كتاب : المحلى
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري

قِيلَ لَهُمْ: فَقِيسُوا عَلَى اعْتِكَافِهِ عَشْرًا, أَوْ عِشْرِينَ: مَا دُونَ الْعَشْرِ. وَمَا فَوْقَ الْعِشْرِينَ, إذْ لَيْسَ مِنْهَا سَاعَةٌ، وَلاَ يَوْمٌ إلاَّ وَهُوَ فِيهِ مُعْتَكِفٌ.

ليس الصوم من شروط الاعتكاف
625 - مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ الصَّوْمُ مِنْ شُرُوطِ الاِعْتِكَافِ,
لَكِنْ إنْ شَاءَ الْمُعْتَكِفُ صَامَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْ.
وَ اعْتِكَافُ: يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ الأَضْحَى, وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ: حَسَنٌ. وَكَذَلِكَ اعْتِكَافُ: لَيْلَةٍ بِلاَ يَوْمٍ, وَيَوْمٍ بِلاَ لَيْلَةٍ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِي اعْتِكَافٌ, فَسَأَلْت عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهَا صِيَامٌ إلاَّ أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهَا. فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاَ, قَالَ: فَعَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لاَ, قَالَ: فَعَنْ عُمَرَ قَالَ: لاَ, قَالَ: فَأَظُنُّهُ قَالَ: فَعَنْ عُثْمَانَ قَالَ: لاَ قَالَ أَبُو سُهَيْلٍ: لَقِيت طَاوُوسًا, وَعَطَاءً, فَسَأَلْتهمَا فَقَالَ طَاوُوس كَانَ فُلاَنٌ لاَ يَرَى عَلَيْهَا صِيَامًا إلاَّ أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهَا وَقَالَ عَطَاءٌ: لَيْسَ عَلَيْهَا صِيَامٌ إلاَّ أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهَا.
وَبِهِ إلَى سَعِيدٍ: حدثنا حِبَّانُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا لَيْثٌ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ: أَنَّ عَلِيًّا, وَابْنَ مَسْعُودٍ قَالاَ جَمِيعًا: الْمُعْتَكِفُ لَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمٌ إلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, كَمَا َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مُحَمَّدٌ الْقَلَعِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الصَّوَّافُ، حدثنا بِشْرُ بْنُ مُوسَى بْنِ صَالِحِ بْنِ عُمَيْرَةَ، حدثنا أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ، حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، حدثنا أَبُو سُهَيْلِ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: اجْتَمَعْت أَنَا، وَابْنُ شِهَابٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَكَانَ عَلَى امْرَأَتِي اعْتِكَافُ ثَلاَثٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لاَ يَكُونُ اعْتِكَافٌ إلاَّ بِصَوْمٍ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَمِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاَ. قَالَ: فَمِنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لاَ, قَالَ: فَمِنْ عُمَرَ قَالَ: لاَ, قَالَ: فَمِنْ عُثْمَانَ قَالَ: لاَ. قَالَ أَبُو سُهَيْلٍ: فَانْصَرَفْت فَلَقِيت طَاوُوسًا, وَعَطَاءً, فَسَأَلْتهمَا، عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ طَاوُوس: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ يَرَى عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامًا إلاَّ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ عَطَاءٌ: ذَلِكَ رَأْيِي.

وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: الْمُعْتَكِفُ إنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا عَبْدَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صَوْمٌ لاَ أَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ.
وقال أبو حنيفة, وَسُفْيَانُ, وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ, وَمَالِكٌ, وَاللَّيْثُ: لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ. وَصَحَّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ, وَالزُّهْرِيِّ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ عَنْ طَاوُوس وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَصَحَّ عَنْهُمَا كِلاَ الأَمْرَيْنِ.
كَتَبَ إلَى دَاوُد بْنِ بَابْشَاذَ بْنِ دَاوُد الْمَصْرِيِّ قَالَ: حدثنا عَبْدُ الْغَنِيّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ، حدثنا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُرَّةَ الرُّعَيْنِيُّ، حدثنا أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ، حدثنا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُؤَذِّنُ، حدثنا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ قَالاَ جَمِيعًا: لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ
وَرُوِيَ، عَنْ عَائِشَةَ: لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: مَنْ اعْتَكَفَ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ.
قال أبو محمد: شَغِبَ مَنْ قَلَّدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ بِأَنْ قَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}. قَالُوا: فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الاِعْتِكَافَ إثْرَ ذِكْرِهِ لِلصَّوْمِ, فَوَجَبَ أَنْ لاَ يَكُونَ الاِعْتِكَافُ إلاَّ بِصَوْمٍ.
قال أبو محمد: مَا سُمِعَ بِأَقْبَحَ مِنْ هَذَا التَّحْرِيفِ لِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى, وَالإِقْحَامِ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ وَمَا عَلِمَ قَطُّ ذُو تَمْيِيزٍ: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى شَرِيعَةً إثْرَ ذِكْرِهِ أُخْرَى مُوجِبَةٌ عَقْدَ إحْدَاهُمَا بِالآُخْرَى.، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: بَلْ لَمَّا ذَكَرَ الصَّوْمَ ثُمَّ الاِعْتِكَافَ: وَجَبَ أَنْ لاَ يُجْزِئَ صَوْمٌ إلاَّ بِاعْتِكَافٍ.
فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَدٌ.
قلنا: فَقَدْ أَقْرَرْتُمْ بِصِحَّةِ الإِجْمَاعِ عَلَى بُطْلاَنِ حُجَّتِكُمْ, وَعَلَى أَنَّ ذِكْرَ شَرِيعَةٍ مَعَ ذِكْرِ أُخْرَى لاَ يُوجِبُ أَنْ لاَ تَصِحَّ إحْدَاهُمَا إلاَّ بِالآُخْرَى.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ خُصُومَنَا مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ هُوَ بِاللَّيْلِ مُعْتَكِفٌ كَمَا هُوَ بِالنَّهَارِ, وَهُوَ بِاللَّيْلِ غَيْرُ صَائِمٍ. فَلَوْ صَحَّ لَهُمْ هَذَا الاِسْتِدْلاَل لَوَجَبَ أَنْ لاَ يُجْزِئَ الاِعْتِكَافُ إلاَّ

بِالنَّهَارِ الَّذِي لاَ يَكُونُ الصَّوْمُ إلاَّ فِيهِ فَبَطَلَ تَمْوِيهُهُمْ بِإِيرَادِ هَذِهِ الآيَةِ, حَيْثُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا مَوَّهُوا بِهِ, لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِدَلِيلٍ.
وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد قَالَ: حدثنا أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيم، حدثنا أَبُو دَاوُد هُوَ الطَّيَالِسِيُّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إنَّ عُمَرَ جَعَلَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً أَوْ يَوْمًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ, فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "اعْتَكِفْ وَصُمْ".
قال أبو محمد: هَذَا خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ, لإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُدَيْلٍ مَجْهُولٌ، وَلاَ يُعْرَفُ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ مُسْنَدِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَصْلاً, وَمَا نَعْرِفُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثًا مُسْنَدًا إلاَّ ثَلاَثَةً, لَيْسَ, هَذَا مِنْهَا: أَحَدُهَا: فِي الْعُمْرَةِ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. وَالثَّانِي: فِي صِفَةِ الْحَجِّ. وَالثَّالِثُ: "لاَ تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ". فَسَقَطَ عَنَّا هَذَا الْخَبَرُ, لَبُطْلاَنِ سَنَدِهِ.
ثُمَّ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى احْتِجَاجُهُمْ بِهِ فِي إيجَابِ الصَّوْمِ فِي الاِعْتِكَافِ وَمُخَالَفَتُهُمْ إيَّاهُ فِي إيجَابِ الْوَفَاءِ بِمَا نَذَرَهُ الْمَرْءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, فَهَذِهِ عَظِيمَةٌ لاَ يَرْضَى بِهَا ذُو دِينٍ.
فَإِنْ قَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ "فِي الْجَاهِلِيَّةِ" أَيْ أَيَّامِ ظُهُورِ الْجَاهِلِيَّةِ بَعْدَ إسْلاَمِهِ.
قلنا لِمَنْ قَالَ هَذَا: إنْ كُنْت تَقُولُ هَذَا قَاطِعًا بِهِ فَأَنْتَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ, لِقَطْعِك بِمَا لاَ دَلِيلَ لَك عَلَيْهِ, وَلاَ وَجَدْت قَطُّ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَخْبَارِ, وَإِنْ كُنْت تَقُولُهُ ظَنًّا, فَإِنَّ الْحَقَائِقَ لاَ تُتْرَكُ بِالظُّنُونِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا}. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ".
فَكَيْفَ وَقَدْ صَحَّ كَذِبُ هَذَا الْقَوْلِ, كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: "نَذَرْتُ نَذْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا أَسْلَمْتُ, فَأَمَرَنِي أَنْ أُوفِيَ بِنَذْرِي".
وَهَذَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, لاَ كَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُدَيْلٍ الذَّاهِبِ فِي الرِّيَاحِ.

فَهَلْ سَمِعَ بِأَعْجَبَ مِنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَزَالُونَ يَأْتُونَ بِالْخَبَرِ يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ يُصَحِّحُهُ فِيمَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ, وَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفِينَ لِذَلِكَ الْخَبَرِ نَفْسِهِ فِيمَا خَالَفَ تَقْلِيدَهُمْ: فَكَيْفَ يَصْعَدُ مَعَ هَذَا عَمَلٌ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ, فَعَادَ خَبَرُهُمْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ لاَ عَلَيْنَا, وَلَوْ صَحَّ, وَرَأَيْنَاهُ حُجَّةً لَقُلْنَا: بِهِ.
وَمَوَّهُوا بِأَنَّ هَذَا رُوِيَ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ. قَالُوا: وَمِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ.
فَقُلْنَا: أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدْ اُخْتُلِفَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ. فَصَحَّ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِنَا. وَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ: عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ سَمِعْت عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ يَقُولُ: إنَّ أُمَّنَا مَاتَتْ وَعَلَيْهَا اعْتِكَافٌ, فَسَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: اعْتَكِفْ عَنْهَا وَصُمْ.
فَمِنْ أَيْنَ صَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ حُجَّةً فِي إيجَابِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُعْتَكِفِ وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ خِلاَفُ ذَلِكَ. وَلَمْ يَصِرْ حُجَّةً فِي إيجَابِهِ عَلَى الْوَلِيِّ قَضَاءُ الاِعْتِكَافِ، عَنِ الْمَيِّتِ وَهَلاَّ قُلْتُمْ هَاهُنَا: مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ: بِالرَّأْيِ وَعَهِدْنَاهُمْ يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ هَذَا عِنْدَ فُلاَنٍ صَحِيحًا مَا تَرَكَهُ. أَوْ يَقُولُونَ: لَمْ يَتْرُكْ مَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ إلاَّ لِمَا هُوَ أَصَحُّ عِنْدَهُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا، عَنْ عَطَاءٍ آنِفًا أَنَّهُ لَمْ يَرَ الصَّوْمَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ, وَسَمِعَ طَاوُوسًا يَذْكُرُ ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ. فَهَلاَّ قَالُوا: لَمْ يَتْرُكْ عَطَاءٌ مَا رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ إلاَّ لِمَا هُوَ عِنْدَهُ أَقْوَى مِنْهُ, وَلَكِنَّ الْقَوْمَ مُتَلاَعِبُونَ.
وَأَمَّا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: حدثنا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ أَنَا خَالِدٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ يَعْنِي ابْنَ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا "قَالَتْ: السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ لاَ يَعُودُ مَرِيضًا, وَلاَ يَشْهَدُ جِنَازَةً, وَلاَ يَمَسُّ امْرَأَةً، وَلاَ يُبَاشِرُهَا, وَلاَ يَخْرُجُ لِحَاجَةٍ إلاَّ لِمَا لاَ بُدَّ مِنْهُ، وَلاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ, وَلاَ اعْتِكَافَ

إلاَّ فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ.
فَمِنْ أَيْنَ صَارَ قَوْلُهَا فِي إيجَابِ الاِعْتِكَافَ حُجَّةً, وَلَمْ يَصِرْ قَوْلُهَا "لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ" حُجَّةً.
وَرُوِّينَا عَنْهَا، عَنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ, وَمَعْمَرٍ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ: أَنَّ عَائِشَةَ نَذَرَتْ جِوَارًا فِي جُودِ ثَبِيرٍ مِمَّا يَلِي مِنًى. وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: اعْتَكَفَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَ حِرَاءَ, وَثَبِيرٍ, فَكُنَّا نَأْتِيهَا هُنَالِكَ.
فَخَالَفُوا عَائِشَةَ فِي هَذَا أَيْضًا, وَهَذَا عَجَبٌ.
وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَحَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حدثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا اعْتَكَفَ ضَرَبَ فُسْطَاطًا, أَوْ خِبَاءً يَقْضِي فِيهِ حَاجَتَهُ, وَلاَ يُظِلُّهُ سَقْفُ بَيْتٍ.
فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ حُجَّةً فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ, وَلَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي أَنَّهُ كَانَ إذَا اعْتَكَفَ لاَ يُظِلُّهُ سَقْفُ بَيْتٍ.
فَصَحَّ أَنَّ الْقَوْمَ إنَّمَا يُمَوِّهُونَ بِذِكْرِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ إيهَامًا; لأَنَّهُمْ لاَ مُؤْنَةَ عَلَيْهِمْ مِنْ خِلاَفِهِمْ فِيمَا لَمْ يُوَافِقْ مِنْ أَقْوَالِهِمْ رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ وَأَنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ حُجَّةً إلاَّ إذَا وَافَقَتْ رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ فَقَطْ, وَفِي هَذَا مَا فِيهِ. فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ, لِتَعَرِّيهِ مِنْ الْبُرْهَانِ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا, وَمِنْ الْهَوَسِ قَوْلُهُمْ: لَمَّا كَانَ الاِعْتِكَافُ لُبْثًا فِي مَوْضِعٍ: أَشْبَهَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ, وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لاَ يَصِحُّ إلاَّ مُحْرِمًا, فَوَجَبَ أَنْ لاَ يَصِحَّ الاِعْتِكَافُ إلاَّ بِمَعْنًى آخَرَ, وَهُوَ الصَّوْمُ.

فَقِيلَ لَهُمْ: لَمَّا كَانَ اللُّبْثُ بِعَرَفَةَ لاَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّوْمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الاِعْتِكَافُ لاَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّوْمِ.
قال أبو محمد: مِنْ الْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا اعْتِكَافُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ, فَلاَ يَخْلُو صَوْمُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِرَمَضَانَ خَالِصًا. وَكَذَلِكَ هُوَ فَحَصَلَ الاِعْتِكَافُ مُجَرَّدًا، عَنْ صَوْمٍ يَكُونُ مِنْ شَرْطِهِ, وَإِذَا لَمْ يَحْتَجْ الاِعْتِكَافُ إلَى صَوْمٍ يَنْوِي بِهِ الاِعْتِكَافَ فَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ مِنْ شُرُوطِ الاِعْتِكَافِ وَصَحَّ أَنَّهُ جَائِزٌ بِلاَ صَوْمٍ, وَهَذَا بُرْهَانُ مَا قَدَرُوا عَلَى اعْتِرَاضِهِ إلاَّ بِوَسَاوِسَ لاَ تُعْقَلُ. وَلَوْ قَالُوا: إنَّهُ عليه السلام صَامَ لِلاِعْتِكَافِ لاَ لِرَمَضَانَ, أَوْ لِرَمَضَانَ, وَالاِعْتِكَافِ لَمْ يَبْعُدُوا، عَنِ الاِنْسِلاَخِ مِنْ الإِسْلاَمِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الاِعْتِكَافَ هُوَ بِاللَّيْلِ كَهُوَ بِالنَّهَارِ, وَلاَ صَوْمَ بِاللَّيْلِ.فَصَحَّ أَنَّ الاِعْتِكَافَ لاَ يَحْتَاجُ إلَى صَوْمٍ.
فَقَالَ مُهْلِكُوهُمْ هَهُنَا: إنَّمَا كَانَ الاِعْتِكَافُ بِاللَّيْلِ تَبَعًا لِلنَّهَارِ.
فَقُلْنَا: كَذَبْتُمْ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: بَلْ إنَّمَا كَانَ بِالنَّهَارِ تَبَعًا لِلَّيْلِ, وَكِلاَ الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ.
فَقَالُوا: إنَّمَا قلنا: إنَّ الاِعْتِكَافَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ صَوْمٍ.
فَقُلْنَا: كَذَبْتُمْ لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" فَلَمَّا كَانَ الاِعْتِكَافُ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ لاَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَعَهُ صَوْمٌ يَنْوِي بِهِ الاِعْتِكَافَ صَحَّ ضَرُورَةً أَنَّ الاِعْتِكَافَ لَيْسَ مِنْ شُرُوطِهِ, وَلاَ مِنْ صِفَاتِهِ, وَلاَ مِنْ حُكْمِهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ صَوْمٌ, وَقَدْ جَاءَ نَصٌّ صَحِيحٌ بِقَوْلِنَا.
كَأَنْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: حدثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَيَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ كِلاَهُمَا، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ", قَالَتْ: "وَإِنَّهُ أَرَادَ مَرَّةً أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ", قَالَتْ: "فَأَمَرَ بِبِنَائِهِ فَضُرِبَ فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ أَمَرْتُ بِبِنَائِي فَضُرِبَ, وَأَمَرَ غَيْرِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِبِنَائِهِنَّ فَضُرِبَ, فَلَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ نَظَرَ إلَى الأَبْنِيَةِ, فَقَالَ: مَا هَذَا آلْبِرَّ تُرِدْنَ فَأَمَرَ بِبِنَائِهِ فَقُوِّضَ",

وَأَمَرَ أَزْوَاجَهُ بِأَبْنِيَتِهِنَّ فَقَوَّضْنَ ثُمَّ أَخَّرَ الاِعْتِكَافَ إلَى الْعَشْرِ الآُوَلِ, يَعْنِي مِنْ شَوَّالٍ".
قال أبو محمد: فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الآُوَلَ مِنْ شَوَّالٍ وَفِيهَا يَوْمُ الْفِطْرِ, وَلاَ صَوْمَ فِيهِ.
وَمَالِكٌ يَقُولُ: لاَ يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ اعْتِكَافِهِ إلاَّ حَتَّى يَنْهَضَ إلَى الْمُصَلَّى. فَنَسْأَلُهُمْ: أَمُعْتَكِفٌ هُوَ مَا لَمْ يَنْهَضْ إلَى الْمُصَلَّى, أَمْ غَيْرُ مُعْتَكِفٍ فَإِنْ قَالُوا: هُوَ مُعْتَكِفٌ, تَنَاقَضُوا, وَأَجَازُوا الاِعْتِكَافَ بِلاَ صَوْمٍ بُرْهَةً مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ. وَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ مُعْتَكِفًا قلنا: فَلِمَ مَنَعْتُمُوهُ الْخُرُوجَ إذَنْ.

لا يحل للرجل مباشر المرأة و لا للمرأة مباشرة الرجل في حال الاعتكاف بشيء من الجسم
626 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مُبَاشَرَةُ الْمَرْأَةِ, وَلاَ لِلْمَرْأَةِ مُبَاشَرَةُ الرَّجُلِ فِي حَالِ الاِعْتِكَافِ بِشَيْءٍ مِنْ الْجِسْمِ,
إلاَّ فِي تَرْجِيلِ الْمَرْأَةِ لِلْمُعْتَكِفِ خَاصَّةً, فَهُوَ مُبَاحٌ, وَلَهُ إخْرَاجُ رَأْسِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ لِلتَّرْجِيلِ.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}. فَصَحَّ أَنَّ مَنْ تَعَمَّدَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ عُمُومِ الْمُبَاشَرَةِ ذَاكِرًا لاِعْتِكَافِهِ فَلَمْ يَعْتَكِفْ كَمَا أُمِرَ, فَلاَ اعْتِكَافَ لَهُ, فَإِنْ كَانَ نَذْرًا قَضَاهُ, وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَوْله تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ, فَحُرِّمَتْ الْمُبَاشَرَةُ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ, فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ". فَخَرَجَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ مِنْ عُمُومِ نَهْيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

جائز للمعتكف أن يشترط ما شاء من المباح و الخروج له
627 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَشْتَرِطَ مَا شَاءَ مِنْ الْمُبَاحِ وَالْخُرُوجِ لَهُ,
لاَِنَّهُ بِذَلِكَ إنَّمَا الْتَزَمَ الاِعْتِكَافَ فِي خِلاَلِ مَا اسْتَثْنَاهُ, وَهَذَا مُبَاحٌ لَهُ, أَنْ يَعْتَكِفَ إذَا شَاءَ, وَيَتْرُكَ إذَا شَاءَ, لإِنَّ الاِعْتِكَافَ طَاعَةٌ, وَتَرْكُهُ مُبَاحٌ, فَإِنْ أَطَاعَ أُجِرَ, وَإِنْ تَرَكَ لَمْ يَقْضِ.
وَإِنَّ الْعَجَبَ لَيَكْثُرَ مِمَّنْ لاَ يُجِيزُ هَذَا الشَّرْطَ وَالنُّصُوصُ كُلُّهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مُوجِبَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا, ثُمَّ يَقُولُ: بِلُزُومِ الشُّرُوطِ الَّتِي أَبْطَلَهَا الْقُرْآنُ وَالسُّنَنُ, مِنْ اشْتِرَاطِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ إنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا, أَوْ تَسَرَّى فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا, وَالدَّاخِلَةُ بِنِكَاحٍ

و كل فرض على المسلم فإن الاعتكاف لا يمنع منه
628 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ فَرْضٍ عَلَى الْمُسْلِمِ فَإِنَّ الاِعْتِكَافَ لاَ يَمْنَعُ مِنْهُ,
وَعَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ, وَلاَ يَضُرُّ ذَلِكَ بِاعْتِكَافِهِ, وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ لِحَاجَةِ الإِنْسَانِ, مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَغَسْلِ النَّجَاسَةِ, وَغُسْلِ الاِحْتِلاَمِ, وَغُسْلِ الْجُمُعَةِ, وَمِنْ الْحَيْضِ, إنْ شَاءَ فِي حَمَّامٍ أَوْ فِي غَيْرِ حَمَّامٍ. وَلاَ يَتَرَدَّدُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ تَمَامِ غُسْلِهِ, وَقَضَاءِ حَاجَتِهِ, فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ.
وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ لاِبْتِيَاعِ مَا لاَ بُدَّ لَهُ وَلاَِهْلِهِ مِنْهُ, مِنْ الأَكْلِ وَاللِّبَاسِ, وَلاَ يَتَرَدَّدُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ, فَإِنْ تَرَدَّدَ بِلاَ ضَرُورَةٍ: بَطَلَ اعْتِكَافُهُ, وَلَهُ أَنْ يُشَيِّعَ أَهْلَهُ إلَى مَنْزِلِهَا. وَإِنَّمَا يُبْطِلُ الاِعْتِكَافَ: خُرُوجُهُ لِمَا لَيْسَ فَرْضًا عَلَيْهِ.
وَقَدْ افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا مُحَمَّدٌ، حدثنا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ, رَدُّ السَّلاَمِ, وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ, وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ, وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ, وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ".
وَأَمَرَ عليه السلام مَنْ دُعِيَ إنْ كَانَ مُفْطِرًا: فَلْيَأْكُلْ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ, بِمَعْنَى أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا}. وَقَالَ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً}. فَهَذِهِ فَرَائِضُ لاَ يَحِلُّ تَرْكُهَا لِلاِعْتِكَافِ, وَبِلاَ شَكٍّ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَدَّى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَهُوَ مُحْسِنٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}.
فَفَرَضَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ مَرَّةً وَاحِدَةً, يَسْأَلُ، عَنْ حَالِهِ وَاقِفًا وَيَنْصَرِفُ لإِنَّ مَا زَادَ، عَنْ هَذَا فَلَيْسَ مِنْ الْفَرْضِ, وَإِنَّمَا هُوَ تَطْوِيلٌ, فَهُوَ يُبْطِلُ الاِعْتِكَافَ.
وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ لِشُهُودِ الْجِنَازَةِ, فَإِذَا صَلَّى عَلَيْهَا انْصَرَفَ, لاَِنَّهُ قَدْ أَدَّى الْفَرْضَ, وَمَا زَادَ فَلَيْسَ فَرْضًا, وَهُوَ بِهِ خَارِجٌ، عَنِ الاِعْتِكَافِ.

وَفَرْضٌ عَلَيْهِ: أَنْ يَخْرُجَ إذَا دُعِيَ, فَإِنْ كَانَ صَائِمًا بَلَغَ إلَى دَارِ الدَّاعِي وَدَعَا وَانْصَرَفَ, وَلاَ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ.
وَفَرْضٌ عَلَيْهِ: أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْجُمُعَةِ بِمِقْدَارِ مَا يُدْرِكُ أَوَّلَ الْخُطْبَةِ, فَإِذَا سَلَّمَ رَجَعَ, فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ خَرَجَ مِنْ الاِعْتِكَافِ, فَإِنْ خَرَجَ كَمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ رَأَى أَنَّ فِي الْوَقْتِ فُسْحَةً فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَى مُعْتَكَفِهِ ثُمَّ خَرَجَ أَدْرَكَ الْخُطْبَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ, وَإِلاَّ فَلْيَتَمَادَ, وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ حَرَجٌ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ لِلشَّهَادَةِ إذَا دُعِيَ سَوَاءٌ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الشُّهَدَاءَ بِأَنْ لاَ يَأْبَوْا إذَا دُعُوا, وَلَمْ يَشْتَرِطْ مَنْ يَقْبَلُ مِمَّا لاَ يَقْبَلُ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًا} إذَا أَدَّاهَا رَجَعَ إلَى مُعْتَكَفِهِ، وَلاَ يَتَرَدَّدُ, فَإِنْ تَرَدَّدَ: بَطَلَ اعْتِكَافُهُ.
وَهُوَ كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِنَا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: أَنَا أَبُو الأَحْوَصِ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمُرَةَ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إذَا اعْتَكَفَ الرَّجُلُ فَلْيَشْهَدْ الْجُمُعَةَ وَلْيَحْضُرْ الْجِنَازَةَ وَلْيَعُدْ الْمَرِيضَ وَلْيَأْتِ أَهْلَهُ يَأْمُرُهُمْ بِحَاجَتِهِ وَهُوَ قَائِمٌ.
وَبِهِ إلَى سَعِيدٍ: حدثنا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَعَانَ ابْنَ أُخْتِهِ جَعْدَةَ بْنَ هُبَيْرَةَ بِسَبْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ عَطَائِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا خَادِمًا, فَقَالَ: إنِّي كُنْت مُعْتَكِفًا, فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَمَا عَلَيْك لَوْ خَرَجَتْ إلَى السُّوقِ فَابْتَعْت؟
وَبِهِ إلَى سُفْيَانَ: حدثنا هُشَيْمٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا كَانَتْ

لاَ تَعُودُ الْمَرِيضَ مِنْ أَهْلِهَا إذَا كَانَتْ مُعْتَكِفَةً إلاَّ وَهِيَ مَارَّةٌ.
وَبِهِ إلَى سَعِيد: حدثنا هُشَيْمٌ أَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَشْتَرِطَ هَذِهِ الْخِصَالَ وَهُنَّ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ: عِيَادَةَ الْمَرِيضِ, وَلاَ يَدْخَلُ سَقْفًا, وَيَأْتِي الْجُمُعَةَ, وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ, وَيَخْرُجُ إلَى الْحَاجَةِ قَالَ إبْرَاهِيمُ: وَلاَ يَدْخَلُ الْمُعْتَكِفُ سَقِيفَةً إلاَّ لِحَاجَةٍ.
وَبِهِ إلَى هُشَيْمٍ: أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الْمُعْتَكِفُ يَعُودُ الْمَرِيضَ, وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ, وَيُجِيبُ الإِمَامَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ يُرَخِّصُ لِلْمُعْتَكِفِ: أَنْ يَتْبَعَ الْجِنَازَةَ, وَيَعُودَ الْمَرِيضَ، وَلاَ يَجْلِسَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ قَالَ: الْمُعْتَكِفُ يَدْخَلُ الْبَابَ فَيُسَلِّمُ، وَلاَ يَقْعُدُ, يَعُودُ الْمَرِيضَ وَكَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا إذَا خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ لِحَاجَتِهِ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ فَيُسَائِلُهُ.
قال أبو محمد: إنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ, أَوْ سَأَلَهُ، عَنْ سُنَّةٍ مِنْ الدِّينِ, وَإِلاَّ فَلاَ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَعُودَ الْمَرِيضَ, وَيَتْبَعَ الْجِنَازَةَ, وَيَأْتِيَ إلَى الْجُمُعَةِ, وَيُجِيبَ الدَّاعِيَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْت لِعَطَاءٍ: إنْ نَذَرَ جِوَارًا أَيَنْوِي1 فِي نَفْسِهِ أَنْ لاَ يَصُومَ, وَأَنَّهُ يَبِيعُ وَيَبْتَاعُ, وَيَأْتِي الأَسْوَاقَ, وَيَعُودُ الْمَرِيضَ, وَيَتْبَعُ الْجِنَازَةَ وَإِنْ كَانَ مَطَرٌ فَإِنِّي أَسْتَكِنُ فِي الْبَيْتِ. وَإِنِّي أُجَاوِرُ جِوَارًا مُنْقَطِعًا, أَوْ أَنْ يَعْتَكِفَ النَّهَارَ وَيَأْتِيَ الْبَيْتَ بِاللَّيْلِ قَالَ عَطَاءٌ: ذَلِكَ عَلَى نِيَّتِهِ مَا كَانَتْ, ذَلِكَ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ أَيْضًا.
وَرُوِّينَا، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: الْمُعْتَكِفُ يَعُودُ الْمَرْضَى2 وَيَخْرُجُ إلَى الْجُمُعَةِ, وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ.
وَرُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ, وَعَطَاءٍ, وَعُرْوَةَ, وَالزُّهْرِيِّ: لاَ يَعُودُ الْمُعْتَكِفُ مَرِيضًا, وَلاَ يَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَاللَّيْثِ.
قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَخْرُجُ إلَى الْجُمُعَةِ.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "ينوي" بدون الهمزة.
2 في النسخة رقم "16" "للمعتكف أن يعود المريض".

قال أبو محمد: هَذَا مَكَانٌ صَحَّ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ مَا أَوْرَدْنَا, وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ, وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مِثْلَ هَذَا إذَا خَالَفَ تَقْلِيدَهُمْ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ صَفِيَّةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً, فَحَدَّثْتُهُ, ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ, فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ" وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ.
قال أبو محمد: فِي هَذَا كِفَايَةٌ, وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ مَنَعَ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا حُجَّةً, لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٍ.
وَنَسْأَلُهُمْ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا أَبَاحُوا لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَابْتِيَاعِ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ, وَبَيْنَ خُرُوجِهِ لِمَا افْتَرَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ.
وقال أبو حنيفة: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعُودَ الْمَرِيضَ, وَلاَ أَنْ يَشْهَدَ الْجِنَازَةَ, وَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْجُمُعَةِ بِمِقْدَارِ مَا يُصَلِّي سِتَّ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الْخُطْبَةِ, وَلَهُ أَنْ يَبْقَى فِي الْجَامِعِ بَعْدَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي سِتَّ رَكَعَاتٍ, فَإِنْ بَقِيَ أَكْثَرَ, أَوْ خَرَجَ لاَِكْثَرَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ, فَإِنْ خَرَجَ لِجِنَازَةٍ, أَوْ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ: بَطَلَ اعْتِكَافُهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَهُ أَنْ يَخْرُجَ لِكُلِّ ذَلِكَ, فَإِنْ كَانَ مِقْدَارُ لُبْثِهِ فِي خُرُوجِهِ لِذَلِكَ نِصْفَ يَوْمٍ فَأَقَلَّ لَمْ يَضُرَّ اعْتِكَافَهُ ذَلِكَ, فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ: بَطَلَ اعْتِكَافُهُ.
قال أبو محمد: إنَّ فِي هَذِهِ التَّحْدِيدَاتِ لَعَجَبًا وَمَا نَدْرِي كَيْفَ يَسْمَحُ ذُو عَقْلٍ أَنْ يُشَرِّعَ فِي دِينِ اللَّهِ هَذِهِ الشَّرَائِعَ الْفَاسِدَةَ فَيَصِيرُ مُحَرِّمًا مُحَلِّلاً مُوجِبًا دُونَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا هُوَ إلاَّ مَا جَاءَ النَّصُّ بِإِبَاحَتِهِ فَهُوَ مُبَاحٌ, قَلَّ أَمَدُهُ أَوْ كَثُرَ أَوْ مَا جَاءَ النَّصُّ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ حَرَامٌ قَلَّ أَمَدُهُ أَوْ كَثُرَ أَوْ مَا جَاءَ النَّصُّ بِإِيجَابِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ إلاَّ أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ بِتَحْدِيدٍ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, فَسَمْعًا وَطَاعَةً.

و يعمل المعتكف في المسجد كل ما أبيح له
629 - مَسْأَلَةٌ: وَيَعْمَلُ الْمُعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ كُلَّ مَا أُبِيحَ لَهُ
مِنْ مُحَادَثَةٍ فِيمَا لاَ يَحْرُمُ, وَمِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَيِّ عِلْمٍ كَانَ, وَمِنْ خِيَاطَةٍ, وَخِصَامٍ فِي حَقٍّ, وَنَسْخٍ, وَبَيْعٍ وَشِرَاءٍ, وَتَزَوُّجٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لاَ يَتَحَاشَ شَيْئًا, لإِنَّ الاِعْتِكَافَ: هُوَ الإِقَامَةُ كَمَا ذَكَرْنَا, فَهُوَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَتْرُكْ الاِعْتِكَافَ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ, وَمَا نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً فِي ذَلِكَ, لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ لاَ صَحِيحَةٍ، وَلاَ سَقِيمَةٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ قَوْلِ مُتَقَدِّمٍ مِنْ التَّابِعِينَ, وَلاَ قِيَاسٍ, وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ.
وأعجب مِنْ ذَلِكَ مَنْعُهُ طَلَبَ الْعِلْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ عَائِشَةُ، رضي الله عنها، تُرَجِّلُ شَعْرَهُ الْمُقَدَّسَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ, وَكُلُّ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَيْسَ مَعْصِيَةً, لَكِنَّهُ إمَّا طَاعَةً وَأَمَّا سَلاَمَةً.

