَمْ يُصَلِّ بِنَا قَبْلَهَا، وَلاَ بَعْدَهَا؟!
قلنا: هَذَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ أَشَدَّ عَلَيْكُمْ; لاَِنَّهُ يُقَالُ لَكُمْ: مِنْ أَيْنَ كَانَ لَكُمْ بِأَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي اخْتَرْتُمُوهُ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي عَمِلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ صَلاَّهَا لاَ سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمُعْتَرِضُ بِهَذَا حَنَفِيًّا أَوْ مَالِكِيًّا لإِنَّ اخْتِيَارَ هَاتَيْنِ الْفِرْقَتَيْنِ لَمْ يَأْتِ قَطُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَيْف وَهَذَا حَدِيثٌ سَاقِطٌ لَمْ يَرْوِهِ إلاَّ يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ, وَهُوَ ضَعِيفٌ, عَنْ شَرِيكٍ الْقَاضِي, وَهُوَ مُدَلِّسٌ لاَ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ, فَكَيْف يَسْتَحِلُّ ذُو دِينٍ أَنْ يُعَارِضَ بِهَذِهِ السَّوْءَةِ أَحَادِيثَ الْكَوَافِّ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَجْمَعِينَ: إنَّهُمْ شَهِدُوا صَلاَةَ الْخَوْفِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّاتٍ: مَرَّةً بِذِي قَرَدٍ, وَمَرَّةً بِذَاتِ الرِّقَاعِ, وَمَرَّةً بِنَجْدٍ, وَمَرَّةً بَيْنَ ضَجَنَانَ وَعُسْفَانَ, وَمَرَّةً بِأَرْضِ جُهَيْنَةَ, وَمَرَّةً بِنَخْلٍ, وَمَرَّةً بِعُسْفَانَ, وَمَرَّةً يَوْمَ مُحَارَبٍ وَثَعْلَبَةَ, وَمَرَّةً إمَّا بِالطَّائِفِ وَأَمَّا بِتَبُوكَ. وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ, وَرَوَى ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ أَكَابِرُ التَّابِعِينَ وَالثِّقَاتُ الأَثْبَاتُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَن.
قَالَ عَلِيٌّ: وَإِنَّمَا قلنا: بِالصَّلاَةِ رَكْعَةً وَاحِدَةً فِي كُلِّ خَوْفٍ لِعُمُومِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "فُرِضَتْ الصَّلاَةُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا, وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ, وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً" وَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ حُكْمِهِ عليه السلام بِالظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

لا يجوز أن يصلي صلاة الخوف من خاف بطالب له بحق
520 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلاَةَ الْخَوْفِ بِطَائِفَتَيْنِ مَنْ خَافَ مِنْ طَالِبٍ

لَهُ بِحَقٍّ, وَلاَ أَنْ يُصَلِّيَ أَصْلاً بِثَلاَثِ طَوَائِفَ فَصَاعِدًا,
لإِنَّ فِي صَلاَتِهَا بِطَائِفَتَيْنِ عَمَلاً لِكُلِّ طَائِفَةٍ فِي صَلاَتِهَا هِيَ مَنْهِيَّةٌ عَنْهُ إنْ كَانَتْ بَاغِيَةً وَمَنْ عَمِلَ فِي صَلاَتِهِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَلاَ صَلاَةَ لَهُ, إذْ لَمْ يُصَلِّ كَمَا أُمِرَ.
وَكَذَلِكَ مَنْ صَلَّى رَاكِبًا, أَوْ مَاشِيًا, أَوْ مُحَارَبًا, أَوْ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ, أَوْ قَاعِدًا خَوْفَ طَالِبٍ لَهُ بِحَقٍّ; لاَِنَّهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَمِلَ عَمَلاً قَدْ نُهِيَ عَنْهُ فِي صَلاَتِهِ, وَهُوَ فِي كَوْنِهِ مَطْلُوبًا بِبَاطِلٍ عَامِلٌ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ عَمَلاً أُبِيحَ لَهُ فِي صَلاَتِهِ تِلْكَ.
وَلَمْ يُصَلِّ عليه السلام قَطُّ بِثَلاَثِ طَوَائِفَ, وَلَوْلاَ صَلاَتُهُ عليه السلام بِطَائِفَتَيْنِ لَمَا جَازَ ذَلِكَ, لاَِنَّهُ عَمِلَ فِي الصَّلاَةِ, وَلاَ يَجُوزُ عَمَلٌ فِي الصَّلاَةِ, إلاَّ مَا أَبَاحَهُ النَّصُّ, لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ فِي الصَّلاَةِ لَشُغْلاً".
وَالْوَاحِدُ مَعَ الإِمَامِ طَائِفَةٌ وَصَلاَةُ جَمَاعَةٍ.
وَمَنْ صَلَّى كَمَا ذَكَرْنَا هَارِبًا، عَنْ كَافِرٍ أَوْ، عَنْ بَاغٍ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ أَيْضًا, إلاَّ أَنْ يَنْوِيَ فِي مَشْيِهِ ذَلِكَ تَحَرُّفًا لِقِتَالٍ أَوْ تَحَيُّزًا إلَى فِئَةٍ فَتُجْزِئُهُ صَلاَتُهُ حِينَئِذٍ. لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ} فَمَنْ وَلِيَ الْكُفَّارَ ظَهْرَهُ وَالْبُغَاةَ الْمُفْتَرَضُ قِتَالُهُمْ لاَ يَنْوِي تَحَيُّزًا، وَلاَ تَحَرُّفًا: فَقَدْ عَمِلَ فِي صَلاَتِهِ عَمَلاً مُحَرَّمًا عَلَيْهِ, فَلَمْ يُصَلِّ كَمَا أُمِرَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الْفَارُّ، عَنِ السِّبَاعِ, وَالنَّارِ, وَالْحَنَشِ, وَالْمَجْنُونِ, وَالْحَيَوَانِ الْعَادِي, وَالسَّيْلِ وَخَوْفِ عَطَشٍ, وَخَوْفِ فَوْتِ الرُّفْقَةِ, أَوْ فَوْتِ مَتَاعِهِ, أَوْ ضَلاَلِ الطَّرِيقِ: فَصَلاَتُهُ تَامَّةٌ, لاَِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ فِي ذَلِكَ إلاَّ مَا أُمِرَ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

صلاة الجمعة
الجمعة: هي ظهر يوم الجمعة و لا يجوز أن تصلى إلا بعد الزوال

صلاة الجمعة
521 - مَسْأَلَةٌ: الْجُمُعَةُ, هِيَ ظُهْرُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُصَلَّى إلاَّ بَعْدَ الزَّوَالِ,
وَآخِرُ وَقْتِهَا: آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ فِي سَائِرِ الأَيَّامِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيلاَنَ1 قَالَ: شَهِدْت الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَضَى صَلاَتَهُ وَخُطْبَتَهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ ثُمَّ شَهِدْت الْجُمُعَةَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَضَى صَلاَتَهُ وَخُطْبَتَهُ مَعَ زَوَالِ الشَّمْسِ.
ـــــــ
1 بكسر السين النهنلة وإسكان الياء المثناة التحتية.

وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا ابْنُ مَسْعُودٍ الْجُمُعَةَ ضُحًى, وَقَالَ: إنَّمَا عَجَّلْت بِكُمْ خَشْيَةَ الْحَرِّ عَلَيْكُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي مُوَطَّئِهِ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْت أَرَى طَنْفَسَةً لِعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ تُطْرَحُ إلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْغَرْبِيِّ, فَإِذَا غَشَّى الطَّنْفَسَةَ كُلَّهَا ظِلُّ الْجِدَارِ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَصَلَّى, ثُمَّ نَرْجِعُ بَعْدَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فَنُقِيلُ قَائِلَةَ الضُّحَى. قال علي: هذا يُوجِبُ أَنَّ صَلاَةَ عُمَرَ رضي الله عنه الْجُمُعَةَ كَانَتْ قَبْلَ الزَّوَالِ, لإِنَّ ظِلَّ الْجِدَارِ مَا دَامَ فِي الْغَرْبِ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ قَبْلَ الزَّوَالِ, فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ صَارَ الظِّلُّ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَلاَ بُدَّ.
وَعَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي سَلِيطٍ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ وَصَلَّى الْعَصْرَ بِمَلَلٍ1 قَالَ ابْنُ أَبِي سَلِيطٍ: وَكُنَّا نُصَلِّي الْجُمُعَةَ مَعَ عُثْمَانَ وَنَنْصَرِفُ وَمَا لِلْجِدَارِ ظِلٌّ.
قَالَ عَلِيٌّ: بَيْنَ الْمَدِينَةِ, وَمَلَلٍ: اثْنَانِ وَعِشْرُونَ مِيلاً, وَلاَ يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ ثُمَّ يَخْطُبَ وَيُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ ثُمَّ يَمْشِيَ هَذِهِ الْمَسَافَةَ قَبْلَ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ إلاَّ مَنْ طَرَقَ طَرْقَ السَّرَايَا2 أَوْ رَكَضَ رَكْضَ الْبَرِيدِ الْمُؤَجَّلِ3 وَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَكُونَ هَذَا.
وَقَدْ. روِّينَا أَيْضًا هَذَا، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كُلُّ عِيدٍ حِينَ يَمْتَدُّ الضُّحَى: الْجُمُعَةُ, وَالأَضْحَى, وَالْفِطْرُ, كَذَلِكَ بَلَغَنَا.
وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُلُّ عِيدٍ فَهُوَ نِصْفُ النَّهَارِ. قَالَ عَلِيٌّ: أَيْنَ الْمُمَوِّهُونَ إنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ عَمَلَ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَجْمَعِينَ الْمُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ الصَّاحِبِ إذَا خَالَفَ تَقْلِيدَهُمْ وَهَذَا عَمَلُ أَبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَعُثْمَانَ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَابْنِ الزُّبَيْرِ, وَطَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَلَكِنَّ الْقَوْمَ لاَ يُبَالُونَ مَا قَالُوا فِي نَصْرِ تَقْلِيدِهِمْ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَالْحُجَّةُ عِنْدَنَا فِيمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ
ـــــــ
1 بفتح الميم واللام وآخره لام ثانية – بلفظ الملل من الملال – وهو منزل على طريق المدينة إلى مكة عن ثمانية وعشرين ميلا من المدينة قاله ياقوت.
2 الطرق – بإسكان الراء – هو سرعة المشي.
3 ضبط هذا الحرف في النسخة رقم "14" بكسر الجيم الكشددة, وما أدري وجه ذلك ولعل الكلمة مصحفة أو محرفة.

ابْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَنَا وَكِيعٌ، عَنْ يَعْلَى بْنِ الْحَارِثِ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ".
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حدثنا حَسَنُ بْنُ عَيَّاشِ1، حدثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَرْجِعُ فَنُرِيحُ نَوَاضِحَنَا, قُلْتُ: أَيُّ سَاعَةٍ قَالَ: زَوَالَ الشَّمْسِ". وَبِهِ إلَى أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ: حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ وَرَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً, وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً, وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا, وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً, وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً, فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ".
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلاَنَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُهَجِّرِ إلَى الْجُمُعَةِ كَمَثَلِ مَنْ يُهْدِي بَدَنَةً, ثُمَّ كَمَنْ يُهْدِي بَقَرَةً, ثُمَّ مَثَلُ مَنْ يُهْدِي شَاةً, ثُمَّ مَثَلُ مَنْ يُهْدِي دَجَاجَةً, ثُمَّ كَمَثَلِ مَنْ يُهْدِي عُصْفُورًا, ثُمَّ كَمَثَلِ مَنْ يُهْدِي بَيْضَةً, فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ فَجَلَسَ طُوِيَتْ الصُّحُفُ".
وَرُوِّينَا نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ عَلِيٌّ: فَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ: فَضْلُ التَّبْكِيرِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى الْمَسْجِدِ لاِنْتِظَارِ الْجُمُعَةِ وَبُطْلاَنُ قَوْلِ مِنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ, وَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْفَضَائِلَ كُلَّهَا إنَّمَا هِيَ لِسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ, وَهَذَا بَاطِلٌ, لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَهَا سَاعَاتٍ مُتَغَايِرَاتٍ2 ثَانِيَةً, وَثَالِثَةً, وَرَابِعَةً, وَخَامِسَةً, فَلاَ يَحِلَّ لاَِحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّهَا سَاعَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ دَرَجَ الْفَضْلِ يَنْقَطِعُ بِخُرُوجِ الإِمَامِ, وَخُرُوجُهُ إنَّمَا هُوَ قَبْلَ النِّدَاءِ, وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ تِلْكَ السَّاعَةَ مَعَ النِّدَاءِ, فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ
ـــــــ
1 هو أخو أبي بكر بن عياش وهو ثقة حجة مات سنة 172 هـ.
2 في النسخة رقم "14" "متغايرة".

وَفِيهِمَا: أَنَّ الْجُمُعَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ; لإِنَّ مَالِكًا، عَنْ سُمَيٍّ ذَكَرَ خَمْسَ سَاعَاتٍ. وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلاَنَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَاللَّيْثِ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَاعَةً سَادِسَةً وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ بِخُرُوجِ الإِمَامِ تُطْوَى الصُّحُفُ.فَصَحَّ أَنَّ خُرُوجَهُ بَعْدَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ, وَهُوَ أَوَّلُ الزَّوَالِ, وَوَقْتُ الظُّهْرِ.
فإن قيل: "قَدْ رَوَيْتُمْ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ: "كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَرْجِعُ وَمَا نَجِدُ لِلْحِيطَانِ ظِلًّا نَسْتَظِلُّ بِهِ".
قلنا: نَعَمْ, وَلَمْ يَنْفِ سَلَمَةُ الظِّلَّ جُمْلَةً, إنَّمَا نَفَى ظِلًّا يَسْتَظِلُّونَ بِهِ, وَهَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قِصَرِ الْخُطْبَةِ, وَتَعْجِيلُ الصَّلاَةِ فِي أَوَّلِ الزَّوَالِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: "وَمَا كُنَّا نُقِيلُ، وَلاَ نَتَغَدَّى إلاَّ بَعْدَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ" لَيْسَ, فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: خَرَجَ عَلَيْنَا عُمَرُ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ فَخَطَبَ يَعْنِي, لِلْجُمُعَةِ.
وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ: شَهِدْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ إذَا زَالَتْ, الشَّمْسُ.
وَفَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ آخِرِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ وَبَيْنَ آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ, عَلَى أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَنَا فِي أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا هُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ, وَهَذَا قَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ, وَإِذْ هِيَ ظُهْرُ الْيَوْمِ فَلاَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ آخِرِ وَقْتِهَا مِنْ أَجْلِ اخْتِلاَفِ الأَيَّامِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
522 - مَسْأَلَةٌ: وَالْجُمُعَةُ إذَا صَلاَّهَا اثْنَانِ فَصَاعِدًا رَكْعَتَانِ يَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ. وَمِنْ صَلاَّهُمَا وَحْدَهُ صَلاَّهُمَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ يُسِرُّ فِيهَا كُلَّهَا, لاَِنَّهَا الظُّهْرُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ وُجُوبِ قَصْرِ الصَّلاَةِ مِنْ كِتَابِنَا حَدِيثَ عُمَرَ: "صَلاَةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ, وَصَلاَةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ, تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ, عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم"1.
قال أبو محمد: وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّهَا رَكْعَتَانِ لِلْفَذِّ وَلِلْجَمَاعَةِ بِهَذَا الْخَبَرِ.
قال علي: وهذا خَطَأٌ, لاَِنَّهُ الْجُمُعَةُ: اسْمٌ إسْلاَمِيٌّ لِلْيَوْمِ, لَمْ يَكُنْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, إنَّمَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ "الْعُرُوبَةُ" فَسُمِّيَ فِي الإِسْلاَمِ "يَوْمَ الْجُمُعَةِ "; لاَِنَّهُ يُجْتَمَعُ فِيهِ لِلصَّلاَةِ اسْمًا مَأْخُوذًا مِنْ الْجَمْعِ, فَلاَ تَكُونُ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ إلاَّ فِي جَمَاعَةٍ وَإِلاَّ فَلَيْسَتْ صَلاَةَ جُمُعَةٍ, إنَّمَا هُمَا ظُهْرٌ, وَالظُّهْرُ أَرْبَعٌ كَمَا قَدَّمْنَا2.
ـــــــ
1 ذكرها المصنف في المسألة 512 "ج 4 ص 265".
2 هنا بحاشية النسخة رقم "14" ما نصه "حكى أبو عنر بن عبد البر أن داود بن علي يرة أن الجمعة على واحد يعني يصلي ركعتين فقط وحكى عنه أبو محمد خلاف هذا" ا هـ وأقزل: لم يحك ابن حزم شيئا

وَقَدْ ثَبَتَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ فِيهَا, وَهُوَ عَمَلُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ, نَقْلُ كَوَافٍ مِنْ عَهْدِهِ عليه السلام إلَى الْيَوْمِ فِي شَرْقِ الأَرْضِ وَغَرْبِهَا.
وَأَمَّا الْعَدَدُ الَّذِي يُصَلِّيه الإِمَامُ فِيهِ جُمُعَةٍ رَكْعَتَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ.
فَرُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: الْجُمُعَةُ تَكُونُ بِخَمْسِينَ رَجُلاً فَصَاعِدًا.
وقال الشافعي: لاَ جُمُعَةَ إلاَّ بِأَرْبَعِينَ رَجُلاً: أَحْرَارًا, مُقِيمِينَ, عُقَلاَءَ, بَالِغِينَ فَصَاعِدًا.
وَرُوِّينَا، عَنْ بَعْضِ النَّاسِ: ثَلاَثِينَ رَجُلاً.
وَعَنْ غَيْرِهِ: عِشْرِينَ رَجُلاً.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ: سَبْعَةَ رِجَالٍ لاَ أَقَلَّ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ, وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ, وَزُفَرَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: إذَا كَانَ ثَلاَثَةُ رِجَالٍ وَالإِمَامُ رَابِعُهُمْ صَلَّوْا الْجُمُعَةَ بِخُطْبَةِ رَكْعَتَيْنِ, وَلاَ تَكُونُ بِأَقَلَّ.
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: إذَا كَانَ رَجُلاَنِ وَالإِمَامُ ثَالِثُهُمَا صَلَّوْا الْجُمُعَةَ بِخُطْبَةِ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ, وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: إذَا كَانَ وَاحِدٌ مَعَ الإِمَامِ صَلَّيَا الْجُمُعَةَ بِخُطْبَةِ رَكْعَتَيْنِ.
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا, وَبِهِ نَقُولُ.
قَالَ عَلِيٌّ: فأما مَنْ حَدَّ خَمْسِينَ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا حَدِيثًا فِيهِ: "عَلَى الْخَمْسِينَ جُمُعَةٌ إذَا كَانَ عَلَيْهِمْ إمَامٌ". وَهَذَا خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ; لاَِنَّهُ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ, وَالْقَاسِمُ هَذَا ضَعِيفٌ.

