كتاب : المحلى
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري

قال أبو محمد رحمه الله: أما قول ربيعة " لا يكون رجل أزنى من رجل حتى يكون زانيا " فخطأ , والمستعمل في اللغة غير هذا : قال الله تعالى: {آلله خير أما يشركون} ولا خير أصلا فيما يشركون . وقال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} وليس في القرار في النار خير أصلا , ولا فيها من حسن المقيل لا كثير ولا قليل - نعوذ بالله منها . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله أحق وشرط الله أوثق" وليس في شرط لغير الله شيء من الثقة , ولا في غير كتاب الله تعالى في الدين شيء من الحق . وأما السنة والإجماع - فهما داخلان في كتاب الله تعالى ; لأن كل ذلك عدل الله تعالى , فنظرنا في هذا : فوجدنا من قال لآخر : أنت أزنى مني , ليس فيه اعتراف على نفسه بالزنا , وإنما هو قذف صحيح , فواجب جلده حد القذف - وبالله تعالى التوفيق .

حكم من ادعت أن فلانا استكرهها
2241 - مسألة : فيمن ادعت أن فلانا استكرهها:
قال علي: نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا معمر عن الزهري , وقتادة قالا جميعا : في امرأة قذفت رجلا بنفسها أنه غلبها على نفسها , والرجل ينكر ذلك , وليس لها بينة : فإنها تضرب حد الفرية . حدثنا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة أنا قتادة أن رجلا استكره امرأة فصاحت ؟ فجاء مؤذن فشهد لها عند عمر بن عبد العزيز : أنه سمع صياحها , فلم يجلدها . حدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب أخبرني عميرة بن أبي ناجية عن يزيد بن أبي حبيبة عن عمر بن عبد العزيز : أنه أتته امرأة فقالت : إن فلانا استكرهني على نفسي ؟ فقال: هل سمعك أحد أو رآك ؟ قالت : لا , فجلدها بالرجل - وهو عمرو بن مسلم , أو إسحاق بن مسلم مولى عمرو بن عثمان - قال ابن وهب : سألت مالكا عن المرأة تقول : إن فلانا أكرهني على نفسي ؟ قال : إن كان ليس مما يشار إليه بذلك ; جلدت الحد , وإن كان مما يشار إليه بالفسق نظر في ذلك.
قال أبو محمد رحمه الله: هاهنا يرون عليه السجن الطويل , والأدب , وغرم مهر مثلها - وهذه أقوال تدور على وجوه : إما جلدها حد القذف إن لم يكن لها بينة - وهو قول الزهري , وقتادة . وإما إسقاط الحد عنها بشهادة واحد : أنه سمع صياحها فقط - وهو عن عمر بن عبد العزيز - وإلا فتجلد . وإما أن يدرأ عنها الحد بأن يرى معها خاليا , ويؤثر فيه أثرا , أو يسمع صياحها - وهو قول ربيعة - وهو أيضا قول يحيى بن

سعيد الأنصاري , وزاد : أن يعاقب الرجل المدعى عليه - إن كان ذلك - أشد العقوبة إن ظهر بشيء مما ذكرنا , وإلا فالحد على المرأة حد القذف . وإما أن ينظر , فإن كان المدعى عليه من أهل العافية جلد حد القذف - وإن كان ممن يشار إليه بالفسق فلا شيء عليها , ويسجن هو ويطال سجنه , ويغرم مهر مثلها - وهو قول مالك.
قال أبو محمد رحمه الله: أما قول مالك - فظاهر الخطأ ; لأنه فرق في الادعاء بين المشار إليه بالخير , والمشار إليه بالفسق , ولم يوجب الفرق بين شيء من ذلك قرآن , ولا سنة , ولا إجماع , ولا قياس , ولا قول صاحب وقد أجمعت الأمة كلها على أن رجلا يدعي دينا على آخر , والمدعى عليه منكر : فإنه يحلف - ولو أنه أحد الصحابة - رضي الله عنهم - وقد قضى باليمين علي وعمر , وعثمان وابن عمر , وغيرهم - رضي الله عنهم - ولا أحد أفضل منهم , ولا أبعد من التهمة , والدعوى بجحد المال , والظلم , والغصب كالدعوى بالغلبة في الزنا , ولا فرق ; لأن كل ذلك حرام , ومعصية . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أعطي قوم بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على من ادعي عليه" وقال عليه السلام لصاحب من أصحابه اختصما: "بينتك أو يمينه" وقد أجمعت الأمة , ومالك معهم على أن مسلما برا فاضلا عدلا - ولو أنه أحد الصحابة رضي الله عنهم - : ادعى مالا على يهودي , أو نصراني , ولا بينة له أن اليهودي , أو النصراني : يبرأ من ذلك بيمينه , وأن الكافر لو ادعى ذلك على المسلم لأحلف له , فكيف يقضي لها بدعواها , فيغرمه مهرها من أجل أنه فاسق , ولا فاسق أفسق من كافر , قال الله تعالى الكافرون هم الفاسقون فهذان وجهان من الخطأ ؟ وثالث - وهو القضاء عليه بالسجن والعقوبة دون بينة - وهذا ظلم ظاهر لا خفاء به . ورابع - هو أنه لا يخلو من أن يكون يصدقها أو يكذبها , ولا سبيل إلى قسم ثالث - فإن كان يصدقها فينبغي له أن يقيم عليها حد الزنا وإلا فقد تناقض وضيع حدا لله تعالى , وإن كان يكذبها فبأي معنى يسجنه ويغرمه مهر مثلها , فيؤكلها المال بالباطل , ويأخذ ماله بغير حق . وخامس - وهو أنه إن تكلمت - وكان المدعى عليه معروفا بالعافية : جلدها حد القذف , وإن مكثت , فظهر بها حمل : رجمها إن كانت محصنة - وهذا ظلم ما سمع بأشنع منه , وحرج في الدين لم يجعله الله تعالى قط فيه , ولا يحفظ عن أحد فرق هذا التفريق قبل مالك - وبالله تعالى التوفيق .
قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في ذلك - فوجدنا الله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية ؟ ففعلنا - فوجدنا الله تعالى قد أوجب الحد على من

رمى أحدا بالزنا , إلا أن يأتي ببينة . ثم نظرنا في التي تشتكي بإنسان : أنه غلبها على نفسها ؟ فوجدناها لا تخلو من أن تكون قاذفة , أو تكون غير قاذفة , فإن كانت قاذفة فالحد واجب عليها بلا شك , إذ لا خلاف في أن قاذف الفاسق يلزمه الحد , كقاذف الفاضل , ولا فرق . والقذف هو ما قصد به العيب والذم وهذه ليست قاذفة إنما هي مشتكية مدعية , وإذ ليست قاذفة فلا حد للقذف عليها , ولكن تكلف البينة , فإن جاءت بها أقيم عليه حد الزنا , وإن لم تأت بها فلا شيء عليه أصلا , لا سجن , ولا أدب , ولا غرامة ; لأن ماله محرم , وبشرته محرمة , ومباح له المشي في الأرض , قال الله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}. فإن قال قائل : فإن لم تكن بينة فاقضوا عليه باليمين بهذا الخبر ؟ قلنا : وبالله تعالى التوفيق - إن دعواها انتظم حقا لها وحقا لله تعالى , ليس لها فيه دخول ولا خروج ؟ فحقها : التعدي عليها وظلمها , وحق الله تعالى : هو الزنا , فواجب أن يحلف لها في حقها , فيحلف بالله ما تعديت عليك في شيء , ولا ظلمتك وتبرأ ذمته . ولا يجوز أن يحلف بالله ما زنى ; لأنه لا خلاف في أن أحدا لا يحلف في حق ليس له فيه مدخل . ولا يختلف اثنان في أن من قال : إنك غصبتني وزيدا دينارا , فإنه إنما يحلف له في حقه من الدينار لا في حق زيد , وهكذا في كل شيء . وأما الفرق بين الذم والشكوى , فإنهم لا يختلفون فيمن قال لآخر - ابتداء أو في كلام بينهما - يا ظالم , يا غاصب , أنه مسيء - فمن قائل : عليه الأدب , ومن قائل : لآخر أن يقول له مثل ذلك . ولا يختلفون فيمن شكا بآخر فقال : ظلمني وأخذ مالي بغير حق , أنه لا شيء عليه وأنه ليس مسيئا بذلك فصح الفرق بين الشكوى وبين الاعتداء بالسب والقذف - وبالله تعالى التوفيق.

حكم من قذف وهو سكران
2242 - مسألة : فيمن قذف وهو سكران:
قال أبو محمد رحمه الله: قد ذكرنا في مواضع كثيرة حكم السكران وأنه غير مؤاخذ بشيء أصلا إلا حد الخمر فقط , إلا أننا نذكر عمدة حجتنا في ذلك باختصار - إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد رحمه الله: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}. فشهد الله تعالى وهو أصدق شاهد : أن السكران لا يدري ما يقول , وإذ لم يدر ما يقول فلا شيء عليه , ولم يختلف أحد من الأمة في أن امرأ لو نطق بلفظ لا يدري معناه - وكان معناه كفرا , أو قذفا , أو طلاقا - فإنه لا يؤاخذ بشيء من ذلك , فإذا كان السكران لا يدري ما يقول , فلا يجوز أن يؤاخذ بشيء مما يقول , قذفا كان أو غير قذف . فإن قالوا : كان هذا قبل تحريم الخمر ؟ قلنا : نعم , فكان ماذا ؟ والأمة كلها مجمعة بلا خلاف من أحد منها على أن حكم هذه الآية باق لم ينسخ , وأنه لا يحل لسكران أن يقرب الصلاة حتى يدري ما يقول . وكذلك لا يختلف اثنان

من ولد آدم في أن حال السكران في أنه لا يدري ما يقول باق كما كان لم يحله الله تعالى عن صفته . فإن قالوا : هو أدخل ذلك على نفسه ؟ قلنا : نعم , وهذا لا فائدة لكم فيه لوجوه : أولها - أن هذا تعلل لا يوجب حكما ; لأنه لم يأت بهذا التعليل قرآن , ولا سنة ولا إجماع الثاني - إنا نسألكم عمن أكره على شرب الخمر , ففتح فمه كرها بأكاليب وصب فيه الخمر حتى سكر , فإن هذا لا خلاف في أنه غير آثم , ولا في أنه لم يدخله على نفسه , فينبغي أن يكون حكمه عندكم بخلاف حكم من أدخله على نفسه , فلا تلزموا هذا المكره شيئا مما قال في ذلك السكر , وإلا فقد تناقضتم . والثالث - إنا نسألكم عمن شرب البلاذر فجن , أو تزيد فقطع عصب ساقيه فأقعد , أيكون لذلك المجنون حكم المجانين في سقوط جميع الأحكام عنه , أو تكون الأحكام لازمة له من أجل أنه أدخل ذلك على نفسه ؟ وهل يكون للذي أبطل ساقيه عمدا أو أشرا ومعصية لله تعالى حكم المقعد في الصلاة وسقوط الحج وغير ذلك ؟ أم لا يسقط عنه شيء من ذلك من أجل إدخاله ذلك على نفسه ؟ فمن قولهم - بلا خلاف - إن لهما حكم سائر المجانين , وسائر القاعدين . فبطل تعلقهم بأن السكران أدخل ذلك على نفسه . وقد صح أن حمزة رضي الله عنه – قال: "لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولعلي بن أبي طالب , وزيد بن خالد : هل أنتم إلا عبيد لآبائي - وهو سكران - فلم يعنفه على ذلك" ولو قالها صحيحا لكفر بذلك , وحاش له من ذلك . فصح أن السكران إذا ذهب تمييزه فلا شيء عليه - لا في القذف ولا في غيره - ; لأنه مجنون لا عقل له . فإن قالوا : قد جاء عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - إذا شرب سكر , وإذا سكر هذى , وإذا هذى افترى , وإذا افترى جلد ثمانين ؟ قلنا : حاشى لله أن يقول صاحب هذا الكلام الفاسد ؟ هم والله , أجل , وأعقل , وأعلم , من أن يقولوا هذا السخف الباطل , ويكفي منه إجماعهم على أن من هذى فلا حد عليه , ولو كفر , أو قذف , فهم يحتجون بما هم أول مخالف له , وأحضر مبطل لحكمه - ونعوذ بالله من مثل هذا . وسنتكلم - إن شاء الله تعالى - في إبطال هذا الخبر من طريق إسناده , ومن تخاذله وفساده في كلامنا في " حد الخمر " من ديواننا هذا إن شاء الله تعالى فإن قالوا : ومن يدري أنه سكران , ولعله تساكر ؟ قيل لهم : قولوا هذا بعينه في المجنون : ومن يدري أنه مجنون , ولعله متحامق , وأنتم لا تقولون هذا , بل تسقطون عنه الأحكام والحدود , فالحال التي تدرى في المجنون أنه مجنون , بمثلها يدرى في السكران أنه سكران ولا فرق - وهي : إنه إذا بلغ من نفسه من التخليط في كلامه وأفعاله حيث يوقن أنه لا يبلغه من نفسه المميز الصاحي حياء من مثل تلك الحال - فهذا بلا شك أحمق , وسكران , كما قال الله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}

فمن خلط في كلامه فليس يعلم ما يقول - وبالله تعالى التوفيق .

