كتاب : المحلى
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري

زكاة الفطر
زكاة الفطر من رمضان فرض واجب على كل مسلم
زَكَاةُ الْفِطْرِ
704 - مَسْأَلَةٌ: زَكَاةُ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ,
كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ, ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى, حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ, وَإِنْ كَانَ مَنْ ذَكَرْنَا جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّاعَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ قَبْلُ, وَلاَ يُجْزِئُ شَيْءٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا, لاَ قَمْحَ, وَلاَ دَقِيقَ قَمْحٍ أَوْ شَعِيرٍ, وَلاَ خُبْزَ، وَلاَ قِيمَةَ; ، وَلاَ شَيْءَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حدثنا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ أَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ, رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ, صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَلْخِيُّ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حدثنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِزَكَاةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ".
وقال مالك: لَيْسَتْ فَرْضًا, وَاحْتَجَّ لَهُ مَنْ قَلَّدَهُ بِأَنْ قَالَ: مَعْنَى "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" أَيُّ قَدَّرَ مِقْدَارَهَا.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ, لاَِنَّهُ دَعْوًى بِلاَ بُرْهَانٍ وَإِحَالَةُ اللَّفْظِ، عَنْ مَوْضُوعِهِ بِلاَ دَلِيلٍ. وَقَدْ أَوْرَدَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهَا وَأَمْرُهُ فَرْضٌ, قَالَ تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ، عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وَذَكَرُوا خَبَرًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ, فَلَمَّا نَزَلَتْ الزَّكَاةُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا, وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ".
وَعَنْهُ أَيْضًا: "كُنَّا نَصُومُ عَاشُورَاءَ وَنُعْطِي الْفِطْرَ مَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْنَا صَوْمُ رَمَضَانَ

وَالزَّكَاةُ, فَلَمَّا نَزَلاَ لَمْ نُؤْمَرْ وَلَمْ نُنْهَ عَنْهُ, وَنَحْنُ نَفْعَلُه"ُ.
وَقَالَ أبو محمد وَهَذَا الْخَبَرُ حُجَّةٌ لَنَا عَلَيْهِمْ لإِنَّ فِيهِ أَمْرَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بِزَكَاةِ الْفِطْرِ, فَصَارَ أَمْرًا مُفْتَرَضًا ثُمَّ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ فَبَقِيَ فَرْضًا كَمَا كَانَ, وَأَمَّا يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَلَوْلاَ أَنَّهُ عليه السلام صَحَّ، أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: "مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ", لَكَانَ فَرْضُهُ بَاقِيًا, وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ; فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ, وَقَدْ قَالَ تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ: زَكَاةً, فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا, وَالدَّلاَئِلُ عَلَى هَذَا تَكْثُرُ جِدًّا.
وَرُوِّينَا، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ, وَأَبِي قِلاَبَةَ قَالاَ جَمِيعًا: زَكَاةُ الْفِطْرِ فَرِيضَةٌ, وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَغَيْرِهِمَا. وَأَجَازَ قَوْمٌ أَشْيَاءَ غَيْرَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ قَوْمٌ: يُجْزِئُ فِيهَا الْقَمْحُ وَقَالَ آخَرُونَ: وَالزَّبِيبُ, وَالأَقِطُ.
وَاحْتَجُّوا بِأَشْيَاءَ مِنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا يُخْرِجُ كُلُّ أَحَدٍ مِمَّا يَأْكُلُ وَمِنْ قُوتِ أَهْلِ بَلَدِهِ. فَقُلْنَا: هَذِهِ دَعْوَى بَاطِلٍ بِلاَ بُرْهَانٍ, ثُمَّ قَدْ نَقَضْتُمُوهَا لاَِنَّهُ إنَّمَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ لاَ الْحَبَّ: فَأَوْجَبُوا أَنْ يُعْطِيَ خُبْزًا لاَِنَّهُ هُوَ أَكَلَهُ, وَهُوَ قُوتُ أَهْلِ بَلَدِهِ, فَإِنْ قَالُوا: هُوَ غَيْرُ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ. قلنا: صَدَقْتُمْ, وَكَذَلِكَ مَا عَدَا التَّمْرَ, وَالشَّعِيرَ.
وَقَالُوا: إنَّمَا خَصَّ عليه السلام بِالذَّكَرِ التَّمْرَ, وَالشَّعِيرَ; لاَِنَّهُمَا كَانَا قُوتَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا قَوْلٌ فَاحِشٌ جِدًّا; أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكْشُوفٌ, لإِنَّ هَذَا الْقَائِلَ قَوَّلَهُ عليه السلام مَا لَمْ يَقُلْ; وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا.

وَيُقَالُ لَهُ: مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ الْقَمْحَ, وَالزَّبِيبَ; فَسَكَتَ عَنْهُمَا وَقَصَدَ إلَى التَّمْرِ, وَالشَّعِيرِ; أَنَّهُمَا قُوتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ, وَهَذَا لاَ يَعْلَمْنَهُ إلاَّ مَنْ أَخْبَرَهُ عليه السلام بِذَلِكَ، عَنْ نَفْسِهِ, أَوْ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ وَحَيٌّ بِذَلِكَ.
وَأَيْضًا: فَلَوْ صَحَّ لَهُمْ ذَلِكَ لَكَانَ الْفَرْضُ فِي ذَلِكَ لاَ يَلْزَمُ إلاَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَقَطْ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ وَأَنْذَرَ بِذَلِكَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَفْتَحُ لَهُمْ الشَّامَ, وَالْعِرَاقَ, وَمِصْرَ, وَمَا وَرَاءَ الْبِحَارِ, فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَلْبِسَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْبِلاَدِ دِينَهُمْ فَيُرِيدُ مِنْهُمْ أَمْرًا، وَلاَ يَذْكُرُهُ لَهُمْ وَيَلْزَمُهُمْ بِكَلاَمِهِ مَا لاَ يَلْزَمُهُمْ مِنْ التَّمْرِ, وَالشَّعِيرِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الظَّنِّ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَطِ.
وَاحْتَجُّوا بِأَخْبَارٍ فَاسِدَةٍ لاَ تَصِحُّ.
مِنْهَا خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ: صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ".
وَالْحَارِثُ ضَعِيفٌ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِيهِ إلاَّ الأَقِطُ لاَ سَائِرَ مَا يُجِيزُونَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمُزَنِيِّ، عَنْ رُبَيْحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ "صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ".
وَكَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَاقِطٌ, لاَ تَجُوزُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلاَّ الأَقِطُ, وَالزَّبِيبُ.

وَمِنْ طَرِيقِ نَصْرِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ: "صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ مِنْ قَمْحٍ, وَيَقُولُ أَغْنُوهُمْ، عَنْ تَطْوَافِ هَذَا الْيَوْمِ".
وَأَبُو مَعْشَرٍ الْمَدَنِيُّ هَذَا نَجِيحٌ مُطَّرَحٌ يُحَدِّثُ بِالْمَوْضُوعَاتِ، عَنْ نَافِعٍ وَغَيْرِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ يَعْلَى، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ رَشَادٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "صَاعًا مِنْ بُرٍّ، عَنْ كُلِّ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى, صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ, غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ, حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ".
وَالنُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ ضَعِيفٌ كَثِيرُ الْغَلَطِ; ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ قَدْ خَالَفَهُ; لاَِنَّهُ لاَ يُوجِبُ إلاَّ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى: حدثنا بَكْرُ بْنُ وَائِلِ بْنِ دَاوُد، حدثنا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ, أَوْ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ أَمَرَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعَ تَمْرٍ, أَوْ صَاعَ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ, أَوْ صَاعَ قَمْحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ".
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَانِ مُرْسَلاَنِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسَدَّدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: "صَاعٌ مِنْ قَمْحٍ عَلَى كُلِّ اثْنَيْنِ".
وَمِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْعَتَكِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ, أَوْ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: "صَاعٌ مِنْ بُرٍّ عَلَى كُلِّ اثْنَيْنِ".
فَحَصَل هَذَا الْحَدِيثُ رَاجِعًا إلَى رَجُلٍ مَجْهُولِ الْحَالِ, مُضْطَرِبٍ عَنْهُ, مُخْتَلَفٍ فِي اسْمِهِ, مَرَّةً: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ, وَمَرَّةً: ثَعْلَبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يَلْقَ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ, وَلَيْسَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ صُحْبَةٌ.

وَأَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ مَا حَدَّثَنَاهُ هَمَّامُ، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حدثنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ, أَنَّ الزُّهْرِيَّ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ خَطِيبًا فَأَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ, صَاعَ تَمْرٍ, أَوْ صَاعَ شَعِيرٍ، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ", وَلَمْ يَذْكُرْ: "الْبُرَّ "، وَلاَ شَيْئًا غَيْرَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ: وَلَكِنَّا لاَ نَحْتَجُّ بِهِ; لإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَعْلَبَةَ مَجْهُولٌ ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُظَاهِرٍ شَعِيرًا وَقَالَ: "أَطْعِمْ هَذَا, فَإِنَّ مُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ يَقْضِيَانِ مُدًّا مِنْ قَمْحٍ" وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جَرِيرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَجَّ بَعَثَ صَارِخًا فِي بَطْنِ مَكَّةَ: "أَلاَ إنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُدَّانِ مِنْ حِنْطَةٍ, أَوْ صَاعٌ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الطَّعَامِ".
وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وَعَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: "كَانُوا يُخْرِجُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ".
وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ, وَعُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ, وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ, وَعُقَيْلٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ, وَقَالَ عَمْرٌو: عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ ثُمَّ اتَّفَقَ يَزِيدُ, وَالزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ: مُدَّيْنِ حِنْطَةً".

وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وَمِثْلُهُ أَيْضًا، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ, وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ, وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ, كُلِّهِمْ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ مَرَاسِيلُ.
وَمِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَهَا يَعْنِي زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ"، وَلاَ يَصِحُّ لِلْحَسَنِ سَمَاعٌ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَأَوْسِ بْنِ الْحَارِثِ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ, وَلاَ يَشْتَغِلُ بِهِ, وَلاَ يَعْمَلُ بِهِ إلاَّ جَاهِلٌ.
قال أبو محمد: وَهَذَا مِمَّا نَقَضَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فِيهِ أَصْلَهَا.
فأما الشَّافِعِيُّونَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ، عَنِ الشَّافِعِيِّ: بِأَنَّ مُرْسَلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ حُجَّةٌ, وَقَدْ تَرَكُوا هَاهُنَا مُرْسَلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
وقال الشافعي: فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ لاَ تُجْزِئُ زَكَاةُ الْفِطْرِ إلاَّ مِنْ حَبٍّ تَخْرُجُ مِنْهُ الزَّكَاةُ, وَتُوقَفُ فِي الأَقِطِ, وَأَجَازَهُ مَرَّةً أُخْرَى.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ, فَأَجَازُوا الْمُرْسَلَ وَجَعَلُوهُ كَالْمُسْنَدِ, وَخَالَفُوا هَاهُنَا مِنْ الْمَرَاسِيلِ مَا لَوْ جَازَ قَبُولُ شَيْءٍ مِنْهَا لَجَازَ هَاهُنَا, لِكَثْرَتِهَا وَشُهْرَتِهَا وَمَجِيئِهَا مِنْ طَرِيقِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ. وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ فَإِنَّهُمْ فِي أَشْهَرِ رِوَايَاتِهِمْ عَنْهُ جَعَلَ الزَّبِيبَ كَالْبُرِّ فِي أَنَّهُ يُجْزِئُ مِنْهُ نِصْفُ صَاعٍ, وَلَمْ يُجِزْ الأَقِطَ إلاَّ بِالْقِيمَةِ, وَلاَ أَجَازَ غَيْرَ الْبُرِّ, وَالشَّعِيرِ وَدَقِيقِهِمَا وَسَوِيقِهِمَا, وَالتَّمْرِ, وَالزَّبِيبِ فَقَطْ إلاَّ بِالْقِيمَةِ, وَهَذَا خِلاَفٌ لِبَعْضِ هَذِهِ الآثَارِ وَخِلاَفٌ لِجَمِيعِهَا فِي إجَازَةِ الْقِيمَةِ, وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِنْ إطْبَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ رَاوِيَ الْخَبَرِ إذَا تَرَكَهُ

كَانَ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى سُقُوطِ الْخَبَرِ, كَمَا فَعَلُوا فِي خَبَرِ غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا.
وَقَدْ حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عَلِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ الرُّقِيُّ، عَنْ مَخْلَدٍ، هُوَ ابْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ هِشَامٍ، هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ذَكَرَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَالَ : "صَاعٌ مِنْ بُرٍّ, أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعٌ مِنْ سُلْتٍ".
فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ خَالَفَ مَا رُوِيَ بِأَصَحَّ إسْنَادٍ يَكُونُ عَنْهُ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِمْ رَدُّ تِلْكَ الرِّوَايَةِ, وَإِلاَّ فَقَدْ نَقَضُوا أَصْلَهُمْ.
وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا صَحِيحًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ, صَاعًا مِنْ طَعَامٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ; أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ".
قال أبو محمد: وَهَذَا غَيْرُ مُسْنَدٍ, وَهُوَ أَيْضًا مُضْطَرِبٌ فِيهِ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ.
فَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ، عَنْ زَيْدٍ، هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "كُنَّا نُخْرِجُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ, وَكَانَ طَعَامُنَا: الشَّعِيرَ, وَالزَّبِيبَ, وَالأَقِطَ وَالتَّمْرَ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ أَخْبَرَنِي عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِينَا، عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ, حُرٍّ وَمَمْلُوكٍ: مِنْ ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, صَاعًا مِنْ أَقِطٍ, صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فأما أَنَا فَلاَ أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَذَلِكَ".
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: حدثنا ابْنُ عَجْلاَنَ سَمِعْتُ عِيَاضَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُخْبِرُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "لَمْ نُخْرِجْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ سُلْتٍ", ثُمَّ شَكَّ سُفْيَانُ

فَقَالَ: دَقِيقٌ أَوْ سُلْتٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ، هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ أَنَّ عِيَاضَ بْنَ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ, لاَ نُخْرِجُ غَيْرَهُ", يَعْنِي فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ.
قال أبو محمد: فَفِي بَعْضِ هَذِهِ الأَخْبَارِ إبْطَالُ إخْرَاجِ "الْبُرِّ" جُمْلَةً, وَفِي بَعْضِهَا إثْبَاتُ الزَّبِيبِ, وَفِي بَعْضِهَا نَفْيُهُ, وَإِثْبَاتُ الأَقِطِ جُمْلَةً, وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ, وَهُمْ يَعِيبُونَ الأَخْبَارَ الْمُسْنَدَةَ الَّتِي لاَ مَغْمَزَ فِيهَا بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا الاِضْطِرَابِ, كَحَدِيثِ إبْطَالِ تَحْرِيم الرَّضْعَةِ وَالرَّضْعَتَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ خَبَرٌ مُسْنَدٌ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّهُ, وَلاَ عَجَبَ أَكْثَرَ مِمَّنْ يَقُولُ فِي خَبَرِ جَابِرٍ الثَّابِتِ: "كُنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم", وَحَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الثَّابِتُ: "ذَبَحْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ" أَنَّ هَذَانِ لَيْسَا مُسْنَدَيْنِ لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّهُ, ثُمَّ يَجْعَلُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا مُسْنَدًا عَلَى اضْطِرَابِهِ وَتَعَارُضِ رُوَاتِهِ فِيهِ!!
فَلْيَقُلْ كُلُّ ذِي عَقْلٍ: أَيُّمَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْعُ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أُمَّ وَلَدِهِ, أَوْ ذَبْحُ فَرَسٍ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَوْ بَيْتِ الزُّبَيْرِ, وَبَيْتَاهُمَا مُطْنِبَانِ بِبَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَابْنَتُهُ عِنْدَهُ, عَلَى عِزَّةِ الْخَيْلِ عِنْدَهُمْ وَقِلَّتِهَا وَحَاجَتِهِمْ إلَيْهَا, أَمْ صَدَقَةُ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي بَنِي خُدْرَةَ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ بِصَاعِ أَقِطٍ, أَوْ صَاعِ زَبِيبٍ

وَلَوْ ذُبِحَ فَرَسٌ لِلأَكْلِ فِي جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ بَغْدَادَ مَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْفَى فِي الْجَانِبِ الآخَرِ, وَلَوْ تَصَدَّقَتْ امْرَأَةُ أَحَدِنَا أَوْ جَارُهُ الْمُلاَصِقُ بِصَاعِ أَقِطٍ; أَوْ صَاعِ زَبِيبٍ وَصَاعِ قَمْحٍ, مَا كَادَ هُوَ يَعْلَمُهُ فِي الأَغْلَبِ; فَاعْجَبُوا لِعَكْسِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ الْحَقَائِقَ, ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الطَّوَائِفَ الثَّلاَثَةَ مُخَالِفَةٌ لِمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ.
أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَشْهَرُ أَقْوَالِهِ أَنَّ نِصْفَ صَاعِ زَبِيبٍ يُجْزِئُ، وَأَنَّ الأَقِطَ لاَ يُجْزِئُ إلاَّ بِالْقِيمَةِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَأَشْهَرُ أَقْوَالِهِ أَنَّ الأَقِطَ لاَ يُجْزِئُ, وَأَجَازَ إخْرَاجَ مَا مَنَعَتْ هَذِهِ الأَخْبَارُ مِنْ إخْرَاجِهِ, مِمَّا لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا مِنْ الذُّرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ, وَالشَّافِعِيُّونَ فَخَالَفُوهَا جُمْلَةً; لأَنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ إخْرَاجَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ فِي هَذَا الْخَبَرِ إلاَّ لِمَنْ كَانَتْ قُوتَهُ, وَخَبَرُ أَبِي سَعِيدٍ لاَ يُخْتَلَفُ فِيهِ أَنَّهُ عَلَى التَّخْيِيرِ, وَكُلُّهُمْ يُجِيزُ إخْرَاجَ مَا مَنَعَتْ هَذِهِ الأَخْبَارُ مِنْ إخْرَاجِهِ.
فَمَنْ أَضَلَّ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِمَا هُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ مَا هَذَا مِنْ التَّقْوَى, وَلاَ مِنْ الْبِرِّ, وَلاَ مِنْ النُّصْحِ لِمَنْ أَغْتَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَوَاَللَّهِ لَوْ انْسَنَدَ صَحِيحًا شَيْءٌ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الأَخْبَارِ لَبَادَرَنَا إلَى الأَخْذِ بِهِ, وَمَا تَوَقَّفْنَا عِنْدَ ذَلِكَ, لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا مُسْنَدٌ صَحِيحٌ، وَلاَ وَاحِدٌ, فَلاَ يَحِلُّ الأَخْذُ بِهَا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى.
وقال بعضهم: إنَّمَا قلنا بِجَوَازِ الْقَمْحِ لِكَثْرَةِ الْقَائِلِينَ بِهِ, وَجَمَحَ فَرَسُ بَعْضِهِمْ فَادَّعَى الإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ جُرْأَةً وَجَهْلاً!
فَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى الذَّكَرِ, وَالآُنْثَى, وَالْحُرِّ, وَالْعَبْدِ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَعَدَلَهُ النَّاسُ بَعْدُ: مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ".

وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَعَدَلَ النَّاسُ بَعْدُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي التَّمْرَ, فَأَعْوَزَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ التَّمْرَ عَامًا فَأَعْطَى الشَّعِيرَ".
قال أبو محمد: لَوْ كَانَ فِعْلُ النَّاسِ حُجَّةً عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ مَا اسْتَجَازَ خِلاَفَهُ, وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}. وَلاَ حُجَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ, لَكِنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى النَّاسِ وَعَلَى الْجِنِّ مَعَهُمْ, وَنَحْنُ نَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِخِلاَفِ النَّاسِ الَّذِينَ تَقَرَّبَ ابْنُ عُمَرَ إلَيْهِ بِخِلاَفِهِمْ.
وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنٍ، عَنْ زَائِدَةَ، حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رُوَادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "كَانَ النَّاسُ يُخْرِجُونَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ تَمْرٍ, أَوْ زَبِيبٍ, أَوْ سُلْتٍ".
قال أبو محمد: هَذَا لاَ يَنْسَنِدُ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ ذَلِكَ وَأَقَرَّهُ, ثُمَّ خِلاَفُهُمْ لَهُ لَوْ أُسْنِدَ وَصَحَّ كَخِلاَفِهِمْ لِسَعِيدٍ الَّذِي ذَكَرْنَا, وَإِبْطَالُ تَهْوِيلِهِمْ بِمَا فِيهِ مِنْ "كَانَ النَّاسُ يُخْرِجُونَ" بِخِلاَفِ ابْنِ عُمَرَ الْمُخْبِرِ عَنْهُمْ كَمَا فِي خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ رَاوِيَ هَذَا الْخَبَرِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رُوَادٍ, وَهُوَ ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ قُلْت لاِبْنِ عُمَرَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْسَعَ, وَالْبُرُّ أَفْضَلُ مِنْ التَّمْرِ يَعْنِي فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنَّ أَصْحَابِي سَلَكُوا طَرِيقًا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْلُكَهُ.
قال أبو محمد: فَهَذَا ابْنُ عُمَرَ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَانَ لاَ يُخْرِجُ إلاَّ التَّمْرَ, أَوْ الشَّعِيرَ, وَلاَ يُخْرِجُ الْبُرَّ, وَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ, فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فِي عَمَلِهِ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ أَصْحَابِهِ; فَهَؤُلاَءِ هُمْ النَّاسُ الَّذِينَ يُسْتَوْحَشُ مِنْ خِلاَفِهِمْ وَهُمْ الصَّحَابَةُ، رضي الله عنهم،, بِأَصَحِّ طَرِيقٍ,

وَإِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ الإِجْمَاعَ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا إذَا وَجَدُوهُ.
وَعَنْ أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ: كَانَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ يُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ إذَا كَانَ يَوْمُ الْفِطْرِ أَرْسَلَ صَدَقَةَ كُلِّ إنْسَانٍ مِنْ أَهْلِهِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ قَالَ: كَانَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لاَ يُخْرِجُ إلاَّ تَمْرًا "يَعْنِي فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
فَهَؤُلاَءِ: ابْنُ عُمَرَ, وَالْقَاسِمُ, وَسَالِمٌ, وَعُرْوَةُ: لاَ يُخْرِجُونَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ إلاَّ التَّمْرَ, وَهُمْ يَقْتَاتُونَ الْبُرَّ بِلاَ خِلاَفٍ, وَإِنَّ أَمْوَالَهُمْ لَتَسَعُ إلَى إخْرَاجِ صَاعِ دَرَاهِمَ، عَنْ أَنْفُسِهِمْ, وَلاَ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي أَمْوَالِهِمْ.، رضي الله عنهم.
فإن قيل: هُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
قلنا: مَا خَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحُكْمِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مِنْ أَهْلِ الصِّينِ, وَلاَ بَعَثَ إلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ إجَازَةِ مَالِكٍ إخْرَاجَ الذُّرَةِ, وَالدَّخَنِ, وَالآُرْزِ لِمَنْ كَانَ ذَلِكَ قُوتَهُ, وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي شَيْءٍ مِنْ الأَخْبَارِ أَصْلاً, وَمَنَعَ مِنْ إخْرَاجِ الدَّقِيقِ لاَِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الأَخْبَارِ; وَمَنَعَ مِنْ إخْرَاجِ الْقَطَانِيِّ وَإِنْ كَانَتْ قُوتَ الْمُخْرِجِ, وَمَنَعَ مِنْ التِّينِ, وَالزَّيْتُونِ, وَإِنْ كَانَا قُوتَ الْمُخْرِجِ, وَهَذَا تَنَاقُضٌ, وَخِلاَفٌ لِلأَخْبَارِ, وَتَخَاذُلٌ فِي الْقِيَاسِ, وَإِبْطَالُهُمْ لِتَعْلِيلِهِمْ بِأَنَّ الْبُرَّ أَفْضَلُ مِنْ الشَّعِيرِ, وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ الدَّقِيقَ وَالْخُبْزَ مِنْ الْبُرِّ وَالسُّكَّرُ أَفْضَلُ مِنْ الْبُرِّ وَأَقَلُّ مُؤْنَةٍ وَأَعْجَلُ نَفْعًا, فَمَرَّةً يُجِيزُونَ مَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ, وَمَرَّةً يَمْنَعُونَ مِمَّا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ; وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الشَّافِعِيِّينَ، وَلاَ فَرْقَ.
قال أبو محمد: وَشَغِبَ الْحَنَفِيُّونَ بِأَخْبَارٍ نَذْكُرُ مِنْهَا طَرَفًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
مِنْهَا خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ, وَشُعْبَةَ, كِلاَهُمَا، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ سَمِعَ أَبَا قِلاَبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ أَدَّى إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ نِصْفَ صَاعٍ بُرٍّ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رُوَادٍ، عَنْ

نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كَانَ النَّاسُ يُخْرِجُونَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ تَمْرٍ, أَوْ سُلْتٍ, أَوْ زَبِيبٍ". قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ وَكَثُرَتْ الْحِنْطَةُ جَعَلَ عُمَرُ نِصْفَ صَاعِ حِنْطَةٍ مَكَانَ صَاعٍ مِنْ تِلْكَ الأَشْيَاءِ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ خَالِدِ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثَ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه وَهُوَ يَخْطُبُ, فَقَالَ: فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "كَانَ النَّاسُ يُعْطُونَ زَكَاةَ رَمَضَانَ نِصْفَ صَاعٍ. فأما إذْ أَوْسَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ فَإِنِّي أَرَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ".
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ: كَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرِ الصِّدِّيقِ تُعْطِي زَكَاةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمَوَّنَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ, أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ فَقِيرٍ وَغَنِيٍّ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ, أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: زَكَاةُ الْفِطْرِ مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ, أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ تَمْرٍ. قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: وَبَلَغَنِي هَذَا أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَمِنْ طَرِيق عَبْدِ الْكَرِيمِ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ. وَالأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ, أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ, أَوْ شَعِيرٍ يَعْنِي فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبَ، حدثنا دَاوُد يَعْنِي ابْنَ قَيْسٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "كُنَّا نُخْرِجُ إذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ, فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُ ذَلِكَ حَتَّى قَدِمَ مُعَاوِيَةُ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا; فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إنِّي أَرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءَ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فأما أَنَا فَلاَ أُخْرِجُهُ أَبَدًا مَا عِشْتُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنَ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ مَرْوَانَ بَعَثَ إلَى أَبِي سَعِيدٍ: أَنْ ابْعَثْ إلَيَّ بِزَكَاةِ رَقِيقِكَ, فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: إنَّ مَرْوَانَ لاَ يَعْلَمُ, إنَّمَا عَلَيْنَا أَنَّ نُطْعِمَ، عَنْ كُلِّ رَأْسٍ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ صَاعَ تَمْرٍ, أَوْ نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: ذَكَرْتُ لاَِبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَقَالَ: "لاَ أُخْرِجُ إلاَّ مَا كُنْتُ أُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعَ زَبِيبٍ أَوْ صَاعَ أَقِطٍ", فَقِيلَ لَهُ: أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ؟ فَقَالَ: "لاَ, تِلْكَ قِيمَةُ مُعَاوِيَةَ, لاَ أَقْبَلُهَا, وَلاَ أَعْمَلُ بِهَا".
فَهَذَا أَبُو سَعِيدٍ يَمْنَعُ مِنْ "الْبُرِّ" جُمْلَةً; وَمِمَّا عَدَا مَا ذُكِرَ.
وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إيجَابُ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ عَلَى الإِنْسَانِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ, أَوْ قِيمَتِهِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ نِصْفُ دِرْهَمٍ.
مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَيْنَا بِذَلِكَ, وَصَحَّ أَيْضًا، عَنْ طَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِي سَلَمَةَ

ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرِ. وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَاللَّيْثِ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
قال أبو محمد: تَنَاقَضَ هَاهُنَا الْمَالِكِيُّونَ الْمُهَوِّلُونَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَخَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَعُثْمَانَ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ, وَعَائِشَةَ, وَأَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ, وَأَبَا هُرَيْرَةَ, وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنَ مَسْعُودٍ, وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَابْنَ الزُّبَيْرِ, وَأَبَا سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ, وَهُوَ عَنْهُمْ كُلُّهُمْ صَحِيحٌ إلاَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, إلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيِّينَ يَحْتَجُّونَ بِأَضْعَفَ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ إذَا وَافَقَتْهُمْ. ثُمَّ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ: ابْنَ الْمُسَيِّبِ, وَعُرْوَةَ, وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ وَغَيْرَهُمْ أَفَلاَ يَتَّقِي اللَّهَ مَنْ يَزِيدُ فِي الشَّرَائِعِ مَا لَمْ يَصِحَّ قَطُّ, مِنْ جَلْدِ الشَّارِبِ لِلْخَمْرِ ثَمَانِينَ, بِرِوَايَةٍ لَمْ تَصِحَّ قَطُّ، عَنْ عُمَرَ, ثُمَّ قَدْ صَحَّ خِلاَفُهَا عَنْهُ, وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ قَبْلَهُ, وَعَنْ عُثْمَانَ, وَعَلِيٍّ بَعْدَهُ, وَالْحَسَنِ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لاَ يُخَالِفُهُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ, وَمَعَهُمْ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ: ثُمَّ لاَ يَلْتَفِتُ هَاهُنَا إلَى هَؤُلاَءِ كُلِّهِمْ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ الْمُتَزَيِّنُونَ فِي هَذَا الْمَكَانِ بِاتِّبَاعِهِمْ فَقَدْ خَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ; وَابْنَ مَسْعُودٍ, وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ, وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ, وَأُمَّ سَلَمَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ, وَخَالَفُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ, وَأَبَا مَسْعُودٍ, وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ, وَبِلاَلاً وَأَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَابْنَ عُمَرَ, وَسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ كُلِّ مَنْ يُجِيزُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ, وَمِثْلُ هَذَا لَهُمْ كَثِيرٌ جِدًّا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ, وَلاَ حُجَّةَ إلاَّ فِيمَا صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
قال أبو محمد: وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ لَيْسَ عَلَى الأَعْرَابِ, أَهْلِ الْبَادِيَةِ زَكَاةُ الْفِطْرِ وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهَا عَلَيْهِمْ, وَأَنَّهُمْ يُخْرِجُونَ فِي ذَلِكَ اللَّبَنِ.
قال أبو محمد: لَمْ يَخُصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيًّا، وَلاَ بَدَوِيًّا مِنْ غَيْرِهِمْ, فَلَمْ يُجِزْ تَخْصِيصَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ, وَلاَ يُجْزِئُ لَبَنٌ، وَلاَ غَيْرُهُ, إلاَّ الشَّعِيرَ, أَوْ التَّمْرَ فَقَطْ.

وَأَمَّا الْحَمْلُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَهَا عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ, وَالْجَنِينُ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ: صَغِيرٍ, فَإِذَا أَكْمَلَ مِائَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ قَبْلَ انْصِدَاعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ الْفِطْرِ وَجَبَ أَنْ تُؤَدَّى عَنْهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ النَّمَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ, قَالَ حَفْصُ: حدثنا شُعْبَةُ, وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, ثُمَّ اتَّفَقَ سُفْيَانُ, وَشُعْبَةُ كِلاَهُمَا، عَنِ الأَعْمَشِ: حدثنا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ، حدثنا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا, ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ, ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ, ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ, رِزْقُهُ, وَعَمَلُهُ, وَأَجَلُهُ, ثُمَّ يُكْتَبُ: شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ, ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ".
قال أبو محمد: هُوَ قَبْلَ مَا ذَكَرْنَا مَوَاتَ, فَلاَ حُكْمَ عَلَى مَيِّتٍ, فأما إذَا كَانَ حَيًّا كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكُلُّ حُكْمٍ وَجَبَ عَلَى الصَّغِيرِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حدثنا أَبِي، حدثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ وَقَتَادَةَ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يُعْطِي صَدَقَةَ الْفِطْرِ، عَنِ الصَّغِيرِ, وَالْكَبِيرِ, وَالْحَمْلِ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ: كَانَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ يُعْطُوا زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنِ الصَّغِيرِ, وَالْكَبِيرِ, حَتَّى، عَنِ الْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ, وَأَبُو قِلاَبَةَ أَدْرَكَ الصَّحَابَةَ وَصَحِبَهُمْ وَرَوَى عَنْهُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الْحَمْلِ أَيُزَكَّى عَنْهُ قَالَ: نَعَمْ.
وَلاَ يُعْرَفُ لِعُثْمَانَ فِي هَذَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَهُمْ يُعَظِّمُونَ بِمِثْلِ هَذَا إذَا وَافَقَهُمْ.