وَأَمَّا مَنْ حَدَّ بِثَلاَثِينَ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا خَبَرًا مُرْسَلاً مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُحَمَّدٍ الأَزْدِيِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ "إذَا اجْتَمَعَ ثَلاَثُونَ رَجُلاً فَلْيُؤَمِّرُوا رَجُلاً يُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ".
وَأَمَّا مِنْ قَالَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, وَاللَّيْثِ: فَذَكَرُوا حَدِيثًا مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ الدَّوْسِيَّةِ وَقَدْ أَدْرَكَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ إلاَّ أَرْبَعَةٌ".
وَهَذَا لاَ يَجُوزُ الاِحْتِجَاجُ بِهِ; لإِنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَحْيَى, وَمُعَاوِيَةَ بْنَ سَعِيدٍ: مَجْهُولاَنِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَوَّلُ مَنْ يُخَالِفُ هَذَا الْخَبَرَ, لاَِنَّهُ لاَ يَرَى الْجُمُعَةَ فِي الْقُرَى, لَكِنْ فِي الأَمْصَارِ فَقَطْ.
فَكُلُّ هَذِهِ آثَارٌ لاَ تَصِحُّ, ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَمَا كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إسْقَاطُ الْجُمُعَةِ، عَنْ أَقَلَّ مِنْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ سَاقِطٌ، عَنْ رَوْحِ بْنِ غُطَيْفٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ "لَمَّا بَلَغُوا مِائَتَيْنِ جَمَّعَ بِهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم", فَإِنْ أَخَذُوا بِالأَكْثَرِ فَهَذَا الْخَبَرُ هُوَ الأَكْثَرُ, وَإِنْ أَخَذُوا بِالأَقَلِّ فَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حَدِيثًا فِيهِ أَقَلُّ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِخَبَرٍ صَحِيحٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ نِدَاءَ الْجُمُعَةِ تَرَحَّمَ عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ, فَسَأَلَهُ ابْنُهُ، عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ بِنَا فِي هَزْمِ حُرَّةُ بَنِي بَيَاضَةَ, فِي نَقِيعٍ يُعْرَفُ بِنَقِيعِ الْخَضِمَاتِ وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلاً.

قَالَ عَلِيٌّ: وَلاَ حُجَّةَ لَهُ فِي هَذَا; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لمْ يَقُلْ: إنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْجُمُعَةُ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ, نَعَمْ وَالْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ بِأَرْبَعِينَ رَجُلاً وَبِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ وَبِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رُبَيْعٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى هُوَ الْقَطَّانِ، عَنْ هِشَامٍ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، حدثنا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إذَا كَانُوا ثَلاَثَةً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ, وَأَحَقُّهُمْ بِالإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ".
وَهَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ, إلاَّ أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لمْ يَقُلْ: إنَّهُ لاَ تَكُونُ جَمَاعَةٌ، وَلاَ جُمُعَةٌ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ.
وَأَمَّا حُجَّتُنَا فَهِيَ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ: قَالَ لَهُ: "إذَا سَافَرْتُمَا فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا, وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا فَجَعَلَ عليه السلام لِلاِثْنَيْنِ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلاَةِ".
فإن قال قائل: إنَّ الاِثْنَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ثَالِثٌ فَإِنَّ حُكْمَ الإِمَامِ أَنْ يَقِفَ الْمَأْمُومُ عَلَى يَمِينِ الإِمَامِ, فَإِذَا كَانُوا ثَلاَثَةً فَقَدْ قِيلَ: يَقِفَانِ، عَنْ يَمِينِ الإِمَامِ وَيَسَارِهِ وَقَدْ قِيلَ: بَلْ خَلْفَ الإِمَامِ, وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الأَرْبَعَةِ: أَنَّ الثَّلاَثَةَ يَقِفُونَ خَلْفَ الإِمَامِ, فَوَجَدْنَا حُكْمَ الأَرْبَعَةِ غَيْرَ حُكْمِ الاِثْنَيْنِ.
قلنا: فَكَانَ مَاذَا نَعَمْ, هُوَ كَمَا تَقُولُونَ: فِي مَوَاضِعِ الْوُقُوفِ, إلاَّ أَنَّ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ وَاجِبٌ لَهُمَا بِإِقْرَارِكُمْ, وَلَيْسَ فِي حُكْمِ اخْتِلاَفِ مَوْقِفِ الْمَأْمُومِ دَلِيلٌ عَلَى حُكْمِ الْجُمُعَةِ أَصْلاً وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بأن صَلاَةَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ.
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ، عَنْ هَذَا الأَمْرِ وَعَنْ هَذَا الْحُكْمِ أَحَدٌ إلاَّ مَنْ جَاءَ نَصٌّ جَلِيٌّ أَوْ إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْهُ, وَلَيْسَ ذَلِكَ إلاَّ الْفَذَّ وَحْدَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ ابْتَدَأَهَا إنْسَانٌ، وَلاَ أَحَدَ مَعَهُ ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ أَوْ أَكْثَرُ, فَسَوَاءٌ أَتَوْهُ إثْرَ تَكْبِيرِهِ فَمَا بَيْنَ

ذَلِكَ إلَى أَنْ يَرْكَعَ مِنْ الرَّكْعَةِ الآُولَى: يَجْعَلُهَا جُمُعَةً وَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ, لاَِنَّهَا قَدْ صَارَتْ صَلاَةَ جُمُعَةٍ, فَحَقُّهَا أَنْ تَكُونَ رَكْعَتَيْنِ, وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهَا رَكْعَتَيْنِ بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ, وَهِيَ ظُهْرُ يَوْمِهِ. فَإِنْ جَاءَهُ بَعْدَ أَنْ رَكَعَ فَمَا بَيْنَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يُسَلِّمَ: فَيَقْطَعُ الصَّلاَةَ وَيَبْتَدِئُهَا صَلاَةَ جُمُعَةٍ, لاَ بُدَّ مِنْ ذَلِكَ, لاَِنَّهُ قَدْ لَزِمَتْهُ الْجُمُعَةُ رَكْعَتَيْنِ, وَلاَ سَبِيلَ لَهُ إلَى أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ مِنْ ذَلِكَ إلاَّ بِقَطْعِ صَلاَتِهِ الَّتِي قَدْ بَطَلَ حُكْمُهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

سواء المسافر و العبد و الحر و المقيم و غيرهم في وجوب الجمعة
523 - مَسْأَلَةٌ: وَسَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ الْمُسَافِرُ فِي سَفَرِهِ, وَالْعَبْدُ, وَالْحُرُّ, وَالْمُقِيمُ,
وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا يَكُونُ إمَامًا فِيهَا, رَاتِبًا وَغَيْرَ رَاتِبٍ, وَيُصَلِّيهَا الْمَسْجُونُونَ, وَالْمُخْتَفُونَ رَكْعَتَيْنِ فِي جَمَاعَةٍ بِخُطْبَةٍ كَسَائِرِ النَّاسِ, وَتُصَلَّى فِي كُلِّ قَرْيَةٍ صَغُرَتْ أَمْ كَبُرَتْ, كَانَ هُنَالِكَ سُلْطَانٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ, وَإِنْ صُلِّيَتْ الْجُمُعَةُ فِي مَسْجِدَيْنِ فِي الْقَرْيَةِ فَصَاعِدًا: جَازَ ذَلِكَ.
وَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ: أَنْ لاَ جُمُعَةَ عَلَى عَبْدٍ, وَلاَ مُسَافِرٍ.
وَاحْتَجَّ لَهُمْ مَنْ قَلَّدَهُمْ فِي ذَلِكَ بِآثَارٍ وَاهِيَةٍ لاَ تَصِحُّ: أَحَدُهَا مُرْسَلٌ, وَالثَّانِي فِيهِ هُرَيْمٌ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَالثَّالِثُ فِيهِ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو, وَضِرَارُ بْنُ عَمْرٍو, وَهُمَا مَجْهُولاَنِ، وَلاَ يَحِلُّ الاِحْتِجَاجُ بِمِثْلِ هَذَا.

وَلَوْ شِئْنَا لَعَارَضْنَاهُمْ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: "بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بِأَصْحَابِهِ فِي سَفَرٍ, وَخَطَبَهُمْ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصًا", وَلَكِنَّنَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فِي غِنًى بِالصَّحِيحِ عَمَّا لاَ يَصِحُّ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجْهَرْ فِي صَلاَةِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ, وَكَانَ يَوْمُ جُمُعَةٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَهَذِهِ جُرْأَةٌ عَظِيمَةٌ وَمَا رَوَى قَطُّ أَحَدٌ أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَجْهَرْ فِيهَا, وَالْقَاطِعُ بِذَلِكَ كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَفَا مَا لاَ عِلْمَ له بِهِ.
وَقَدْ قَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ: إنْ وَافَقَ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمُ جُمُعَةٍ جَهَرَ الإِمَامُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ عليه السلام خَطَبَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهَذِهِ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ, وَحَتَّى لَوْ صَحَّ لَهُمْ أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَجْهَرْ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ أَصْلاً, لإِنَّ الْجَهْرَ لَيْسَ فَرْضًا, وَمَنْ أَسَرَّ فِي صَلاَةِ جَهْرٍ, أَوْ جَهَرَ فِي صَلاَةِ سِرٍّ, فَصَلاَتُهُ تَامَّةٌ, لِمَا قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ.
وَلَجَأَ بَعْضُهُمْ إلَى دَعْوَى الإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا مَكَانٌ هَانَ فِيهِ الْكَذِبُ عَلَى مُدَّعِيهِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رحمه الله، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ ادَّعَى الإِجْمَاعَ كَذَبَ.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ: قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: حدثنا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا وَكِيعٌ: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ: ثُمَّ اتَّفَقَ وَكِيعٌ, وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ كِلاَهُمَا، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ كَتَبُوا إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُونَهُ، عَنِ الْجُمُعَةِ وَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ فَكَتَبَ إلَيْهِمْ: أَنْ جَمِّعُوا حَيْثُمَا كُنْتُمْ وَقَالَ وَكِيعٌ: إنَّهُ كَتَبَ.
وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَلَى مَنْ تَجِبُ الْجُمُعَةُ قَالَ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ.
وَعَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ دَاوُد بْنِ قَيْسٍ سَمِعْت عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ وَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا إبْرَاهِيمَ, عَلَى مَنْ تَجِبُ الْجُمُعَةُ قَالَ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ.
فَعَمَّمَ سَعِيدُ, وَعَمْرٌو: كُلُّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ, وَلَمْ يَخُصَّا عَبْدًا, وَلاَ مُسَافِرًا, مِنْ غَيْرِهِمَا. وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ يَسَارٍ، حدثنا صَالِحُ بْنُ سَعْدٍ الْمَكِّيُّ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ مُتَبَدٍّ بِالسُّوَيْدَاءِ فِي إمَارَتِهِ عَلَى الْحِجَازِ, فَحَضَرَتْ الْجُمُعَةُ, فَهَيَّئُوا