حكم الأب يقذف ابنه أو أم عبيده أو أم ابنه
2243 - مسألة : الأب يقذف ابنه , أو أم عبيده , أو أم ابنه:
قال أبو محمد رحمه الله: قد ذكرنا حكم عمر بن عبد العزيز : يحد من قذف ابنه - وأوجب الحد في ذلك : مالك , والأوزاعي , وأبو سليمان , وأصحابنا . وقالت طائفة : لا حد على الأب في ذلك : كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا أبو يعقوب الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال : إذا افترى الأب على الابن فلا يحد . وبه - إلى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عمن سمع الحسن يقول : ليس على الأب لابنه حد . وبه - يقول أبو حنيفة , والشافعي , وأحمد بن حنبل , وأصحابهم , والحسن بن حي , وإسحاق بن راهويه . وقال سفيان الثوري في الأب يقذف ابنه : إنهم يستحبون الدرء عنه - وقال في المرأة تزني - وهي محصنة - وتقتل ولدها : إنه يدرأ عنها الحد.
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك - فنظرنا في قول من رأى أنه لا يحد الأب لابنه : فوجدناهم يقولون قال الله تعالى: {وبالوالدين إحسانا} {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} قالوا : وليس من الإحسان , ولا من البر : ضربهما بالسياط , ولا هذا من خفض الجناح لهما من الرحمة . وقاسوا أيضا إسقاط الحدود في القذف عن الوالد في قذفه لولده على إسقاطهم القود عنه إن قتله - وإسقاطهم القصاص عنه لولده فيما دون النفس على إسقاطهم الحد عنه في سرقته من ماله . وعلى إسقاطهم الحد في زناه بأم ولده.
قال أبو محمد رحمه الله: ما نعلم لهم غير هذا أصلا - وكل هذا لا حجة لهم فيه - على ما نبين إن شاء الله تعالى . أما وصية الله تعالى بالإحسان إلى الأبوين بأن لا يقال لهما : أف , ولا ينهرا , ويخفض لهما جناح الذل من الرحمة : فحق لا يحيد عنه مسلم , وليس يقتضي شيء من ذلك إسقاط الحد عنه في القذف لولده ; لأنه لا يختلف الناس في أن إماما له والد قدم إليه في قذف , أو في سرقة أو في زنا , أو في قود , فإن فرضا على الولد إقامة الحد على والده في كل ذلك وأن ذلك لا يسقط عنه ما افترض الله تعالى له عليه من الإحسان , والبر , وأن لا ينهره , ولا يقل له : أف , وأن يخفض له جناح الذل من الرحمة , وأن يشكر له ولله عز وجل - وقد قال الله عز وجل: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وقد أمر مع ذلك بإقامة الحد على من أمرنا برحمته . وقال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} الآية . ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن ذا القربى يحد في قذف ذي القربى وأن ذلك لا يضاد الإحسان المأمور به , بل إقامة الحد على الوالدين فمن دونهما إحسان إليهما وبر بهما ; لأنه حكم الله تعالى الذي لولاه لم يجب برهما.

فسقط تعلقهم بالآيات المذكورات . وأما قياسهم إسقاط حد القذف على إسقاطهم عن الوالد حد الزنا في زناه بأمة ولده , وعلى إسقاطهم عنه حد السرقة في سرقة مال ولده , وعلى إسقاطهم القود عنه في قتله إياه , وجرحه إياه في أعضائه - فهذا قياس , والقياس كله باطل ; لأنه قياس للخطأ على الخطأ , ونصر للباطل بالباطل , واحتجاج منه لقول لهم فاسد , بقول لهم آخر فاسد , لا يتابعون عليه , ولا أوجبه نص , ولا إجماع , بل الحدود والقود واجبان على الأب للولد في كل ما ذكرنا - وبالله تعالى التوفيق . فلما سقط قولهم لتعريه عن البرهان رجعنا إلى القول الثاني , فوجدناه صحيحا ; لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَات} الآية , فلم يقل تعالى : إلا الوالد لولده {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} . فلو أن الله تعالى أراد تخصيص الأب بإسقاط الحد عنه لولده لبين ذلك , ولما أهمله , حتى يتفطن له من لا حجة في قوله . فصح يقينا أن الله تعالى إذ عم ولم يخص , فإنه أراد أن يحد الوالد لولده والولد لوالده بلا شك , ووجدناه تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فأوجب الله تعالى القيام بالقسط على الوالدين , والأقربين كالأجنبيين , فدخل في ذلك الحدود وغيرها - وبالله تعالى التوفيق . حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن أبيه عمر بن عبد العزيز عن عمر بن الخطاب قال : لا عفو عن الحدود , ولا عن شيء منها بعد أن تبلغ الإمام فإن إقامتها من السنة . فهذا قول صاحب لا يعرف له مخالف منهم , وهم يعظمون مثل هذا إذا خالف تقليدهم - وقد خالفوه هاهنا ; لأن عمر بن الخطاب عم جميع الحدود , ولم يخص.
قال أبو محمد رحمه الله: وكذلك اختلفوا : فيمن قذف أم ابنه ؟ فقال أبو حنيفة , وأصحابه , والشافعي , وأصحابه : ليس للولد أن يأخذ أباه بذلك . وقال مالك : له أن يأخذه بذلك وقال أبو حنيفة , والشافعي , وأصحابهما : فيمن قذف أم عبد له ليس له أن يأخذ عبده الحد في ذلك . وقال أبو ثور , وأبو سليمان , وأصحابنا : له أن يأخذه بذلك . والكلام في هاتين المسألتين كالكلام في التي قبلهما وقد بينا أن حد القذف : حد لله تعالى , لا للمقذوف , فإذ هو كذلك فأخذه واجب على كل حال - قام به من قام به من المسلمين - ; لأن الله تعالى أمر بجلد القاذف ثمانين , لم يشترط به قائما من الناس دون غيره , فكان تخصيص من خص بعض القائمين به دون بعض قولا في غاية الفساد , وهو قول مخترع لهم , ما نعلم أحدا من الصحابة - رضي الله عنهم - قال به , ولا له

حجة أصلا - لا من قرآن , ولا من سنة . ولا إجماع , ولا قياس , ولا معنى - وما كان هكذا فهو ساقط - وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رحمه الله: والحكم عند الحنفيين في إسقاط الحد عن الجد إذا قذف ولد الولد , كالحكم في قاذف الأبوين الأدنين . والعجب بأن الحنفيين قد فرقوا بين حكم الولد وبين حكم ولد الولد في المرتد , فجعلوا ولد المرتد يجبر على الإسلام ولا يقتل , وجعلوا ولد ولده لا يجبر ولا يقتل . وفرق أبو يوسف , ومحمد بن الحسن , والشافعي , بين الأب في الميراث - وبين الجد - فمن أين وقع لهم التناقض هاهنا ؟ فسووا بين الأب والجد , وبين الابن وابن الابن ؟ والقوم أصحاب قياس بزعمهم - وهذا تناقض لا نظير له - وبالله تعالى التوفيق .

حكم من نازع آخر فقال له الكاذب بيني وبينك ابن زانية
2244 - مسألة : من نازع آخر , فقال له : الكاذب بيني وبينك ابن زانية:
أو قال : ولد زنا , أو زنيم , أو زان - فقد قال قائلون : لا حد عليه قال أبو محمد:إن كان قال ذلك مبتدئا قبل أن ينازعه الآخر فلا حد على القائل ; لأنه لم يقذف بعد أحدا , وإن قال ذلك بعد المنازعة فهو قاذف له بلا شك , فعليه الحد ; لأن المنازع له كاذب عنده بلا شك . وهكذا لو قال : من حضر اليوم على هذا الطريق فهو ابن زانية وقد كان حضر من هنالك أحد : فهو قاذف له بلا شك , فعليه الحد - فلو قال ذلك في المستأنف فلا حد عليه ; لأنه إذا لفظ بذلك لم يكن قاذفا , أو من المحال أن يصير قاذفا - وهو ساكت - بعد أن لم يكن قاذفا إذا نطق - وهذا باطل , لا خفاء به - بالله تعالى التوفيق .

من قذف أجنبية وامرأته ثم زنت الأجنبية وأمرأته بعد القذف فعليه حد القذف كاملاً للأجنبية ولا بد ويلاعن ولا بد
...
2245- مسألة : من قذف أجنبية وامرأته:
ثم زنت الأجنبية وامرأته بعد القذف , فعليه حد القذف كاملا للأجنبية ولا بد - ويلاعن ولا بد - إن أراد أن ينفي حمل زوجته , أو إن ثبت عليها الحد , فإن أبى - وقد جلد للأجنبية - فالحمل لاحق به , ولا شيء على زوجته - لا لعان , ولا حد , ولا حبس - ولا عليه بعد ; لأنه قد حد . وإن كان لم يجلد , لاعن إن أراد أن ينفي الحمل عنه , فإن أبى جلد الحد فإن التعن والتعنت المرأة : جلد حد الزنا . وجملة هذا - أن من قذفه قاذف ثم زنى المقذوف : لم يسقط ذلك الزنا ما قد وجب من الحد على قاذفه ; لأنه زنا غير الذي رماه به , فهو إذا رمى رام محصنا أو محصنة : فعليه الحد ولا بد - ولا يسقط حد قد وجب إلا بنص , أو إجماع , ولا نص , ولا إجماع هاهنا أصلا على سقوطه , بعد وجوبه بنص . وكذلك القول في الزوجة ولا فرق : أنه يجلد لها للقذف - وإن زنت - إلا أن يلاعن , وتحد هي للزنى ولا بد - وبالله تعالى التوفيق.

حكم من قال لآخر يازاني فقال له انسان صدقت
2246 - مسألة : من قال لآخر : يا زان ؟ فقال له إنسان : صدقت: أو قال : نعم:
فإن أبا حنيفة وجميع أصحابه - إلا زفر بن الهذيل - قالوا : لا حد على القائل : صدقت - قالوا : فلو قال له : صدقت , هو كما قلت ؟ حدا جميعا - قال زفر في كلتا المسألتين : يحدان جميعا.
قال أبو محمد رحمه الله: لا فرق بين المسألتين ومن قال : إنه في قول له : صدقت , يمكن أن يصدقه في غير رميه بالزنا ؟ قيل له : وكذلك قوله : صدقت , هو كما قلت ؟ ممكن أن يعني بذلك قولا آخر قاله هذا القاذف من غير القذف , ولا فرق .
قال أبو محمد رحمه الله: والذي نقول به - وبالله تعالى التوفيق - إنه إن تيقن أن القائل : صدقت , أو نعم , أو هو كما قلت , أو إي والله : أنه سمع القذف وفهمه , فهو مقر بلا شك , وعليه الحد . وكذلك من قيل له : أبعت دارك من زيد بمائة دينار ؟ فقال : نعم , أو قال : صدقت , أو قال : إي والله , أو ما أشبه هذا : فإنه إقرار صحيح بلا شك - أو قال ذلك مجاوبا لمن قال له : طلقت امرأتك , أو أنكحت فلانة , أو وهبت امرأ كذا وكذا . فهكذا في كل شيء - وإن وقع شك - أسمع القذف , أو لم يسمعه - وفهمه , أو لم يفهمه : فلا حد في ذلك ; لأنه قد بهم ويظن أنه قال كلاما آخر . وهكذا في جميع ما ذكرنا من غير ذلك ولا فرق . وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" فصح أنه لا يحل أن يستباح شيء مما ذكرنا إلا بيقين لا إشكال فيه - وبالله تعالى التوفيق .

حكم من قال لآخر فجرت بفلانة
2247 - مسألة : من قال لآخر : فجرت بفلانة , أو قال : فسقت بها:
فإن أبا حنيفة , والشافعي , وأصحابهما قالوا : لا حد في ذلك ؟ قال أبو محمد رحمه الله: إن كان لهذين اللفظين وجه غير الزنا فكما قالوا , وإن كان لا يفهم منهما غير الزنا فالحد في ذلك ؟ فلما نظرنا فيهما وجدناهما يقعان على إتيانها في الدبر - فسقط الحد في ذلك . وكذلك لو قال : جامعتها حراما , ولا فرق قال علي : فلو أخبر بهذا عن نفسه لم يكن معترفا بالزنا كما ذكرنا - وبالله تعالى التوفيق .