يؤدي المسلم زكاة الفطر عن رقيقه مؤمنا كان أو كافرا
705 - مَسْأَلَةٌ: وَيُؤَدِّيهَا الْمُسْلِمُ، عَنْ رَقِيقِهِ, مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ,
مَنْ كَانَ مِنْهُمْ لِتِجَارَةٍ أَوْ لِغَيْرِ تِجَارَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي الْكُفَّارِ.
وقال مالك, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ تُؤَدَّى إلاَّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ

وقال أبو حنيفة: لاَ تُؤَدَّى زَكَاةُ الْفِطْرِ، عَنْ رَقِيقِ التِّجَارَةِ.
وقال مالك وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: تُؤَدَّى عَنْهُمْ زَكَاةُ الْفِطْرِ.
وَقَالُوا كُلُّهُمْ حَاشَا أَبَا سُلَيْمَانَ: يُخْرِجُهَا السَّيِّدُ عَنْهُمْ, وَبِهِ نَقُولُ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانُ: يُخْرِجُهَا الرَّقِيقُ، عَنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ إخْرَاجَهَا، عَنِ الرَّقِيقِ الْكُفَّارِ بِمَا رُوِيَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى حُرٍّ, أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى, صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ".
قال أبو محمد: وَهَذَا صَحِيحٌ, وَبِهِ نَأْخُذُ, إلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إسْقَاطُهَا، عَنِ الْمُسْلِمِ فِي الْكُفَّارِ مِنْ رَقِيقِهِ، وَلاَ إيجَابُهَا, فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلاَّ هَذَا الْخَبَرُ وَحْدَهُ لَمَا وَجَبَتْ عَلَيْنَا زَكَاةُ الْفِطْرِ إلاَّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ رَقِيقِنَا فَقَطْ.
وَلَكِنْ وَجَدْنَا حَدَّثَنَاهُ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّمَرِيُّ قَالَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ الْقَاضِي، حدثنا يَحْيَى بْنُ مَالِكِ بْنِ عَائِذٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي الشَّرِيفِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ الْخَوْلاَنِيِّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْغَافِقِيُّ قَالاَ جَمِيعًا: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَعَبْدِهِ صَدَقَةٌ, إلاَّ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ" وَقَدْ رُوِّينَاهُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ.
قال أبو محمد: فَأَوْجَبَ عليه الصلاة والسلام صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي رَقِيقِهِ عُمُومًا, فَكَانَ هَذَا زَائِدًا عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, وَكَانَ بَاقِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بَعْضَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ, لاَ مُعَارِضًا لَهُ أَصْلاً, فَلَمْ يَجُزْ خِلاَفُ هَذَا الْخَبَرِ.
وَبِهَذَا الْخَبَرِ تَأْدِيَةُ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى السَّيِّدِ، عَنْ رَقِيقِهِ. لاَ عَلَى الرَّقِيقِ

وَبِهِ أَيْضًا يَسْقُطُ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ زَكَاةِ التِّجَارَةِ فِي الرَّقِيقِ, لاَِنَّهُ عليه السلام أَبْطَلَ كُلَّ زَكَاةٍ فِي الرَّقِيقِ إلاَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ أَتَوْا إلَى زَكَاتَيْنِ مَفْرُوضَتَيْنِ, إحْدَاهُمَا فِي الْمَوَاشِي, وَالآُخْرَى زَكَاةُ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ: فَأَسْقَطُوا بِإِحْدَاهُمَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ فِي الْمَوَاشِي الْمُتَّخَذَةِ لِلتِّجَارَةِ, وَأَسْقَطُوا الآُخْرَى بِزَكَاةِ التِّجَارَةِ فِي الرَّقِيقِ وَحَسْبُكَ بِهَذَا تَلاَعُبًا!
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ غَلَّبُوا مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الأَخْبَارِ: "فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ", وَلَمْ يُغَلِّبُوا مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الأَخْبَارِ فِي أَنَّ: "صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ", عَلَى مَا جَاءَ فِي سَائِرِ الأَخْبَارِ: "إلاَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ", وَهَذَا تَحَكُّمٌ فَاسِدٌ وَتَنَاقُضٌ، وَلاَ بُدَّ مِنْ تَغْلِيبِ الأَعَمِّ عَلَى الأَخَصِّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ, إلاَّ أَنْ يَأْتِيَ بَيَانُ نَصٍّ فِي الأَخَصِّ بِنَفْيِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الأَعَمِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

إن كان العبد بين الاثنين فصاعدا فعلى سيديه إخراج زكاة الفطر
706 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ كَانَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا فَعَلَى سَيِّدَيْهِمَا إخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ,
يُخْرِجُ، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَالِكَيْهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ, وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الرَّقِيقُ كَثِيرًا بَيْنَ سَيِّدَيْنِ فَصَاعِدًا.
وقال أبو حنيفة, وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ, وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَيْسَ عَلَى سَيِّدَيْهِ، وَلاَ عَلَيْهِ أَدَاءُ زَكَاةِ الْفِطْرِ, وَكَذَلِكَ لَوْ كَثُرَ الرَّقِيقُ الْمُشْتَرَكُ.
وقال مالك, وَالشَّافِعِيُّ: يُخْرِجُ عَنْهُ سَيِّدَاهُ بِقَدْرِ مَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا, وَكَذَلِكَ لَوْ كَثُرَ الرَّقِيقُ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لِمَنْ أُسْقِطَ عَنْهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَعَنْ سَيِّدِهِ حُجَّةً أَصْلاً, إلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ سَيِّدَيْهِ يَمْلِكُ عَبْدًا, وَلاَ أَمَةً وقال بعضهم: مَنْ مَلَكَ بَعْضَ الصَّاعِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ, فَكَذَلِكَ مَنْ مَلَكَ بَعْضَ عَبْدٍ, أَوْ بَعْضَ كُلِّ عَبْدٍ, أَوْ أَمَةٍ مِنْ رَقِيقٍ كَثِيرٍ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُهُمْ: لاَ يَمْلِكُ عَبْدًا, وَلاَ أَمَةً فَصَدَقُوا, وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ: يُخْرِجُهَا كُلُّ أَحَدٍ، عَنْ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ, وَإِنَّمَا قَالَ: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ، وَلاَ فَرَسِهِ صَدَقَةٌ إلاَّ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ" فَهَؤُلاَءِ رَقِيقٌ, وَالْعَبْدُ الْمُشْتَرَكُ رَقِيقٌ, فَالصَّدَقَةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ بِنَصِّ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمُسْلِمِ, وَهَذَا اسْمٌ يَعُمُّ النَّوْعَ كُلَّهُ وَبَعْضَهُ, وَيَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمِيعِ, وَبِهَذَا النَّصِّ لَمْ يَجُزْ فِي الرَّقَبَةِ الْوَاجِبَةِ نِصْفَا رَقَبَتَيْنِ, لاَِنَّهُ لاَ يَقَعُ عَلَيْهِمَا اسْمُ "رَقَبَةٌ" وَالنَّصُّ جَاءَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ.

وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ: مَنْ أَعْطَى نِصْفَيْ شَاتَيْنِ فِي الزَّكَاةِ أَجْزَأَتْهُ, وَلَوْ أَعْتَقَ نِصْفَيْ رَقَبَتَيْنِ فِي رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُجْزِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: مَنْ كَانَ مِنْ مَمْلُوكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا فَعَلَى سَادَاتِهِ فِيهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ; فَإِنْ كَانَ عَبْدَانِ فَصَاعِدًا، عَنْ اثْنَيْنِ فَلاَ صَدَقَةَ فِطْرٍ عَلَى الرَّقِيقِ، وَلاَ عَلَى مَنْ يَمْلِكُهُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَجِدْ إلاَّ بَعْضَ الصَّاعِ فَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ; لاَِنَّهُ قِيَاسٌ لِلْخَطَأِ عَلَى الْخَطَأِ, بَلْ مَنْ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ صَاعٍ لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ, عَلَى مَا نُبَيِّنُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَيْسَ زَكَاةُ الْفِطْرِ إلاَّ عَنْ مَمْلُوكٍ تَمْلِكُهُ, قَالَ وَكِيعٌ: يَعْنِي فِي الْمَمْلُوكِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ, وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ صَاحِبًا لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، مُخَالِفٌ, وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْحَنَفِيُّونَ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إيجَابِهِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ, وَعَبْدٍ, صَغِيرٍ, وَكَبِيرٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى, وَخَالَفُوا فِيهِ الْقِيَاسَ; لأَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الزَّكَاةَ فِي الْغَنَمِ الْمُشْتَرَكَةِ وَأَسْقَطُوا زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنِ الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ.

المكاتب الذي لم يؤد شيئا من كتابته فهو عبد يؤدي سيده عنه زكاة الفطر
707 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهِ فَهُوَ عَبْدٌ, يُؤَدِّي سَيِّدُهُ عَنْهُ زَكَاةَ الْفِطْرِ.
فَإِنْ أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ, أَوْ كَانَ عَبْدٌ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ, أَوْ أَمَةٌ كَذَلِكَ: فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِيمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ مَمْلُوكٌ عَلَى مَالِكِ بَعْضِهِ إخْرَاجُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْهُ بِمِقْدَارِ مَا يَمْلِكُ مِنْهُ; وَعَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ، عَنْ نَفْسِهِ بِمِقْدَارِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ, وَلَمْ يَرِدْ عَلَى سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ أَنْ يُعْطِيَ زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ مُكَاتَبِهِ.
وقال مالك: يُؤَدِّي السَّيِّدُ زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ مُكَاتَبِهِ وَعَنْ مِقْدَارِ مَا يَمْلِكُ، عَنِ الَّذِي بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ وَلَيْسَ عَلَى الَّذِي بَعْضُهُ رَقِيقٌ وَبَعْضُهُ حُرٌّ أَنْ يُخْرِجَ بَاقِيَ الصَّاعِ، عَنْ بَعْضِهِ الْحُرِّ.
وقال أبو حنيفة: لاَ تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, لاَ عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَلاَ عَلَى سَيِّدِهِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ عَلَى السَّيِّدِ أَدَاءَ الزَّكَاةِ، عَنْ مُكَاتَبِهِ بِرِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّي زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ رَقِيقِهِ وَرَقِيقِ امْرَأَتِهِ, وَكَانَ لَهُ مُكَاتَبٌ فَكَانَ لاَ يُؤَدِّي عَنْهُ, وَكَانَ لاَ يَرَى عَلَى الْمُكَاتَبِ زَكَاةً. قَالُوا: وَهَذَا صَاحِبٌ لاَ مُخَالِفَ لَهُ

يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ.
قال أبو محمد: لاَ حُجَّةَ فِيمَنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ الْمُحْتَجِّينَ بِهَذَا الأَثَرِ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ فَلَمْ يُوجِبُوا عَلَى الْمَرْءِ إخْرَاجَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، عَنْ رَقِيقِ امْرَأَتِهِ وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ ابْنِ عُمَرَ بَعْضُهُ حُجَّةً وَبَعْضُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
فَإِنْ قَالُوا: لَعَلَّهُ كَانَ يَتَطَوَّعُ بِإِخْرَاجِهَا، عَنْ رَقِيقِ الْمَرْأَةِ.
قِيلَ: وَلَعَلَّ ذَلِكَ الْمُكَاتَبَ كَلَّفَهُ إخْرَاجَهَا مِنْ كَسْبِهِ, كَمَا لِلْمَرْءِ أَنْ يُكَلِّفَ ذَلِكَ عَبْدَهُ, كَمَا يُكَلِّفُهُ الضَّرِيبَةَ; وَلَعَلَّهُ كَانَ يَرَى أَنْ يُخْرِجَهَا الْمُكَاتَبُ، عَنْ نَفْسِهِ; وَلَعَلَّهُ قَدْ رَجَعَ، عَنْ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ, فَكُلُّ هَذَا يَدْخُلُ فِيهِ "لَعَلَّ ".
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَظَاهِرُ الْخَطَأِ; لاَِنَّهُ جَعَلَ زَكَاةَ الْفِطْرِ نِصْفَ صَاعٍ; أَوْ عُشْرَ صَاعٍ, أَوْ تِسْعَةَ أَعْشَارٍ صَاعٍ فَقَطْ, وَهَذَا خِلاَفُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا, وَأَوْجَبَهَا عَلَى بَعْضِ إنْسَانٍ دُونَ سَائِرِهِ, وَهَذَا خِلاَفُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَخَطَأٌ; لاَِنَّهُ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْفِطْرِ فِيمَنْ لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ رَقِيقٍ مِمَّنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ عَبْدٌ, وَهَذَا مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ.
قال أبو محمد: وَالْحَقُّ مِنْ هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَهَا عَلَى الْحُرِّ, وَالْعَبْدِ, وَالذَّكَرِ, وَالآُنْثَى, وَالصَّغِيرِ, وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ, فَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ عَبْدٌ فَلَيْسَ حُرًّا, وَلاَ هُوَ أَيْضًا عَبْدٌ, وَلاَ هُوَ رَقِيقٌ, فَسَقَطَ بِذَلِكَ، عَنْ أَنْ يَجِبَ عَلَى مَالِكِ بَعْضِهِ عَنْهُ شَيْءٌ, وَلَكِنَّهُ ذَكَرٌ, أَوْ أُنْثَى, صَغِيرٌ, أَوْ كَبِيرٌ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، عَنْ نَفْسِهِ، وَلاَ بُدَّ بِهَذَا النَّصِّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا فِي الْمُكَاتَبِ يُؤَدِّي بَعْضَ كِتَابَتِهِ إنَّهُ يُؤَدِّيهَا، عَنْ نَفْسِهِ: فَهُوَ لإِنَّ بَعْضَهُ حُرٌّ وَبَعْضَهُ مَمْلُوكٌ كَمَا ذَكَرْنَا; فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهَا، عَنْ نَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبَ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الدِّمَشْقِيُّ، حدثنا يَزِيدُ، هُوَ ابْنُ هَارُونَ أَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, وَقَتَادَةَ, قَالَ قَتَادَةُ: عَنْ خِلاَسٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَقَالَ أَيُّوبُ: عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, ثُمَّ اتَّفَقَ عَلِيٌّ, وَابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "الْمُكَاتَبُ يُعْتَقُ مِنْهُ بِمِقْدَارِ مَا أَدَّى وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِمِقْدَارِ مَا عَتَقَ مِنْهُ". وَهَذَا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ.
وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ.
وَرُوِّينَا، عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ عَلَى الْمُكَاتَبِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ.
وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ, وَعَطَاءٍ: يُؤَدِّيهَا عَنْهُ سَيِّدُهُ.

لا يجزئ إخراج بعض الصاع شعيرا أو بعضه تمرا و لا تجزئ قيمة أصلا
708 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ إخْرَاجُ بَعْضِ الصَّاعِ شَعِيرًا وَبَعْضِهِ تَمْرًا, وَلاَ تُجْزِئُ قِيمَةٌ أَصْلاً;
لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَا فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقِيمَةُ فِي حُقُوقِ النَّاسِ لاَ تَجُوزُ إلاَّ بِتَرَاضٍ مِنْهُمَا, وَلَيْسَ لِلزَّكَاةِ مَالِكٌ بِعَيْنِهِ فَيَجُوزُ رِضَاهُ, أَوْ إبْرَاؤُهُ.

و ليس على الإنسان أن يخرجها عن أبيه و لا عن أمه و لا عن زوجته و لا عن ولده لا تلزمه إلا عن نفسه
709 - مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يُخْرِجَهَا، عَنْ أَبِيهِ, وَلاَ عَنْ أُمِّهِ, وَلاَ عَنْ زَوْجَتِهِ, وَلاَ عَنْ وَلَدِهِ, وَلاَ أَحَدٍ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ, وَلاَ تَلْزَمُهُ إلاَّ عَنْ نَفْسِهِ,
وَرَقِيقِهِ فَقَطْ. وَيَدْخُلُ فِي: الرَّقِيقِ أُمَّهَاتُ الأَوْلاَدِ, وَالْمُدَبَّرُونَ, غَائِبُهُمْ وَحَاضِرُهُمْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَغَيْرِهِمْ.
وقال مالك, وَالشَّافِعِيُّ: يُخْرِجُهَا، عَنْ زَوْجَتِهِ, وَعَنْ خَادِمِهَا الَّتِي لاَ بُدَّ لَهَا مِنْهَا، وَلاَ يُخْرِجُهَا، عَنْ أَجِيرِهِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: يُخْرِجُهَا، عَنْ زَوْجَتِهِ, وَعَنْ أَجِيرِهِ الَّذِي لَيْسَتْ أُجْرَتُهُ مَعْلُومَةً, فَإِنْ كَانَتْ أُجْرَتُهُ مَعْلُومَةً فَلاَ يَلْزَمُهُ إخْرَاجُهَا عَنْهُ, وَلاَ عَنْ رَقِيقِ امْرَأَتِهِ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لِمَنْ أَوْجَبَهَا عَلَى الزَّوْجِ، عَنْ زَوْجَتِهِ وَخَادِمِهَا إلاَّ خَبَرًا رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ, أَوْ عَبْدٍ, ذَكَرٍ, أَوْ أُنْثَى, مِمَّنْ تَمُونُونَ".
قال أبو محمد: وَفِي هَذَا الْمَكَانِ عَجَبٌ عَجِيبٌ وَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لاَ يَقُولُ بِالْمُرْسَلِ, ثُمَّ أَخَذَ هَاهُنَا بِأَنْتَنِ مُرْسَلٍ فِي الْعَالِمِ, مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي يَحْيَى. وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: الْمُرْسَلُ كَالْمُسْنَدِ, وَيَحْتَجُّونَ بِرِوَايَةِ كُلِّ كَذَّابٍ, وَسَاقِطٍ; ثُمَّ تَرَكُوا هَذَا الْخَبَرَ وَعَابُوهُ بِالإِرْسَالِ وَبِضَعْفِ رَاوِيهِ وَتَنَاقَضُوا فَقَالُوا: لاَ يُزَكِّي زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ زَوْجَتِهِ, وَعَلَيْهِ فُرِضَ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهَا فَحَسْبُكُمْ بِهَذَا تَخْلِيطًا!!
وَأَمَّا تَقْسِيمُ اللَّيْثِ فَظَاهِرُ الْخَطَأِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْخَبَرِ ثُمَّ خَالَفُوهُ; فَلَمْ يَرَوْا أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنِ

الأَجِيرِ, وَهُوَ مِمَّنْ يُمَوَّنُ.
قال أبو محمد: إيجَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى الصَّغِيرِ, وَالْكَبِيرِ, وَالْحُرِّ, وَالْعَبْدِ, وَالذَّكَرِ, وَالآُنْثَى: هُوَ إيجَابٌ لَهَا عَلَيْهِمْ, فَلاَ تَجِبُ عَلَى غَيْرِهِمْ فِيهِ إلاَّ مَنْ أَوْجَبَهُ النَّصُّ, وَهُوَ الرَّقِيقُ فَقَطْ, قَالَ تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
قال أبو محمد: وَوَاجِبٌ عَلَى ذَاتِ الزَّوْجِ إخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ، عَنْ نَفْسِهَا وَعَنْ رَقِيقِهَا, بِالنَّصِّ الَّذِي أَوْرَدْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

من كان من العبيد له رقيق فعليه إخراجها عنهم لا على سيده
710 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ مِنْ الْعَبِيدِ لَهُ رَقِيقٌ فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهَا عَنْهُمْ لاَ عَلَى سَيِّدِهِ,
لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ, وَلاَ عَبْدِهِ صَدَقَةٌ إلاَّ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ". فَالْعَبْدُ مُسْلِمٌ وَهُوَ رَقِيقٌ لِغَيْرِهِ, وَلَهُ رَقِيقٌ, فَعَلَى مَنْ هُوَ لَهُ رَقِيقٌ أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْهُ; وَعَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَهَا، عَنْ رَقِيقِهِ بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فإن قيل: كَيْفَ لاَ يَلْزَمُهُ، عَنْ نَفْسِهِ وَتَلْزَمُهُ، عَنْ غَيْرِهِ.
قلنا: كَمَا حَكَمَ فِي ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم.
ثم نقول لِلْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ بِهَذَا حَيْثُ تُخْطِئُونَ, فَتَقُولُونَ: إنَّ الزَّوْجَةَ لاَ تُخْرِجُهَا، عَنْ نَفْسِهَا, وَعَلَيْهَا أَنْ تُخْرِجَهَا، عَنْ رَقِيقِهَا حَاشَا مَنْ لاَ بُدَّ لَهَا مِنْهُ لِخِدْمَتِهَا.
وَلَوَدِدْنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا يَقُولُ الْحَنَفِيُّونَ فِي نَصْرَانِيٍّ أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِهِ أَوْ عَبْدُهُ فَحُبِسَ لِيُبَاعَ فَجَاءَ الْفِطْرُ, عَلَى مَنْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُمَا وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ لاَ تَقَعَانِ فِي قَوْلِنَا أَبَدًا; لاَِنَّهُ سَاعَةَ تَسَلُّمِ أُمِّ وَلَدِهِ أَوْ عَبْدِهِ: عَتَقَا فِي الْوَقْتِ.

من كان له عبدان فأكثر فله أن يخرج عن أحدهما تمرا و عن الآخر شعيرا صاعا صاعا
711 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَهُ عَبْدَانِ فَأَكْثَرُ فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ، عَنْ أَحَدِهِمَا تَمْرًا وَعَنِ الآخَرِ شَعِيرًا, صَاعًا صَاعًا.
وَإِنْ شَاءَ التَّمْرَ، عَنِ الْجَمِيعِ, وَإِنْ شَاءَ الشَّعِيرَ، عَنِ الْجَمِيعِ; لاَِنَّهُ نَصُّ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ.

أما الصغار فعليهم أن يخرجها الأب و الولي عنهم
712 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الصِّغَارُ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُخْرِجَهَا الأَبُ, وَالْوَلِيُّ عَنْهُمْ
مِنْ مَالٍ إنْ كَانَ لَهُمْ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ فَلاَ زَكَاةَ فِطْرٍ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ, وَلاَ بَعْدَ ذَلِكَ.وقال أبو حنيفة: يُؤَدِّيهَا الأَبُ، عَنْ وَلَدِهِ الصِّغَارِ الَّذِينَ لاَ مَالَ لَهُمْ; فَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ, فَإِنْ أَدَّاهَا مِنْ مَالِهِمْ كَرِهْتُ لَهُ ذَلِكَ وَأَجْزَأَهُ قَالَ: وَيُؤَدِّيهَا، عَنِ الْيَتِيمِ وَصِيُّهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ, وَعَنْ رَقِيقِ الْيَتِيمِ أَيْضًا.
وَقَالَ زُفَرُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَيْسَ عَلَى الْيَتِيمِ زَكَاةُ الْفِطْرِ, كَانَ لَهُ مَالٌ, أَوْ لَمْ يَكُنْ; فَإِنْ أَدَّاهَا وَصِيُّهُ ضَمِنَهَا.
وقال مالك عَلَى الأَبِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ وَلَدِهِ الصِّغَارِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ, فَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ فَهِيَ فِي أَمْوَالِهِمْ; وَهِيَ عَلَى الْيَتِيمِ فِي مَالِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الأَبَ لاَ يُؤَدِّيهَا، عَنْ وَلَدِهِ الْكِبَارِ, كَانَ لَهُمْ مَالٌ, أَوْ لَمْ يَكُنْ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً, إلاَّ الدَّعْوَى: فِي أَنَّ الْقَصْدَ بِذِكْرِ الصِّغَارِ إنَّمَا هُوَ إلَى آبَائِهِمْ لاَ إلَيْهِمْ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ دَعْوَى فِي غَايَةِ الْفَسَادِ, لاَِنَّهُ إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِالْخِطَابِ إلَيْهِمْ فِي إيجَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ, وَإِنَّمَا قَصَدَ إلَى غَيْرِهِمْ: فَمَنْ جَعَلَ الآبَاءَ مَخْصُوصِينَ بِذَلِكَ دُونَ سَائِرِ الأَوْلِيَاءِ, وَالأَقَارِبِ, وَالْجِيرَانِ, وَالسُّلْطَانِ!
فَإِنْ قَالُوا: لإِنَّ الأَبَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ رَجَعَ الْحَنِيفِيُّونَ إلَى مَا أَنْكَرُوا مِنْ ذَلِكَ.
وَيَلْزَمُ الْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ فِي هَذَا أَنْ يُؤَدِّيَهَا الأَبُ أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ عَنْهُمْ, كَانَ لَهُمْ مَالٌ, أَوْ لَمْ يَكُنْ; لاَِنَّهُ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ دُونَهُمْ. فَوَضَحَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ بِيَقِينٍ.
وَالْحَقُّ فِي هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَهَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى: الْكَبِيرِ, وَالصَّغِيرِ, فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ, وَادَّعَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْهُ, وَلاَ دَلَّ عَلَيْهِ ثُمَّ وَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ". فَوَجَدْنَا مَنْ لاَ مَالَ لَهُ مِنْ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَدَاءُ زَكَاةِ الْفِطْرِ; فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْهَا قَطُّ, وَلَمَّا كَانَ لاَ يَسْتَطِيعُهَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهَا, بِنَصِّ كَلاَمِهِ عليه الصلاة والسلام وَهِيَ لاَزِمَةٌ لِلْيَتِيمِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ, وَإِنَّمَا قلنا: إنَّهَا لاَ تَلْزَمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَِنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ مَحْدُودَةٌ بِوَقْتٍ مَحْدُودِ الطَّرَفَيْنِ, بِخِلاَفِ سَائِرِ الزَّكَوَاتِ, فَلَمَّا خَرَجَ وَقْتُهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَجِبَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا وَفِي غَيْرِ وَقْتِهَا; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِإِيجَابِهَا بَعْدَ ذَلِكَ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

و الذي لا يجد من أين يؤدي زكاة الفطر فليست عليه
713 - مَسْأَلَةٌ: وَاَلَّذِي لاَ يَجِدُ مِنْ أَيْنَ يُؤَدِّي زَكَاةَ الْفِطْرِ فَلَيْسَتْ عَلَيْهِ،
لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ, وَلاَ تَلْزَمُهُ وَإِنْ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ; لِمَا ذُكِرَ أَيْضًا.فَمَنْ قَدَرَ عَلَى التَّمْرِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الشَّعِيرِ لِغَلاَئِهِ, أَوْ قَدَرَ عَلَى الشَّعِيرِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّمْرِ لِغَلاَئِهِ: أَخْرَجَ صَاعًا، وَلاَ بُدَّ مِنْ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ, لِمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا.
فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إلاَّ عَلَى بَعْضِ صَاعٍ أَدَّاهُ، وَلاَ بُدَّ, لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}. وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" وَهُوَ وَاسِعٌ لِبَعْضِ الصَّاعِ, فَهُوَ مُكَلَّفٌ إيَّاهُ, وَلَيْسَ وَاسِعًا لِبَعْضِهِ, فَلَمْ يُكَلَّفْهُ.
وَهَذَا مِثْلُ الصَّلاَةِ, يَعْجِزُ، عَنْ بَعْضِهَا وَيَقْدِرُ عَلَى بَعْضِهَا, وَمِثْلُ الدِّينِ, يَقْدِرُ عَلَى بَعْضِهِ، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى سَائِرِهِ.
وَلَيْسَ هَذَا مِثْلُ الصَّوْمِ, يَعْجِزُ فِيهِ عَنْ تَمَامِ الْيَوْمِ, أَوْ تَمَامِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ;، وَلاَ مِثْلُ الرَّقَبَةِ الْوَاجِبَةِ, وَالإِطْعَامِ الْوَاجِبِ فِي الْكَفَّارَاتِ, وَالْهَدْيِ الْوَاجِبِ, يَقْدِرُ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى سَائِرِهِ; فَلاَ يُجْزِئُهُ شَيْءٌ مِنْهُ.
لإِنَّ مَنْ اُفْتُرِضَ عَلَيْهِ صَاعٌ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ بَعْضَهُ ثُمَّ بَعْضَهُ ثُمَّ بَعْضَهُ.
وَلاَ يَجُوزُ تَفْرِيقُ الْيَوْمِ, وَلاَ يُسَمَّى مَنْ لَمْ يُتِمَّ صَوْمَ الْيَوْمِ صَائِمَ يَوْمٍ, إلاَّ حَيْثُ جَاءَ بِهِ النَّصُّ فَيُجْزِئُهُ حِينَئِذٍ.
وَأَمَّا بَعْضُ الرَّقَبَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ بِتَعْوِيضِ الصِّيَامِ مِنْ الرَّقَبَةِ إذَا لَمْ تُوجَدْ فَلَمْ يَجُزْ تَعَدِّي النَّصِّ, وَكَانَ مُعْتِقُ بَعْضِ رَقَبَةٍ مُخَالِفًا لِمَا أُمِرَ بِهِ وَافْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنْ الرَّقَبَةِ التَّامَّةِ, أَوْ مِنْ الإِطْعَامِ الْمُعَوِّضِ مِنْهَا, أَوْ الصِّيَامِ الْمُعَوِّضِ مِنْهَا.
وَأَمَّا بَعْضُ الشَّهْرَيْنِ فَمِنْ بَعْضِهَا, أَوْ فَرَّقَهُمَا فَلَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ مُتَتَابِعًا, فَهُوَ عَلَيْهِ أَوْ عَوَّضَهُ حَيْثُ جَاءَ النَّصُّ بِالتَّعْوِيضِ مِنْهُ.
وَأَمَّا الْهَدْيُ فَإِنَّ بَعْضَ الْهَدْيِ مَعَ بَعْضِ هَدْيٍ آخَرَ لاَ يُسَمَّى هَدْيًا, فَلَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ; فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَيْهِ
وَأَمَّا الإِطْعَامُ فَيُجْزِئُهُ مَا وَجَدَ مِنْهُ حَتَّى يَجِدَ بَاقِيَهُ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ مُرْتَبِطًا بِوَقْتٍ مَحْدُودِ الآخِرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

تجب زكاة الفطر على السيد عن عبده المرهون و الآبق و الغائب و المغصوب
714 - مَسْأَلَةٌ: وَتَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى السَّيِّدِ، عَنْ عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ, وَالآبِقِ, وَالْغَائِبِ, وَالْمَغْصُوبِ,
لأَنَّهُمْ رَقِيقُهُ, وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِتَخْصِيصِ هَؤُلاَءِ.
وَلِلسَّيِّدِ إنْ كَانَ لِلْعَبْدِ مَالٌ أَوْ كَسْبٌ أَنْ يُكَلِّفَهُ إخْرَاجَ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنْ كَسْبِهِ أَوْ مَالِهِ, لإِنَّ لَهُ انْتِزَاعَ مَالٍ مَتَى شَاءَ, وَلَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ الْخَرَاجَ بِالنَّصِّ وَالإِجْمَاعِ, فَإِذَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِأَنْ يَصْرِفَ مَا كُلِّفَهُ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا شَاءَ.

زكاة الفطر واجبة على المجنون إن كان له مال
715 - مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ لِلْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَجْنُونِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ;
لاَِنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى, حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ, صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ.