لَهُ مَجْلِسًا مِنْ الْبَطْحَاءِ, ثُمَّ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ بِالصَّلاَةِ, فَخَرَجَ إلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ, فَجَلَسَ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ, ثُمَّ أَذَّنُوا أَذَانًا آخَرَ, ثُمَّ خَطَبَهُمْ, ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ, فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ وَأَعْلَنَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ, ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إنَّ الإِمَامَ يَجْمَعُ حَيْثُمَا كَانَ.
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ, وَقَالَ, إذَا سُئِلَ، عَنِ الْمُسَافِرِ يَدْخُلُ قَرْيَةً يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيَنْزِلُ فِيهَا قَالَ: إذَا سَمِعَ الأَذَانَ فَلْيَشْهَدْ الْجُمُعَةَ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي مَكِينٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: إذَا كَانُوا سَبْعَةً فِي سَفَرٍ فَجَمَعُوا يُحْمَدُ اللَّهُ وَيُثْنَى عَلَيْهِ وَيُخْطَبُ فِي الْجُمُعَةِ, وَالأَضْحَى وَالْفِطْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: أَيُّمَا عَبْدٍ كَانَ يُؤَدِّي الْخَرَاجَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ خَرَاجٌ أَوْ شَغَلَهُ عَمَلُ سَيِّدِهِ فَلاَ جُمُعَةَ عَلَيْهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: الْفَرْقُ بَيْنَ عَبْدٍ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ, وَبَيْنَ عَبْدٍ لاَ خَرَاجَ عَلَيْهِ: دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ فَقَدْ ظَهَرَ كَذِبُهُمْ فِي دَعْوَى الإِجْمَاعِ.
فَلَجَئُوا إلَى أَنْ قَالُوا: رُوِيَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: لاَ جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِرٍ.
وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ بِنِيسَابُورَ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ فَكَانَ لاَ يَجْمَعُ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّهُ كَانَ بِكَابُلَ شِتْوَةً أَوْ شِتْوَتَيْنِ فَكَانَ لاَ يَجْمَعُ.
قَالَ عَلِيٌّ: حَصَلْنَا مِنْ دَعْوَى الإِجْمَاعِ عَلَى ثَلاَثَةٍ قَدْ خَالَفْتُمُوهُمْ أَيْضًا; لإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَانِ, وَأَنَسًا رضي الله عنهما كَانَا لاَ يَجْمَعَانِ, وَهَؤُلاَءِ يَقُولُونَ: يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ مَعَ النَّاسِ وَيُجْزِئُهُ. وَرَأَى عَلِيٌّ أَنْ يَسْتَخْلِفَ بِالنَّاسِ مَنْ يُصَلِّي بِضُعَفَائِهِمْ صَلاَةَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ: بِهَذَا. وَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَرَى الْجُمُعَةَ عُمُومًا.
قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}.
قَالَ عَلِيٌّ: فَهَذَا خِطَابٌ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ مُسَافِرٌ، وَلاَ عَبْدٌ بِغَيْرِ نَصٍّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحُكْمُهُ وَفِعْلُهُ أَنَّ صَلاَةَ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ.
وَأَمَّا إمَامَةُ الْمُسَافِرِ, وَالْعَبْدِ فِي الْجُمُعَةِ: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيَّ, وَأَبَا سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابَهُمْ قَالُوا: يَجُوزُ ذَلِكَ, وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنْ ذَلِكَ: وَهُوَ خَطَأٌ. أَوَّلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: إنَّ الْمُسَافِرَ وَالْعَبْدَ إذَا حَضَرَا الْجُمُعَةَ كَانَتْ لَهُمَا جُمُعَةٌ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ جَوَازِ إمَامَتِهِمَا فِيهَا مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ" وَ "يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ" فَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام جُمُعَةً

مِنْ غَيْرِهَا, وَلاَ مُسَافِرًا, وَلاَ عَبْدًا مِنْ حُرٍّ مُقِيمٍ, وَلاَ جَاءَ قَطُّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْعُ الْعَبْدِ مِنْ الإِمَامَةِ فِيهِمَا, بَلْ قَدْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ عَبْدٌ لِعُثْمَانَ رضي الله عنه أَسْوَدُ مَمْلُوكٌ أَمِيرًا لَهُ عَلَى الرَّبَذَةَ يُصَلِّي خَلْفَهُ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ الْجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا; لإِنَّ الرَّبَذَةَ بِهَا جُمُعَةٌ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: كَانَ هُنَالِكَ سُلْطَانٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ: فَالْحَاضِرُونَ مِنْ مُخَالِفِينَا مُوَافِقُونَ لَنَا فِي ذَلِكَ إلاَّ أَبَا حَنِيفَةَ, وَفِي هَذَا خِلاَفٌ قَدِيمٌ وَقَدْ قلنا: لاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّجْمِيعِ بِغَيْرِ نَصٍّ جَلِيٍّ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الإِمَامِ فِي الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فِيهَا وَبَيْنَ الإِمَامِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَالْجَمَاعَةِ فِيهَا, فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ رَدُّ الْجُمُعَةِ خَاصَّةً إلَى السُّلْطَانِ دُونَ غَيْرِهَا؟
وَأَمَّا قَوْلُنَا: تُصَلَّى الْجُمُعَةُ فِي أَيِّ قَرْيَةٍ صَغُرَتْ أَمْ كَبُرَتْ: فَقَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: لاَ جُمُعَةَ، وَلاَ تَشْرِيقَ إلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ, وَقَدْ ذَكَرْنَا خِلاَفَ عُمَرَ لِذَلِكَ, وَخِلاَفَهُمْ لِعَلِيٍّ فِي غَيْرِ مَا قِصَّةٍ.
وقال مالك: لاَ تَكُونُ الْجُمُعَةُ إلاَّ فِي قَرْيَةٍ مُتَّصِلَةِ الْبُنْيَانِ.
قال علي: هذا تَحْدِيدٌ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ, وَهُوَ أَيْضًا فَاسِدٌ, لإِنَّ ثَلاَثَةَ دُورٍ قَرْيَةٌ مُتَّصِلَةُ الْبُنْيَانِ, وَإِلاَّ فَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَحْدِيدِ الْعَدَدِ الَّذِي لاَ يَقَعُ اسْمُ قَرْيَةٍ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ, وَهَذَا مَا لاَ سَبِيلَ إلَيْهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيِّينَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَكَانَ النَّقْلُ بِهِ مُتَّصِلاً فَيُقَالُ لَهُ: نَعَمْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ, حَتَّى قَطَعَهُ الْمُقَلِّدُونَ بِضَلاَلِهِمْ، عَنِ الْحَقِّ, وَقَدْ شَاهَدْنَا جَزِيرَةَ "مَيُورْقَةَ" يَجْمَعُونَ فِي قُرَاهَا, حَتَّى قَطَعَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ لِمَالِكٍ, وَبَاءَ بِإِثْمِ النَّهْيِ، عَنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ.
وَرُوِّينَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَمُرُّ عَلَى أَهْلِ الْمِيَاهِ وَهُمْ يَجْمَعُونَ فَلاَ يَنْهَاهُمْ، عَنْ ذَلِكَ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَ الْمِيَاهِ أَنْ يَجْمَعُوا, وَيَأْمُرُ أَهْلَ كُلِّ قَرْيَةٍ لاَ يَنْتَقِلُونَ بِأَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرٌ يَجْمَعُ بِهِمْ.