حكم من قال لآخر زنيت
2248 - مسألة : ومن قال لآخر : زنيت - بكسر التاء - أو قال لامرأة : زنيت:
بفتح التاء - فإن كان غير فصيح : حد ولا بد . وإن كان فصيحا يحسن هذا المقدار من العربية سئل : من خاطبت ؟ فإن قال : خاطبت غيرها , أو قال : خاطبت غيره , فلا شيء عليه ; لأن هذا هو ظاهر كلامه ; لأن خطاب المؤنث لا يكون إلا بكسر التاء , فإذا خاطبها بفتح التاء فلم يخاطبها , وخطاب الرجل بفتح التاء , فإذا خاطبه بكسرها فلم يخاطبه - وإن أقر : أنه خاطبها بذلك , حد ; لأنه حينئذ قاذف لها - بالله تعالى التوفيق .

حكم من قذف انساناً قد زنى المقذوف
...
2249 - مسألة : من قذف إنسانا قد زنى المقذوف وعرف أنه صادق في ذلك:
فجميع العلماء على أنه لا يحل طلبه بذلك الحد - إلا مالكا فإنه قال : له طلبه قال أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ظاهر الفساد بين الحوالة لا خفاء به ; لأنه لا خلاف في أن من عرف صدقه في القذف فلا حد عليه , فإذا عرف المقذوف أن قاذفه صادق فقد عرف أنه لا حد عليه , فمطالبته إياه ظلم بيقين , وإباحة طلبه له إباحة للظلم المتيقن , ولا فرق بين هذا وبين شهود سمعوا القاذف وهم يعلمون صدقه بلا خلاف في أنهم لا يحل لهم أن يشهدوا بالقذف ; لأن شهادتهم تؤدي إلى الظلم . وكذلك من كان له أب فقتل أبوه إنسانا ظلما , وأخذ ماله ظلما , فأتى ولد المقتول المأخوذ ماله فقتل قاتل أبيه , وأخذ ماله الذي كان لأبيه , فإنه لا يحل لولد هذا المستقاد منه : بأن يطلب المستقيد - لا بدم , ولا بما أخذ من ماله الذي أخذ منه بباطل , واسترجعه منه بحق . ومن فرق بين شيء من هذه الوجوه فهو مخطئ - وقد قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} الآية فحرم الله تعالى القيام بغير القسط . وكذلك قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وليس في الإثم والعدوان أكثر من أن يدري أن قاذفه لم يكذب ثم يطالبه بما يطالب به أهل الكذب وبالله تعالى التوفيق . فإن قالوا : إنه قد آذاه قلنا : نعم , وليس في الأذى حد , وإنما فيه التعزير فقط .

حكم من قذف زوجته فأخذ في اللعان
2250 - مسألة: من قذف زوجته فأخذ في اللعان , فلما شرع فيه ومضى بعضه - أقله , أو أكثره , أو جله - أعاد قذفها قبل أن تتم هي التعانها , فلا بد له من ابتداء اللعان
قال أبو محمد رحمه الله: من قذف زوجته فأخذ في اللعان , فلما شرع فيه ومضى بعضه - أقله , أو أكثره , أو جله - أعاد قذفها قبل أن تتم هي التعانها , فلا بد له من ابتداء اللعان ; لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} الآية . فلم يجعل الله تعالى الالتعان إلا بعد رمي الزوجة , فلا بد بعد رمي الزوجة بأن يأتي بما أمر الله تعالى به , كما أمر به , وهي ما لم تتم التعانها بعد تمام التعانه زوجته كما كانت , فهو في تجديد قذفها رام زوجته , فلا بد له من شهادة أربع شهادات والخامسة , فإن أبى ونكل : حد المقذوف ولا بد - فإن رماها بزنا يتيقن أنه كاذب فيه حد ولا لعان أصلا ; لأن الله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وليس من الإثم والعدوان أكثر من أن يكلف أن يأتي بأيمان كاذبة , يوقن من حضر أو الحاكم : أنه فيها قاذف , فهذا عون على الإثم والعدوان . وقال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وهي مع ذلك امرأته كما كانت ولا فرقة إلا بعد أن يتم التعانهما على ما ذكرنا . فلو رماها وأيقن الحاكم أنه صادق فلا يحل له الحكم باللعان أيضا , لكن يقام الحد عليها وهي امرأته - كما كانت - يرثها وترثه لما ذكرنا

من أنه لا فرقة إلا بعد التعانهما . فصح بهذا أنه لا لعان فيمن رمى امرأته بزنا ممكن أن يكون فيه صادقا , ويمكن أن يكون فيه كاذبا - فأما إذا تيقن كذبه فلا يحل تعطيل واجب حد الله عنه , ولا يحل عونه على الأيمان الكاذبة الآثمة , ولا يحل أمره بها - وبالله تعالى التوفيق .

من قذف جماعة
2251 - مسألة : من قذف جماعة:
أو وجد يطأ النساء الأجنبيات مرة بعد مرة , أو وجد يسرق مرات , أو رئي يشرب الخمر مرات , فشهد بكل ذلك , فأقام بينة على صدقه في قذفه من قذف إلا واحدا , أو صدقه جميعهم , إلا واحدا , فعليه الحد في القذف ولا بد ; لأن الحد في قذف ألف أو في قذف واحد : حد واحد , ولا مزيد على ما قدمنا . وكذلك لو أقام بينة على أن جميع أولئك اللواتي وجد يطأهن إماؤه إلا واحدة , فعليه حد الزنا ولا بد ; لأن الحد في الزنا بألف , أو في الزنا بواحدة : حد واحد , ولا مزيد , على ما قدمنا . وكذلك لو أقام بينة على كل ما سرق : أنه ماله أخذه حاش بعض ذلك , فإنه يقطع به ولا بد ; لأن الحد في ألف سرقة , وفي سرقة واحدة : حد واحد على ما قدمنا , وكذلك لو أقام البينة على أن كل ما شرب من ذلك كان في غير عقله , أو كان في ضرورة لعلاج أو غيره , إلا مرة واحدة : فعليه جلد الأربعين ولا بد ; لأن الحد في شرب ألف مرة , وفي جرعة : حد واحد , كما قدمنا وبالله تعالى التوفيق .

كتاب المحاربين
من كتاب المحاربين

اختلاف العلماء فيمن هو المحارب
كتاب المحاربين
2252 - مسألة: اختلاف العلماء فيمن هو المحارب:
قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية
قال أبو محمد: فاختلف الناس , من هو المحارب الذي يلزمه هذا الحكم ؟ فقالت طائفة : المحارب المذكور في هذه الآية : هم المشركون . روي عن ابن عباس وغيره - كما نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا أحمد بن دحيم نا إبراهيم بن حماد نا إسماعيل بن إسحاق نا محمد بن أبي بكر - هو المقدمي - نا يحيى , وخالد - هما القطان - وأبو الحارث , كلاهما عن أشعث عن الحسن البصري في قول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية , قال : نزلت في أهل الشرك . وبه - إلى إسماعيل نا يحيى بن عبد الحميد الحماني نا هشيم عن جويبر عن الضحاك قال : كان قوم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق فنقضوا العهد , وقطعوا السبيل , وأفسدوا في الأرض , فخير الله تعالى نبيه - عليه السلام - فيهم إن شاء أن يقتل , وإن شاء أن يصلب , وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من

بيان قول من يقول يجب أن يعطى المحاربون الشيء الذي لا يجحف بالمقطوع عليهم
2253 - مسألة: يجب أن يعطى المحاربون الشيء الذي لا يجحف بالمقطوع عليهم , ورأوا ذلك في جميع الأموال لغير المحاربين.
قال أبو محمد رحمه الله: قال قوم: يجب أن يعطى المحاربون الشيء الذي لا يجحف بالمقطوع عليهم , ورأوا ذلك في جميع الأموال لغير المحاربين.
قال أبو محمد رحمه الله: والذي نقول - وبالله تعالى نتأيد : إنه لا يجوز أن يعطوا على هذا الوجه شيئا - قل أم كثر - سواء محاربا كان أو شيطانا . لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} .

بيان أن أخذ المال بالوجه المذكور لا يخلو من الظلم والغلبة بغير حق من أحد وجهين لا ثالث لهما
2254 - مسألة: فلا يخلو أخذ المال بالوجه المذكور من الظلم , والغلبة بغير حق من أحد وجهين , لا ثالث لهما:
قال أبو محمد رحمه الله: فلا يخلو أخذ المال بالوجه المذكور من الظلم , والغلبة بغير حق من أحد وجهين , لا ثالث لهما : إما أن يكون برا وتقوى - أو يكون إثما وعدوانا . ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه ليس برا ولا تقوى , ولكنه إثم وعدوان بلا خلاف , والتعاون على الإثم والعدوان : حرام لا يحل.
حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا أبو كريب محمد بن العلاء نا خالد - يعني ابن مخلد - نا محمد بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال:

بيان قول من يقول أن آية المحاربة ناسخة لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين
2255 - مسألة : قال علي : قال قوم : آية المحاربة ناسخة لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين:
ونهي له عن فعله بهم - واحتجوا في ذلك بما نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرني عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار عن الوليد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أنس بن مالك: "أن نفرا من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا فاجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها , ففعلوا , فقتلوا راعيها واستاقوها , فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة , فأتي بهم , فقطع أيديهم , وأرجلهم , وسمل أعينهم , ولم يحسمهم , وتركهم حتى ماتوا" فأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية . حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا أحمد بن عمرو بن السرح أنا ابن وهب أخبرني الليث بن سعد عن ابن عجلان عن أبي الزناد قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع الذين سرقوا لقاحه , وسمل أعينهم بالنار" , عاتبه الله تعالى في ذلك فأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا محمد بن المثنى نا عبد الصمد - هو ابن عبد الوارث بن سعيد التنوري - نا هشام - هو الدستوائي - عن قتادة عن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث في خطبته على الصدقة , وينهى عن المثلة".
قال أبو محمد رحمه الله: كل هذا لا حجة لهم فيه , ولا يجوز أن يقال في شيء من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله إنه منسوخ إلا بيقين مقطوع على صحته , وأما بالظن , الذي هو أكذب الحديث فلا . فنقول - وبالله تعالى التوفيق : أما الحديث الذي صدرنا به من طريق أبي قلابة عن أنس , فليس فيه دليل على نسخ أصلا - لا بنص ولا بمعنى - وإنما فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع أيدي العرنيين وأرجلهم , ولم يحسمهم , وسمل أعينهم , وتركهم حتى ماتوا , فأنزل الله تعالى آية المحاربة - وهذا ظاهر : أن نزول آية المحاربة ابتداء حكم , كسائر القرآن في نزوله شيئا بعد شيء , أو تصويبا لفعله عليه السلام بهم ; لأن الآية موافقة لفعله عليه السلام في قطع أيديهم وأرجلهم , وزائدة على ذلك تخييرا في القتل , أو الصلب , أو النفي - وكان ما زاده رسول الله صلى الله عليه وسلم على القطع من السمل , وتركهم لم يحسمهم حتى ماتوا قصاصا بما فعلوا بالرعاء : كما نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية

نا أحمد بن شعيب أنا الفضل بن سهل الأعرج - مرزوقي ثقة - نا يحيى بن غيلان - ثقة مأمون - نا يزيد بن زريع عن سليمان التيمي عن أنس بن مالك , قال : إنما سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعين أولئك العرنيين ; لأنهم سملوا أعين الرعاء . وقد ذكر في الحديث الذي أوردنا أنهم قتلوا الرعاء , فصح ما قلناه من أن أولئك العرنيين اجتمعت عليهم حقوق : منها المحاربة , ومنها سملهم أعين الرعاء , وقتلهم إياهم , ومنها الردة - فوجب عليهم إقامة كل ذلك , إذ ليس شيء من هذه الحدود أوجب بالإقامة عليهم من سائرها , ومن أسقط بعضها لبعض فقد أخطأ , وحكم بالباطل , وقال بلا برهان , وخالف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك أمر الله تعالى بالقصاص في العدوان بما أمره به في المحاربة , فقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحاربة , وسملهم للقصاص , وتركهم كذلك حتى ماتوا , يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا ; لأنهم كذلك قتلوا هم - الرعاء - فارتفع الإشكال - والحمد لله كثيرا . وأما حديث أبي الزناد فمرسل , ولا حجة في مرسل , ولفظه منكر جدا ; لأن فيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاتبه ربه في آية المحاربة , وما يسمع فيها عتاب أصلا ; لأن لفظ " العتاب " إنما هو مثل قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} . ومثل قوله تعالى: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} الآيات. ومثل قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وأما حديث المحاربة , فليس فيها أثر للمعاتبة . وأما حديث قتادة عن أنس في الحث على الصدقة والنهي عن المثلة فحق , وليس هذا مما نحن فيه - في ورد ولا صدر - وإنما يحتج بمثل هذا من يستسهل الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مثل بالعرنيين , وحاش لله من هذا , بل هذا نصر لمذهبهم في أن من قتل بشيء ما لم يجز أن يقتل بمثله ; لأنه مثلة وهم يرون على من جدع أنف إنسان وفقأ عيني آخر , وقطع شفتي ثالث , وقلع أضراس رابع , وقطع أذني خامس : أن يفعل ذلك به كله , ويترك , فهل في المثلة أعظم من هذا لو عقلوا عن أصولهم الفاسدة ؟ وحاش لله أن يكون شيء أمر الله تعالى به , أو فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلة , إنما المثلة ما كان ابتداء فيما لا نص فيه , وأما ما كان قصاصا أو حدا كالرجم للمحصن , وكالقطع أو الصلب للمحارب , فليس مثلة - وبالله تعالى التوفيق . وقد روينا من طريق مسلم ما ناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا يحيى بن يحيى التميمي أرنا هشيم عن عبد العزيز بن صهيب , وحميد , كلاهما عن أنس بن مالك: "أن ناسا من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فاجتووها فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها ؟ ففعلوا , فصحوا , ثم مالوا على الرعاء فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام , وساقوا ذود رسول الله

صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم فأتي بهم , فقطع أيديهم وأرجلهم , وسمل أعينهم , وتركهم في الحرة حتى ماتوا". حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا علي بن حجر نا إسماعيل ابن علية نا حميد عن أنس قال: "قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ناس من عرينة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو خرجتم إلى ذودنا فكنتم فيها , فشربتم من ألبانها , وأبوالها ؟ ففعلوا , فلما صحوا قاموا إلى راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوه ورجعوا كفارا , واستاقوا ذود رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل في طلبهم , فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم , وسمل أعينهم"
قال أبو محمد رحمه الله: فهذه كلها آثار في غاية الصحة - وبالله تعالى التوفيق .

هل لولي المقتول في ذلك حكم أم لا ودليل ذلك
2256 - مسألة : المحارب يقتل وهل لولي المقتول في ذلك حكم أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: نا حمام نا ابن مفرج نا الحسن بن سعد نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال : إن في كتاب لعمر بن الخطاب " والسلطان ولي من حارب الدين , وإن قتل أباه , أو أخاه , فليس إلى طالب الدم من أمر من حارب الدين وسعى في الأرض فسادا شيء " وقال ابن جريج : وقال لي سليمان بن موسى مثل هذا سواء سواء حرفا حرفا . وبه - إلى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : عقوبة المحارب إلى السلطان , لا تجوز عقوبة ولي الدم ذلك إلى الإمام , قال : وهو قول أبي حنيفة ومالك , والشافعي , وأحمد , وأبي سليمان , وأصحابهم قال أبو محمد رحمه الله: وبهذا نقول ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الخبرين اللذين رويناهما من طريق ابن عباس ذكرناهما في " كتاب الحج " " وكتاب الصيام " " وباب وجوب قضاء الحج الواجب " . " وقضاء الصيام الواجب عن الميت " . "اقضوا الله فهو أحق بالوفاء , دين الله أحق أن يقضى". وبقوله عليه السلام في حديث بريدة "كتاب الله أحق وشرط الله أوثق".
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اجتمع حقان : أحدهما لله , والثاني لولي المقتول - كان حق الله تعالى أحق بالقضاء ودينه أولى بالأداء , وشرطه المقدم في الوفاء على حقوق الناس , فإن قتله الإمام , أو صلبه للمحاربة , كان للولي أخذ الدية في مال المقتول ; لأن حقه في القود قد سقط , فبقي حقه في الدية , أو العفو عنها , على ما بينا في " كتاب القصاص "

ولله الحمد . فإن اختار الإمام قطع يد المحارب , ورجله , أو نفيه : أنفذ ذلك , وكان حينئذ للولي الخيار في قتله , أو الدية , أو المفاداة , أو العفو ; لأن الإمام قد استوفى ما جعل الله تعالى له الخيار فيه - وليس هاهنا شيء يسقط حق الولي , إذ ممكن له أن يستوفي حقه بعد استيفاء حق الله تعالى . ولقد تناقض هاهنا الحنفيون , والمالكيون , أسمج تناقض ; لأنهم لا يختلفون في الحج , والصيام , والزكاة , والكفارات , والنذور , بأن حقوق الناس أولى من حقوق الله تعالى - وأن ديون الغرماء أوجب في القضاء من ديون الله تعالى , وأن شروط الناس مقدمة في الوفاء على شروط الله تعالى - وقد تركوا هاهنا هذه الأقوال الفاسدة , وقدموا حقوق الله تعالى على حقوق الناس - وبالله تعالى التوفيق .

مانع الزكاة
2257 - مسألة : مانع الزكاة:
قال أبو محمد رحمه الله: نا أحمد بن محمد بن الجسور نا أحمد بن الفضل الدينوري نا أبو جعفر - محمد بن جرير الطبري - نا الحارث أنا محمد بن سعد نا محمد بن عمر الواقدي ني عبد الرحمن بن عبد العزيز عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن فاطمة بنت خشاف السلمية عن عبد الرحمن بن الربيع الطفري وكانت له صحبة قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل من أشجع تؤخذ صدقته فجاءه الرسول فرده , فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهب إليه , فإن لم يعط صدقته فاضرب عنقه" قال عبد الرحمن : فقلت لحكيم : ما أرى أبا بكر قاتل أهل الردة إلا على هذا الحديث ؟ فقال : أجل
قال أبو محمد رحمه الله: هذا حديث موضوع مملوء آفات من مجهولين , ومتهمين , وحكم مانع الزكاة إنما هو أن تؤخذ منه أحب أم كره , فإن مانع دونها فهو محارب , فإن كذب بها فهو مرتد , فإن غيبها ولم يمانع دونها فهو آت منكرا , فواجب تأديبه أو ضربه حتى يحضرها أو يموت قتيل الله تعالى , إلى لعنة الله . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع" وهذا منكر , ففرض على من استطاع أن يغيره كما ذكرنا - وبالله تعالى التوفيق .

هل يبادر اللص أم يناشد
2258 - مسألة : هل يبادر اللص أم يناشد:
قال أبو محمد رحمه الله: نا أحمد بن محمد بن الجسور نا أحمد بن الفضل الدينوري نا محمد بن جرير الطبري نا محمد بن بشار , ومحمد بن المثنى , قالا جميعا : نا أبو عامر العقدي نا عبد العزيز بن المطلب عن أخيه الحكم بن المطلب عن أبيه - هو المطلب بن حنطب - بن فهيذ بن مطرف الغفاري: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله سائل إن عدا علي عاد ؟ فأمره أن ينهاه ثلاث مرات , قال : فإن أبى علي ؟ فأمره بقتاله". وقال عليه السلام : "إن قتلك فأنت في الجنة , وإن قتلته فهو في النار".

قطع الطريق من المسلم على المسلم وعلى الذمي سواء
2259 - مسألة : قطع الطريق من المسلم على المسلم وعلى الذمي سواء:
وذلك ; لأن الله تعالى إنما نص على حكم من حاربه وحارب رسوله صلى الله عليه وسلم أو سعى في الأرض فسادا ولم يخص بذلك مسلما من ذمي {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وليس هذا قتلا للمسلم بالذمي , ومعاذ الله من هذا , لكنه قتل له بالحرابة , ويمضي دم الذمي هدرا . وكذلك القطع على امرأة , أو صبي , أو مجنون , كل ذلك - محاربة صحيحة - يستحق بها ما ذكرنا من حكم المحاربة وأما الذمي - إن حارب فليس محاربا , لكنه ناقض للذمة ; لأنه قد فارق الصغار , فلا يجوز إلا قتله ولا بد , أو يسلم , فلا يجب عليه شيء أصلا في كل ما أصاب من دم , أو فرج , أو مال , إلا ما وجد في يده فقط ; لأنه حربي لا محارب - وبالله تعالى التوفيق . وأما المسلم يرتد , فيحارب - فعليه أحكام المحارب كلها على ما ذكرنا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين الذين اقتص منهم قودا , وأقام عليهم حكم المحاربة وكانوا مرتدين محاربين متعدين - وبالله تعالى التوفيق

صفة الصلب للمحارب
2260 - مسألة : صفة الصلب للمحارب:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في صفة الصلب الذي أمر الله تعالى به في المحارب ؟ فقال أبو حنيفة , والشافعي : يضرب عنقه بالسيف ثم يصلب مقتولا - زاد الشافعي - : ويترك ثلاثة أيام ثم ينزل فيدفن . وقال الليث بن سعد , والأوزاعي , وأبو يوسف : يصلب حيا ثم يطعن بالحربة حتى يموت . وقال بعض أصحابنا الظاهرين : يصلب حيا ويترك حتى يموت , وييبس كله ويجف , فإذا يبس وجف أنزل , فغسل , وكفن , وصلي عليه , ودفن ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا وجب أن ننظر فيما احتجت به كل طائفة لقولها لنعلم الحق من ذلك فنتبعه - بعون الله تعالى ومنه - فنظرنا في ذلك , فوجدنا

بيان أنه لا خلاف على أن القتل الواجب في المحارب انما هو ضرب العنق بالسيف فقط
2261 - مسألة: صفة القتل في المحارب:
قال أبو محمد رحمه الله: لا خلاف على أن القتل الواجب في المحارب إنما هو ضرب العنق بالسيف فقط , وأما قطعه فإن الله تعالى قال: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ}. فصح بهذا أنه لا يجوز قطع يديه ورجله معا ; لأنه لو كان ذلك لم يكن القطع من خلاف , وهذا أيضا إجماع لا شك فيه , فقال قوم : يقطع يمين يديه ويسرى رجليه ثم يحسم بالنار ولا بد.
قال أبو محمد:أما الحسم فواجب ; لأنه إن لم يحسم مات , وهذا قتل لم يأمر الله تعالى

به , وقد قلنا : إنه لا يحل أن يجمع عليه الأمران معا ; لأن الله تعالى إنما أمر بذلك بلفظ " أو " وهو يقتضي التخيير ولا بد . ولو أراد الله تعالى جمع ذلك لقال : أن يقتلوا ويصلبوا وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف . وهكذا قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} . وقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . فإن قال قائل : فإن العرب قد قالت : جالس الحسن , أو ابن سيرين - وكل خبزا , أو تمرا - وقال تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} . قلنا : أما قول الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} فهو على ظاهره , وهو عليه السلام منهي أن يطيع الآثم - وإن لم يكن كفورا - وكل كفور آثم , وليس كل آثم كفورا - فصح أن ذكره تعالى للكفور تأكيد أبدا , وإلا فالكفور داخل في الآثم . وأما قول العرب : جالس الحسن , أو ابن سيرين - وكل خبزا , أو تمرا , فنحن لا نمنع خروج اللفظ عن موضوعه في اللغة بدليل , وإنما نمنع من إخراجه بالظنون والدعوى الكاذبة . وإنما صرنا إلى أن قول القائل : جالس الحسن , أو ابن سيرين : إباحة لمجالستهما معا , ولكل واحد منهما بانفراده . وكذلك قولهم : كل خبزا , أو تمرا أيضا , ولا فرق - بدليل أوجب ذلك من حال المخاطب , ولولا ذلك الدليل لما جاز إخراج " أو " عن موضوعها في اللغة - أصلا وموضوعها , إنما هو التخيير أو الشك - والله تعالى لا يشك , فلم يبق إلا التخيير فقط ؟ قال أبو محمد:ولو قطع القاطع يسرى يديه , ويمنى رجليه , لم يمنع من ذلك , عمدا فعله أو غير عامد ; لأن الله تعالى لم ينص على قطع يمنى يديه دون يسرى , وإنما ذكر تعالى الأيدي والأرجل فقط {وما كان ربك نسيا}. ومن ادعى هاهنا إجماعا فقد كذب على جميع الأمة , ولا يقدر على أن يوجد ذلك عن أحد من الصحابة أصلا , وما نعلمه عن أحد من التابعين - وبالله تعالى التوفيق.

كتاب السرقة
*

قوله تعالى: (والسارق والسارقة).
كتاب السرقة
2262 - مسألة: قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ}
قال أبو محمد رحمه الله: فوجب القطع في السرقة بنص القرآن , ونص السنة , وإجماع الأمة , ثم اختلف الناس في مواضع من حكم السرقة نذكرها - إن شاء الله تعالى - ولا حول ولا قوة إلا بالله .