من كان فقيرا فأخذ من زكاة الفطر مقدار ما يقوم بقوت يومه و فضل له منه ما يعطى في زكاة الفطر لزمه أن يعطيه
716 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَأَخَذَ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ أَوْ غَيْرِهَا مِقْدَارَ مَا يَقُومُ بِقُوتِ يَوْمِهِ وَفَضَلَ لَهُ مِنْهُ مَا يُعْطِي فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ: لَزِمَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ.
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَالشَّافِعِيِّ.
وقال أبو حنيفة: مَنْ لَهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ, وَلَهُ أَخْذُهَا, وَمَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا.
وَقَالَ سُفْيَانُ: مَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَهُوَ غَنِيٌّ, وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَهُوَ فَقِيرٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُمَا: مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَهُوَ غَنِيٌّ, فَإِنْ كَانَ لَهُ أَقَلُّ فَهُوَ فَقِيرٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: مَنْ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَهُوَ غَنِيٌّ.
قال أبو محمد: سَنَتَكَلَّمُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الأَقْوَالِ, وَأَمَّا هَاهُنَا فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْفَقِيرِ بِإِسْقَاطِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْهُ إذَا كَانَ وَاجِدًا لِمِقْدَارِهَا أَوْ لِبَعْضِهِ قَوْلٌ لاَ يَجُوزُ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ, نَعْنِي بِإِسْقَاطِهَا، عَنِ الْفَقِيرِ, وَإِنَّمَا جَاءَ النَّصُّ بِإِسْقَاطِ تَكْلِيفِ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ فَقَطْ; فَإِذَا كَانَتْ فِي وُسْعِ الْفَقِيرِ فَهُوَ مُكَلَّفٌ إيَّاهَا بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام: "عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ, ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى, صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ".
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِي الْفَقِيرِ أَنَّهُ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ وَيُعْطِيهَا.

من أراد إخراج زكاة الفطر عن ولده الصغار أو الكبار لم يجز له ذلك إلا بأن يهبها لهم
717 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَرَادَ إخْرَاجَ زَكَاةِ الْفِطْرِ، عَنْ وَلَدِهِ الصِّغَارِ أَوْ الْكِبَارِ أَوْ، عَنْ غَيْرِهِمْ: لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ إلاَّ بِأَنْ يَهَبَهَا لَهُمْ,
ثُمَّ يُخْرِجَهَا، عَنِ الصَّغِيرِ, وَالْمَجْنُونِ, وَلاَ يُخْرِجَهَا عَمَّنْ يَعْقِلُ مِنْ الْبَالِغِينَ إلاَّ بِتَوْكِيلٍ مِنْهُمْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا فَرَضَهَا عَلَيْهِ فِيمَا يَجِدُ مِمَّا هُوَ قَادِرٌ عَلَى إخْرَاجِهَا مِنْهُ, أَوْ يَكُونُ وَلِيُّهُ قَادِرًا عَلَى إخْرَاجِهَا مِنْهُ, وَلاَ يَكُونُ مَالُ غَيْرِهِ مَكَانًا لاَِدَاءِ الْفَرْضِ عَنْهُ; إذْ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ; فَإِذَا وَهَبَهَا لَهُ فَقَدْ صَارَ مَالِكًا لِمِقْدَارِهَا, فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهَا, فأما مَنْ لَمْ يَبْلُغْ; ، وَلاَ يَعْقِلُ; فَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}. وَأَمَّا الْبَالِغُ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا} وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

وقت زكاة الفطر هو أثر طلوع الفجر الثاني من يوم الفطر
718 - مَسْأَلَةٌ: وَوَقْتُ زَكَاةِ الْفِطْرِ الَّذِي لاَ تَجِبُ قَبْلَهُ, إنَّمَا تَجِبُ بِدُخُولِهِ, ثُمَّ لاَ تَجِبُ بِخُرُوجِهِ: فَهُوَ إثْرَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ,
مُمْتَدًّا إلَى أَنْ تَبْيَضَّ الشَّمْسُ وَتَحِلَّ الصَّلاَةُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ نَفْسِهِ; فَمَنْ مَاتَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ, وَمَنْ وُلِدَ حِينَ ابْيِضَاضِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ, أَوْ أَسْلَمَ كَذَلِكَ: فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ, وَمَنْ مَاتَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ أَوْ وُلِدَ أَوْ أَسْلَمَ أَوْ تَمَادَتْ حَيَاتُهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ: فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ, فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهَا وَلَهُ مِنْ ابْنٍ يُؤَدِّيهَا فَهِيَ دَيْنٌ عَلَيْهِ أَبَدًا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا مَتَى أَدَّاهَا.
وقال الشافعي: وَقْتُهَا مَغِيبُ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ, فَمَنْ وُلِدَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ أَوْ أَسْلَمَ فَلاَ زَكَاةَ فِطْرٍ عَلَيْهِ, وَمَنْ مَاتَ فِيهَا فَهِيَ عَلَيْهِ.
وقال أبو حنيفة: وَقْتُهَا انْشِقَاقُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ, فَمَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ, أَوْ وُلِدَ بَعْدَ ذَلِكَ, أَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَ زَكَاةَ فِطْرٍ عَلَيْهِ.
وقال مالك مَرَّةً كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْهُ, وَمَرَّةً قَالَ: إنَّ مَنْ وُلِدَ يَوْمَ الْفِطْرِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ.
قال أبو محمد أَمَّا مَنْ رَأَى وَقْتَهَا غُرُوبَ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ قَالَ: هِيَ زَكَاةُ الْفِطْرِ, وَذَلِكَ هُوَ الْفِطْرُ مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ وَالْخُرُوجُ عَنْهُ جُمْلَةً.
وَقَالَ الآخَرُونَ الَّذِينَ رَأَوْا وَقْتَهَا طُلُوعَ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ: إنَّ هَذَا هُوَ وَقْتُ الْفِطْرِ, لاَ مَا قَبْلَهُ; لاَِنَّهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ كَانَ يُفْطِرُ كَذَلِكَ ثُمَّ يُصْبِحُ صَائِمًا فَإِنَّمَا أَفْطَرَ مِنْ صَوْمِهِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْفِطْرِ, لاَ قَبْلَهُ, وَحِينَئِذٍ دَخَلَ وَقْتُهَا بِاتِّفَاقٍ مِنَّا وَمِنْكُمْ.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}.
فَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حدثنا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الْمُصَلَّى".

قال أبو محمد: فَهَذَا وَقْتُ أَدَائِهَا بِالنَّصِّ, وَخُرُوجُهُمْ إلَيْهَا إنَّمَا هُوَ لاِِدْرَاكِهَا, وَوَقْتُ صَلاَةِ الْفِطْرِ هُوَ جَوَازُ الصَّلاَةِ بِابْيِضَاضِ الشَّمْسِ يَوْمَئِذٍ فَإِذَا تَمَّ الْخُرُوجُ إلَى صَلاَةِ الْفِطْرِ بِدُخُولِهِمْ فِي الصَّلاَةِ فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُهَا.
وَبَقِيَ الْقَوْلُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا. فَوَجَدْنَا الْفِطْرَ الْمُتَيَقَّنَ إنَّمَا هُوَ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ; وَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ وَقْتَهَا غُرُوبَ الشَّمْسِ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةِ الْفِطْرِ; لاَِنَّهُ خِلاَفُ الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ عليه السلام بِأَدَائِهَا فِيهِ.
قال أبو محمد: فَمَنْ لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا فَقَدْ وَجَبَتْ فِي ذِمَّتِهِ وَمَالِهِ لِمَنْ هِيَ لَهُ, فَهِيَ دَيْنٌ لَهُمْ, وَحَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ, وَقَدْ وَجَبَ إخْرَاجُهَا مِنْ مَالٍ وَحَرُمَ عَلَيْهِ إمْسَاكُهَا فِي مَالِهِ, فَوَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا أَبَدًا, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ, وَيَسْقُطُ بِذَلِكَ حَقُّهُمْ, وَيَبْقَى حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَضْيِيعِهِ الْوَقْتَ, لاَ يَقْدِرُ عَلَى جَبْرِهِ إلاَّ بِالاِسْتِغْفَارِ وَالنَّدَامَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
وَلاَ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ وَقْتِهَا أَصْلاً.
فَإِنْ ذَكَرُوا خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ: "إذْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَبِيتِ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ لَيْلَةً, وَثَانِيَةً, وَثَالِثَةً" : فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, لاَِنَّهُ لاَ تَخْلُو تِلْكَ اللَّيَالِي أَنْ تَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ مِنْ شَوَّالٍ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ, لاَِنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ, وَلاَ يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَبَسَ صَدَقَةً وَجَبَ أَدَاؤُهَا، عَنْ أَهْلِهَا, وَإِنْ كَانَتْ مِنْ شَوَّالٍ فَلاَ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ; إذْ لَمْ يُكْمِلْ وَحَبَسَ وُجُودَ أَهْلِهَا; وَفِي تَأْخِيرِهِ عليه الصلاة والسلام إعْطَاءَهَا بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ وَقْتَ إخْرَاجِهَا لَمْ يَحِنْ بَعْدُ, فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ فَلَمْ يُخْرِجْهَا عليه السلام. فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ وَقْتِهَا، وَلاَ يُجْزِئُ; وَإِنْ كَانَتْ مِنْ لَيَالِي شَوَّالٍ فَبِلاَ شَكٍّ أَنَّ أَهْلَهَا لَمْ يُوجَدُوا, فَتَرَبَّصَ عليه الصلاة والسلام وُجُودَهُمْ. فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ.

قسم الصدقة
من تولى تفريق زكاة ماله أو زكاة فطره أو تولاها الإمام أو أميره
قَسْمُ الصَّدَقَةِ
719 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَوَلَّى تَفْرِيقَ زَكَاةِ مَالِهِ أَوْ زَكَاةِ فِطْرِهِ أَوْ تَوَلاَّهَا الإِمَامُ أَوْ أَمِيرُهُ:
فَإِنَّ الإِمَامَ, أَوْ أَمِيرَهُ: يُفَرِّقَانِهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ مُسْتَوِيَةٍ: لِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ,
وَلِلْفُقَرَاءِ سَهْمٌ, وَفِي الْمُكَاتَبِينَ وَفِي عِتْقِ الرِّقَابِ سَهْمٌ, وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى سَهْمٌ, وَلاَِبْنَاءِ السَّبِيلِ سَهْمٌ, وَلِلْعُمَّالِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَهَا سَهْمٌ, وَلِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ سَهْمٌ.
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ زَكَاةَ مَالِهِ فَفِي سِتَّةِ أَسْهُمٍ كَمَا ذَكَرْنَا, وَيَسْقُطُ: سَهْمُ الْعُمَّالِ, وَسَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ أَهْلِ سَهْمٍ أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَنْفُسٍ, إلاَّ أَنْ لاَ يَجِدَ, فَيُعْطِي مَنْ وَجَدَ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ أَهْلِ السِّهَامِ دُونَ بَعْضٍ, إلاَّ أَنْ يَجِدَ, فَيُعْطِيَ مَنْ وَجَدَ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْهَا كَافِرًا, وَلاَ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ, وَالْمُطَّلِبِ ابْنَيْ عَبْدِ مَنَافٍ, وَلاَ أَحَدًا مِنْ مَوَالِيهِمْ.
فَإِنْ أَعْطَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا عَامِدًا أَوْ جَاهِلاً لَمْ يُجْزِهِ, وَلاَ جَازَ لِلآخِذِ, وَعَلَى الآخِذِ أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَ, وَعَلَى الْمُعْطِي أَنْ يُوفِيَ ذَلِكَ الَّذِي أَعْطَى فِي أَهْلِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
وقال بعضهم: يُجْزِئُ أَنْ يُعْطِيَ الْمَرْءُ صَدَقَتَهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْهَا.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى عُمُومِ جَمِيعِ الْفُقَرَاءِ وَجَمِيعِ الْمَسَاكِينِ. فَصَحَّ أَنَّهَا فِي الْبَعْضِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ". وَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}. فَصَحَّ أَنَّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْمَرْءُ فَهُوَ سَاقِطٌ عَنْهُ, وَبَقِيَ عَلَيْهِ مَا اسْتَطَاعَ, لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ إيفَائِهِ; فَسَقَطَ عُمُومُ كُلِّ فَقِيرٍ وَكُلِّ مِسْكِينٍ, وَبَقِيَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الأَصْنَافِ, فَإِنْ عَجَزَ، عَنْ بَعْضِهَا سَقَطَ عَنْهُ أَيْضًا; وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُسْقِطَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
وَذَكَرُوا حَدِيثَ الذُّهَيْبَةِ الَّتِي قَسَمَهَا عليه الصلاة والسلام بَيْنَ الأَرْبَعَةِ.
قال أبو محمد: وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْخَبَرَ, وَأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الذُّهَيْبَةُ مِنْ الصَّدَقَةِ أَصْلاً; لاَِنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ أَصْلاً; ، وَلاَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْطَى عليه الصلاة والسلام الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ مِنْ غَيْرِ الصَّدَقَةِ, بَلْ قَدْ أَعْطَاهُمْ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ.
وَذَكَرُوا حَدِيثَ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

أَعْطَاهُ صَدَقَةَ بَنِي زُرَيْقٍ".
قال أبو محمد: وَهَذَا مُرْسَلٌ, وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ سَائِرَ الأَصْنَافِ مِنْ سَائِرِ الصَّدَقَاتِ.
وَادَّعَى قَوْمٌ: أَنَّ سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قَدْ سَقَطَ
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ, بَلْ هُمْ الْيَوْمَ أَكْثَرُ مَا كَانُوا, وَإِنَّمَا يَسْقُطُونَ هُمْ وَالْعَامِلُونَ إذَا تَوَلَّى الْمَرْءُ قِسْمَةَ صَدَقَةِ نَفْسِهِ; لاَِنَّهُ لَيْسَ هُنَالِكَ عَامِلُونَ عَلَيْهَا, وَأَمْرُ الْمُؤَلَّفَةِ إلَى الإِمَامِ لاَ إلَى غَيْرِهِ.
قال أبو محمد: لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ مَنْ أَمَرَ لِقَوْمٍ بِمَالٍ وَسَمَّاهُمْ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَنْ يَخُصَّ بِهِ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ, فَمِنْ الْمُصِيبَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ أَمْرَ النَّاسِ أَوْكَدُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى!
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عِقَالٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، حدثنا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا رِفَاعَةُ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ بَعْضَ الآُمَرَاءِ اسْتَعْمَلَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَلَى صَدَقَةِ الْمَاشِيَةِ, فَأَتَاهُ لاَ شَيْءَ مَعَهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ رَافِعٌ: "إنَّ عَهْدِي بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ وَإِنِّي جَزَيْتُهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَقَسَّمْتُهَا, وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ".
وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الزَّكَاةِ: ضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَالْحَسَنِ مِثْلُ ذَلِكَ.
وَعَنْ أَبِي وَائِلٍ مِثْلُ ذَلِكَ, وَقَالَ فِي نَصِيبِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ رَدُّهُ عَلَى الآخَرِينَ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: ضَعْهَا حَيْثُ أَمَرَك اللَّهُ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ, وَرَافِعٍ, كَمَا أَوْرَدْنَا, وَرُوِّينَا الْقَوْلَ الثَّانِي، عَنْ حُذَيْفَةَ; وَعَطَاءٍ, وَغَيْرِهِمَا.

وَأَمَّا قَوْلُنَا: لاَ يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ ثَلاَثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ إلاَّ أَنْ لاَ يَجِدَ: فَلاَِنَّ اسْمَ الْجَمْعِ: لاَ يَقَعُ إلاَّ عَلَى ثَلاَثَةٍ فَصَاعِدًا, وَلاَ يَقَعُ عَلَى وَاحِدٍ, وَلِلتَّثْنِيَةِ بِنِيَّةٍ فِي اللُّغَةِ, تَقُولُ: مِسْكِينٌ لِلْوَاحِدِ, وَمِسْكِينَانِ لِلاِثْنَيْنِ, وَمَسَاكِينُ لِلثَّلاَثَةِ, فَصَاعِدًا, وَكَذَلِكَ اسْمُ الْفُقَرَاءِ وَسَائِرُ الأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الآيَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَغَيْرُهُ.
وَأَمَّا أَنْ لاَ يُعْطِيَ كَافِرًا فَلِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِي، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ وَقَالَ لَهُ فِي حَدِيثِ: "فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ".
فَإِنَّمَا جَعَلَهَا عليه الصلاة والسلام لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَطْ.
وَأَمَّا بَنُو هَاشِمٍ, وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فَلِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حدثنا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ وَلِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: "إنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ الْقَوْمِ, وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، وَلاَ لاِلِ مُحَمَّدٍ".
قال أبو محمد: فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي: مَنْ هُمْ آلُ مُحَمَّدٍ.
فَقَالَ قَوْمٌ: هُمْ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَقَطْ, لاَِنَّهُ لاَ عَقِبَ لِهَاشِمٍ مِنْ غَيْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ آلُ مُحَمَّدٍ بِيَقِينٍ, لاَِنَّهُ لاَ عَقِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ وَالِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَبْقَ لَهُ عليه الصلاة والسلام أَهْلٌ إلاَّ وَلَدُ الْعَبَّاسِ, وَأَبِي طَالِبٍ, وَالْحَارِثِ; وَأَبِي لَهَبٍ: بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَطْ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ, وَبَنُو الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَقَطْ وَمَوَالِيهِمْ.

وَقَالَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ الْمَالِكِيُّ: آلُ مُحَمَّدٍ: جَمِيعُ قُرَيْشٍ, وَلَيْسَ الْمَوَالِي مِنْهُمْ.
قال أبو محمد: فَوَجَبَ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ.
فَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ قَالَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا يَحْيَى، وَ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حدثنا شُعْبَةُ، حدثنا الْحَكَمُ، هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى الصَّدَقَةِ, فَأَرَادَ أَبُو رَافِعٍ أَنْ يَتْبَعَهُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَحِلُّ لَنَا, وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ".
فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ أَخْرَجَ الْمَوَالِيَ مِنْ حُكْمِهِمْ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ.
وَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السُّلَيْمِ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ، حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّهُ جَاءَ هُوَ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يُكَلِّمَانِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَسَمَ مِنْ الْخُمْسِ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ, وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَسَمْتَ لاِِخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَمْ تُعْطِنَا شَيْئًا, وَقَرَابَتُنَا وَقَرَابَتُهُمْ مِنْكَ وَاحِدَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ, وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ".
فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِهِمْ فِي شَيْءٍ أَصْلاً; لأَنَّهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِنَصِّ كَلاَمِهِ عليه الصلاة والسلام; فَصَحَّ أَنَّهُمْ آلُ مُحَمَّدٍ, وَإِذْ هُمْ آلُ مُحَمَّدٍ فَالصَّدَقَةُ عَلَيْهِمْ حَرَامٌ; فَيَخْرُجُ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ, وَبَنُو نَوْفَلٍ ابْنَيْ عَبْدِ مَنَافٍ, وَسَائِرُ قُرَيْشٍ، عَنْ هَذَيْنِ: الْبَطْنَيْنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلاَ يَحِلُّ لِهَذَيْنِ الْبَطْنَيْنِ صَدَقَةُ فَرْضٍ، وَلاَ تَطَوُّعٍ أَصْلاً, لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمُحَمَّدٍ، وَلاَ لاِلِ مُحَمَّدٍ" فَسَوَّى بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَهُمْ.
وَأَمَّا مَا لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ صَدَقَةٍ مُطْلَقَةٍ فَهُوَ حَلاَلٌ لَهُمْ, كَالْهِبَةِ, وَالْعَطِيَّةِ, وَالْهَدِيَّةِ, وَالنُّحْلِ, وَالْحَبْسِ, وَالصِّلَةِ, وَالْبِرِّ, وَغَيْرِ ذَلِكَ, لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: لاَ تُجْزِئُ إنْ وُضِعَتْ فِي يَدِ مَنْ لاَ تَجُوزُ لَهُ فَلاَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا لِقَوْمٍ خَصَّهُمْ بِهَا; فَصَارَ حَقُّهُمْ فِيهَا; فَمَنْ أَعْطَى مِنْهَا غَيْرَهُمْ فَقَدْ خَالَفَ مَا أَمَرَ اللَّهُ

تَعَالَى بِهِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" فَوَجَبَ عَلَى الْمُعْطِي إيصَالُ مَا عَلَيْهِ إلَى مَنْ هُوَ لَهُ, وَوَجَبَ عَلَى الآخِذِ رَدُّ مَا أَخَذَ بِغَيْرِ حَقٍّ. قَالَ تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}.

الفقراء هم الذين لا شيء لهم أصلا و المساكين هم الذين لهم شيء لا يقوم بهم
720 - مَسْأَلَةٌ: الْفُقَرَاءُ هُمْ الَّذِينَ لاَ شَيْءَ لَهُمْ أَصْلاً. وَالْمَسَاكِينُ: هُمْ الَّذِينَ لَهُمْ شَيْءٌ لاَ يَقُومُ بِهِمْ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ إلاَّ مُوسِرٌ, أَوْ غَنِيٌّ, أَوْ فَقِيرٌ, أَوْ مِسْكِينٌ, فِي الأَسْمَاءِ. وَمَنْ لَهُ فَضْلٌ، عَنْ قُوتِهِ. وَمَنْ لاَ يَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْهُ شَيْءٌ. وَمَنْ لَهُ مَا لاَ يَقُومُ بِنَفْسِهِ مِنْهُ. وَمَنْ لاَ شَيْءَ لَهُ فَهَذِهِ مَرَاتِبُ أَرْبَعٌ مَعْلُومَةٌ بِالْحِسِّ. فَالْمُوسِرُ بِلاَ خِلاَفٍ: هُوَ الَّذِي يَفْضُلُ مَالُهُ، عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ عَلَى السَّعَةِ. وَالْغَنِيُّ: هُوَ الَّذِي لاَ يَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ وَإِنْ كَانَ لاَ يَفْضُلُ عَنْهُ شَيْءٌ; لاَِنَّهُ فِي غِنًى، عَنْ غَيْرِهِ. وَكُلُّ مُوسِرٍ غَنِيٌّ, وَلَيْسَ كُلُّ غَنِيٍّ مُوسِرًا.
فإن قيل: لِمَ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ الْمِسْكِينِ, وَالْفَقِيرِ.
قلنا: لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي شَيْئَيْنِ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا: إنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ, إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ ضَرُورَةِ حِسٍّ; فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَسَاكِينَ وَلَهُمْ سَفِينَةٌ; وَلَوْ كَانَتْ تَقُومُ بِهِمْ لَكَانُوا أَغْنِيَاءَ بِلاَ خِلاَفٍ. فَصَحَّ اسْمُ الْمِسْكِينِ بِالنَّصِّ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ. وَبَقِيَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَنْ لاَ شَيْءَ لَهُ أَصْلاً; وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مِنْ الأَسْمَاءِ إلاَّ الْفَقِيرُ, فَوَجَبَ ضَرُورَةً أَنَّهُ ذَاكَ.
وَرُوِّينَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حدثنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ الأَكْلَةُ وَالأَكْلَتَانِ, وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ", قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْمِسْكِينُ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى, وَلاَ يَفْطِنُ لِحَاجَتِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ".
قال أبو محمد: فَصَحَّ أَنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى إلاَّ أَنَّ لَهُ شَيْئًا لاَ يَقُومُ لَهُ, فَهُوَ يَصْبِرُ وَيَنْطَوِي, وَهُوَ مُحْتَاجٌ، وَلاَ يَسْأَلُ.
وَقَالَ تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} فَصَحَّ أَنَّ

الْفَقِيرَ الَّذِي لاَ مَالَ لَهُ أَصْلاً; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ أَمْوَالِهِمْ.
فإن قيل: قَالَ اللَّهُ تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ}.
قلنا: صَدَقَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ يَلْبَسُ الْمَرْءُ فِي تِلْكَ الْبِلاَدِ إزَارًا وَرِدَاءً خَلِقَيْنِ غَسِيلَيْنِ لاَ يُسَاوِيَانِ دِرْهَمًا, فَمَنْ رَآهُ كَذَلِكَ ظَنَّهُ غَنِيًّا, وَلاَ يُعَدُّ مَالاً مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ مِمَّا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ, إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ وَذَكَرُوا قَوْلَ الشَّاعِرِ:
أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ
وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبْدُ
وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ; لإِنَّ مَنْ كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ عِيَالِهِ فَهُوَ غَنِيٌّ, وَإِنَّمَا صَارَ فَقِيرًا إذَا لَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبْدٌ.
وَهُوَ قَوْلُنَا وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا: هُمْ الْعُمَّالُ الْخَارِجُونَ مِنْ عِنْدِ الإِمَامِ الْوَاجِبَةِ طَاعَتُهُ, وَهُمْ الْمُصَدِّقُونَ, السُّعَاةُ.
قال أبو محمد: وَقَدْ اتَّفَقَتْ الآُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ قَالَ: أَنَا عَامِلٌ عَامِلاً, وَقَدْ قَالَ عليه السلام: مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ فَكُلُّ مَنْ عَمِلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوَلِّيَهُ الإِمَامُ الْوَاجِبَةُ طَاعَتُهُ فَلَيْسَ مِنْ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا; ، وَلاَ يُجْزِئُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِ, وَهِيَ مَظْلِمَةٌ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ يَضَعُهَا مَوَاضِعَهَا, فَتُجْزِئُ حِينَئِذٍ; لاَِنَّهَا قَدْ وَصَلَتْ إلَى أَهْلِهَا.
وَأَمَّا عَامِلُ الإِمَامِ الْوَاجِبَةِ طَاعَتُهُ فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ; وَلَيْسَ عَلَيْنَا مَا يَفْعَلُ فِيهَا; لاَِنَّهُ وَكِيلٌ, كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ، وَلاَ فَرْقَ, وَكَوَكِيلِ الْمُوَكِّلِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ: هُمْ قَوْمٌ لَهُمْ قُوَّةٌ لاَ يُوثَقُ بِنَصِيحَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَتَأَلَّفُونَ بِأَنْ يُعْطَوْا مِنْ الصَّدَقَاتِ, وَمِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ.
وَالرِّقَابُ: هُمْ الْمُكَاتَبُونَ, وَالْعُتَقَاءُ; فَجَائِزٌ أَنْ يُعْطَوْا مِنْ الزَّكَاةِ.
وقال مالك: لاَ يُعْطَى مِنْهَا الْمُكَاتَبُ.
وَقَوْلُ غَيْرِهِ: يُعْطَى مِنْهَا مَا يُتِمُّ بِهِ كِتَابَتَهُ.

وَقَالَ أبو محمد: وَهَذَانِ قَوْلاَنِ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِمَا.
وَبِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ.
وَجَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا مُكَاتَبُ الْهَاشِمِيِّ, وَالْمُطَّلِبِيِّ; لاَِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمَا, وَلاَ مَوْلًى لَهُمَا مَا لَمْ يُعْتَقْ كُلُّهُ.
وَإِنْ أَعْتَقَ الإِمَامُ مِنْ الزَّكَاةِ رِقَابًا فَوَلاَؤُهَا لِلْمُسْلِمِينَ لاَِنَّهُ لَمْ يُعْتِقْهَا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَلاَ مِنْ مَالٍ بَاقٍ فِي مِلْكِ الْمُعْطِي الزَّكَاةَ.
فَإِنْ أَعْتَقَ الْمَرْءُ مِنْ زَكَاةِ نَفْسِهِ فَوَلاَؤُهَا لَهُ; لاَِنَّهُ أَعْتَقَ مِنْ مَالِهِ, وَعَبْدِ نَفْسِهِ; وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "إنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَعْتِقْ مِنْ زَكَاتِك.
فإن قيل: إنَّهُ إنْ مَاتَ رَجَعَ مِيرَاثُهُ إلَى سَيِّدِهِ.
قلنا: نَعَمْ هَذَا حَسَنٌ, إذَا بَلَغَتْ الزَّكَاةُ مَحَلَّهَا فَرُجُوعُهَا بِالْوُجُوهِ الْمُبَاحَةِ حَسَنٌ, وَهُمْ يَقُولُونَ فِيمَنْ تَصَدَّقَ مِنْ زَكَاتِهِ عَلَى قَرِيبٍ لَهُ ثُمَّ مَاتَ فَوَجَبَ مِيرَاثُهُ لِلْمُعْطِي: إنَّهُ لَهُ حَلاَلٌ, وَإِنْ كَانَ فِيهِ عَيْنُ زَكَاتِهِ.
وَالْغَارِمُونَ: هُمْ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ دُيُونٌ لاَ تَفِي أَمْوَالُهُمْ بِهَا, أَوْ مَنْ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ وَإِنْ كَانَ فِي مَالِهِ وَفَاءٌ بِهَا. فأما مَنْ لَهُ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ فَلاَ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ غَارِمًا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَخْبَرَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ مُسَاوَرٍ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هَارُونِ بْنِ رِئَابٍ حَدَّثَنِي كِنَانَةُ بْنُ نُعَيْمٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ قَالَ: تَحَمَّلْتُ بِحَمَالَةٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْأَلُهُ فِيهَا فَقَالَ: "أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرُ لَكَ بِهَا يَا قَبِيصَةُ إنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَحِلُّ إلاَّ لاَِحَدِ ثَلاَثَةٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ", أَوْ قَالَ: "سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

وَأَمَّا سَبِيلُ اللَّهِ فَهُوَ الْجِهَادُ بِحَقٍّ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا ابْنُ السُّلَيْمِ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حدثنا مَعْمَرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلاَّ لِخَمْسَةٍ: لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا, أَوْ لِغَارِمٍ, أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ, أَوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَاهَا الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ".
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ، عَنْ غَيْرِ مَعْمَرٍ فَأَوْقَفَهُ بَعْضُهُمْ, وَنَقَصَ بَعْضُهُمْ مِمَّا ذَكَرَ فِيهِ مَعْمَرٌ, وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ لاَ يَحِلُّ تَرْكُهَا.
فإن قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا فِي الْحَجِّ.
قلنا: نَعَمْ, وَكُلُّ فِعْلِ خَيْرٍ فَهُوَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى, إلاَّ أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ كُلَّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ, فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُوضَعَ إلاَّ حَيْثُ بَيَّنَ النَّصُّ, وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَابْنُ السَّبِيلِ: هُوَ مَنْ خَرَجَ فِي غير مَعْصِيَةٍ فَاحْتَاجَ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ حَسَّانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ زَكَاتَهُ فِي الْحَجِّ وَأَنْ يُعْتِقَ مِنْهَا النَّسَمَةَ وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الشَّافِعِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ, وَالْحَنَفِيُّونَ: صَاحِبًا, لاَ يُعْرَفُ مِنْهُمْ لَهُ مُخَالِفٌ.

جائز أن يعطي المرء منها مكاتبه و مكاتب غيره
721 - مَسْأَلَةٌ: وَجَازَ أَنْ يُعْطِيَ الْمَرْءُ مِنْهَا مُكَاتَبَهُ وَمُكَاتَبَ غَيْرِهِ,
لاَِنَّهُمَا مِنْ الْبِرِّ, وَالْعَبْدُ الْمُحْتَاجُ الَّذِي يَظْلِمُهُ سَيِّدُهُ، وَلاَ يُعْطِيهِ حَقَّهُ; لاَِنَّهُ مِسْكِينٌ.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ أَنَّهُ: أَجَازَ ذَلِكَ.
وَمَنْ كَانَ أَبُوهُ; أَوْ أُمُّهُ; أَوْ ابْنُهُ, أَوْ إخْوَتُهُ, أَوْ امْرَأَتُهُ مِنْ الْغَارِمِينَ, أَوْ غَزَوْا فِي سَبِيلِ اللَّهِ; أَوْ كَانُوا مُكَاتَبِينَ: جَازَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ صَدَقَتِهِ الْفَرْضَ; لاَِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَدَاءُ دُيُونِهِمْ، وَلاَ عَوْنُهُمْ فِي الْكِتَابَةِ وَالْغَزْوِ وَكَمَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ, وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِالْمَنْعِ مِمَّا ذَكَرْنَا.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ أَوْصَى عُمَرَ فَقَالَ: مَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ إلَى غَيْرِ أَهْلِهَا لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ زَكَاةٌ, وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالدُّنْيَا جَمِيعِهَا.
وَعَنِ الْحَسَنِ: لاَ تُجْزِئُ حَتَّى يَضَعَهَا مَوَاضِعَهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

تعطي المرأة زوجها من زكاتها إن كان من أهل السهام
722 - مَسْأَلَةٌ: وَتُعْطِي الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا مِنْ زَكَاتِهَا; إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السِّهَامِ,
صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ أَفْتَى زَيْنَبَ امْرَأَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ إذْ أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ فَسَأَلَتْهُ: أَيَسَعُهَا أَنْ تَضَعَ صَدَقَتَهَا فِي زَوْجِهَا, وَفِي بَنِي أَخٍ لَهَا يَتَامَى فَأَخْبَرَهَا عليه الصلاة والسلام "أَنَّ لَهَا أَجْرَيْنِ: أَجْرَ الصَّدَقَةِ وَأَجْرَ الْقَرَابَةِ".