و لا يبطل الاعتكاف شيء إلا خروجه عن المسجد لغير حاجة عامدا ذاكرا
630 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُبْطِلُ الاِعْتِكَافَ شَيْءٌ إلاَّ خُرُوجُهُ، عَنِ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ عَامِدًا ذَاكِرًا,
لاَِنَّهُ قَدْ فَارَقَ الْعُكُوفَ وَتَرَكَهُ, وَمُبَاشَرَةُ الْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ التَّرْجِيلِ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد}. وَتَعَمُّدُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيِّ مَعْصِيَةٍ كَانَتْ, لإِنَّ الْعُكُوفَ الَّذِي نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ هُوَ الَّذِي لاَ يَكُونُ عَلَى مَعْصِيَةٍ, وَلاَ شَكَّ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْعُكُوفَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَمَنْ عَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَقَدْ تَرَكَ الْعُكُوفَ عَلَى الطَّاعَةِ فَبَطَلَ عُكُوفُهُ.
وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ.
وقال مالك: الْقُبْلَةُ تُبْطِلُ الاِعْتِكَافَ.
وقال أبو حنيفة: لاَ يُبْطِلُ الاِعْتِكَافَ مُبَاشَرَةٌ، وَلاَ قُبْلَةٌ إلاَّ أَنْ يَنْزِلَ, وَهَذَا تَحْدِيدٌ فَاسِدٌ, قِيَاسٌ لِلْبَاطِلِ عَلَى الْبَاطِلِ, وَقَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ.

و من عصى ناسيا أو خرج ناسيا أو مكرها أو باشر أو جامع ناسيا أو مكرها فالاعتكاف تام
631 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ عَصَى نَاسِيًا, أَوْ خَرَجَ نَاسِيًا, أَوْ مُكْرَهًا, أَوْ بَاشَرَ, أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا, أَوْ مُكْرَهًا: فَالاِعْتِكَافُ تَامٌّ
لاَ يَكْدَحُ كُلُّ ذَلِكَ فِيهِ شَيْئًا, لاَِنَّهُ لَمْ يَعْمِدْ إبْطَالَ اعْتِكَافِهِ

و يؤذن في المئذنة إن كان بابها في المسجد أو في صحنه و يصعد على ظهر المسجد
632 - مَسْأَلَةٌ: وَيُؤَذِّنُ فِي الْمِئْذَنَةِ إنْ كَانَ بَابُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي صَحْنِهِ, وَيَصْعَدُ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ,
لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَسْجِدِ, فَإِنْ كَانَ بَابُ الْمِئْذَنَةِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ إنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ.
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وقال أبو حنيفة: لاَ يَبْطُلُ.
وَهَذَا خَطَأٌ; لإِنَّ الْخُرُوجَ، عَنِ الْمَسْجِدِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ مُفَارَقَةٌ لِلْعُكُوفِ وَتَرْكٌ لَهُ, وَالتَّحْدِيدُ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ نَصٍّ بَاطِلٌ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ خُطْوَةٍ وَخُطْوَتَيْنِ إلَى مِائَةِ أَلْفِ خُطْوَةٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

و الاعتكاف جائز في كل مسجد
633 - مَسْأَلَةٌ: وَالاِعْتِكَافُ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ
جُمِعَتْ فِيهِ الْجُمُعَةُ أَوْ لَمْ تُجْمَعْ, سَوَاءٌ كَانَ مُسْقَفًا أَوْ مَكْشُوفًا, فَإِنْ كَانَ لاَ يُصَلَّى فِيهِ جَمَاعَةً، وَلاَ لَهُ إمَامٌ: لَزِمَهُ فَرْضًا الْخُرُوجُ لِكُلِّ صَلاَةٍ إلَى الْمَسْجِدِ تُصَلَّى فِيهِ جَمَاعَةً إلاَّ أَنْ يَبْعُدَ مِنْهُ بُعْدًا يَكُونُ عَلَيْهِ فِيهِ حَرَجٌ فَلاَ يَلْزَمُهُ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي لاَ يَلْزَمُهَا فَرْضُ الْجَمَاعَةِ فَتَعْتَكِفُ فِيهِ، وَلاَ يَجُوزُ الاِعْتِكَافُ فِي رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ إلاَّ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ. وَلاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ, وَلاَ لِلرَّجُلِ: أَنْ يَعْتَكِفَا أَوْ أَحَدُهُمَا فِي مَسْجِدِ دَارِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فَعَمَّ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ.
فإن قيل: قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا".
قلنا: نَعَمْ, بِمَعْنَى أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلاَةُ فِيهِ, وَإِلاَّ فَقَدْ جَاءَ النَّصُّ وَالإِجْمَاعُ بِأَنَّ الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ جَائِزٌ فِيمَا عَدَا الْمَسْجِدَ. فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَا عَدَا الْمَسْجِدِ حُكْمُ الْمَسْجِدِ. فَصَحَّ أَنْ لاَ طَاعَةَ فِي إقَامَةٍ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ. فَصَحَّ أَنْ لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ فِي مَسْجِدٍ, وَهَذَا يُوجِبُ مَا قلنا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

إذا حاضت معنكفة أقامت في المسجد كما هي تذكر الله تعالى
634 - مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا حَاضَتْ الْمُعْتَكِفَةُ أَقَامَتْ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا هِيَ تَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى,
وَكَذَلِكَ إذَا وَلَدَتْ, فَإِنَّهَا إنْ اُضْطُرَّتْ إلَى الْخُرُوجِ خَرَجَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ إذَا قَدَرَتْ.
لِمَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ مِنْ أَنَّ الْحَائِضَ تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ, وَلاَ يَجُوزُ مَنْعُهَا مِنْهُ إذْ لَمْ يَأْتِ بِالْمَنْعِ لَهَا مِنْهُ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ

رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ مُسْتَحَاضَةٌ, فَكَانَتْ تَرَى الْحُمْرَةَ وَالصُّفْرَةَ, فَرُبَّمَا وَضَعَتْ الطَّسْتَ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي".

من مات و عليه نذر اعتكاف قضاه عنه وليه
635 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرُ اعْتِكَافٍ: قَضَاهُ عَنْهُ وَلِيُّهُ,
أَوْ اُسْتُؤْجِرَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مَنْ يَقْضِيهِ عَنْهُ, لاَ بُدَّ مِنْ ذَلِكَ.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى".
وَلِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ لَمْ تَقْضِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْضِهِ عَنْهَا" وَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ نَذْرِ طَاعَةٍ, فَلاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ خِلاَفُهُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ هَلْ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ أَمْ لاَ, قَبْلَ فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسٍ بِقَضَاءِ نَذْرِ الاِعْتِكَافِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: حدثنا أَبُو الأَحْوَصِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ مُصْعَبٍ قَالَ: "اعْتَكَفَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ أَخِيهَا بَعْدَ مَا مَاتَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ اعْتِكَافٌ: اعْتَكَفَ عَنْهُ وَلِيُّهُ.
وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: يَعْتَكِفُ عَنْهُ وَلِيُّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُطْعِمُ قَالَ: وَمَنْ نَذَرَ صَلاَةً فَمَاتَ: صَلاَّهَا عَنْهُ وَلِيُّهُ.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: يَعْتَكِفُ عَنْهُ وَلِيُّهُ وَيُصَلِّي عَنْهُ وَلِيُّهُ إذَا نَذَرَ صَلاَةً أَوْ اعْتِكَافًا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الإِطْعَامُ عَنْهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَعْتَكِفَ عَنْهُ

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَمَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ: يُطْعَمُ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ.
وَقَالَ أبو محمد: هَذَا قَوْلٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ, وَمَا لِلإِطْعَامِ مَدْخَلٌ فِي الاِعْتِكَافِ.
وَهُمْ يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ, وَقَدْ خَالَفُوا هَهُنَا عَائِشَةَ, وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم.
وَقَوْلُهُمْ فِي هَذَا قَوْلٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلاَ سَقِيمَةٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٌ, بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِكُلِّ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ وَهُوَ مَرِيضٌ فَلَمْ يَصِحَّ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. فَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ وَهُوَ صَحِيحٌ فَلَمْ يَعِشْ إثْرَ نَذْرِهِ إلاَّ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَمَاتَ فَإِنَّهُ يُطْعَمُ عَنْهُ ثَلاَثُونَ مِسْكِينًا, وَقَدْ لَزِمَهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ. قَالَ: فَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا لَزِمَهُ يَوْمٌ بِلاَ لَيْلَةٍ. فَإِنْ قَالَ عَلِيٌّ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ لَزِمَهُ يَوْمَانِ وَمَعَهُمَا لَيْلَتَانِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَتَيْنِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ يَوْمَانِ وَلَيْلَةٌ وَاحِدَةٌ, كَمَا لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ، وَلاَ فَرْقَ.
فَهَلْ فِي التَّخْلِيطِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.

من نذر اعتكاف يوم أو أيام مسماة أو أراد ذلك تطوعا فإنه يدخل في اعتكافه قبل أن يتبين له طلوع الفجر
636 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ مُسَمَّاةٍ, أَوْ أَرَادَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا: فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي اعْتِكَافِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ,
وَيَخْرُجُ إذَا غَابَ جَمِيعُ قُرْصِ الشَّمْسِ, سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ.
وَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ أَوْ لَيَالٍ مُسَمَّاةٍ أَوْ أَرَادَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا: فَإِنَّهُ يَدْخُلُ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ غُرُوبُ جَمِيعِ قُرْصِ الشَّمْسِ, وَيَخْرُجُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ.
لإِنَّ مَبْدَأَ اللَّيْلِ إثْرَ غُرُوبِ الشَّمْسِ, وَتَمَامُهُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ, وَمَبْدَأُ الْيَوْمِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ, وَتَمَامُهُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ كُلِّهَا, وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ إلاَّ مَا الْتَزَمَ أَوْ مَا نَوَى.
فَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ أَوْ أَرَادَهُ تَطَوُّعًا: فَمَبْدَأُ الشَّهْرِ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْهُ فَيَدْخُلُ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ غُرُوبُ جَمِيعِ قُرْصِ الشَّمْسِ, وَيَخْرُجُ إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ كُلُّهَا مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ, سَوَاءٌ رَمَضَانُ وَغَيْرُهُ.
لإِنَّ اللَّيْلَةَ الْمُسْتَأْنَفَةَ لَيْسَتْ مِنْ ذَلِكَ الشَّهْرِ الَّذِي نَذَرَ اعْتِكَافَهُ أَوْ نَوَى اعْتِكَافَهُ.

فَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ: دَخَلَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ التَّاسِعِ عَشْرَ.
لإِنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً, فَلاَ يَصِحُّ لَهُ اعْتِكَافُ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ إلاَّ كَمَا قلنا, وَإِلاَّ فَإِنَّمَا اعْتَكَفَ تِسْعَ لَيَالٍ فَقَطْ, فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ ثَلاَثِينَ عَلِمَ أَنَّهُ اعْتَكَفَ لَيْلَةً زَائِدَةً, وَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ اعْتِكَافَ اللَّيْلَةِ الآخِرَةِ لِيَفِيَ بِنَذْرِهِ, إلاَّ مَنْ عَلِمَ بِانْتِقَالِ الْقَمَرِ, فَيَدْخُلُ بِقَدْرِ مَا يَدْرِي أَنَّهُ يَفِي بِنَذْرِهِ.
وَاَلَّذِي قلنا مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ هَارُونَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، حدثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ لَهُ: "اعْتَكَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ, فَخَرَجْنَا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ".
وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ هُوَ الزُّبَيْدِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ, والدَّراوَرْدِيُّ, كِلاَهُمَا، عَنْ يَزِيدَ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ فِي رَمَضَانَ الْعَشْرَ الَّتِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ, فَإِذَا كَانَ حِينَ يُمْسِي مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَيَسْتَقْبِلُ إحْدَى وَعِشْرِينَ رَجَعَ إلَى مَسْكَنِهِ, وَرَجَعَ مَنْ كَانَ يُجَاوِرُ مَعَهُ".
وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا, إلاَّ أَنَّ فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يَبْقَى يَوْمَهُ إلَى أَنْ يُمْسِيَ وَهَذَا يُخَرَّجُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنَّهُ تَنَفُّلٌ مِنْهُ عليه السلام. وَأَمَّا أَنَّهُ عليه السلام نَوَى أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ اللَّيَالِيَ بِعَشْرَةِ أَيَّامِهَا.
وَهَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ, فَوَقَعَ فِي لَفْظِهِ تَخْلِيطٌ وَإِشْكَالٌ لَمْ يَقَعَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ إلاَّ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُمَا فِي الْمَعْنَى.
وَهُوَ أَنَّنَا رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ نَفْسَهُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:

"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ, فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إذَا كَانَ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ قَالَ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ, فَقَدْ رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا, وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا, فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ, وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ, فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ, وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ, فَبَصُرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ إحْدَى وَعِشْرِينَ".
قال أبو محمد: مِنْ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ عليه السلام يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ بَعْدَ انْقِضَاءِ لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ, وَيُنْذِرُ بِسُجُودِهِ فِي مَاءٍ وَطِينٍ فِيمَا يَسْتَأْنِفُ, وَيَكُونَ ذَلِكَ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ الَّتِي مَضَتْ.فَصَحَّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الرَّاوِي, "حَتَّى إذَا كَانَ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ" أَرَادَ اسْتِقْبَالَ لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ, وَبِهَذَا تَتَّفِقُ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ مَعَ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ, كِلاَهُمَا، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ, وَرِوَايَةُ الدَّرَاوَرْدِيِّ, وَابْنِ أَبِي حَازِمٍ, وَمَالِكٍ, كُلُّهُمْ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمِ التَّيْمِيِّ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا أَبُو النُّعْمَانِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حدثنا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ, فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُه"ُ.
قال أبو محمد: هَذَا تَطَوُّعٌ مِنْهُ عليه السلام, وَلَيْسَ أَمْرًا مِنْهُ وَمَنْ زَادَ فِي الْبِرِّ زَادَ خَيْرًا. وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُعْتَكِفِ وَالْمُعْتَكِفَةِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ أَحَدٍ خِبَاءٌ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ, ائْتِسَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
تم كتاب الاعتكاف وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين والحمد لله رب العالمين

كتاب الزكاة
على من و فيما تجب الزكاة
الزكاة فرض كالصلاة هذا إجماع متيقن
كِتَابُ الزَّكَاةِ
637 - مَسْأَلَةٌ: الزَّكَاةُ فَرْضٌ كَالصَّلاَةِ, هَذَا إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}. فَلَمْ يُبِحْ اللَّهُ تَعَالَى سَبِيلَ أَحَدٍ حَتَّى يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ تَعَالَى, وَيَتُوبَ، عَنِ الْكُفْرِ, وَيُقِيمَ الصَّلاَةَ, وَيُؤْتِيَ الزَّكَاةَ..
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمِسْمَعِيُّ، حدثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ, وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ, وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ, فَإِذَا فَعَلُوهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ".
قال أبو محمد: وَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِقْدَارَ الزَّكَاةِ, وَمِنْ أَيِّ الأَمْوَالِ تُؤْخَذُ, وَفِي أَيِّ وَقْتٍ تُؤْخَذُ, وَمَنْ يَأْخُذُهَا, وَأَيْنَ تُوضَعُ؟

الزكاة فرض على الرجال و النساء الأحرار و منهم و الحرائر و العبيد و الإماء و الكبار و الصغار و العقلاء و المجانين من المسلمين
638 - مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ فَرْضٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الأَحْرَارِ مِنْهُمْ وَالْحَرَائِرُ وَالْعَبِيدُ, وَالإِمَاءُ, وَالْكِبَارُ وَالصِّغَارِ, وَالْعُقَلاَءُ, وَالْمَجَانِينُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ,
وَلاَ تُؤْخَذُ مِنْ كَافِرٍ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}. فَهَذَا خِطَابٌ مِنْهُ تَعَالَى لِكُلِّ بَالِغٍ عَاقِلٍ, مِنْ حُرٍّ, أَوْ عَبْدٍ, ذَكَرٍ، أَوْ أُنْثَى: لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا.
وَقَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}. فَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ, وَعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ, وَحُرٍّ وَعَبْدٍ، لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى طُهْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ وَتَزْكِيَتِهِ إيَّاهُمْ, وَكُلُّهُمْ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَمْدَانِيُّ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ،

حدثنا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِي، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: "اُدْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ, فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ, فَأَعْلِمْهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ, تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ, وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ".
فَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ غَنِيٍّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ, وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْمَجْنُونُ وَالْعَبْدُ وَالأَمَةُ إذَا كَانُوا أَغْنِيَاءَ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا.
فأما أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ فَقَالاَ: زَكَاةُ مَالِ الْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ: لإِنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ, وَلاَ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ.
قال أبو محمد: أَمَّا هَذَانِ فَقَدْ وَافَقَا أَهْلَ الْحَقِّ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الْعَبْدِ, وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي: هَلْ يَمْلِكُ الْعَبْدُ مَالَهُ أَمْ لاَ وَلَيْسَ هَذَا مَكَانَ الْكَلاَمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ; وَحَسْبُنَا أَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ مَعَنَا فِي أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي مَالِ الْعَبْدِ.
وقال مالك: لاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْعَبْدِ, لاَ عَلَيْهِ، وَلاَ عَلَى سَيِّدِهِ.
وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ جِدًّا, لِخِلاَفِهِ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ, وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً, إلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: الْعَبْدُ لَيْسَ بِتَامِّ الْمِلْكِ. فَقُلْنَا: أَمَّا تَامُّ الْمِلْكِ فَكَلاَمٌ لاَ يُعْقَلُ.
لَكِنَّ مَالَ الْعَبْدِ لاَ يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَوْجُهٍ ثَلاَثَةٍ لاَ رَابِعَ لَهَا.
إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ, وَهَذَا قَوْلُنَا, وَإِذَا كَانَ لَهُ فَهُوَ مَالِكُهُ, وَهُوَ مُسْلِمٌ, فَالزَّكَاةُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ فَرْقَ.
وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ لِسَيِّدِهِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ, فَيُزَكِّيهِ سَيِّدُهُ; لاَِنَّهُ مُسْلِمٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُمَا مَعًا.
وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ لاَ لِلْعَبْدِ، وَلاَ لِلسَّيِّدِ; فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ. فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى السَّيِّدِ

وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُ الإِمَامُ, فَيَضَعُهُ حَيْثُ يَضَعُ كُلَّ مَالٍ لاَ يُعْرَفُ لَهُ رَبٌّ. وَهَذَا لاَ يَقُولُونَ بِهِ, لاَ سِيَّمَا مَعَ تَنَاقُضِهِمْ فِي إبَاحَتِهِمْ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَسَرَّى بِإِذْنِ سَيِّدِهِ; فَلَوْلاَ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ مَالِكٌ لِمَالِهِ لَمَا حَلَّ لَهُ وَطْءُ فَرْجٍ لاَ يَمْلِكُهُ أَصْلاً, وَلَكَانَ زَانِيًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مَالِكًا مِلْكَ يَمِينِهِ لَكَانَ عَادِيًا إذَا تَسَرَّى. وَهُمْ يَرَوْنَ الزَّكَاةَ عَلَى: السَّفِيهِ, وَالْمَجْنُونِ, وَلاَ يَنْفُذُ أَمْرُهُمَا فِي أَمْوَالِهِمَا; فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَالِ الْعَبْدِ.
وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ.
فَقُلْنَا: هَذَا الْبَاطِلُ, وَمَا رُوِيَ إسْقَاطُ الزَّكَاةِ، عَنْ مَالِ الْمُكَاتَبِ إلاَّ عَنْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ مِنْ بَيْنِ صَاحِبٍ وَتَابِعٍ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، رضي الله عنهم، أَنَّ الْمُكَاتَبَ: عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. وَصَحَّ إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الْعَبْدِ، عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ; فَالزَّكَاةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَاجِبَةٌ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ.
وَهَذَا مَكَانٌ تَنَاقَضَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ, فَقَالاَ: لاَ زَكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ.
وَاحْتَجَّا بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ مِلْكٌ بَعْدُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ; لاَِنَّهُمَا مُجْمِعَانِ مَعَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْمُكَاتَبِ فَلْسًا بِغَيْرِ إذْنِهِ, أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَاجِبٍ; ، وَأَنَّ مَالَهُ بِيَدِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ, مِنْ نَفَقَةٍ عَلَى نَفْسِهِ, وَكِسْوَةٍ, وَبَيْعٍ وَابْتِيَاعٍ, تَصَرُّفَ ذِي الْمِلْكِ فِي مِلْكِهِ; فَلَوْلاَ أَنَّهُ مَالُهُ وَمِلْكُهُ مَا حَلَّ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فِيهِ.
وَهُمْ كَثِيرًا يُعَارِضُونَ السُّنَنَ بِأَنَّهَا خِلاَفُ الآُصُولِ, كَقَوْلِهِمْ فِي حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ وَحَدِيثِ الْعِتْقِ فِي السِّتَّةِ الأَعْبُدِ بِالْقُرْعَةِ وَحَدِيثِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ, فَلَيْتَ شِعْرِي. فِي أَيِّ الآُصُول وَجَدُوا مَالاً مَحْكُومًا بِهِ لاِِنْسَانٍ مَمْنُوعًا مِنْهُ كُلُّ أَحَدٍ سِوَاهُ مُطْلَقَةً عَلَيْهِ يَدُهُ فِي بَيْعٍ وَابْتِيَاعٍ وَنَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَسُكْنَى; وَهُوَ لَيْسَ لَهُ. أَمْ فِي أَيِّ سَنَةٍ وَجَدُوا هَذَا. أَمْ فِي أَيِّ الْقُرْآنِ. أَمْ فِي غَيْرِ قِيَاسٍ.
وَمِمَّنْ رَأَى الزَّكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ: أَبُو ثَوْرٍ, وَغَيْرُهُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ; وَالشَّافِعِيَّ: مُجْمِعَانِ عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ, عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ; فَمِنْ أَيْنَ أَسْقَطَا الزَّكَاةَ، عَنْ مَالِهِ دُونَ مَالِ غَيْرِهِ مِنْ الْعَبِيدِ.
وَأَيْضًا فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَالِ الْمُكَاتَبِ, وَمَالِ الْعَبْدِ.

وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَعْتِقَ الْمُكَاتَبُ, فَمَالُهُ لَهُ وَزَكَاتُهُ عَلَيْهِ, وَأَمَّا أَنْ يَرِقَّ, فَمَالُهُ قَبْلُ وَبَعْدُ كَانَ عِنْدَهُمَا لِسَيِّدِهِ; فَزَكَاتُهُ عَلَى السَّيِّدِ.
وَشَغَبَ بَعْضُهُمْ بِرِوَايَاتٍ رُوِيَتْ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَابْنِهِ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رضي الله عنهم، لاَ زَكَاةَ فِي مَالِ الْعَبْدِ, وَالْمُكَاتَبُ.
قال أبو محمد: أَمَّا الْحَنَفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ فَقَدْ خَالَفُوا هَذِهِ الرِّوَايَاتِ, فَرَأَوْا الزَّكَاةَ فِي مَالِ الْعَبْدِ وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا بَعْضُهُ حُجَّةٌ وَبَعْضُهُ خَطَأٌ; فَهَذَا هُوَ التَّحَكُّمُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَاطِلِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَيُقَالُ لَهُمْ: قَدْ خَالَفَ مَنْ ذَكَرْنَا مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ هُوَ التُّسْتَرِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ حَدَّثَنِي جَابِرٌ الْحَذَّاءُ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ قُلْت عَلَى الْمَمْلُوكِ زَكَاةٌ. قَالَ: أَلَيْسَ مُسْلِمًا. قُلْت: بَلَى; قَالَ: فَإِنَّ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مِائَتَيْنِ خَمْسَةً فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ.
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُطَرِّفُ بْنُ قَيْسٍ، حدثنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حدثنا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ.
فَالزَّكَاةُ فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى الْمُكَاتَبِ.
وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَنَّهُ قَالَ: لاُِقَاتِلَنِّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ, فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ.
قال أبو محمد: وَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الصَّلاَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ. وَالنَّصُّ قَدْ جَاءَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ عَلَى مَا أَوْجَبَهُمَا النَّصُّ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ:، أَنَّهُ قَالَ: فِي مَالِ الْعَبْدِ, قَالَ: يُزَكِّيهِ الْعَبْدُ.

وَبِهِ إلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسٍ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ:، أَنَّهُ قَالَ فِي زَكَاةِ مَالِ الْعَبْدِ, قَالَ: يُزَكِّيهِ الْمَمْلُوكُ.
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ حُجَيْرٍ: أَنَّ طَاوُوسًا كَانَ يَقُولُ: فِي مَالِ الْعَبْدِ زَكَاةٌ.
حدثنا حمام، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ الْمُرَادِيُّ، حدثنا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ زَمْعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: فِي مَالِ الْعَبْدِ زَكَاةٌ.
وَبِهِ إلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا غُنْدَرٌ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الْعَبْدِ هَلْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ قَالَ: هَلْ عَلَيْهِ صَلاَةٌ.
وَقَدْ رُوِّينَا نَحْوَ هَذَا، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ; وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِنَا.
قال أبو محمد: وَكَمْ قِصَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, كَقَوْلِهِمَا جَمِيعًا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ. وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا مَالُ الصَّغِيرِ, وَالْمَجْنُونِ; فَإِنَّ مَالِكًا, وَالشَّافِعِيَّ قَالاَ بِقَوْلِنَا وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ, وَجَابِرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِ.
وقال أبو حنيفة: لاَ زَكَاةَ فِي أَمْوَالِهِمَا مِنْ النَّاضِّ وَالْمَاشِيَةِ خَاصَّةً, وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي ثِمَارِهِمَا وَزُرُوعِهِمَا.
وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا تَقَدَّمَهُ إلَى هَذَا التَّقْسِيمِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ, وَابْنُ شُبْرُمَةَ: لاَ زَكَاةَ فِي ذَهَبِهِ وَفِضَّتِهِ خَاصَّةً، وَأَمَّا الثِّمَارُ وَالزُّرُوعُ وَالْمَوَاشِي فَفِيهَا الزَّكَاةُ.
وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ, وَشُرَيْحٌ, فَقَالاَ: لاَ زَكَاةَ فِي مَالِهِ جُمْلَةً.
قال أبو محمد: وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَسَقَطُ كَلاَمٍ وَأَغَثُّهُ لَيْتَ شِعْرِي مَا الْفَرْقُ بَيْنَ زَكَاةِ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ وَبَيْنَ زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَوْ أَنَّ عَاكِسًا عَكَسَ قَوْلَهُمْ, فَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي ذَهَبِهِمَا وَفِضَّتِهِمَا وَمَاشِيَتِهِمَا وَأَسْقَطَهَا، عَنْ زَرْعِهِمَا وَثَمَرَتِهِمَا, أَكَانَ يَكُونُ بَيْنَ

التَّحَكُّمَيْنِ فَرْقٌ فِي الْفَسَادِ.
قال أبو محمد: إنْ مَوَّهَ مُمَوِّهٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لاَ صَلاَةَ عَلَيْهِمَا.
قِيلَ لَهُ: قَدْ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَمَّنْ لاَ مَالَ لَهُ، وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلاَةُ وَإِنَّمَا تَجِبُ الصَّلاَةُ وَالزَّكَاةُ عَلَى الْعَاقِلِ الْبَالِغِ ذِي الْمَالِ الَّذِي فِيهِ الزَّكَاةُ; فَإِنْ سَقَطَ الْمَالُ: سَقَطَتْ الزَّكَاةُ, وَلَمْ تَسْقُطْ الصَّلاَةُ; وَإِنْ سَقَطَ الْعَقْلُ أَوْ الْبُلُوغُ: سَقَطَتْ الصَّلاَةُ وَلَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ; لاَِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ فَرْضٌ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم إلاَّ حَيْثُ أَسْقَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم. وَلاَ يَسْقُطُ فَرْضٌ مِنْ أَجْلِ سُقُوطِ فَرْضٍ آخَرَ بِالرَّأْيِ الْفَاسِدِ, بِلاَ نَصِّ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ.
وَأَيْضًا: فَإِنْ أَسْقَطُوا الزَّكَاةَ، عَنْ مَالِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ; لِسُقُوطِ الصَّلاَةِ عَنْهُمَا, وَلاَِنَّهُمَا لاَ يَحْتَاجَانِ إلَى طَهَارَةٍ فَلِيُسْقِطَاهَا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ نَفْسِهَا مِنْ زَرْعِهِمَا وَثِمَارِهِمَا، وَلاَ فَرْقَ; وَلِيُسْقِطَا أَيْضًا عَنْهُمَا زَكَاةَ الْفِطْرِ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ.
فَإِنْ قَالُوا: النَّصُّ جَاءَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى الصَّغِيرِ.
قلنا: وَالنَّصُّ جَاءَ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ, فَأَسْقَطْتُمُوهَا، عَنْ رَقِيقِ التِّجَارَةِ بِآرَائِكُمْ, وَهَذَا مِمَّا تَرَكُوا فِيهِ الْقِيَاسَ, إذْ لَمْ يَقِيسُوا زَكَاةَ الْمَاشِيَةِ وَالنَّاضِّ عَلَى زَكَاةِ الزَّرْعِ, وَالْفِطْرِ أَوْ فَلْيُوجِبُوهَا عَلَى الْمُكَاتَبِ; لِوُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ, وَلاَ فَرْقَ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: زَكَاةُ الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ حَقٌّ وَاجِبٌ فِي الأَرْضِ, يَجِبُ بِأَوَّلِ خُرُوجِهِمَا.
قال أبو محمد: وَقَدْ كَذَبَ هَذَا الْقَائِلُ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ وُجُوبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمَوَاشِي مِنْ حِينِ اكْتِسَابِهَا إلَى تَمَامِ الْحَوْلِ وَبَيْنَ وُجُوبِهِ فِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ مِنْ حِينِ ظُهُورِهَا إلَى حُلُولِ وَقْتِ الزَّكَاةِ فِيهَا, وَالزَّكَاةُ سَاقِطَةٌ بِخُرُوجِ كُلِّ ذَلِكَ، عَنْ يَدِ مَالِكِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ, وَقَبْلَ حُلُولِ وَقْتِ الزَّكَاةِ فِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ. وَإِنَّمَا

الْحَقُّ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ لاَ عَلَى الأَرْضِ, وَلاَ شَرِيعَةَ عَلَى أَرْضٍ أَصْلاً, إنَّمَا هِيَ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}. فَظَهَرَ كَذِبُ هَذَا الْقَائِلِ وَفَسَادُ قَوْلِهِ.
وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَتْ الزَّكَاةُ عَلَى الأَرْضِ لاَ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ لَوَجَبَ أَخْذُهَا فِي مَالِ الْكَافِرِ مِنْ زَرْعِهِ وَثِمَارِهِ, فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلاَ خِلاَفَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى النِّسَاءِ كَهِيَ عَلَى الرِّجَالِ.
وَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ أَرَضُونَ كَثِيرَةٌ لاَ حَقَّ فِيهَا مِنْ زَكَاةٍ، وَلاَ مِنْ خَرَاجٍ كَأَرْضِ مُسْلِمٍ جَعَلَهَا قَصَبًا وَهِيَ تُغِلُّ الْمَالَ الْكَثِيرَ, أَوْ تَرَكَهَا لَمْ يَجْعَلْ فِيهَا شَيْئًا, وَكَأَرْضِ ذِمِّيٍّ صَالَحَ عَلَى جِزْيَةٍ رَأْسِهِ فَقَطْ.
وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ, وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ, وَأَشْهَبُ, وَالشَّافِعِيُّ: إنَّ الْخَرَاجِيَّ الْكَافِرَ إذَا ابْتَاعَ أَرْضَ عُشْرٍ مِنْ مُسْلِمٍ فَلاَ خَرَاجَ فِيهَا، وَلاَ عُشْرَ.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ بِالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالْبَحْرَيْنِ كَانَتْ لَهُمَا أَرَضُونَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ عليه السلام فِيهَا عُشْرًا، وَلاَ خَرَاجًا.
فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثَةٍ" فَذَكَرَ الصَّبِيَّ حَتَّى يَبْلُغَ, وَالْمَجْنُونَ حَتَّى يُفِيقَ
قلنا: فَأَسْقَطُوا عَنْهُمَا بِهَذِهِ الْحُجَّةِ زَكَاةَ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ, وَأُرُوشَ الْجِنَايَاتِ, الَّتِي هِيَ سَاقِطَةٌ بِهَا بِلاَ شَكٍّ, وَلَيْسَ فِي سُقُوطِ الْقَلَمِ سُقُوطُ حُقُوقِ الأَمْوَالِ, وَإِنَّمَا فِيهِ سُقُوطُ الْمَلاَمَةِ, وَسُقُوطُ فَرَائِضِ الأَبْدَانِ فَقَطْ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ قَالُوا لاَ نِيَّةَ لِمَجْنُونٍ, وَلاَ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ, وَالْفَرَائِضُ لاَ تُجْزِئُ إلاَّ بِنِيَّةٍ.
قلنا: نَعَمْ, وَإِنَّمَا أُمِرَ بِأَخْذِهَا الإِمَامُ وَالْمُسْلِمُونَ, بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} فَإِذَا أَخَذَهَا مَنْ أُمِرَ بِأَخْذِهَا بِنِيَّةِ أَنَّهَا الصَّدَقَةُ أَجْزَأَتْ، عَنِ الْغَائِبِ, وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ, وَمَنْ لاَ نِيَّةَ لَهُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْمَحْفُوظَ، عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حدثنا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ

الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ, وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدِ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ سَمِعُوا الْقَاسِمَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ يَقُولُ: كَانَتْ عَائِشَةُ تُزَكِّي أَمْوَالَنَا وَنَحْنُ أَيْتَامٌ فِي حِجْرِهَا; زَادَ يَحْيَى: وَإِنَّهُ لِيَتَّجِرَ بِهَا فِي الْبَحْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حدثنا وَكِيعٌ، حدثنا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ هُوَ الْحُدَّانِيُّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ قَالَ قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إنَّ عِنْدِي مَالَ يَتِيمٍ قَدْ كَادَتْ الصَّدَقَةُ أَنْ تَأْتِيَ عَلَيْهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَمُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَلِي مَالَ الْيَتِيمِ, قَالَ: يُعْطِي زَكَاتَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: بَاعَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَرْضًا لَنَا بِثَمَانِينَ أَلْفًا, وَكُنَّا يَتَامَى فِي حِجْرِهِ; فَلَمَّا قَبَضْنَا أَمْوَالَنَا نَقَصَتْ. فَقَالَ: إنِّي كُنْت أُزَكِّيهِ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: احْصِ مَا فِي مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ زَكَاةٍ, فَإِذَا بَلَغَ, فَإِنْ آنَسْت مِنْهُ رُشْدًا فَأَخْبِرْهُ, فَإِنْ شَاءَ زَكَّى وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ.
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ, وَالزُّهْرِيِّ, وَغَيْرِهِمْ, وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ ذَكَرْنَا مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ إلاَّ رِوَايَةً ضَعِيفَةً، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ; فِيهَا ابْنُ لَهِيعَةَ.
وَقَدْ حدثنا حمام، عَنِ ابْنِ مُفَرِّجٍ، عَنِ ابْنِ الأَعْرَابِيِّ، عَنِ الدَّبَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ابْتَغُوا فِي مَالِ الْيَتِيمِ لاَ تَأْكُلْهُ الزَّكَاةُ".
وَالْحَنَفِيُّونَ يَقُولُونَ: الْمُرْسَلُ كَالْمُسْنَدِ, وَقَدْ خَالَفُوا هَاهُنَا الْمُرْسَلَ وَجُمْهُورَ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.