ذكر ما السرقة وحكم الحرز أيراعى أم لا
2263-مسألة- ذكر ما السرقة وحكم الحرز أيراعى أم لا؟
قال أبو محمد رحمه الله: قالت طائفة : لا قطع إلا فيما أخرج من حرزه , وأما إن أخذه من غير حرزه ومضى به , فلا قطع عليه . وكذلك لو أخذ - وقد أخذه - من حرز فأدرك قبل أن يخرجه من الحرز ويمضي به , فلا قطع عليه . كما نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا ابن جريج عن سليمان بن موسى , وعمرو بن شعيب , قال سليمان : إن عثمان , وقال عمرو بن شعيب : إن ابن عمر , ثم اتفقا : لا قطع على سارق حتى يخرج المتاع . حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج عن سليمان بن موسى أن عثمان قضى أنه لا قطع على سارق - وإن كان قد جمع المتاع فأراد أن يسرق - حتى يحمله ويخرج به . وبه - إلى ابن جريج عن عمرو بن شعيب أن سارقا نقب خزانة المطلب بن وداعة والطعن فيها قد جمع المتاع ولم يخرج به , فأتي به إلى ابن الزبير فجلده وأمر به أن يقطع , فمر بابن عمر فسأل فأخبر فأتى ابن الزبير فقال : أمرت به أن يقطع ؟ فقال : نعم , قال : فما شأن الجلد ؟ قال : غضبت , فقال ابن عمر : ليس عليه قطع حتى يخرج به من البيت , أرأيت لو رأيت رجلا بين رجلي امرأة لم يصبها أكنت حاده ؟ قال : لا , قال : لعله قد كان نازعا تائبا وتاركا للمتاع . حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن أحمد بن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن سليمان عن مكحول عن عثمان بن عفان قال : لا تقطع يد السارق - وإن وجد معه المتاع - ما لم يخرج به عن الدار . وبه - إلى ابن وهب سمعت الشمر بن نمير يحدث عن الحسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب قال في الرجل يوجد في البيت - وقد نقبه - معه المتاع : أنه لا يقطع حتى يحمل المتاع فيخرج به عن الدار . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا زكريا عن الشعبي قال : ليس على السارق قطع حتى يخرج المتاع . وعن عطاء - سأله ابن جريج السارق يوجد في البيت قد جمع المتاع ولم يخرج به ؟ قال : لا قطع عليه حتى يخرج به . وعن ربيعة - أنه قال : من أخذ في دار قوم معه سرقة قد خرج عن مفاتيح البيت الذي أخذ السرقة منه فعليه القطع , ومن لم يوجد معه شيء فلا قطع عليه وإن كان يريد السرقة . وعن عدي بن أرطاة أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في رجل نقب بيت قوم حتى دخل البيت فجمع متاعهم فأخذوه في البيت قد جمع المتاع , فكتب إليه عمر بن عبد العزيز : إنه لم ينقب البيت ويجمع المتاع لخير , فعاقبه عقوبة شديدة ثم احبسه ولا تدع أن تذكرنيه . وعن ابن شهاب - أنه قال : إنما السرقة فيما أحصن , فما كان محصنا

في دار , أو حرز , أو حائط أو مربوط فاحتل رباطه فذهب به فتلك من السرقة التي يقطع فيها قال: فمن سرق طيرا من حرز له معلق فعليه ما على السارق؟
قال أبو محمد رحمه الله: وبهذا يقول سفيان الثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم وإسحاق بن راهويه. وقالت طائفة: عليه القطع سواء من حرز سرق أو من غير حرز . كما نا أحمد بن أنس العذري نا عبد الله بن الحسين بن عقال - هو الزبيري - نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن الجهم نا موسى بن إسحاق نا أبو بكر بن أبي شيبة نا أبو خالد عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: بلغ عائشة أم المؤمنين أنهم يقولون : إذا لم يخرج السارق المتاع لم يقطع ؟ فقالت عائشة: لو لم أجد إلا سكينا لقطعته . اختلاس وبه - إلى ابن الجهم نا محمد بن رمح نا يزيد بن هارون نا سليم بن حيان نا سعيد بن مسلم قال : كان عبد الله بن الزبير يلي صدقة الزبير فكانت في بيت لا يدخله أحد غيره وغير جارية له ففقد شيئا من المال؟ فقال للجارية: ما كان يدخل هذا المكان غيري وغيرك فمن أخذ هذا المال؟ فأقرت الجارية فقال لي: يا سعيد انطلق بها فاقطع يدها فإن المال لو كان لم يكن عليها قطع.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم نا أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن المغيرة بن مقسم قال: ذكر عند إبراهيم النخعي قول الشعبي في السارق لا يقطع حتى يخرج بالمتاع فأنكره إبراهيم. حدثنا حمام بن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني أبو بكر قال: نا خالد بن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنهما سئلا عن السارق يسرق فيطرح السرقة ويوجد في البيت الذي سرق منه لم يخرج؟ فقالا جميعا: عليه القطع. وقد روي هذا أيضا عن الحسن البصري رواه روح بن عبادة عن أشعث بن عبد الملك الحمراني عن الحسن قال: إذا جمع السارق المتاع ولم يخرج به قطع حدثنا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة أنا عبد العزيز بن أبي سعيد المزني أن عمرو بن أبي سيارة المزني كان قائما يصلي من الليل فسمع خشفة في البيت فظن أنها الشاة ثم استيقن أن في البيت لصوصا فأخذ السيف فقام على باب البيت فإذا كارة وسط البيت فخرج عليه مثل الجمل المحجرم فضرب بالثياب وجهه وحذفه عمرو بالسيف

حذفة , ونادى مواليه وعبيده على الرجل فقد أثقلته , وأقام بمكانه يرى أن في البيت آخرين فأدركوه , وهو تحت ساباط لبني ليث يشتد , فأخذوه فجاءوا به إلى عبيد الله بن أبي بكرة , فقال : إني رجل قصاب , وإني أدلجت من أهلي أريد الجسر لأجيز غنما لي , وإن عمرا ضربني بالسيف , فبعث عبيد الله إلى عمرو فسأله ؟ فقال : بل دخل علي بيتي , وجمع المتاع , فشهد عليه فقطع عبيد الله بن أبي بكرة يده.
قال أبو محمد رحمه الله: وبه يقول أبو سليمان , وجميع أصحابنا ؟ ومن هذا أيضا المختلس - فإن الناس اختلفوا فيه ؟ فقالت طائفة : لا قطع عليه : كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن سماك بن حرب عن دثار بن يزيد عن عبيد بن الأبرص أن علي بن أبي طالب أتي برجل اختلس من رجل ثوبا ؟ فقال : إنما كنت ألعب معه , قال : تعرفه ؟ قال : نعم , فلم يقطعه . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا مالك بن أنس عن الزهري أن رجلا اختلس طوقا , فسأل عنها مروان زيد بن ثابت ؟ فقال : ليس عليه قطع . وعن معمر عن الزهري قال : اختلس رجل متاعا فأراد مروان أن يقطع - يده , فقال له زيد بن ثابت : تلك الخلسة الظاهرة , لا قطع فيها , لكن نكال وعقوبة . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن الخلسة , فقال : تلك الدعوة المقلة , لا قطع فيها . وعن الشعبي أن رجلا اختلس طوقا فأخذوه - وهو في حجرته فرفع إلى عمار بن ياسر وهو على الكوفة - فكتب إلى عمر بن الخطاب ؟ فكتب إليه : أنه عادي الظهيرة , ولا قطع عليه . وعن عدي بن أرطاة أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في رجل اختلس طوقا من ذهب كان في عنق جارية نهارا , فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: إن ذلك عاد ظهر ليس عليه قطع , فعاقبه . وعن الحسن البصري في الخلسة: لا قطع فيها وعن قتادة : لا قطع على المختلس , ولكن يسجن ويعاقب - وهو قول النخعي , وأبي حنيفة , ومالك , والشافعي , وأحمد بن حنبل , وأصحابهم - وبه يقول إسحاق بن راهويه . وقالت طائفة : عليه القطع - كما نا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون

نا ابن وهب عن قباث بن رزين أنه سمع علي بن رباح اللخمي يقول : السنة أن تقطع اليد المستخفية , ولا تقطع اليد المعلنة . وعن عطاء بن أبي رباح أنه قال : تقطع يد السارق المستخفي المستقر - ولا تقطع يد المختلس المعلن . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الأعلى عن هشام: أن عدي بن أرطاة رفع إليه رجل اختلس خلسة , فقال إياس بن معاوية : عليه القطع.
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك , فنظرنا في قول من لم ير القطع إلا في أخذ من حرز , فوجدناهم يذكرون : ما ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا قتيبة بن سعيد نا الليث بن سعد عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن التمر المعلق ؟ فقال: من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه , ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة - ومن سرق شيئا منه بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع - ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثله والعقوبة". نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا قتيبة بن سعيد نا أبو عوانة عن عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كم تقطع اليد ؟ فقال : لا تقطع اليد في تمر معلق , فإذا ضمه الجرين قطعت في ثمن المجن , ولا تقطع في حريسة الجبل , فإذا آواه المراح قطعت في ثمن المجن". حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب عن الحارث بن مسكين قراءة عليه وأحمد يسمع عن ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: "إن رجلا من مزينة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل ؟ قال : هي ومثلها , والنكال , وليس في شيء من الماشية قطع إلا فيما آواه المراح , فبلغ ثمن المجن ففيه قطع اليد , وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه , وجلدات نكال , قال : يا رسول الله كيف ترى في التمر المعلق ؟ قال : هو ومثله معه , والنكال , وليس في شيء من التمر المعلق قطع إلا فيما آواه الجرين , فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع , وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه , وجلدات نكال". حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا عبد الله بن عبد الصمد بن علي عن مخلد عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على خائن ولا مختلس قطع". نا عبد الله

بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا محمد بن حاتم نا سويد بن نصر أنا عبد الله بن المبارك عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير عن جابر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم درأ عن المنتهب والمختلس والخائن القطع".
قال أبو محمد رحمه الله: فقالوا: لم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم القطع على مختلس ولا على خائن فسقط بذلك القطع عن كل من اؤتمن وسقط القطع عن حريسة الجبل والتمر المعلق حتى يؤويهما الجرين والمراح وهو حرزهما . وقالوا : ما وجد في غير حرز فإنما هو لقطة قد أبيح أخذها وتحصينها وقالوا: قد جاء عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت : أنه لا قطع على مختلس ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف فدل ذلك على اعتبار الحرز : فنظرنا في ذلك فوجدناه لا حجة لهم في شيء منه : أما الخبران اللذان ذكرنا فلا يصح منهما ولا واحد. أما حديث حريسة الجبل والتمر المعلق , فإنه لا يصح ; لأن أحد طريقيه من سعيد بن المسيب مرسل والأخرى: هي أيضا أسقط , مرسلة - من طريق ابن أبي حسين - ولا حجة في مرسل - والأخرى: مما انفرد به عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - وهي صحيفة لا يحتج بها - فهذا وجه يسقط به . ودليل آخر - أنه لو صح لكان عليهم لا لهم ; لأنهم كلهم - يعني الحاضرين من المخالفين - مخالفون , لما فيه من ذلك أن فيه : أن من خرج بشيء من التمر المعلق ففيه غرامة مثليه - وهم لا يقولون بهذا . وكذلك إذا آواه الجرين فلم يبلغ ثمن المجن ففيه أيضا غرامة مثليه , وهم لا يقولون بهذا أيضا . وفيه أيضا : أن في حريسة الجبل غرامة مثلها , وأن فيها غرامة مثليها , وأن فيها - إن آواه المراح فلم يبلغ ثمن المجن - غرامة مثليها , فهم قد خالفوا هذا الخبر الذي احتجوا به في أربعة مواضع من أحكامه , فكيف يستجيز ذو ورع يدري أن كلامه محسوب عليه , وأنه محاسب به يخاف لقاء الله تعالى , ويهاب عقابه , أن يحتج بخبر هو يصححه , ويخالفه في أربعة أحكام من أحكامه , على من لا يصححه أصلا , فلا يراه حجة , وهل في التعجيل بالإثم , والفضيحة العاجلة أكثر من هذا ؟ فإن ادعوا في ترك هذه الأحكام الأربعة إجماعا ؟ كذبوا ; لأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد حكم بها بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - لا يعرف منهم له مخالف ولا يدرى منهم عليه منكر , فأضعف قيمة الناقة المنتحرة للمزني على رقيق حاطب التي سرقوها وانتحروها . وقد روينا من طرق منها ما ناه أحمد بن محمد بن الجسور نا قاسم بن أصبغ نا مطرف بن قيس نا يحيى بن بكير نا مالك بن أنس عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن رقيقا لحاطب سرقوا ناقة للمزني - رجل من مزينة.