من كان له مال مما تجب فيه الصدقة و هو لا يقوم ما معه بعولته فهو مسكين
723 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ,
كَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ أَرْبَعِينَ مِثْقَالاً أَوْ خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ أَوْ أَرْبَعِينَ شَاةً أَوْ خَمْسِينَ بَقَرَةً, أَوْ أَصَابَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ مِنْ بُرٍّ, أَوْ شَعِيرٍ, أَوْ تَمْرٍ وَهُوَ لاَ يَقُومُ مَا مَعَهُ بِعَوْلَتِهِ لِكَثْرَةِ عِيَالِهِ أَوْ لِغَلاَءِ السِّعْرِ: فَهُوَ مِسْكِينٌ, يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ, وَتُؤْخَذُ مِنْهُ فِيمَا وَجَبَتْ فِيهِ مِنْ مَالِهِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَقْوَالَ مَنْ حَدَّ الْغِنَى بِقُوتِ الْيَوْمِ, أَوْ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا, أَوْ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا, أَوْ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ.
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى الْغِنَى بِقُوتِ الْيَوْمِ بِحَدِيثٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ النَّارِ", فَقِيلَ: وَمَا حَدُّ الْغِنَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "شِبَعُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ".
وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: "إنْ يَكُنْ عِنْدَ أَهْلِكَ مَا يُغَدِّيهِمْ أَوْ مَا يُعَشِّيهِمْ".
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي كُلَيْبٍ الْعَامِرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلاَّمٍ الْحَبَشِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ مَسْأَلَةً يَتَكَثَّرُ بِهَا، عَنْ غِنًى فَقَدْ اسْتَكْثَرَ مِنْ النَّارِ", فَقِيلَ: مَا الْغِنَى قَالَ: "غَدَاءٌ أَوْ عَشَاءٌ".
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ شَيْءَ, لإِنَّ أَبَا كَبْشَةَ السَّلُولِيَّ مَجْهُولٌ وَابْنَ لَهِيعَةَ سَاقِطٌ.
وَاحْتَجَّ مَنْ حَدَّ الْغِنَى بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ

عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إلْحَافًا".
وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ أَلْحَفَ". قَالَ: "وَكَانَتْ الآُوقِيَّةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا".
وَمِنْ طَرِيقِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ تَسْأَلُهُ مِنْ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ لَهَا: إنْ كَانَتْ لَكِ أُوقِيَّةٌ فَلاَ تَحِلُّ لَكِ الصَّدَقَةُ, قَالَ مَيْمُونُ: وَالآُوقِيَّةُ حِينَئِذٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
قال أبو محمد: الأَوَّلُ عَمَّنْ لَمْ يُسَمَّ, وَلاَ يُدْرَى صِحَّةُ صُحْبَتِهِ, وَالثَّانِي، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْمَالِكِيِّينَ الْمُقَلَّدِينَ عُمَرَ رضي الله عنه فِي تَحْرِيمِ الْمَنْكُوحَةِ فِي الْعِدَّةِ عَلَى ذَلِكَ النَّاكِحِ فِي الأَبَدِ, وَقَدْ رَجَعَ عُمَرُ، عَنْ ذَلِكَ, وَفِي سَائِرِ مَا يَدَّعُونَ أَنَّ خِلاَفَهُ فِيهِ لاَ يَحِلُّ كَحَدِّ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ, وَتَأْجِيلِ الْعِنِّينِ سَنَةً: أَنْ يُقَلِّدُوهُ هَاهُنَا, وَكَذَلِكَ الْحَنَفِيُّونَ, وَلَكِنْ لاَ يُبَالُونَ بِالتَّنَاقُضِ!
وَاحْتَجَّ مَنْ حَدَّ الْغِنَى بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَتْ خُمُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ", وَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَمَا يُغْنِيهِ. قَالَ: "خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ حِسَابُهَا مِنْ الذَّهَبِ" قَالَ سُفْيَانُ: وَسَمِعْتُ زُبَيْدًا يُحَدِّثُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ, وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ, وَعَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, قَالَ مَنْ حَدَّثَهُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ

ابْنُ عَطِيَّةَ: عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ, وَقَالَ الْحَكِيمُ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, قَالُوا كُلُّهُمْ; لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا, قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَوْ عِدْلُهَا مِنْ الذَّهَبِ.
وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ. وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ.
قال أبو محمد: حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ سَاقِطٌ, وَلَمْ يُسْنِدْهُ زُبَيْدٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ. وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُرْسَلَ كَالْمُسْنَدِ وَالْمُعَظِّمِينَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ, وَالْمُحْتَجِّينَ بِشَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، عَنْ عُمَرَ فِي رَدِّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَفْتَرِقَا: أَنْ لاَ يَخْرُجُوا، عَنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ; لاَِنَّهُ لاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْبَابِ خِلاَفٌ لِمَا ذُكِرَ فِيهِ عَنْ عُمَرَ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَسَعْدٍ, وَعَلِيٍّ، رضي الله عنهم،, مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمُرْسَلِ.
وَأَمَّا مَنْ حَدَّ الْغِنَى بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ, وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَهُوَ أَسْقَطُ الأَقْوَالِ كُلِّهَا لاَِنَّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ إلاَّ أَنْ قَالُوا: إنَّ الصَّدَقَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الأَغْنِيَاءِ وَتُرَدُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ, فَهَذَا غَنِيٌّ: فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا.
قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذِهِ لِوُجُوهٍ.
أَوَّلُهَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالزَّكَاةِ عَلَى مَنْ أَصَابَ سُنْبُلَةً فَمَا فَوْقَهَا, أَوْ مَنْ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ; أَوْ أَرْبَعُونَ شَاةً, فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا حَدَّ الْغِنَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, دُونَ السُّنْبُلَةِ; أَوْ دُونَ خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ, أَوْ دُونَ أَرْبَعِينَ شَاةً, وَكُلُّ ذَلِكَ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ. وَهَذَا هَوَسٌ مُفْرِطٌ.
وَهَكَذَا رُوِّينَا، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ تَبْلُغُ فِيهِ الزَّكَاةُ

أَخَذَ مِنْ الزَّكَاةِ.
وَالثَّانِي أَنَّهُمْ يَلْزَمُهُمْ أَنَّ مَنْ لَهُ الدُّورُ الْعَظِيمَةُ, وَالْجَوْهَرُ، وَلاَ يَمْلِكُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ عليه السلام: "تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ" دَلِيلٌ، وَلاَ نَصٌّ بِأَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تُؤْخَذُ إلاَّ مِنْ غَنِيٍّ، وَلاَ تُرَدُّ إلاَّ عَلَى فَقِيرٍ, وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ الأَغْنِيَاءِ وَتُرَدُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَقَطْ, وَهَذَا حَقٌّ, وَتُؤْخَذُ أَيْضًا بِنُصُوصٍ أُخَرَ مِنْ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ لَيْسُوا أَغْنِيَاءَ, وَتُرَدُّ بِتِلْكَ النُّصُوصِ عَلَى أَغْنِيَاءَ كَثِيرٍ, كَالْعَامِلِينَ; وَالْغَارِمِينَ; وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ, وَابْنِ السَّبِيلِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ. فَهَذِهِ خَمْسُ طَبَقَاتٍ أَغْنِيَاءَ, لَهُمْ حَقٌّ فِي الصَّدَقَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ فِي تَفْرِيقِهِ بَيْنَهُمْ إذْ يَقُولُ: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} إلَى آخِرِ الآيَةِ فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ ثُمَّ أَضَافَ إلَيْهِمْ مَنْ لَيْسَ فَقِيرًا, وَلاَ مِسْكِينًا.
وَتُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ إلاَّ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ, وَلَهُ عَشَرَةٌ مِنْ الْعِيَالِ, وَلَيْسَ لَهُ إلاَّ مِائَتَا دِرْهَمٍ, وَلَهُ عَشَرَةٌ مِنْ الْعِيَالِ, وَمِمَّنْ لَمْ يُصِبْ إلاَّ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ لَعَلَّهَا لاَ تُسَاوِي خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَلَهُ عَشَرَةٌ مِنْ الْعِيَالِ فِي عَامٍ سُنَّةً.
فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ, وَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي لاَ يُعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، قَالَهُ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَفْصٍ، هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إذَا أَعْطَيْتُمْ فَأَغْنُوا يَعْنِي مِنْ الصَّدَقَةِ, وَلاَ نَعْلَمُ لِهَذَا الْقَوْلِ خِلاَفًا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ.
وَرُوِّينَا، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ مَنْ لَهُ الدَّارُ, وَالْخَادِمُ, إذَا كَانَ مُحْتَاجًا.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: يُعْطَى مِنْهَا مَنْ لَهُ الْفَرَسُ, وَالدَّارُ; وَالْخَادِمُ.
وَعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ: يُعْطَى مَنْ لَهُ الْعَطَاءُ مِنْ الدِّيوَانِ وَلَهُ فَرَسٌ.
قال أبو محمد: وَيُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ الْكَثِيرُ جِدًّا وَالْقَلِيلُ, لاَ حَدَّ فِي ذَلِكَ, إذْ لَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ فِي ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ.

إظهار الصدقة من غير أن ينوي بذلك رياء حسن و إخفاء كل ذلك أفضل
724 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: إظْهَارُ الصَّدَقَةِ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْوِيَ بِذَلِكَ رِيَاءً: حَسَنٌ, وَإِخْفَاءُ كُلِّ ذَلِكَ أَفْضَلُ,
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
وقال مالك: إعْلاَنُ الْفَرْضِ أَفْضَلُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا فَرْقٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
فَإِنْ قَالُوا: نَقِيسُ ذَلِكَ عَلَى صَلاَةِ الْفَرْضِ قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; فَإِنْ قُلْتُمْ: هُوَ حَقٌّ, فَأَذِّنُوا لِلزَّكَاةِ كَمَا يُؤَذَّنُ لِلصَّلاَةِ وَمِنْ الصَّلاَةِ غَيْرِ الْفَرْضِ مَا يُعْلَنُ بِهَا كَالْعِيدَيْنِ, وَالْكُسُوفِ, وَرَكْعَتَيْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ, فَقِيسُوا صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ عَلَى ذَلِكَ.

فرض على الأغنياء من أهل كل بلدان يقوموا بفقرائهم
725 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: وَفُرِضَ عَلَى الأَغْنِيَاءِ مِنْ أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يَقُومُوا بِفُقَرَائِهِمْ,
وَيُجْبِرُهُمْ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ, إنْ لَمْ تَقُمْ الزَّكَوَاتُ بِهِمْ, وَلاَ فِي سَائِرِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ, فَيُقَامُ لَهُمْ بِمَا يَأْكُلُونَ مِنْ الْقُوتِ الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ, وَمِنْ اللِّبَاسِ لِلشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ بِمِثْلِ ذَلِكَ, وَبِمَسْكَنٍ يَكُنُّهُمْ مِنْ الْمَطَرِ, وَالصَّيْفِ وَالشَّمْسِ, وَعُيُونِ الْمَارَّةِ.
وَبُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}. وَقَالَ تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
فَأَوْجَبَ تَعَالَى حَقَّ الْمَسَاكِينِ, وَابْنِ السَّبِيلِ, وَمَا مَلَكَتْ الْيَمِينُ مَعَ حَقِّ ذِي الْقُرْبَى وَافْتَرَضَ الإِحْسَانَ إلَى الأَبَوَيْنِ, وَذِي الْقُرْبَى, وَالْمَسَاكِينِ, وَالْجَارِ, وَمَا مَلَكَتْ الْيَمِينُ, وَالإِحْسَانُ يَقْتَضِي كُلَّ مَا ذَكَرْنَا, وَمَنْعُهُ إسَاءَةٌ بِلاَ شَكٍّ.

وَقَالَ تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنْ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}.
فَقَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى إطْعَامَ الْمِسْكِينِ بِوُجُوبِ الصَّلاَةِ.
وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ لاَ يَرْحَمْ النَّاسَ لاَ يَرْحَمْهُ اللَّهُ".
قال أبو محمد: وَمَنْ كَانَ عَلَى فَضْلَةٍ وَرَأَى الْمُسْلِمَ أَخَاهُ جَائِعًا عُرْيَانَ ضَائِعًا فَلَمْ يُغِثْهُ: فَمَا رَحِمَهُ بِلاَ شَكٍّ.
وَهَذَا خَبَرٌ رَوَاهُ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ, وَقَيْسُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ, وَأَبِي ظَبْيَانَ وَزَيْدِ بْنِ وَهْبٍ, وَكُلُّهُمْ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
رَوَى أَيْضًا مَعْنَاهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَحَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ هُوَ التَّبُوذَكِيُّ، حدثنا الْمُعْتَمِرُ، هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، حدثنا أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حَدَّثَهُ: أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةَ كَانُوا نَاسًا فُقَرَاءَ, وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ, وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ سَادِسٍ" أَوْ كَمَا قَالَ.
فَهَذَا هُوَ نَفْسُ قَوْلِنَا.
وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ, لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يُسْلِمُهُ".
قال أبو محمد: مَنْ تَرَكَهُ يَجُوعُ وَيَعْرَى وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إطْعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ فَقَدْ أَسْلَمَهُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حدثنا أَبُو الأَشْهَبِ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ

بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ, وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ, قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ, حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لاَ حَقَّ لاَِحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ".
قال أبو محمد: وَهَذَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، يُخْبِرُ بِذَلِكَ أَبُو سَعِيدٍ, وَبِكُلِّ مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ نَقُولُ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ".
وَالنُّصُوصُ مِنْ الْقُرْآنِ, وَالأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ فِي هَذَا تَكْثُرُ جِدًّا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لاََخَذْت فُضُولَ أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ فَقَسَّمْتُهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ.
هَذَا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالْجَلاَلَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى الأَغْنِيَاءِ فِي أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَكْفِي فُقَرَاءَهُمْ, فَإِنْ جَاعُوا أَوْ عَرُوا وَجَهَدُوا فَمَنَعَ الأَغْنِيَاءُ, وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُحَاسِبَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَيُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهِ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: فِي مَالِكَ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ, وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ قَالُوا كُلُّهُمْ لِمَنْ سَأَلَهُمْ: إنْ كُنْت تَسْأَلُ فِي دَمٍ مُوجِعٍ, أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ فَقَدْ وَجَبَ حَقُّكَ.
وَصَحَّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَثَلاَثِمِائَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَنَّ زَادَهُمْ فَنِيَ فَأَمَرَهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ فَجَمَعُوا أَزْوَادَهُمْ فِي مِزْوَدَيْنِ, وَجَعَلَ يَقُوتُهُمْ إيَّاهَا عَلَى السَّوَاءِ.
فَهَذَا إجْمَاعٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْهُمْ.
وَصَحَّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ, وَمُجَاهِدٍ, وطَاوُوس, وَغَيْرِهِمْ, كُلُّهُمْ يَقُولُ: فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ.
قال أبو محمد: وَمَا نَعْلَمُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلاَفَ هَذَا, إلاَّ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ, فَإِنَّهُ قَالَ: نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ حَقٍّ فِي الْمَالِ.

قال أبو محمد: وَمَا رِوَايَةُ الضَّحَّاكِ حُجَّةٌ فَكَيْفَ رَأْيُهُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْمُحْتَجَّ بِهَذَا أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ فَيَرَى فِي الْمَالِ حُقُوقًا سِوَى الزَّكَاةِ, مِنْهَا النَّفَقَاتُ عَلَى الأَبَوَيْنِ الْمُحْتَاجَيْنِ, وَعَلَى الزَّوْجَةِ, وَعَلَى الرَّقِيقِ, وَعَلَى الْحَيَوَانِ, وَالدُّيُونِ, وَالآُرُوشِ, فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُمْ!!
فإن قيل: فَقَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ جُنَاحٌ أَنْ لاَ يَتَصَدَّقَ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} نَسَخَتْهَا: الْعُشْرُ. وَنِصْفُ الْعُشْرِ.
فَإِنَّ رِوَايَةَ مِقْسَمٍ سَاقِطَةٌ لِضَعْفِهِ; وَلَيْسَ فِيهَا وَلَوْ صَحَّتْ خِلاَفٌ لِقَوْلِنَا.
وَأَمَّا رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ فَإِنَّمَا هِيَ أَنْ لاَ يَتَصَدَّقَ تَطَوُّعًا.
وَهَذَا صَحِيحٌ
وَأَمَّا الْقِيَامُ بِالْمَجْهُودِ فَفَرْضٌ وَدَيْنٌ, وَلَيْسَ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ.
وَيَقُولُونَ: مَنْ عَطِشَ فَخَافَ الْمَوْتَ فَفُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ حَيْثُ وَجَدَهُ وَأَنْ يُقَاتِلَ عَلَيْهِ.
قال أبو محمد: فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَا أَبَاحُوا لَهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى مَا يَدْفَعُ بِهِ، عَنْ نَفْسِهِ الْمَوْتَ مِنْ الْعَطَشِ, وَبَيْنَ مَا مَنَعُوهُ مِنْ الْقِتَالِ، عَنْ نَفْسِهِ فِيمَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْهَا الْمَوْتَ مِنْ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ. وَهَذَا خِلاَفٌ لِلإِجْمَاعِ, وَلِلْقُرْآنِ, وَلِلسُّنَنِ, وَلِلْقِيَاسِ.
قال أبو محمد: وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ اُضْطُرَّ أَنْ يَأْكُلَ مَيْتَةً, أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ وَهُوَ يَجِدُ طَعَامًا فِيهِ فَضْلٌ، عَنْ صَاحِبِهِ, لِمُسْلِمٍ أَوْ لِذِمِّيٍّ; لإِنَّ فَرْضًا عَلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ إطْعَامُ الْجَائِعِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُضْطَرٍّ إلَى الْمَيْتَةِ، وَلاَ إلَى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَ، عَنْ ذَلِكَ, فَإِنْ قُتِلَ فَعَلَى قَاتِلِهِ الْقَوَدُ, وَإِنْ قَتَلَ الْمَانِعَ فَإِلَى لَعْنَةِ اللَّهِ; لاَِنَّهُ مَنَعَ حَقًّا, وَهُوَ طَائِفَةٌ بَاغِيَةٌ, قَالَ تعالى: {فإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الآُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} وَمَانِعُ الْحَقِّ بَاغٍ عَلَى أَخِيهِ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ; وَبِهَذَا قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه مَانِعَ الزَّكَاةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
تَمَّ كِتَابُ الزَّكَاةِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُسْنِ عَوْنِهِ.

كتاب الصيام
أحكام النية في الصوم
الصيام قسمان فرض و تطوع
بَسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
كِتَابُ الصِّيَامِ
726 - مَسْأَلَةٌ: الصِّيَامُ قِسْمَانِ فَرْضٌ, وَتَطَوُّعٌ,
وَهَذَا إجْمَاعُ حَقٍّ مُتَيَقَّنٍ, وَلاَ سَبِيلَ فِي بِنْيَةِ الْعَقْلِ إلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ.

من الفروض صيام شهر رمضان
727 - مَسْأَلَةٌ: فَمِنْ الْفَرْضِ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ,
الَّذِي بَيْنَ شَعْبَانَ, وَشَوَّالٍ, فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ صَحِيحٍ مُقِيمٍ, حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا, ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى, إلاَّ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ, فَلاَ يَصُومَانِ أَيَّامَ حَيْضِهِمَا أَلْبَتَّةَ, وَلاَ أَيَّامَ نَفَسِهِمَا, وَيَقْضِيَانِ صِيَامَ تِلْكَ الأَيَّامِ وَهَذَا كُلُّهُ فَرْضٌ مُتَيَقَّنٌ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الإِسْلاَمِ.

لا يجزئ الصيام إلا بالنية
728 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ صِيَامٌ أَصْلاً رَمَضَانَ كَانَ أَوْ غَيْرَهُ إلاَّ بِنِيَّةٍ
مُجَدَّدَةٍ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لِصَوْمِ الْيَوْمِ الْمُقْبِلِ, فَمَنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ النِّيَّةِ بَطَلَ صَوْمُهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فَصَحَّ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِشَيْءٍ فِي الدِّينِ إلاَّ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالإِخْلاَصِ لَهُ فِيهَا بِأَنَّهَا دِينُهُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى". فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ عَمَلَ إلاَّ بِنِيَّةٍ لَهُ, وَأَنَّهُ لَيْسَ لاَِحَدٍ إلاَّ مَا نَوَى. فَصَحَّ أَنَّ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ فَلَهُ صَوْمٌ, وَمَنْ لَمْ يَنْوِهِ فَلَيْسَ لَهُ صَوْمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ: أَنَّ الصَّوْمَ إمْسَاكٌ، عَنِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ; وَتَعَمُّدِ الْقَيْءِ, وَعَنِ الْجِمَاعِ, وَعَنِ الْمَعَاصِي, فَكُلُّ مَنْ أَمْسَكَ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَوْ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ بِلاَ نِيَّةٍ لِلصَّوْمِ لَكَانَ فِي كُلِّ وَقْتٍ صَائِمًا, وَهَذَا مَا لاَ يَقُولُ أَحَدٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ الإِجْمَاعِ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَنْ صَامَ وَنَوَاهُ مِنْ اللَّيْلِ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ, وَلاَ نَصَّ، وَلاَ إجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ يُجْزِئُ مَنْ لَمْ يَنْوِهِ مِنْ اللَّيْلِ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا.

من نسي أن ينوي من الليل في رمضان فينوي حين ذكر
729 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَسِيَ أَنْ يَنْوِيَ مِنْ اللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ
فَأَيُّ وَقْتٍ ذَكَرَ مِنْ النَّهَارِ التَّالِي لِتِلْكَ اللَّيْلَةِ سَوَاءٌ أَكَلَ وَشَرِبَ وَوَطِئَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْوِي الصَّوْمَ مِنْ وَقْتِهِ إذَا ذَكَرَ, وَيُمْسِكُ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ, وَيُجْزِئُهُ صَوْمُهُ ذَلِكَ تَامًّا, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ, وَلَوْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ النَّهَارِ, إلاَّ مِقْدَارُ النِّيَّةِ فَقَطْ, فَإِنْ لَمْ يَنْوِ كَذَلِكَ فَلاَ صَوْمَ لَهُ, وَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى مُتَعَمِّدٌ لاِِبْطَالِ صَوْمِهِ, وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى الْقَضَاءِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِأَنَّ هِلاَلَ رَمَضَانَ رُئِيَ الْبَارِحَةَ فَسَوَاءٌ أَكَلَ وَشَرِبَ وَوَطِئَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي أَيِّ وَقْتٍ جَاءَ الْخَبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَوْ فِي آخِرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ سَاعَةً صَحَّ الْخَبَرُ عِنْدَهُ, وَيُمْسِكُ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ, وَيُجْزِئُهُ صَوْمُهُ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ, فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَصَوْمُهُ بَاطِلٌ, كَمَا قلنا فِي الَّتِي قَبْلَهَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا: مَنْ عَلَيْهِ صَوْمُ نَذْرٍ مُعَيَّنٍ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فَنَسِيَ النِّيَّةَ وَذَكَرَ بِالنَّهَارِ فَكَمَا قلنا، وَلاَ فَرْقَ.
وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ النِّيَّةَ فِي لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ الْوَاجِبَيْنِ ثُمَّ ذَكَرَ بِالنَّهَارِ، وَلاَ فَرْقَ.
وَكَذَلِكَ مَنْ نَامَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي رَمَضَانَ, أَوْ فِي الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ, أَوْ فِي نَذْرٍ

مُعَيَّنٍ فَلَمْ يَنْتَبِهْ إلاَّ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ نَهَارِ ذَلِكَ الْيَوْمِ, وَلَوْ فِي آخِرِهِ كَمَا قلنا فَكَمَا قلنا أَيْضًا آنِفًا سَوَاءٌ سَوَاءٌ, وَلاَ فَرْقَ فِي شَيْءٍ أَصْلاً.
فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا, وَلاَ اسْتَيْقَظَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ: فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ, وَلَمْ يَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ.
بُرْهَانُ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وَكَذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ، عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ". وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا نَاسٍ, أَوْ مُخْطِئٌ غَيْرُ عَامِدٍ, فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، حدثنا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حدثنا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ، عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ قَالَتْ: "أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إلَى قُرَى الأَنْصَارِ الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ, وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ".
وَبِهِ إلَى مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ: حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حدثنا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ, فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ: مَنْ كَانَ لَمْ يَصُمْ فَلْيَصُمْ, وَمَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ إلَى الليل".
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا الْمَكِّيُّ بْنُ إبْرَاهِيمَ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: "أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ: إنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ, وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ, فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ".
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِ مُسْنَدًا.
قال أبو محمد: وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ هُوَ كَانَ الْفَرْضُ حِينَئِذٍ صِيَامَهُ.
كَمَا رُوِّينَا بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى الْبُخَارِيِّ: حدثنا أَبُو مَعْمَرٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، حدثنا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ

ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَفِيهِ- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ وَيَتَعَاهَدُنَا عِنْدَهُ, فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ وَلَمْ يَتَعَاهَدْنَا عِنْدَهُ".
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ, وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ, وَعِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ كُلُّهُمْ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِصِيَامِ عَاشُورَاءَ, حَتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ". قَالَ عِرَاكٌ: فَقَالَ عليه السلام: "مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْهُ".
قال أبو محمد: فَكَانَ هَذَا حُكْمَ صَوْمِ الْفَرْضِ, وَمَا نُبَالِي بِنَسْخِ فَرْضِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ, فَقَدْ أُحِيلَ صِيَامُ رَمَضَانَ أَحْوَالاً, فَقَدْ كَانَ مَرَّةً: مَنْ شَاءَ صَامَهُ, وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَهُ وَأَطْعَمَ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا, إلاَّ أَنَّ حُكْمَ مَا كَانَ فَرْضًا حُكْمٌ وَاحِدٌ; وَإِنَّمَا نَزَلَ هَذَا الْحُكْمُ فِيمَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ; وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ نَاسٍ, أَوْ جَاهِلٍ, أَوْ نَائِمٍ فَلَمْ يَعْلَمُوا وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ, فَحُكْمُهُمْ كُلِّهِمْ هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ اسْتِدْرَاكِ النِّيَّةِ فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ مَتَى مَا عَلِمُوا بِوُجُوبِ صَوْمِهِ عَلَيْهِمْ, وَسُمِّيَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ صَائِمًا, وَجَعَلَ فِعْلَهُ صَوْمًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ: أَنَّ قَوْمًا شَهِدُوا عَلَى الْهِلاَلِ بَعْدَمَا أَصْبَحُوا, فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكْ، عَنِ الطَّعَامِ, وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ.
وَعَنْ عَطَاءٍ: إذَا أَصْبَحَ رَجُلٌ مُفْطِرًا وَلَمْ يَذُقْ شَيْئًا ثُمَّ عَلِمَ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ أَوَّلَ النَّهَارِ أَوْ آخِرَهُ فَلْيَصُمْ مَا بَقِيَ، وَلاَ يُبَدِّلْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي بَشِيرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ: مَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ, وَمَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ.

وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْهِلاَلَ رُئِيَ الْبَارِحَةَ عَلَى أَقْوَالٍ.
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَنْوِي صَوْمَ يَوْمِهِ وَيُجْزِئُهُ, وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَبِهِ نَأْخُذُ, وَبِهِ جَاءَ النَّصُّ الَّذِي قَدَّمْنَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لاَ يَصُومُ, لاَِنَّهُ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ, وَلَمْ يَرَوْا فِيهِ قَضَاءً, وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا ذَكَرْنَا وَبِهِ يَقُولُ دَاوُد وَأَصْحَابُنَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَأْكُلُ بَقِيَّتَهُ وَيَقْضِيهِ, وَهُوَ قَوْلٌ رُوِّينَاهُ، عَنْ عَطَاءٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُمْسِكُ فِيهِ عَمَّا يُمْسِكُ الصَّائِمُ, وَلاَ يُجْزِئُهُ, وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ أَكَلَ خَاصَّةً, دُونَ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ; وَفِيمَنْ عَلِمَ الْخَبَرَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَطْ, أَكَلَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ.
وَهَذَا أَسْقَطُ الأَقْوَالِ; لاَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِيهِ, وَلاَ قِيَاسَ, وَلاَ نَعْلَمُهُ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ يَخْلُو هَذَا الإِمْسَاكُ الَّذِي أَمَرُوهُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَوْمًا يُجْزِئُهُ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا, أَوْ لاَ يَكُونُ صَوْمًا، وَلاَ يُجْزِئُهُ, فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنْ يَأْمُرُوهُ بِعَمَلٍ يَتْعَبُ فِيهِ وَيَتَكَلَّفُهُ، وَلاَ يُجْزِئُهُ!
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُفْطِرًا أَوْ صَائِمًا; فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلِمَ يَقْضِيهِ إذَنْ فَيَصُومُ يَوْمَيْنِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ وَاحِدٌ. وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلِمَ أَمَرُوهُ بِعَمَلِ الصَّوْمِ وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا, وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ فِي تَصْحِيحِ تَخْلِيطِهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ فِي نِيَّةِ الصَّوْمِ بِخَبَرِ الرُّبَيِّعِ, وَسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ الَّذِي ذَكَرْنَا, وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ خَالَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفْسِ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ, فَقَالُوا: مَنْ أَكَلَ لَمْ يُجْزِهِ صِيَامُ بَاقِي يَوْمِهِ, وَفِي تَخْصِيصِهِمْ بِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَيْسَ هَذَا فِي الْخَبَرِ, ثُمَّ احْتَجُّوا بِهِ فِيمَا لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ وَمِنْ عَادَتِهِمْ هَذَا الْخُلُقُ الذَّمِيمُ, وَهَذَا قَبِيحٌ جِدًّا, وَتَمْوِيهٌ لاَ يَسْتَجِيزُهُ مُحَقِّقٌ نَاصِحٌ لِنَفْسِهِ!

وقال بعضهم: قَدْ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي فِي عَاشُورَاءَ فَقَالَ: "صُمْتُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا؟" قَالُوا: لاَ, قَالَ: "فَأَتِمُّوا يَوْمَكُمْ هَذَا وَاقْضُوا".
قال أبو محمد: لَفْظَةُ "وَاقْضُوا" مَوْضُوعَةٌ بِلاَ شَكٍّ, وَعَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ مَوْلَى بَنِي أَبِي الشَّوَارِبِ يُكَنَّى أَبَا الْحُسَيْنِ, مَاتَ سَنَةَ 51 هـ إحْدَى وَخَمْسِينَ وَثَلاَثِمِائَةٍ, وَقَدْ اخْتَلَطَ عَقْلُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ, وَهُوَ بِالْجُمْلَةِ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ, وَتَرَكَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ جُمْلَةً وَأَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ مَجْهُولٌ.

وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ, وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ, وَلَيْسَتْ فِيهِ هَذِهِ اللَّفْظَةُ.
كَمَا َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ قَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ، حدثنا شُعْبَةُ، حدثنا قَتَادَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْمِنْهَالِ بْنِ سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لاَِسْلَمَ: "صُومُوا الْيَوْمَ" قَالُوا: إنَّا قَدْ أَكَلْنَا, قَالَ: "صُومُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ يَعْنِي عَاشُورَاءَ".
حدثنا عبد الله بن ربيع التَّمِيمِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْقُرَشِيُّ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ هُوَ الْبُرْسَانِيُّ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: غَدَوْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَبِيحَةَ عَاشُورَاءَ; فَقَالَ لَنَا: "أَصْبَحْتُمْ صِيَامًا؟" قلنا: قَدْ تَغَدَّيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "فَصُومُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ".
قال أبو محمد: وَمِنْ الْغَرَائِبِ تَمْوِيهُ الْحَنَفِيِّينَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ قَانِعٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَاقْضُوا ثُمَّ خَالَفُوهَا فَلَمْ يَرَوْا الْقَضَاءَ إلاَّ عَلَى مَنْ أَكَلَ دُونَ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ, وَعَلَى مَنْ نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ. وَهَذَا كُلُّهُ خِلاَفُ الْكِذْبَةِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا الْمَقْتَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى, فَحَيْثُمَا تَوَجَّهُوا عَثَرُوا, وَبِكُلِّ مَا احْتَجُّوا فَقَدْ خَالَفُوهُ, وَهَكَذَا فَلْيَكُنْ الْخِذْلاَنُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ.
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَيْهِ إلاَّ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِنْ لَمْ يَصُمْهُ كَمَا أُمِرَ; وَلاَِنَّهُ لَمْ يَنْوِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ صَوْمًا, وَلَمْ يَتَعَمَّدْ تَرْكَ النِّيَّةِ, فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَتَعَمَّدْ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ يَجِبُ فِي الدِّينِ حُكْمٌ إلاَّ بِأَحَدِهِمَا; وَإِنَّمَا أُمِرَ بِصِيَامِ ذَلِكَ الْيَوْمِ, لاَ بِصَوْمِ غَيْرِهِ مَكَانَهُ, فَلاَ يُجْزِئُ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ مَكَانَ مَا أُمِرَ بِهِ.