لا يجوز أخذ الزكاة من كافر
639- مَسْأَلَةٌ– ولا يجوز الزكاة من كافر.
قال أبو محمد: هي واجبة عليه وهو معذب علي منعها, إلا أنها لا تجزيء عنه إلا أن

يسلم وكذلك العلاة ولافرق, فاذا اسلم فقد تفضل عز وجل باسقاط ما سلف عنه من كل ذلك قال الله تعالي: {عَنْ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} قال عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} وقال تعالي: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}.
قال ابو محمد: ولا خلاف في كل هذا, الا في وجوب الشرائع علي الكفار, فان طائفة عندت عن القان والسنن, وخالفوا في ذلك.

لا تجب الزكاة إلا في ثمانية أصناف من الأموال فقط
640 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ إلاَّ فِي ثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ مِنْ الأَمْوَالِ فَقَطْ وَهِيَ:
الذَّهَبُ, وَالْفِضَّةُ, وَالْقَمْحُ, وَالشَّعِيرُ, وَالتَّمْرُ, وَالإِبِلُ, وَالْبَقَرُ, وَالْغَنَمُ ضَأْنُهَا وَمَاعِزُهَا فَقَطْ.
قال أبو محمد: لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي هَذِهِ الأَنْوَاعِ, وَفِيهَا جَاءَتْ السُّنَّةُ, عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى; وَاخْتَلَفُوا فِي أَشْيَاءَ مِمَّا عَدَاهَا.

لا زكاة في شيء من الثمار و لا من الزرع و لا شيء من المعادن غير ما ذكرنا
641 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الثِّمَارِ, وَلاَ مِنْ الزَّرْعِ, وَلاَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَعَادِنِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا،
وَلاَ فِي الْخَيْلِ, وَلاَ فِي الرَّقِيقِ, وَلاَ فِي الْعَسَلِ, وَلاَ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ, لاَ عَلَى مُدِيرٍ، وَلاَ غَيْرِهِ.
قال أبو محمد: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرْنَا; فَأَوْجَبَ بَعْضُهُمْ الزَّكَاةَ فِيهَا, وَلَمْ يُوجِبْهَا بَعْضُهُمْ وَاتَّفَقُوا فِي أَصْنَافٍ سِوَى هَذِهِ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيهَا.
فَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيهِ كُلُّ مَا اُكْتُسِبَ لِلْقُنْيَةِ لاَ لِلتِّجَارَةِ, مِنْ جَوْهَرٍ, وَيَاقُوتٍ, وَوِطَاءٍ, وَغِطَاءٍ, وَثِيَابٍ, وَآنِيَةِ نُحَاسٍ; أَوْ حَدِيدٍ, أَوْ رَصَاصٍ, أَوْ قَزْدِيرٍ, وَسِلاَحٍ, وَخَشَبٍ, وَدُرُوعٍ وَضِيَاعٍ, وَبِغَالٍ, وَصُوفٍ, وَحَرِيرٍ; وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلِّهِ لاَ تَحَاشَ شَيْئًا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كُلُّ مَا عُمِلَ مِنْهُ خُبْزٌ أَوْ عَصِيدَةٌ: فَفِيهِ الزَّكَاةُ; وَمَا لَمْ يُؤْكَلْ إلاَّ تَفَكُّهًا فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

لا زكاة في تمر و لا بر و لا شعير حتى يبلغ ما يصيبه المرء الواحد من الصنف الواحد منها خمسة أوسق
642 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ زَكَاةَ فِي تَمْرٍ, وَلاَ بُرٍّ, وَلاَ شَعِيرٍ: حَتَّى يَبْلُغَ مَا يُصِيبُهُ الْمَرْءُ الْوَاحِدُ مِنْ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنْهَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ; وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا; وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَالْمُدُّ مِنْ رَطْلٍ وَنِصْفٍ إلَى رَطْلٍ وَرُبْعٍ عَلَى قَدْرِ رَزَانَةِ الْمُدِّ وَخِفَّتِهِ, وَسَوَاءٌ زَرَعَهُ فِي أَرْضٍ لَهُ أَوْ فِي أَرْضٍ لِغَيْرِهِ بِغَصْبِ أَوْ بِمُعَامَلَةٍ جَائِزَةٍ, أَوْ غَيْرِ جَائِزَةٍ, إذَا كَانَ النَّذْرُ غَيْرَ مَغْصُوبٍ, سَوَاءٌ أَرْضَ خَرَاجٍ كَانَتْ أَوْ أَرْضَ عُشْرٍ.
وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ, وَبِهِ يَقُولُ: مَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَحْمَدُ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ.
وقال أبو حنيفة: يُزَكَّى مَا قَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا كَثُرَ, فَإِنْ كَانَ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ فَلاَ زَكَاةَ

فِيمَا أُصِيبَ فِيهَا, فَإِنْ كَانَتْ الأَرْضُ مُسْتَأْجَرَةً فَالزَّكَاةُ عَلَى رَبِّ الأَرْضِ لاَ عَلَى الزَّارِعِ, فَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ, فَإِنْ قُضِيَ لِصَاحِبِ الأَرْضِ بِمَا نَقَصَهَا الزَّرْعَ فَالزَّكَاةُ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ, وَإِنْ لَمْ يُقْضَ لَهُ بِشَيْءٍ فَالزَّكَاةُ عَلَى الزَّارِعِ قَالَ: وَالْمُدُّ رَطْلاَنِ.
فَهَذِهِ خَمْسَةُ مَوَاضِعَ خَالَفَ فِيهَا الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ حَبٍّ أَوْ ثَمَرٍ صَدَقَةٌ".
وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ".
وَأَخْطَأَ فِي هَذَا, لاَِنَّهُ اسْتَعْمَلَ هَذَا الْخَبَرَ وَعَصَى الآخَرَ وَهَذَا لاَ يَحِلُّ.
وَنَحْنُ أَطَعْنَا مَا فِي الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا, وَهُوَ قَدْ خَالَفَ هَذَا الْخَبَرَ أَيْضًا, إذْ خَصَّ مِمَّا سَقَتْ السَّمَاءُ كَثِيرًا بِرَأْيِهِ, كَالْقَصَبِ, وَالْحَطَبِ, وَالْحَشِيشِ, وَوَرَقِ الشَّجَرِ وَمَا أُصِيبَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ, وَلَمْ يَرَ أَنْ يَخُصَّهُ بِكَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ كَلِفَ مِنْ ذَلِكَ مَا لاَ يُطَاقُ كَمَا قَدَّمْنَا وَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ مَا أُصِيبَ فِي عَرَصَاتِ الدُّورِ, وَهَذِهِ تَخَالِيطُ لاَ نَظِيرَ لَهَا.
وَأَمَّا أَبُو سُلَيْمَانَ فَقَالَ: مَا كَانَ يَحْتَمِلُ التَّوْسِيقَ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ, وَمَا كَانَ لاَ يَحْتَمِلُ التَّوْسِيقَ فَالزَّكَاةُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ, وَقَدْ ذَكَرْنَا فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ قَبْلُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ صَاحِبُ قِيَاسٍ, وَهُوَ لَمْ يَرَ فِيمَا يُزَكَّى شَيْئًا قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ فَهَلاَّ قَاسَ الزَّرْعَ عَلَى الْمَاشِيَةِ وَالْعَيْنِ. فَلاَ النَّصَّ اتَّبَعَ, وَلاَ الْقِيَاسَ طَرَدَ.
وَأَمَّا الْمُدُّ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُجْزِئُ فِي الْوُضُوءِ رَطْلاَنِ", مَعَ الأَثَرِ الصَّحِيحِ فِي أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ.
وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ, لإِنَّ شَرِيكًا مُطَّرِحٌ, مَشْهُورٌ بِتَدْلِيسِ الْمُنْكَرَاتِ إلَى الثِّقَاتِ, وَقَدْ أَسْقَطَ حَدِيثَهُ الإِمَامَانِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ; وَتَاللَّهِ لاَ أَفْلَحَ مَنْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِالْجُرْحَةِ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ; لاَِنَّهُ لاَ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُدَّ رَطْلاَنِ, وَقَدْ صَحَّ

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ بِثُلُثَيْ الْمُدِّ, وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَكُنْ يُعَيِّرُ لَهُ الْمَاءَ لِلْوُضُوءِ بِكَيْلٍ كَكَيْلِ الزَّيْتِ لاَ يَزِيدُ، وَلاَ يَنْقُصُ.
أَيْضًا فَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِي قَوْلِهِ عليه السلام: "يُجْزِئُ فِي الْوُضُوءِ رَطْلاَنِ", مَانِعٌ مِنْ أَنْ يُجْزِئَ أَقَلُّ, وَهُمْ أَوَّلُ مُوَافِقٍ لَنَا فِي هَذَا, فَمَنْ تَوَضَّأَ عِنْدَهُمْ بِنِصْفِ رِطْلٍ أَجْزَأَهُ, فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الأَثَرِ.
وَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى الْجُهَنِيِّ: كُنْت عِنْدَ مُجَاهِدٍ فَأَتَى بِإِنَاءٍ يَسَعُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ تِسْعَةَ أَرْطَالٍ, عَشَرَةَ أَرْطَالٍ, فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ بِمِثْلِ هَذَا", مَعَ الأَثَرِ الثَّابِتِ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ, لإِنَّ مُوسَى قَدْ شَكَّ فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ إلَى عَشَرَةٍ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ: إنَّ الصَّاعَ يَزِيدُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ، وَلاَ فَلْسًا.
وَأَيْضًا فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام اغْتَسَلَ هُوَ وَعَائِشَة، رضي الله عنها، جَمِيعًا مِنْ إنَاءٍ يَسَعُ ثَلاَثَةَ أَمْدَادٍ; وَأَيْضًا مِنْ إنَاءٍ هُوَ الْفَرْقُ, وَالْفَرْقُ: اثْنَا عَشَرَ مُدًّا, وَأَيْضًا بِخَمْسَةِ أَمْدَادٍ, وَأَيْضًا بِخَمْسَةِ مَكَاكِيَّ. وَكُلُّ هَذِهِ الآثَارِ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, وَالإِسْنَادِ الْوَثِيقِ الثَّابِتِ الْمُتَّصِلِ, وَالْخَمْسَةُ مَكَاكِيَّ: خَمْسُونَ مُدًّا. وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يُعَيِّرْ لَهُ الْمَاءَ لِلْغُسْلِ بِكَيْلٍ كَكَيْلِ الزَّيْتِ, وَلاَ تَوَضَّأَ وَاغْتَسَلَ بِإِنَاءَيْنِ مَخْصُوصَيْنِ بَلْ قَدْ تَوَضَّأَ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَر بِلاَ مُرَاعَاةٍ لِمِقْدَارِ الْمَاءِ. هُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا التَّحْدِيدِ فَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ امْرَأً لَوْ اغْتَسَلَ نِصْفَ صَاعٍ لاََجْزَأهُ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذِهِ الآثَارِ الْوَاهِيَةِ.
وَاحْتَجُّوا بِرِوَايَتَيْنِ وَاهِيَتَيْنِ.
إحْدَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ: أَنَّ الْقَفِيزَ الْحَجَّاجِيَّ قَفِيزُ عُمَرَ أَوْ صَاعُ عُمَرَ.

وَالآُخْرَى مِنْ طَرِيقِ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: الْقَفِيزُ الْحَجَّاجِيُّ صَاعُ عُمَرَ.
وَبِرِوَايَةٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ: عَيَّرْنَا صَاعَ عُمَرَ فَوَجَدْنَاهُ حَجَّاجِيًّا. وَبِرِوَايَةٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ: "كَانَ صَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ, وَمُدُّهُ رَطْلَيْنِ".
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ, وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ.
أَمَّا حَدِيثُ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ فَبَيْنَ أَبِي إِسْحَاقَ وَبَيْنَهُ مَنْ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ; وَمُجَالِدٌ ضَعِيفٌ, أَوَّلُ مَنْ ضَعَّفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ كُلُّ ذَلِكَ لَمَا انْتَفَعُوا بِهِ; لاَِنَّنَا لَمْ نُنَازِعْهُمْ فِي صَاعِ عُمَرَ رضي الله عنه، وَلاَ فِي قَفِيزِهِ, إنَّمَا نَازَعْنَاهُمْ فِي صَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَسْنَا نَدْفَعُ أَنْ يَكُونَ لِعُمَرَ: صَاعٌ, وَقَفِيزٌ, وَمُدٌّ. رَتَّبَهُ لاَِهْلِ الْعِرَاقِ لِنَفَقَاتِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ; كَمَا بِمِصْرَ الْوَيْبَةُ وَالإِرْدَبُّ; وَبِالشَّامِ الْمُدُّ وَكَمَا كَانَ لِمَرْوَانَ بِالْمَدِينَةِ مُدٌّ اخْتَرَعَهُ, وَلِهِشَامِ بْنِ إسْمَاعِيلَ مُدٌّ اخْتَرَعَهُ, وَلاَ حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ فِي صَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمُدِّهِ: فَقَوْلُ إبْرَاهِيمَ, وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ فِي الرَّغْبَةِ عَنْهُمَا إذَا خَالَفَا الصَّوَابَ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ الْمُزَنِيّ، حدثنا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: "كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمْ الْيَوْمَ, فَزِيدَ فِيهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ".
وَرُوِّينَا، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي مَكِيلَةِ زَكَاةِ الْفِطْرِ بِالْمُدِّ الأَصْغَرِ مُدُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَنْهُ أَيْضًا فِي زَكَاةِ الْحُبُوبِ وَالزَّيْتُونِ بِالصَّاعِ الأَوَّلِ صَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ بِمُدِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُدِّ الأَوَّلِ.
فَصَحَّ أَنَّ بِالْمَدِينَةِ صَاعًا, وَمُدًّا غَيْرَ مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَلَوْ كَانَ صَاعُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ هُوَ صَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَا نُسِبَ إلَى عُمَرَ أَصْلاً دُونَ أَنْ يُنْسَبَ إلَى أَبِي بَكْرٍ, وَلاَ إلَى أَبِي بَكْرٍ أَيْضًا دُونَ أَنْ يُضَافَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَحَّ بِلاَ شَكٍّ أَنَّ مُدَّ هِشَامٍ إنَّمَا رَتَّبَهُ هِشَامٌ, وَأَنَّ صَاعَ عُمَرَ إنَّمَا رَتَّبَهُ عُمَرُ. هَذَا إنْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ هُنَالِكَ صَاعٌ يُقَالُ لَهُ "صَاعُ عُمَرَ" فَإِنَّ صَاعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُدَّهُ مَنْسُوبَانِ إلَيْهِ لاَ إلَى غَيْرِهِ, بَاقِيَانِ بِحَسَبِهِمَا.
وَأَمَّا حَقِيقَةُ الصَّاعِ الْحَجَّاجِيِّ الَّذِي عَوَّلُوا عَلَيْهِ فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ يَقُولُ: صَاعِي هَذَا صَاعُ عُمَرَ أَعْطَتْنِيهِ عَجُوزٌ بِالْمَدِينَةِ.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِرِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ فَرِوَايَتُهُ هَذِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ, وَهَذَا أَصْلُ صَاعِ الْحَجَّاجِ, فَلاَ كَثُرَ، وَلاَ طِيبَ، وَلاَ بُورِكَ فِي الْحَجَّاجِ، وَلاَ فِي صَاعِهِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا جَرِيرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحُمَيْدِ، عَنْ يَزِيدَ، هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: الصَّاعُ يَزِيدُ عَلَى الْحَجَّاجِيِّ مِكْيَالاً.
فَبَطَلَ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ الْبَاطِلِ وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى مَا صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
كَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ, قَالَ إِسْحَاقُ، عَنِ الْمُلاَئِيِّ وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: حدثنا أَبُو نُعَيْمٍ هُوَ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ كِلاَهُمَا، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيِّ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمِكْيَالُ

عَلَى مِكْيَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ, وَالْوَزْنُ عَلَى وَزْنِ أَهْلِ مَكَّةَ".
فَلَمْ يَسَعْ أَحَدًا الْخُرُوجُ، عَنْ مِكْيَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِقْدَارِهِ عِنْدَهُمْ, وَلاَ عَنْ مَوَازِينِ أَهْلِ مَكَّةَ, وَوَجَدْنَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ لاَ يَخْتَلِفُ مِنْهُمْ اثْنَانِ فِي أَنَّ مُدَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي بِهِ تُؤَدَّى الصَّدَقَاتُ لَيْسَ أَكْثَرَ مِنْ رَطْلٍ وَنِصْفٍ, وَلاَ أَقَلَّ مِنْ رَطْلٍ وَرُبْعٍ". وقال بعضهم: رَطْلٌ وَثُلُثٌ, وَلَيْسَ هَذَا اخْتِلاَفًا; لَكِنَّهُ عَلَى حَسَبِ رَزَانَةِ الْمَكِيلِ مِنْ الْبُرِّ, وَالتَّمْرِ, وَالشَّعِيرِ.
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: "أَنَّ مُدَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَانَ يَأْخُذُ بِهِ الصَّدَقَاتِ: رَطْلٌ وَنِصْفٌ".
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السُّلَيْمِ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: صَاعُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَهُوَ صَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
حدثنا حمام، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: ذَكَرَ أَبِي أَنَّهُ عَيَّرَ مُدَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْحِنْطَةِ فَوَجَدَهَا رَطْلاً وَثُلُثًا فِي الْبُرِّ, قَالَ: وَلاَ يَبْلُغُ مِنْ التَّمْرِ هَذَا الْمِقْدَارُ.
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَسْعُودٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ دُحَيْمٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمَّادٍ، حدثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: دَفَعَ إلَيْنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ الْمُدَّ, وَقَالَ هَذَا مُدُّ مَالِكٍ, وَهُوَ عَلَى مِثَالِ مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبْت بِهِ إلَى السُّوقِ, وَخُرِطَ لِي عَلَيْهِ مُدٌّ وَحَمَلْته مَعِي إلَى الْبَصْرَةِ, فَوَجَدْته نِصْفَ كَيْلَجَةٍ بِكَيْلَجَةِ الْبَصْرَةِ, يَزِيدُ عَلَى كَيْلَجَةِ الْبَصْرَةِ شَيْئًا يَسِيرًا خَفِيفًا, إنَّمَا هُوَ شَبِيهٌ بِالرُّجْحَانِ الَّذِي لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ جُزْءٌ مِنْ الأَجْزَاءِ, وَنِصْفُ كَيْلَجَةِ الْبَصْرَةِ هُوَ رُبْعُ كَيْلَجَةِ بَغْدَادَ فَالْمُدّ: رُبْعُ الصَّاعِ, وَالصَّاعُ مِقْدَارُ كَيْلَجَةٍ بَغْدَادِيَّةٍ يَزِيدُ الصَّاعُ عَلَيْهَا شَيْئًا يَسِيرًا.
قال أبو محمد: وَخُرِطَ لِي مُدٌّ عَلَى تَحْقِيقِ الْمُدِّ الْمُتَوَارَثِ عِنْدَ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ

وَهُوَ عِنْدَ أَكْبَرِهِمْ لاَ يُفَارِقُ دَارِهِ, أُخْرِجُهُ إلَى ثِقَتِي الَّذِي كَلَّفْته ذَلِكَ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَذْكُورِ وَذَكَرَ أَنَّهُ مُدُّ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَأَبِي جَدِّهِ أَخَذَهُ وَخَرَطَهُ عَلَى مُدِّ أَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ, وَأَخْبَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ أَنَّهُ خَرَطَهُ عَلَى مُدِّ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى, الَّذِي أَعْطَاهُ إيَّاهُ ابْنُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى, وَخَرَطَهُ يَحْيَى عَلَى مُدِّ مَالِكٍ, وَلاَ أَشُكُّ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ خَالِدٍ صَحَّحَهُ أَيْضًا عَلَى مُدِّ مُحَمَّدِ بْنِ وَضَّاحٍ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ وَضَّاحٍ بِالْمَدِينَةِ.
قال أبو محمد: ثُمَّ كِلْته بِالْقَمْحِ الطَّيِّبِ, ثُمَّ وَزَنْته فَوَجَدَتْهُ رَطْلاً وَاحِدًا وَنِصْفَ رَطْلٍ بِالْفُلْفُلِيِّ, لاَ يَزِيدُ حَبَّةً, وَكِلْته بِالشَّعِيرِ, إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالطَّيِّبِ; فَوَجَدْتُهُ رَطْلاً وَاحِدًا وَنِصْفَ أُوقِيَّةً.
قال أبو محمد: وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ بِالْمَدِينَةِ مَنْقُولٌ نَقْلَ الْكَافَّةِ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ, وَصَالِحِهِمْ وَطَالِحِهِمْ, وَعَالِمِهِمْ وَجَاهِلِهِمْ, وَحَرَائِرِهِمْ وَإِمَائِهِمْ, كَمَا نَقَلَ أَهْلُ مَكَّةَ مَوْضِعَ الصَّفَا, وَالْمَرْوَةِ, وَالاِعْتِرَاضُ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ كَالْمُعْتَرِضِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ فِي مَوْضِعِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلاَ فَرْقَ, وَكَمَنْ يَعْتَرِضُ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ وَالْبَقِيعِ, وَهَذَا خُرُوجٌ، عَنِ الدِّيَانَةِ وَالْمَعْقُولِ.
قال أبو محمد: وَبَحَثْت أَنَا غَايَةَ الْبَحْثِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ وَثِقْت بِتَمْيِيزِهِ, فَكُلٌّ اتَّفَقَ لِي عَلَى أَنَّ دِينَارَ الذَّهَبِ بِمَكَّةَ وَزْنُهُ: اثْنَانِ وَثَمَانُونَ حَبَّةً وَثَلاَثَةُ أَعْشَارِ حَبَّةٍ بِالْحَبِّ مِنْ الشَّعِيرِ الْمُطْلَقِ, وَالدِّرْهَمَ سَبْعَةُ أَعْشَارِ الْمِثْقَالِ; فَوَزْنُ الدِّرْهَمِ الْمَكِّيِّ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ حَبَّةً وَسِتَّةُ أَعْشَارِ حَبَّةٍ وَعُشْرُ حَبَّةٍ, فَالرَّطْلُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَاحِدَةٍ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا بِالدِّرْهَمِ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ إلَى الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَوَقَفَ عَلَى أَمْدَادِ أَهْلِهَا.
وَقَدْ مَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ إنَّمَا سُمِّيَ الْوَسْقُ; لاَِنَّهُ مِنْ وَسْقِ الْبَعِيرِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا طَرِيفٌ فِي الْهُوجِ جِدًّا وَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ لَهُ بِذَلِكَ وَهَلاَّ قَالَ: لاَِنَّهُ وَسْقُ الْحِمَارِ.
ثُمَّ أَيْضًا فَإِنَّ الْوِسْقَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ هُوَ عِنْدَهُمْ: سِتَّةَ عَشَرَ رُبْعًا بِالْقُرْطُبِيِّ, وَحِمْلُ الْبَعِيرِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْمِقْدَارِ بِنَحْوِ نِصْفِهِ.
وَأَمَّا إسْقَاطُهُمْ الزَّكَاةَ عَمَّا أُصِيبَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ مِنْ بُرٍّ, وَتَمْرٍ, وَشَعِيرٍ; فَفَاحِشٌ جِدًّا, وَعَظِيمٌ مِنْ الْقَوْلِ. وَإِسْقَاطٌ لِلزَّكَاةِ الْمُفْتَرَضَةِ.

وَمَوَّهُوا فِي هَذَا بِطَوَامَّ, مِنْهَا: أَنْ قَالَ قَائِلُهُمْ: إنَّ عُمَرَ لَمْ يَأْخُذْ الزَّكَاةَ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا تَمْوِيهٌ بَارِدٌ; لإِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه إنَّمَا ضَرَبَ الْخَرَاجَ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ, وَلاَ زَكَاةَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ. فَإِنْ ادَّعَى: أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَأْخُذْ الزَّكَاةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَصْحَابِ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَقَدْ كَذَبَ جِدًّا, وَلاَ يَجِدُ هَذَا أَبَدًا; وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ عُمَرَ أَسْقَطَ الزَّكَاةَ عَنْهُمْ كَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ أَسْقَطَ الصَّلاَةَ عَنْهُمْ، وَلاَ فَرْقَ.
وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ذِكْرَ مَا قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ: "مَنَعَتْ الْعِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا, وَمَنَعَتْ الشَّامُ مُدَّيْهَا وَدِينَارَهَا, وَمَنَعَتْ مِصْرُ إرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا, وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ", شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَدَمُهُ, قَالُوا: فَأَخْبَرَ عليه السلام بِمَا يَجِبُ فِي هَذِهِ الأَرَضِينَ, وَلَمْ يُخْبِرْ أَنَّ فِيهَا زَكَاةً; وَلَوْ كَانَ فِيهَا زَكَاةٌ لاََخْبَرَ بِهَا.
قال أبو محمد: مِثْلُ هَذَا لَيْسَ لاِِيرَادِهِ وَجْهٌ; إلاَّ لِيَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى مَنْ سَمِعَهُ عَلَى خَلاَصِهِ مِنْ عَظِيمِ مَا اُبْتُلُوا بِهِ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ بِالْبَاطِلِ, وَمُعَارَضَةِ الْحَقِّ بِأَغَثِّ مَا يَكُونُ مِنْ الْكَلاَمِ. وَلَيْتَ شِعْرِي فِي أَيِّ مَعْقُولٍ وَجَدُوا أَنَّ كُلَّ شَرِيعَةٍ لَمْ تُذْكَرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَهِيَ سَاقِطَةٌ. وَهَلْ يَقُولُ هَذَا مَنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ التَّمْيِيزِ. وَهَلْ بَيْنَ مَنْ أَسْقَطَ الزَّكَاةَ لاَِنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَرْقٌ, وَبَيْنَ مَنْ أَسْقَطَ الصَّلاَةَ وَالْحَجَّ لاَِنَّهُمَا لَمْ يُذْكَرَا فِي هَذَا الْخَبَرِ.
وَحَتَّى لَوْ صَحَّ لَهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَصَدَ بِهَذَا الْخَبَرِ ذِكْرَ مَا يَجِبُ فِي هَذِهِ الأَرَضِينَ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَصِحَّ هَذَا فَهُوَ الْكَذِبُ الْبَحْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا كَانَ فِي ذَلِكَ إسْقَاطُ سَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، عَنْ أَهْلِهَا. وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا حَدِيثٌ انْتَظَمَ ذِكْرَ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ أَوَّلِهَا، عَنْ آخِرِهَا, نَعَمْ, وَلاَ سُورَةٌ أَيْضًا.
وَإِنَّمَا قَصَدَ عليه السلام فِي هَذَا الْحَدِيثِ الإِنْذَارَ بِخَلاَءِ أَيْدِي الْمُفْتَتِحِينَ لِهَذِهِ الْبِلاَدِ مِنْ أَخْذِ طَعَامِهَا وَدَرَاهِمِهَا وَدَنَانِيرِهَا فَقَطْ; وَقَدْ ظَهَرَ مَا أَنْذَرَ بِهِ عليه السلام.
وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُرِيدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا زَعَمُوا; لاَِنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ, وَكَانَ أَرْبَابُ أَرَاضِي الشَّامِ, وَمِصْرَ, وَالْعِرَاقِ مُسْلِمِينَ; فَمَنْ هُمْ الْمُخَاطَبُونَ بِأَنَّهُمْ يَعُودُونَ كَمَا

بَدَءُوا وَمِنْ الْمَانِعِ مَا ذَكَرَ مَنْعَهُ. هَذَا تَخْصِيصٌ مِنْهُمْ بِالْبَاطِلِ وَبِمَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ مِنْهُ نَصٌّ، وَلاَ دَلِيلٌ, وَلَوْ قِيلَ لَهُمْ: بَلْ فِي قَوْلِهِ عليه السلام: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ" دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ الْخَرَاجِ وَبُطْلاَنِهِ, إذْ لَوْ كَانَ فِيهَا خَرَاجٌ لَذَكَرَهُ عليه السلام.
وَالْعَجَبُ أَيْضًا إسْقَاطُهُمْ الْجِزْيَةَ بِهَذَا الْخَبَرِ، عَنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ فَأَسْقَطُوا فَرْضَيْنِ مِنْ فَرَائِضِ الإِسْلاَمِ بِرَأْيِ صَاحِبٍ, وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا. وَخَالَفُوا ذَلِكَ الصَّاحِبَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَفْسِهَا; لاَِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْهُ إيجَابُ الْجِزْيَةِ مَعَ الْخَرَاجِ; فَمَرَّةً يَكُونُ فِعْلُهُ حُجَّةً يُخَالِفُ بِهَا الْقُرْآنَ, وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ كَاذِبُونَ عَلَيْهِ, فَمَا رُوِيَ عَنْهُ قَطُّ إسْقَاطُ الزَّكَاةِ عَمَّا أُصِيبَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ; وَمَرَّةً لاَ يَرَوْنَهُ حُجَّةً أَصْلاً وَمَعَهُ الْحَقُّ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى أَخْذِ الْخَرَاجِ.
قِيلَ لَهُمْ: وَالصَّحَابَةُ أَجْمَعُوا عَلَى أَخْذِ الزَّكَاةِ قَبْلَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْخَرَاجِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ بِلاَ شَكٍّ، وَلاَ عَجَبَ أَعْجَبُ مِنْ إيجَابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْخَرَاجَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ إذَا مَلَكَهَا, وَإِسْقَاطُ الزَّكَاةِ عَنْهُ, وَإِيجَابُهُ الزَّكَاةَ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إذَا مَلَكَا أَرْضَ الْعُشْرِ, وَإِسْقَاطُ الْخَرَاجِ عَنْهُمَا وَفَاعِلُ هَذَا مُتَّهَمٌ عَلَى الإِسْلاَمِ وَأَهْلِهِ.
وَقَالُوا: لاَ يَجْتَمِعُ حَقَّانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ.
قال أبو محمد: كَذَبُوا وَأَفِكُوا بَلْ تَجْتَمِعُ حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي مَالٍ وَاحِدٍ; وَلَوْ أَنَّهَا أَلْفُ حَقٍّ, وَمَا نَدْرِي مِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنَّهُ لاَ يَجْتَمِعُ حَقَّانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ; وَهُمْ يُوجِبُونَ الْخُمْسَ فِي مَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالزَّكَاةِ أَيْضًا; إمَّا عِنْدَ الْحَوْلِ,وَأَمَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إنْ كَانَ بَلَغَ حَوْلَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ; وَيُوجِبُونَ أَيْضًا الْخَرَاجَ فِي أَرْضِ الْمَعْدِنِ إنْ كَانَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا تَغْلِيبُهُمْ الْخَرَاجَ عَلَى الزَّكَاةِ فَأَسْقَطُوهَا بِهِ, ثُمَّ غَلَّبُوا زَكَاةَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمَاشِيَةِ عَلَى زَكَاةِ التِّجَارَةِ, فَأَسْقَطُوهَا بِهَا; ثُمَّ غَلَّبُوا زَكَاةَ التِّجَارَةِ فِي الرَّقِيقِ عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ, فَأَسْقَطُوهَا بِهَا; فَمَرَّةً رَأَوْا زَكَاةَ التِّجَارَةِ أَوْكَدَ مِنْ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ,

وَمَرَّةً رَأَوْا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ أَوْلَى مِنْ زَكَاةِ التِّجَارَةِ.
وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: يَرَى أَنْ يُزَكَّى مَا زُرِعَ لِلتِّجَارَةِ زَكَاةَ التِّجَارَةِ لاَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةِ. وَذَكَرْنَا هَذَا لِئَلاَّ يَدَّعُوا فِي ذَلِكَ إجْمَاعًا, فَهَذَا أَخَفُّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ.
وَإِنَّ تَنَاقُضَ الْمَالِكِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ لَظَاهِرٍ فِي إسْقَاطِهِمْ الزَّكَاةَ، عَنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ لِلزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَإِبْقَائِهِمْ إيَّاهَا مَعَ زَكَاةِ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَنَاقَضَ الْحَنِيفِيُّونَ إذْ أَثْبَتُوا الإِجَارَةَ وَالزَّكَاةَ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ.
وَمِمَّنْ صَحَّ عَنْهُ إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَابْنُ أَبِي لَيْلَى, وَابْنُ شُبْرُمَةَ, وَشُرَيْكٌ, وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ.
وَقَالَ سُفْيَانُ, وَأَحْمَدُ: إنْ فَضَلَ بَعْدَ الْخَرَاجِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ.
وَلاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِنْ تَمْوِيهِهِمْ بِالثَّابِتِ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ قَوْلِهِ إذْ أَسْلَمَتْ دِهْقَانَةُ نَهَرَ الْمَلِكِ إنْ اخْتَارَتْ أَرْضَهَا أَوْ أَدَّتْ مَا عَلَى أَرْضِهَا فَخَلُّوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرْضِهَا, وَإِلاَّ فَخَلُّوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَرْضِهِمْ وَعَنْ عَلِيٍّ نَحْوُ هَذَا. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ إنْكَارُ الدُّخُولِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ لِلْمُسْلِمِ. وَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ عَقَلَ ذُو عَقْلٍ قَطُّ أَنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا إسْقَاطَ الزَّكَاةِ عَمَّا أَخْرَجَتْ الأَرْضُ. وَهَذَا مَكَانٌ لاَ يُقَابَلُ إلاَّ بِالتَّعَجُّبِ, وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَيَكْفِي مِنْ هَذَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ" فَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مِنْ الْبُرْهَانِ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ عَلَى الرَّافِعِ لاَ عَلَى الأَرْضِ إجْمَاعُ الآُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ الْعُشْرَ مِنْ غَيْرِ الَّذِي أَصَابَ فِي تِلْكَ الأَرْضِ لَكَانَ ذَلِكَ لَهُ; وَلَمْ

يَجُزْ إجْبَارُهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ مِنْ عَيْنِ مَا أَخْرَجَتْ الأَرْضُ. فَصَحَّ أَنَّ الزَّكَاةَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِ الرَّافِعِ; لاَ فِي الأَرْضِ.