وَيُقَالُ لَهُمْ: لَوْ كَانَ قَوْلُكُمْ حَقًّا وَصَوَابًا لَجَاءَ بِهِ النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ, وَلَمَا جَازَ أَنْ يَجْهَلَهُ ابْنُ عُمَرَ, وَقَبْلَهُ أَبُوهُ عُمَرُ, وَالزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ, وَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ قَائِلٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّ الْجُمُعَةَ جَائِزَةٌ فِي مَسْجِدَيْنِ فَصَاعِدًا فِي الْقَرْيَةِ: فَإِنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ حَكَمُوا، عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهَا لاَ تُجْزِئُ الْجُمُعَةُ إلاَّ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمِصْرِ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ جَانِبَانِ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ, فَيُجْزِئُ أَنْ يَجْمَعَ فِي كُلِّ جَانِبٍ مِنْهُمَا.
وَرَوَوْا، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ, وَأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا: أَنَّ الْجُمُعَةَ تُجْزِئُ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي الْمِصْرِ, وَلاَ تُجْزِئُ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ.
وَكِلاَ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ السُّخْفِ حَيْثُ لاَ نِهَايَةَ لَهُ لاَِنَّهُ لاَ يُعَضِّدُهُمَا قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ, وَلاَ إجْمَاعٌ، وَلاَ قِيَاسٌ.
وَقَدْ رَوَوْا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: أَنَّهَا تُجْزِئُ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ الْمِصْرِ.
فَإِنْ قَالُوا: صَلَّى عَلِيٌّ الْعِيدَ فِي الْمُصَلَّى وَاسْتَخْلَفَ مَنْ صَلَّى بِالضُّعَفَاءِ فِي الْمَسْجِدِ, فَهُمَا مَوْضِعَانِ وَهَذَا لاَ يُقَالُ: رَأْيًا.
قلنا لَهُمْ: فَقُولُوا: إنَّهُ لاَ تُجْزِئُ الْجُمُعَةُ إلاَّ فِي الْمُصَلَّى. وَفِي الْجَامِعِ فَقَطْ, وَإِلاَّ فَقَدْ خَالَفْتُمُوهُ, كَمَا خَالَفْتُمُوهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ, إذْ أَمَرَ رضي الله عنه الَّذِي اسْتَخْلَفَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الْعِيدَ أَرْبَعًا.
فَقُلْتُمْ: هَذَا شَاذٌّ فَيُقَالُ لَكُمْ: بَلْ الشَّاذُّ هُوَ الَّذِي أَجَزْتُمْ, وَالْمَعْرُوفُ هُوَ الَّذِي أَنْكَرْتُمْ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى آرَاءَكُمْ قِيَاسًا عَلَى الآُمَّةِ, وَلاَ عِيَارًا فِي دِينِهِ وَهَلاَّ قُلْتُمْ, فِي هَذَا الْخَبَرِ كَمَا تَقُولُونَ فِي خَبَرِ الْمُصَرَّاةِ وَغَيْرِهِ: هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى الآيَةِ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَمَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِافْتِرَاضِ السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ, فَصَارَ تَخْصِيصُهُ اعْتِرَاضًا عَلَى الْقُرْآنِ بِخَبَرٍ شَاذٍّ غَيْرِ قَوِيِّ النَّقْلِ فِي أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجِبُ إلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ؟!
وَمَنَعَ مَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ: مِنْ التَّجْمِيعِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي الْمِصْرِ.
وَرَأَيْنَا الْمُنْتَسِبِينَ إلَى مَالِكٍ يَحُدُّونَ فِي أَنْ لاَ يَكُونَ بَيْنَ الْجَامِعِينَ أَقَلُّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ وَهَذَا عَجَبٌ عَجِيبٌ, وَلاَ نَدْرِي مِنْ أَيْنَ جَاءَ هَذَا التَّحْدِيدُ، وَلاَ كَيْف دَخَلَ فِي عَقْلِ ذِي عَقْلٍ حَتَّى يَجْعَلَهُ دِينًا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} فَلَمْ يَقُلْ عَزَّ وَجَلَّ: فِي مَوْضِعٍ، وَلاَ مَوْضِعَيْنِ، وَلاَ أَقَلَّ, وَلاَ أَكْثَرَ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}.

فَإِنْ قَالُوا: قَدْ كَانَ أَهْلُ الْعَوَالِي يَشْهَدُونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْجُمُعَةَ.
قلنا: نَعَمْ وَقَدْ كَانَ أَهْلُ ذِي الْحُلَيْفَةِ يَجْمَعُونَ مَعَهُ أَيْضًا عليه السلام, رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ, وَلاَ يَلْزَمُ هَذَا عِنْدَكُمْ, وَقَدْ كَانُوا يَشْهَدُونَ مَعَهُ عليه السلام سَائِرَ الصَّلَوَاتِ, وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى أَنَّ سَائِرَ قَوْمِهِمْ لاَ يُصَلُّونَ الْجَمَاعَاتِ فِي مَسَاجِدِهِمْ, وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ نَصٌّ بِأَنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَجْمَعُونَ سَائِرَ قَوْمِهِمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ, وَلاَ يَحُدُّونَ هَذَا أَبَدًا.
وَمِنْ الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا افْتَرَضَ فِي الْقُرْآنِ السَّعْيَ إلَى صَلاَةِ الْجُمُعَةِ إذَا نُودِيَ لَهَا, لاَ قَبْلَ ذَلِكَ, وَبِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى نَحْوِ نِصْفِ مِيلٍ, أَوْ ثُلُثَيْ مِيلٍ لاَ يُدْرِكُ الصَّلاَةَ أَصْلاً إذَا رَاحَ إلَيْهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّوَاحِ إلَيْهَا. فَصَحَّ ضَرُورَةً أَنَّهُ لاَ بُدَّ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ مَسْجِدٍ يَجْمَعُونَ فِيهِ إذَا رَاحُوا إلَيْهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرُوا بِالرَّوَاحِ إلَيْهِ فِيهِ أَدْرَكُوا الْخُطْبَةَ وَالصَّلاَةَ, وَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَقَدْ أَوْجَبَ الرَّوَاحَ حِينَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ, وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَإِيجَابُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ وَاجِبًا.
وَمِنْ أَعْظَمِ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْمَدِينَةَ وَإِنَّمَا هِيَ قُرًى صِغَارٌ مُفَرَّقَةٌ, بَنُو مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ فِي قَرْيَتِهِمْ حَوَالِي دُورِهِمْ أَمْوَالُهُمْ وَنَخْلُهُمْ, وَبَنُو عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ فِي دَارِهِمْ كَذَلِكَ, وَبَنُو مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ كَذَلِكَ, وَبَنُو سَالِمٍ كَذَلِكَ, وَبَنُو سَاعِدَةَ كَذَلِكَ, وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ كَذَلِكَ, وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَذَلِكَ, وَبَنُو عَبْدِ الأَشْهَلِ كَذَلِكَ, وَسَائِرِ بُطُونِ الأَنْصَارِ كَذَلِكَ, فَبَنَى مَسْجِدَهُ فِي بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ, وَجَمَعَ فِيهِ فِي قَرْيَةٍ لَيْسَتْ بِالْكَبِيرَةِ, وَلاَ مِصْرَ هُنَالِكَ. فَبَطَل قَوْلُ مَنْ ادَّعَى أَنْ لاَ جُمُعَةَ إلاَّ فِي مِصْرٍ, وَهَذَا أَمْرٌ لاَ يَجْهَلُهُ أَحَدٌ لاَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ كَافِرٌ, بَلْ هُوَ نَقْلُ الْكَوَافِّ مِنْ شَرْقِ الأَرْضِ إلَى غَرْبِهَا, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, "حَيْثُمَا كُنْتُمْ" إبَاحَةٌ لِلتَّجْمِيعِ فِي جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ تُجْمَعُ فِيهِ لِلصَّلاَةِ فَلْتُصَلَّ فِيهِ الْجُمُعَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: قُلْت لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: أَرَأَيْت أَهْلَ الْبَصْرَةِ لاَ يَسَعُهُمْ الْمَسْجِدُ الأَكْبَرُ كَيْفَ يَصْنَعُونَ قَالَ: لِكُلِّ قَوْمٍ مَسْجِدٌ يَجْمَعُونَ فِيهِ ثُمَّ يُجْزِئُ ذَلِكَ عَنْهُمْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَبِهِ نَأْخُذُ.

ليس للسيد منع عبده من حضور الجمعة
524 - مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُ عَبْدِهِ مِنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ,
لاَِنَّهُ إذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مَدْعُوٌّ إلَيْهَا فَسَعْيُهُ إلَيْهَا فَرْضٌ, كَمَا أَنَّ الصَّلاَةَ فَرْضٌ، وَلاَ فَرْقَ. وَلاَ يَحِلُّ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ فَرَائِضِهِ

قَالَ تَعَالَى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الطَّاعَةِ".

لا جمعة على معذور بمرض أو خوف أو غير ذلك من الأعذار و لا على النساء
525 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ جُمُعَةَ عَلَى مَعْذُورٍ بِمَرَضٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الأَعْذَارِ, وَلاَ عَلَى النِّسَاءِ,
فَإِنْ حَضَرَ هَؤُلاَءِ صَلُّوهَا رَكْعَتَيْنِ.
لإِنَّ الْجُمُعَةَ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ تَجِبُ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَاتِ وَيُسْقِطُ الإِجَابَةَ مِنْ الأَعْذَارِ مَا يُسْقِطُ الإِجَابَةَ إلَى غَيْرِهَا، وَلاَ فَرْقَ.
فَإِنْ حَضَرَهَا الْمَعْذُورُ فَقَدْ سَقَطَ الْعُذْرُ, فَصَارَ مِنْ أَهْلِهَا وَهِيَ رَكْعَتَانِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ صَلاَّهَا الرَّجُلُ الْمَعْذُورُ بِامْرَأَتِهِ صَلاَّهَا رَكْعَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ صَلاَّهَا النِّسَاءُ فِي جَمَاعَةٍ.