لا يجزئ صوم التطوع إلا بنية من الليل
730 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ إلاَّ بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ,
وَلاَ صَوْمُ قَضَاءِ رَمَضَانَ, أَوْ الْكَفَّارَاتِ إلاَّ كَذَلِكَ, لإِنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِأَنْ لاَ صَوْمَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا قَدَّمْنَا, وَلَمْ يَخُصَّ النَّصُّ مِنْ ذَلِكَ إلاَّ مَا كَانَ فَرْضًا مُتَعَيِّنًا فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ, وَبَقِيَ سَائِرُ ذَلِكَ عَلَى النَّصِّ الْعَامِّ.
وَقَوْلُنَا بِهَذَا فِي التَّطَوُّعِ, وَقَضَاءِ رَمَضَانَ, وَالْكَفَّارَاتِ: هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ; وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمَا.
فإن قال قائل: فَكَيْفَ اسْتَجَزْتُمْ خِلاَفَ الثَّابِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ الَّذِي رَوَيْتُمُوهُ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ, وَعَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: "هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ" وَقَالَ مَرَّةً: مِنْ غَدَاءٍ قلنا: لاَ قَالَ: فَإِنِّي إذَنْ صَائِمٌ. وَقَالَ لَهَا مَرَّةً أُخْرَى: "هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ" قلنا: نَعَمْ, أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ, قَالَ: "أَمَا إنِّي أَصْبَحْتُ أُرِيدُ الصَّوْمَ فَأَكَلَ".
وَقَالَ بِهَذَا جُمْهُورُ السَّلَفِ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ, قَالَ ثَابِتٌ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: إنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ يَأْتِي أَهْلَهُ مِنْ الضُّحَى, فَيَقُولُ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ فَإِنْ قَالُوا: لاَ, قَالَ: فَأَنَا صَائِمٌ, وَقَالَ ابْنُ أَبِي عُتْبَةَ: عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ بِمِثْلِ فِعْلِ أَبِي طَلْحَةَ سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ شَبِيبٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: إنِّي لاَُصْبِحُ يَوْمَ طُهْرِي حَائِضًا وَأَنَا أُرِيدُ الصَّوْمَ, فَأَسْتَبِينُ طُهْرِي فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ فَأَغْتَسِلُ ثُمَّ أَصُومُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَمَعْمَرٍ, قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ; وَقَالَ مَعْمَرٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ, وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ, وَقَالَ أَيُّوبُ: عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ, ثُمَّ اتَّفَقَ عَطَاءٌ, وَأَبُو إدْرِيسَ, وَأَبُو قِلاَبَةَ كُلُّهُمْ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ, أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ إذَا أَصْبَحَ سَأَلَ أَهْلَهُ الْغَدَاءَ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ; قَالَ: إنَّا صَائِمُونَ. وَقَالَ

عَطَاءٌ فِي حَدِيثِهِ: إنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يَأْتِي أَهْلَهُ حِينَ يَنْتَصِفُ النَّهَارُ, فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ غِذَاءٍ فَيَجِدُهُ, أَوْ لاَ يَجِدُهُ, فَيَقُولُ: لاَُتِمَّنَّ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ. قَالَ عَطَاءٌ: وَأَنَا أَفْعَلُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يَسْأَلُ الْغَدَاءَ, فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ صَامَ يَوْمَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: إنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُصْبِحُ مُفْطِرًا, فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ طَعَامٍ فَيَجِدُهُ, أَوْ لاَ يَجِدُهُ; فَيُتِمُّ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا أَصْبَحْتَ وَأَنْتَ تُرِيدُ الصَّوْمَ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ: إنْ شِئْتَ صُمْتَ وَإِنْ شِئْتَ أَفْطَرْتَ; إلاَّ أَنْ تَفْرِضَ عَلَى نَفْسِكَ الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ, فَقَالَ: أَصْبَحْتُ، وَلاَ أُرِيدُ الصَّوْمَ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ, فَإِنْ انْتَصَفَ النَّهَارُ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تُفْطِرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَمِنْ طَرِيقِ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ1، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, قَالاَ جَمِيعًا: الصَّائِمُ بِالْخِيَارِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ; قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا لَمْ يُطْعِمْ, فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطْعِمَ طَعِمَ, وَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ صَوْمًا كَانَ صَوْمًا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالصِّيَامِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ, حَتَّى يَمْتَدَّ النَّهَارُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ قَالَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ أَحَدَكُمْ بِأَحَدِ2 النَّظَرَيْنِ مَا لَمْ يَأْكُلْ أَوْ يَشْرَبْ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ هُوَ السُّلَمِيُّ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ بَدَا لَهُ فِي الصَّوْمِ بَعْدَ أَنْ زَالَتْ الشَّمْسُ فَصَامَ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَيْضًا، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ بَدَا لَهُ فِي الصِّيَامِ3 بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ فَلْيَصُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: كُنْتُ فِي سَفَرٍ وَكَانَ يَوْمَ فِطْرٍ; فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ قُلْتُ: لاََصُومَنَّ هَذَا الْيَوْمَ; فَصُمْتُ, فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, فَقَالَ: أَصَبْتَ, قَالَ عَطَاءٌ: وَكُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَجَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ عِنْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ:
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "سعد بن عباد" وهو خطأ.
2 في النسخة رقم "16" "بآخر" وهو خطأ.
3 في النسخة رقم "16" "من بداله الصيام".

إنِّي لَمْ آكُلْ الْيَوْمَ شَيْئًا أَفَأَصُومُ. قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: فَإِنَّ عَلَيَّ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ, أَفَأَجْعَلُهُ مَكَانَهُ قَالَ نَعَمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إذَا عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ مِنْ الضُّحَى فَلَهُ النَّهَارُ أَجْمَعُ; فَإِنْ عَزَمَ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ فَلَهُ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ; وَإِنْ أَصْبَحَ وَلَمْ يَعْزِمْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: سَأَلْتُ عَطَاءً، عَنْ رَجُلٍ كَانَ عَلَيْهِ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ, فَأَصْبَحَ وَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَصُومَ, ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَمَا أَصْبَحَ أَنْ يَصُومَ وَأَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ. فَقَالَ عَطَاءٌ: لَهُ ذَلِكَ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ: الصَّائِمُ بِالْخِيَارِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ, فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا لَهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: مَنْ أَرَادَ الصَّوْمَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ.
وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: إذَا تَسَحَّرَ الرَّجُلُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ, فَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ, وَإِنْ هَمَّ بِالصَّوْمِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ, إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ; فَإِنْ سَأَلَهُ إنْسَانٌ فَقَالَ: أَصَائِمٌ أَنْتَ فَقَالَ: نَعَمْ, فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ إلاَّ أَنْ يَقُولَ: إنْ شَاءَ, فَإِنْ قَالَهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ; إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ.
فَهَؤُلاَءِ مِنْ الصَّحَابَةِ: عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ, وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ, وَابْنُ عُمَرَ, وَابْنُ عَبَّاسٍ, وَأَنَسٌ, وَأَبُو طَلْحَةَ, وَأَبُو أَيُّوبَ, وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ, وَأَبُو الدَّرْدَاءِ, وَأَبُو هُرَيْرَةَ, وَابْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ. وَمِنْ التَّابِعِينَ: ابْنُ الْمُسَيِّبِ, وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ, وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ, وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ, وَالشَّعْبِيُّ, وَالْحَسَنُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَنْ أَصْبَحَ وَهُوَ يَنْوِي الْفِطْرَ إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ، وَلاَ شَرِبَ، وَلاَ وَطِئَ: فَلَهُ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ مَا لَمْ تَغِبْ الشَّمْسُ, وَيَصِحُّ صَوْمُهُ بِذَلِكَ.
قال أبو محمد: فَنَقُولُ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نُخَالِفَ شَيْئًا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَنْ نَصْرِفَهُ، عَنْ ظَاهِرِهِ بِغَيْرِ نَصٍّ آخَرَ, وَهَذَا الْخَبَرُ صَحِيحٌ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَكُنْ نَوَى الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ, وَلاَ أَنَّهُ عليه السلام أَصْبَحَ مُفْطِرًا ثُمَّ نَوَى الصَّوْمَ بَعْدَ ذَلِكَ, وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ لَقُلْنَا بِهِ, لَكِنْ فِيهِ

أَنَّهُ عليه السلام, كَانَ يُصْبِحُ مُتَطَوِّعًا صَائِمًا ثُمَّ يُفْطِرُ, وَهَذَا مُبَاحٌ عِنْدَنَا لاَ نَكْرَهُهُ, كَمَا فِي الْخَبَرِ, فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْخَبَرِ مَا ذَكَرْنَا, وَكَانَ قَدْ صَحَّ عَنْهُ عليه السلام: "لاَ صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنْ اللَّيْلِ", لَمْ يَجُزْ أَنْ نَتْرُكَ هَذَا الْيَقِينَ لِظَنٍّ كَاذِبٍ. وَلَوْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَصْبَحَ مُفْطِرًا ثُمَّ نَوَى الصَّوْمَ نَهَارًا لَبَيَّنَهُ, كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي صِيَامِ عَاشُورَاءَ إذْ كَانَ فَرْضًا, وَالتَّسَمُّحُ فِي الدِّينِ لاَ يَحِلُّ.
فإن قيل: قَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجِيءُ فَيَدْعُو بِالطَّعَامِ فَلاَ يَجِدُهُ فَيَفْرِضُ الصَّوْمَ".
وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ قَانِعٍ رَاوِي كُلِّ بَلِيَّةٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ السُّلَمِيِّ الْبَلْخِيّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصْبِحُ وَلَمْ يَجْمَعْ الصَّوْمَ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَصُومُ".
قلنا: لَيْثٌ ضَعِيفٌ, وَيَعْقُوبُ بْنُ عَطَاءٍ: هَالِكٌ, وَمِنْ دُونِهِ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ, وَاَللَّهِ لَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ.
قال أبو محمد: أَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَيُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ الْجُمْهُورِ, وَخَالَفُوا هَاهُنَا الْجُمْهُورَ بِلاَ رِقْبَةٍ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ فَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَهُمْ أَجَازَ أَنْ يُصْبِحَ فِي رَمَضَانَ عَامِدًا لاِِرَادَةِ الْفِطْرِ, ثُمَّ يَبْقَى كَذَلِكَ إلَى قَبْلِ زَوَالِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَنْوِي الصِّيَامَ حِينَئِذٍ وَيُجْزِئُهُ, وَادَّعَوْا الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لاَ تُجْزِئُ النِّيَّةُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ فِي ذَلِكَ قَدْ كَذَبُوا, وَلاَ مُؤْنَةَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْكَذِبِ!!
وَقَدْ صَحَّ هَذَا، عَنْ حُذَيْفَةَ نَصًّا, وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِطْلاَقٍ, وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَصًّا, وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ نَصًّا, وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ كَذَلِكَ, وَعَنِ الْحَسَنِ, وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

من مزج نية صوم فرض بفرض آخر أو تطوع أو فعل ذلك في غيره من العبادات
731 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَزَجَ نِيَّةَ صَوْمٍ فُرِضَ بِفَرْضٍ آخَرَ أَوْ بِتَطَوُّعٍ,
أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي صَلاَةٍ أَوْ زَكَاةٍ, أَوْ حَجٍّ, أَوْ عُمْرَةٍ, أَوْ عِتْقٍ: لَمْ يُجْزِهِ لِشَيْءٍ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ وَبَطَلَ ذَلِكَ الْعَمَلُ كُلُّهُ, صَوْمًا كَانَ أَوْ صَلاَةً, أَوْ زَكَاةً, أَوْ حَجًّا, أَوْ عُمْرَةً أَوْ عِتْقًا, إلاَّ مَزْجُ الْعُمْرَةِ بِالْحَجِّ لِمَنْ أَحْرَمَ وَمَعَهُ الْهَدْيُ فَقَطْ, فَهُوَ حُكْمُهُ اللاَّزِمُ لَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَالإِخْلاَصُ هُوَ أَنْ يَخْلُصَ الْعَمَلُ الْمَأْمُورُ بِهِ لِلْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِيهِ فَقَطْ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" فَمَنْ مَزَجَ عَمَلاً بِآخَرَ فَقَدْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ أَمْرُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَنْ صَلَّى, وَهُوَ مُسَافِرٌ رَكْعَتَيْنِ نَوَى بِهِمَا الظُّهْرَ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا أَوْ صَامَ يَوْمًا مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ يَنْوِي بِهِ قَضَاءَ مَا عَلَيْهِ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا وَأَعْطَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي زَكَاةِ مَالِهِ وَنَوَى بِهِ الزَّكَاةَ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا, أَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الإِسْلاَمِ وَنَوَى بِهَا الْفَرِيضَةَ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا: فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ مِنْ صَلاَةِ الْفَرْضِ وَصَوْمِ الْفَرْضِ, وَزَكَاةِ الْفَرْضِ, وَحَجَّةِ الْفَرْضِ, وَيَبْطُلُ التَّطَوُّعُ فِي كُلِّ ذَلِكَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَمَّا الصَّلاَةُ فَتَبْطُلُ، وَلاَ تُجْزِئُهُ, لاَ، عَنْ فَرْضٍ، وَلاَ عَنْ تَطَوُّعٍ وَأَمَّا الزَّكَاةُ, وَالصَّوْمُ فَيَكُونُ فِعْلُهُ ذَلِكَ تَطَوُّعًا فِيهِمَا جَمِيعًا, وَيَبْطُلُ الْفَرْضُ وَأَمَّا الْحَجُّ فَيُجْزِئُهُ، عَنِ الْفَرْضِ وَيَبْطُلُ التَّطَوُّعُ.
فَهَلْ سُمِعَ بِأَسْقَطَ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ وَمَا نَدْرِي مِمَّنْ الْعَجَبُ أَمِمَّنْ أَطْلَقَ لِسَانَهُ بِمِثْلِهَا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ بِالإِهْذَارِ وَيَخُصُّ مَا يَشَاءُ, وَيُبْطِلُ بِالتَّخَالِيطِ, أَوْ مِمَّنْ قَلَّدَ قَائِلَهَا, وَأَفْنَى عُمُرَهُ فِي دَرْسِهَا وَنَصْرِهَا مُتَدَيِّنًا بِهَا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ; وَنَسْأَلُهُ إدَامَةَ السَّلاَمَةِ وَالْعِصْمَةِ, وَنَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ بِذَلِكَ عَلَيْنَا كَثِيرًا.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ جَعَلَ عَلَيْهِ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ: إنْ شَاءَ صَامَ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ, وَأَجْزَأَ عَنْهُ يَعْنِي مَنْ فَرَضَهُ وَنَذَرَهُ; قَالَ مُجَاهِدٌ: وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ فَصَامَ تَطَوُّعًا فَهُوَ قَضَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ.

مبطلات الصوم
من نوى و هو صائم إبطال صومه بطل
732 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَوَى وَهُوَ صَائِمٌ إبْطَالَ صَوْمِهِ بَطَلَ,
إذَا تَعَمَّدَ ذَلِكَذَاكِرًا لاَِنَّهُ فِي صَوْمٍ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ، وَلاَ شَرِبَ، وَلاَ وَطِئَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ مَنْ نَوَى إبْطَالَ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الصَّوْمِ فَلَهُ مَا نَوَى بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام الَّذِي لاَ تَحِلُّ مُعَارَضَتُهُ, وَهُوَ قَدْ نَوَى بُطْلاَنَ الصَّوْمِ, فَلَهُ بُطْلاَنُهُ, فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لاَِنَّهُ فِي صَوْمٍ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْئًا, لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}.
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَنْ نَوَى إبْطَالَ صَلاَةٍ هُوَ فِيهَا, أَوْ حَجٍّ هُوَ فِيهِ, وَسَائِرُ الأَعْمَالِ كُلِّهَا كَذَلِكَ, فَلَوْ نَوَى ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ صَوْمِهِ أَوْ أَعْمَالِهِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ آثِمًا, وَلَمْ يُبْطِلْ بِذَلِكَ شَيْئًا مِنْهَا; لاَِنَّهَا كُلَّهَا قَدْ صَحَّتْ وَتَمَّتْ كَمَا أُمِرَ, وَمَا صَحَّ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُبْطِلَ بِغَيْرِ نَصٍّ فِي بُطْلاَنِهِ, وَالْمَسْأَلَةُ الآُولَى لَمْ يُتِمَّ عَمَلَهُ فِيهَا كَمَا أُمِرَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

يبطل الصوم تعمد الأكل أو الشرب أو الوطء في الفرج أو القيء
733 - مَسْأَلَةٌ: وَيُبْطِلُ الصَّوْمَ: تَعَمُّدُ الأَكْلِ, أَوْ تَعَمُّدُ الشُّرْبِ, أَوْ تَعَمُّدُ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ; أَوْ تَعَمُّدُ الْقَيْءِ;
وَهُوَ فِي كُلِّ ذَلِكَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ, وَسَوَاءٌ قَلَّ مَا أَكَلَ أَوْ كَثُرَ, أَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ أَوْ أَخَذَهُ مِنْ خَارِجِ فَمِهِ فَأَكَلَهُ. وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إجْمَاعًا مُتَيَقَّنًا, إلاَّ فِيمَا نَذْكُرُهُ, مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ}.
وَمَا حَدَّثَنَاهُ حُمَامٌ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَاجِيَّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا حَبِيبُ بْنُ خَلَفٍ الْبُخَارِيُّ، حدثنا أَبُو ثَوْرٍ إبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا مُعَلَّى، حدثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حدثنا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ, وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَلْيَقْضِ".

وَرُوِّينَا هَذَا أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَعَلِيٍّ وَعَلْقَمَةَ.
قَالَ عَلِيٌّ: عِيسَى بْنُ يُونُسَ: ثِقَةٌ.
وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ مَنْ تَعَمَّدَ أَنْ يَتَقَيَّأَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ فِيهِ لَمْ يَبْطُلْ بِذَلِكَ صَوْمُهُ, فَإِنْ كَانَ مِلْءَ فِيهِ فَأَكْثَرَ, بَطَلَ صَوْمُهُ, وَهَذَا خِلاَفٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ سَخَافَةِ التَّحْدِيدِ!
وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ: مَنْ خَرَجَ وَهُوَ صَائِمٌ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ مِنْ بَقِيَّةِ سَحُورِهِ كَالْجَذِيذَةِ وَشَيْءٌ مِنْ اللَّحْمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَبَلَعَهُ عَامِدًا لِبَلْعِهِ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ, وَمَا نَعْلَمُ هَذَا الْقَوْلَ لاَِحَدٍ قَبْلَهُمَا!
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ شَيْءٌ قَدْ أُكِلَ بَعْدُ, وَإِنَّمَا حَرُمَ مَا لَمْ يُؤْكَلْ!!
فَكَانَ الاِحْتِجَاجُ أَسْقَطَ وَأَوْحَشَ مِنْ الْقَوْلِ الْمُحْتَجِّ لَهُ وَمَا عَلِمْنَا شَيْئًا أُكِلَ فَيُمْكِنُ وُجُودُهُ بَعْدَ الأَكْلِ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ قَيْئًا أَوْ عَذِرَةً وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْبَلاَءِ.
وَحَدَّ بَعْضُ الْحَنَفِيِّينَ الْمِقْدَارَ الَّذِي لاَ يَضُرُّ تَعَمُّدُ أَكْلِهِ فِي الصَّوْمِ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ دُونَ مِقْدَارِ الْحِمَّصَةِ.
فَكَانَ هَذَا التَّحْدِيدُ طَرِيفًا جِدًّا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ, فَأَيُّ الْحِمَّصِ هُوَ الإِمْلِيسِيُّ الْفَاخِرُ, أَمْ الصَّغِيرُ!
فَإِنْ قَالُوا قِسْنَاهُ عَلَى الرِّيقِ.
قلنا لَهُمْ: فَمِنْ أَيْنَ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ بِخِلاَفِ الرِّيقِ؟!
وَنَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ لَهُ مِطْحَنَةٌ كَبِيرَةٌ مَثْقُوبَةٌ فَدَخَلَتْ فِيهَا مِنْ سَحُورِهِ زَبِيبَةٌ, أَوْ بَاقِلاَءُ فَأَخْرَجَهَا يَوْمًا آخَرَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ صَائِمٌ: أَلَهُ تَعَمُّدُ بَلْعِهَا أَمْ لاَ فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ تَنَاقَضُوا, وَإِنْ أَبَاحُوا سَأَلْنَاهُمْ، عَنْ جَمِيعِ طَوَاحِينِهِ وَهِيَ ثِنْتَا عَشْرَةَ مِطْحَنَةً مَثْقُوبَةٌ كُلُّهَا فَامْتَلاََتْ سِمْسِمًا أَوْ زَبِيبًا أَوْ قُنَّبًا أَوْ حِمَّصًا أَوْ بَاقِلاً أَوْ خُبْزًا أَوْ زَرِيعَةَ كَتَّانٍ فَإِنْ أَبَاحُوا تَعَمُّدَ أَكْلِ ذَلِكَ كُلِّهِ حَصَّلُوا أُعْجُوبَةً وَإِنْ مَنَعُوا مِنْهُ تَنَاقَضُوا وَتَحَكَّمُوا فِي الدِّينِ بِالْبَاطِلِ.

وَإِنَّمَا الْحَقُّ الْوَاضِحُ فَإِنَّ كُلَّ مَا سُمِّيَ أَكْلاً أَيُّ شَيْءٍ كَانَ فَتَعَمُّدُهُ يُبْطِلُ الصَّوْمَ, وَأَمَّا الرِّيقُ فَقَلَّ أَوْ كَثُرَ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنْ تَعَمَّدَ ابْتِلاَعَهُ لاَ يَنْقُضُ الصَّوْمَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِمَّنْ قَلَّدَ أَبَا حَنِيفَةَ, وَمَالِكًا فِي هَذَا, وَلَمْ يُقَلِّدْ مِنْ سَاعَةٍ مَنْ سَاعَاتِهِ خَيْرٌ مِنْ دَهْرِهِمَا كُلِّهِ وَهُوَ أَبُو طَلْحَةَ, الَّذِي رُوِّينَا بِأَصَحِّ طَرِيقٍ، عَنْ شُعْبَةَ, وَعِمْرَانَ الْقَطَّانِ كِلاَهُمَا، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ يَأْكُلُ الْبَرْدَ وَهُوَ صَائِمٌ قَالَ عِمْرَانُ فِي حَدِيثِهِ: وَيَقُولُ: لَيْسَ طَعَامًا، وَلاَ شَرَابًا وَقَدْ سَمِعَهُ شُعْبَةُ مِنْ قَتَادَةَ, وَسَمِعَهُ قَتَادَةُ مِنْ أَنَسٍ; وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يُحَصِّلُونَ!!

يبطل الصوم تعمد كل معصية
734 - مَسْأَلَةٌ: وَيُبْطِلُ الصَّوْمَ أَيْضًا تَعَمُّدُ كُلِّ مَعْصِيَةٍ أَيِّ مَعْصِيَةٍ كَانَتْ,
لاَ نُحَاشِ شَيْئًا إذَا فَعَلَهَا عَامِدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ, كَمُبَاشَرَةِ مَنْ لاَ يَحِلُّ لَهُ مِنْ أُنْثَى أَوْ ذَكَرٍ, أَوْ تَقْبِيلِ امْرَأَتِهِ وَأَمَتِهِ الْمُبَاحَتَيْنِ لَهُ مِنْ أُنْثَى أَوْ ذَكَرٍ, أَوْ إتْيَانٍ فِي دُبُرِ امْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا, أَوْ كَذِبٍ, أَوْ غِيبَةٍ, أَوْ نَمِيمَةٍ, أَوْ تَعَمُّدِ تَرْكِ صَلاَةٍ, أَوْ ظُلْمٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا حَرُمَ عَلَى الْمَرْءِ فِعْلُهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حدثنا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ هُوَ السَّمَّانُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ, وَلاَ يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ".
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الصِّيَامُ جُنَّةٌ, فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلاَ يَرْفُثْ، وَلاَ يَجْهَلْ, فَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا آدَم بْنُ أَبِي إيَاسٍ، حدثنا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ

فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ".
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ عُبَيْدٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى امْرَأَتَيْنِ صَائِمَتَيْنِ تَغْتَابَانِ النَّاسَ فَقَالَ لَهُمَا: "قِيئَا, فَقَاءَتَا قَيْحًا وَدَمًا وَلَحْمًا عَبِيطًا", ثُمَّ قَالَ عليه السلام: "هَا إنَّ هَاتَيْنِ صَامَتَا، عَنِ الْحَلاَلِ وَأَفْطَرَتَا عَلَى الْحَرَامِ".
قال أبو محمد: فَنَهَى عليه السلام، عَنِ الرَّفَثِ وَالْجَهْلِ فِي الصَّوْمِ, فَكَانَ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَامِدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ لَمْ يَصُمْ كَمَا أُمِرَ, وَمَنْ لَمْ يَصُمْ كَمَا أُمِرَ, فَلَمْ يَصُمْ, لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالصِّيَامِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ, وَهُوَ السَّالِمُ مِنْ الرَّفَثِ وَالْجَهْلِ, وَهُمَا اسْمَانِ يَعُمَّانِ كُلَّ مَعْصِيَةٍ; وَأَخْبَرَ عليه السلام أَنَّ مَنْ لَمْ يَدَعْ الْقَوْلَ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ الزُّورُ وَلَمْ يَدَعْ الْعَمَلَ بِهِ فَلاَ حَاجَةَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي تَرْكِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ. فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يَرْضَى صَوْمَهُ ذَلِكَ، وَلاَ يَتَقَبَّلُهُ, وَإِذَا لَمْ يَرْضَهُ، وَلاَ قَبِلَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ سَاقِطٌ; وَأَخْبَرَ عليه السلام أَنَّ الْمُغْتَابَةَ مُفْطِرَةٌ وَهَذَا مَا لاَ يَسَعُ أَحَدًا خِلاَفُهُ.
وَقَدْ كَابَرَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إنَّمَا يَبْطُلُ أَجْرُهُ لاَ صَوْمُهُ.
قال أبو محمد: فَكَانَ هَذَا فِي غَايَةِ السَّخَافَةِ وَبِالضَّرُورَةِ يَدْرِي كُلُّ ذِي حِسٍّ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ أَحْبَطَ اللَّهُ تَعَالَى أَجْرَ عَامِلِهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَحْتَسِبْ لَهُ بِذَلِكَ الْعَمَلَ، وَلاَ قَبِلَهُ, وَهَذَا هُوَ الْبُطْلاَنُ بِعَيْنِهِ بِلاَ مِرْيَةٍ.
وَبِهَذَا يَقُولُ السَّلَفُ الطَّيِّبُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ, وَهُشَيْمٌ كِلاَهُمَا، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ, قَالَ هُشَيْمٌ: عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَيْسَ الصِّيَامُ مِنْ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ وَحْدَهُ; وَلَكِنَّهُ مِنْ الْكَذِبِ, وَالْبَاطِلِ وَاللَّغْوِ.
وَعَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِثْلُهُ نَصًّا.

وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى قَالَ قَالَ جَابِرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إذَا صُمْت فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ, وَبَصَرُكَ, وَلِسَانُكَ، عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَأْثَمِ, وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ, وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ, وَلاَ تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَيَوْمَ صَوْمِكَ سَوَاءً.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ هُوَ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ، عَنْ أَخِيهِ طَلِيقِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: إذَا صُمْت فَتَحَفَّظْ مَا اسْتَطَعْت, فَكَانَ طَلِيقٌ إذَا كَانَ يَوْمُ صِيَامِهِ دَخَلَ فَلَمْ يَخْرُجْ إلاَّ إلَى صَلاَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ حَمَّادٍ الْبَكَّاءِ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إذَا اغْتَابَ الصَّائِمُ أَفْطَرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمِ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِي قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَصْحَابُهُ إذَا صَامُوا جَلَسُوا فِي الْمَسْجِدِ وَقَالُوا: نُطَهِّرُ صِيَامَنَا.
فَهَؤُلاَءِ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، عُمَرُ, وَأَبُو ذَرٍّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ, وَأَنَسٌ, وَجَابِرٌ, وَعَلِيٌّ: يَرَوْنَ بُطْلاَنَ الصَّوْمِ بِالْمَعَاصِي, لأَنَّهُمْ خَصُّوا الصَّوْمَ بِاجْتِنَابِهَا وَإِنْ كَانَتْ حَرَامًا عَلَى الْمُفْطِرِ, فَلَوْ كَانَ الصِّيَامُ تَامًّا بِهَا مَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِمْ الصَّوْمَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا مَعْنًى, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
وَمِنْ التَّابِعِينَ: مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَا أَصَابَ الصَّائِمُ شَوًى إلاَّ الْغِيبَةَ, وَالْكَذِبَ.
وَعَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ: الصِّيَامُ جُنَّةٌ; مَا لَمْ يَخْرِقْهَا صَاحِبُهَا, وَخَرْقُهَا: الْغِيبَةُ.
وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ: إنَّ أَهْوَنَ الصَّوْمِ تَرْكُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: الْكَذِبُ يُفْطِرُ الصَّائِمَ.