و كذلك ما أصيب في الأرض المغصوبة إذا كان البذر للغاصب و دليل ذلك
643 - مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ مَا أُصِيبَ فِي الأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ لِلْغَاصِبِ;
لإِنَّ غَصْبَهُ الأَرْضِ لاَ يُبْطِلُ مِلْكَهُ، عَنْ بَذْرِهِ; فَالْبَذْرُ إذَا كَانَ لَهُ فَمَا تَوَلَّدَ عَنْهُ فَلَهُ; وَإِنَّمَا عَلَيْهِ حَقُّ الأَرْضِ فَقَطْ; فَفِي حِصَّتِهِ مِنْهُ الزَّكَاةُ, وَهِيَ لَهُ حَلاَلٌ وَمِلْكٌ صَحِيحٌ.
وَكَذَلِكَ الأَرْضُ الْمُسْتَأْجَرَةُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ, أَوْ الْمَأْخُوذَةُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا, أَوْ الْمَمْنُوحَةُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ".
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْبَذْرُ مَغْصُوبًا فَلاَ حَقَّ لَهُ، وَلاَ حُكْمَ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَنْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ; سَوَاءٌ كَانَ فِي أَرْضِهِ نَفْسِهِ أَمْ فِي غَيْرِهَا, وَهُوَ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، وَلاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي أَنَّ غَاصِبَ الْبَذْرِ إنَّمَا أَخَذَهُ بِالْبَاطِلِ, وَكَذَلِكَ كُلُّ بَذْرٍ أُخِذَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَمُحَرَّمٌ عَلَيْهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ أَكْلُهُ, وَكُلُّ مَا تَوَلَّدَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ بِلاَ خِلاَفٍ, وَلَيْسَ وُجُوبُ الضَّمَانِ بِمُبِيحٍ لَهُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ.
فَإِنْ مَوَّهُوا بِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ "الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ".
فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ, لإِنَّ رَاوِيَهُ مَخْلَدُ بْنُ خَفَّافٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ وَرَدَ فِي عَبْدٍ بِيعَ بَيْعًا صَحِيحًا ثُمَّ وُجِدَ فِيهِ عَيْبٌ; وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُقَاسَ الْحَرَامُ عَلَى الْحَلاَلِ, لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا; فَكَيْفَ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا أَوْلاَدَ الْمَغْصُوبَةِ مِنْ الإِمَاءِ وَالْحَيَوَانِ لِلْغَاصِبِ بِهَذَا الْخَبَرِ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِذَلِكَ.

إذا بلغ الصنف الواحد من البر أو التمر أو الشعير خمسة أوسق فصاعدا الخ
644 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا بَلَغَ الصِّنْفُ الْوَاحِدُ - مِنْ الْبُرِّ, أَوْ التَّمْرِ, أَوْ الشَّعِيرِ – خَمْسَةَ أَوْسُقٍ كَمَا ذَكَرْنَا فَصَاعِدًا,
فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُسْقَى بِسَاقِيَةٍ مِنْ نَهْرٍ, أَوْ عَيْنٍ, أَوْ كَانَ بَعْلًا فَفِيهِ الْعُشْرُ. وَإِنْ كَانَ يُسْقَى بِسَاقِيَةٍ, أَوْ نَاعُورَةٍ, أَوْ دَلْوٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ, فَإِنْ نَقَصَ عَنِ الْخَمْسَةِ الأَُوْسُقِ - مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ - فَلَا زَكَاةَ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَصْحَابِنَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْعُشْرُ, أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ, وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ".
وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ قَوْلِهِ عليه السلام: "وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ, مِنْ حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ صَدَقَةٌ".
فَصَحَّ أَنَّ مَا نَقَصَ عَنِ الْخَمْسَةِ الأَُوْسُقِ نُقْصَانًا - قَلَّ أَوْ كَثُرَ - فَلَا زَكَاةَ فِيهِ.
وَالْعَجَبُ مِنْ تَغْلِيبِ أَبِي حَنِيفَةَ الْخَبَرَ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ", عَلَى حَدِيثِ الأَُوْسُقِ الْخَمْسَةِ, وَغَلَّبَ قَوْلَهُ عليه السلام: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقِيَّ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ, وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنْ الإِبِلِ صَدَقَةٌ" عَلَى قَوْلِهِ عليه السلام: "فِي الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ", وَعَلَى قَوْلِهِ عليه السلام: "مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلِ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا" وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

لا يضم قمح إلى شعير و لا تمر إليهما
645 - مَسْأَلَةٌ: لاَ يُضَمُّ قَمْحٌ إلَى شَعِيرٍ, وَلاَ تَمْرٌ إلَيْهِمَا.
وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِنَا.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ, وَأَبُو يُوسُفَ: يُضَمُّ كُلُّ مَا أَخْرَجَتْ الأَرْضُ: مِنْ الْقَمْحِ, وَالشَّعِيرِ وَالآُرْزُ, وَالذُّرَةِ, وَالدَّخَنِ, وَجَمِيعِ الْقَطَانِيِّ, بَعْضُ ذَلِكَ إلَى بَعْضِ, فَإِذَا اجْتَمَعَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ كَمَا ذَكَرْنَا, وَإِلاَّ فَلاَ.
وقال مالك: الْقَمْحُ, وَالشَّعِيرُ, وَالسُّلْتُ: صِنْفٌ وَاحِدٌ, يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ, فَإِذَا اجْتَمَعَ مِنْ جَمِيعِهَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَفِيهَا الزَّكَاةُ, وَإِلاَّ فَلاَ; وَيُجْمَعُ الْحِمَّصُ, وَالْفُولُ, وَاللُّوبِيَا, وَالْعَدَسُ, وَالْجُلُبَّانُ وَالْبَسِيلَةُ, بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ. وَلاَ يُضَمُّ إلَى الْقَمْحِ, وَلاَ إلَى الشَّعِيرِ

وَلاَ إلَى السُّلْتِ. قَالَ: وَأَمَّا الآُرْزُ, وَالذُّرَةُ, وَالسِّمْسِمُ, فَهِيَ أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ, لاَ يُضَمُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إلَيَّ شَيْءٍ أَصْلاً.
وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْعَلَسِ, فَمَرَّةٌ قَالَ: يُضَمُّ إلَى الْقَمْحِ, وَالشَّعِيرِ; وَمَرَّةٌ قَالَ: لاَ يُضَمُّ إلَى شَيْءٍ أَصْلاً.
وَرَأَى الْقَطَانِيَّ فِي الْبُيُوعِ أَصْنَافًا مُخْتَلِفَةً, حَاشَا اللُّوبِيَا, وَالْحِمَّصَ; فَإِنَّهُ رَآهُمَا فِي الْبُيُوعِ صِنْفًا وَاحِدًا.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ; فَظَاهِرُ الْخَطَأِ جُمْلَةً, لاَ يَحْتَاجُ مِنْ إبْطَالِهِ إلَى أَكْثَرَ مِنْ إيرَادِهِ وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ قَسَّمَ هَذَا التَّقْسِيمَ, وَلاَ جَمَعَ هَذَا الْجَمْعَ, وَلاَ فَرَّقَ هَذَا التَّفْرِيقَ قَبْلَهُ، وَلاَ مَعَهُ، وَلاَ بَعْدَهُ, إلاَّ مَنْ قَلَّدَهُ, وَمَا لَهُ مُتَعَلَّقٌ, لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ فَاسِدَةٍ, وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ تَابِعٍ, وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ رَأْيٍ يُعْرَفُ لَهُ وَجْهُ, وَلاَ مِنْ احْتِيَاطٍ أَصْلاً.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى جَمْعَ الْبُرِّ وَغَيْرِهِ فِي الزَّكَاةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقُوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ".
قال أبو محمد: وَلَوْ لَمْ يَأْتِ إلاَّ هَذَا الْخَبَرُ لَكَانَ هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لاَ يَجُوزُ غَيْرُهُ. لَكِنْ قَدْ خَصَّهُ مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ رَبِيعٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ هُوَ الْجَحْدَرِيُّ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حدثنا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَحِلُّ فِي الْبُرِّ وَالتَّمْرِ زَكَاةٌ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ, وَلاَ يَحِلُّ فِي الْوَرِقِ زَكَاةٌ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ أَوَاقِيَ، وَلاَ يَحِلُّ فِي الإِبِلِ زَكَاةٌ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَ ذَوْد"ٍ.
فَنَفَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ عَمَّا لَمْ يَبْلُغْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ مِنْ الْبُرِّ, فَبَطَل بِهَذَا إيجَابُ الزَّكَاةِ فِيهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ; مَجْمُوعًا إلَى شَعِيرٍ أَوْ غَيْرَ مَجْمُوعٍ.
قال أبو محمد: وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقٌ عَلَى أَنْ لاَ يُجْمَعَ التَّمْرُ إلَى الزَّبِيبِ, وَمَا نِسْبَةُ أَحَدِهِمَا مِنْ الآخَرِ إلاَّ كَنِسْبَةِ الْبُرِّ مِنْ الشَّعِيرِ; فَلاَ النَّصَّ اتَّبَعُوا, وَلاَ الْقِيَاسَ طَرَدُوا, وَلاَ خِلاَفَ

بَيْنَ كُلِّ مَنْ يَرَى الزَّكَاةَ فِي الْخَمْسَةِ الأَوْسُقِ فَصَاعِدًا لاَ فِي أَقَلَّ فِي أَنَّهُ لاَ يُجْمَعُ التَّمْرُ إلَى الْبُرِّ, وَلاَ إلَى الشَّعِيرِ.

و أما أصناف القمح فيضم بعضها إلى بعض
646 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا أَصْنَافُ الْقَمْحِ فَيُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ;
وَكَذَلِكَ تُضَمُّ أَصْنَافُ الشَّعِيرِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ; وَكَذَلِكَ أَصْنَافُ التَّمْرِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ الْعَجْوَةُ, وَالْبَرْنِيُّ, وَالصَّيْحَانِيُّ وَسَائِرُ أَصْنَافِهِ. وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ; لإِنَّ اسْمَ بُرٍّ يَجْمَعُ أَصْنَافَ الْبُرِّ; وَاسْمَ تَمْرٍ يَجْمَعُ أَصْنَافَ التَّمْرِ; وَاسْمَ شَعِيرٍ يَجْمَعُ أَصْنَافَ الشَّعِيرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

من كانت له أرضون شتى في قرية واحدة أو في قرى شتى الخ
647 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضُونَ شَتَّى فِي قَرْيَةٍ وَاحِدَةٍ; أَوْ فِي قُرًى شَتَّى
فِي عَمَلِ مَدِينَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي أَعْمَالٍ شَتَّى وَلَوْ أَنَّ إحْدَى أَرْضَيْهِ فِي أَقْصَى الصِّينِ, وَالآُخْرَى إلَى أَقْصَى الأَنْدَلُسِ: فَإِنَّهُ يَضُمُّ كُلَّ قَمْحٍ أَصَابَ فِي جَمِيعِهَا بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ; وَكُلَّ شَعِيرٍ أَصَابَهُ فِي جَمِيعِهَا بَعْضِهِ إلَى بَعْضٍ, فَيُزَكِّيهِ; لاَِنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالزَّكَاةِ فِي ذَاتِهِ, مُرَتَّبَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ فِي ذِمَّتِهِ وَمَالِهِ, دُونَ أَنْ يَخُصَّ اللَّهَ تَعَالَى; أَوْ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ مَا كَانَ فِي طُسُوجٍ وَاحِدًا, أَوْ رُسْتَاقٍ وَاحِدٍ: مِمَّا فِي طُسُّوجَيْنِ, أَوْ رُسْتَاقَيْنِ; وَتَخْصِيصُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِالآرَاءِ الْفَاسِدَةِ بَاطِلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

من لقط السنبل فاجتمع له من البر خمسة أوسق فصاعدا و من الشعير كذلك فعليه الزكاة فيها
648 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَقَطَ السُّنْبُلَ فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنْ الْبُرِّ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا, وَمِنْ الشَّعِيرِ كَذَلِكَ: فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهَا,
الْعُشْرُ فِيمَا سُقِيَ بِالسَّمَاءِ, أَوْ بِالنَّهْرِ أَوْ بِالْعَيْنِ, أَوْ بِالسَّاقِيَّةِ, وَنِصْفُ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ، وَلاَ زَكَاةَ عَلَى مَنْ الْتَقَطَ مِنْ التَّمْرِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَبِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ.

الزكاة واجبة على من أزهى التمر في ملكه
649 - مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ أَزْهَى التَّمْرُ فِي مِلْكِهِ
وَالإِزْهَاءُ: هُوَ احْمِرَارُهُ فِي ثِمَارِهِ وَعَلَى مَنْ مَلَكَ الْبُرَّ, وَالشَّعِيرَ قَبْلَ دِرَاسِهِمَا, وَإِمْكَانِ تَصْفِيَتِهِمَا مِنْ التِّبْنِ وَكَيْلِهِمَا بِأَيِّ وَجْهٍ مَلَكَ ذَلِكَ, مِنْ مِيرَاثٍ, أَوْ هِبَةٍ, أَوْ ابْتِيَاعٍ, أَوْ صَدَقَةٍ, أَوْ إصْدَاقٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلاَ زَكَاةَ عَلَى مَنْ انْتَقَلَ مِلْكُهُ، عَنِ التَّمْرِ قَبْلَ الإِزْهَاءِ, وَلاَ عَلَى مَنْ مَلَكَهَا بَعْدَ الإِزْهَاءِ, وَلاَ عَلَى مَنْ انْتَقَلَ مِلْكُهُ، عَنِ الْبُرِّ, وَالشَّعِيرِ, قَبْلَ دِرَاسِهِمَا وَإِمْكَانِ تَصْفِيَتِهِمَا وَكَيْلِهِمَا;، وَلاَ عَلَى مَنْ مَلَكَهُمَا بَعْدَ إمْكَانِ تَصْفِيَتِهِمَا وَكَيْلِهِمَا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ حَبٍّ، وَلاَ تَمْرٍ صَدَقَةٌ" فَلَمْ يُوجِبْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَبِّ صَدَقَةٌ إلاَّ بَعْدَ إمْكَانِ تَوْسِيقِهِ; فَإِنَّ صَاحِبَهُ حِينَئِذٍ مَأْمُورٌ بِكَيْلِهِ وَإِخْرَاجِ صَدَقَتِهِ; فَلَيْسَ تَأْخِيرُهُ الْكَيْلَ وَهُوَ لَهُ مُمْكِنٌ بِمُسْقِطٍ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى التَّوْسِيقِ الَّذِي بِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ قَبْلَ الدِّرَاسِ أَصْلاً; فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ قَبْلَ الدِّرَاسِ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْهَا، وَلاَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم. فَمَنْ سَقَطَ مُلْكُهُ عَنْهُ قَبْلَ الدِّرَاسِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ, أَوْ إصْدَاقٍ: أَوْ مَوْتٍ, أَوْ جَائِحَةٍ, أَوْ نَارٍ, أَوْ غَرَقٍ, أَوْ غَصْبٍ فَلَمْ يُمْكِنْهُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ فِي وَقْتِ وُجُوبِهَا, وَلاَ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ. وَمَنْ أَمْكَنَهُ الْكَيْلُ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ فَهُوَ الَّذِي خُوطِبَ بِزَكَاتِهِ; فَمَنْ مَلَكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا مَلَكَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ التَّمْرُ كَذَلِكَ; لإِنَّ النَّصَّ جَاءَ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِيهِ إذَا بَدَا طِيبُهُ, كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

أما النخل إذا أزهى خرص و ألزم الزكاة
650 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا النَّخْلُ فَإِنَّهُ إذَا أَزْهَى خُرِصَ وَأُلْزِمَ الزَّكَاةَ
كَمَا ذَكَرْنَا, وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ يَفْعَلُ بِهِ مَا شَاءَ; وَالزَّكَاةُ فِي ذِمَّتِهِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدِ الْقَطَّانِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ، حدثنا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْت خُبَيْبَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ يُحَدِّثُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ نِيَارٍ قَالَ: أَتَانَا سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا أَوْ دَعُوا الثُّلُثَ; فَإِنْ لَمْ تَأْخُذُوا فَدَعُوا الرُّبُعَ" شَكَّ شُعْبَةُ فِي لَفْظَةِ "تَأْخُذُوا" وَ "تَدَعُوا".
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ. وَهِيَ تَذْكُرُ شَأْنَ خَيْبَرَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إلَى الْيَهُودِ فَيَخْرُصُ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ أَوَّلُ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ

يُؤْكَلَ, ثُمَّ يُخَيِّرُونَ الْيَهُودَ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوهَا بِذَلِكَ الْخَرْصِ أَوْ يَدْفَعُوهَا إلَيْهِمْ بِذَلِكَ" وَإِنَّمَا كَانَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْخَرْصِ لِكَيْ تُحْصَى الزَّكَاةُ قَبْلَ أَنْ تُؤْكَلَ الثِّمَارُ وَتَفْتَرِقُ.

إذا خرص فسواء باع الثمرة أو أو وهبها أو تصدق بها أو أطعمها أو أجيح فيها كل ذلك لا يسقط الزكاة عنه
651 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا خُرِصَ كَمَا ذَكَرْنَا فَسَوَاءٌ بَاعَ الثَّمَرَةَ صَاحِبُهَا أَوْ وَهَبَهَا أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا أَوْ أَطْعَمَهَا أَوْ أَجِيحَ فِيهَا: كُلُّ ذَلِكَ لاَ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ عَنْهُ;
لاَِنَّهَا قَدْ وَجَبَتْ, وَأَطْلَقَ عَلَى الثَّمَرَةِ وَأَمْكَنَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ, كَمَا لَوْ وَجَدَهَا, وَلاَ فَرْقَ.

إذا غلط الخارص أو ظلم فزاد أو نقص رد الواجب إلى الحق
652 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا غَلِطَ الْخَارِصُ أَوْ ظَلَمَ فَزَادَ أَوْ نَقَصَ: رَدَّ الْوَاجِبَ إلَى الْحَقِّ,
فَأُعْطِيَ مَا زِيدَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ مِنْهُ مَا نَقَصَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} وَالزِّيَادَةُ مِنْ الْخَارِصِ ظُلْمٌ لِصَاحِبِ الثَّمَرَةِ بِلاَ شَكٍّ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْتَدُوا} فَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صَاحِبِ الثَّمَرَةِ إلاَّ الْعُشْرَ, لاَ أَقَلُّ، وَلاَ أَكْثَرُ, أَوْ نِصْفَ الْعُشْرِ, لاَ أَقَلُّ، وَلاَ أَكْثَرُ, وَنُقْصَانُ الْخَارِصِ ظُلْمٌ لاَِهْلِ الصَّدَقَاتِ وَإِسْقَاطٌ لِحَقِّهِمْ, وَكُلُّ ذَلِكَ إثْمٌ وَعُدْوَانٌ.

إن ادعى أن الخارص ظلمه أو أخطأ لم يصدق إلا بالبينة
653 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ الْخَارِصَ ظَلَمَهُ أَوْ أَخْطَأَ؟ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ
إنْ كَانَ الْخَارِصُ عَدْلًا عَالِمًا, فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا أَوْ جَائِرًا فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ؟
لِأَنَّهُ إنْ كَانَ جَائِرًا فَهُوَ فَاسِقٌ فَخَبَرُهُ مَرْدُودٌ.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَتَعَرُّضُ الْجَاهِلِ لِلْحُكْمِ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ بِمَا لَا يَدْرِي جُرْحَةٌ; وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ تَوْلِيَتُهُ; فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ فَتَوْلِيَتُهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".

لا يجوز خرص الزرع أصلا
654 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ خَرْصُ الزَّرْعِ أَصْلاً;
لَكِنْ إذَا حُصِدَ, وَدُرِسَ, فَإِنْ جَاءَ الَّذِي يَقْبِضُ الزَّكَاةَ حِينَئِذٍ فَقَعَدَ عَلَى الدُّرُوسِ وَالتَّصْفِيَةِ وَالْكَيْلِ فَلَهُ ذَلِكَ, وَلاَ نَفَقَةَ لَهُ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ.

فرض على كل من له زرع عند حصاده أن يعطي منه من حضر من المساكين
655 - مَسْأَلَةٌ: وَفُرِضَ عَلَى كُلِّ مَنْ لَهُ زَرْعٌ عِنْدَ حَصَادِهِ أَنْ يُعْطِيَ مِنْهُ مَنْ حَضَرَ مِنْ الْمَسَاكِينِ
مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ; وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ قَبْلُ فِي بَابِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ ذِكْرِنَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

من ساقى حائط نخل أو زارع أرضه بجزء مما يخرج منها فأيهما وقع في سهمه خمسة أوسق فصاعدا فعليه الزكاة
656 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ سَاقَى حَائِطَ نَخْلٍ أَوْ زَارِعَ أَرْضِهِ بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَيُّهُمَا وَقَعَ فِي سَهْمِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ كَذَلِكَ مِنْ بُرٍّ, أَوْ شَعِيرٍ: فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ,
وَإِلاَّ فَلاَ, وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فَصَاعِدًا فِي زَرْعٍ أَوْ فِي ثَمَرَةِ نَخْلٍ بِحَبْسٍ, أَوْ ابْتِيَاعٍ, أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَلاَ فَرْقَ.
فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمَسَاكِينِ, أَوْ الْعُمْيَانِ, أَوْ الْمَجْذُومِينَ, أَوْ فِي السَّبِيلِ, أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِأَهْلِهِ أَوْ عَلَى مَسْجِد, أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ: فَلاَ زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ الزَّكَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِمَّا ذَكَرْنَا; وَلَمْ يُوجِبْهَا عَلَى شَرِيكٍ مِنْ أَجْلِ ضَمِّ زَرْعِهِ إلَى زَرْعِ شَرِيكِهِ, قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا}، {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
وَأَمَّا مَنْ لاَ يَتَعَيَّنُ فَلَيْسَ يَصِحُّ أَنَّهُ يَقَعُ لاَِحَدِهِمْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، وَلاَ زَكَاةَ إلاَّ عَلَى مُسْلِمٍ يَقَعُ لَهُ مِمَّا يُصِيبُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ.
وقال أبو حنيفة: فِي كُلِّ ذَلِكَ الزَّكَاةُ.
وَهَذَا خَطَأٌ, لِمَا قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لاَ شَرِيعَةَ عَلَى أَرْضٍ, وَإِنَّمَا الشَّرِيعَةُ عَلَى النَّاسِ, وَالْجِنِّ; وَلَوْ كَانَ مَا قَالُوا لَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي أَرَاضِي الْكُفَّارِ.
فَإِنْ قَالُوا: الْخَرَاجُ نَابَ عَنْهَا.
قلنا: كَانُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لاَ خَرَاجَ عَلَيْهِمْ, فَكَانَ يَجِبُ عَلَى قَوْلِكُمْ أَنْ تَكُونَ الزَّكَاةُ فِيمَا أَخْرَجَتْ أَرْضُهُمْ; وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ, وَبِإِجْمَاعِهِمْ مَعَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ.
وقال الشافعي: إذَا اجْتَمَعَ لِلشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَعَلَيْهِمْ الزَّكَاةُ وَسَنَذْكُرُ

لا يجوز أن يعد الذي له الزرع أو التمر ما أنفق في حرث أو حصاد أو جمع
657 - مَسْأَلَةٌ:- وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُدَّ الَّذِي لَهُ الزَّرْعُ أَوْ التَّمْرُ مَا أَنْفَقَ فِي حَرْثٍ أَوْ حَصَادٍ, أَوْ جَمْعٍ,
أَوْ دَرْسٍ, أَوْ تَزْبِيلٍ أَوْ جِدَادٍ أَوْ حَفْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ -:فَيُسْقِطُهُ مِنْ الزَّكَاةِ وَسَوَاءٌ تَدَايَنَ فِي ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَتَدَايَنْ, أَتَتْ النَّفَقَةُ عَلَى جَمِيعِ قِيمَةِ الزَّرْعِ أَوْ الثَّمَرِ أَوْ لَمْ تَأْتِ, وَهَذَا مَكَانٌ قَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ.
حَدَّثَنَا حُمَامٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ هُوَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ - عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ, فِي الرَّجُلِ يُنْفِقُ عَلَى ثَمَرَتِهِ, قَالَ أَحَدُهُمَا: يُزَكِّيهَا, وَقَالَ الآخَرُ: يَرْفَعُ النَّفَقَةَ وَيُزَكِّي مَا بَقِيَ.
وَعَنْ عَطَاءٍ: أَنَّهُ يَسْقُطُ مِمَّا أَصَابَ النَّفَقَةَ, فَإِنْ بَقِيَ مِقْدَارُ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ زَكَّى, وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد: أَوْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّمْرِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ: الزَّكَاةُ جُمْلَةً إذَا بَلَغَ الصِّنْفُ مِنْهَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا; وَلَمْ يُسْقِطْ الزَّكَاةَ عَنْ ذَلِكَ بِنَفَقَةِ الزَّارِعِ وَصَاحِبِ النَّخْلِ; فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ حَقٍّ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِغَيْرِ نَصِّ قُرْآنٍ وَلَا سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ.
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَأَصْحَابِنَا, إلَّا أَنَّ مَالِكًا, وَأَبَا حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ تَنَاقَضُوا وَأَسْقَطُوا الزَّكَاةَ عَنِ الأَُمْوَالِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا إذَا

كَانَ عَلَى صَاحِبِهَا دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُهَا أَوْ يَسْتَغْرِقُ بَعْضَهَا; فَأَسْقَطُوهَا عَنْ مِقْدَارِ مَا اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ مِنْهَا.

لا يجوز أن يعد على صاحب الزرع في الزكاة ما أكل و أهله
658 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَعُدَّ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ فِي الزَّكَاةِ مَا أَكَلَ هُوَ وَأَهْلُهُ
فَرِيكًا أَوْ سَوِيقًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلاَ السُّنْبُلَ الَّذِي يَسْقُطُ فَيَأْكُلُهُ الطَّيْرُ أَوْ الْمَاشِيَةُ أَوْ يَأْخُذُهُ الضُّعَفَاءُ, وَلاَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ حِينَ الْحَصَادِ; لَكِنْ مَا صُفِّيَ فَزَكَاتُهُ عَلَيْهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَجِبُ إلاَّ حِينَ إمْكَانِ الْكَيْلِ, فَمَا خَرَجَ، عَنْ يَدِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ قَبْلَ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ فِيهِ. وقال الشافعي: وَاللَّيْثُ, كَذَلِكَ.
وقال مالك, وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُعَدُّ عَلَيْهِ كُلُّ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: هَذَا تَكْلِيفُ مَا لاَ يُطَاقُ, وَقَدْ يَسْقُطُ مِنْ السُّنْبُلِ مَا لَوْ بَقِيَ لاََتَمَّ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ, وَهَذَا لاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ، وَلاَ الْمَنْعُ مِنْهُ أَصْلاً. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا}.

فرض على الخارص أن يترك له ما يأكل هو و أهله رطبا على السعة
659 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا التَّمْرُ: فَفَرْضٌ عَلَى الْخَارِصِ أَنْ يَتْرُكَ لَهُ مَا يَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ رُطَبًا عَلَى السَّعَةِ,
لاَ يُكَلَّفُ عَنْهُ زَكَاةٌ.وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ.
وقال مالك, وَأَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَتْرُكُ لَهُ شَيْئًا.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الَّذِي ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا أَوْ دَعُوا الثُّلُثَ أَوْ الرُّبُعَ"، وَلاَ يَخْتَلِفُ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْخَبَرِ وَهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ الَّذِينَ إجْمَاعُهُمْ الإِجْمَاعُ الْمُتَّبَعُ فِي أَنَّ هَذَا عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ إلَى الأَكْلِ رُطَبًا.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ، حدثنا هُشَيْمٌ, وَزَيْدٌ كِلاَهُمَا: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا حَثْمَةَ الأَنْصَارِيِّ عَلَى خَرْصِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ, فَقَالَ: إذَا وَجَدْت الْقَوْمَ فِي نَخْلِهِمْ قَدْ خَرَفُوا فَدَعْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ, لاَ تَخْرُصُهُ عَلَيْهِمْ.

إن كان زرع أو نخل يسقى بعض العام بعين أو ساقية من نهر أو بماء السماء ..الخ
660 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ كَانَ زَرْعٌ, أَوْ نَخْلٌ يُسْقَى بَعْضَ الْعَامِ بِعَيْنٍ, أَوْ سَاقِيَةٍ مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِمَاءِ السَّمَاءِ,
وَبَعْضَ الْعَامِ بِنَضْحٍ, أَوْ سَانِيَةٍ, أَوْ خَطَّارَةٍ, أَوْ دَلْوٍ, فَإِنْ كَانَ النَّضْحُ زَادَ فِي ذَلِكَ زِيَادَةً ظَاهِرَةً وَأَصْلَحَهُ: فَزَكَاتُهُ نِصْفُ الْعُشْرِ فَقَطْ; وَإِنْ كَانَ لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا، وَلاَ أَصْلَحَ فَزَكَاتُهُ الْعُشْرُ.
قال أبو محمد: وقال أبو حنيفة, وَأَصْحَابُهُ: يُزَكِّي عَلَى الأَغْلَبِ مِنْ ذَلِكَ; وَهُوَ قَوْلٌ رُوِّينَاهُ، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ.
حدثنا حمام، حدثنا أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَاجِيَّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ، حدثنا بَقِيٌّ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قُلْت لِعَطَاءٍ: فِي الْمَالِ يَكُونُ عَلَى الْعَيْنِ أَوْ بَعْلاً عَامَّةَ الزَّمَانِ, ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى الْبِئْرِ يُسْقَى بِهَا فَقَالَ: إنْ كَانَ يُسْقَى بِالْعَيْنِ أَوْ الْبَعْلِ أَكْثَرُ مِمَّا يُسْقَى بِالدَّلْوِ: فَفِيهِ الْعُشْرُ, وَإِنْ كَانَ يُسْقَى بِالدَّلْوِ أَكْثَرُ مِمَّا يُسْقَى بِالْبَعْلِ: فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ, وَعُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولاَنِ هَذَا الْقَوْلَ.
وقال مالك مَرَّةً: إنَّ زَكَاتَهُ بِاَلَّذِي غَذَّاهُ بِهِ وَتَمَّ بِهِ, لاَ أُبَالِي بِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ أَكْثَرَ سَقْيِهِ فَزَكَاتُهُ عَلَيْهِ وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: يُعْطِي نِصْفَ زَكَاتِهِ الْعُشْرُ وَنِصْفُهَا نِصْفُ الْعُشْرِ, وَهَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.
قال أبو محمد: قَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ بِنِصْفِ الْعُشْرِ, وَبِلاَ شَكٍّ أَنَّ السَّمَاءَ تَسْقِيه وَيُصْلِحُهُ مَاءُ السَّمَاءِ; بَلْ قَدْ شَاهَدْنَا جُمْهُورَ السِّقَاءِ بِالْعَيْنِ وَالنَّضْحِ إنْ لَمْ

يَقَعْ عَلَيْهِ مَاءٌ السَّمَاءِ تَغَيَّرَ، وَلاَ بُدَّ, فَلَمْ يَجْعَلْ عليه السلام لِذَلِكَ حُكْمًا, فَصَحَّ أَنَّ النَّضْحَ إذَا كَانَ مُصْلِحًا لِلزَّرْعِ أَوْ النَّخْلِ فَزَكَاتُهُ نِصْفُ الْعُشْرِ فَقَطْ. وَهَذَا مِمَّا تَرَكَ الشَّافِعِيُّونَ فِيهِ صَاحِبًا لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ.