و يلزم المجيء إلى الجمعة من كان منها
526 - مَسْأَلَةٌ: وَيَلْزَمُ الْمَجِيءُ إلَى الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ مِنْهَا
بِحَيْثُ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَقَدْ تَوَضَّأَ قَبْلَ ذَلِكَ دَخَلَ الطَّرِيقَ إثْرَ أَوَّلِ الزَّوَالِ وَمَشَى مُتَرَسِّلاً وَيُدْرِكُ مِنْهَا وَلَوْ السَّلاَمَ, سَوَاءٌ سَمِعَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ, فَمَنْ كَانَ بِحَيْثُ إنْ فَعَلَ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يُدْرِكْ مِنْهَا، وَلاَ السَّلاَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَجِيءُ إلَيْهَا, سَمِعَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ, وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ.
وَالْعُذْرُ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهَا كَالْعُذْرِ فِي التَّخَلُّفِ، عَنْ سَائِرِ صَلَوَاتِ الْفَرْضِ, كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ, وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا.
فَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى: أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يَأْمُرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي خُطْبَتِهِ أَهْلَ فَاءَيْنِ فَمَنْ دُونَهَا بِحُضُورِ الْجُمُعَةِ, وَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِيلاً مِنْ دِمَشْقَ.
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ مَنْ كَانَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلاً بِحُضُورِ الْجُمُعَةِ نعه.
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ: تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ مِنْ الْجَامِعِ بِمِقْدَارِ ذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ الْمَدِينَةِ, وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: تُؤْتَى الْجُمُعَةُ مِنْ فَرْسَخَيْنِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَأَنَسٍ, وَابْنِ عُمَرَ, وَنَافِعٍ, وَعِكْرِمَةَ, وَالْحَكَمِ, وَعَطَاءٍ, وَعَنِ الْحَسَنِ, وَقَتَادَةَ, وَأَبِي ثَوْرٍ: تُؤْتَى الْجُمُعَةُ مِنْ حَيْثُ إذَا صَلاَّهَا ثُمَّ خَرَجَ أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ فِي مَنْزِلِهِ, وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ.
وَرُوِيَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ, وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ, وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَكُونُ مِنْ الطَّائِفِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ فَلاَ

و يبتدئ الإمام بعد الأذان و تمامه بالخطبة فيخطب واقفا خطبتين يجلس بينهما جلسة
527 - مَسْأَلَةٌ: وَيَبْتَدِئُ الإِمَامُ بَعْدَ الأَذَانِ وَتَمَامِهِ بِالْخُطْبَةِ فَيَخْطُبُ وَاقِفًا خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جِلْسَةً.
وَلَيْسَتْ الْخُطْبَةُ فَرْضًا, فَلَوْ صَلاَّهَا إمَامٌ دُونَ خُطْبَةٍ صَلاَّهَا رَكْعَتَيْنِ جَهْرًا، وَلاَ بُدَّ.
وَنَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يَخْطُبَهُمَا عَلَى أَعْلَى الْمِنْبَرِ مُقْبِلاً عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ, يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى, وَيُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَيُذَكِّرُ النَّاسَ بِالآخِرَةِ, وَيَأْمُرُهُمْ بِمَا يَلْزَمُهُمْ فِي دِينِهِمْ.
وَمَا خَطَبَ بِهِ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ خُطْبَةٍ أَجْزَأَهُ, وَلَوْ خَطَبَ بِسُورَةٍ يَقْرَؤُهَا: فَحَسَنٌ.
فَإِنْ كَانَ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَى النَّاسِ إذْ دَخَلَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ إذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ.
رُوِّينَا، عَنْ أَبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ أَنَّهُمَا كَانَا يُسَلِّمَانِ إذَا قَعَدَا عَلَى الْمِنْبَرِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حدثنا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ

هُوَ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا ثُمَّ يَجْلِسُ, ثُمَّ يَقُومُ, كَمَا يَفْعَلُونَ الْيَوْمَ".
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُثْمَانَ, وَمُعَاوِيَةَ, أَنَّهُمَا كَانَا يَخْطُبَانِ جَالِسَيْنِ.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فَإِنَّمَا لَنَا الاِئْتِسَاءُ بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ فِعْلُهُ فَرْضًا.
فأما أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ فَقَالاَ: الْخُطْبَةُ فَرْضٌ لاَ تُجْزِئُ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ إلاَّ بِهَا, وَالْوُقُوفُ فِي الْخُطْبَةِ فَرْضٌ, وَاحْتَجَّا بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ تَنَاقَضَا فَقَالاَ: إنْ خَطَبَ جَالِسًا أَجْزَأَهُ, وَإِنْ خَطَبَ خُطْبَةً وَاحِدَةً أَجْزَأَهُ, وَإِنْ لَمْ يَخْطُبْ لَمْ يُجْزِهِ, وَقَدْ صَحَّ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَخْبَرَك أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ".
قال أبو محمد: مِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ فِعْلِهِ عليه السلام فَرْضًا وَبَعْضُهُ غَيْرَ فَرْضٍ.
وقال الشافعي: إنْ خَطَبَ خُطْبَةً وَاحِدَةً لَمْ تُجْزِهِ الصَّلاَةُ. ثُمَّ تَنَاقَضَ فَأَجَازَ الْجُمُعَةَ لِمَنْ خَطَبَ قَاعِدًا, وَالْقَوْلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كَالْقَوْلِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ فِي إجَازَتِهِمَا الْجُمُعَةَ بِخُطْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلاَ فَرْقَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٌ: مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَمْ يُصَلِّهَا إلاَّ أَرْبَعًا, لإِنَّ الْخُطْبَةَ أُقِيمَتْ مَقَامَ الرَّكْعَتَيْنِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْخُشَنِيِّ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيِّ الْمَكِّيِّ قَالَ: سَمِعْت طَاوُوسًا, وَعَطَاءً يَقُولاَنِ: مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ صَلَّى أَرْبَعًا.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى: حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ أَبِي يُونُسَ الْحَسَنِ بْنِ يَزِيدَ سَمِعْت مُجَاهِدًا يَقُولُ: إذَا لَمْ تُدْرِكْ الْخُطْبَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَصَلِّ أَرْبَعًا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: الْخُطْبَةُ مَوْضِعُ الرَّكْعَتَيْنِ, فَمَنْ فَاتَتْهُ الْخُطْبَةُ صَلَّى أَرْبَعًا.
قال أبو محمد: الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ يَقُولُونَ: الْمُرْسَلُ كَالْمُسْنَدِ وَأَقْوَى, فَيَلْزَمُهُمْ الأَخْذُ بِقَوْلِ عُمَرَ هَهُنَا, وَإِلاَّ فَقَدْ تَنَاقَضُوا.
قال أبو محمد: مَنْ احْتَجَّ فِي إيجَابِ فَرْضِ الْخُطْبَةِ بِأَنَّهَا جُعِلَتْ بَدَلاً، عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِ هَؤُلاَءِ, وَإِلاَّ فَقَدْ تَنَاقَضَ.

وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي إيجَابِ الْخُطْبَةِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً}.
قال أبو محمد: وَهَذَا الاِحْتِجَاجُ لاَ مَنْفَعَةَ لَهُمْ فِيهِ فِي تَصْوِيبِ قَوْلِهِمْ, وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُمْ تَرَكُوهُ قَائِمًا, وَهَكَذَا نَقُولُ, وَإِنَّمَا هُوَ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّهُمْ تَرَكُوهُ عليه السلام قَاعِدًا, وَهَذَا لاَ يَقُولُهُ أَحَدٌ, وَلَيْسَ فِي إنْكَارِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَرْكِهِمْ لِنَبِيِّهِ عليه السلام قَائِمًا: إيجَابٌ لِفَرْضِ الْقِيَامِ فِي الْخُطْبَةِ, وَلاَ لِفَرْضِ الْخُطْبَةِ.
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ كَمَا يَقُولُونَ فَيَلْزَمُهُمْ أَنَّ مَنْ خَطَبَ قَاعِدًا فَلاَ جُمُعَةَ لَهُ، وَلاَ لَهُمْ, وَهَذَا لاَ يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ, فَظَهَرَ أَنَّ احْتِجَاجَهُمْ بِالآيَةِ عَلَيْهِمْ, وَأَنَّهَا مُبْطِلَةٌ لاَِقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ لَوْ كَانَتْ عَلَى إيجَابِ الْقِيَامِ, وَلَيْسَ فِيهَا أَثَرٌ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ عَلَى إيجَابِ الْخُطْبَةِ, إنَّمَا فِيهَا أَنَّ الْخُطْبَةَ تَكُونُ قِيَامًا فَقَطْ.
فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا تُعْجَلُ مَا رُوِّينَاهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: مَنْ لَمْ يَخْطُبْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَدْ قَالَهُ أَيْضًا ابْنُ سِيرِينَ:
وَقَدْ أَقْدَمَ بَعْضُهُمْ بِجَارِي عَادَتِهِمْ فِي الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: إنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} إنَّمَا مُرَادُهُ إلَى الْخُطْبَةِ وَجَعَلَ هَذَا حُجَّةً فِي إيجَابِ فَرْضِهَا قال أبو محمد: وَمَنْ لِهَذَا الْمُقْدِمِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بِالذِّكْرِ الْمَذْكُورِ فِيهَا الْخُطْبَةَ بَلْ أَوَّلُ الآيَةِ وَآخِرُهَا يُكَذِّبَانِ ظَنَّهُ الْفَاسِدَ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا قَالَ: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}. فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا افْتَرَضَ السَّعْيَ إلَى الصَّلاَةِ إذَا نُودِيَ لَهَا, وَأَمَرَ إذَا قُضِيَتْ بِالاِنْتِشَارِ وَذَكَرَهُ كَثِيرًا. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ الذِّكْرَ الْمَأْمُورَ بِالسَّعْيِ لَهُ هُوَ الصَّلاَةُ, وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا بِالتَّكْبِيرِ, وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّمْجِيدِ, وَالْقِرَاءَةِ, وَالتَّشَهُّدِ لاَ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ مَا قَالَهُ هَذَا الْجَاهِلُ لَكَانَ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ، وَلاَ شَيْئًا مِنْهَا وَأَدْرَكَ الصَّلاَةَ غَيْرَ مُؤَدٍّ لِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ السَّعْيِ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ هَذَا, وَقَدْ قَالَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ, فَلاَ يَكْذِبُونَ ثَانِيَةً فِي دَعْوَى الإِجْمَاعِ مُمَوِّهِينَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يُصَلِّهَا عليه السلام قَطُّ إلاَّ بِخُطْبَةٍ.
قلنا: وَلاَ صَلاَّهَا عليه السلام قَطُّ إلاَّ بِخُطْبَتَيْنِ قَائِمًا يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا, فَاجْعَلُوا كُلَّ ذَلِكَ فَرْضًا لاَ تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إلاَّ بِهِ, وَلاَ صَلَّى عليه السلام قَطُّ إلاَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَةِ الآُولَى