قال أبو محمد: وَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفَ هَذَا، عَنِ الأَكْلِ لِلَحْمِ الْخِنْزِيرِ, وَالشُّرْبِ لِلْخَمْرِ عَمْدًا: أَيُفْطِرُ الصَّائِمَ أَمْ لاَ فَمِنْ قَوْلِهِمْ: نَعَمْ.
فَنَقُولُ لَهُمْ: وَلِمَ ذَلِكَ؟
فَإِنْ قَالُوا: لاَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا فِيهِ.
قلنا لَهُمْ: وَكَذَلِكَ الْمَعَاصِي; لاَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي الصَّوْمِ أَيْضًا بِالنَّصِّ الَّذِي ذَكَرْنَا.
فَإِنْ قَالُوا: وَغَيْرُ الصَّائِمِ أَيْضًا مَنْهِيٌّ، عَنِ الْمَعَاصِي.
قلنا لَهُمْ: وَغَيْرُ الصَّائِمِ أَيْضًا مَنْهِيٌّ، عَنِ الْخَمْرِ, وَالْخِنْزِيرِ, وَلاَ فَرْقَ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا نُهِيَ، عَنِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلاَ نُبَالِي أَيَّ شَيْءٍ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ.
قلنا: وَإِنَّمَا نُهِيَ، عَنِ الْمَعَاصِي فِي صَوْمِهِ، وَلاَ نُبَالِي بِمَا عَصَى, أَبِأَكْلٍ وَشُرْبٍ, أَمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا أَفْطَرَ بِالأَكْلِ وَالشُّرْبِ.لِلإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ مُفْطِرٌ بِهِمَا.
قلنا: فَلاَ تُبْطِلُوا الصَّوْمَ إلاَّ بِمَا أُجْمِعَ عَلَى بُطْلاَنِهِ بِهِ وَهَذَا يُوجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تُبْطِلُوهُ بِأَكْلِ الْبَرَدِ، وَلاَ بِكَثِيرٍ مِمَّا أَبْطَلْتُمُوهُ بِهِ كَالسَّعُوطِ وَالْحُقْنَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا فَاسِدًا مِنْ الْقِيَاسِ وَكَانَ أَصَحُّ أُصُولِكُمْ أَنْ تَقِيسُوا بُطْلاَنَ الصَّوْمِ بِجَمِيعِ الْمَعَاصِي عَلَى بُطْلاَنِهِ بِالْمَعْصِيَةِ بِالأَكْلِ, وَالشُّرْبِ, وَهَذَا مَا لاَ مُخَلِّصَ مِنْهُ.
فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ اجْتِنَابُ الْمَعَاصِي مِنْ شُرُوطِ الصَّوْمِ.
قلنا: كَذَبْتُمْ لإِنَّ النَّصَّ قَدْ صَحَّ بِأَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ الصَّوْمِ كَمَا أَوْرَدْنَا.
فَإِنْ قَالُوا: تِلْكَ الأَخْبَارُ زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ.
قلنا: وَإِبْطَالُكُمْ الصَّوْمَ بِالسَّعُوطِ وَالْحُقْنَةِ, وَالإِمْنَاءِ مَعَ التَّقْبِيلِ زِيَادَةٌ فَاسِدَةٌ بَاطِلَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ فَتَرَكْتُمْ زِيَادَةَ الْحَقِّ, وَأَثْبَتُّمْ زِيَادَةَ الْبَاطِلِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

من تعمد ذاكرا لصومه شيئا مما ذكرنا فقد بطل صومه
735 - مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ تَعَمَّدَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا فَقَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ,
وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهِ إنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ أَوْ فِي نَذْرٍ مُعَيَّنٍ, إلاَّ فِي تَعَمُّدِ الْقَيْءِ خَاصَّةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ فِي تَعَمُّدِ الْقَيْءِ قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَسْأَلَتَيْنِ; وَلَمْ يَأْتِ فِي فَسَادِ الصَّوْمِ بِالتَّعَمُّدِ لِلأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ

أَوْ الْوَطْءِ: نَصٌّ بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ, وَإِنَّمَا افْتَرَضَ تَعَالَى رَمَضَانَ لاَ غَيْرَهُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ, فَإِيجَابُ صِيَامِ غَيْرِهِ بَدَلاً مِنْهُ إيجَابُ شَرْعٍ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ, فَهُوَ بَاطِلٌ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ تَعَالَى صَوْمَ شَهْرٍ مُسَمًّى فَيَقُولُ قَائِلٌ: إنَّ صَوْمَ غَيْرِهِ يَنُوبُ عَنْهُ, بِغَيْرِ نَصٍّ وَارِدٍ فِي ذَلِكَ: وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْحَجَّ إلَى غَيْرِ مَكَّةَ يَنُوبُ، عَنِ الْحَجِّ إلَى مَكَّةَ, وَالصَّلاَةَ إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ تَنُوبُ، عَنِ الصَّلاَةِ إلَى الْكَعْبَةِ, وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ قَالَ اللَّهُ تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا}. وَقَالَ تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}.
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا كُلَّ مُفْطِرٍ بِعَمْدٍ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُتَّقِي عَمْدًا.
قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ; لأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ نَقَضَ هَذَا الْقِيَاسَ فَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يَقِسْ الْمُفْطِرَ عَمْدًا بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ عَلَى الْمُفْطِرِ بِالْقَيْءِ عَمْدًا فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُمْ كَسُقُوطِهَا، عَنِ الْمُتَّقِي عَمْدًا, وَهُمْ الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ, وَالشَّافِعِيُّونَ: قَاسُوهُمْ عَلَى الْمُفْطِرِ بِالْقَيْءِ عَمْدًا, وَلَمْ يَقِيسُوهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى الْمُجَامِعِ عَمْدًا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ; فَقَدْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ الَّذِي يَدَّعُونَ فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْكُلِّ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ كُلِّمَ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ فَقَطْ.
فَإِنْ ذَكَرُوا أَخْبَارًا وَرَدَتْ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لِلْوَطْءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ قِيلَ: تِلْكَ آثَارٌ لاَ يَصِحُّ فِيهَا شَيْءٌ.
لإِنَّ أَحَدَهَا: مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الَّذِي أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِالْكَفَّارَةِ وَأَنْ يَصُومَ يَوْمًا", وَأَبُو أُوَيْسٍ ضَعِيفٌ, ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ.
وَالثَّانِي: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِأَنْ يَصُومَ يَوْمًا", وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ ابْنُ حَنْبَلٍ, وَابْنُ مَعِينٍ, وَغَيْرُهُمَا, وَلَمْ يَسْتَجِزْ الرِّوَايَةَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ.

وَالثَّالِثُ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْوَاطِئِ فِي رَمَضَانَ: "اقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ", وَعَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَرَ: ضَعِيفٌ, ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ, وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ, وَقَالَ أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ: هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
وَالرَّابِعُ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ أَمَرَ الْوَاطِئَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا مَكَانَهُ", وَهَذَا أَسْقَطَهَا كُلَّهَا لإِنَّ الْحَجَّاجَ لاَ شَيْءَ, ثُمَّ هِيَ صَحِيفَةٌ.
وَرُوِّينَاهُ مُرْسَلاً مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ; كُلِّهِمْ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِقَضَاءِ يَوْمٍ". وَهَذَا كُلُّهُ مُرْسَلٌ, وَلاَ تَقُومُ بِالْمُرْسَلِ حُجَّةٌ.
وَتَاللَّهِ لَوْ صَحَّ مِنْهَا خَبَرٌ وَاحِدٌ مُسْنَدٌ مِنْ طَرِيقِ الثِّقَاتِ لَسَارَعْنَا إلَى الْقَوْلِ بِهِ.
فَإِنْ لَجُّوا وَقَالُوا: الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ, وَلاَ نُضَعِّفُ الْمُحَدِّثِينَ!!
قلنا لَهُمْ: فَلاَ عَلَيْكُمْ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّمَرِيُّ. حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُطَرِّفُ بْنُ قَيْسٍ، حدثنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حدثنا مَالِكٌ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضْرِبُ نَحْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَقُولُ: هَلَكَ الأَبْعَدُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَمَا ذَاكَ؟" قَالَ: أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَعْتِقَ رَقَبَةً" قَالَ: لاَ, قَالَ: "تَسْتَطِيعُ أَنْ تُهْدِيَ بَدَنَةً" قَالَ: لاَ, قَالَ: "فَاجْلِسْ!" فَأُتِيَ بِعَرَقِ تَمْرٍ, وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ. وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَمَعْمَرٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: فَلْيَأْخُذُوا بِالْبَدَنَةِ فِي الْكَفَّارَةِ فِي ذَلِكَ; وَإِلاَّ فَالْقَوْمُ مُتَلاَعِبُونَ!!
وَقُلْنَا لَهُمْ: لَوْ أَرَدْنَا التَّعَلُّقَ بِمَا لاَ يَصِحُّ لَوَجَدْنَا خَيْرًا مِنْ كُلِّ خَبَرٍ تَعَلَّقْتُمْ بِهِ هَاهُنَا, كَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالاَ جَمِيعًا: حدثنا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ،

عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ حَدَّثَنِي أَبُو الْمُطَوِّسِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ، وَلاَ مَرَضٍ لَمْ يَقْضِ عَنْهُ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ".
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ: وَأَنْبَأَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ، حدثنا إسْمَاعِيلُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي الْمُطَوِّسِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ رَخَّصَهَا اللَّهُ لَمْ يَقْضِ عَنْهُ صَوْمُ الدَّهْرِ".
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ: أَنْبَأَنَا مَحْمُودُ بْنُ غِيلاَنَ، حدثنا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، حدثنا شُعْبَةُ, قَالَ: أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْت عُمَارَةَ بْنَ عُمَيْرٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي الْمُطَوِّسِ, قَالَ حَبِيبٌ: وَقَدْ رَأَيْت أَبَا الْمُطَوِّسِ. فَصَحَّ لِقَاؤُهُ إيَّاهُ.
فَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ; لإِنَّ أَبَا الْمُطَوِّسِ غَيْرُ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ, وَيُعِيذُنَا اللَّهُ مِنْ أَنَّ نَحْتَجَّ بِضَعِيفٍ إذَا وَافَقْنَا, وَنَرُدُّهُ إذَا خَالَفَنَا وَقَالَ بِمِثْلِ قَوْلِنَا أَفَاضِلُ السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما فِيمَا أَوْصَاهُ بِهِ: مَنْ صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَلَوْ صَامَ الدَّهْرَ أَجْمَعَ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ,

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أُتِيَ بِشَيْخٍ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ, فَقَالَ لِلْمَنْخَرَيْنِ لِلْمَنْخَرَيْنِ وِلْدَانُنَا صِيَامٌ ثُمَّ ضَرَبَهُ ثَمَانِينَ وَصَيَّرَهُ إلَى الشَّامِ.
قال أبو محمد: وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً، وَلاَ كَفَّارَةً.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ, فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ, ثُمَّ ضَرَبَهُ مِنْ الْغَدِ عِشْرِينَ, وَقَالَ: ضَرَبْنَاكَ الْعِشْرِينَ لِجُرْأَتِكَ عَلَى اللَّهِ وَإِفْطَارِكَ فِي رَمَضَانَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً, وَلاَ كَفَّارَةً.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ يَعْلَى الثَّقَفِيِّ. عَنْ عَرْفَجَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا لَمْ يَقْضِهِ أَبَدًا طُولُ الدَّهْرِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ لَمْ يُجْزِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ.
وَبِأَصَحّ طَرِيقٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ, فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَوْمُ سَنَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ لَمْ يَقْضِهِ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا.
قال أبو محمد: مِنْ أَصْلِ الْحَنَفِيِّينَ الَّذِينَ يُجَاحِشُونَ عَنْهُ وَيَتْرُكُونَ لَهُ السُّنَنَ: أَنَّ الْخَبَرَ إذَا خَالَفَهُ رَاوِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ دَلِيلاً عَلَى ضَعْفِ ذَلِكَ الْخَبَرِ أَوْ نَسْخِهِ, قَالُوا ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مُغَفَّلٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ, فَتَرَكُوهُ; لأَنَّهُمْ ادَّعَوْا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ خَالَفَهُ; وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ; بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ الْقَوْلُ بِهِ, وَهَذَا مَكَانٌ قَدْ خَالَفَ فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا رُوِيَ مِنْ هَذَا الْقَضَاءِ. وَخَالَفَهُ أَيْضًا سَعِيدُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, فَرَأَى عَلَى مَنْ

أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ صَوْمَ شَهْرٍ; فَيَنْبَغِي لَهُمْ إسْقَاطُ الْقَضَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْخَبَرِ بِهَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ.
فَإِنْ قَالُوا قَدْ رَوَاهُ غَيْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَغَيْرُ سَعِيدٍ.
قلنا: وَغَسْلُ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا قَدْ رَوَاهُ غَيْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
فَإِنْ قَالُوا مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا الْخَبَرُ وَيُفْتِي بِخِلاَفِهِ.
قلنا: فَقُولُوا هَذَا فِي خَبَرِ غَسْلِ الإِنَاءِ: مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْخَبَرُ وَيُخَالِفُهُ وَهَذَا مَا لاَ مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ.

مسائل في قضاء الصوم و الكفارة
لا قضاء إلا على خمسة فقط: و هم الحائض و النفساء و المريض و المسافر و المتقيء عمدا
736 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ قَضَاءَ إلاَّ عَلَى خَمْسَةٍ فَقَطْ:
وَهُمْ الْحَائِضُ, وَالنُّفَسَاءُ فَإِنَّهُمَا يَقْضِيَانِ أَيَّامَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ, لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ, وَالْمَرِيضُ, وَالْمُسَافِرُ سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ. لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وَالْمُتَقَيِّئُ عَمْدًا, بِالْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا قَبْلُ, وَهَذَا كُلُّهُ أَيْضًا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الْمَرِيضِ, وَالْمُسَافِرِ إذَا أَفْطَرَا, وَكُلُّهُمْ مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعَالَى, لاَ إثْمَ عَلَيْهِمْ, إلاَّ الْمُتَقَيِّئَ, وَهُوَ ذَاكِرٌ; فَإِنَّهُ آثِمٌ، وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.

لا كفارة على نت تعمد فطرا في رمضان
737 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ فِطْرًا فِي رَمَضَانَ
بِمَا لَمْ يُبَحْ لَهُ, إلاَّ مَنْ وَطِئَ فِي الْفَرْجِ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ الْمُبَاحِ لَهُ وَطْؤُهُمَا إذَا لَمْ يَكُنْ صَائِمًا فَقَطْ; فَإِنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ, عَلَى مَا نَصِفُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, وَلاَ يُقَدَّرُ الْقَضَاءُ, لِمَا ذَكَرْنَا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوجِبْ الْكَفَّارَةَ إلاَّ عَلَى وَاطِئِ امْرَأَتِهِ عَامِدًا, وَاسْمُ امْرَأَتِهِ يَقَعُ عَلَى الأَمَةِ الْمُبَاحِ وَطْؤُهَا, كَمَا يَقَعُ عَلَى الزَّوْجَةِ, وَلاَ جَمْعَ لِلْمَرْأَةِ مِنْ لَفْظِهَا; لَكِنْ جَمْعُ الْمَرْأَةِ عَلَى نِسَاءٍ, وَلاَ وَاحِدَ لِلنِّسَاءِ مِنْ لَفْظِهِ, قَالَ تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ بِلاَ خِلاَفٍ. الأَمَةُ الْمُبَاحَةُ, وَالزَّوْجَةُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى, وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ, كُلُّهُمْ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: "وَمَا أَهْلَكَكَ؟" قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ, قَالَ:

من وطئ عمدا في نهار رمضان ثم سافر في يومه ذلك أو جن أو مرض لا تسقط عنه الكفارة
738 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَطِئَ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ ثُمَّ سَافَرَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ أَوْ جُنَّ, أَوْ مَرِضَ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ,
لإِنَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلاَ يَسْقُطُ بَعْدَ وُجُوبِهِ إلاَّ بِنَصٍّ, وَلاَ نَصَّ فِي سُقُوطِهَا لِمَا ذَكَرْنَا. وقال أبو حنيفة, وَأَصْحَابُهُ: تَسْقُطُ بِالْمَرَضِ، وَلاَ تَسْقُطُ بِالسَّفَرِ.

صفة كفارة الواجبة
739 - مَسْأَلَةٌ: وَصِفَةُ الْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ:
هِيَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي رِوَايَةِ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ: مِنْ عِتْقِ رَقَبَةٍ لاَ يُجْزِئُهُ غَيْرُهَا مَا دَامَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا, فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا لَزِمَهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ, فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا لَزِمَهُ حِينَئِذٍ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
فإن قيل: هَلاَّ قُلْتُمْ بِمَا رَوَاهُ يَحْيَى الأَنْصَارِيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ, وَمَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ تَخْيِيرِهِ بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ؟
قلنا: لِمَا قَدْ بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ هَؤُلاَءِ اخْتَصَرُوا الْحَدِيثَ, وَأَتَوْا بِأَلْفَاظِهِمْ, أَوْ بِلَفْظٍ مِنْ دُونِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا سَائِرُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ فَأَتَوْا بِلَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الَّذِي لاَ يَحِلُّ تَعَدِّيهِ أَصْلاً, وَبِزِيَادَةِ حُكْمِ التَّرْتِيبِ, وَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ الزِّيَادَةِ.
وَبِقَوْلِنَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ, وَأَحْمَدُ, وَجُمْهُورُ النَّاسِ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ بِمَا رُوِيَ; إلاَّ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ الإِطْعَامَ, وَلَيْسَ لِهَذَا الاِسْتِحْبَابِ وَجْهٌ أَصْلاً.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ أَجَازَ فِي الإِطْعَامِ الْمَذْكُورِ: أَنْ تُطْعِمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا سِتِّينَ يَوْمًا, وَهَذَا خِلاَفٌ مُجَرِّدٌ لاَِمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ يَقَعُ اسْمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ أَصْلاً.

و يجزئ في الكفارة رقبة مؤمنة أو كافرة, صغيرة أو كبيرة ذكر أو أنثى, معيب أو سليم
740 - مَسْأَلَةٌ: وَيُجْزِئُ فِي ذَلِكَ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ أَوْ كَافِرَةٌ, صَغِيرَةٌ, أَوْ كَبِيرَةٌ, ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى, مَعِيبٌ أَوْ سَلِيمٌ;
لِعُمُومِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعْتِقْ رَقَبَةً", فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الرِّقَابِ الَّتِي تُعْتَقُ لاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ لَبَيَّنَهُ عليه السلام, وَلَمَا أَهْمَلَهُ حَتَّى يُبَيِّنَهُ لَهُ غَيْرُهُ.
وَيُجْزِئُ فِي ذَلِكَ: أُمُّ الْوَلَدِ, وَالْمُدَبَّرُ, وَالْمُعْتَقُ بِصِفَةٍ, وَإِلَى أَجَلٍ, وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهِ, وَلاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ نِصْفَانِ مِنْ رَقَبَتَيْنِ, وَلاَ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ.
وقال أبو حنيفة بِقَوْلِنَا فِي الْكَافِرِ وَالصَّغِيرِ.
وقال مالك, وَالشَّافِعِيُّ لاَ يُجْزِئُ إلاَّ مُؤْمِنَةٌ, قَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الرَّقَبَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ.

كل ما لا يجزئ في الكفارة فهو عتق مردود باطل لا ينفذ
741 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا قلنا أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ; فَإِنَّهُ عِتْقٌ مَرْدُودٌ بَاطِلٌ لاَ يَنْفُذُ,
لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" وَلاَِنَّهُ لَمْ يُعْتِقْهُ إلاَّ بِصِفَةٍ لَمْ تَصِحَّ, فَلَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ

يلزم في كفارة فطر رمضان صوم متتابع و دليل ذلك
742 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ فَرْضَهُ الصَّوْمُ, فَقَطَعَ صَوْمَهُ عَلَيْهِ رَمَضَانُ,
أَوْ أَيَّامُ الأَضْحَى, أَوْ مَا لاَ يَحِلُّ صِيَامُهُ فَلَيْسَا مُتَتَابِعِينَ, وَإِنَّمَا أُمِرَ بِهِمَا مُتَتَابِعِينَ.
وَقَالَ قَائِلٌ: يُجْزِئُهُ.
قال علي: وهذا خِلاَفُ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ كَوْنُهُ مَعْذُورًا فِي إفْطَارِهِ غَيْرَ آثِمٍ، وَلاَ مَلُومٍ بِمُجِيزٍ لَهُ مَا لَمْ يُجَوِّزْهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عَدَمِ التَّتَابُعِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ: مَنْ لَزِمَهُ شَهْرَانِ مُتَتَابِعَانِ فَمَرِضَ فَأَفْطَرَ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ صَوْمَهُمَا.

فإن اعترض صائم الكفارة نذر بطل النذر و سقط عنه
743 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ اعْتَرَضَهُ فِيهِمَا يَوْمُ نَذْرٍ نَذَرَهُ: بَطَلَ النَّذْرُ وَسَقَطَ عَنْهُ,
وَتَمَادَى فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ, وَكَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ سَوَاءٌ سَوَاءٌ, لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ". فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ لاَِحَدٍ أَنْ يَلْتَزِمَ غَيْرَ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى, وَمَنْ نَذَرَ مَا يَبْطُلُ بِهِ فَرْضَ اللَّهِ تَعَالَى فَنَذْرُهُ بَاطِلٌ; لاَِنَّهُ تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

إن بدأ بصوم الشهرين في أول يوم من الشهر صام إلى أن يرى الهلال الثالث و لا بد و دليل ذلك
744 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ بَدَأَ بِصَوْمِهِمَا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ الشَّهْرِ صَامَ إلَى أَنْ يَرَى الْهِلاَلَ الثَّالِثَ، وَلاَ بُدَّ,
كَامِلَيْنِ كَانَا أَوْ نَاقِصَيْنِ, أَوْ كَامِلاً وَنَاقِصًا لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} فَمَنْ لَزِمَهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِمَا مِنْ جُمْلَةِ الاِثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا الْمَذْكُورَةِ.

إن بدأ بصوم الشهرين في بعض الشهر لزمه صوم ثمانية و خمسين يوما لا أكثر
745 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ بَدَأَ بِهِمَا فِي بَعْضِ الشَّهْرِ وَلَوْ لَمْ يَمْضِ مِنْهُ إلاَّ يَوْمٌ, أَوْ لَمْ يَبْقَ إلاَّ يَوْمٌ فَمَا بَيْنَ ذَلِكَ: لَزِمَهُ صَوْمُ ثَمَانِيَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا لاَ أَكْثَرَ.
لِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ, فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, آلَيْتُ شَهْرًا, فَقَالَ: "إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ".
وَرُوِّينَاهُ مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ جِدًّا كَذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا, وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو

من كان فرضه الإطعام فإنه لا بد له من أن يطعمهم شبعهم و دليل ذلك
746 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ فَرْضُهُ الإِطْعَامَ فَإِنَّهُ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُطْعِمَهُمْ شِبَعَهُمْ,
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَطْعَمَهُمْ, وَإِنْ اخْتَلَفَ, مِثْلُ: أَنْ يُطْعِمَ بَعْضَهُمْ خُبْزًا, وَبَعْضَهُمْ تَمْرًا, وَبَعْضَهُمْ ثَرِيدًا, وَبَعْضَهُمْ زَبِيبًا, وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَيُجْزِئُ فِي ذَلِكَ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنْ أَعْطَاهُمْ حَبًّا أَوْ دَقِيقًا أَوْ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ, مِمَّا يُؤْكَلُ وَيُكَالُ; فَإِنْ أَطْعَمَهُمْ طَعَامًا مَعْمُولاً فَيُجْزِئُهُ مَا أَشْبَعَهُمْ أَكْلَةً وَاحِدَةً, أَقَلَّ كَانَ أَوْ أَكْثَرَ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ عِقَالٍ، حدثنا بَكَّارُ بْنُ قُتَيْبَةَ، حدثنا مُؤَمَّلٌ، هُوَ ابْنُ إسْمَاعِيلَ الْحِمْيَرِيُّ، حدثنا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"- فَذَكَرَ خَبَرَ الْوَاطِئِ فِي رَمَضَانَ- قَالَ: قَالَ: فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمِكْتَلٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَعْنِي صَاعًا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "خُذْهُ فَأَطْعِمْهُ عَنْكَ".
قَالَ عَلِيٌّ: فَأَجْزَأَ هَذَا فِي الإِطْعَامِ.
وَكَانَ إشْبَاعُهُمْ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَشْبَعَهُمْ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ: يُسَمَّى إطْعَامًا, وَالْبُرُّ

يُؤْكَلُ مَقْلُوًّا; فَكُلُّ ذَلِكَ إطْعَامٌ. وَلاَ يَجُوزُ تَحْدِيدُ إطْعَامٍ دُونَ إطْعَامٍ بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ, وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِيمَا دُونَ الشِّبَعِ فِي الأَكْلِ, وَفِيمَا دُونَ الْمُدِّ فِي الإِعْطَاءِ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ.
وقال أبو حنيفة: لاَ يُجْزِئُ إلاَّ نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ, أَوْ مِثْلُهُ مِنْ سَوِيقِهِ أَوْ دَقِيقِهِ, أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ زَبِيبٍ, أَوْ تَمْرٍ, لِكُلِّ مِسْكِينٍ.، وَلاَ بُدَّ مِنْ غَدَاءٍ وَعَشَاءٍ أَوْ غَدَاءٍ وَغَدَاءٍ, أَوْ عَشَاءٍ وَعَشَاءٍ, أَوْ سُحُورٍ وَغَدَاءٍ, أَوْ سُحُورٍ وَعَشَاءٍ!
قال أبو محمد: وَهَذَا تَحَكُّمٌ وَشَرْعٌ لَمْ يُوجِبْهُ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ!

لا يجوز إطعام رضيع لا يأكل الطعام و لا إهطاؤه من الزكاة
747 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ إطْعَامُ رَضِيعٍ لاَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ, وَلاَ إعْطَاؤُهُ مِنْ ذَلِكَ,
لاَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى إطْعَامًا, فَإِنْ كَانَ يَأْكُلُ كَمَا تَأْكُلُ الصِّبْيَانُ أَجْزَأَ إطْعَامُهُ وَإِشْبَاعُهُ, وَإِنْ أَكَلَ قَلِيلاً, لاَِنَّهُ أَطْعَمَ كَمَا أُمِرَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

لا يجزئ إطعام أقل من ستين و لا صيام أقل من شهرين في الكفارة
748 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ إطْعَامُ أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ, وَلاَ صِيَامُ أَقَلَّ مِنْ شَهْرَيْنِ,
لاَِنَّهُ خِلاَفُ مَا أُمِرَ بِهِ.

من كان قادرا حين وطئه على الرقبة لم يجزه غيرها افتقر بعد ذلك أو لم يفتقر
749 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ قَادِرًا حِينَ وَطْئِهِ عَلَى الرَّقَبَةِ لَمْ يُجْزِهِ غَيْرُهَا, افْتَقَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَفْتَقِرْ,
وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهَا حِينَئِذٍ قَادِرًا عَلَى صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَمْ يُجْزِهِ شَيْءٌ غَيْرُ الصِّيَامِ, أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَجَدَ رَقَبَةً أَوْ لَمْ يُوسِرْ وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا حِينَ ذَلِكَ، عَنِ الرَّقَبَةِ وَعَنِ الصِّيَامِ قَادِرًا عَلَى الإِطْعَامِ لَمْ يُجْزِهِ غَيْرُ الإِطْعَامِ, قَدَرَ عَلَى الرَّقَبَةِ أَوْ الصَّوْمِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ; لإِنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا هُوَ فَرْضُهُ بِالنَّصِّ, وَالإِجْمَاعِ; فَلاَ يَجُوزُ سُقُوطُ فَرْضِهِ وَإِيجَابُ فَرْضٍ آخَرَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ.
وَقَالَ قَائِلُونَ: إنْ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ فَأَيْسَرَ انْتَقَلَ حُكْمُهُ إلَى الرَّقَبَةِ.
َهَذَا خَطَأٌ, وَقَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ.

من لم يجد إلا رقبة لا غنى به عنها الخ لم يلزمه عتقها
750 - مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ إلاَّ رَقَبَةً لاَ غِنَى بِهِ عَنْهَا,
لاَِنَّهُ يَضِيعُ بَعْدَهَا أَوْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حُبِّهَا: لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقُهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا}. وَقَوْله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. وَقَوْله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}. وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا حَرَجٌ وَعُسْرٌ لَمْ يَجْعَلْهُ تَعَالَى عَلَيْنَا, وَلاَ أَرَادَهُ مِنَّا, وَفَرْضُهُ حِينَئِذٍ الصِّيَامُ, فَإِنْ كَانَ فِي غِنًى عَنْهَا وَهُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَلاَ مَالَ لَهُ فَعَلَيْهِ عِتْقُهَا; لاَِنَّهُ وَاجِدُ رَقَبَةٍ لاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي عِتْقِهَا.

من كان عاجزا عن ذلك كله ففرضه الإطعام و دليل ذلك
751 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا، عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَفَرْضُهُ الإِطْعَامُ,
وَهُوَ بَاقٍ عَلَيْهِ, فَإِنْ وَجَدَ طَعَامًا وَهُوَ إلَيْهِ مُحْتَاجٌ أَكَلَهُ هُوَ وَأَهْلُهُ وَبَقِيَ الإِطْعَامُ دَيْنًا عَلَيْهِ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِالإِطْعَامِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ, فَأَتَاهُ بِالتَّمْرِ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُطْعِمَهُ، عَنْ كَفَّارَتِهِ فَصَحَّ أَنَّ الإِطْعَامَ بَاقٍ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ, وَأَمَرَهُ عليه السلام بِأَكْلِهِ إذْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى أَكْلِهِ, وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ مَا قَدْ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ مِنْ الإِطْعَامِ, وَلاَ يَجُوزُ سُقُوطُ مَا افْتَرَضَهُ عليه السلام إلاَّ بِإِخْبَارٍ مِنْهُ عليه السلام بِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

الحر و العبد في كل ما ذكر سواء و دليل ذلك
752 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ وَيُطْعِمُ مِنْ ذَلِكَ الْحُرَّ وَالْعَبْدَ,
لإِنَّ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ عُمُومًا, لَمْ يُخَصَّ مِنْهُ حُرٌّ مِنْ عَبْدٍ, وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مِسْكِينًا فَهُوَ مِمَّنْ أُمِرَ بِإِطْعَامِهِ، وَلاَ تَجُوزُ مُعَارَضَةُ أَمْرِهِ عليه السلام بِالدَّعَاوَى الْكَاذِبَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.

لا ينقض الصوم حجامة و لا احتلام و لا استمناء و لا مباشرة الرجل امرأته فيما دون الفرج
753 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَنْقُضُ الصَّوْمَ حِجَامَةٌ، وَلاَ احْتِلاَمٌ, وَلاَ اسْتِمْنَاءٌ, وَلاَ مُبَاشَرَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ
أَوْ أَمَتَهُ الْمُبَاحَةَ لَهُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ, تَعَمَّدَ الإِمْنَاءَ أَمْ لَمْ يُمْنِ, أَمْذَى أَمْ لَمْ يُمْذِ، وَلاَ قُبْلَةٌ كَذَلِكَ فِيهِمَا, وَلاَ قَيْءٌ غَالِبٌ, وَلاَ قَلْسٌ خَارِجٌ مِنْ الْحَلْقِ, مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ رَدَّهُ بَعْدَ حُصُولِهِ فِي فَمِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى رَمْيِهِ, وَلاَ دَمٌ خَارِجٌ مِنْ الأَسْنَانِ أَوْ الْجَوْفِ مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ بَلْعَهُ, وَلاَ حُقْنَةٌ، وَلاَ سَعُوطٌ، وَلاَ تَقْطِيرٌ فِي أُذُنٍ, أَوْ فِي إحْلِيلٍ, أَوْ فِي أَنْفٍ، وَلاَ اسْتِنْشَاقٌ وَإِنْ بَلَغَ الْحَلْقَ, وَلاَ مَضْمَضَةٌ دَخَلَتْ الْحَلْقَ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ, وَلاَ كُحْلٌ أَوْ إنْ بَلَغَ إلَى الْحَلْقِ نَهَارًا أَوْ لَيْلاً بِعَقَاقِيرَ أَوْ بِغَيْرِهَا, وَلاَ غُبَارُ طَحْنٍ, أَوْ غَرْبَلَةُ دَقِيقٍ, أَوْ حِنَّاءٍ, أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ, أَوْ عِطْرٌ, أَوْ حَنْظَلٌ, أَوْ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ, وَلاَ ذُبَابٌ دَخَلَ الْحَلْقَ بِغَلَبَةٍ, وَلاَ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ فَوَقَعَ فِي حَلْقِهِ نُقْطَةُ مَاءٍ بِغَيْرِ تَعَمُّدٍ لِذَلِكَ مِنْهُ; ، وَلاَ مَضْغُ زِفْتٍ أَوْ مُصْطَكَى أَوْ عِلْكٍ; ، وَلاَ مَنْ تَعَمَّدَ أَنْ يُصْبِحَ جُنُبًا,

اختلاف العلماء في المجنون و المغمي عليه في شهر رمضان هل عليهما القضاء أم لا
754 - مَسْأَلَةٌ: قَالَ عَلِيٌّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَجْنُونِ, وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ جُنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ كُلَّهُ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ, فَإِنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ1 قَضَى الشَّهْرَ كُلَّهُ. قَالَ: وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ الشَّهْرَ كُلَّهُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ كُلِّهِ, فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ قَضَى الشَّهْرَ كُلَّهُ إلاَّ يَوْمَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِيهَا; لاَِنَّهُ قَدْ نَوَى صِيَامَهُ مِنْ اللَّيْلِ.
وقال مالك: مَنْ بَلَغَ وَهُوَ مَجْنُونٌ مُطْبَقٌ فَأَقَامَ وَهُوَ كَذَلِكَ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ: فَإِنَّهُ يَقْضِي كُلَّ رَمَضَانَ كَانَ فِي تِلْكَ السِّنِينَ, وَلاَ يَقْضِي شَيْئًا مِنْ الصَّلَوَاتِ. قَالَ: فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ النَّهَارِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ, فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَقَلَّ النَّهَارِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ إيجَابُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ جُمْلَةً دُونَ تَقْسِيمٍ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: لاَ قَضَاءَ عَلَى الْمَجْنُونِ إلاَّ عَلَى الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
وقال الشافعي: لاَ يَقْضِي الْمَجْنُونُ, وَيَقْضِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمْ.
قال أبو محمد: كُنَّا نَذْهَبُ إلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ, وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ يَبْطُلُ صَوْمُهُمَا، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمَا, وَكَذَلِكَ الصَّلاَةُ. وَنَقُولُ: إنَّ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْخَوْلاَنِيِّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حدثنا وُهَيْبٍ، هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، عَنْ خَالِدٍ هُوَ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ, وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ, وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ" وَكُنَّا نَقُولُ: إذَا رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ فَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِصَوْمٍ، وَلاَ بِصَلاَةٍ.
ثُمَّ تَأَمَّلْنَا هَذَا الْخَبَرَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَدْنَاهُ لَيْسَ فِيهِ إلاَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ فِي حَالِ جُنُونِهِ حَتَّى يَعْقِلَ, وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ بُطْلاَنُ صَوْمِهِ الَّذِي لَزِمَهُ قَبْلَ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "منها" وهو خطأ.