من زرع قمحا أو شعيرا مرتين في العام أو أكثر
661 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ زَرَعَ قَمْحًا أَوْ شَعِيرًا مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ أَوْ أَكْثَرَ,
أَوْ حَمَلَتْ نَخْلَةٌ بَطْنَيْنِ فِي السَّنَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَضُمُّ الْبُرَّ الثَّانِي، وَلاَ الشَّعِيرَ الثَّانِي، وَلاَ التَّمْرَ الثَّانِي إلَى الأَوَّلِ; وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَيْسَ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ لَمْ يُزَكِّهِ; وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ بِانْفِرَادِهِ لَمْ يُزَكِّهِمَا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ جَمَعَا لَوَجَبَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الزَّرْعَيْنِ وَالتَّمْرَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَامَانِ أَوْ أَكْثَرُ; وَهَذَا بَاطِلٌ بِلاَ خِلاَفٍ, وَإِذْ صَحَّ نَفْيُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ عَمَّا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ رَاعَى الْمُجْتَمَعَ, لاَ زَرْعًا مُسْتَأْنَفًا لاَ يُدْرَى أَيَكُونُ أَمْ لاَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

إن كان قمح بكير أو شعير بكير أو تمر بكير و آخر من جنس كل واحد منها مؤخر
662 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ كَانَ قَمْحُ بِكِيرٍ أَوْ شَعِيرُ بِكِيرٍ أَوْ تَمْرُ بِكِيرٍ وَآخَرُ مِنْ جِنْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُؤَخَّرٌ,
فَإِنْ يَبِسَ الْمُؤَخَّرُ أَوْ أَزْهَى قَبْلَ تَمَامِ وَقْتِ حَصَادِ الْبَكِيرِ وَجِدَادِهِ فَهُوَ كُلُّهُ زَرْعٌ وَاحِدٌ وَتَمْرٌ وَاحِدٌ, يَضُمُّ بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ, وَتُزَكَّى مَعًا, إنْ لَمْ يَيْبَسْ الْمُؤَخَّرُ، وَلاَ أَزْهَى إلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْتِ حَصَادِ الْبَكِيرِ فَهُمَا زَرْعَانِ وَتَمْرَانِ, يَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلَى الآخَرِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ زَرْعٍ وَكُلَّ تَمْرٍ فَإِنَّ بَعْضَهُ يَتَقَدَّمُ بَعْضًا فِي الْيُبْسِ وَالإِزْهَاءِ; وَإِنَّ مَا زُرِعَ فِي تَشْرِينَ الأَوَّلِ يَبْدَأُ يُبْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَيْبَسَ مَا زُرِعَ فِي شُبَاطَ, إلاَّ أَنَّهُ لاَ يَنْقَضِي وَقْتُ حَصَادِ الأَوَّلِ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ الثَّانِي; لاَِنَّهَا صِيفَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَلِكَ التَّمْرُ وَأَمَّا إذَا كَانَ لاَ يَجْتَمِعُ وَقْتُ حَصَادِهِمَا، وَلاَ يَتَّصِلُ وَقْتُ إزْهَائِهِمَا فَهُمَا زَمَنَانِ اثْنَانِ كَمَا قَدَّمْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَبْكَرُ مَا صَحَّ عِنْدَنَا يَقِينًا أَنَّهُ يَبْدَأُ بِأَنْ يُزْرَعَ فِي بِلاَدٍ مِنْ شِنْتَ بَرِيَّةَ, وَهِيَ مِنْ

لو حصد قمح أو شعير ثم أخلف في أصوله زرع
663 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ حُصِدَ قَمْحٌ أَوْ شَعِيرٌ ثُمَّ أُخْلِفَ فِي أُصُولِهِ زَرْعٌ
فَهُوَ زَرْعٌ آخَرُ, لاَ يُضَمُّ إلَى الأَوَّلِ; لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

الزكاة واجبة في ذمة صاحب المال لا في عين المال
664 - مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِ الْمَالِ لاَ فِي عَيْنِ الْمَالِ.
قال أبو محمد: وَقَدْ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُ الْمُخَالِفِينَ فِي هَذَا. وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: هُوَ أَنْ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ مِنْ زَمَنِنَا إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ إبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ فَأَعْطَى زَكَاتَهُ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الزَّرْعِ وَمِنْ غَيْرِ ذَلِكَ التَّمْرِ وَمِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الذَّهَبِ وَمِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْفِضَّةِ وَمِنْ غَيْرِ تِلْكَ الإِبِلِ وَمِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْبَقَرِ وَمِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْغَنَمِ: فَإِنَّهُ لاَ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ, وَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ لَهُ, بَلْ سَوَاءٌ أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ, أَوْ مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِهَا, أَوْ مِمَّا يَشْتَرِي, أَوْ مِمَّا يُوهَبُ, أَوْ مِمَّا يُسْتَقْرَضُ. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ لاَ فِي الْعَيْنِ إذْ لَوْ كَانَتْ فِي الْعَيْنِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ

كل مال وجبت فيه زكاة من الأموال التي ذكرنا فسواء تلف ذلك أو بعضه فالزكاة كلها واجبة في ذمة صاحبه
665 - مَسْأَلَةٌ: فَكُلُّ مَالٍ وَجَبَتْ فِيهِ زَكَاةٌ مِنْ الأَمْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا, فَسَوَاءٌ تَلَفَ ذَلِكَ أَوْ بَعْضُهُ
أَكْثَرُهُ أَوْ أَقَلُّهُ إثْرِ إمْكَانِ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهُ, إثْرِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِمَا قَلَّ مِنْ الزَّمَنِ أَوْ كَثُرَ, بِتَفْرِيطٍ تَلَفَ أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ: فَالزَّكَاةُ كُلُّهَا وَاجِبَةٌ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهِ كَمَا كَانَتْ لَوْ لَمْ يَتْلَفْ, وَلاَ فَرْقَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ لاَ فِي عَيْنِ الْمَالِ.
وَإِنَّمَا قلنا: إثْرَ إمْكَانِ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهُ لاَِنَّهُ إنْ أَرَادَ إخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ عَيْنِ الْمَالِ الْوَاجِبَةِ فِيهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ, وَالإِبِلُ وَغَيْرُهَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ, إلاَّ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُزَكَّى بِالْغَنَمِ وَلَهُ غَنَمٌ حَاضِرَةٌ فَهَذَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ مِنْ الْغَنَمِ الْحَاضِرَةِ, وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْطُلَ بِالزَّكَاةِ حَتَّى يَبِيعَ مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}.

و كذلك لو أخرج الزكاة و عزلها ليدفعها إلى المصدق فضاعت الزكاة كلها أو بعضها فعليه إعادتها
666 - مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ وَعَزَلَهَا لِيَدْفَعَهَا إلَى الْمُصَدِّقِ أَوْ إلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَضَاعَتْ الزَّكَاةُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا فَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا كُلِّهَا،
وَلاَ بُدَّ, لِمَا ذَكَرْنَا; وَلاَِنَّهُ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوَصِّلَهَا إلَى مَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِيصَالِهَا إلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ.
وقال أبو حنيفة: إنْ هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَلَمْ يَحُدَّ لِذَلِكَ مُدَّةً فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ بِأَيِّ وَجْهٍ هَلَكَ فَلَوْ هَلَكَ بَعْضُهُ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ فَقَطْ, قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلَفَ, فَإِنْ كَانَ هُوَ اسْتَهْلَكَهُ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ.

أي بر أعطى أو أي شعير في زكاته كان أدنى مما أصاب أو أعلى أجزأه
667 مَسْأَلَةٌ: وَأَيُّ بُرٍّ أَعْطَى, أَوْ أَيُّ شَعِيرٍ: فِي زَكَاتِهِ كَانَ أَدْنَى مِمَّا أَصَابَ أَوْ أَعْلَى: أَجْزَأَهُ,
مَا لَمْ يَكُنْ فَاسِدًا بِعَفَنٍ, أَوْ تَآكُلٍ, فَلاَ يُجْزِئُ، عَنْ صَحِيحٍ, أَوْ مَا كَانَ رَدِيئًا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إنَّمَا عَلَيْهِ بِالنَّصِّ عُشْرُ مَكِيلَةِ مَا أَصَابَ أَوْ نِصْفُ عُشْرِهَا إذَا كَانَتْ

و كذلك القول في زكاة التمر, أي تمر أخرج أجزأه
668 - مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي زَكَاةِ التَّمْرِ, أَيِّ تَمْرٍ أَخْرَجَ أَجْزَأَهُ,
سَوَاءٌ مِنْ جِنْسِ تَمْرِهِ, أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ, أَدْنَى مِنْ تَمْرِهِ أَوْ أَعْلَى, مَا لَمْ يَكُنْ رَدِيًّا كَمَا ذَكَرْنَا, أَوْ مَعْفُونًا أَوْ مُتَآكِلاً, أَوْ الْجُعْرُورُ, أَوْ لَوْنُ الْحُبَيْقِ فَلاَ يُجْزِئُ إخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلاً, وَسَوَاءٌ كَانَ تَمْرُهُ كُلُّهُ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا, وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِتَمْرٍ سَالِمٍ غَيْرِ رَدِيءٍ, وَلاَ مِنْ هَذَيْنِ اللَّوْنَيْنِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}.
حدثنا حمام، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، حدثنا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، حدثنا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ لَوْنَيْنِ مِنْ التَّمْرِ: الْجُعْرُورُ, وَلَوْنُ الْحُبَيْقِ, وَكَانَ النَّاسُ يَتَيَمَّمُونَ شِرَارَ ثِمَارِهِمْ فَيُخْرِجُونَهَا فِي الصَّدَقَةِ; فَنُهُوا، عَنْ ذَلِكَ, وَنَزَلَتْ، {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ

زكاة الغنم
تعريف الغنم في اللغة التي خاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه و سلم
زَكَاةُ الْغَنَمِ.
669 - مَسْأَلَةٌ: الْغَنَمُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْمٌ
يَقَعُ عَلَى الضَّأْنِ وَالْمَاعِزِ, فَهِيَ مَجْمُوعٌ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ. وَكَذَلِكَ أَصْنَافُ الْمَاعِزِ وَالضَّأْنِ, كَضَأْنِ بِلاَدِ السُّودَانِ وَمَاعِزِ الْبَصْرَةِ وَالنَّفَدِ وَبَنَاتِ حَذَفٍ وَغَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ الْمَقْرُونُ الَّذِي نِصْفُهُ خِلْقَةُ مَاعِزٍ, وَنِصْفُهُ ضَأْنٍ, لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ الْغَنَمِ, وَالذُّكُورِ وَالإِنَاثِ سَوَاءٌ. وَاسْمُ الشَّاءِ أَيْضًا: وَاقِعٌ عَلَى الْمَعْزِ وَالضَّأْنِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي اللُّغَةِ. وَلاَ وَاحِدَ لِلْغَنَمِ مِنْ لَفْظِهِ, إنَّمَا يُقَالُ لِلْوَاحِدِ: شَاةٌ, أَوْ مَاعِزَةٌ, أَوْ ضَانِيَةٌ, أَوْ كَبْشٌ, أَوْ تَيْسٌ: هَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

لا زكاة في الغنم حتى يملك المسلم الواحد منها أربعين رأسا حولا كاملا متصلا عربيا قمريا
670 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ زَكَاةَ فِي الْغَنَمِ حَتَّى يَمْلِكَ الْمُسْلِمُ الْوَاحِدُ مِنْهَا أَرْبَعِينَ رَأْسًا حَوْلاً كَامِلاً مُتَّصِلاً عَرَبِيًّا قَمَرِيًّا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذَا, وَسَنَذْكُرُهُ فِي زَكَاةِ الْفَوَائِدِ, إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَيَكْفِي مِنْ هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْمَاشِيَةِ, وَلَمْ يَحُدَّ وَقْتًا، وَلاَ نَدْرِي مِنْ هَذَا الْعُمُومِ مَتَى تَجِبُ الزَّكَاةُ, إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْهَا عليه السلام فِي كُلِّ يَوْمٍ, وَلاَ فِي كُلِّ شَهْرٍ, وَلاَ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ فَصَاعِدًا, هَذَا مَنْقُولٌ بِإِجْمَاعٍ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي أَنَّهَا مَرَّةٌ فِي الْحَوْلِ, فَلاَ يَجِبُ فَرْضٌ إلاَّ بِنَقْلٍ صَحِيحٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَوَجَدْنَا مَنْ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ, أَوْ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ بِنَقْلِ آحَادٍ، وَلاَ بِنَقْلِ تَوَاتُرٍ، وَلاَ بِنَقْلِ إجْمَاعٍ, وَوَجَدْنَا مَنْ أَوْجَبَهَا بِانْقِضَاءِ الْحَوْلِ قَدْ صَحَّ وُجُوبُهَا بِنَقْلِ الإِجْمَاعِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ بِلاَ شَكٍّ; فَالآنُ وَجَبَتْ, لاَ قَبْلَ ذَلِكَ.

إذا تمت في ملكه عاما ففيها شاة سواء كانت كلها ضأنا أو كلها ماعزا أو بعضها
671 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا تَمَّتْ فِي مِلْكِهِ عَامًا كَمَا ذَكَرْنَا, سَوَاءٌ كَانَتْ كُلُّهَا مَاعِزًا, أَوْ بَعْضُهَا أَكْثَرُهَا أَوْ أَقَلُّهَا ضَأْنًا, وَسَائِرُهَا كَذَلِكَ مِعْزَى:- فَفِيهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ
لاَ نُبَالِي ضَانِيَةً كَانَتْ أَوْ مَاعِزَةً, كَبْشًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى مِنْ كِلَيْهِمَا, كُلُّ رَأْسٍ تُجْزِئُ مِنْهُمَا، عَنِ الضَّأْنِ, وَعَنِ الْمَاعِزِ; وَهَكَذَا مَا زَادَتْ حَتَّى تَتِمَّ مِائَةً وَعِشْرِينَ كَمَا ذَكَرْنَا.
فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَزَادَتْ لَوْ بَعْضَ شَاةٍ كَذَلِكَ عَامًا كَامِلاً كَمَا ذَكَرْنَا فَفِيهَا شَاتَانِ كَمَا قلنا, إلَى أَنْ تَتِمَّ مِائَتَيْ شَاةٍ.
فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَزَادَتْ وَلَوْ بَعْضَ شَاةٍ كَذَلِكَ عَامًا كَامِلاً وَصَفْنَا فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ كَمَا حَدَّدْنَا وَهَكَذَا إلَى أَنْ تُتِمَّ أَرْبَعمِائَةِ شَاةٍ كَمَا وَصَفْنَا فَإِذَا أَتَمَّتْهَا كَذَلِكَ عَامًا كَامِلاً كَمَا ذَكَرْنَا فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ.
وَأَيَّ شَاةٍ أَعْطَى صَاحِبُ الْغَنَمِ فَلَيْسَ لِلْمُصَدِّقِ، وَلاَ لاَِهْلِ الصَّدَقَاتِ رَدُّهَا, مِنْ غَنَمِهِ كَانَتْ أَوْ مِنْ غَيْرِ غَنَمِهِ, مَا لَمْ تَكُنْ هَرِمَةً أَوْ مَعِيبَةً; فَإِنْ أَعْطَاهُ هَرِمَةً; أَوْ مَعِيبَةً فَالْمُصَدِّقُ مُخَيَّرٌ, إنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَأَجْزَأَتْ عَنْهُ, وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَكَلَّفَهُ فَتِيَّةً سَلِيمَةً, وَلاَ نُبَالِي كَانَتْ تُجْزِئُ فِي الأَضَاحِيِّ أَوْ لاَ تُجْزِئُ.
وَالْمُصَدِّقُ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُهُ الإِمَامُ الْوَاجِبَةُ طَاعَتُهُ أَوْ أَمِيرُهُ فِي قَبْضِ الصَّدَقَاتِ،

وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ تَيْسًا ذَكَرًا إلاَّ أَنْ يَرْضَى صَاحِبُ الْغَنَمِ; فَيَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ;، وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ أَفْضَلَ الْغَنَمِ, فَإِنْ كَانَتْ الَّتِي تَرْبَى أَوْ السَّمِينَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَفْضَلِ الْغَنَمِ جَازَ أَخْذُهَا; فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا فَاضِلَةً أَخَذَ مِنْهَا إنْ أَعْطَاهُ صَاحِبُهَا, سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا كَانَ صَاحِبُهَا حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا إذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ مَا ذَكَرْنَا أَجَزَّأَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى الأَنْصَارِيُّ، حدثنا أَبِي، حدثنا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى الْبَحْرَيْنِ: "هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ; فَمَنْ سَأَلَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا, وَمَنْ سَأَلَ فَوْقَهَا فَلاَ يُعْطَ". ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: "فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ" فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَشَاتَانِ; فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إلَى ثَلَثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ; فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلاَثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ "فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةٌ وَاحِدَةٌ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا, وَلاَ يُخْرِجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةً, وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ, وَلاَ تَيْسٌ إلاَّ مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ".
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السَّلِيمِ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ النُّفَيْلِيِّ، حدثنا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابَ الصَّدَقَةِ فَلَمْ يُخْرِجْهُ إلَى عُمَّالِهِ حَتَّى قُبِضَ عليه السلام, فَعَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى قُبِضَ, ثُمَّ عَمِلَ بِهِ عُمَرُ حَتَّى قُبِضَ, فَكَانَ فِيهِ ذِكْرُ الْفَرَائِضِ: "وَفِي الْغَنَمِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ, إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ, فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَشَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ, فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ إلَى ثَلَثِمِائَةٍ, فَإِنْ

كَانَتْ الْغَنَمُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ, وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ الْمِائَةَ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُحَمَّدٌ، هُوَ ابْنُ مُقَاتِلٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، حدثنا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيِّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: "فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ, وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ, فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ".
فَفِي هَذِهِ الأَخْبَارِ نَصُّ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ خِلاَفٌ.
فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: لاَ يُؤْخَذُ مِنْ الضَّأْنِ إلاَّ ضَانِيَةٌ, وَمِنْ الْمَعْزِ إلاَّ مَاعِزَةٌ فَإِنْ كَانَا خَلِيطَيْنِ أُخِذَ مِنْ الأَكْثَرِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ, لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٍ; بَلْ الَّذِي ذَكَرُوا خِلاَفٌ لِلسُّنَنِ الْمَذْكُورَةِ, وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى جَمْعِ الْمَعْزَى مَعَ الضَّأْنِ, وَعَلَى أَنَّ اسْمَ غَنَمٍ يَعُمُّهَا, وَأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْ الْمَاعِزِ, وَمِنْ الضَّأْنِ; وَلَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ فِي حُكْمِهَا فَرْقًا لَبَيَّنَهُ, كَمَا خَصَّ التَّيْسَ, وَإِنْ وُجِدَ فِي اللُّغَةِ اسْمُ التَّيْسِ يَقَعُ عَلَى الْكَبْشِ وَجَبَ أَنْ لاَ يُؤْخَذَ فِي الصَّدَقَةِ إلاَّ بِرِضَا الْمُصَدِّقِ. وَالْعَجَبُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ أَخْذِ الْمَاعِزَةِ، عَنِ الضَّأْنِ أَجَازَ أَخْذَ الذَّهَبِ، عَنِ الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةَ، عَنِ الذَّهَبِ وَهُمَا عِنْدَهُ صِنْفَانِ, يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِمَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً.
وَالْخِلاَفُ أَيْضًا فِي مَكَان آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: إنْ مَلَكَ مِائَةَ شَاةٍ وَعِشْرِينَ شَاةً وَبَعْضَ شَاةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ شَاةٌ وَاحِدَةٌ حَتَّى يَتِمَّ فِي مِلْكِهِ مِائَةٌ وَإِحْدَى وَعِشْرُونَ, وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ شَاةٍ وَبَعْضَ شَاةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ شَاتَانِ حَتَّى يَتِمَّ فِي مِلْكِهِ مِائَتَا شَاةٍ وَشَاةٌ. وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ "فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ" كَمَا أَوْرَدْنَاهُ.

قال أبو محمد: فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا ذَكَرُوا, وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي أَوْرَدْنَا "فَإِنْ زَادَتْ" وَلَمْ يَقُلْ "وَاحِدَةٌ" فَوَجَدْنَا الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا مُتَّفِقَيْنِ عَلَى أَنَّهَا إنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ شَاةً أَوْ عَلَى مِائَتَيْ شَاةٍ فَقَدْ انْتَقَلَتْ الْفَرِيضَةُ. وَوَجَدْنَا حَدِيثَ أَبِي بَكْرٍ يُوجِبُ انْتِقَالَ الْفَرِيضَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ وَعَلَى الْمِائَتَيْنِ, فَكَانَ هَذَا عُمُومًا لِكُلِّ زِيَادَةٍ, وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ أَصْلاً, فَصَارَ مَنْ قَالَ بِقَوْلِنَا قَدْ أَخَذَ بِالْحَدِيثَيْنِ, فَلَمْ يُخَالِفْ وَاحِدًا مِنْهُمَا; وَصَارَ مَنْ قَالَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ, مُخَصِّصًا لَهُ بِلاَ بُرْهَانٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَهَاهُنَا أَيْضًا خِلاَفٌ آخَرُ: وَهُوَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ, ثُمَّ اتَّفَقَ شُعْبَةُ, وَسُفْيَانُ كِلاَهُمَا، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا زَادَتْ الْغَنَمُ وَاحِدَةٌ عَلَى ثَلَثِمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ, فَكُلُّ مَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَهُوَ كَذَلِكَ.
قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ يَلْزَمُ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ لاَ سِيَّمَا الْمَالِكِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ أَقْوَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ, وَالْحَنَفِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مَا عَظُمَتْ بِهِ الْبَلْوَى لاَ يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِد: أَنْ يَقُولُوا بِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ; لأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمِائَتَيْ شَاةٍ إذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَإِنَّ الْفَرِيضَةَ تَنْتَقِلُ وَيَجِبُ فِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ, فَكَذَلِكَ إذَا زَادَتْ عَلَى الثَّلاَثِمِائَةِ وَاحِدَةٌ أَيْضًا, فَيَجِبُ أَنْ تَنْتَقِلَ الْفَرِيضَةُ, وَلاَ سِيَّمَا وَالْحَنَفِيُّونَ قَدْ قَلَّدُوا إبْرَاهِيمَ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ الْبَقَرَةِ الْوَاحِدَةِ تَزِيدُ عَلَى أَرْبَعِينَ بَقَرَةً, وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا فِي الْبَقَرِ وَقْصًا مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ أَنْ يُقَلِّدُوهُ هَاهُنَا وَيَقُولُوا: لَمْ نَجِدْ فِي الْغَنَمِ وَقْصًا مِنْ مِائَةٍ وَثَمَانٍ وَتِسْعِينَ شَاةً; لاَ سِيَّمَا وَمَعَهُمْ هَاهُنَا فِي الْغَنَمِ قِيَاسٌ مُطَرَّدٌ, وَلَيْسَ مَعَهُمْ فِي الْبَقَرِ قِيَاسٌ أَصْلاً, وَكُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ فِي الْبَقَرِ فَهُوَ لاَزِمٌ لَهُمْ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثِمِائَةِ مِنْ الْغَنَمِ مِنْ قوله تعالى :{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة} ًوَنَحْوُ ذَلِكَ وَهَلاَّ قَالُوا: هَذَا مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَا جَهِلَهُ إبْرَاهِيمُ.

فَإِنْ قَالُوا: إنَّ خِلاَفَ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ, وَخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ, وَعَنْ عَلِيٍّ, وَعَنْ صَحِيفَةِ ابْنِ حَزْمٍ.
قلنا: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الأَخْبَارِ إلاَّ وَقَدْ خَالَفْتُمُوهَا, فَلَمْ تَكُنْ حُجَّةٌ فِيمَا خَالَفْتُمُوهُ فِيهِ, وَكَانَ حُجَّةٌ عِنْدَكُمْ فِيمَا اشْتَهَيْتُمْ, وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا!!
قال أبو محمد: كُلُّهُ خَبْطٌ لاَ مَعْنَى لَهُ وَإِنَّمَا نُرِيهِمْ تَنَاقُضَهُمْ وَتَحَكُّمَهُمْ فِي الدِّينِ بِتَرْكِ الْقِيَاسِ لِلسُّنَنِ إذَا وَافَقَتْ تَقْلِيدَهُمْ, وَبِتَرْكِ السُّنَنِ لِلْقِيَاسِ كَذَلِكَ, وَبِتَرْكِهِمَا جَمِيعًا كَذَلِكَ وَأَمَّا مَنْ رَاعَى فِي الشَّاةِ الْمَأْخُوذَةِ مَا تُجْزِئُ مِنْ الآُضْحِيَّةِ وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ أَخْطَأَ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا قَالَ نَصٌّ وَلاَ إجْمَاعٌ; فَكَيْفَ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَخْذِ الْجَذَعَةِ فَمَا دُونَهَا فِي زَكَاةِ الإِبِلِ, وَلاَ تُجْزِئُ فِي الآُضْحِيَّةِ, وَإِنَّمَا قَالَ عليه السلام لاَِبِي بُرْدَةَ "وَلَنْ تُجْزِئَ جَذَعَةٌ لاَِحَدٍ بَعْدَكَ" يَعْنِي فِي الآُضْحِيَّةِ; لاَِنَّهُ عَنْهَا سَأَلَهُ, وَقَدْ صَحَّ النَّصُّ بِإِيجَابِ الْجَذَعَةِ فِي زَكَاةِ الإِبِلِ; فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَعْنِ إلاَّ الآُضْحِيَّةَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا إنْ كَانَتْ الْغَنَمُ كُلُّهَا كَرَائِمُ أَخَذَ مِنْهَا بِرِضَا صَاحِبِهَا; فَلاَِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ كَرَائِمِ الْغَنَم, وَهَذَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي الْغَنَمِ، وَلاَ بُدَّ مَا لَيْسَ بِكَرَائِمَ, وَأَمَّا إذَا كَانَتْ كُلُّهَا كَرَائِمُ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا: هَذِهِ كَرَائِمُ هَذِهِ الْغَنَمِ; لَكِنْ يُقَالُ هَذِهِ كَرِيمَةٌ مِنْ هَذِهِ الْغَنَمِ الْكَرَائِمِ.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: يُؤْمَرُ الْمُصَدِّقُ أَنْ يَصْدَعَ الْغَنَمَ صَدْعَيْنِ فَيَخْتَارُ صَاحِبُ الْغَنَمِ خَيْرَ الصَّدْعَيْنِ وَيَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ مِنْ الآخَرِ.
وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَنَّهُ قَالَ: يُفَرِّقُ الْغَنَمَ أَثْلاَثًا, ثُلُثُ خِيَارٍ, وَثُلُثُ رُذَالٍ, وَثُلُثُ وَسَطٍ; ثُمَّ تَكُونُ الصَّدَقَةُ فِي الْوَسَطِ.
قال أبو محمد: هَذَا لاَ نَصَّ فِيهِ، وَلَكِنْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لاَ يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ هَرِمَةً، وَلاَ ذَاتَ عَوَارٍ، وَلاَ تَيْسًا.

وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرِ الصِّدِّيقُ: "وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتهمْ عَلَيْهَا".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنِي بِشْرُ بْنُ عَاصِم بْنِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ سُفْيَانَ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ: قُلْ لَهُمْ: إنِّي لاَ آخُذُ الشَّاةَ الأَكُولَةَ، وَلاَ فَحْلَ الْغَنَمِ, وَلاَ الرُّبَى، وَلاَ الْمَاخِضَ, وَلَكِنِّي آخُذُ الْعَنَاقَ وَالْجَذَعَةَ، وَالثَّنِيَّةَ وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ الْمَالِ وَخِيَارِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارِبِيِّ أَنَّ عُمَرَ بَعَثَهُ مُصْدِقًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ.

و ما صغر عن أن يسمى شاة لكن يسمى خروفا أو جديا أو سخلة لم يجز أن يؤخذ في الصدقة الواجبة
672 - مَسْأَلَةٌ: وَمَا صَغُرَ، عَنْ أَنْ يُسَمَّى: شَاةً, لَكِنْ يُسَمَّى خَرُوفًا, أَوْ جَدْيًا, أَوْ سَخْلَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ فِي الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ،
وَلاَ أَنْ يُعَدَّ فِيمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ، إلاَّ أَنْ يُتِمَّ سَنَةً، فَإِذَا أَتَمَّهَا عُدَّ, وَأُخِذَتْ الزَّكَاةُ مِنْهُ.
قال أبو محمد: هَذَا مَكَانٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُضَمُّ الْفَوَائِدُ كُلُّهَا مِنْ الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ, وَالْمَوَاشِي, إلَى مَا عِنْدَ صَاحِبِ الْمَالِ فَتُزَكَّى مَعَ مَا كَانَ عِنْدَهُ, وَلَوْ لَمْ يَفِدْهَا إلاَّ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِسَاعَةٍ. هَذَا إذَا كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ تَجِبُ فِي مِقْدَارِ مَا مَعَهُ الزَّكَاةُ, وَإِلاَّ فَلاَ, وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نِصَابٌ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ, وَلاَ يُبَالِي أَنَقَصَ فِي دَاخِلِ الْحَوْلِ، عَنِ النِّصَابِ أَمْ لاَ قَال: فَإِنْ مَاتَتْ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ كُلَّهَا وَبَقِيَ مِنْ عَدَدِ الْخِرْفَانِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ: فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَ ثَلاَثِينَ عِجْلاً فَصَاعِدًا، أَوْ خَمْسًا مِنْ الْفُصْلاَنِ فَصَاعِدًا، عَامًا كَامِلاً دُونَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا. وقال مالك: لاَ تُضَمُّ فَوَائِدُ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، إلَى مَا عِنْدَ الْمُسْلِمِ مِنْهَا بَلْ يُزَكَّى كُلُّ مَالٍ بِحَوْلِهِ, حَاشَا رِبْحَ الْمَالِ وَفَوَائِدَ الْمَوَاشِي كُلِّهَا فَإِنَّهَا تُضَمُّ إلَى مَا عِنْدَهُ وَيُزَكَّى الْجَمِيعُ بِحَوْلِ مَا كَانَ عِنْدَهُ، وَلَوْ لَمْ يُفِدْهَا إلاَّ قَبْلَ الْحَوْلِ بِسَاعَةٍ، إلاَّ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ فَائِدَةِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْمَاشِيَةِ, مِنْ غَيْرِ الْوِلاَدَةِ, فَلَمْ يَرَ أَنْ يُضَمَّ إلَى مَا عِنْدَ الْمَرْءِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إلاَّ إذَا كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ مِنْهَا مِقْدَارًا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ. وَرَأَى أَنْ تُضَمَّ وِلاَدَةُ الْمَاشِيَةِ خَاصَّةً إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْهَا, سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ مِنْهَا تَجِبُ فِي مِقْدَارِهِ الزَّكَاةُ أَوْ لاَ تَجِبُ فِي مِقْدَارِهِ الزَّكَاةُ.
وقال الشافعي: لاَ تُضَمُّ فَائِدَةٌ أَصْلاً إلَى مَا عِنْدَهُ, إلاَّ أَوْلاَدَ الْمَاشِيَةِ فَقَطْ, فَإِنَّهَا تُعَدُّ مَعَ أُمَّهَاتِهَا, وَلَوْ لَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِهَا إلاَّ قَبْلَ الْحَوْلِ بِسَاعَةٍ, هَذَا إذَا كَانَتْ الآُمَّهَاتُ نِصَابًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ, فَإِنْ نَقَصَتْ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ، عَنِ النِّصَابِ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا.
قال أبو محمد: أَمَّا تَنَاقُضُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ وَتَقْسِيمِهِمَا فَلاَ خَفَاءَ بِهِ, لاَِنَّهُمَا قَسَّمَا تَقْسِيمًا لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَهُ هَاهُنَا أَيْضًا تَنَاقُضٌ أَشْنَعُ مِنْ تَنَاقُضِ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَهُوَ

أَنَّهُ رَأَى أَنْ يُرَاعَى أَوَّلُ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ دُونَ وَسَطٍ, وَرَأَى أَنْ تُعَدَّ أَوْلاَدُ الْمَاشِيَةِ مَعَ أُمَّهَاتِهَا وَلَوْ لَمْ تَضَعْهَا إلاَّ قَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي بِسَاعَةٍ, ثُمَّ رَأَى فِي أَرْبَعِينَ خَرُوفًا صِغَارًا وَمَعَهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ مُسِنَّةٌ أَنَّ فِيهَا الزَّكَاةَ, وَهِيَ تِلْكَ الْمُسِنَّةُ فَقَطْ; فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مُسِنَّةٌ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا, فَإِنْ كَانَتْ مَعَهُ مِائَةُ خَرُوفٍ وَعِشْرُونَ خَرُوفًا صِغَارًا كُلَّهَا وَمَعَهَا مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ: إنْ كَانَ فِيهَا مُسِنَّتَانِ فَصَدَقَتُهَا تَانِكَ الْمُسِنَّتَانِ مَعًا, وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَعَهُمَا إلاَّ مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ فَلَيْسَ فِيهَا إلاَّ تِلْكَ الْمُسِنَّةِ وَحْدَهَا فَقَطْ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مُسِنَّةٌ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ أَصْلاً. وَهَكَذَا قَالَ فِي الْعَجَاجِيلِ وَالْفُصْلاَنِ أَيْضًا, وَلَوْ مَلَكَهَا سَنَةً فَأَكْثَرَ!!
قال أبو محمد: وَهَذِهِ شَرِيعَةُ إبْلِيسَ لاَ شَرِيعَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَعْنِي قَوْلَهُ: إنْ كَانَ مَعَ الْمِائَةِ خَرُوفٌ وَالْعِشْرُونَ خَرُوفًا: مُسِنَّتَانِ زَائِدَتَانِ أُخِذَتَا، عَنْ زَكَاةِ الْخِرْفَانِ كِلْتَاهُمَا, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا إلاَّ مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ: أُخِذَتْ وَحْدُهَا، عَنْ زَكَاةِ الْخِرْفَانِ، وَلاَ مَزِيدَ وَمَا جَاءَ بِهَذَا قَطُّ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ وَلاَ قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلاَ مِنْ التَّابِعِينَ, وَلاَ أَحَدُ نَعْلَمُهُ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ سَدِيدٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ مَرَّةً فِي أَرْبَعِينَ خَرُوفًا: يُؤْخَذُ، عَنْ زَكَاتِهَا شَاةٌ مُسِنَّةٌ, وَبِهِ يَأْخُذُ زُفَرُ, ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنْ قَالَ: بَلْ يُؤْخَذُ، عَنْ زَكَاتِهَا خَرُوفٌ مِنْهَا; وَبِهِ يَأْخُذُ أَبُو يُوسُفَ; ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنْ قَالَ: لاَ زَكَاةَ فِيهَا; وَبِهِ يَأْخُذُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ.
وقال مالك كَقَوْلِ زُفَرَ, وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ, وَالشَّافِعِيُّ, كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ, وَقَالَ الشَّعْبِيُّ, وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ كَقَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ رَأَى أَنْ تُعَدَّ الْخِرْفَانُ مَعَ أُمَّهَاتِهَا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ كَانَ مُصَدِّقًا فِي مَخَالِيفِ الطَّائِفِ, فَشَكَا إلَيْهِ أَهْلُ الْمَاشِيَةِ تَصْدِيقَ الْغِذَاءِ, وَقَالُوا: إنْ