فَأَبْطِلُوا الصَّلاَةَ بِتَرْكِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ خُطْبَةٍ فَاقْتِدَاءٌ بِظَاهِرِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو حنيفة: تُجْزِئُ تَكْبِيرَةٌ, وَهَذَا نَقْضٌ مِنْهُ لاِِيجَابِهِ الْخُطْبَةَ فَرْضًا, لإِنَّ التَّكْبِيرَةَ لاَ تُسَمَّى خُطْبَةً, وَيُقَالُ لَهُمْ: إذَا جَازَ هَذَا عِنْدَكُمْ فَلِمَ لاَ أَجْزَأَتْ، عَنِ الْخُطْبَةِ تَكْبِيرَةُ الإِحْرَامِ فَهِيَ ذِكْرٌ؟
وقال مالك: الْخُطْبَةُ: كُلُّ كَلاَمٍ ذِي بَالٍ.
قال أبو محمد: لَيْسَ هَذَا حَدًّا لِلْخُطْبَةِ, وَهُوَ يَرَاهَا فَرْضًا, وَمَنْ أَوْجَبَ فَرْضًا فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ تَحْدِيدُهُ, حَتَّى يَعْلَمَهُ مُتَّبِعُوهُ عِلْمًا لاَ إشْكَالَ فِيهِ, وَإِلاَّ فَقَدْ جَهِلُوا فَرْضَهُمْ.
وَأَمَّا خُطْبَتُهَا عَلَى أَعْلَى الْمِنْبَرِ فَهَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَحَّتْ بِذَلِكَ الآثَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَكَانَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا هَذَا أَيْضًا فَرْضًا, لاَِنَّهُ مُذْ عُمِلَ الْمِنْبَرُ لَمْ يَخْطُبْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجُمُعَةِ إلاَّ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنْ خَطَبَ بِسُورَةٍ يَقْرَؤُهَا: فَحَسَنٌ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ ابْنَةٍ لِحَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ: "مَا حَفِظْت (ق) إلاَّ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِهَا كُلَّ جُمُعَةٍ, وَكَانَ تَنُّورُنَا وَتَنُّورُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاحِدًا".

و لا تجوز إطالة الخطبة فإن قرأ آية سجدة يستحب له أن ينزل و يسجد و الناس
528 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ إطَالَةُ الْخُطْبَةِ, فَإِنْ قَرَأَ فِيهَا بِسُورَةٍ فِيهَا سَجْدَةٌ أَوْ آيَةٍ فِيهَا سَجْدَةٌ فَنَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يَنْزِلَ فَيَسْجُدَ وَالنَّاسُ, فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلاَ حَرَجَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي شُرَيْحُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبْجَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَاصِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ: خَطَبَنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ, فَلَمَّا نَزَلَ قلنا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ, لَقَدْ أَبْلَغْت وَأَوْجَزْت فَلَوْ كُنْت تَنَفَّسْت فَقَالَ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّ طُولَ صَلاَةِ الرَّجُلِ وَقِصَرِ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ, فَأَطِيلُوا الصَّلاَةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ, فَإِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا".
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَحْسِنُوا هَذِهِ الصَّلاَةَ وَاقْصُرُوا هَذِهِ الْخُطَبَ.
قال أبو محمد: شَهِدْت ابْنَ مَعْدَان فِي جَامِعِ قُرْطُبَةَ قَدْ أَطَالَ الْخُطْبَةَ, حَتَّى أَخْبَرَنِي بَعْضُ

وُجُوهِ النَّاسِ أَنَّهُ بَالَ فِي ثِيَابِهِ. وَكَانَ قَدْ نَشِبَ فِي الْمَقْصُورَةِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا ابْنُ السَّلِيمِ الْقَاضِي، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حدثنا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ "ص" فَلِمَا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ: أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ قَرَأَ سُورَةَ الْحَجِّ عَلَى الْمِنْبَرِ بِالْبَصْرَةِ فَسَجَدَ بِالنَّاسِ سَجْدَتَيْنِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ السَّجْدَةَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ, ثُمَّ نَزَلَ فَسَجَدَ فَسَجَدُوا مَعَهُ, ثُمَّ قَرَأَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ الآُخْرَى فَتَهَيَّئُوا لِلسُّجُودِ, فَقَالَ عُمَرُ عَلَى رِسْلِكُمْ, إنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إلاَّ أَنْ نَشَاءَ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ التَّيْمِيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَدِيرِ وَكَانَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ أَنَّهُ شَهِدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ سُورَةَ النَّحْلِ, حَتَّى إذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ, حَتَّى إذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا, حَتَّى إذَا جَاءَ السَّجْدَةَ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ, إنَّمَا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ, فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ, وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشِ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ: {إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ثُمَّ نَزَلَ فَسَجَدَ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ: أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ كَانَ يَخْطُبُ فَقَرَأَ "ص" وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ, لاَ يُنْكِرُ ذَلِكَ أَحَدٌ بِالْمَدِينَةِ, وَالْبَصْرَةِ, وَالْكُوفَةِ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، مُخَالِفٌ, وَقَدْ سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَجَدَاتِ الْقُرْآنِ الْمَشْهُورَةِ, فَأَيْنَ دَعْوَاهُمْ اتِّبَاعَ عَمَلِ الصَّحَابَةِ؟

فرض على كل من حضر الجمعة أن لا يتكلم مدة خطبة الإمام بشيء البتة
529 - مَسْأَلَةٌ: وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ حَضَرَ الْجُمُعَةَ سَمِعَ الْخُطْبَةَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ أَنْ لاَ يَتَكَلَّمَ مُدَّةَ خُطْبَةِ الإِمَامِ بِشَيْءٍ أَلْبَتَّةَ,
إلاَّ التَّسْلِيمَ إنْ دَخَلَ حِينَئِذٍ, وَرَدَّ السَّلاَمَ عَلَى

مَنْ سَلَّمَ مِمَّنْ دَخَلَ حِينَئِذٍ, وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى إنْ عَطَسَ, وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ إنْ حَمِدَ اللَّهَ, وَالرَّدَّ عَلَى الْمُشَمِّتِ, وَالصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَرَ الْخَطِيبُ بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِ, وَالتَّأْمِينَ عَلَى دُعَائِهِ, وَابْتِدَاءَ مُخَاطَبَةِ الإِمَامِ فِي الْحَاجَةِ تَعِنُّ, وَمُجَاوَبَةَ الإِمَامِ مِمَّنْ ابْتَدَأَهُ الإِمَامُ بِالْكَلاَمِ فِي أَمْرٍ مَا فَقَطْ.
وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ حِينَئِذٍ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ: انْصِتْ, وَلَكِنْ يُشِيرُ إلَيْهِ أَوْ يَغْمِزُهُ, أَوْ يَحْصِبُهُ.
وَمَنْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا ذَاكِرًا عَالِمًا بِالنَّهْيِ فَلاَ جُمُعَةَ لَهُ.
فَإِنْ أَدْخَلَ الْخَطِيبُ فِي خُطْبَتِهِ مَا لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ مِنْ الدُّعَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَالْكَلاَمُ مُبَاحٌ حِينَئِذٍ, وَكَذَلِكَ إذَا جَلَسَ الإِمَامُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ فَالْكَلاَمُ حِينَئِذٍ مُبَاحٌ, وَبَيْنَ الْخُطْبَةِ وَابْتِدَاءِ الصَّلاَةِ أَيْضًا, وَلاَ يَجُوزُ الْمَسُّ لِلْحَصَى مُدَّةَ الْخُطْبَةِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ أَنَا جَرِيرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ زِيَادِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ الْقَرْثَعِ الضَّبِّيِّ وَكَانَ مِنْ الْقُرَّاءِ الأَوَّلِينَ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَمَا أُمِرَ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الْجُمُعَةِ فَيُنْصِتُ حَتَّى يَقْضِيَ صَلاَتَهُ إلاَّ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْجُمُعَةِ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو كُرَيْبٍ، حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ وَزِيَادَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ, وَمَنْ مَسَّ الْحَصَا فَقَدْ لَغَا"
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ ثنا

يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حدثنا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْصِتْ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ".
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ سُورَةً عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لاُِبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: مَتَى نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ أُبَيٌّ, فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ قَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ لاَِبِي ذَرٍّ: مَا لَكَ مِنْ صَلاَتِكَ إلاَّ مَا لَغَوْتَ, فَدَخَلَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ:" صَدَقَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ".
وَبِهِ إلَى حَمَّادٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ: أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيَّ كَانَ بِمَكَّةَ فَجَاءَ كريه وَالإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ, فَقَالَ لَهُ: حَبَسْت الْقَوْمَ قَدْ ارْتَحَلُوا, فَقَالَ لَهُ: لاَ تَعْجَلْ حَتَّى نَنْصَرِفَ, فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ قَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: أَمَّا صَاحِبُك فَحِمَارٌ, وَأَمَّا أَنْت فَلاَ جُمُعَةَ لَك!
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيع، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: أَنَّ رَجُلاً اسْتَفْتَحَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ آيَةً وَالإِمَامُ يَخْطُبُ, فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: هَذَا حَظُّك مِنْ صَلاَتِك.
قال أبو محمد: فَهَؤُلاَءِ ثَلاَثَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، مُخَالِفٌ, كُلُّهُمْ يُبْطِلُ صَلاَةَ مَنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا فِي الْخُطْبَةِ. وَبِهِ نَقُولُ, وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا فِي الْوَقْتِ, لاَِنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا وَالْعَجَبُ مِمَّنْ قَالَ: مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ بَطَلَ أَجْرُهُ!
قال أبو محمد: وَإِذَا بَطَلَ أَجْرُهُ فَقَدْ بَطَلَ عَمَلُهُ بِلاَ شَكٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَصَبَ رَجُلَيْنِ كَانَا يَتَكَلَّمَانِ