جُنُونِهِ, وَلاَ عَوْدَتُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ إفَاقَتِهِ, وَكَذَلِكَ الْمُغْمَى, فَوَجَبَ أَنَّ مَنْ جُنَّ بَعْدَ أَنْ نَوَى الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ فَلاَ يَكُونُ مُفْطِرًا بِجُنُونِهِ; لَكِنَّهُ فِيهِ غَيْرُ مُخَاطَبٍ, وَقَدْ كَانَ مُخَاطَبًا بِهِ; فَإِنْ أَفَاقَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ فِي يَوْمٍ بَعْدَهُ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَنْوِي الصَّوْمَ مِنْ حِينِهِ وَيَكُونُ صَائِمًا; لاَِنَّهُ حِينَئِذٍ عَلِمَ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ.
وَهَكَذَا مَنْ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ, أَوْ مَنْ عَلِمَ بِأَنَّهُ يَوْمُ نَذْرِهِ أَوْ فَرْضِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا قَبْلُ, وَكَذَلِكَ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا, وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ, أَوْ مَنْ نَامَ, أَوْ سَكِرَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ، وَلاَ صَحَا إلاَّ مِنْ الْغَدِ وَقَدْ مَضَى أَكْثَرُ النَّهَارِ, أَوْ أَقَلُّهُ.
وَوَجَدْنَا الْمَجْنُونَ لاَ يُبْطِلُ جُنُونُهُ إيمَانَهُ, وَلاَ أَيْمَانَهُ، وَلاَ نِكَاحَهُ، وَلاَ طَلاَقَهُ, وَلاَ ظِهَارَهُ، وَلاَ إيلاَءَهُ, وَلاَ حَجَّهُ, وَلاَ إحْرَامَهُ، وَلاَ بَيْعَهُ, وَلاَ هِبَتَهُ, وَلاَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِهِ اللاَّزِمَةِ لَهُ قَبْلَ جُنُونِهِ, وَلاَ خِلاَفَتَهُ إنْ كَانَ خَلِيفَةً, وَلاَ إمَارَتَهُ إنْ كَانَ أَمِيرًا، وَلاَ وِلاَيَتَهُ، وَلاَ وَكَالَتَهُ, وَلاَ تَوْكِيلَهُ, وَلاَ كُفْرَهُ, وَلاَ فِسْقَهُ, وَلاَ عَدَالَتَهُ, وَلاَ وَصَايَاهُ, وَلاَ اعْتِكَافَهُ, وَلاَ سَفَرَهُ, وَلاَ إقَامَتَهُ, وَلاَ مِلْكَهُ, وَلاَ نَذْرَهُ, وَلاَ حِنْثَهُ, وَلاَ حُكْمَ الْعَامِّ فِي الزَّكَاةِ عَلَيْهِ.
وَوَجَدْنَا ذُهُولَهُ، عَنْ كُلِّ ذَلِكَ لاَ يُوجِبُ بُطْلاَنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, فَقَدْ يَذْهَلُ الإِنْسَانُ، عَنِ الصَّوْمِ, وَالصَّلاَةِ, حَتَّى يَظُنَّ أَنَّهُ لَيْسَ مُصَلِّيًا، وَلاَ صَائِمًا; فَيَأْكُلَ, وَيَشْرَبَ, وَلاَ يَبْطُلُ بِذَلِكَ صَوْمُهُ، وَلاَ صَلاَتُهُ, بِهَذَا جَاءَتْ السُّنَنُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا, وَكَذَلِكَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَلاَ فَرْقَ فِي كُلِّ ذَلِكَ, وَلاَ يُبْطِلُ الْجُنُونُ وَالإِغْمَاءُ إلاَّ مَا يُبْطِلُ النَّوْمُ مِنْ الطَّهَارَةِ بِالْوُضُوءِ وَحْدَهُ فَقَطْ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمَغْلُوبَ الْمُكْرَهَ عَلَى الْفِطْرِ لاَ يَبْطُلُ صَوْمُهُ بِذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, وَالْمَجْنُونُ, وَالْمُكْرَهُ مَغْلُوبَانِ مُكْرَهَانِ مُضْطَرَّانِ بِقَدَرٍ غَالِبٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَصَابَهُمَا, فَلاَ يُبْطِلُ ذَلِكَ صَوْمَهُمَا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ جُنَّ; أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَقَدْ صَحَّ صَوْمُهُ بِيَقِينٍ مِنْ نَصٍّ وَإِجْمَاعٍ; فَلاَ يَجُوزُ بُطْلاَنُهُ بَعْدَ صِحَّتِهِ إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ; ، وَلاَ إجْمَاعَ فِي ذَلِكَ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا مُطْبَقًا فَهَذَا لَمْ يَكُنْ قَطُّ مُخَاطَبًا, وَلاَ لَزِمَتْهُ الشَّرَائِعُ, وَلاَ الأَحْكَامُ

وَلَمْ يَزَلْ مَرْفُوعًا عَنْهُ الْقَلَمُ; فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ صَوْمٍ أَصْلاً; بِخِلاَفِ قَوْلِ مَالِكٍ: فَإِذَا عَقَلَ فَحِينَئِذٍ ابْتَدَأَ الْخِطَابُ بِلُزُومِهِ إيَّاهُ, لاَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَنْ شَرِبَ حَتَّى سَكِرَ فِي لَيْلَةِ رَمَضَانَ وَكَانَ نَوَى الصَّوْمَ فَصَحَا بَعْدَ صَدْرٍ مِنْ النَّهَارِ أَقَلِّهِ أَوْ أَكْثَرِهِ أَوْ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ: فَصَوْمُهُ تَامٌّ, وَلَيْسَ السُّكْرُ مَعْصِيَةً, إنَّمَا الْمَعْصِيَةُ شُرْبُ مَا يُسْكِرُ سَوَاءٌ سَكِرَ أَمْ لَمْ يَسْكَرْ, وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مَنْ فُتِحَ فَمُهُ أَوْ أُمْسِكَتْ يَدُهُ وَجَسَدُهُ وَصُبَّ الْخَمْرُ فِي حَلْقِهِ حَتَّى سَكِرَ أَنَّهُ لَيْسَ عَاصِيًا بِسُكْرِهِ, لاَِنَّهُ لَمْ يَشْرَبْ مَا يُسْكِرُهُ بِاخْتِيَارِهِ, وَالسُّكْرُ لَيْسَ هُوَ فِعْلُهُ, إنَّمَا هُوَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ, وَإِنَّمَا يُنْهَى الْمَرْءُ، عَنْ فِعْلِهِ, لاَ، عَنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ الَّذِي لاَ اخْتِيَارَ لَهُ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ نَامَ وَلَمْ يَسْتَيْقِظْ إلاَّ فِي النَّهَارِ، وَلاَ فَرْقَ; أَوْ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ ثُمَّ لَمْ يَسْتَيْقِظْ إلاَّ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ, فَصَوْمُهُ تَامٌّ.
وَبَقِيَ حُكْمُ مَنْ جُنَّ, أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ سَكِرَ, أَوْ نَامَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَمْ يُفِقْ، وَلاَ صَحَا، وَلاَ انْتَبَهَ لَيْلَتَهُ كُلَّهَا وَالْغَدَ كُلَّهُ إلَى بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ: أَيَقْضِيهِ أَمْ لاَ. فَوَجَدْنَا الْقَضَاءَ إيجَابَ شَرْعٍ; وَالشَّرْعُ لاَ يَجِبُ إلاَّ بِنَصٍّ, فَلاَ نَجِدُ إيجَابَ الْقَضَاءِ فِي النَّصِّ إلاَّ عَلَى أَرْبَعَةٍ: الْمُسَافِرُ, وَالْمَرِيضُ بِالْقُرْآنِ وَالْحَائِضُ, وَالنُّفَسَاءُ, وَالْمُتَعَمِّدُ لِلْقَيْءِ بِالسُّنَّةِ، وَلاَ مَزِيدَ. وَوَجَدْنَا النَّائِمَ, وَالسَّكْرَانَ, وَالْمَجْنُونَ الْمُطْبَقَ عَلَيْهِ لَيْسُوا مُسَافِرِينَ، وَلاَ مُتَعَمِّدِينَ لِلْقَيْءِ, وَلاَ حُيَّضًا, وَلاَ مِنْ ذَوَاتِ النِّفَاسِ, وَلاَ مَرْضَى; فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ أَصْلاً, وَلاَ خُوطِبُوا بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الأَحْوَالِ; بَلْ الْقَلَمُ مَرْفُوعٌ عَنْهُمْ بِالسُّنَّةِ. وَوَجَدْنَا الْمَصْرُوعَ, وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ مَرِيضَيْنِ بِلاَ شَكٍّ, لإِنَّ الْمَرَضَ هِيَ حَالٌ مُخْرِجَةٌ لِلْمَرْءِ، عَنْ حَالِ الاِعْتِدَالِ وَصِحَّةِ الْجَوَارِحِ وَالْقُوَّةِ إلَى الاِضْطِرَابِ وَضَعْفِ الْجَوَارِحِ وَاعْتِلاَلِهَا, وَهَذِهِ صِفَةُ الْمَصْرُوعِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ بِلاَ شَكٍّ, وَيَبْقَى وَهْنُ ذَلِكَ وَضَعْفُهُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الإِفَاقَةِ مُدَّةً; فَإِذْ هُمَا مَرِيضَانِ فَالْقَضَاءُ عَلَيْهِمَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلَيْسَ قَوْلُنَا بِسُقُوطِ الصَّلاَةِ، عَنِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ إلاَّ مَا أَفَاقَ فِي وَقْتِهِ مِنْهَا وَبِقَضَاءِ النَّائِمِ لِلصَّلاَةِ: مُخَالِفًا لِقَوْلِنَا هَاهُنَا; بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ, لإِنَّ مَا خَرَجَ وَقْتُهُ لِلْمُغْمَى عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ

مُخَاطَبًا بِالصَّلاَةِ فِيهِ, وَلاَ كَانَ أَيْضًا مُخَاطَبًا بِالصَّوْمِ; وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْمَرِيضِ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ, وَلَمْ يُوجِبْ تَعَالَى عَلَى الْمَرِيضِ: قَضَاءَ صَلاَةٍ, وَأَوْجَبَ قَضَاءَ الصَّلاَةِ عَلَى النَّائِمِ, وَالنَّاسِي, وَلَمْ يُوجِبْ قَضَاءَ صِيَامٍ عَلَى النَّائِمِ, وَالنَّاسِي بَلْ أَسْقَطَهُ تَعَالَى، عَنِ النَّاسِي, وَالنَّائِمِ; إذْ لَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْهِ. فَصَحَّ قَوْلُنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ; لاَِنَّهُ دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَلَمْ يَتَّبِعْ نَصًّا, وَلاَ قِيَاسًا; لاَِنَّهُ رَأَى عَلَى مَنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ جُنُونِهِ: قَضَاءَ الشَّهْرِ كُلِّهِ, وَهُوَ لاَ يَرَاهُ عَلَى مَنْ بَلَغَ, أَوْ أَسْلَمَ حِينَئِذٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيِّينَ: الْمَجْنُونُ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِضِ وَهَذَا كَلاَمٌ يُغْنِي ذِكْرُهُ، عَنْ تَكَلُّفِ إبْطَالِهِ, وَمَا نَدْرِي فِيمَا يُشْبِهُ الْمَجْنُونُ الْحَائِضَ؟!!

من جهده الجوع أو العطش حتى غلبه الأمر ففرض عليه أن يفطر
755 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ جَهَدَهُ الْجُوعُ, أَوْ الْعَطَشُ حَتَّى غَلَبَهُ الأَمْرُ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ;
لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}. وَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}. وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "َاذا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ".
فَإِنْ كَانَ خَرَجَ بِذَلِكَ إلَى حَدِّ الْمَرَضِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ, وَإِنْ كَانَ لَمْ يَخْرُجْ إلَى حَدِّ الْمَرَضِ فَصَوْمُهُ صَحِيحٌ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ مَغْلُوبٌ مُكْرَهٌ مُضْطَرٌّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ}. وَلَمْ يَأْتِ الْقُرْآنُ، وَلاَ السُّنَّةُ بِإِيجَابِ قَضَاءٍ عَلَى مُكْرَهٍ, أَوْ مَغْلُوبٍ; بَلْ قَدْ أَسْقَطَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَضَاءَ عَمَّنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَأَوْجَبَهُ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَهُ.

لا يلزم صوم في رمضان و لا في غيره إلا بتبين طلوع الفجر الثاني
756 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَلْزَمُ صَوْمٌ فِي رَمَضَانَ، وَلاَ فِي غَيْرِهِ إلاَّ بِتَبَيُّنِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي,
وَأَمَّا مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فَالأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ مُبَاحٌ كُلُّ ذَلِكَ, كَانَ عَلَى شَكٍّ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَطْلُعْ.
فَمَنْ رَأَى الْفَجْرَ وَهُوَ يَأْكُلُ فَلْيَقْذِفْ مَا فِي فَمِهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ, وَلْيَصُمْ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; وَمَنْ رَأَى الْفَجْرَ وَهُوَ يُجَامِعُ فَلْيَتْرُكْ مِنْ وَقْتِهِ, وَلْيَصُمْ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; وَسَوَاءٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ كَانَ طُلُوعُ الْفَجْرِ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ أَوْ قَرِيبَةٍ, فَلَوْ تَوَقَّفَ بَاهِتًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, وَصَوْمُهُ تَامٌّ; وَلَوْ أَقَامَ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.

من صح عنده بخبر من يصدقه أن الهلال قد رؤي البارحة في آخر شعبان ففرض عليه الصوم
757 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ صَحَّ عِنْدَهُ بِخَبَرِ مَنْ يُصَدِّقُهُ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ, أَوْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ: عَبْدٍ, أَوْ حُرٍّ, أَوْ أَمَةٍ, أَوْ حُرَّةٍ, فَصَاعِدًا أَنَّ الْهِلاَلَ قَدْ رُئِيَ الْبَارِحَةَ فِي آخِرِ شَعْبَانَ فَفُرِضَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ,
صَامَ النَّاسُ أَوْ لَمْ يَصُومُوا, وَكَذَلِكَ لَوْ رَآهُ هُوَ وَحْدَهُ, وَلَوْ صَحَّ عِنْدَهُ بِخَبَرِ وَاحِدٍ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا فَصَاعِدًا: أَنَّ هِلاَلَ شَوَّالٍ قَدْ رُئِيَ فَلْيُفْطِرْ, أَفْطَرَ النَّاسُ أَوْ صَامُوا; وَكَذَلِكَ لَوْ رَآهُ هُوَ وَحْدَهُ; فَإِنْ خَشِيَ فِي ذَلِكَ أَذًى فَلْيَسْتَتِرْ بِذَلِكَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: قَرَأْت عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: "لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلاَلَ, وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ", فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ.
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ: حدثنا ابْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْت أَبَا الْبَخْتَرِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ".
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ بِمِثْلِ قَوْلِنَا فِي هِلاَلِ رَمَضَانَ, وَلَمْ يُجِيزُوا فِي هِلاَلِ شَوَّالٍ إلاَّ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ.
وقال مالك: لاَ أَقْبَلُ فِي كِلَيْهِمَا إلاَّ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ.
قال أبو محمد: أَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ فَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَإِنَّهُمْ قَاسُوهُ عَلَى سَائِرِ الأَحْكَامِ.
قال أبو محمد: وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَاطِلاً; لإِنَّ

الْحُقُوقَ تَخْتَلِفُ: فَمِنْهَا عِنْدَ الْمَالِكِيِّينَ مَا يُقْبَلُ فِيهَا شَاهِدٌ وَيَمِينٌ, وَمِنْهَا مَا لاَ يُقْبَلُ فِيهِ إلاَّ رَجُلاَنِ, أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ. وَمِنْهَا مَا لاَ يُقْبَلُ فِيهِ إلاَّ رَجُلاَنِ فَقَطْ. وَمِنْهَا مَا لاَ يُقْبَلُ فِيهِ إلاَّ أَرْبَعَةٌ. وَمِنْهَا مَا يُسْمَحُ فِيهِ حَتَّى يُجِيزُوا فِيهِ النَّصْرَانِيَّ وَالْفَاسِقَ, كَالْعُيُوبِ فِي الطِّبِّ, فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنْ يَخُصُّوا بَعْضَ هَذِهِ الْحُقُوقِ دُونَ بَعْضٍ بِقِيَاسِ الشَّهَادَةِ فِي الْهِلاَلِ عَلَيْهِ. وَنَسْأَلُهُمْ، عَنْ قَرْيَةٍ لَيْسَ فِيهَا إلاَّ فُسَّاقٌ, أَوْ نَصَارَى, أَوْ نِسَاءٌ وَفِيهِمْ عَدْلٌ يَضْعُفُ بَصَرُهُ، عَنْ رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ.
قال أبو محمد: فأما نَحْنُ فَخَبَرُ الْكَافَّةِ مَقْبُولٌ فِي ذَلِكَ, وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا أَوْ فُسَّاقًا; لاَِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ ضَرُورَةً.
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى قَبُولِ عَدْلَيْنِ فِي ذَلِكَ.
قلنا: لاَ, بَلْ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي يَقُولُ: إنْ كَانَ الْجَوُّ صَافِيًا لَمْ أَقْبَلْ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ.
فَإِنْ قَالُوا: كَلاَمُهُ سَاقِطٌ.
قلنا: نَعَمْ, وَقِيَاسُكُمْ أَسْقَطُ!
فَإِنْ قَالُوا: فَمِنْ أَيْنَ أَجَزْتُمْ فِيهِمَا خَبَرَ الْوَاحِدِ.
قلنا: لاَِنَّهُ مِنْ الدِّينِ; وَقَدْ صَحَّ فِي الدِّينِ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ; فَهُوَ مَقْبُولٌ فِي كُلِّ مَكَان, إلاَّ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ لاَ يُقْبَلَ إلاَّ عَدَدٌ سَمَّاهُ لَنَا.
وَأَيْضًا: فَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَذَانِ بِلاَلٍ: "كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ", فَأَمَرَ عليه السلام بِالْتِزَامِ الصِّيَامِ بِأَذَانِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ بِالصُّبْحِ, وَهُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ بِأَنَّ الْفَجْرَ قَدْ تَبَيَّنَ.
وَحدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ السَّمَرْقَنْدِيُّ، حدثنا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ نَافِعِ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلاَلَ, فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي رَأَيْتُهُ, فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ".
وَهَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ.

وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: حدثنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا حُسَيْنٌ هُوَ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ; إنِّي رَأَيْتُ الْهِلاَلَ يَعْنِي رَمَضَانَ فَقَالَ: "أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ" قَالَ: نَعَمْ, قَالَ; "أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ" قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: "قُمْ يَا بِلاَلُ فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا".
قال أبو محمد: رِوَايَةُ سِمَاكٍ لاَ نَحْتَجُّ بِهَا، وَلاَ نَقْبَلُهَا مِنْهُمْ, وَهُمْ قَدْ احْتَجُّوا بِهَا فِي أَخْذِ الدَّنَانِيرِ مِنْ الدَّرَاهِمِ, فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهَا هَاهُنَا, وَإِلاَّ فَهُمْ مُتَلاَعِبُونَ فِي الدِّينِ.
فَإِنْ تَعَلَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هِلاَلِ رَمَضَانَ وَهِلاَلِ شَوَّالٍ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ, وَقَالَ: لَمْ يَرِدْ إلاَّ فِي هِلاَلِ رَمَضَانَ.
قلنا: وَلاَ جَاءَ نَصٌّ قَطُّ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ فِي هِلاَلِ رَمَضَانَ, وَأَنْتُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ, فَهَلاَّ قِسْتُمْ هِلاَلَ شَوَّالٍ عَلَى هِلاَلِ رَمَضَانَ؟
فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الشَّاهِدَ فِي هِلاَلِ رَمَضَانَ لاَ يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ, وَالشَّاهِدُ فِي هِلاَلِ شَوَّالٍ يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ.
قلنا: فَرَدُّوا بِهَذَا الظَّنِّ بِعَيْنِهِ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ فِي شَوَّالٍ أَيْضًا; لاَِنَّهُمَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا, كَمَا تَفْعَلُونَ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ يَكْذِبُ فِي مِثْلِ هَذَا لاَ يُبَالِي قُبِلَ أَوْ رُدَّ.
وَنَقُولُ لَهُمْ: إذَا صُمْتُمْ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ; فَغُمَّ الْهِلاَلُ بَعْدَ الثَّلاَثِينَ, أَتَصُومُونَ أَحَدًا وَثَلاَثِينَ فَهَذِهِ طَامَّةٌ, وَشَرِيعَةٌ لَيْسَتْ مِنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ تُفْطِرُونَ عِنْدَ تَمَامِ الثَّلاَثِينَ وَإِنْ لَمْ تَرَوْا الْهِلاَلَ فَقَدْ أَفْطَرْتُمْ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ وَتَنَاقَضْتُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: فَإِنْ شَغَبُوا بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ: حدثنا أَبُو مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ، حدثنا حُسَيْنُ بْنُ الْحَارِثِ الْجَدَلِيُّ جَدِيلَةُ قَيْسٍ: أَنَّ أَمِيرَ مَكَّةَ وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ خَطَبَ فَقَالَ: "عَهِدَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَنْسُكَ لِرُؤْيَتِهِ, فَإِنْ لَمْ نَرَهُ وَشَهِدَ شَاهِدَا عَدْلٍ نَسَكْنَا بِشَهَادَتِهِمَا".
وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: "قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيَّانِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمُسْلِمَانِ أَنْتُمَا" قَالاَ: نَعَمْ فَأَمَرَ النَّاسُ فَأَفْطَرُوا أَوْ صَامُوا".
وَعَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ: إذَا شَهِدَ رَجُلاَنِ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ أَفْطَرُوا.

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: أَبِي عُثْمَانُ أَنْ يُجِيزَ شَهَادَةَ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ وَنَحْنُ بِخَانِقِينَ: إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلاَلَ نَهَارًا فَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى يَشْهَدَ رَجُلاَنِ: لَرَأَيَاهُ بِالأَمْسِ.
قلنا: أَمَّا حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ فَإِنَّ رَاوِيَهُ حُسَيْنُ بْنُ الْحَارِثِ وَهُوَ مَجْهُولٌ; ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلاَّ قَبُولُهُ اثْنَيْنِ, وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ هَذَا, وَلَيْسَ فِيهِ أَنْ لاَ يَقْبَلَ وَاحِدٌ.
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي عُثْمَانَ, عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ.
وَكَذَا الْقَوْلُ فِي فِعْلِ عَلِيٍّ سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ رضي الله عنه إنَّمَا رَدَّ شَهَادَةَ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ لاَِنَّهُ لَمْ يَرْضَهُ; لاَ لاَِنَّهُ وَاحِدٌ; وَلَقَدْ كَانَ هَاشِمٌ أَحَدَ الْمُجَلِّبِينَ عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه.
وَأَمَّا خَبَرُ عُمَرَ: فَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ فِي هَذَا خِلاَفُ ذَلِكَ, كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الأَعْلَى الثَّعْلَبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَنْظُرُ إلَى الْهِلاَلِ, فَرَآهُ رَجُلٌ, فَقَالَ عُمَرُ: يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ أَحَدُهُمْ; فَأَمَرَهُمْ فَأَفْطَرُوا أَوْ صَامُوا فَهَذَا عُمَرُ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ.
وَقَدْ رُوِّينَا أَيْضًا:، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه مِثْلَ هَذَا. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو ثَوْرٍ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى رُؤْيَتِهِ فَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ خِلاَفَ ذَلِكَ; وَهُوَ أَنَّ مَنْ رَآهُ وَحْدَهُ فِي اسْتِهْلاَلِ رَمَضَانَ فَلاَ يَصُمْ, وَمَنْ رَآهُ وَحْدَهُ فِي اسْتِهْلاَلِ شَوَّالٍ فَلاَ يُفْطِرُ. وَبِهِ يَقُولُ الْحَسَنُ.
رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ: أَنَّ رَجُلَيْنِ رَأَيَا الْهِلاَلَ فِي سَفَرٍ; فَقَدِمَا الْمَدِينَةَ ضُحَى الْغَدِ, فَأَخْبَرَا عُمَرَ, فَقَالَ لاَِحَدِهِمَا: أَصَائِمٌ أَنْتَ قَالَ: نَعَمْ, كَرِهْت أَنْ يَكُونَ النَّاسُ صِيَامًا وَأَنَا مُفْطِرٌ, كَرِهْت الْخِلاَفَ عَلَيْهِمْ, وَقَالَ لِلآخِرِ: فَأَنْتَ قَالَ: أَصْبَحْت مُفْطِرًا; لاَِنِّي رَأَيْت الْهِلاَلَ, فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَوْلاَ هَذَا يَعْنِي الَّذِي صَامَ لاََوْجَعْنَا رَأْسَكَ, وَرَدَدْنَا شَهَادَتَكَ; ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ فَأَفْطَرُوا.

وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أُخْبِرْت، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ التَّيْمِيِّ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِعُمَرَ: إنِّي رَأَيْت هِلاَلَ رَمَضَانَ, قَالَ: أَرَآهُ مَعَكَ أَحَدٌ قَالَ: لاَ قَالَ: فَكَيْف صَنَعْت قَالَ: صُمْت بِصِيَامِ النَّاسِ, فَقَالَ عُمَرُ: يَا لَكَ فِيهَا. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ.
قال أبو محمد: يَنْبَغِي لِمَنْ قَلَّدَ عُمَرَ فِيمَا يَدْعُونَهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَتَحْرِيمِ الْمَنْكُوحَةِ فِي الْعِدَّةِ: أَنْ يُقَلِّدَهُ هَاهُنَا.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ: يَصُومُ إنْ رَآهُ وَحْدَهُ, وَلاَ يُفْطِرُ إنْ رَآهُ وَحْدَهُ وَهَذَا تَنَاقُضٌ وقال الشافعي كَمَا قلنا.
وَخُصُومُنَا لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا، وَلاَ نَقُولُ بِهِ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لاَ تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ} وَقَالَ تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا} وَقَالَ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَمَنْ رَآهُ فَقَدْ شَهِدَهُ.وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ".

إذا رؤي الهلال قبل الزوال فهو من البارحة و يصوم الناس من حينئذ باقي يومهم
758 - مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا رُئِيَ الْهِلاَلُ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ مِنْ الْبَارِحَةِ وَيَصُومُ النَّاسُ مِنْ حِينَئِذٍ بَاقِيَ يَوْمِهِمْ
إنْ كَانَ أَوَّلَ رَمَضَانَ وَيُفْطِرُونَ إنْ كَانَ آخِرَهُ, فَإِنْ رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ" فَخَرَجَ مِنْ هَذَا الظَّاهِرُ إذَا رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ بِالإِجْمَاعِ الْمُتَيَقِّنِ, وَلَمْ يَجِبْ الصَّوْمُ إلاَّ مِنْ الْغَدِ; وَبَقِيَ حُكْمُ لَفْظِ الْحَدِيثِ إذَا رُئِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ, لِلاِخْتِلاَفِ فِي ذَلِكَ; فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى النَّصِّ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْهِلاَلَ إذَا رُئِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَإِنَّمَا يَرَاهُ النَّاظِرُ إلَيْهِ وَالشَّمْسُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ, وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ رُؤْيَتُهُ مَعَ حَوَالَةِ الشَّمْسِ دُونَهُ إلاَّ وَقَدْ أَهَلَّ مِنْ الْبَارِحَةِ وَبَعُدَ عَنْهَا بُعْدًا كَثِيرًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حدثنا أَبِي، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى النَّاسِ إذَا رَأَيْتُمُوهُ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَأَفْطِرُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ بَعْدَ زَوَالِهَا فَلاَ تُفْطِرُوا.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِمِثْلِهِ. وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ رضي الله عنه

إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلاَلَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَفْطِرُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ فَلاَ تُفْطِرُوا فَإِنَّ الشَّمْسَ تَزِيغُ عَنْهُ أَوْ تَمِيلُ عَنْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيِّ بِبَلَنْجَرَ فَرَأَيْت الْهِلاَلَ ضُحًى فَأَتَيْت سَلْمَانَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَامَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَمَّا رَآهُ أَمَرَ النَّاسَ فَأَفْطَرُوا. وَبِهِ يَقُولُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الأَنْدَلُسِيُّ, وَأَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُد, وَغَيْرُهُ. فإن قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ خِلاَفُ هَذَا قلنا: نَعَمْ وَإِذَا صَحَّ التَّنَازُعُ وَجَبَ الرَّدُّ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الآنَ وَجْهَ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

من السنة تعجيل الفطر و تأخير السحور
759 - مَسْأَلَةٌ: وَمِنْ السُّنَّةِ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ
وَإِنَّمَا هُوَ مَغِيبُ الشَّمْسِ، عَنْ أُفُقِ الصَّائِمِ، وَلاَ مَزِيدَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً".
وَمِنْ طَرِيقِ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السُّحُور"ِ.
قال أبو محمد: لاَ يَضُرُّ الصَّوْمَ تَعَمُّدُ تَرْكِ السَّحُورِ; لاَِنَّهُ مِنْ حُكْمِ اللَّيْلِ وَالصِّيَامُ مِنْ حُكْمِ النَّهَارِ, وَلاَ يَبْطُلُ عَمَلٌ بِتَرْكِ عَمَلٍ غَيْرِهِ إلاَّ بِأَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ نَصٌّ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُؤَخِّرُ السُّحُورَ وَيُعَجِّلُ الإِفْطَارَ, فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ فَلَمَّا غَرُبَتْ الشَّمْسُ قَالَ: "انْزِلْ فَاجْدَحْ

لَنَا" فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتُ قَالَ: "انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا" قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا قَالَ: "انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا" فَنَزَلَ فَجَدَحَ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ", وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ قِبَلِ الْمَشْرِقِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَبِي مُوسَى: تَأْخِيرَ الْفِطْرِ حَتَّى تَبْدُوَ الْكَوَاكِبُ، وَلاَ نَقُولُ بِهَذَا لِمَا ذَكَرْنَا وَتَعْجِيلُ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلاَةِ وَالأَذَانِ أَفْضَلُ, كَذَلِكَ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.