كُنْت مُعْتَدًّا بِالْغِذَاءِ فَخُذْ مِنْهُ صَدَقَتَهُ. قَالَ عُمَرُ: فَقُلْ لَهُمْ: إنَّا نَعْتَدُّ بِالْغِذَاءِ كُلِّهَا حَتَّى السَّخْلَةُ يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي عَلَى يَدِهِ وَقُلْ لَهُمْ: إنِّي لاَ آخُذُ الشَّاةَ الأَكُولَةَ، وَلاَ فَحْلَ الْغَنَمِ, وَلاَ الرُّبَى, وَلاَ الْمَاخِضَ، وَلَكِنِّي آخُذُ الْعَنَاقُ, وَالْجَذَعَةَ, وَالثَّنِيَّةَ: وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ الْمَالِ, وَخِيَارِهِ.
وَرُوِّينَا هَذَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ وَمِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سُفْيَانَ. مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ هَذَا.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ.
أَوَّلُهَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَهُ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي هَذَا غَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ لاَ يَأْخُذُ مِنْ مَالِ زَكَاةٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: لاَ يُزَكَّى حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ: تَعْنِي الْمَالَ الْمُسْتَفَادَ.
وَبِهِ إلَى سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَنْ اسْتَفَادَ مَالاً فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.
وَبِهِ إلَى سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَنْ اسْتَفَادَ مَالاً فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.
فَهَذَا عُمُومٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ, وَعَائِشَةَ, وَعَلِيٍّ, وَابْنِ عُمَرَ، رضي الله عنهم،, لَمْ يَخُصُّوا فَائِدَةَ مَاشِيَةٍ بِوِلاَدَةٍ مِنْ سَائِرِ مَا يُسْتَفَادُ; وَلَيْسَ لاَِحَدٍ أَنْ يَقُولَ إنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَوْلاَدَ الْمَاشِيَةِ إلاَّ كَانَ كَاذِبًا عَلَيْهِمْ, وَقَائِلاً بِالْبَاطِلِ الَّذِي لَمْ يَقُولُوهُ قَطُّ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِينَ حَكَى عَنْهُمْ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَعُدَّ عَلَيْهِمْ أَوْلاَدَ

الْمَاشِيَةِ مَعَ أُمَّهَاتِهَا: قَدْ كَانَ فِيهِمْ بِلاَ شَكٍّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لإِنَّ سُفْيَانَ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَيَّامَ عُمَرَ رضي الله عنه وَلِيَ الأَمْرَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِسَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ, وَبَقِيَ عَشْرَ سِنِينَ, وَمَاتَ بَعْدَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً, وَكَانُوا بِالطَّائِفِ, وَأَهْلُ الطَّائِفِ أَسْلَمُوا قَبْلَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ عَامٍ وَنِصْفٍ وَرَأَوْهُ عَلَيْهِ فَقَدْ صَحَّ الْخِلاَفُ فِي هَذَا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، بِلاَ شَكٍّ, وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَلَيْسَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ بَعْضٍ; وَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ مَا افْتَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذْ يَقُولُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ هَذَا، عَنْ عُمَرَ مِنْ طَرِيقٍ مُتَّصِلَةٍ إلاَّ مِنْ طَرِيقَيْنِ: إحْدَاهُمَا: مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ, وَكِلاَهُمَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ أَوْ مِنْ طَرِيقِ ابْنٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ لَمْ يُسَمَّ. وَالثَّانِيَةُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ, وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَالرَّابِعُ أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ: خَالَفُوا قَوْلَ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا, فَقَالُوا: لاَ يُعْتَدُّ بِمَا وَلَدَتْ الْمَاشِيَةُ إلاَّ أَنْ تَكُونَ الآُمَّهَاتُ دُونَ الأَوْلاَدِ عَدَدًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ تُعَدُّ عَلَيْهِمْ الأَوْلاَدُ, وَلَيْسَ هَذَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ.
وَالْخَامِسُ أَنَّهُمْ لاَ يَلْتَفِتُونَ مَا قَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه بِأَصَحِّ مِنْ هَذَا الإِسْنَادِ, أَشْيَاءَ لاَ يُعْرَفُ لَهُ فِيهَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, إذَا خَالَفَ رَأْيَ مَالِكٍ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ: كَتَرْكِ الْحَنَفِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ قَوْلَ عُمَرَ: الْمَاءُ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ. وَتَرْكِ الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ: أَخْذَ عُمَرَ الزَّكَاةَ مِنْ الرَّقِيقِ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ, وَصِفَةِ أَخْذِهِ الزَّكَاةَ مِنْ الْخَيْلِ. وَتَرْكِ الْحَنَفِيِّينَ إيجَابَ عُمَرَ الزَّكَاةَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ, وَلاَ يَصِحُّ خِلاَفُهُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،. وَتَرْكِ الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ: أَمْرَ عُمَرَ الْخَارِصَ بِأَنْ يَتْرُكَ لاَِصْحَابِ النَّخْلِ مَا يَأْكُلُونَهُ لاَ يَخْرُصُهُ عَلَيْهِمْ, وَغَيْرِ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فَقَدْ وَضَحَ أَنَّ احْتِجَاجَهُمْ

بِعُمَرَ إنَّمَا هُوَ حَيْثُ وَافَقَ شَهَوَاتِهِمْ لاَ حَيْثُ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ وَهَذَا عَظِيمٌ فِي الدِّينِ جِدًّا.
قال أبو محمد: الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ هُوَ الْقُرْآنُ وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ فَصَاعِدًا كَمَا وَصَفْنَا, وَأَوْجَبَ فِيهَا شَاةً أَوْ شَاتَيْنِ أَوْ فِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةً, وَأَسْقَطَهَا عَمَّا عَدَا ذَلِكَ. وَوَجَدْنَا الْخِرْفَانَ وَالْجِدْيَانَ لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ شَاةٍ، وَلاَ اسْمُ شَاءٍ فِي اللُّغَةِ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا بِهَا دِينَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَخَرَجَتْ الْخِرْفَانُ, وَالْجِدْيَانُ، عَنْ أَنْ تَجِبَ فِيهَا زَكَاةٌ. وَأَيْضًا فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ لاَ يُؤْخَذَ خَرُوفٌ، وَلاَ جَدْيٌ فِي الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ، عَنِ الشَّاءِ فَأَقَرُّوا بِأَنَّهُ لاَ يُسَمَّى شَاةً، وَلاَ لَهُ حُكْمُ الشَّاءِ, فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا زَكَاةٌ, فَلاَ تَجُوزُ هِيَ فِي الزَّكَاةِ بِغَيْرِ نَصٍّ فِي ذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ زَكَاةَ مَاشِيَةٍ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهَا حَوْلٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ.
وَأَمَّا مَنْ مَلَكَ خِرْفَانًا أَوْ عُجُولاً أَوْ فُصْلاَنًا سَنَةً كَامِلَةً فَالزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَ تَمَامِ الْعَامِ، لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُسَمَّى غَنَمًا, وَبَقَرًا وَإِبِلاً.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، حدثنا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ هِلاَلِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: "أَتَانَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسْتُ إلَيْهِ, فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "إنَّ فِي عَهْدِي أَنْ لاَ نَأْخُذَ مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ".
قال أبو محمد: لَوْ أَرَادَ أَنْ لاَ يُؤْخَذَ هُوَ فِي الزَّكَاةِ لَقَالَ: "أَنْ لاَ نَأْخُذَ رَاضِعَ لَبَنٍ" لَكِنْ لَمَّا مُنِعَ مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ وَرَاضِعُ لَبَنٍ اسْمٌ لِلْجِنْسِ صَحَّ بِذَلِكَ

أَنْ لاَ تُعَدَّ الرَّوَاضِعُ فِيمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ.
وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا عَابَ هِلاَلَ بْنَ خَبَّابٍ, إلاَّ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ قَالَ: لَقِيته وَقَدْ تَغَيَّرَ, وَهَذَا لَيْسَ جُرْحَةٌ, لإِنَّ هُشَيْمًا أَسَنُّ مِنْ يَحْيَى بِنَحْوِ عِشْرِينَ سَنَةً, فَكَانَ لِقَاءُ هُشَيْمٍ لِهِلاَلٍ قَبْلَ تَغَيُّرِهِ بِلاَ شَكٍّ.
وَأَمَّا سُوَيْدٌ فَأَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَتَى إلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ عليه السلام بِنَحْوِ خَمْسِ لَيَالٍ, وَأَفْتَى أَيَّامَ عُمَرَ رضي الله عنه.
قال أبو محمد: وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ, وَأَبُو يُوسُفَ فَطَرَدَا قَوْلَهُمَا, إذْ أَوْجَبَا أَخْذَ خَرُوفٍ صَغِيرٍ فِي الزَّكَاةِ، عَنْ أَرْبَعِينَ خَرُوفًا فَصَاعِدًا, وُلِدَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ مَاتَتْ أُمَّهَاتُهَا.
وَأَخْذُ مِثْلِ هَذَا فِي الزَّكَاةِ عَجَبٌ جِدًّا.
وَأَمَّا إذَا أَتَمَّتْ سَنَةً فَاسْمُ شَاةٍ يَقَعُ عَلَيْهَا فَهِيَ مَعْدُودَةٌ وَمَأْخُوذَةٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَحَصَلُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنْ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ قَلَّدُوا عُمَرَ رضي الله عنه، وَهُمْ قَدْ خَالَفُوهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا, فَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ أَنْ تُعَدَّ الأَوْلاَدُ مَعَ الآُمَّهَاتِ إلاَّ إذَا كَانَتْ الآُمَّهَاتُ نِصَابًا; وَلَمْ يَقُلْ عُمَرُ كَذَلِكَ.
وَحَصَلَ مَالِكٌ عَلَى قِيَاسٍ فَاسِدٍ مُتَنَاقِضٍ; لاَِنَّهُ قَاسَ فَائِدَةَ الْمَاشِيَةِ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْفَوَائِدِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ مِنْ عَدِّ أَوْلاَدِهَا مَعَهَا, ثُمَّ نَقَضَ قِيَاسَهُ فَرَأَى أَنْ لاَ تُضَمَّ فَائِدَةُ الْمَاشِيَةِ بِهِبَةٍ, أَوْ مِيرَاثٍ, أَوْ شِرَاءِ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْهَا إلاَّ إنْ كَانَ مَا عِنْدَهُ نِصَابًا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ وَرَأَى أَنْ تُضَمَّ أَوْلاَدُهَا إلَيْهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الآُمَّهَاتُ نِصَابًا تَجِبُ فِي الزَّكَاةِ.
وَهَذِهِ تَقَاسِيمَ لاَ يُعْرَفُ أَحَدُ قَالَ بِهَا قَبْلَهُمْ, وَلاَ هُمْ اتَّبَعُوا عُمَرَ, وَلاَ طَرَدُوا الْقِيَاسَ, وَلاَ اتَّبَعُوا نَصَّ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ.
"تم الجزء الخامس من كتاب المحلى للإمام العلامة أبي محمد على المشهور بابن حزم ولله الحمد ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء السادس مفتتحا "بزكاة البقر" فنسأل الله التوفيق لاتمامه أنه على ما يشاء قدير وبالاجابة جدير"

المجلد السادس
تابع كتاب الزكاة

زكاة البقر
الجواميس صنف من البقر يضم بعضها إلى بعض
بسم الله الرحمن الرحيم
زَكَاةُ الْبَقَرِ
673 - مَسْأَلَةٌ: الْجَوَامِيسُ صِنْفٌ مِنْ الْبَقَرِ يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ زَكَاةَ فِي أَقَلِّ مِنْ خَمْسِينَ مِنْ الْبَقَرِ ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا, أَوْ ذُكُورًا, وَإِنَاثًا, فَإِذَا تَمَّتْ خَمْسُونَ رَأْسًا مِنْ الْبَقَرِ وَأَتَمَّتْ فِي مِلْكِ صَاحِبِهَا عَامًا قَمَرِيًّا مُتَّصِلاً كَمَا قَدَّمْنَا: فَفِيهَا بَقَرَةٌ, إلَى أَنْ تَبْلُغَ مِائَةً مِنْ الْبَقَرِ, فَإِذَا بَلَغَتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ عَامًا قَمَرِيًّا فَفِيهَا بَقَرَتَانِ, وَهَكَذَا أَبَدًا, فِي كُلِّ خَمْسِينَ مِنْ الْبَقَرِ بَقَرَةٌ, وَلاَ شَيْءَ زَائِدٌ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ;، وَلاَ يُعَدُّ فِيهَا مَا لَمْ يُتِمَّ حَوْلاً كَمَا ذَكَرْنَا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِي خَمْسٍ مِنْ الْبَقَرِ شَاةٌ, وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ; وَفِي خَمْسِ عَشَرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ: وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْبَقَرِ بَقَرَةٌ.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَمٍ، حدثنا يَزِيدُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ قَالَ: فِي كِتَابِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ الْبَقَرَ يُؤْخَذُ مِنْهَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ الإِبِلِ, يَعْنِي فِي الزَّكَاةِ, قَالَ: وَقَدْ سُئِلَ عَنْهَا غَيْرُهُمْ فَقَالُوا: فِيهَا مَا فِي الإِبِلِ.
يَزِيدُ هَذَا هُوَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَوْ ابْنُ زُرَيْعٍ.
حَدَّثَنَا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: فِي كُلِّ خَمْسٍ مِنْ الْبَقَرِ شَاةٌ; وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ, وَفِي خَمْسَ عَشَرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ:

فَرَائِضُ الْبَقَرِ مِثْلُ فَرَائِضِ الإِبِلِ, غَيْرَ الأَسْنَانِ فِيهَا, فَإِذَا كَانَتْ الْبَقَرُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بَقَرَةٌ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ, فَإِذَا زَادَتْ عَلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا بَقَرَتَانِ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةٌ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَبَلَغَنَا أَنَّ قَوْلَهُمْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "فِي كُلِّ ثَلاَثِينَ تَبِيعٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةٌ" أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَخْفِيفًا لاَِهْلِ الْيَمَنِ, ثُمَّ كَانَ هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يُرْوَى.
حدثنا حمام، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ، حدثنا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ دَاوُد، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: اُسْتُعْمِلْت عَلَى صَدَقَاتِ عَكَّ, فَلَقِيت أَشْيَاخًا مِمَّنْ صَدَقَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَاخْتَلَفُوا عَلَيَّ, فَمِنْهُمْ مَنْ قَال: اجْعَلْهَا مِثْلَ صَدَقَةِ الإِبِلِ, وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي ثَلاَثِينَ تَبِيعٌ, وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي أَرْبَعِينَ بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَأَبِي قِلاَبَةَ وَآخَرُ قَالُوا: صَدَقَاتُ الْبَقَرِ كَنَحْوِ صَدَقَاتِ الإِبِلِ, فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ, وَفِي كُلِّ عَشْرٍ شَاتَانِ, وَفِي خَمْسَ عَشَرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ, فَإِنْ زَادَتْ فَبَقَرَتَانِ مُسِنَّتَانِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ, فَإِذْ زَادَتْ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ خَالِدِ الْفَهْمِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ خَلْدَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ صَدَقَةَ الْبَقَرِ صَدَقَةُ الإِبِلِ, غَيْرَ أَنَّهُ لاَ أَسْنَانَ فِيهَا.
فَهَؤُلاَءِ كُتَّابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ, وَجَمَاعَةٌ أَدَّوْا الصَّدَقَاتِ عَلَى عَهْدِ

رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ, وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ خَلْدَةَ, وَالزُّهْرِيُّ, وَأَبُو قِلاَبَةَ, وَغَيْرُهُمْ.
وَاحْتَجَّ هَؤُلاَءِ بِمَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَسُورِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَمٍ، حدثنا يَزِيدُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ قَالَ: إنَّ فِي كِتَابِ صَدَقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي كِتَابِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: "أَنَّ الْبَقَرَ يُؤْخَذُ مِنْهَا مِثْلُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الإِبِلِ".
وَبِمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حدثنا مَعْمَرُ قَالَ: أَعْطَانِي سِمَاكُ بْنُ الْفَضْلِ كِتَابًا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى مَالِكِ بْنِ كُفْلاَنِسَ الْمُصْعَبِيِّينَ فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالأَنْهَارُ الْعُشْرُ, وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّنَا نِصْفُ الْعُشْرِ، وَفِي الْبَقَرِ مِثْلُ الإِبِلِ".
وَبِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ هَذَا هُوَ آخِرُ الأَمْرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ الأَمْرَ بِالتَّبِيعِ: نُسِخَ بِهَذَا.
وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ الْخَبَرِ مَا مِنْ صَاحِبِ بَقَرٍ لاَ يُؤَدِّي حَقَّهَا إلاَّ بُطِحَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالُوا: فَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ بَقَرٍ إلاَّ مَا خَصَّهُ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ.
وَقَالُوا: مَنْ عَمِلَ مِثْلَ قَوْلِنَا كَانَ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ; وَمَنْ خَالَفَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنَّ مَا وَجَبَ بِيَقِينٍ لَمْ يَسْقُطْ إلاَّ بِمِثْلِهِ.
وَقَالُوا: قَدْ وَافَقْنَا أَكْثَرَ خُصُومِنَا عَلَى أَنَّ الْبَقَرَ تُجْزِئُ، عَنْ سَبْعَةٍ كَالْبَدَنَةِ; وَأَنَّهَا تُعَوَّضُ مِنْ الْبَدَنَةِ, وَأَنَّهَا لاَ يُجْزِئُ فِي الآُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ مِنْ هَذِهِ إلاَّ مَا يُجْزِئُ مِنْ تِلْكَ, وَأَنَّهَا تُشْعَرُ إذَا كَانَتْ لَهَا أَسْنِمَةٌ كَالْبُدْنِ; فَوَجَبَ قِيَاسُ صَدَقَتِهَا عَلَى صَدَقَتِهَا.
وَقَالُوا: لَمْ نَجِدْ فِي الآُصُولِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَاشِيَةِ نِصَابًا مَبْدَؤُهُ ثَلاَثُونَ; لَكِنْ إمَّا خَمْسَةٌ كَالإِبِلِ، وَالأَوَاقِي, وَالأَوْسَاقِ وَأَمَّا أَرْبَعُونَ كَالْغَنَمِ, فَكَانَ حَمْلُ الْبَقَرِ عَلَى الأَكْثَرِ وَهُوَ الْخَمْسَةُ أَوْلَى.

وَقَالُوا: إنْ احْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ فِي كُلِّ ثَلاَثِينَ تَبِيعٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ فَنَعَمْ, نَحْنُ نَقُولُ: بِهَذَا, أَوْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ إسْقَاطُ الزَّكَاةِ عَمَّا دُونَ ثَلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ, لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِدَلِيلٍ.
قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَحُكْمُهُ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ, وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ خَلْدَةَ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَالزُّهْرِيِّ, وَهَؤُلاَءِ فُقَهَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ, فَيَلْزَمُ الْمَالِكِيِّينَ اتِّبَاعَهُمْ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ, وَإِلاَّ فَقَدْ تَنَاقَضُوا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ شَيْءٌ, فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ, وَهُوَ الَّذِي لَهُ سَنَتَانِ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ, فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ; لَهَا أَرْبَعُ سِنِين; ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا تَبِيعَتَانِ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ سَبْعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ, ثُمَّ هَكَذَا أَبَدًا, لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ عَشْرًا زَائِدَةً, فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِي كُلِّ ثَلاَثِينَ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ تَبِيعٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ.
وَهَذَا قَوْلٌ صَحَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه مِنْ طَرِيقِ, أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ. وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ قَوْمٍ صَدَّقُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ شَيْءٌ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ, وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ, وطَاوُوس, وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى, وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَهْلِ الشَّامِ, وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَرِوَايَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَاحْتَجَّ هَؤُلاَءِ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ, وَأَبِي وَائِلٍ كِلاَهُمَا، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُعَاذٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعًا, وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً مُسِنَّةً وقال بعضهم: ثَنِيَّةٌ".
وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُوس، عَنْ مُعَاذٍ مِثْلُهُ, وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ.
وَعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مُعَاذٍ: أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الأَوْقَاصِ, مَا بَيْنَ الثَّلاَثِينَ إلَى الأَرْبَعِينَ, وَمَا بَيْنَ الأَرْبَعِينَ إلَى الْخَمْسِينَ قَالَ: "لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ".

وَمِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: "فِي كُلِّ ثَلاَثِينَ بَقَرَةً تَبِيعٌ جَذَعٌ قَدْ اسْتَوَى قَرْنَاهُ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ".
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هَذَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَرَائِضُ الْبَقَرِ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ صَدَقَةٌ, فَإِذَا بَلَغَتْ ثَلاَثِينَ فَفِيهَا عِجْلٌ رَائِعٌ جَذَعٌ, إلَى أَنْ تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ, فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ, إلَى أَنْ تَبْلُغَ سَبْعِينَ, فَإِذَا بَلَغَتْ سَبْعِينَ فَإِنَّ فِيهَا بَقَرَةً وَعِجْلاً جَذَعًا, فَإِذَا بَلَغَتْ ثَمَانِينَ فَفِيهَا مُسِنَّتَانِ, ثُمَّ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ".
وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْجَزَرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ, وَبَعَثَهُ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ, وَهَذِهِ نُسْخَتُهُ", وَفِيهِ: "فِي كُلِّ ثَلاَثِينَ بَاقُورَةً تَبِيعٌ جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَاقُورَةً بَقَرَةٌ".
وَبِمَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيِّ، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الرَّقِّيُّ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَزَّارُ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ شَبَّوَيْهِ الْمَرْوَزِيِّ، حدثنا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، حدثنا بَقِيَّةُ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَمَّا بَعَثَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً جَذَعًا أَوْ جَذَعَةً, وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً بَقَرَةً مُسِنَّةً, قَالُوا: فَالأَوْقَاصُ قَالَ: مَا أَمَرَنِي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ; فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ, فَقَالَ: "لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ".
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ, فَقَدْ تَقَصَّيْنَاهُ لَهُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا نَعْلَمُ تَقَصَّوْهُ لاَِنْفُسِهِمْ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ ثَلاَثِينَ شَيْءٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ الْبَقَرُ ثَلاَثِينَ فَفِيهَا تَبِيعٌ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا بَقَرَةٌ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ

فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا بَقَرَةٌ وَرُبْعٌ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ سَبْعِينَ; فَإِذَا بَلَغَتْ سَبْعِينَ فَفِيهَا تَبِيعٌ وَمُسِنَّةٌ.
وَرُوِّينَا هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ1 وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ فَذَكَرَهُ كَمَا أَوْرَدْنَا; وَهِيَ رِوَايَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ أَيْضًا، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُمَوِّهَ هَؤُلاَءِ بِالْخَبَرِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ، عَنْ مُعَاذٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَيْنَ الأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسِينَ: "لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ" يَعْنِي مِنْ الْبَقَرِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ شَيْءٌ, فَإِذَا بَلَغَتْ ثَلاَثِينَ فَفِيهَا تَبِيعٌ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ; فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ, فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا بَقَرَةٌ وَجُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ بَقَرَةٍ; وَهَكَذَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ تَزِيدُ فَفِيهَا جُزْءٌ آخَرُ زَائِدٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ بَقَرَةٍ، هَكَذَا إلَى السِّتِّينَ, فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا تَبِيعَانِ، ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا إلاَّ فِي كُلِّ عَشْرَةٍ زَائِدَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلْت حَمَّادًا، هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فَقُلْت إنْ كَانَتْ خَمْسِينَ بَقَرَةً فَقَالَ: بِحِسَابِ ذَلِكَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْحَجَّاجِ، هُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: يُحَاسَبُ صَاحِبُ الْبَقَرِ بِمَا فَوْقَ الْفَرِيضَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ الْعُكْلِيُّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ مَكْحُولٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي صَدَقَةِ الْبَقَرِ: مَا زَادَ فَبِالْحِسَابِ.
قال أبو محمد: هَذَا عُمُومُ إبْرَاهِيمَ, وَحَمَّادٍ, وَمَكْحُولٍ, وَظَاهِرُهُ أَنَّ كُلَّ مَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثِينَ إلَى الأَرْبَعِينَ وَعَلَى الأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ فَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ زَائِدَةٌ جُزْءٌ مِنْ بَقَرَةٍ.
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ بَعْضَ شُيُوخٍ كَانُوا قَدْ صَدَّقُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً بَقَرَةٌ, مُخَالِفِينَ لِمَنْ جَعَلَ فِي أَقَلَّ مِنْ الأَرْبَعِينَ شَيْئًا.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْخَمْسِينَ، وَلاَ مَا فَوْقَهَا شَيْءٌ، وَأَنَّ صَدَقَةَ الْبَقَرِ إنَّمَا هِيَ فِي كُلِّ خَمْسِينَ بَقَرَةً بَقَرَةٌ فَقَطْ هَكَذَا أَبَدًا.
كَمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "حماد بن أبي سلمة" وهو خطأ.

قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ عُمَّالُ ابْنِ الزُّبَيْرِ, وَابْنِ عَوْفٍ وَعُمَّالِهِ, يَأْخُذُونَ مِنْ كُلِّ خَمْسِينَ بَقَرَةً بَقَرَةً، وَمِنْ كُلِّ مِائَةٍ بَقَرَتَيْنِ, فَإِذَا كَثُرَتْ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ بَقَرَةً بَقَرَةٌ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا حَضَرْنَا ذِكْرُهُ مِمَّا رُوِّينَاهُ مِنْ اخْتِلاَفِ النَّاسِ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ، وَكُلُّ أَثَرٍ رُوِّينَاهُ فِيهَا وَوَجَبَ النَّظَرُ لِلْمَرْءِ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَدِينُ بِهِ رَبَّهُ تَعَالَى فِي دِينِهِ.
فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّكَاةَ فَرْضٌ وَاجِبٌ فِي الْبَقَرِ.
كَمَا حَدَّثَنَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنِ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّد، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، حدثنا الأَعْمَشُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: "انْتَهَيْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ" فَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ، وَلاَ بَقَرٍ، وَلاَ غَنَمٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلاَّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَهُ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا, وَتَطَؤُهُ بِأَظْلاَفِهَا, كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولاَهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ".
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ لاَ يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إلاَّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قَطُّ, وَأُقْعِدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَسِيرُ عَلَيْهِ بِقَوَائِمِهَا وَأَخْفَافِهَا، وَلاَ صَاحِبِ بَقَرٍ لاَ يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إلاَّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ، وَأُقْعِدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِقَوَائِمِهَا", وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ.
قال أبو محمد: فَوَجَبَ فَرْضًا طَلَبُ ذَلِكَ الْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا, حَتَّى لاَ يَتَعَدَّى قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه}.
فَنَظَرْنَا الْقَوْلَ الأَوَّلَ فَوَجَدْنَا الآثَارَ الْوَارِدَةَ فِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُنْقَطِعَةٌ وَالْحُجَّةُ لاَ تَجِبُ إلاَّ بِمُتَّصِلٍ, إلاَّ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْقَائِلِينَ بِالْمُرْسَلِ وَالْمُنْقَطِعِ مِنْ الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ أَنْ يَقُولُوا: بِهَا, وَإِلاَّ فَقَدْ تَنَاقَضُوا فِي أُصُولِهِمْ وَتَحَكَّمُوا بِالْبَاطِلِ، لاَ سِيَّمَا مَعَ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ: إنَّ هَذِهِ الأَخْبَارَ بِهَا نَسْخُ إيجَابِ التَّبِيعِ, وَالْمُسِنَّةِ: فِي الثَّلاَثِينَ وَالأَرْبَعِينَ

فَلَوْ قُبِلَ مُرْسَلُ أَحَدٍ لَكَانَ الزُّهْرِيُّ أَحَقَّ بِذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِالْحَدِيثِ، وَلاَِنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ طَائِفَةً مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
وَلَمْ يَحْكِ الْقَوْلَ فِي الثَّلاَثِينَ بِالتَّبِيعِ، وَفِي الأَرْبَعِينَ بِالْمُسِنَّةِ إلاَّ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ، لاَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ, وَوَافَقَ الزُّهْرِيَّ عَلَى ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ، فَهَذَا كُلُّهُ يُوجِبُ عَلَى الْمَالِكِيِّينَ الْقَوْلَ بِهَذَا أَوْ إفْسَادَ أُصُولِهِمْ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَوْ صَحَّ وَأُسْنِدَ مَا خَالَفْنَاهُ أَصْلاً.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِعُمُومِ الْخَبَرِ مَا مِنْ صَاحِبِ بَقَرٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا، وَلاَ يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا وَقَوْلَهُمْ: إنَّ هَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ بَقَرٍ: فَإِنَّ هَذَا لاَزِمٌ لِلْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ, الْمُحْتَجِّينَ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْعُرُوضِ بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآيَةُ وَالْمُحْتَجِّينَ بِهَذَا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَسَلِ وَسَائِرِ مَا احْتَجُّوا فِيهِ بِمِثْلِ هَذَا, لاَ مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ أَصْلاً.
وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عَلَيْنَا بِهَذَا، لاَِنَّنَا وَإِنْ كُنَّا لاَ يَحِلُّ عِنْدَنَا مُفَارِقَةُ الْعُمُومِ إلاَّ لِنَصٍّ آخَرَ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ شَرْعُ شَرِيعَةٍ إلاَّ بِنَصٍّ صَحِيحٍ, وَنَحْنُ نُقِرُّ وَنَشْهَدُ أَنَّ فِي الْبَقَرِ زَكَاةً مَفْرُوضَةً يُعَذِّبُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يُؤَدِّهَا الْعَذَابَ الشَّدِيدَ, مَا لَمْ يَغْفِرْ لَهُ بِرُجُوحِ حَسَنَاتِهِ أَوْ مُسَاوَاتِهَا لِسَيِّئَاتِهِ, إلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بَيَانُ الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ مِنْهَا, وَلاَ بَيَانَ الْعَدَدِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْهَا, وَلاَ مَتَى تُؤَدَّى; وَلَيْسَ الْبَيَانُ لِلدِّيَانَةِ مَوْكُولاً إلَى الآرَاءِ وَالأَهْوَاءِ، بَلْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي قَالَ لَهُ رَبُّهُ وَبَاعِثُهُ {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ}.
وَلَمْ يَصِحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا أَوْجَبُوهُ فِي الْخَمْسِ فَصَاعِدًا مِنْ الْبَقَرِ، وَقَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ الْمُتَيَقَّنُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ عَدَدٍ مِنْ الْبَقَرِ زَكَاةٌ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ، عَنْ إيجَابِ فَرْضِ ذَلِكَ فِي عَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ بِغَيْرِ نَصٍّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَقَطَ تَعَلُّقُهُمْ بِالْعُمُومِ هَاهُنَا, وَلَوْ كَانَ عُمُومًا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ لَمَا خَالَفْنَاهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ مَنْ زَكَّى الْبَقَرَ كَمَا قَالُوا فَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يُزَكِّهَا كَمَا قَالُوا فَلَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ أَدَّى فَرْضَهُ، وَأَنَّ مَا صَحَّ بِيَقِينٍ وُجُوبُهُ لَمْ يَسْقُطْ إلاَّ بِيَقِينٍ آخَرَ: فَهَذَا لاَزِمٌ لِمَنْ قَالَ: إنَّ مَنْ تَدَلَّكَ فِي الْغُسْلِ فَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ; وَالْغُسْلُ وَاجِبٌ بِيَقِينٍ، فَلاَ يَسْقُطُ إلاَّ بِيَقِينٍ مِثْلِهِ، وَلِمَنْ أَوْجَبَ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ نَفْسِهَا، وَمِثْلُ هَذَا لَهُمْ كَثِيرٌ جِدًّا.

وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّ هَذَا لاَ يَلْزَمُ عِنْدَنَا; لإِنَّ الْفَرَائِضَ لاَ تَجِبُ إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ. وَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَ فِي الاِسْتِدْلاَلِ فَإِنَّهُ يُرِيدُ إيجَابَ الْفَرَائِضِ وَشَرْعِ الشَّرَائِعِ بِاخْتِلاَفٍ; لاَ نَصَّ فِيهِ, وَهَذَا بَاطِلٌ; وَلَمْ يَتَّفِقْ قَطُّ عَلَى وُجُوبِ إيعَابِ جَمِيعِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ، وَلاَ عَلَى التَّدَلُّكِ فِي الْغُسْلِ; ، وَلاَ عَلَى إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي خَمْسِ مِنْ الْبَقَرِ فَصَاعِدًا إلَى الْخَمْسِينَ.
وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ اسْتِدْلاَلُهُمْ هَذَا صَحِيحًا لَوْ وَافَقْنَاهُمْ عَلَى وُجُوبِ كُلِّ ذَلِكَ ثُمَّ أَسْقَطْنَا وُجُوبَهُ بِلاَ بُرْهَانٍ، وَنَحْنُ لَنْ نُوَافِقَهُمْ قَطُّ عَلَى وُجُوبِ غُسْلٍ فِيهِ تَدَلُّكٌ، وَلاَ عَلَى إيجَابِ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ, وَلاَ عَلَى إيجَابِ زَكَاةٍ فِي خَمْسٍ مِنْ الْبَقَرِ فَصَاعِدًا، وَإِنَّمَا وَافَقْنَاهُمْ عَلَى إيجَابِ الْغُسْلِ دُون تَدَلُّكٍ, وَعَلَى إيجَابِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ لاَ كُلِّهِ; وَعَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي عَدَدٍ مَا مِنْ الْبَقَرِ لاَ فِي كُلِّ عَدَدٍ مِنْهَا، فَزَادُوا هُمْ بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ إيجَابَ التَّدَلُّكِ, وَمَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ, وَالزَّكَاةَ فِي خَمْسٍ مِنْ الْبَقَرِ فَصَاعِدًا; وَهَذَا شَرْعٌ بِلاَ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ, وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، فَهَذَا يَلْزَمُ ضَبْطُهُ، لِئَلاَّ يُمَوِّهَ فِيهِ أَهْلُ التَّمْوِيهِ بِالْبَاطِلِ, فَيَدَّعُوا إجْمَاعًا حَيْثُ لاَ إجْمَاعَ, وَيُشَرِّعُوا الشَّرَائِعَ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ, وَيُخَالِفُوا الإِجْمَاعَ الْمُتَيَقَّنَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقِيَاسِ الْبَقَرِ عَلَى الإِبِلِ فِي الزَّكَاةِ فَلاَزِمٌ لاَِصْحَابِ الْقِيَاسِ لُزُومًا لاَ انْفِكَاكَ لَهُ، فَلَوْ صَحَّ شَيْءٌ مِنْ الْقِيَاسِ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ صَحِيحًا1 وَمَا نَعْلَمُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ فَرْقًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ. وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ مَنْ يَقِيسُ مَا يَسْتَحِلُّ بِهِ فَرْجَ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ فِي النِّكَاحِ مِنْ الصَّدَاقِ عَلَى مَا تُقْطَعُ فِيهِ يَدُ السَّارِقِ, وَمَنْ يَقِيسُ حَدَّ الشَّارِبِ عَلَى حَدِّ الْقَاذِفِ, وَمَنْ يَقِيسُ السَّقَمُونْيَا عَلَى الْقَمْحِ وَالتَّمْرِ, وَيَقِيسُ الْحَدِيدَ, وَالرَّصَاصَ وَالصُّفْرَ عَلَى الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ; وَيَقِيسُ الْجِصَّ عَلَى الْبُرِّ وَالتَّمْرِ, فِي الرِّبَا, وَيَقِيسُ الْجَوْزَ عَلَى الْقَمْحِ فِي الرِّبَا; وَسَائِرِ تِلْكَ الْمَقَايِيسِ السَّخِيفَةِ وَتِلْكَ الْعِلَلِ الْمُفْتَرَاةِ الْغَثَّةِ: أَنْ يَقِيسَ الْبَقَرَ عَلَى الإِبِلِ فِي الزَّكَاةِ، وَإِلاَّ فَقَدْ تَحَكَّمُوا بِالْبَاطِلِ وَأَمَّا نَحْنُ فَالْقِيَاسُ كُلُّهُ عِنْدَنَا بَاطِلٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَمْ نَجِدْ فِي الآُصُولِ مَا يَكُونُ وَقْصُهُ ثَلاَثِينَ, فَإِنَّهُ عِنْدَنَا تَخْلِيطٌ وَهَوَسٌ لَكِنَّهُ لاَزِمٌ أَصَحُّ لُزُومٍ لِمَنْ قَالَ مُحْتَجًّا لِبَاطِلٍ قَوْلَهُ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ مَا بَيْنَ الأَرْبَعِينَ وَالسِّتِّينَ مِنْ الْبَقَرِ: إنَّنَا لَمْ نَجِدْ فِي الآُصُولِ مَا يَكُونُ وَقْصُهُ تِسْعَةَ عَشَرَ, وَلَكِنَّ الْقَوْمَ مُتَحَكِّمُونَ.
ـــــــ
1 هنا بحاشية النسخة رقم "14" بخط غير جيد – وهو غير خط كاتبها – ما نصه "هذه وقاحة! هيهات الابل من البقر.