فانتحروها , فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فأمر عمر لكثير بن الصلت أن يقطع أيديهم , قال عمر : إني أراك تجيعهم , والله لأغرمنك غرما يشق عليك - ثم قال للمزني : كم ثمن ناقتك ؟ قال : أربعمائة درهم , قال عمر : فأعطه ثمانمائة درهم.
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا أثر عن عمر كالشمس؟ وأما حديث سعيد بن المسيب - وهم يعدون مثل هذا إجماعا - إذا وافق أهواءهم - وقد روي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وغيره نحو هذا في إتلاف الأموال : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبان بن عثمان أن أباه عثمان أغرم في ناقة محرم أهلكها رجل , فأغرمه الثلث زيادة على ثمنها - قال الزهري : ما أصيب من أموال الناس ومواشيهم في الشهر الحرام , فإنه يزاد الثلث لهذا في العمد - فهذا أثر في غاية الصحة عن عثمان رضي الله عنه ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . وقال به الزهري بعد ذلك , وهم لا يبالون بدعوى الإجماع في أقل من هذا جرأة على الكذب , ثم لا يبالون بمخالفة ما يقرون بأنه إجماع.
قال أبو محمد رحمه الله: نقول - وبالله تعالى التوفيق - إن الخبر الذي رواه أبو الزبير عن جابر لم يروه أحد من الناس عن جابر إلا أبو الزبير فقط , وأبو الزبير مدلس ما لم يقل فيه : نا , أو أنا , لا سيما في جابر , فقد أقر على نفسه بالتدليس فيه : كما نا يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري قال : نا عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي نا إسحاق بن أحمد الصيدلاني نا أبو جعفر العقيلي نا زكريا بن يحيى الحلواني نا أحمد بن سعيد بن أبي مريم نا عمي ونا محمد بن إسماعيل نا الحسن بن علي نا سعيد بن أبي مريم نا الليث بن سعد قال : قدمت مكة , فجئت أبا الزبير فدفع إلي كتابين , فانقلبت بهما , فقلت في نفسي: لو عاودته فسألته : أسمع هذا كله من جابر ؟ فرجعت إليه , فقلت له : هذا كله سمعته من جابر ؟ فقال : منه ما سمعته , ومنه ما حدثت عنه , فقلت له : أعلم لي ما سمعت منه ؟ فأعلم لي على هذا الذي عندي ؟ قال علي : فما لم يروه الليث عن أبي الزبير , أو لم يقل فيه : نا , أو أنا , فهو منقطع - فقد صح أن هذا الحديث لم يسمعه أبو الزبير من جابر . وأما احتجاجهم بما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم في المختلس - فإن الرواية في ذلك عن زيد بن ثابت لا تصح ; لأنها عن الزهري عنه منقطعة , ولم يسمع الزهري من زيد كلمة : وأما الرواية عن عمر , وعمار بن ياسر في ذلك , فإنها منقطعة ; لأنها عن الشعبي عنهما - ولم يولد الشعبي إلا بعد قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يكن يعقل إذ مات عمار بن ياسر . وأما الرواية عن علي في ذلك - فهي من طريقين - : إحداهما - عن سماك بن حرب وهو يقبل التلقين والأخرى - من طريق بكير بن

أبي السبط المكفوف - وقد روي نحوه عن قتادة , وعفان , ولا يعرف حاله , إلا أن القول في المختلس لا يخلو من أحد وجهين : إما أن يكون اختلس جهارا غير مستخف من الناس - فهذا لا خلاف فيه أنه ليس سارقا , ولا قطع عليه . أو يكون فعل ذلك مستخفيا عن كل من حضر - فهذا لا خلاف بيننا وبين الحاضرين من خصومنا في أنه سارق , وأن عليه القطع . فبطل كل ما تعلقوا به , وعري قولهم في مراعاة الحرز عن أن يكون له حجة أصلا . وأما قولهم : إن الشيء إذا لم يكن محرزا فهو لقطة فخطأ ; لأن اللقطة إنما هي ما سقط عن صاحبه وصار بدار مضيعة - وكذلك الضالة - وأما ما كان غير مهمل ولا ساقط , فقد بطل عن أن يكون لقطة , أو ضالة , وقد جاء في اللقطة والضالة نصوص لا يحل تعديها , فلا مدخل للسارق فيها , فنحن إنما نكلمهم في سارق من حرز , لا في ملتقط , ولا في آخذ ضالة - فإن الملتقط مختلس فسقط هذا الاعتراض الفاسد .
قال أبو محمد رحمه الله: فوجب أن ننظر في القول الثاني فوجدنا الله تعالى يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} فوجب بنص القرآن أن كل من سرق فالقطع عليه , وأن من اكتسب سرقة فقد استحق بنص كلام الله تعالى جزاء لكسبه ذلك قطع يده نكالا . وبالضرورة الحسية , وباللغة يدري كل أحد يدري اللغة أن من سرق - من حرز أو من غير حرز - فإنه " سارق " وأنه قد اكتسب سرقة , لا خلاف في ذلك , فإذ هو سارق مكتسب سرقة , فقطع يده واجب , بنص القرآن , ولا يحل أن يخص القرآن بالظن الكاذب , ولا بالدعوى العارية من البرهان . فإن من قال : إن الله تعالى إنما أراد في هذه الآية من سرق من حرز , فإنه مخبر عن الله تعالى , والمخبر عن الله تعالى بما لم يخبر به عن نفسه , ولا أخبر به عنه نبيه صلى الله عليه وسلم فقد قال على الله تعالى الكذب , وقال ما لا يعلم , وقفا ما لا علم له به - وهذا عظيم جدا . وقد أوردنا عن عائشة , وابن الزبير , وسعيد بن المسيب , وعبد الله بن عبيد الله , والحسن , وإبراهيم النخعي , وعبيد الله بن أبي بكرة القطع على من سرق , وإن لم يخرج به من الحرز ؟ قال أبو محمد رحمه الله: فهذا نص القرآن , وأما من السنن فروينا من طريق البخاري نا أبو الوليد - هو الطيالسي - والليث هو ابن سعد - عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: "أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت - فذكر الحديث - وفيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فخطب فقال : يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد , وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها" من طريق البخاري نا موسى بن إسماعيل نا عبد الواحد الأعمش قال : سمعت أبا صالح سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده , ويسرق الحبل فتقطع يده"
قال أبو محمد رحمه الله: فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع السارق جملة ولم يخص عليه السلام حرزا من غير حرز {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} , {وما كان ربك نسيا} وقال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} . وقال تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} . ونحن نشهد بشهادة الله تعالى أن الله عز وجل لو أراد أن لا يقطع السارق حتى يسرق من حرز ويخرجه من الدار لما أغفل ذلك , ولا أهمله , ولا أعنتنا بأن يكلفنا علم شريعة لم يطلعنا عليه , ولبينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إما في الوحي , وإما في النقل المنقول . فإذ لم يفعل الله تعالى ذلك , ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فنحن نشهد , ونبت , ونقطع - بيقين لا يمازجه شك - أن الله تعالى لم يرد قط , ولا رسوله صلى الله عليه وسلم اشتراط الحرز في السرقة . إذ لا شك في ذلك فاشتراط الحرز فيها باطل بيقين لا شك فيه , وشرع لما لم يأذن الله تعالى به , وكل ما ذكرنا فإنما يلزم من قامت عليه الحجة ووقف على ما ذكرنا ; لأن من سلف ممن اجتهد فأخطأ مأجور - وبالله تعالى التوفيق . وأما الإجماع فإنه لا خلاف بين أحد من الأمة كلها في أن السرقة هي الاختفاء بأخذ الشيء ليس له , وأن السارق هو المختفي بأخذ ما ليس له , وأنه لا مدخل للحرز فيما اقتضاه الاسم , فمن أقحم في ذلك اشتراط الحرز فقد خالف الإجماع على معنى هذه اللفظة في اللغة , وادعى في الشرع ما لا سبيل له إلى وجوده , ولا دليل على صحته . وأما قول الصحابة : فقد أوضحنا أنه لم يأت قط عن أحد منهم اشتراط الحرز أصلا وإنما جاء عن بعضهم " حتى يخرج من الدار " وقال بعضهم " من البيت " وليس هذا دليلا على ما ادعوه من الحرز - مع الخلاف الذي ذكرنا عن عائشة , وابن الزبير في ذلك - فلاح أن قولنا قول قد جاء به القرآن , والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق.

حكم من سرق من بيت المال أو من الغنيمة
مسائل من هذا الباب
2264 - مسألة : فيمن سرق من بيت المال , أو من الغنيمة:
قال أبو محمد رحمه الله: نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن قال : إن رجلا سرق من بيت المال , فكتب فيه سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ؟ فكتب عمر إليه : أن لا قطع عليه ; لأن له فيه نصيبا . وبه - إلى وكيع نا سفيان - هو الثوري - عن سماك بن حرب عن عبيد بن الأبرص أن علي بن أبي طالب أتي برجل قد سرق من

الخمس مغفرا فلم يقطعه علي , وقال : إن له فيه نصيبا . وبه - يقول إبراهيم النخعي , والحكم بن عتيبة , وأبو حنيفة , والشافعي , وأصحابهما - وقال مالك , وأبو ثور , وأبو سليمان , وأصحابهم : عليه القطع.
قال أبو محمد رحمه الله: إنما احتج من لم ير القطع في ذلك بحجتين : إحداهما : أن له فيه نصيبا مشاعا . والثانية : أنه قول صاحبين لا يعرف لهما مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . أما الاحتجاج بأنه قول طائفة من الصحابة - رضي الله عنهم - لا يعرف لهم منهم مخالف , فإن هذا يلزم المالكيين المحتجين بمثل هذا إذا وافق أهواءهم التاركين له إذا اشتهوا ؟ وأما نحن فلا حجة عندنا في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما احتجاجهم بأن له في ذلك نصيبا - فهذا ليس حجة في إسقاط حد الله تعالى , إذ ليست هذه القضية مما جاء به القرآن , ولا مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما أجمعت عليه الأمة : فلا حجة لهم في غير هذه العمد الثلاث . وكونه له في بيت المال وفي المغنم نصيب لا يبيح له أخذ نصيب غيره ; لأنه حرام عليه بإجماع لا خلاف فيه . وبقول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . فإذ نصيب شريكه عليه حرام فلا فرق بين سرقته إياه وبين سرقته من أجنبي لا نصيب له معه , وهم يدعون القياس . وهم يقولون : إن الحرام إذا امتزج مع الحلال فإنه كله حرام , كالخمر مع الماء , ولحم الخنزير يدق مع لحم الكبش , وغير هذا كثير ؟ ويرون الحد على من شرب خمرا ممزوجة بماء حلال , فما الفرق بينه وبين من سرق شيئا بعضه له حلال وبعضه حرام لغيره ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فلما لم نجد في المنع من قطع من سرق من المغنم , أو من الخمس , أو من بيت المال , حجة أصلا , لا من قرآن , ولا سنة , ولا إجماع , وجب أن ننظر في القول الآخر : فوجدنا الله تعالى يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ}. ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجب القطع على السارق جملة , ولم يخص الله تعالى , ولا رسوله عليه السلام سارقا من بيت المال من غيره , ولا سارقا من المغنم , ولا سارقا من مال له فيه نصيب من غيره {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} ولو أن الله تعالى أراد ذلك لما أغفله ولا أهمله والعمل في ذلك أن ننظر فيمن سرق من شيء له فيه نصيب من بيت المال أو الخمس , أو المغنم , أو غير ذلك , فإن كان نصيبه محدودا معروف المقدار كالغنيمة , أو ما اشترك فيه ببيع , أو ميراث , أو غير ذلك , أو كان من أهل الخمس , نظر : فإن أخذ زائدا على نصيبه مما يجب في مثله القطع قطع , ولا بد , فإن سرق أقل فلا قطع عليه , إلا أن يكون منع حقه

في ذلك أو احتاج إليه فلم يصل إلى أخذ حقه إلا بما فعل ولا قدر على أخذ حقه خالصا فلا يقطع إذا عرف ذلك , وإنما عليه أن يرد الزائد على حقه فقط ; لأنه مضطر إلى أخذ ما أخذ إذا لم يقدر على تخليص مقدار حقه , والله تعالى يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وبالله تعالى التوفيق .