من أسلم بعد ما تبين الفجر له أو بلغ كذلك الخ
760 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ الْفَجْرُ لَهُ, أَوْ بَلَغَ كَذَلِكَ,
أَوْ رَأَتْ الطُّهْرَ مِنْ الْحَيْضِ كَذَلِكَ, أَوْ مِنْ النِّفَاسِ كَذَلِكَ, أَوْ أَفَاقَ مِنْ مَرَضِهِ كَذَلِكَ, أَوْ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ بَاقِيَ نَهَارِهِمْ وَيَطَئُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْ, أَوْ مَنْ طَهُرَتْ فِي يَوْمِهَا ذَلِكَ, وَيَسْتَأْنِفُونَ الصَّوْمَ مِنْ غَدٍ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ, أَوْ بَلَغَ; وَتَقْضِي الْحَائِضُ, وَالْمُفِيقُ, وَالْقَادِمُ, وَالنُّفَسَاءُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي بَعْضِ هَذَا: فَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ: لاَ تَأْكُلُ إلَى اللَّيْلِ, كَرَاهَةَ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالأَوْزَاعِيُّ, وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ, وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ, وَعَنْ عَطَاءٍ إنْ طَهُرَتْ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلْتُتِمَّ يَوْمَهَا, وَإِنْ طَهُرَتْ فِي آخِرِهِ أَكَلَتْ وَشَرِبَتْ; وَبِمِثْلِ قَوْلِنَا يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَمَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ.
وَأَمَّا الْكَافِرُ يُسْلِمُ: فَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ إنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ صَامَ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ وَإِنْ أَسْلَمَ فِي آخِرِ النَّهَارِ صَامَ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلُ ذَلِكَ, وَقَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَافِرِ يَدْخُلُ فِي صَلاَةِ الْمُقِيمِينَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ مِثْلُ ذَلِكَ.
وقال أبو حنيفة فِي الصَّبِيِّ يَبْلُغُ بَعْدَ الْفَجْرِ: أَنَّ عَلَيْهِ صَوْمَ مَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمُسَافِرِ يَقْدُمُ بَعْدَ الْفَجْرِ.
قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ صَوْمَ بَاقِي الْيَوْمِ بِأَنْ قَالَ: قَدْ كَانَ الصَّبِيُّ قَبْلَ بُلُوغِهِ مَأْمُورًا بِالصِّيَامِ فَكَيْف بَعْدَ بُلُوغِهِ. وَقَالُوا: هَلاَّ جَعَلْتُمْ هَؤُلاَءِ بِمَنْزِلَةِ

مَنْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ أَنَّ الْهِلاَلَ رُئِيَ الْبَارِحَةَ قلنا: هَذَا قِيَاسٌ, وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَاطِلاً لإِنَّ الَّذِي جَاءَهُ خَبَرُ الْهِلاَلِ كَانَ مَأْمُورًا بِصَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ أَنَّهُ فَرْضُهُ. وَكُلُّ مَنْ ذَكَّرَنَا فَهُمْ عَالِمُونَ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى غَيْرِهِمْ, وَبِدُخُولِ رَمَضَانَ, إلاَّ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مَنْهِيٌّ، عَنِ الصَّوْمِ جُمْلَةً; وَلَوْ صَامَ كَانَ عَاصِيًا: كَالْحَائِضِ, وَالنُّفَسَاءِ, وَالْمُسَافِرِ, وَالْمَرِيضِ الَّذِي يُؤْذِيهِ الصَّوْمُ. وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّوْمِ, وَلَوْ صَامَهُ لَمْ يُجِزْهُ وَهُوَ الصَّبِيُّ وَإِنَّمَا يَصُومُ إنْ صَامَ تَطَوُّعًا لاَ فَرْضًا. وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ مُخَاطَبٌ بِالصَّوْمِ بِشَرْطِ أَنْ يُقَدِّمَ الإِسْلاَمَ قَبْلَهُ, وَهُوَ الْكَافِرُ. وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ مَفْسُوحٌ لَهُ فِي الصَّوْمِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَفِي الْفِطْرِ إنْ شَاءَ وَهُوَ الْمَرِيضُ الَّذِي لاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ; فَكُلُّهُمْ غَيْرُ مُلْزَمٍ ابْتِدَاءً صَوْمَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِحَالٍ بِخِلاَفِ مَنْ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ, وَاَلَّذِي جَاءَهُ الْخَبَرُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ يُجْزِئْهُ صِيَامُ بَاقِي يَوْمِهِ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ وَيَعْصِي إنْ أَكَلَ, وَإِنَّمَا اتَّبَعْنَا فِيمَنْ بَلَغَهُ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ الْخَبَرَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ فَقَطْ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ ذَكَرْنَا لاَ يَخْتَلِفُ الْحَاضِرُونَ الْمُخَالِفُونَ لَنَا فِي أَنَّ الَّتِي طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ, وَالنِّفَاسِ, وَالْقَادِمَ مِنْ السَّفَرِ, وَالْمُفِيقَ مِنْ الْمَرَضِ: لاَ يُجْزِئُهُمْ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَعَلَيْهِمْ قَضَاؤُهُ. وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ الَّذِي بَلَغَ, وَاَلَّذِي أَسْلَمَ إنْ أَكَلاَ فَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاؤُهُ. فَصَحَّ أَنَّهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ غَيْرُ صَائِمِينَ أَصْلاً, وَإِذَا كَانُوا غَيْرَ صَائِمِينَ فَلاَ مَعْنَى لِصِيَامِهِمْ, وَلاَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِصَوْمٍ لَيْسَ صَوْمًا, وَلاَ هُمْ مُؤَدُّونَ بِهِ فَرْضًا لِلَّهِ تَعَالَى, وَلاَ هُمْ عَاصُونَ لَهُ بِتَرْكِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى الْقَضَاءَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ فَقَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ, وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ مَنْ رَأَى نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِئُ لِلشَّهْرِ كُلِّهِ فِي الصَّوْمِ أَنْ يَقُولَ بِهَذَا الْقَوْلِ, وَإِلاَّ فَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

من تعمد الفطر في يوم من رمضان عاصيا لله لم يحل له أن يأكل في باقيه و لا أن يشرب و لا أن يجامع
761 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ فِي بَاقِيهِ، وَلاَ أَنْ يَشْرَبَ, وَلاَ أَنْ يُجَامِعَ
وَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى إنْ فَعَلَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ صَائِمٍ بِخِلاَفِ مَنْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا, لإِنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا إمَّا مَنْهِيٌّ، عَنِ الصَّوْمِ, وَأَمَّا مُبَاحٌ لَهُ تَرْكُ الصَّوْمِ فَهُمْ فِي إفْطَارِهِمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ تَعَالَى غَيْرُ عَاصِينَ

لَهُ بِذَلِكَ. وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنْ اللَّيْلِ" وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلاَّ مَنْ جَهِلَ أَنَّهُ يَوْمُ فَرْضِهِ فَقَطْ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِمْ, فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصُومُوا, لأَنَّهُمْ لَمْ يَنْوُوهُ مِنْ اللَّيْلِ, وَلَمْ يَكُونُوا عُصَاةً بِالْفِطْرِ فَهُمْ مُفْطِرُونَ لاَ صَائِمُونَ. وَأَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ عَاصِيًا فَهُوَ مُفْتَرَضٌ عَلَيْهِ بِلاَ خِلاَفٍ, صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ, وَمُحَرَّمٌ عَلَيْهِ فِيهِ كُلُّ مَا يَحْرُمُ عَلَى الصَّائِمِ وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ, وَلاَ إجْمَاعٌ بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ لَهُ إذَا عَصَى بِتَعَمُّدِ الْفِطْرِ, فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ, وَهُوَ مُتَزَيِّدٌ مِنْ الْمَعْصِيَةِ مَتَى مَا تَزَيَّدَ فِطْرًا, وَلاَ صَوْمَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ نَحْوَ هَذَا, وَعَنِ الْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ: أَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ.

من سافر في رمضان فرض عليه الفطر إذا تجاوز ميلا
762 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ سَفَرَ طَاعَةٍ أَوْ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ, أَوْ لاَ طَاعَةَ، وَلاَ مَعْصِيَةَ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ الْفِطْرُ إذَا تَجَاوَزَ مِيلاً,
أَوْ بَلَغَهُ, أَوْ إزَاءَهُ, وَقَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ حِينَئِذٍ لاَ قَبْلَ ذَلِكَ, وَيَقْضِي بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ, وَلَهُ أَنْ يَصُومَهُ تَطَوُّعًا, أَوْ، عَنْ وَاجِبٍ لَزِمَهُ, أَوْ قَضَاءً، عَنْ رَمَضَانَ خَالٍ لَزِمَهُ, وَإِنْ وَافَقَ فِيهِ يَوْمَ نَذْرِهِ صَامَهُ لِنَذْرِهِ.
وَقَدْ فَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ سَفَرِ الطَّاعَةِ, وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ فَلَمْ يَرَوْا لَهُ الْفِطْرَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ, وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامِ أُخَرَ} فَعَمّ تَعَالَى الأَسْفَارَ كُلَّهَا وَلَمْ يَخُصَّ سَفَرًا مِنْ سَفَرٍ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. وَأَيْضًا فَقَدْ أَتَيْنَا بِالْبَرَاهِينِ عَلَى بُطْلاَنِ الصَّوْمِ بِالْمَعْصِيَةِ بِتَعَمُّدٍ, وَالسَّفَرُ فِي الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ وَفُسُوقٌ, فَقَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ بِهِمَا. وَالْقَوْمُ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ, وَلاَ يَخْتَلِفُونَ: أَنَّ مَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ, أَوْ ضَارَبَ قَوْمًا ظَالِمًا لَهُمْ مُرِيدًا قَتْلَهُمْ, وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ فَدَفَعُوهُ، عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَثْخَنُوهُ ضَرْبًا فِي تِلْكَ الْمُدَافَعَةِ حَتَّى أَوْهَنُوهُ; فَمَرِضَ مِنْ ذَلِكَ مَرَضًا لاَ يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الصَّوْمِ, وَلاَ عَلَى الصَّلاَةِ قَائِمًا; فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيُصَلِّي قَاعِدًا وَيَقْصُرُ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَرَضِ الْمَعْصِيَةِ وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ. وَأَمَّا الْمِقْدَارُ الَّذِي يُفْطِرُ فِيهِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ مُتَقَصَّى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَنَذْكُرُ هَاهُنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ طَرَفًا.
وَهُوَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ حَدَّ السَّفَرَ الَّذِي يُفْطِرُ فِيهِ مِنْ الزَّمَانِ بِمَسِيرِ ثَلاَثَةٍ أَيَّامٍ, وَمِنْ الْمَسَافَاتِ بِمِقْدَارِ مَا بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْمَدَائِنِ; ذَكَرَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

وَحَدَّ الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ بِسِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً. وَحَّدَ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ, مَرَّةً يَوْمًا وَلَيْلَةً, وَمَرَّةً ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ مِيلاً, وَمَرَّةً خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ مِيلاً, وَمَرَّةً اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً, وَمَرَّةً أَرْبَعِينَ مِيلاً, وَمَرَّةً سِتَّةً وَثَلاَثِينَ مِيلاً; ذَكَرَ ذَلِكَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ بِالْمَبْسُوطِ.
قال أبو محمد: وَكُلُّ هَذِهِ حُدُودٌ فَاسِدَةٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ. وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ فَاسِدَةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ قَدْ جَاءَتْ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ: فَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَقْصُرُ فِي أَقَلَّ مِمَّا بَيْنَ خَيْبَرٍ وَالْمَدِينَةِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَتِسْعُونَ مِيلاً; وَرُوِيَ عَنْهُ أَنْ لاَ يَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِمَّا بَيْنَ الْمَدِينَةَ إلَى السُّوَيْدَاءِ وَهُوَ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ مِيلاً, وَرُوِيَ عَنْهُ لاَ يَكُونُ الْفِطْرُ إلاَّ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ; وَرُوِيَ عَنْهُ لاَ يَكُونُ الْقَصْرُ إلاَّ فِي الْيَوْمِ التَّامِّ وَرُوِيَ عَنْهُ الْقَصْرُ فِي ثَلاَثِينَ مِيلاً; وَرُوِيَ عَنْهُ الْقَصْرُ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلاً; وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ عَنْهُ.
وَرُوِيَ عَنْهُ الْقَصْرُ فِي سَفَرِ سَاعَةٍ, وَفِي مِيلٍ وَفِي سَفَرِ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ بِإِسْنَادٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, وَهُوَ جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ عَنْهُ, وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ خَلْدَةَ عَنْهُ.
وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ يَوْمٌ تَامٌّ, وَرُوِيَ عَنْهُ لاَ قَصْرَ فِي يَوْمٍ إلَى الْعَتَمَةِ فَإِنْ زِدْت فَأَقْصِرْ, وَلاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ بِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، غَيْرَ مَنْ ذَكَرْنَا, وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَنْهُمْ, وَعَنِ الزُّهْرِيِّ, وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا حَدَّا ذَلِكَ بِيَوْمَيْنِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، حدثنا مِسْعَرٌ، وَ، هُوَ ابْنُ كِدَامٍ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إنِّي لاَُسَافِرُ السَّاعَةَ مِنْ النَّهَارِ فَأَقْصُرُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ خَلْدَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تُقْصَرُ الصَّلاَةُ فِي مَسِيرَةِ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ: سَمِعْت جَبَلَةَ بْنَ سُحَيْمٍ يَقُولُ: سَمِعْت ابْنِ عُمَرَ يَقُولُ: لَوْ خَرَجْت مِيلاً لَقَصَرْت الصَّلاَةَ. وَعَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ السَّمْطِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَصَرَ فِي أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ. وَعَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَهُ إلَى مَكَان عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلاً فَقَصَرَ ابْنُ عُمَرَ الصَّلاَةَ وَهَذِهِ أَسَانِيدُ عَنْهُ كَالشَّمْسِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْقَصْرُ فِي ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ. وَعَنْ أَنَسٍ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلاً. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مِيلاً. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ

حَاتِمِ بْنِ إسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَرْمَلَةَ قَالَ سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَأَقْصُرُ وَأُفْطِرُ فِي بَرِيدَيْنِ مِنْ الْمَدِينَةَ قَالَ: نَعَمْ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ هُوَ الْمُقْرِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: أَنَّ كُلَيْبَ بْنَ ذُهْلٍ الْحَضْرَمِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ جَبْرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفِينَةٍ مِنْ الْفُسْطَاطِ فِي رَمَضَانَ فَرَفَعَ ثُمَّ قَرَّبَ غَدَاءَهُ قَالَ: اقْتَرِبْ فَقُلْتُ: أَلَسْتَ تَرَى الْبُيُوتَ فَقَالَ: أَتَرْغَبُ، عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَ. وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
فأما تَحْدِيدُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ, فَلاَ مَعْنَى لَهُ أَصْلاً وَإِنَّمَا هِيَ دَعَاوَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِالْخَبَرِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا مَنَعَ مِنْ أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ.
قال أبو محمد: وَذَلِكَ خَبَرٌ صَحِيحٌ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مِنْ حُكْمِ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ أَثَرٌ، وَلاَ دَلِيلٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ جَاءَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ" وَفِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ ثَلاَثًا" وَفِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ لَيْلَتَيْنِ" وَفِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ يَوْمًا وَلَيْلَةً" وَفِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ يَوْمًا" وَفِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ بَرِيدًا". وَهَذِهِ أَلْفَاظٌ اُخْتُلِفَ فِيهَا، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَابْنِ عُمَرَ. وَصَحَّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الْخَبَرُ: "لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ" دُونَ تَحْدِيدٍ أَصْلاً وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَصْلاً; فَإِنْ عَزَمُوا عَلَى تَرْكِ مَنْ اخْتَلَفَ عَنْهُ وَالأَخْذِ بِرِوَايَةِ مَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ فَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ; فَهُوَ أَوْلَى عَلَى هَذَا الأَصْلِ, وَإِنْ أَخَذُوا بِالزِّيَادَةِ, فَرِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ الزَّائِدَةُ عَلَى سَائِرِ الرِّوَايَاتِ, لاَِنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ سَفَرٍ وَإِنْ أَخَذُوا بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فَأَكْثَرُ مِنْ ثَلاَثٍ هُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ لاَ الثَّلاَثُ, كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ". وَهَكَذَا رَوَاهُ هِشَامُ الدَّسْتُوَائِيُّ, وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ قَزَعَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لاَِبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ مُتَعَلِّقٌ بِهَذَا الْخَبَرِ

أَصْلاً إلاَّ كَتَعَلُّقِ الزُّهْرِيِّ, وَالْحَسَنِ بِذِكْرِ اللَّيْلَتَيْنِ فِيهِ، وَلاَ فَرْقَ. وَمَا لَهُمْ بَعْدَ هَذَا حِيلَةٌ, عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ, فَذَكَرَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: أَنَّ مَنْ تَأَوَّلَ مِنْ الرُّعَاةِ وَغَيْرِهِمْ فَأَفْطَرَ فِي مَخْرَجِ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ الْقَضَاءُ, وَرَأَى الْقَصْرَ فِي مِنًى مِنْ مَكَّةَ, وَهَذَا قَوْلُنَا, وَكَذَلِكَ رَأَى أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمُتَأَوِّلِ، وَلاَ فَرْقَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ رَأَوْا لِمَنْ سَافَرَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَنْ يُفْطِرَ إذَا فَارَقَ بُيُوتَ الْقَرْيَةِ; فَإِنْ رَجَعَ لِشَيْءٍ أُوجِبَ عَلَيْهِ تَرْكُ السَّفَرِ; فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إلاَّ الْقَضَاءُ, فَقَدْ أَوْجَبُوا الْفِطْرَ فِي أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ, وَيُغْنِي مِنْ هَذَا كُلِّهِ قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَلَمْ يَخُصَّ تَعَالَى سَفَرًا مِنْ سَفَرٍ. وَوَجَدْنَا مَا دُونَ الْمِيلِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ; لاَِنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعُدُ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ فَلاَ يَقْصُرُ، وَلاَ يُفْطِرُ, وَلَمْ نَجِدْ فِي أَقَلَّ مِنْ الْمِيلِ قَوْلاً، عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالدِّينِ وَاللُّغَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَيَلْزَمُ مَنْ تَعَلَّقَ مِنْ الْحَنَفِيِّينَ بِحَدِيثِ: "لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ", أَنْ لاَ يَرَى الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ فِي سَفَرٍ مَعْصِيَةً; لاَِنَّهُ عليه السلام لَمْ يُبِحْ لَهَا بِلاَ خِلاَفٍ سَفَرَ الْمَعْصِيَةِ أَصْلاً; وَإِنَّمَا أَبَاحَ لَهَا بِلاَ شَكٍّ أَسْفَارَ الطَّاعَاتِ; وَهَذَا مِمَّا أَوْهَمُوا فِيهِ مِنْ الأَخْبَارِ أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِهِ وَهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: فأما مَا دُونَ الْمِيلِ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ; فَلاَ يَجُوزُ الْفِطْرُ، وَلاَ الْقَصْرُ فِيهِ أَصْلاً, وَإِنْ أَرَادَ مِيلاً فَصَاعِدًا; لإِنَّ نِيَّةَ السَّفَرِ هِيَ غَيْرُ السَّفَرِ; وَقَدْ يَنْوِي السَّفَرَ مَنْ لاَ يُسَافِرُ, وَقَدْ يُسَافِرُ مَنْ لاَ يَنْوِي السَّفَرَ. وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ أَنَسٍ الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ فِي مَنْزِلِهِ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ.
وَرُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ: إذْ يُفَارِقُ بُيُوتَ الْقَرْيَةِ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: تَرْكُ الْقَصْرِ حَتَّى يَبْلُغَ مَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَكَانَ هَذَا هُوَ النَّظَرُ لَوْلاَ حَدِيثُ أَنَسٍ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ فَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ", فَهَذَا عَلَى عُمُومِهِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ شَيْءٌ بِغَيْرِ نَصٍّ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: يَقْضِي بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ فَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ, وَجَائِزٌ أَنْ يَقْضِيَهُ

فِي سَفَرٍ, وَفِي حَضَرٍ, لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخُصَّ بِأَيَّامٍ أُخَرَ حَضَرًا مِنْ سَفَرٍ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: لاَ يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ فَإِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَنْ سَافَرَ بَعْدَ دُخُولِ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَهُ كُلَّهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ الْفِطْرِ، وَلاَ يُجْزِئْهُ صَوْمُهُ. ثُمَّ افْتَرَقَ الْقَائِلُونَ بِتَخْيِيرِهِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الصَّوْمُ أَفْضَلُ, وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْفِطْرُ أَفْضَلُ: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُمَا سَوَاءٌ, وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يُجْزِئْهُ الصَّوْمُ، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ الْفِطْرِ.
فَرُوِّينَا الْقَوْلَ الأَوَّلَ: عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ بَعْدُ لَزِمَهُ الصَّوْمُ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
وَعَنْ عَبِيدَةُ مِثْلُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ; وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا نَهَتْ عَنِ السَّفَرِ فِي رَمَضَانَ.
وَعَنْ خَيْثَمَةَ كَانُوا يَقُولُونَ: إذَا حَضَرَ رَمَضَانُ: فَلاَ تُسَافِرْ حَتَّى تَصُومَ.
وَعَنْ أَبِي مِجْلَزٍ مِثْلُهُ قَالَ: فَإِنْ أَبَى أَنْ لاَ يُسَافِرَ فَلْيَصُمْ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي مِجْلَزٍ.
وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الْمُسَافِرِ أَيَصُومُ أَمْ يُفْطِرُ فَقَالَ: يَصُومُ.
وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْمُجَوِّزَةُ لِلصَّوْمِ وَالْفِطْرِ; أَوْ الْمُخْتَارَةُ لِلصَّوْمِ: فَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ; فَشَغَبُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ: مِنْهَا حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ حَمُولَةٌ يَأْوِي إلَى شِبَعٍ فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, وَجَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ فِي السَّفَرِ بِالْفِطْرِ وَهُوَ صَائِمٌ فَتَرَدَّدُوا وَفَطَرَ هُوَ عليه السلام. وَذَكَرُوا، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ فِي السَّفَرِ وَتُتِمُّ الصَّلاَةَ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إنْ أَفْطَرَتْ فَرُخْصَةُ اللَّهِ تَعَالَى, وَإِنْ صُمْت فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ, وَابْنِ عَبَّاسٍ: الصَّوْمُ أَفْضَلُ. وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثِ مِثْلُهُ; وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ صَامَ فِي سَفَرٍ; لاَِنَّهُ كَانَ رَاكِبًا, وَأَفْطَرَ سَعْدٌ مَوْلاَهُ, لاَِنَّهُ كَانَ مَاشِيًا وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: صُمْهُ فِي الْيُسْرِ وَأَفْطِرْهُ فِي الْعُسْرِ. وَعَنْ طَاوُوس: الصَّوْمُ أَفْضَلُ, وَعَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ مِثْلُهُ.
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى الأَمْرَيْنِ سَوَاءً بِحَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ

أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّ ذَلِكَ شِئْتَ يَا حَمْزَةُ". وَبِحَدِيثٍ مُرْسَلٍ، عَنِ الْغِطْرِيفِ أَبِي هَارُونَ أَنَّ رَجُلَيْنِ سَافَرَا, فَصَامَ أَحَدُهُمَا وَأَفْطَرَ الآخَرُ, فَذَكَرَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "كِلاَكُمَا أَصَابَ". وَبِحَدِيثٍ مُرْسَلٍ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يُنَادَى فِي النَّاسِ: مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ: "كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلاَ يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلاَ الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ". وَعَنْ عَلْقَمَةَ, وَالأَسْوَدِ, وَيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُمْ سَافَرُوا فِي رَمَضَانَ فَصَامَ بَعْضُهُمْ, وَأَفْطَرَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَعِبْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ إنْ شِئْت فَصُمْ وَإِنْ شِئْت فَأَفْطُرْ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى الْفِطْرَ أَفْضَلَ فَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو إذْ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عليه السلام: "هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ".
وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ اخْتِيَارُ الْفِطْرِ عَلَى الصَّوْمِ: سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ, رُوِّينَا أَنَّهُ سَافَرَ هُوَ, وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ الأَسْوَدِ, وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَصَامَا وَأَفْطَرَ سَعْدٌ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَنَا أَفْقَهُ مِنْهُمَا. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَصُومُ فِي السَّفَرِ وَكَانَ مَعَهُ رَقِيقٌ فَكَانَ يَقُولُ: يَا نَافِعُ ضَعْ لَهُ سُحُورَهُ قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا سَافَرَ أَحَبَّ إلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ يَقُولُ: رُخْصَةُ رَبِّي أَحَبُّ إلَيَّ وَأَنْ آجَرَ لَكَ أَنْ تُفْطِرَ فِي السَّفَرِ. وَيَحْتَجُّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الَّذِي رُوِّينَا آنِفًا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ, وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ", فَحَسَّنَ الْفِطْرَ وَلَمْ يَزِدْ فِي الصَّوْمِ عَلَى إسْقَاطِ الْجُنَاحِ.
قال علي: هذا مَا احْتَجَّتْ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ مِمَّنْ رَأَتْ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ لَمْ نَدْعُ مِنْهُ شَيْئًا, وَلَسْنَا نَقُولُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ فَنَحْتَاجُ إلَى تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ, إلاَّ أَنَّهَا كُلَّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى جَوَازِ الصَّوْمِ لِرَمَضَانَ فِي السَّفَرِ, وَهُوَ خِلاَفُ قَوْلِنَا فَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا دَفْعُهَا كُلُّهَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ وَنَسْتَعِينُ.
أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فَقَدْ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ, وَكَذَبَ كَذِبًا فَاحِشًا مَنْ احْتَجَّ بِهَا فِي إبَاحَةِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ; لاَِنَّهُ حَرْفُ كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى، عَنْ مَوْضِعِهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ مِثْلِ هَذَا. وَهَذَا عَارٌ لاَ يَرْضَى بِهِ مُحَقِّقٌ; لإِنَّ نَصَّ الآيَةِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ

كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي حَالِ الصَّوْمِ الْمَنْسُوخَةِ; وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ الْحُكْمُ فِي أَوَّلِ نُزُولِ صَوْمِ رَمَضَانَ: أَنَّ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَهُ وَأَطْعَمَ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا, وَكَانَ الصَّوْمُ أَفْضَلَ, هَذَا نَصُّ الآيَةِ, وَلَيْسَ لِلسَّفَرِ فِيهَا مَدْخَلٌ أَصْلاً، وَلاَ لِلإِطْعَامِ مَدْخَلٌ فِي الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ أَصْلاً; فَكَيْف اسْتَجَازُوا هَذِهِ الطَّامَّةَ وَبِهَذَا جَاءَتْ السُّنَنُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَد بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سَوَادٍ أَنَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ أَنَّا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: كُنَّا فِي رَمَضَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ فَافْتَدَى بِطَعَامِ مِسْكِينٍ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ.
حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حدثنا بَكْرِ يَعْنِي ابْنَ مُضَرَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: لَمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِي حَتَّى نَزَلَتْ الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا.
قال أبو محمد: فَحِينَئِذٍ كَانَ الصَّوْمُ أَفْضَلَ; فَظَهَرَتْ فَضِيحَةُ مَنْ احْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ فِي الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ الْمُحَبَّقِ: "مَنْ كَانَ يَأْوِي إلَى حَمُولَةٍ أَوْ شِبَعٍ فَلْيَصُمْ", فَحَدِيثٌ سَاقِطٌ لإِنَّ رَاوِيَهُ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَبِيبٍ وَهُوَ بَصْرِيٌّ لَيِّنُ الْحَدِيثِ، عَنْ سِنَانِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ وَهُوَ مَجْهُولٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ لَمَا كَانَ فِيهِ حُجَّةٌ لاَِحَدٍ مِنْ الطَّوَائِفِ الْمَذْكُورَةِ إلاَّ لِلْقَوْلِ الْمَرْوِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ صُمْهُ فِي الْيُسْرِ, وَأَفْطِرْهُ فِي الْعُسْرِ لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلاَّ إيجَابُ الصَّوْمِ, وَلاَ بُدَّ عَلَى ذِي الْحَمُولَةِ وَالشِّبَعِ, وَهَذَا خِلاَفُ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ الْمَذْكُورَةِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْغِطْرِيفِ, وَأَبِي عِيَاضٍ فَمُرْسَلاَنِ; ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الَّذِي ذَكَرْنَا هَاهُنَا الَّذِي فِيهِ إبَاحَةُ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ

رِوَايَةِ ابْنِ حَمْزَةَ ابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ, وَأَبُوهُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا الثَّابِتُ مِنْ حَدِيثِ حَمْزَةَ هُوَ مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, وَجَابِرٍ; فَلاَ حَجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ صَائِمًا لِرَمَضَانَ, وَإِذْ لَيْسَ ذَلِكَ فِيهَا فَلاَ يَجُوزُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ, وَلاَ الاِحْتِجَاجُ بِاخْتِرَاعِ مَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ عَلَى الْقُرْآنِ, وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَائِمًا تَطَوُّعًا. وَالثَّانِي أَنَّهُ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِيهَا نَصًّا لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهَا حُجَّةٌ; لإِنَّ آخِرَ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إيجَابُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ فَلَوْ كَانَ صَوْمُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ قَبْلَ ذَلِكَ مُبَاحًا لَكَانَ مَنْسُوخًا بِآخِرِ أَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام كَمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَنْ أَوْجَبَ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ لِمَنْ أَهَلَّ عَلَيْهِ الشَّهْرُ فِي الْحَضَرِ بِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الآيَةِ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: فَمَنْ شَهِدَ بَعْضَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْهُ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ تَعَالَى صِيَامَهُ عَلَى مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ لاَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَعْضَهُ, ثُمَّ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ أَيْضًا قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَجَعَلَ السَّفَرَ وَالْمَرَضَ. نَاقِلَيْنِ، عَنِ الصَّوْمِ فِيهِ إلَى الْفِطْرِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ عَامَ الْفَتْحِ فَأَفْطَرَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمُرَادِ رَبِّهِ تَعَالَى, وَالْبَلاَغُ مِنْهُ نَأْخُذُهُ, وَعَنْهُ لاَ مِنْ غَيْرِهِ. فَلَمَّا بَطَلَ كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ, وَجَبَ أَنْ نَأْتِيَ بِالْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا, بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: نَذْكُرُ الآنَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, وَجَابِرٍ; وَحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو مِنْ الْوُجُوهِ الصِّحَاحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَرَى أَنَّهَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا; ثُمَّ نُعَقِّبُ بِالْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ, وَبِهِ نَتَأَيَّدُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حدثنا مُؤَمَّلُ بْنُ الْفَضْلِ، حدثنا الْوَلِيدِ، هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَتْنِي أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ حَتَّى إنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ كَفَّهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ مَا فِينَا صَائِمٌ إلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ

عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي سَفَرٍ فَأَتَى عَلَى غَدِيرٍ فَقَالَ لِلْقَوْمِ: "اشْرَبُوا" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَشْرَبُ، وَلاَ تَشْرَبُ فَقَالَ: "إنِّي أَيْسَرُكُمْ إنِّي رَاكِبٌ وَأَنْتُمْ مُشَاةٌ" فَشَرِبَ وَشَرِبُوا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَمَرَّ بِمَاءٍ فَقَالَ: " انْزِلُوا فَاشْرَبُوا"; فَتَلَكَّأَ الْقَوْمُ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَرِبَ وَشَرِبْنَا مَعَهُ.
وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ مِنْ طَرِيقٍ لاَ يُحْتَجُّ بِهَا كَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ حَدَّثَنِي قَزَعَةُ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا سَعِيدٍ، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ", فَكَانَتْ رُخْصَةً, فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ, ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلاً آخَرَ فَقَالَ: "إنَّكُمْ تُصَبِّحُونَ عَدُوَّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا", فَكَانَتْ عَزْمَةً فَأَفْطَرْنَا, ثُمَّ قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَصُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى مَرَّ بِغَدِيرٍ فِي الطَّرِيقِ وَذَلِكَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَعَطِشَ النَّاسُ فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَأَمْسَكَهُ عَلَى يَدِهِ حَتَّى رَآهُ النَّاسُ ثُمَّ شَرِبَ فَشَرِبَ النَّاسُ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ فَقَالَ: "إنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ: حدثنا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ، حدثنا حَمَّادٌ، هُوَ ابْنُ زَيْدٍ وَقَالَ يَحْيَى، حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ ثُمَّ اتَّفَقَ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَحَمَّادٌ كِلاَهُمَا، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي رَجُلٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ قَالَ: "صُمْ إنْ شِئْتَ".
قَالَ عَلِيٌّ: كُلُّ هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; أَمَّا حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ: فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي رَمَضَانَ أَصْلاً, وَإِقْحَامُ مَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ كَذِبٌ; وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا فَلاَ نُنْكِرُهُ فَلاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ، وَلاَ لَنَا فِيهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَطَرِيقُ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ لاَ يُحْتَجُّ بِهَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29