فَسَقَطَ كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَنَّا, وَظَهَرَ لُزُومُهُ لِلْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ, لاَ سِيَّمَا لِمَنْ قَالَ: بِالْقَوْلِ الْمَشْهُورِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ, الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّقْ فِيهِ بِشَيْءٍ أَصْلاً.
ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ فِي الثَّلاَثِينَ تَبِيعًا, وَفِي الأَرْبَعِينَ مُسِنَّةً, وَلَمْ يُوجِبْ بَيْنَ ذَلِكَ، وَلاَ بَعْدَ الأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ شَيْئًا: فَوَجَدْنَا الآثَارَ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا، عَنْ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ مُرْسَلَةً كُلَّهَا, إلاَّ حَدِيثَ بَقِيَّةَ; لإِنَّ مَسْرُوقًا لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا; وَبَقِيَّةَ ضَعِيفٌ لاَ يُحْتَجُّ بِنَقْلِهِ, أَسْقَطَهُ وَكِيعٌ وَغَيْرُهُ, وَالْحُجَّةُ لاَ تَجِبُ إلاَّ بِالْمُسْنَدِ مِنْ نَقْلِ الثِّقَاتِ.
فإن قيل: إنَّ مَسْرُوقًا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا فَقَدْ كَانَ بِالْيَمَنِ رَجُلاً أَيَّامَ كَوْنِ مُعَاذٍ هُنَالِكَ; وَشَاهَدَ أَحْكَامَهُ, فَهَذَا عِنْدَهُ، عَنْ مُعَاذٍ بِنَقْلِ الْكَافَّةِ.
قلنا: لَوْ أَنَّ مَسْرُوقًا ذَكَرَ أَنَّ الْكَافَّةَ أَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ، عَنْ مُعَاذٍ لَقَامَتْ الْحُجَّةُ بِذَلِكَ; فَمَسْرُوقٌ هُوَ الثِّقَةُ الإِمَامُ غَيْرُ الْمُتَّهَمِ: لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ قَطُّ هَذَا.وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُقَوَّلَ مَسْرُوقٌ رحمه الله مَا لَمْ يَقُلْ فَيُكْذَبُ عَلَيْهِ; وَلَكِنْ لَمَّا أَمْكَنَ فِي ظَاهِرِ الأَمْرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ مَسْرُوقٍ هَذَا الْخَبَرُ، عَنْ تَوَاتُرٍ, أَوْ عَنْ ثِقَةٍ، أَوْ عَمَّنْ لاَ تَجُوزُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ: لَمْ يَجُزْ الْقَطْعُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِالظَّنِّ الَّذِي هُوَ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ, وَنَحْنُ نَقْطَعُ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَوْ كَانَ عِنْدَ مَسْرُوقٍ، عَنْ ثِقَةٍ لَمَا كَتَمَهُ, وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا طَمَسَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتَكَفِّلُ بِحِفْظِ الذِّكْرِ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِ عليه السلام الْمُتِمِّ لِدِينِهِ: لَنَا هَذَا الطَّمْسُ حَتَّى لاَ يَأْتِيَ إلاَّ مِنْ طَرِيقٍ وَاهِيَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَأَيْضًا: فَإِنْ زَمُّوا أَيْدِيَهُمْ وَقَالُوا: هُوَ حُجَّةٌ, وَالْمُرْسَلُ هَاهُنَا وَالْمُسْنَدُ سَوَاءٌ.
قلنا لَهُمْ: فَلاَ عَلَيْكُمْ خُذُوا مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ بِعَيْنِهَا مَا حَدَّثَنَاهُ حُمَامُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِشْوَرُ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْحُذَافِيِّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ هُوَ أَبُو وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الأَجْدَعِ قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إلَى الْيَمَنِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ قِيمَتَهُ مِنْ الْمَعَافِرِيِّ".
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَسُورُ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَمٍ، حدثنا جَرِيرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مُعَاذٍ وَهُوَ بِالْيَمَنِ: "أَنَّ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ أَوْ سُقِيَ غِيلاً الْعُشْرُ, وَفِيمَا سُقِيَ بِالْغَرْبِ نِصْفُ الْعُشْرِ, وَفِي الْحَالِمِ وَالْحَالِمَةِ دِينَارٌ أَوْ عِدْلُهُ مِنْ الْمُعَافِرِ".
وَبِهِ إلَى أَبِي عُبَيْدٍ: حدثنا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: "أَنَّهُ مَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ فَإِنَّهُ لاَ يُفْتَنُ عَنْهَا; وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ, عَلَى كُلِّ حَالِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ دِينَارٌ وَافٍ أَوْ عِدْلُهُ مِنْ الْمَعَافِرِ, فَمَنْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى رُسُلِي فَإِنَّ لَهُ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَمَنْ مَنَعَهُ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ".
فَهَذِهِ رِوَايَةُ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُعَاذٍ, وَهُوَ حَدِيثُ زَكَاةِ الْبَقَرِ بِعَيْنِهِ, وَمُرْسَلٌ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ, وَآخَرُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، فَإِنْ كَانَتْ مُرْسَلاَتُهُمْ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ صَحِيحَةٌ وَاجِبًا أَخْذُهَا فَمُرْسَلاَتُهُمْ هَذِهِ صَحِيحَةٌ وَاجِبٌ أَخْذُهَا, وَإِنْ كَانَتْ مُرْسَلاَتُهُمْ هَذِهِ لاَ تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ فَمُرْسَلاَتُهُمْ تِلْكَ لاَ تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ.
فإن قيل: فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ بِمَا فِي هَذِهِ الْمُرْسَلاَتِ، وَلاَ تَقُولُونَ: بِتِلْكَ, فَكَيْف هَذَا.
قلنا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: مَا قلنا بِهَذِهِ، وَلاَ بِتِلْكَ, وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ أَنْ نَقُولَ بِمُرْسَلٍ لَكِنَّا أَوْجَبْنَا الْجِزْيَةَ عَلَى كُلِّ كِتَابِيٍّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ, وَلَمْ نَخُصَّ مِنْهُ امْرَأَةً، وَلاَ عَبْدًا, وَأَمَّا بِهَذِهِ الآثَارِ فَلاَ.
قال أبو محمد: لاَ سِيَّمَا الْحَنَفِيِّينَ فَإِنَّهُمْ خَالَفُوا مُرْسَلاَتِ مُعَاذٍ تِلْكَ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ، عَنِ الأَوْقَاصِ وَالْعَسَلِ: كَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُوس: "أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أُتِيَ بِوَقْصِ الْبَقَرِ وَالْعَسَلِ فَلَمْ يَأْخُذْهُ فَقَالَ: كِلاَهُمَا لَمْ يَأْمُرْنِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ", فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ مُعَاذٍ حُجَّةً إذَا وَافَقَ هَوَى الْحَنَفِيِّينَ وَرَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلاَ يَكُونُ حُجَّةً

إذَا لَمْ يُوَافِقْهُمَا, مَا نَدْرِي أَيُّ دِينٍ يَبْقَى مَعَ هَذَا الْعَمَلِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ وَالضَّلاَلِ وَمِنْ أَنْ يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِصَحِيفَةِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قلنا: هِيَ مُنْقَطِعَةٌ أَيْضًا لاَ تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ, وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْجَزَرِيُّ الَّذِي رَوَاهَا مُتَّفَقٌ عَلَى تَرْكِهِ وَأَنَّهُ لاَ يُحْتَجُّ بِهِ. فَإِنْ أَبَيْتُمْ وَلَجَجْتُمْ وَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ شَدَدْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ فَدُونَكُمُوهَا.
كَمَا حَدَّثْنَهَا حُمَامُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، حدثنا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حدثنا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْجَزَرِيِّ، حدثنا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ, وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ, وَهَذِهِ نُسْخَتُهُ" فَذَكَرَ الْكِتَابَ. وَفِيهِ: "وَفِي كُلِّ ثَلاَثِينَ بَاقُورَةً تَبِيعٌ, جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَاقُورَةً بَقَرَةٌ, وَفِيهِ أَيْضًا وَفِي كُلِّ خَمْسِ أَوَاقِيَّ مِنْ الْوَرِقِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, فَمَا زَادَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ".
حدثنا حمام قَالَ: حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَابُلِيِّ بِبَغْدَادَ، حدثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ, وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ جَدِّهِمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَتَبَ هَذَا الْكِتَابَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ أَمَّرَهُ عَلَى الْيَمَنِ وَفِيهِ الزَّكَاةُ: "لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ, وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ, فَإِذَا بَلَغَتْ الذَّهَبَ قِيمَةَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِي قِيمَةِ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ, حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِينَارًا، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ دِينَارًا فَفِيهَا دِينَارٌ". قَالَ أَبُو أُوَيْسٍ: وَهَذَا، عَنْ ابْنَيْ حَزْمٍ أَيْضًا: "فَرَائِضُ صَدَقَةِ الْبَقَرِ لَيْسَ فِيمَا دُونَ ثَلاَثِينَ صَدَقَةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ الثَّلاَثِينَ فَفِيهَا فَحْلٌ جَذَعٌ, إلَى أَنْ تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ, فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ إلَى أَنْ تَبْلُغَ سِتِّينَ, فَإِذَا بَلَغَتْ سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ"

قال أبو محمد: أَبُو أُوَيْسٍ ضَعِيفٌ وَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ مَعَ ذَلِكَ وَوَاللَّهِ لَوْ صَحَّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا مَا تَرَدَّدْنَا فِي الأَخْذِ بِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: مَا نَرَى الْمَالِكِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ, وَالْحَنَفِيِّينَ إلاَّ قَدْ انْحَلَّتْ عَزَائِمُهُمْ فِي الأَخْذِ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ الْمَذْكُورِ وَبِصَحِيفَةِ ابْنِ حَزْمٍ, وَلاَ بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ; أَوْ الأَخْذِ بِأَنْ لاَ صَدَقَةَ فِي ذَهَبٍ لَمْ يَبْلُغْ أَرْبَعِينَ دِينَارًا إلاَّ بِالْقِيمَةِ بِالْفِضَّةِ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَالزُّهْرِيِّ, وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ وَغَيْرِهِمْ, وَأَنْ يَأْخُذَ الْمَالِكِيُّونَ, وَالشَّافِعِيُّونَ بِوُجُوبِ الأَوْقَاصِ فِي الدَّرَاهِمِ وَبِإِيجَابِ الْجِزْيَةِ عَلَى النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ, أَوْ التَّحَكُّمِ فِي الدِّينِ بِالْبَاطِلِ فَيَأْخُذُوا مَا اشْتَهَوْا وَيَتْرُكُوا مَا اشْتَهَوْا; وَهَذِهِ وَاَللَّهِ أَخْزَى فِي الْعَاجِلَةِ وَالآجِلَةِ وَأَلْزَمُ وَأَنْدَمُ!!
وَالْحَنَفِيُّونَ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّاوِيَ إذَا تَرَكَ مَا رَوَى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ رِوَايَتِهِ, وَالزُّهْرِيُّ هُوَ رَوَى صَحِيفَةَ ابْنِ حَزْمٍ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ وَتَرَكَهَا فَهَلاَّ تَرَكُوهَا وَقَالُوا: لَمْ يَتْرُكْهَا لاَ لِفَضْلِ عِلْمٍ كَانَ عِنْدَهُ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُمْ حَدِيثُ مُعَاذٍ لَكَانَ مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ الأَخْبَارِ بِأَنَّ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ كَزَكَاةِ الإِبِلِ مِثْلُهَا فِي الإِسْنَادِ وَوَارِدَةٌ بِحُكْمٍ زَائِدٍ لاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ, وَكَانَ الآخِذُ بِتِلْكَ آخِذًا بِهَذِهِ, وَكَانَ الآخِذُ بِهَذِهِ, دُونَ تِلْكَ عَاصِيًا لِتِلْكَ.
فَبَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ طَرِيقِ الآثَارِ جُمْلَةً.
فَإِنْ تَعَلَّقُوا بِعَلِيٍّ, وَمُعَاذٍ, وَأَبِي سَعِيدٍ، رضي الله عنهم. قلنا لَهُمْ: الْخَبَرُ، عَنْ مُعَاذٍ مُنْقَطِعٌ, وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ لَمْ يَرْوِهِ إلاَّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى مُحَمَّدٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ و أَمَّا، عَنْ عَلِيٍّ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَلاَ يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، سِوَاهُ وَقَدْ رُوِّينَا قَبْلُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خِلاَفَ ذَلِكَ، وَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ صَاحِبٍ إذَا خَالَفَهُ صَاحِبٌ آخَرُ.
ثُمَّ إنْ لَجَجْتُمْ فِي التَّعَلُّقِ بِعَلِيٍّ هَاهُنَا فَاسْمَعُوا قَوْلَ عَلِيٍّ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ نَفْسِهَا.
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ

أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فِي خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ شَاةٌ وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ وَفِي خَمْسَ عَشَرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ, وَفِي سِتٍّ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ, فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ, حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا وَثَلاَثِينَ، فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ أَوْ قَالَ: الْجَمَلُ حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا جَذَعَةٌ, حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا وَسَبْعِينَ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعِينَ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ, فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ, وَفِي الْبَقَرِ فِي كُلِّ ثَلاَثِينَ بَقَرَةً تَبِيعٌ حَوْلِيِّ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيِّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ سِنًّا فَوْقَ سِنٍّ رَدَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ شَاتَيْنِ.
قال أبو محمد: مَا نَرَى الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ إلاَّ قَدْ بَرُدَ نَشَاطُهُمْ فِي الاِحْتِجَاجِ بِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ, وَلاَ بُدَّ لَهُمْ مِنْ الأَخْذِ بِكُلِّ مَا رُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ فِي هَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ, مِمَّا خَالَفُوهُ وَأَخَذَ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنْ السَّلَفِ, أَوْ تَرْكِ الاِحْتِجَاجَ بِمَا لَمْ يَصِحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ التَّلاَعُبِ بِالسُّنَنِ وَالْهَزْلِ فِي الدِّينِ أَنْ يَأْخُذُوا مَا أَحَبُّوا وَيَتْرُكُوا مَا أَحَبُّوا لاَ سِيَّمَا وَبَعْضُهُمْ هَوَّلَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ هَذَا بِأَنَّهُ مُسْنَدٌ فَلْيَهِنْهُمْ خِلاَفُهُ إنْ كَانَ مُسْنَدًا, وَلَوْ كَانَ مُسْنَدًا مَا اسْتَحْلَلْنَا خِلاَفَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَلَمْ يَبْقَ لِمَنْ قَالَ بِالتَّبِيعِ وَالْمُسِنَّةِ فَقَطْ فِي الْبَقَرِ حُجَّةٌ أَصْلاً, وَلاَ قِيَاسَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ جُمْلَةً بِلاَ شَكٍّ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وأُمًّا الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ لاَ قُرْآنٌ يُعَضِّدُهُ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ تَنْصُرُهُ, وَلاَ رِوَايَةٌ فَاسِدَةٌ تُؤَيِّدُهُ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ يَشُدُّهُ, وَلاَ قِيَاسٌ يُمَوِّهُهُ, وَلاَ رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ يُسَدِّدُهُ.
إلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: لَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَاشِيَةِ وَقْصًا مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ.
فَقِيلَ لَهُمْ: وَلاَ وَجَدْتُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ زَكَاةِ الْمَوَاشِي جُزْءًا مِنْ رَأْسٍ وَاحِدٍ.
فَإِنْ قَالُوا: أَوْجَبَهُ الدَّلِيلُ.

قِيلَ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ مَا أَوْجَبَهُ دَلِيلٌ قَطُّ, وَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى رَأْيَ النَّخَعِيِّ وَحْدَهُ دَلِيلاً فِي دِينِهِ: وَقَدْ وَجَدْنَا الأَوْقَاصَ تَخْتَلِفُ, فَمَرَّةً هُوَ فِي الإِبِلِ أَرْبَعٌ, وَمَرَّةً عَشْرَةٌ, وَمَرَّةً تِسْعَةٌ, وَمَرَّةً أَرْبَعَةَ عَشَرَ, وَمَرَّةً أَحَدَ عَشَرَ, وَمَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ, وَمَرَّةً هُوَ فِي الْغَنَمِ ثَمَانُونَ, وَمَرَّةً تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ, وَمَرَّةً مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَتِسْعُونَ, وَمَرَّةً تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فَأَيُّ نَكِرَةٍ فِي أَنْ تَكُونَ تِسْعَةَ عَشَرَ إذَا صَحَّ بِذَلِكَ دَلِيلٌ لَوْلاَ الْهَوَى وَالْجَهْلُ!
فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ عَمَلِ عُمَّالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ, وَعَمَلِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، وَ، هُوَ ابْنُ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ, وَمِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ جِدًّا بِالْمَدِينَةِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ.
فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ: فَوَجَدْنَا لاَ يَصِحُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا مِنْ طَرِيقِ إسْنَادِ الآحَادِ، وَلاَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ شَيْءٌ كَمَا قَدَّمْنَا, وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لاَ يُعَارِضُهُ غَيْرُهُ, وَلاَ يَحِلُّ أَنْ تُؤْخَذَ شَرِيعَةٌ إلاَّ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إمَّا مِنْ الْقُرْآنِ, وَأَمَّا مِنْ نَقْلٍ ثَابِتٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ الآحَادِ وَالتَّوَاتُرِ بَيَانُ زَكَاةِ الْبَقَرِ, وَوَجَدْنَا الإِجْمَاعَ الْمُتَيَقَّنَ الْمَقْطُوعَ بِهِ, الَّذِي لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ قَدِيمًا وَحَدِيثًا قَالَ بِهِ, وَحَكَمَ بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَمِنْ دُونِهِمْ قَدْ صَحَّ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ خَمْسِينَ بَقَرَةً: بَقَرَةٌ; فَكَانَ هَذَا حَقًّا مَقْطُوعًا بِهِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم; فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ, وَكَانَ مَا دُونَ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا فِيهِ, وَلاَ نَصَّ فِي إيجَابِهِ; فَلَمْ يَجُزْ الْقَوْلُ بِهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" فَلَمْ يَحِلَّ, أَخْذُ مَالِ مُسْلِمٍ, وَلاَ إيجَابُ شَرِيعَةٍ بِزَكَاةٍ مَفْرُوضَةٍ بِغَيْرِ يَقِينٍ, مِنْ نَصٍّ صَحِيحٍ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَلاَ يَغْتَرَّنَّ مُغْتَرٌّ بِدَعْوَاهُمْ: أَنَّ الْعَمَلَ بِقَوْلِهِمْ كَانَ مَشْهُورًا فَهَذَا بَاطِلٌ, وَمَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ إلاَّ خَامِلاً فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, وَلاَ يُؤْخَذُ إلاَّ عَنْ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ, بِاخْتِلاَفٍ مِنْهُمْ أَيْضًا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ: ثُمَّ اسْتَدْرَكْنَا فَوَجَدْنَا حَدِيثَ مَسْرُوقٍ إنَّمَا ذَكَرَ فِيهِ فِعْلَ مُعَاذٍ بِالْيَمَنِ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ; وَهُوَ بِلاَ شَكٍّ قَدْ أَدْرَكَ مُعَاذًا وَشَهِدَ حُكْمَهُ وَعَمَلَهُ الْمَشْهُورَ الْمُنْتَشِرَ, فَصَارَ نَقْلُهُ لِذَلِكَ, وَلاَِنَّهُ، عَنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَقْلاً، عَنِ الْكَافَّةِ، عَنْ مُعَاذٍ بِلاَ شَكٍّ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ.

زكاة الإبل
البخت و الأعرابية و النجب و المهارى و غيرها من أصناف الإبل كلها إبل يضم بعضها إلى بعض
بَسْمَ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ
زَكَاةُ الإِبِلِ
674 - مَسْأَلَةٌ: الْبُخْتُ, وَالأَعْرَابِيَّةُ, وَالنُّجُبُ, وَالْمَهَارِيُّ وَغَيْرُهَا مِنْ أَصْنَافِ الإِبِلِ: كُلُّهَا إبِلٌ, يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ,
وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَلاَ زَكَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ الإِبِلِ, ذُكُورٍ أَوْ إنَاثٍ. أَوْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ, فَإِذَا أَتَمَّتْ كَذَلِكَ فِي مِلْكِ الْمُسْلِمِ حَوْلاً عَرَبِيًّا مُتَّصِلاً كَمَا قَدَّمْنَا فَالْوَاجِبُ فِي زَكَاتِهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ ضَانِيَّةٌ أَوْ مَاعِزَةٌ, وَكَذَلِكَ أَيْضًا فِيمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِ, إلَى أَنْ تُتِمَّ عَشَرَةً كَمَا قَدَّمْنَا, فَإِذَا بَلَغَتْهَا وَأَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ حَوْلاً كَمَا قَدَّمْنَا فَفِيهَا شَاتَانِ كَمَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تُتِمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ, فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ حَوْلاً عَرَبِيًّا فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تُتِمَّ عِشْرِينَ, فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ, حَوْلاً كَمَا ذُكِرَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ إلَى أَنْ تُتِمَّ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ, فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ حَوْلاً قَمَرِيًّا بِنْتُ مَخَاضٍ مِنْ الإِبِلِ أُنْثَى، وَلاَ بُدَّ, فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فَابْنُ لَبُوَنٍ ذَكَرٌ مِنْ الإِبِلِ، وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تُتِمَّ سِتَّةً وَثَلاَثِينَ. فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ حَوْلاً قَمَرِيًّا فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ مِنْ الإِبِلِ أُنْثَى، وَلاَ بُدَّ, ثُمَّ كَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تُتِمَّ سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ, فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ سَنَةً قَمَرِيَّةً فَفِيهَا حِقَّةٌ مِنْ الإِبِلِ أُنْثَى، وَلاَ بُدَّ. ثُمَّ كَذَلِكَ فِيمَا زَادَ فَإِذَا أَتَمَّتْ إحْدَى وَسِتِّينَ وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ سَنَةً قَمَرِيَّةً فَفِيهَا جَذَعَةٌ مِنْ الإِبِلِ أُنْثَى، وَلاَ بُدَّ, ثُمَّ كَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تُتِمَّ سِتَّةً وَسَبْعِينَ فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ عَامًا قَمَرِيًّا فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ, ثُمَّ كَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تُتِمَّ إحْدَى وَتِسْعِينَ فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ عَامًا قَمَرِيًّا فَفِيهَا حِقَّتَانِ. وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تُتِمَّ مِائَةً وَعِشْرِينَ, فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَزَادَتْ عَلَيْهَا وَلَوْ بَعْضَ نَاقَةٍ أَوْ جَمَلٍ وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ عَامًا قَمَرِيًّا فَفِيهَا ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ, ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى تُتِمَّ

مِائَةً وَثَلاَثِينَ, فَإِذَا أَتَمَّتْهَا أَوْ زَادَتْ وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ عَامًا قَمَرِيًّا فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ, وَفِي كُلِّ ثَلاَثِينَ وَمِائَةٍ فَمَا زَادَ حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ, وَفِي أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ فَمَا زَادَ حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ, وَفِي خَمْسِينَ وَمِائَةٍ فَمَا زَادَ ثَلاَثُ حِقَاقٍ, وَفِي سِتِّينَ وَمِائَةٍ فَمَا زَادَ أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ, وَهَكَذَا الْعَمَلُ فِيمَا زَادَ.
فَإِنْ وَجَبَ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ جَذَعَةٌ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ وَكَانَتْ عِنْدَهُ حِقَّةٌ, أَوْ لَزِمَتْهُ حِقَّةٌ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ وَكَانَتْ عِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ, أَوْ لَزِمَتْهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ وَكَانَتْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنَّ الْمُصَدِّقَ يَقْبَلُ مَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَلْزَمُهُ مَعَهَا غَرَامَةُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، أَيَّ ذَلِكَ شَاءَ صَاحِبُ الْمَالِ فَوَاجِبٌ عَلَى الْمُصَدِّقِ قَبُولُهُ، وَلاَ بُدَّ.
وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ بِنْتُ مَخَاضٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ، وَلاَ كَانَ عِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ وَكَانَتْ عِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ, أَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ وَكَانَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ: فَإِنَّ الْمُصَدِّقَ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَرُدُّ الْمُصَدِّقُ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ, أَيَّ ذَلِكَ أَعْطَاهُ الْمُصَدِّقُ فَوَاجِبٌ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ قَبُولُهُ، وَلاَ بُدَّ.
وَهَكَذَا لَوْ وَجَبَتْ اثْنَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ الأَسْنَانِ الَّتِي ذَكَرْنَا فَلَمْ يَجِدْهَا أَوْ وَجَدَ بَعْضَهَا وَلَمْ يَجِدْ تَمَامَهَا, فَإِنَّهُ يُعْطِي مَا عِنْدَهُ مِنْ الأَسْنَانِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَإِنْ كَانَتْ أَعْلَى مِنْ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ الْمُصَدِّقُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا, وَإِنْ كَانَتْ أَدْنَى مِنْ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ أَعْطَى مَعَهَا مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا.
فَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ فَلَمْ يَجِدْهَا، وَلاَ وَجَدَ ابْنَ لَبُونٍ، وَلاَ بِنْتَ لَبُونٍ، لَكِنْ وَجَدَ حِقَّةً أَوْ جَذَعَةً، أَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ، وَلاَ كَانَ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَلاَ حِقَّةٌ, وَكَانَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ, وَكُلِّفَ إحْضَارَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلاَ بُدَّ, أَوْ إحْضَارَ السِّنِّ الَّتِي تَلِيهَا، وَلاَ بُدَّ مَعَ رَدِّ الدَّرَاهِمِ أَوْ الْغَنَمِ.
وَإِنْ لَزِمَتْهُ جَذَعَةٌ فَلَمْ يَجِدْهَا، وَلاَ وَجَدَ حِقَّةً, وَوَجَدَ بِنْتَ لَبُونٍ أَوْ بِنْتَ مَخَاضٍ: لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ أَصْلاً إلاَّ الْجَذَعَةُ أَوْ حِقَّةٌ مَعَهَا شَاتَانِ أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا.
وَإِنْ لَزِمَتْهُ حِقَّةٌ وَلَمْ يَجِدْهَا، وَلاَ وَجَدَ جَذَعَةً، وَلاَ ابْنَةَ لَبُونٍ, وَوَجَدَ بِنْتَ مَخَاضٍ: لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ, وَأُجْبِرَ عَلَى إحْضَارِ الْحِقَّةِ أَوْ بِنْتِ لَبُونٍ وَيَرُدُّ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا
وَلاَ تُجْزِئُ قِيمَةٌ، وَلاَ بَدَلٌ أَصْلاً, وَلاَ فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّكَوَاتِ كُلِّهَا أَصْلاً.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا

الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، حدثنا أَبِي، حدثنا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ: "بسم الله الرحمن الرحيم: هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ, وَاَلَّتِي أَمَرَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، بِهَا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ سُئِلَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا, وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلاَ يُعْطِ. فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنْ الْغَنَمِ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ, فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ فَفِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ أُنْثَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ابْنُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلاَثِينَ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا ابْنَةُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ, فَإِذَا بَلَغَتْ يَعْنِي سِتًّا وَسَبْعِينَ إلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ; فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلاَّ أَرْبَعٌ مِنْ الإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنْ الإِبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ وَمَنْ1 بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنْ الإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إنْ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا, وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ, وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إلاَّ ابْنَةُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ ابْنَةُ لَبُونٍ وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا, وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ ابْنَةَ لَبُونٍ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ, وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ ابْنَةَ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ وَيُعْطِي مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ, وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ ابْنَةَ مَخَاضٍ لَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ ابْنَةُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ; فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ ابْنِهِ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ" وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ.
وَهَذَا حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ أَيْضًا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ حَيْرُونٍ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، حدثنا شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ, وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. قَالَ زُهَيْرٌ: حدثنا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: أَخَذْت هَذَا الْكِتَابَ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, وَقَالَ شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ:
ـــــــ
1 في النسخة رقك "14" "من" بدون الواو.

حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ثُمَّ اتَّفَقَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَتَبَ لَهُ: "إنَّ هَذِهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ, الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم" ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ نَصًّا, لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي شَيْءٍ مِنْهُ.
وَحَدَّثَنَاهُ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ قَالَ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السُّلَيْمِ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ، حدثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: أَخَذْت هَذَا الْكِتَابَ مِنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ ثُمَّ ذَكَرَهُ نَصًّا كَمَا أَوْرَدْنَاهُ.
وَحَدَّثَنَاهُ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، حدثنا الْمُظَفَّرُ بْنُ مُدْرِكٍ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: أَخَذْت هَذَا الْكِتَابَ مِنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُمْ: "إنَّ هَذِهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ, الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا رَسُولَهُ", ثُمَّ ذَكَرَهُ نَصًّا كَمَا أَوْرَدْنَاهُ.
وَحَدَّثَنَاهُ أَيْضًا حُمَامُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ أَنَا أَبُو قِلاَبَةَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي قَالاَ جَمِيعًا: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، حدثنا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الْبَحْرَيْنِ: "بسم الله الرحمن الرحيم هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم", ثُمَّ ذَكَرَهُ نَصًّا كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ نَصُّ مَا قلنا حُكْمًا حُكْمًا وَحَرْفًا حَرْفًا. وَلاَ يَصِحُّ فِي الصَّدَقَاتِ فِي الْمَاشِيَةِ غَيْرُهُ, إلاَّ خَبَرَ ابْنِ عُمَرَ فَقَطْ, وَلَيْسَ بِتَمَامِ هَذَا, وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي نِهَايَةِ الصِّحَّةِ, وَعَمِلَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِحَضْرَةِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ, لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ أَصْلاً, وَبِأَقَلَّ مِنْ هَذَا يَدَّعِي مُخَالِفُونَا الإِجْمَاعَ, وَيُشَنِّعُونَ خِلاَفَهُ, رَوَاهُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: أَنَسٌ وَهُوَ صَاحِبٌ وَرَوَاهُ،عَنْ أَنَسٍ ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ وَهُوَ ثِقَةٌ سَمِعَهُ مِنْ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ، عَنْ ثُمَامَةَ حَمَّاد بْن سَلَمَة, وَعَبْد اللَّه بْن الْمُثَنَّى, وَكِلاَهُمَا ثِقَةٌ وَإِمَامٌ, وَرَوَاهُ، عَنِ ابْنِ الْمُثَنَّى ابْنُهُ الْقَاضِي مُحَمَّدٌ, وَهُوَ مَشْهُورٌ ثِقَةٌ وَلِي قَضَاءَ الْبَصْرَةِ, وَرَوَاهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ جَامِعُ الصَّحِيحِ, وَأَبُو قِلاَبَةَ, وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي, وَالنَّاسُ, وَرَوَاهُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ

يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ, وَشُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ, وَمُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ, وَأَبُو كَامِلٍ الْمُظَفَّرُ بْنُ مُدْرِكٍ, وَغَيْرُهُمْ, وَكُلُّ هَؤُلاَءِ إمَامٌ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ.
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعْتَرِضُ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِتَضْعِيفِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ لِحَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ هَذَا وَلَيْسَ فِي كُلِّ مَنْ رَوَاهُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا أَحَدٌ إلاَّ وَهُوَ أَجَلُّ وَأَوْثَقُ مِنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ كَلاَمُ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ إذَا ضَعَّفُوا غَيْرَ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ وَأَمَّا دَعْوَى ابْنِ مَعِينٍ أَوْ غَيْرِهِ ضَعْفَ حَدِيثٍ رَوَاهُ الثِّقَاتُ, أَوْ ادَّعَوْا فِيهِ أَنَّهُ خَطَأٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرُوا فِيهِ تَدْلِيسًا فَكَلاَمُهُمْ مَطْرُوحٌ مَرْدُودٌ; لاَِنَّهُ دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
وَلاَ مَغْمَزَ لاَِحَدٍ فِي أَحَدٍ مِنْ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ; فَمَنْ عَانَدَهُ فَقَدْ عَانَدَ الْحَقَّ, وَأَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى, وَأَمْرَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لاَ سِيَّمَا مَنْ يُحْتَجُّ فِي دِينِهِ بِالْمُرْسَلاَتِ, وَبِرِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ. وَرِوَايَةِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ الْكَذَّابِ الْمُتَّهَمِ فِي دِينِهِ "لاَ يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا" وَرِوَايَةِ حَرَامِ بْنِ عُثْمَانَ الَّذِي لاَ تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي إسْقَاطِ الصَّلاَةِ، عَنِ الْمُسْتَحَاضَةِ بَعْدَ طُهْرِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَرِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حَدِيثٍ فِي إبَاحَةِ الْوُضُوءِ لِلصَّلاَةِ بِالْخَمْرِ وَبِكُلِّ نَطِيحَةٍ, أَوْ مُتَرَدِّيَةٍ, وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ: فِي مُخَالَفَةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ, ثُمَّ يَتَعَلَّلُ فِي السُّنَنِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَمْ يَأْتِ مَا يُعَارِضُهَا; بَلْ عَمِلَ بِهَا الصَّحَابَةُ، رضي الله عنهم، وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَبِهَذَا الْحَدِيثِ يَأْخُذُ: الشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابُهُمَا.
وَقَدْ خَالَفَهُ قَوْمٌ فِي مَوَاضِعَ.
فَمِنْهَا: إذَا بَلَغَتْ الإِبِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ كَمَا َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فِي خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ شَاةٌ, وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ, وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ; فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ
وَهَكَذَا أَيْضًا: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ أَسْنَدَهُ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ الأَعْوَرِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه.
قال أبو محمد: الْحَارِثُ كَذَّابٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وقال الشافعي وَأَبُو يُوسُفَ: إذَا كَانَتْ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ ضِعَافٌ لاَ تُسَاوِي شَاةً أَعْطَى بَعِيرًا مِنْهَا وَأَجْزَأَهُ قَالُوا: لإِنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا هِيَ فِيمَا أُبْقِي مِنْ الْمَالِ فَضْلاً, لاَ فِيمَا أَجَاحَ الْمَالَ وَقَدْ نُهِيَ، عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ الْمَالِ فَكَيْفَ، عَنْ اجْتِيَاحِهِ.
قال أبو محمد: وقال مالك, وَأَبُو سُلَيْمَانَ, وَغَيْرُهُمَا: لاَ يُجْزِئُهُ إلاَّ شَاةٌ.
قال أبو محمد: هَذَا هُوَ الْحَقُّ, وَالْقَوْلُ الأَوَّلُ بَاطِلٌ وَلَيْسَتْ الزَّكَاةُ كَمَا ادَّعَوْا مِنْ حِيَاطَةِ الأَمْوَالِ.
وَهُمْ يَقُولُونَ: مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ وَلَهُ عَشَرَةٌ مِنْ الْعِيَالِ، وَلاَ مَالَ لَهُ غَيْرُهَا فَإِنَّهُ يُكَلَّفُ الزَّكَاةَ أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فِي سَنَةِ مَجَاعَةٍ وَمَعَهُ عَشَرَةٌ مِنْ الْعِيَالِ، وَلاَ شَيْءَ مَعَهُ غَيْرُهَا فَإِنَّهُ يُكَلَّفُ الزَّكَاةَ وَرَأَوْا فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ الْجَوَاهِرِ, وَالْوِطَاءِ, وَالْغِطَاءِ, وَالدُّورِ, وَالرَّقِيقِ وَالْبَسَاتِينِ بِقِيمَةِ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ, أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ وَقَالُوا فِيمَنْ لَهُ مِائَتَا شَاةٍ وَشَاةٌ أَنَّهُ يُؤَدِّي مِنْهَا كَمَا يُؤَدِّي مَنْ لَهُ ثَلَثُمِائَةِ شَاةٍ وَتِسْعٌ وَتِسْعُونَ شَاةً.
فَإِنَّمَا نَقِفُ فِي النَّهْيِ وَالأَمْرِ عِنْدَمَا صَحَّ بِهِ نَصٌّ فَقَطْ.
وَهُمْ يَقُولُونَ فِي عَبْدٍ يُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ لِيَتِيمٍ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ سَرَقَ دِينَارًا، أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ فَتَتْلَفُ قِيمَةٌ عَظِيمَةٌ فِي قِيمَةٍ يَسِيرَةٍ وَيُجَاحُ الْيَتِيمُ الْفَقِيرُ فِيمَا لاَ ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْغَنِيِّ.
وقال أبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ إلاَّ رِوَايَةً خَامِلَةً، عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنَّ مَنْ لَزِمَتْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي قِيمَتَهَا, وَلاَ يُؤَدِّي ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرًا.
وقال مالك, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: يُؤَدِّي ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرًا.
وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ, وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ خِلاَفٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، رضي الله عنهم.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا قَوْلُهُمْ: إنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَخْذِ ابْنِ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنَةِ الْمَخَاضِ إنَّمَا أَرَادَ بِالْقِيمَةِ، فَيَا لِسُهُولَةِ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِهَارًا عَلاَنِيَةً فَرَيْبُ الْفَضِيحَةِ عَلَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ وَمَا فَهِمَ قَطُّ مَنْ يَدْرِي الْعَرَبِيَّةَ أَنْ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "فَفِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ شَيْءٌ" يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ بِالْقِيمَةِ وَهَذَا أَمْرٌ مُخْجِلٌ جِدًّا, وَبُعْدٌ، عَنِ الْحَيَاءِ وَالدِّينِ!!

وَأَمَّا خِلاَفُهُمْ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ: فَإِنَّ حُمَامَ بْنَ أَحْمَدَ، حدثنا قَالَ، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَاصِمٍ, وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ عُمَرَ قَالَ: فِي الإِبِلِ فِي خَمْسٍ شَاةٌ, وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ, وَفِي خَمْسَ عَشَرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ابْنَةُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، عَنْ عَلِيٍّ.
فَخَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَعَلِيًّا, وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ, وَابْنَ عُمَرَ. وَكُلَّ مَنْ بِحَضْرَتِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، بِآرَائِهِمْ الْفَاسِدَةِ, وَخَالَفُوا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا.
وَبِقَوْلِنَا فِي هَذَا يَقُولُ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَمَالِكٌ, وَالأَوْزَاعِيُّ, وَاللَّيْثُ, وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ, وَجُمْهُورُ النَّاسِ, إلاَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمَنْ قَلَّدَ دِينَهُ وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ فِي هَذَا سَلَفًا أَصْلاً.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَعْوِيضِ سِنٍّ مِنْ سِنٍّ دُونِهَا أَوْ فَوْقَهَا عِنْدَ عَدَمِ السِّنِّ الْوَاجِبَةِ وَرَدِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ فِي ذَلِكَ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَأَصْحَابُهُ: لاَ يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلاَّ بِالْقِيمَةِ, وَأَجَازَ إعْطَاءَ الْقِيمَةِ مِنْ الْعُرُوضِ وَغَيْرِهَا بَدَلَ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ, وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِأَخْذِهِ فِيهَا مُمْكِنًا.
وقال مالك: لاَ يُعْطِي إلاَّ مَا عَلَيْهِ. وَلَمْ يَجُزْ إعْطَاءَ سِنٍّ مَكَانَ سِنٍّ بِرَدِّ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا.
وقال الشافعي بِمَا جَاءَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ نَصًّا, إلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ عُدِمَتْ السِّنُّ الْوَاجِبَةُ, وَاَلَّتِي تَحْتَهَا, وَاَلَّتِي فَوْقَهَا, وَوُجِدَتْ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ، فَإِنَّهُ يُعْطِيهَا وَيَرُدُّ إلَيْهِ السَّاعِي أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا, أَوْ أَرْبَعَ شِيَاهٍ,وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَجِدْ إلاَّ الَّتِي تَحْتَهَا بِدَرَجَةٍ فَإِنَّهُ يُعْطِيهَا وَيُعْطِي مَعَهَا أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَ شِيَاهٍ، فَإِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَمْ يَجِدْ إلاَّ جَذَعَةً فَإِنَّهُ يُعْطِيهَا وَيَرُدُّ عَلَيْهِ السَّاعِي سِتِّينَ دِرْهَمًا أَوْ سِتَّ شِيَاهٍ. فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ جَذَعَةٌ فَلَمْ يَجِدْ إلاَّ بِنْتَ مَخَاضٍ أَعْطَاهَا وَأَعْطَى مَعَهَا سِتِّينَ دِرْهَمًا أَوْ سِتَّ شِيَاهٍ.
وَأَجَازُوا كُلُّهُمْ إعْطَاءَ أَفْضَلَ مِمَّا لَزِمَهُ مِنْ الأَسْنَانِ, إذَا تَطَوَّعَ بِذَلِكَ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ سِنًّا فَوْقَ سِنٍّ رَدَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ شَاتَيْنِ.
وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ عُمَرَ كَمَا نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ, وَعُمَرَ, فَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ الْقَائِلِينَ فِي مِثْلِ هَذَا إذَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ: مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ

بِالرَّأْيِ: أَنْ يَقُولُوا بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: فَإِنَّهُ قَاسَ عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا لَيْسَ فِيهِ, وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ, وَكَانَ يَلْزَمُهُ عَلَى قِيَاسِهِ هَذَا إذَا رَأَى فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةَ, وَفِي السَّمْعِ الدِّيَةَ, وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةَ: أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ فِي إتْلاَفِ النَّفْسِ دِيَاتٌ كُلُّ مَا فِي الْجِسْمِ مِنْ الأَعْضَاءِ, لاَِنَّهَا بَطَلَتْ بِبُطْلاَنِ النَّفْسِ, وَكَانَ يَلْزَمُهُ إذْ رَأَى فِي السَّهْوِ سَجْدَتَيْنِ أَنْ يَرَى فِي سَهْوَيْنِ فِي الصَّلاَةِ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَفِي ثَلاَثَةِ أَسْهَاءٍ سِتَّ سَجَدَاتٍ وَأَقْرَبُ مِنْ هَذَا أَنْ يَقُولَ, إذَا عَدِمَ التَّبِيعَ وَجَدَ الْمُسِنَّةَ أَنْ يُقَدِّرَ فِي ذَلِكَ تَقْدِيرًا، وَلَكِنَّهُ لاَ يَقُولُ بِهَذَا, فَقَدْ نَاقَضَ قِيَاسَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, فَخِلاَفٌ مُجَرَّدٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِلصَّحَابَةِ, وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً, إلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَذَا بَيْعٌ مَا لَمْ يُقْبَضْ.
قال أبو محمد: وَهَذَا كَذِبٌ مِمَّنْ قَالَهُ وَخَطَأٌ لِوُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ بَيْعًا أَصْلاً وَلَكِنَّهُ حُكْمٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَعْوِيضِ سِنٍّ, مَعَهَا شَاتَانِ أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا مِنْ سِنٍّ أُخْرَى; كَمَا عَوَّضَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكَيْنَا مِنْ رَقَبَةٍ تُعْتَقُ فِي الظِّهَارِ, وَكَفَّارَةِ الْوَاطِئِ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَلْيَقُولُوا هَاهُنَا: إنَّ هَذَا بَيْعٌ لِلرَّقَبَةِ قَبْلَ قَبْضِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَجَازُوا بَيْعَ مَا لَمْ يُقْبَضْ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَيْثُ لاَ يَحِلُّ وَهُوَ تَجْوِيزُ أَبِي حَنِيفَةَ أَخْذَ الْقِيمَةِ، عَنِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ, فَلَمْ يُنْكِرْ أَصْحَابُهُ الْبَاطِلَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَنْكَرُوا الْحَقَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْمُبِينُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّهْيَ، عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ لَمْ يَصِحَّ قَطُّ إلاَّ فِي الطَّعَامِ, لاَ فِيمَا سِوَاهُ وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ السُّنَنَ وَالصَّحَابَةَ، رضي الله عنهم.
فأما الصَّحَابَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَصَحَّ أَيْضًا، عَنْ عَلِيٍّ كَمَا ذَكَرْنَا تَعْوِيضٌ, وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ عُمَرَ كَمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ لِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ السِّنُّ الَّتِي دُونَهَا أُخِذَتْ الَّتِي فَوْقَهَا, وَرَدَّ صَاحِبُ الْمَاشِيَةِ شَاتَيْنِ أَوْ عَشْرَ دَرَاهِمَ. وَلاَ يُعْرَفُ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ; وَهُمْ يُشَنِّعُونَ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا إذَا وَافَقَهُمْ.
وقولنا في هذا هُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ كَمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كِلَيْهِمَا، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إذَا وَجَدَ الْمُصَدِّقُ سِنًّا دُونَ سِنٍّ أَوْ فَوْقَ سِنٍّ كَانَ فَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا عِشْرِينَ

دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ. قَالَ سُفْيَانُ: وَلَيْسَ هَذَا إلاَّ فِي الإِبِلِ.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: إنْ أَخَذَ الْمُصَدِّقُ سِنًّا فَوْقَ سِنٍّ رَدَّ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَإِنْ أَخَذَ سِنًّا دُونَ سِنٍّ أَخَذَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا.
قال أبو محمد: وَأَمَّا إجَازَتُهُمْ الْقِيمَةَ أَوْ أَخْذَ سِنٍّ أَفْضَلَ مِمَّا عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ طَاوُوس: أَنَّ مُعَاذًا قَالَ لاَِهْلِ الْيَمَنِ: ائْتُونِي بِعَرْضٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لاَِهْلِ الْمَدِينَةِ.
قال علي: وهذا لاَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ لِوُجُوهٍ.
أَوَّلُهَا أَنَّهُ مُرْسَلٌ, لإِنَّ طَاوُوسًا لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذًا، وَلاَ وُلِدَ إلاَّ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاذٍ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ; لاَِنَّهُ لَيْسَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ حُجَّةَ إلاَّ فِيمَا جَاءَ عَنْهُ عليه السلام.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ، أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ; فَالْكَذِبُ لاَ يَجُوزُ, وَقَدْ يُمْكِنُ لَوْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ لاَِهْلِ الْجِزْيَةِ, وَكَانَ يَأْخُذُ مِنْهُمْ: الذُّرَةَ, وَالشَّعِيرَ, وَالْعَرْضَ: مَكَانَ الْجِزْيَةِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى بُطْلاَنِ هَذَا الْخَبَرِ مَا فِيهِ مِنْ قَوْلِ مُعَاذٍ "خَيْرٌ لاَِهْلِ الْمَدِينَةِ" وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَقُولَ مُعَاذٌ هَذَا, فَيَجْعَلُ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى خَيْرًا مِمَّا أَوْجَبَهُ.
وَذَكَرُوا أَيْضًا: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْحٍ: أُخْبِرْت، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ الأَنْصَارِيِّ: أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: أَنْ لاَ يَأْخُذَ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَجِدْ فِي إبِلِهِ السِّنَّ الَّتِي عَلَيْهِ إلاَّ تِلْكَ السِّنَّ مِنْ شَرْوَى إبِلِهِ, أَوْ قِيمَةِ عِدْلٍ.
قال أبو محمد: هَذَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ, لإِنَّ ابْنَ جُرَيْحٍ لَمْ يُسَمِّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ الأَنْصَارِيَّ مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ لاَِنَّهُ لَيْسَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ حُجَّةَ

فِيمَا جَاءَ عَمَّنْ دُونَهُ, وَقَدْ أَتَيْنَاهُمْ، عَنْ عُمَرَ بِمِثْلِ هَذَا فِي أَخْذِ الشَّاتَيْنِ أَوْ الْعَشَرَةِ دَرَاهِمَ, فَلْيَقُولُوا بِهِ إنْ كَانَ قَوْلُ عُمَرَ حُجَّةً وَإِلاَّ فَالتَّحَكُّمُ لاَ يَجُوزُ.
وَالرَّابِعُ أَنَّهُ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عُمَرَ لَوْ صَحَّ عَنْهُ "أَوْ قِيمَةَ عَدْلٍ" هُوَ مَا بَيْنَهُ فِي مَكَان آخَرَ مِنْ تَعْوِيضِ الشَّاتَيْنِ أَوْ الدَّرَاهِمَ, فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لاَ عَلَى التَّضَادِّ وَذَكَرُوا حَدِيثًا مُنْقَطِعًا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خُذْ النَّابَ, وَالشَّارِفَ وَالْعَوَارِيَّ".
قال علي: وهذا لاَ حُجَّةَ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُرْسَلٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي آخِرِهِ "وَلاَ أَعْلَمُهُ إلاَّ كَانَتْ الْفَرَائِضُ بَعْدُ" فَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَنْسُوخًا بِنَقْلِ رِوَايَةٍ فِيهِ.
وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ, عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقًا, فَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ فَجَمَعَ لِي مَالَهُ, فَقُلْت لَهُ: أَدِّ ابْنَةَ مَخَاضٍ, فَإِنَّهَا صَدَقَتُكَ, قَالَ: ذَلِكَ مَا لاَ لَبَنَ فِيهِ، وَلاَ ظَهْرَ, وَلَكِنْ هَذِهِ نَاقَةٌ فَتِيَّةٌ عَظِيمَةٌ سَمِينَةٌ, فَخُذْهَا, فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِآخِذٍ مَا لَمْ أُؤْمَرْ بِهِ, وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرِيبٌ مِنْكَ, فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ وَقَالَ: عَرَضْتُ عَلَى مُصَدِّقِكَ نَاقَةً فَتِيَّةً عَظِيمَةً يَأْخُذُهَا, فَأَبَى عَلَيَّ, وَهَا هِيَ ذِهِ, قَدْ جِئْتُكَ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَلِكَ الَّذِي عَلَيْكَ, فَإِنْ تَطَوَّعْتَ بِخَيْرٍ أَجَرَكَ اللَّهُ وَقَبِلْنَاهُ مِنْكَ, وَأَمَرَ عليه السلام بِقَبْضِهَا, وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ".
قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ فِيهِ لِوُجُوهٍ.
أَوَّلُهَا: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ: لإِنَّ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ, وَعُمَارَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ غَيْرُ مَعْرُوفٍ; وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ أَخُو عَمْرٍو رضي الله عنهما.

وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ, لإِنَّ فِيهِ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ لَمْ يَسْتَجِزْ أَخْذَ نَاقَةٍ فَتِيَّةٍ عَظِيمَةٍ مَكَانَ ابْنَةِ مَخَاضٍ, وَرَأَى ذَلِكَ خِلاَفًا لاَِمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَرَ مَا يَرَاهُ هَؤُلاَءِ مِنْ التَّعَقُّبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِآرَائِهِمْ وَنَظَرِهِمْ, وَعَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ. فَصَحَّ أَنَّهُ الْحَقُّ, وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ فِيهِ أَخْذُ نَاقَةٍ عَظِيمَةٍ مَكَانَ ابْنَةِ مَخَاضٍ فَقَطْ, وَأَمَّا إجَازَةُ الْقِيمَةِ فَلاَ أَصْلاً.
وَاحْتَجُّوا بِخَبَرَيْنِ أَحَدُهُمَا: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ. وَالآخَرُ: مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ, كِلاَهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ لِلْمُصَدِّقِ: "أَعْلِمْهُ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ; فَإِنْ تَطَوَّعَ بِشَيْءٍ فَاقْبَلْهُ مِنْهُ".
وَهَذَانِ مُرْسَلاَنِ, ثُمَّ لَوْ صَحَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا حُجَّةٌ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ بِأَخْذِ غَيْرِ الْوَاجِبِ، وَلاَ يَأْخُذُ قِيمَةً, وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ أَنْ يُعْطِيَ أَفْضَلَ مَا عِنْدَهُ مِنْ السِّنِّ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ وَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ العرزمي، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ عَلِيًّا سَاعِيًا قَالُوا: لاَ نُخْرِجُ لِلَّهِ إلاَّ خَيْرَ أَمْوَالِنَا, فَقَالَ: مَا أَنَا بِعَادِي عَلَيْكُمْ السُّنَّةَ. وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَبَيِّنِ لَهُمْ مَا عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ, فَمَنْ طَابَتْ نَفْسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِفَضْلٍ فَخُذْهُ مِنْهُ" قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ لاَِنَّهُ مُرْسَلٌ, ثُمَّ إنَّ رَاوِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْعَرْزَمِيِّ, وَهُوَ مَتْرُوكٌ ثُمَّ إنَّ فِيهِ أَنَّ عَلِيًّا بَعَثَ سَاعِيًا وَهَذَا بَاطِلٌ, مَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَطُّ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ سَاعِيًا, وَقَدْ طَلَبَ ذَلِكَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ فَمَنَعَهُ.
وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ أَصْلاً; لإِنَّ فِيهِ أَنَّهُمْ أَرَادُوا إعْطَاءَ أَفْضَلَ أَمْوَالِهِمْ مُخْتَارِينَ, وَهَذَا لاَ لِمَنْعِهِ إذَا طَابَتْ نَفْسُ الْمُزَكِّي بِإِعْطَاءِ أَكْرَمَ شَاةٍ عِنْدَهُ وَأَفْضَلَ مَا عِنْدَهُ مِنْ تِلْكَ السِّنِّ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ; وَلَيْسَ فِيهِ إعْطَاءُ سِنٍّ مَكَانَ غَيْرِهَا أَصْلاً, وَلاَ دَلِيلَ عَلَى قِيمَةٍ أَلْبَتَّةَ.

وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ فِي الَّذِي أَعْطَى فِي صَدَقَةِ مَالِهِ فَصِيلاً مَخْلُولاً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ بَارَكَ اللَّهُ لَهُ وَلاَ فِي إبِلِهِ ", فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ, فَجَاءَ بِنَاقَةٍ فَذَكَرٍ مِنْ جَمَالِهَا وَحُسْنِهَا, وَقَالَ: أَتُوبُ إلَى اللَّهِ وَإِلَى نَبِيِّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَفِي إبِلِهِ".
وَقَالَ أبو محمد: هَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ, وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لإِنَّ الْفَصِيلَ لاَ يُجْزِئُ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّدَقَةِ بِلاَ شَكٍّ, وَنَاقَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ قَدْ تَكُونُ جَذَعَةً وَقَدْ تَكُونُ حِقَّةً; فَأَعْطَى مَا عَلَيْهِ بِأَحْسَنِ مَا قُدِّرَ; وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ، وَلاَ دَلِيلٌ عَلَى إعْطَاءِ غَيْرِ السِّنِّ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، وَلاَ عَلَى الْقِيمَةِ أَصْلاً.
وَاحْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: اسْتَسْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَكْرًا فَجَاءَتْهُ إبِلٌ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ, فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ فَقُلْتُ: لَمْ أَجِدْ فِي الإِبِلِ إلاَّ جَمَلاً خِيَارًا رَبَاعِيًا, فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَعْطِهِ إيَّاهُ, فَإِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً".
قال أبو محمد: هَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ, وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ الْجَمَلَ أُخِذَ فِي زَكَاةٍ وَاجِبَةٍ بِعَيْنِهِ, وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَبْتَاعَهُ الْمُصَدِّقُ بِبَعْضِ مَا أَخَذَ فِي الصَّدَقَةِ, فَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ.
وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا أَثَرٌ يَحْتَجُّونَ بِدُونِهِ, وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا نُورِدُهُ مُحْتَجِّينَ بِهِ, لَكِنْ تَذْكِيرًا لَهُمْ.
وَهُوَ خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الصُّنَابِحِ الأَحْمَسِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبْصَرَ نَاقَةً فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ, فَقَالَ: "مَا هَذِهِ" فَقَالَ صَاحِبُ الصَّدَقَة: إنِّي ارْتَجَعْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ مِنْ حَوَاشِي الإِبِلِ; فَقَالَ: "فَنَعَمْ إذَنْ".

وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الإِبِلُ مِنْ صَدَقَةِ تَطَوُّعٍ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ, فَلِمَا أَمْكَنَ كُلُّ ذَلِكَ وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّدَقَةِ جَمَلٌ رَبَاعٍ أَصْلاً لَمْ يَحِلَّ تَرْكَ الْيَقِينِ لِلظُّنُونِ, وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ فِي كِتَابِ "الإِيصَالِ "; ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يُمْكِنُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَسْتَسْلِفَ الْبَكْرَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ يَقْضِيه مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ, وَالصَّدَقَةُ حَرَامٌ عَلَيْهِ بِلاَ شَكٍّ، وَلاَ خِلاَفَ, صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ: "الصَّدَقَةُ لاَ تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، وَلاَ لاِلِ مُحَمَّدٍ", فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا اسْتَسْلَفَهُ لِغَيْرِهِ, لاَ يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ, فَصَارَ الَّذِي أَخَذَ الْبَكْرَ مِنْ الْغَارِمِينَ, لإِنَّ السَّلَفَ فِي ذِمَّتِهِ, وَهُوَ أَخَذَهُ, فَإِذْ هُوَ مِنْ الْغَارِمِينَ فَقَدْ صَارَ حَظُّهُ فِي الصَّدَقَةِ; فَقُضِيَ عَنْهُ مِنْهَا, لاَ يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لاَ نَشُكُّ أَنَّ الَّذِي كَانَ يَسْتَقْرِضُ مِنْهُ الْبَكْرَ كَانَ مِنْ بَعْضِ أَصْنَافِ الصَّدَقَةِ, وَلَوْلاَ ذَلِكَ مَا أَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَقِّ أَهْلِ الصَّدَقَةِ فَضْلاً عَلَى حَقِّهِ.
قال أبو محمد: وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا لاَِنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَمَا اسْتَقْرَضَ عليه السلام عَلَى الصَّدَقَةِ وَانْتَظَرَ حَتَّى يَحِينَ وَقْتُهَا; بَلْ كَانَ يَسْتَعْجِلُ صَدَقَةً مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ; فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عليه السلام صَحَّ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ أَدَاءُ صَدَقَةٍ قَبْلَ وَقْتِهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
فَبَطَل كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ, وَصَحَّ أَنَّ كُلَّ مَا احْتَجُّوا بِهِ لَيْسَ فِيهِ إجَازَةُ إعْطَاءِ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ، وَلاَ غَيْرِ الصِّفَةِ الْمَحْدُودَةِ فِيهَا. وَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلاَ دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى جَوَازِهَا أَصْلاً, بَلْ الْبُرْهَانُ ثَابِتٌ بِتَحْرِيمِ أَخْذِهَا, لاَِنَّهَا غَيْرُ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ, وَتَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ, وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}. وَقَالَ تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}.
فَإِنْ قَالُوا: إنْ كَانَ نَظَرًا لاَِهْلِ الصَّدَقَةِ فَمَا يَمْنَعُ مِنْهُ.
قلنا: النَّظَرُ كُلُّهُ لاَِهْلِ الصَّدَقَةِ أَنْ لاَ يُعْطُوا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ, إذْ يَقُولُ تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ". فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ مِنْ مَالِ أَحَدٍ إلاَّ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ, أَوْ أَوْجَبَهُ فِيهِ فَقَطْ, وَمَا أَبَاحَ تَعَالَى قَطُّ أَخْذَ قِيمَةٍ، عَنْ زَكَاةٍ افْتَرَضَهَا بِعَيْنِهَا وَصِفَتِهَا وَمَا نَدْرِي فِي أَيِّ نَظَرٍ مَعْهُودٍ بَيْنَنَا وَجَدُوا أَنْ تُؤْخَذَ الزَّكَاةُ مِنْ صَاحِبِ خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ لاَ تَقُومُ بِهِ, وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِمَّنْ لاَ يَمْلِكُ إلاَّ وَرْدَةً وَاحِدَة أَخْرَجَتْهَا قِطْعَةُ أَرْضٍ لَهُ: وَلاَ تُؤْخَذُ مِنْ صَاحِبِ جَوَاهِرَ وَرَقِيقٍ وَدُورٍ بِقِيمَةِ مِائَةِ أَلْفٍ، وَلاَ مِنْ صَاحِبِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ بَقَرَةً, وَتِسْعٍ وَثَلاَثِينَ شَاةً, وَخَمْسِ أَوَاقٍ غَيْرِ دِرْهَمٍ مِنْ الْفِضَّةِ

فَهَلْ فِي هَذَا كُلِّهِ إلاَّ اتِّبَاعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَطْ
وَقَدْ جَاءَ قَوْلُنَا، عَنِ السَّلَفِ, كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قال: "سِرْت أَوْ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَارَ مَعَ مُصَدِّقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَمَدَ رَجُلٌ إلَى نَاقَةٍ كَوْمَاءَ. فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا; فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْخُذَ خَيْرَ إبِلِي فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا فَخَطَمَ لَهُ أُخْرَى دُونَهَا فَقَبِلَهَا, وَقَالَ: إنِّي لاَخُذُهَا وَأَخَافُ أَنْ يَجِدَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: عَمَدْت إلَى رَجُلٍ فَتَخَيَّرْت عَلَيْهِ إبِلَهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس: أُخْبِرْت أَنَّك تَقُولُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَانِ يَعْنِي أَبَاهُ إذَا لَمْ تَجِدُوا السِّنَّ فَقِيمَتُهَا قَالَ: مَا قُلْته قَطُّ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ لِي عَطَاءٌ: لاَ يَخْرُجُ فِي الصَّدَقَةِ صَغِيرٌ، وَلاَ ذَكَرٌ، وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ، وَلاَ هَرِمَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْد، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ ذَكَرٌ مَكَانَ أُنْثَى إلاَّ ابْنُ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنَةِ مَخَاضٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَمَنْ ذَبَحَ أَوْ نَحَرَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الصَّدَقَةِ ثُمَّ أَعْطَاهُ مُذَكًّى لَمْ يَجُزْ عَنْهُ; لإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إعْطَاؤُهُ حَيًّا، وَلاَ يَقَعُ عَلَى الْمُذْكِي اسْمُ شَاةٍ مُطْلَقَةٍ، وَلاَ اسْمُ بَقَرَةٍ مُطْلَقَةٍ, وَلاَ اسْمُ بِنْتِ مَخَاضٍ مُطْلَقَةٍ, وَقَدْ وَجَبَ لاَِهْلِ الصَّدَقَةِ حَيًّا, وَلاَ يَجُوزُ لَهُ ذَبْحُ مَا وَجَبَ لِغَيْرِهِ فَإِذَا قَبَضَهُ أَهْلُهُ أَوْ الْمُصَدِّقُ فَقَدْ أَجْزَأَ, وَجَازَ لِلْمُصَدِّقِ حِينَئِذٍ بَيْعُهُ, إنْ رَأَى ذَلِكَ حَظًّا لاَِهْلِ الصَّدَقَةِ; لاَِنَّهُ نَاظِرٌ لَهُمْ وَلَيْسُوا قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ, فَيَجُوزُ حُكْمُهُمْ فِيهِ, أَوْ إبْرَاؤُهُمْ مِنْهُ قَبْلَ قَبْضِهِمْ لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: حِقَّتَانِ إلَى أَنْ تَصِيرَ ثَلاَثِينَ وَمِائَةً.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ثَلاَثٌ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَلاَ بُدَّ إلَى أَنْ تَصِيرَ ثَلاَثِينَ وَمِائَةً فَيَجِبُ فِيهَا حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ ثُمَّ كُلَّمَا زَادَتْ عَشَرَةً كَانَ فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَيَّ الصِّفَتَيْنِ أَدَّى أَجْزَأَهُ, وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ إلَى أَنْ تَبْلُغَ مِائَةً وَثَلاَثِينَ, فَيَجِبُ

فِيهَا حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ, وَهَكَذَا كُلَّمَا زَادَتْ عَشْرًا فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ
وقال أبو حنيفة, وَأَصْحَابُهُ: لَيْسَ فِيمَا بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلاَّ حِقَّتَانِ فَقَطْ; حَتَّى تُتِمَّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَيَجِبُ فِيهَا حِقَّتَانِ وَشَاةٌ إلَى ثَلاَثِينَ وَمِائَةٍ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَشَاتَانِ, إلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ وَمِائَةٍ, فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَثَلاَثُ شِيَاهٍ; إلَى أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ, فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَأَرْبَعُ شِيَاهٍ; إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ; فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتُ مَخَاضٍ, إلَى خَمْسِينَ وَمِائَةٍ, فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا ثَلاَثُ حِقَاقٍ, وَهَكَذَا أَبَدًا, إذَا زَادَتْ عَلَى الْخَمْسِينَ وَمِائَةٍ خَمْسًا فَفِيهَا ثَلاَثُ حِقَاقٍ وَشَاةٍ, ثُمَّ كَمَا ذَكَرْنَا; فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ مَعَ الثَّلاَثِ حِقَاقٍ, إلَى أَنْ تَصِيرَ خَمْسًا وَسَبْعِينَ وَمِائَةً, فَيَجِبُ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَثَلاَثُ حِقَاقٍ; إلَى سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ; فَإِذَا بَلَغَتْهَا كَانَتْ فِيهَا ثَلاَثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ, إلَى سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ; فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ, وَكَذَلِكَ إلَى أَنْ تَكُونَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسًا; فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ وَشَاةٌ; وَهَكَذَا أَبَدًا كُلَّمَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ خَمْسِينَ زَادَ حِقَّةً, ثُمَّ اسْتَأْنَفَ تَزْكِيَتَهَا بِالْغَنَمِ, ثُمَّ بِبِنْتِ الْمَخَاضِ ثُمَّ بِبِنْتِ اللَّبُونِ ثُمَّ الْحِقَّةِ.
قال أبو محمد: فأما مَنْ رَأَى الْحِقَّتَيْنِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ وَالْمِائَةِ إلَى أَنْ تَصِيرَ ثَلاَثِينَ وَمِائَةً فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِأَنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ: "إنَّ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي كِتَابِ عُمَرَ فِي الصَّدَقَةِ: أَنَّ الإِبِلَ إذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْعَشْرِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ ثَلاَثِينَ وَمِائَةً".
قال علي: وهذا مُرْسَلٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِيهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ مَجْهُولٌ.
وَنَحْنُ نَأْتِيهِمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ هَذَا, كَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ هُوَ أَبُو كُرَيْبٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حدثنا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ. هَذِهِ نُسْخَةُ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَتَبَهُ فِي الصَّدَقَةِ, وَهِيَ عِنْدَ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, قَالَ: أَقْرَأَنِي إيَّاهَا سَالِمُ بْنُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29