حكم من سرق من الحمام
2265 - مسألة : فيمن سرق من الحمام:
نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا سعيد بن عبد العزيز التنوخي عن بلال بن سعد أن رجلا سرق برنسا من الحمام فرفع إلى أبي الدرداء ؟ فلم ير عليه قطعا . وبه - يقول أبو حنيفة , وأصحابه وقال مالك , وأحمد , وإسحاق , وأبو ثور , وأبو سليمان , وأصحابهم : عليه القطع إذا كان هنالك حافظ
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا مما تناقض فيه الحنفيون , والمالكيون ; لأنهم يعظمون خلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة إذا وافق آراءهم , وقد خالفوا هاهنا قول أبي الدرداء , ولا يعرف له من الصحابة مخالف.
قال أبو محمد رحمه الله: أما نحن فلا حجة عندنا في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} وهذا سارق فالقطع عليه بنص القرآن , ولو أراد الله تعالى تخصيص ذلك لما أغفله .

حكم من سرق من مسجد
2266- مسألة : فيمن سرق من مسجد:
قال قوم : لا قطع على من سرق من مسجد . وقالت طائفة : إذا كان هنالك حافظ لذلك الشيء , أو كانت الأبواب مغلقة قطع , وإلا فلا - وكذلك لو قلع باب المسجد فإن كان مغلقا مضبوطا قطع , وإلا فلا - وهكذا القول في باب الدار - وهو قول مالك . وقال أصحابنا : القطع في كل ذلك واجب , والأصل في ذلك أمر الحرز كما ذكرنا - وقد بطل قول من قال بمراعاة الحرز فالواجب قطع من سرق من مسجد بابا - كان مغلقا أو غير مغلق - أو حصيرا , أو قنديلا , أو شيئا وضعه صاحبه هنالك ونسيه - كان صاحبه معه أو لم يكن - إذا أخذه مستترا بأخذه لنفسه , لا ليحفظه على صاحبه , وذلك لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق .

هل على النباش قطع أم لا
2267 - مسألة : هل على النباش قطع أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في النباش ؟ فقالت طائفة : عليه القتل . وقالت طائفة : تقطع يده ورجله . وقالت طائفة : تقطع يده فقط . وقالت طائفة : يعزر أدبا - ولا شيء عليه غير ذلك . وأما من رأى عليه القتل - فكما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج عن صفوان بن سليم : أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

ما يجب فيه على آخذه القطع
2268 - مسألة : ما يجب فيه على آخذه القطع:
قال أبو محمد رحمه الله: تنازع الناس في أشياء , فقال قوم: لا قطع في سرقتها. وقال قوم: فيها القطع , من ذلك: التمر , والجمار , والشجر , والزرع.

قال أبو محمد رحمه الله: نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرني محمد بن خالد أخبرني أبي نا سلمة بن عبد الملك الغوصي عن الحسن - هو ابن صالح بن حي - عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن رافع بن خديج قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا قطع في ثمر , ولا كثر" والكثر الجمار - وفي هذا آثار كثيرة لم نذكرها , لئلا نطول بذكرها , ولو صحت لوجب الأخذ بها بذلك , وللزم حينئذ أن لا يقطع في شيء من الثمر , والحبوب - سواء حصد أو لم يحصد , جد أو لم يجد - كان في المخازن أو لم يكن - لعموم هذا اللفظ . ولأن الله تعالى سمى اليابس ثمرا , فقال: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ} فسمى الله تعالى ما تثمره الشجرة , والنخلة , والزرع , ثمرا بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} الآية إلى قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} . فوجب الحق فيه يوم حصاده - والحصاد لا يكون إلا في اليابس - وأما ساق الشجر , والنخل , وأغصانه , فلا يقع عليه اسم ثمر أصلا , لا في لغة , ولا في شريعة . واختلف المتأخرون في هذا , فقال سفيان الثوري : لا قطع فيما يفسد من يومه من الطعام , مثل : الثريد , واللحم , وما أشبهه , لكن يعزر . وإذا كانت الثمرة في شجرتها لم تقطع اليد في سرقتها , لكن يعزر . قال أبو حنيفة : لا يقطع في شيء من : الإبل , ولا البقر , ولا الغنم , ولا الخيل , ولا البغال , ولا الحمير - إذا سرق كل ذلك من المرعى , فإذا كانت في المراح , أو في الدور ففيها القطع . ولا يقطع في شيء من : الفواكه الرطبة كانت في الدور أو في الشجر - في حرز كانت أو غير حرز - وكذلك البقول كلها . وكذلك ما يسرع إليه الفساد من اللحم , والطعام كله - كان في حرز أو في غير حرز . ولا قطع في الملح , ولا في التوابل , ولا في الزروع كلها , فإذا يبس الزرع وحمل إلى الأندر , أو إلى البيوت وجب القطع في سرقة شيء منه , إذا بلغ ما يجب فيه القطع . وقال مالك : كل ما كان من الفواكه في أشجاره , والزرع في مزرعته , فلا قطع في شيء منه - وكذلك الأنعام في مسارحها , فإذا أحرزت الأنعام في مراح , أو دار , ففيها القطع , فإذا جمع الزرع في أندره أو في الدور ففيه القطع , وإذا جنيت الفواكه , وأدخلت في الحرز ففيها القطع , وكذلك تقطع في البقول , والفواكه كلها , وفي اللحم وفي كل شيء إذا كان في حرز - وهذا قول الشافعي أيضا . وقال أبو ثور : إذا كانت الفواكه في أشجارها - رطبة أو غير رطبة - وكان الفسيل في حائطه , وكان كل ذلك محرزا ممنوعا , ففيه القطع - وقال - فيما عدا ذلك - بقول مالك , والشافعي

وقال مالك , والشافعي وأبو ثور في البعير , أو الدابة تسرق من الفدان , ففيه القطع . وقال أصحابنا في كل ما ذكرنا : القطع - محرزا كان أو غير محرز - إذا سرقه السارق ولم يأخذه معلنا.
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا كما ذكرنا نظرنا في ذلك , ونظرنا في قول أبي ثور فوجدناه صحيحا , إلا اشتراطه الحرز فقط , فإن الحرز لا معنى له على ما بينا قبل . وقول أبي ثور هذا إنما صح لموافقته عموم قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}. وبحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع السارق عموما دون اشتراط حرز . وقول أبي ثور , مخالف للأحاديث المذكورة قبل هذا ; لأنها واهية , ولا حجة إلا في صحيح . ثم نظرنا في قول مالك , والشافعي , فوجدنا حجتهما إنما هي خبر عمرو بن شعيب , وابن المسيب , وخبر حميد بن قيس , وعبد الرحمن بن عبد الله , لا حجة لهما غيرها , وقد بينا أن هذه الأخبار في غاية الوهي , وأن الاحتجاج بالواهي باطل ; وقد قلنا : إن هذه الأخبار لا تصح ولو صحت لما كان في شيء منها دليل على ما ادعاه من ادعاه من الحرز , بل كان الواجب حينئذ أن لا يقطع في شيء مما يقع عليه اسم ثمر , ولا اسم كثر , وأن يقطع في ذلك إن آواه الجرين - رطبا كان أو غير رطب - فهذا كان يكون الحكم - لو صح الخبر - وما عدا هذا فباطل , بظن كاذب فإذا لم تصح الآثار أصلا فالواجب ما قاله أصحابنا من أن القطع واجب في كل ثمر , وفي كل كثر - معلقا كان في شجره أو مجذوذا , أو في جرين كان أو غير جرين - إذا أخذه سارقا له , مستخفيا بأخذه , غير مضطر إليه , وبغير حق له , فإن القطع في كل طعام كان مما يفسد أو لا يفسد - إذا أخذه على وجه السرقة غير مشهور بأخذه , لا حاجة إليه , ولا عن حق أوجب له أخذه , فإن القطع واجب في الزرع , إذا أخذ من فدانه , أو هو بأندره , على وجه السرقة مستترا , أو مختفيا بأخذه , لا عن حاجة إليه , ولا عن حق له . وأما الماشية - فالقطع فيها أيضا كذلك , إلا أن تكون ضالة يأخذها معلنا فيكون محسنا , حيث أبيح له أخذها , وعاصيا لا سارقا , حيث لم يبح له أخذها , فلا قطع هاهنا ; لأنه ليس سارقا ; وإنما القطع على السارق - وعمدتنا في ذلك قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع السارق عموما وبالله تعالى التوفيق.

حكم من سرق الطير أو الدجاج أو الأرز وغيرها
2269 - مسألة : الطير فيمن سرقها:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في القطع في الطير إذا سرق , كالدجاج , والإوز , وغيرها . فقالت طائفة : لا قطع في شيء من ذلك : كما نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ

نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا سفيان الثوري عن جابر بن يزيد الجعفي عن عبد الله بن يسار قال : أتي عمر بن عبد العزيز برجل قد سرق دجاجا , فأراد أن يقطعه , فقال أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف كان عثمان يقول : لا قطع في طير ؟ فخلى عمر سبيله . حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري عن جابر الجعفري عن عبد الله بن يسار , قال : أراد عمر بن عبد العزيز أن يقطع سارقا سرق دجاجة , فقال له أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف : إن عثمان بن عفان قال : لا قطع في طير . وبه يقول أبو حنيفة , وأحمد بن حنبل , وأصحابهما , وإسحاق بن راهويه . وقالت طائفة : القطع فيه - إذا سرق من حرز - وهو قول مالك , والشافعي , وأصحابهما . وقالت طائفة : القطع فيها على كل حال , إذا سرقت ؟ قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا فيما اختلفوا من ذلك , فوجدنا من احتج بقول من لم ير القطع فيه , فوجدناهم يقولون : إن إبطال القطع فيه قد روي عن عثمان بن عفان - ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة . وادعى بعضهم أنه روى نحو ذلك عن علي , هذا لا يعرف . وقالوا : إن الأصل فيه أنه تافه في الأصل مباح , فإذا كان مملوكا لم يقطع سارقه , إذا كان ما هذا وصفه لم يقطع سارقه , والطير إذا كان مباحا , وكان فرخا فلا قيمة له , وإنما تصير له القيمة بعدما يصير مملوكا بالتعليم . فهذا كل ما موهوا به , ما لهم شبهة غير ذلك لا حجة لهم فيه أصلا ؟ قال أبو محمد رحمه الله: فإذا قد عرى قولهم من حجة , وكان الطير مالا من الأموال , فقد تعين ذلك ملكا لصاحبه , كالدجاج , والحمام , وشبهها وجب فيه القطع بقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . وبإيجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القطع على من سرق . ولم يخص الله تعالى , ولا رسوله عليه السلام - من ذلك - طيرا ولا غيره - وتالله , أراد الله تعالى الذي يعلم سر كل من خلق , وكل ما هو كائن , وحادث , من حركة أو نفس , وكلمة , أبد الأبد , وكل ما لا يكون لو كان كيف كان يكون , أن يخص من القطع من سرق الطير , لما أغفل ذلك , ولا أهمله . فنحن نشهد بشهادة الله تعالى أن الله تعالى لم يرد قط إسقاط القطع عن سارق الطير , بل قد أمر الله تعالى بقطعه نصا - والحمد لله رب العالمين .

حكم الصيد
2270 - مسألة : الصيد ؟
قال أبو محمد رحمه الله: يتعلق بهذا الباب أمر الصيد , فإن أبا حنيفة لا يرى القطع في الصيد إذا تملك أصلا , ولا يرى القطع فيمن سرق إبلا متملكا من حرزه , ولا على من سرق كذلك غزالا , أو خشفا , أو ظبيا , أو حمارا وحشيا , أو أرنبا , أو غير ذلك من الصيد . ورأى مالك , والشافعي , وأصحابهما , القطع في كل ذلك على حسب الاختلاف الذي أوردناه عنهم في مراعاة الحرز . قال أبو محمد رحمه الله: وهذا مكان ما نعلم للحنفيين فيه حجة أصلا , ولا أنه قال به أحد قبل شيخهم , بل هو خرق للإجماع , وخلاف للقرآن مجرد , إلا أنهم ادعوا أنهم قاسوه على الطير ؟ فإن قالوا : إن الصيد يشبه الطير في أنهما حيوان وحشي مباح في أصله ؟ قيل لهم : فأسقطوا على هذا القياس القطع عمن سرق ياقوتا , أو ذهبا , أو فضة , أو نحاسا , أو حديدا , أو رصاصا , أو قزديرا , أو زئبقا , أو صوف البحر ; لأن هذا كله أجسام مباحة في الأصل , غير متملكة كالصيد , ولا فرق - فهذا تشبيه أعم من تشبيهكم , وعلة أعم من علتكم . وأيضا - فإنهم قد نقضوا هذا القياس , فلم يقيسوا قاتل الدجاج الإنسي على الصيد المحرم في الإحرام , ولا قاسوا الأنعام , والخيل - عند من يبيحها - على ذوات الأربع من الصيد , وكان هذا كله نصا أو إجماعا متيقنا فصح أن القطع واجب على من سرق صيدا متملكا , كما هو واجب في سائر الأموال - وبالله تعالى التوفيق .