يَوْمَ الْجُمُعَةِ, وَأَنَّهُ رَأَى سَائِلاً يَسْأَلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَحَصَبَهُ, وَأَنَّهُ كَانَ يُومِئُ إلَى الرَّجُلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْ اُسْكُتْ.
وَأَمَّا إذَا أَدْخَلَ الإِمَامُ فِي خُطْبَتِهِ مَدْحَ مَنْ لاَ حَاجَةَ بِالْمُسْلِمِينَ إلَى مَدْحِهِ, أَوْ دُعَاءً فِيهِ بَغْيٌ وَفُضُولٌ مِنْ الْقَوْلِ, أَوْ ذَمَّ مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ: فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْخُطْبَةِ, فَلاَ يَجُوزُ الإِنْصَاتُ لِذَلِكَ, بَلْ تَغْيِيرُهُ وَاجِبٌ إنْ أَمْكَنَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُجَالِدٍ قَالَ: رَأَيْت الشَّعْبِيَّ, وَأَبَا بُرْدَةَ بْنَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيَّ يَتَكَلَّمَانِ وَالْحَجَّاجُ يَخْطُبُ حِينَ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ وَلَعَنَ اللَّهُ, فَقُلْت: أَتَتَكَلَّمَانِ فِي الْخُطْبَةِ فَقَالاَ: لَمْ نُؤْمَرْ بِأَنْ نُنْصِتَ لِهَذَا.
وَعَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: رَأَيْت إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ يَتَكَلَّمُ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ زَمَنَ الْحَجَّاجِ.
قال أبو محمد: كَانَ الْحَجَّاجُ وَخُطَبَاؤُهُ يَلْعَنُونَ عَلِيًّا, وَابْنَ الزُّبَيْرِ، رضي الله عنهم، وَلُعِنَ لاَعِنُهُمْ.
قال أبو محمد: وَقَدْ رُوِّينَا خِلاَفًا، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ لاَ نَقُولُ بِهِ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ نَائِلٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا بِالْكَلاَمِ إذَا لَمْ يَسْمَعْ الْخُطْبَةَ.
وَأَمَّا ابْتِدَاءُ السَّلاَمِ وَرَدُّهُ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رُبَيْعٍ حَدَّثَنَا قَالَ: حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حدثنا بِشْرٌ، هُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلاَنَ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ هُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ, فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ, فَلَيْسَتْ الآُولَى بِأَحَقَّ مِنْ الآخِرَةِ" وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}.
وَأَمَّا حَمْدُ الْعَاطِسِ وَتَشْمِيتُهُ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رُبَيْعٍ حَدَّثَنَا قَالَ: حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلاَلِ بْنِ يَسَافٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: إنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ, وَلْيَقُلْ لَهُ مَنْ عِنْدَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ, وَلْيَرُدَّ عَلَيْهِمْ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ".

وَقَدْ قِيلَ: إنَّ بَيْنَ هِلاَلِ بْنِ يَسَافٍ وَبَيْنَ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ: خَالِدَ بْنَ عَرْفَجَةَ وَبِهِ إلَى أَبِي دَاوُد: حدثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ, وَلْيَقُلْ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ, وَيَقُولُ هُوَ: يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ".
قال أبو محمد: فإن قيل: قَدْ صَحَّ النَّهْيُ، عَنِ الْكَلاَمِ وَالأَمْرُ بِالإِنْصَاتِ فِي الْخُطْبَةِ, وَصَحَّ الأَمْرُ بِالسَّلاَمِ وَرَدِّهِ, وَبِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْعُطَاسِ وَتَشْمِيتِهِ عِنْدَ ذَلِكَ وَرَدِّهِ, فَقَالَ قَوْمٌ: إلاَّ فِي الْخُطْبَةِ, وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: بِالإِنْصَاتِ فِي الْخُطْبَةِ إلاَّ عَنِ السَّلاَمِ وَرَدِّهِ وَالْحَمْدِ وَالتَّشْمِيتِ وَالرَّدِّ, فَمَنْ لَكُمْ بِتَرْجِيحِ اسْتِثْنَائِكُمْ وَتَغْلِيبِ اسْتِعْمَالِكُمْ لِلأَخْبَارِ عَلَى اسْتِثْنَاءِ غَيْرِكُمْ وَاسْتِعْمَالِهِ لِلأَخْبَارِ, لاَ سِيَّمَا وَقَدْ أَجْمَعْتُمْ مَعَنَا عَلَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ فِي الصَّلاَةِ؟!
قلنا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: قَدْ جَاءَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلاَةِ أَنَّهُ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ وَالْقِيَاسُ لِلْخُطْبَةِ عَلَى الصَّلاَةِ بَاطِلٌ, إذْ لَمْ يُوجِبْهُ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ. فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَا الْخُطْبَةَ يَجُوزُ فِيهَا ابْتِدَاءُ الْخَطِيبِ بِالْكَلاَمِ وَمُجَاوَبَتِهِ, وَابْتِدَاءُ ذِي الْحَاجَةِ لِلَّهِ بِالْمُكَالَمَةِ وَجَوَابِ الْخَطِيبِ لَهُ, عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا, وَكُلُّ هَذَا لَيْسَ هُوَ فَرْضًا, بَلْ هُوَ مُبَاحٌ. وَيَجُوزُ فِيهَا ابْتِدَاءُ الدَّاخِلِ بِالصَّلاَةِ تَطَوُّعًا. فَصَحَّ أَنَّ الْكَلاَمَ الْمَأْمُورَ بِهِ مُغَلَّبٌ عَلَى الإِنْصَاتِ فِيهَا, لاَِنَّهُ مِنْ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ أَلْبَتَّةَ جَوَازُهُ: أَنْ يَكُونَ الْكَلاَمُ الْمُبَاحُ جَائِزًا فِيهَا وَيَكُونُ الْكَلاَمُ الْفَرْضُ الْمَأْمُورُ بِهِ الَّذِي لاَ يَحِلُّ تَرْكُهُ فِيهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حدثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حدثنا أَبُو عَمْرٍو هُوَ الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, هَلَكَ الْمَالُ, وَجَاعَ الْعِيَالُ, فَادْعُ اللَّهَ لَنَا, فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ, وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً" وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ

ابْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حدثنا حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ قَالَ: قَالَ أَبُو رِفَاعَةَ: "انْتَهَيْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, رَجُلٌ غَرِيبٌ جَاءَ يَسْأَلُ، عَنْ دِينِهِ, لاَ يَدْرِي مَا دِينُهُ, فَأَقْبَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَرَكَ خُطْبَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إلَيَّ, وَأَتَى بِكُرْسِيٍّ حَسِبْتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا, فَقَعَدَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ أَتَى إلَى خُطْبَتِهِ فَأَتَمَّ آخِرَهَا".
قال أبو محمد: أَبُو رِفَاعَةَ هَذَا تَمِيمُ الْعَدَوِيُّ لَهُ صُحْبَةٌ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا الْبَابِ فِي الْمُتَّصِلِ بِهِ كَلاَمَ عُمَرَ مَعَ النَّاسِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي أَنَّ السُّجُودَ لَيْسَ فَرْضًا. وَذَكَرْنَا قَبْلُ كَلاَمَ عُمَرَ مَعَ عُثْمَانَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَكَلاَمَ عُثْمَانَ مَعَهُ وَعُمَرُ يَخْطُبُ فِي أَمْرِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ وَإِنْكَارِ تَرْكِهِ, لاَ يُنْكِرُ الْكَلاَمَ فِي كُلِّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ, حَتَّى نَشَأَ مَنْ لاَ يَعْتَدُّ بِهِ مَعَ مَنْ ذَكَرْنَا.
وَالْعَجِيبُ أَنَّ بَعْضَهُمْ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ بِزَعْمِهِمْ قَالَ: لَعَلَّ هَذَا قَبْلَ نَسْخِ الْكَلاَمِ فِي الصَّلاَةِ أَوْ قَالَ: فِي الْخُطْبَةِ!
فَلَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ وَجَدَ نَسْخَ الْكَلاَمِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْخُطْبَةِ وَمَا الَّذِي أَدْخَلَ الصَّلاَةَ فِي الْخُطْبَةِ وَلَيْسَ لَهَا شَيْءٌ فِي أَحْكَامِهَا. وَلَوْ خَطَبَ الْخَطِيبُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ لَمَا ضَرَّ ذَلِكَ خُطْبَتَهُ, وَهُوَ يَخْطُبُهَا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ, فَأَيْنَ الصَّلاَةُ مِنْ الْخُطْبَةِ لَوْ عَقَلُوا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ وَالدِّينُ لاَ يُؤْخَذُ بِـ "لَعَلَّ".
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ دَلْهَمٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ يُسَلِّمُ, وَيَرُدُّ السَّلاَمَ, وَيُشَمِّتُ الْعَاطِسَ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ.
وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مِثْلُهُ.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ, وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالاَ: رُدَّ السَّلاَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاسْمَعْ.
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَرُدُّ فِي نَفْسِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلْت حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَالْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ، عَنْ رَجُلٍ جَاءَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29