حكم من سرق خمرا
ً
...
2271 - مسألة : فيمن سرق خمرا لذمي , أو لمسلم , أو سرق خنزيرا كذلك , أو ميتة كذلك:
قال أبو محمد رحمه الله: نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال : من سرق خمرا من أهل الكتاب , قال عطاء : زعموا في الخمر , والخنزير , يسرقه المسلم من أهل الكتاب يقطع , من أجل أنه حل لهم في دينهم , وإن سرق ذلك من مسلم فلا قطع عليه . وبه - إلى عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي نجيح عن عطاء قال : من سرق خمرا من أهل الكتاب قطع . وقالت طائفة : لا قطع عليه في ذلك , ولكن يغرم لها مثلها - وهذا قول شريح , وسفيان الثوري , ومالك , وأبي حنيفة , وأصحابهم . وقالت طائفة : لا قطع عليه ذلك , ولا ضمان - وهو قول الشافعي , وأحمد , وأصحابهما - وبه يقول أصحابنا.
قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في ذلك , فرأينا قول من أوجب الضمان وأسقط القطع , في غاية الفساد ; لأنه لا يخلو الخمر , والخنزير , من أن يكونا مالا للذمي له قيمة.

أو لا يكونا مالا له , ولا سبيل إلى قسم ثالث أصلا , فإن كانت الخمر , والخنزير , مالا للذمي , لهما قيمة , فالقطع فيهما واجب - على أصولهم - إذا بلغ كل واحد منهما ما فيه القطع . وإن كان الخمر , والخنزير , لا قيمة لهما , وليسا مالا للذمي , فبأي وجه قضوا بضمان ما لا قيمة له , ولا هو مال , وهل هذا منهم إلا قضاء بالباطل ؟ وإيكال مال بغير حق , لا سيما وهم يقولون : إن المسلم إن سرق خمرا لمسلم , أو خنزيرا لمسلم , فلا قطع , ولا ضمان ; لأنهما ليسا مالا له , ولا لهما قيمة . والعجب كله , كيف يقضون بضمانهما عليه - وهو لا سبيل له إلى قضائهما - ; لأنه عندهم مما يكال أو يوزن - ففيهما المثل عندهم . ثم نظرنا في قول من رأى القطع في ذلك والضمان , وقول من لا يرى في ذلك - لا قطعا ولا ضمانا . فنظرنا فيمن رأى القطع والضمان , فلم نجد لهم حجة أصلا . إلا إن قالوا : إنها مال لهم , ولها قيمة عندهم ؟ فقلنا لهم : أخبرونا , أبحق من الله تملكوها , واستحقوا ملكها وشربها , أو بباطل ؟ ولا سبيل إلى قسم ثالث ؟ فإن قالوا : بحق , وأمر من الله تعالى , كفروا بلا خلاف - وهم لا يقولون هذا - ويلزمهم أن يقولوا : إن دين اليهود والنصارى حق , وهذا لا يقوله مسلم أصلا . قال الله تعالى:
{إن الدين عند الله الإسلام} . وقال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه}. فإذ قد صح ما قلنا , وصح أن الله تعالى حرم شرب الخمر , على كل مسلم وكافر , وحرم بيعها على كل مسلم وكافر , وحرم ملكها على كل مسلم وكافر بقوله تعالى آمرا للرسول عليه السلام أن يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} . وبقوله عليه السلام: "كل مسكر حرام" وأن الذي حرم شربها حرم بيعها , ثبت أنها ليست مالا لأحد , وأنه لا قيمة لها أصلا , وكذلك الخنزير - للتحريم الوارد فيه جملة . فإذ قد حرم ملكها جملة , كان من سرقها لم يسرق مالا لأحد , لا قيمة لها أصلا , ولا سرق شيئا يحل إبقاؤه جملة , فلا شيء عليه - والواجب هرقها على كل حال لمسلم وكافر , وكذلك قتل الخنازير - وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رحمه الله: وأما من سرق ميتة , فإن فيها القطع ; لأن جلدها باق على ملك صاحبها , بدبغه فينتفع به ويبيعه . فإن قيل : ما الفرق بين الخنزير والميتة ؟ أوجبتم القطع في الميتة من أجل جلدها , ولم توجبوا القطع في الخنزير ؟ فهلا أوجبتموه من أجل جلده , وجلده وجلد سائر الميتات سواء - في جواز الانتفاع به وبيعه - إذا دبغ ؟ فجوابنا : أن الفرق بينهما في غاية الوضوح - ولله الحمد - وهو أن الميتة كانت في حياتها متملكة لصاحبها بأسرها , فلما ماتت سقط ملكه عن لحمها , وشحمها , ودمها ; ومعاها , وفرثها , ودماغها , وغضاريفها ; لأن كل هذا حرام مطلق التحريم , وبقي

ملكه كما كان , على ما أباح الله تعالى له الانتفاع به منها , وهو الجلد , والشعر , والصوف , والوبر , والعظم , فلا يخرج عن ملكه , إلا بإباحته إياه لإنسان بعينه , أو لمن أخذه ويعلم ذلك بطرحه الجميع , وتبريه منه , فهو ما لم يطرحه مالك لذلك , فإن سرق فإنما سرق شيئا متملكا , ملكا صحيحا , ومال من مال مسلم , أو ذمي , فالقطع فيه . وأما الخنزير فلا يقع عليه في حياته ملك لأحد ; لأنه رجس محرم جملة فمن سرقه حيا , أو ميتا , فإنما أخذ مالا لا مالك له , وما لا يحل لأحد تملكه فجلده لمن بادر إليه , وأخذه , ودبغه , فإذا دبغ صار حينئذ ملكا من مال متملكه , من سرقه فعليه فيه القطع , والقطع واجب في عظام الفيل كما ذكرنا والميتات كلها كذلك ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما حرم أكلها" حاش عظم الخنزير , وشعره , وكل شيء منه حرام جملة , لا يحل لأحد تملك شيء منه , إلا الجلد فقط بالدباغ , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" وبالله تعالى التوفيق.

حكم من سرق حراً صغيراً أو كبيراً
...
2272 - مسألة : فيمن سرق حرا صغيرا , أو كبيرا:
قال أبو محمد رحمه الله: لا نعلم خلافا في أن من سرق عبدا صغيرا لا يفهم أن عليه القطع , واختلف الناس فيمن سرق عبدا كبيرا يتكلم , وفيمن سرق حرا صغيرا أو كبيرا - فأما العبد الصغير الذي لا يفهم , فإن الذي سرقه سارق مال , فعليه القطع - وأما من سرق العبد الذي يفهم , فإنما أسقط عنه القطع من أسقطه ; لأنه لولا أنه أطاعه ما أمكنه سرقته إياه ؟ قال أبو محمد رحمه الله: وهذا لا ينبغي أن يطلق إطلاقا ; لأن في الممكن أن يسرقه وهو نائم , أو سكران , أو مغمى عليه , أو متغلبا عليه متهددا بالقتل , فلا يقدر على الامتناع , ولا على الاستغاثة , فإذا كان هكذا , فهي سرقة صحيحة قد تمت منه , وإذ هي صحيحة فالقطع عليه بنص القرآن . حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج , قال : أخبرت أن عمر بن الخطاب قطع رجلا في غلام سرقه . وبه - إلى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن إسماعيل عن الحسن البصري قال : من سرق صغيرا حرا , أو عبدا , قطع . قال إبراهيم النخعي : يقام الحد على الكبير وليس على الصغير من شيء - يعني أنه يقطع الكبير في سرقة الصغير . وبه - إلى عبد الرزاق عن معمر قال : سألت الزهري عمن سرق عبدا أعجميا لا يفقه ؟ قال : يقطع . وبالقطع في سرقة العبد الصغير يقول أبو حنيفة , ومحمد بن الحسن , ومالك , والشافعي , وأحمد , وأصحابهم , وإسحاق , وأصحابنا , وسفيان الثوري . وذكر عن أبي يوسف أنه استحسن أن يقطع . وأما من سرق حرا - فإن حمام بن أحمد نا قال : نا ابن مفرج

نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرت أن عليا قطع البائع - بائع الحر - وقال : لا يكون الحر عبدا . وقال ابن عباس : ليس عليه قطع , وعليه شبيه بالقطع الحبس . وقال أبو حنيفة , وسفيان , وأحمد , وأبو ثور : لا قطع على من سرق حرا صغيرا كان أو كبيرا . وقال مالك , وإسحاق بن راهويه : على من سرق حرا صغيرا , القطع - وذكر هذا عن الحسن البصري , والشعبي .
قال أبو محمد رحمه الله: وقد جاء في هذا أثر , لا علينا أن نذكره ; لأن الحنفيين يأخذون بأقل منه , إذا وافقهم , وهو : كما نا القاضي عبد الله بن عبد الرحمن بن جحاف المعافري ببلنسية نا محمد نا إبراهيم بطليطلة نا بكر بن العلاء القشيري بمصر نا زكريا بن يحيى الساجي البصري نا القاسم بن إسحاق الأنصاري نا أبي نا عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة بن الزبير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي برجل كان يسرق الصبيان , فأمر به فقطع".
قال أبو محمد رحمه الله: فليس فيه تخصيص حر من عبد - وبالله تعالى التوفيق .

حكم من سرق المصحف
2273 - مسألة : من سرق المصحف:
قال أبو محمد رحمه الله: قال أبو حنيفة , وأصحابه , لا قطع على من سرق مصحفا - سواء كانت عليه حلية فضة تزن مائتي درهم , أو أكثر , أو أقل أو لم تكن . وقال مالك , والشافعي , وأصحابنا : عليه القطع ؟ قال أبو محمد رحمه الله: واحتج من لم ير القطع بأن قال : إن له فيه حق التعليم ; لأنه ليس له منعه عمن احتاج إليه . قال : فلما كان له فيه حق كان كمن سرق من بيت المال . قال : والفضة تبع ; لأنها تدخل في بيعه , كما يدخل في بيعه الجلد , والدفتان - وهذا كلام في غاية الفساد والباطل : أول ذلك - قولهم : لأن له فيه حق التعليم - وقد كذب , إنما حق المتعلم في التلقين فقط , لا في مصحف الناس أصلا , إذ لم يوجبه قرآن , ولا سنة , ولا إجماع . وإنما فرض على الناس تعليم بعضهم بعضا القرآن - تدريسا وتحفيظا - وهكذا كان جميع الصحابة - رضي الله عنهم - في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا خلاف من أحد , أنه لم يكن هنالك مصحف , وإنما كانوا يلقنه بعضهم بعضا , ويقرئه بعضهم بعضا , فمن احتاج منهم أن يقيد ما حفظ كتبه في الأديم , وفي اللخاف , والألواح , والأكتاف فقط . فبطل قوله " إن للسارق حقا في المصحف " وصح أن لصاحب المصحف منعه من كل أحد , إذ لا ضرورة بأحد إليه.
قال أبو محمد رحمه الله: فصح أن القطع واجب في سرقة المصحف - كانت عليه حلية أو لم تكن - لقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}.

قال أبو محمد رحمه الله: ويلزمهم أن لا يوجبوا القطع على من سرق كتب العلم - وهذا خطأ , بل القطع في كل ذلك واجب - وبالله تعالى التوفيق .

سراق اختلف الناس في وجوب القطع عليهم
2274 - مسألة : سراق اختلف الناس في وجوب القطع عليهم:
قال أبو محمد رحمه الله: قال أبو حنيفة , وأصحابه : لا يقطع من سرق صليبا , أو وثنا - ولو كان من فضة , أو ذهب - قال : فإن سرق دراهم فيها صور أصنام , أو صور صلبان , فعليه القطع ; لأن ذلك يعبد وهذا لا يعبد.
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا خطأ , وتناقض , واحتجاج فاسد . أما الخطأ , فإسقاط الحد الذي افترض الله تعالى من القطع على السارق . وإنما وجب القطع على سارق الصليب ; لأنه سرق جوهرا لا يحل له أخذه . وإنما الواجب فيه كسره فقط , وأما ملك جوهره فصحيح - ولا فرق بينه وبين من سرق إناء ذهب وإناء فضة , والنهي قد صح عن اتخاذ آنية الفضة والذهب , كما صح عن اتخاذ الصليب والوثن ولا فرق - والقطع واجب في كل ذلك ; لأنه لم يسرق الصورة , ولا شكل الإناء , وإنما سرق الجسم الحلال تملكه , وإنما الواجب في الآنية المذكورة , والصلبان , والأوثان , الكسر فقط . فإن كان الصليب , أو الوثن , من حجر لا قيمة له أصلا بعد الكسر , فلا قطع فيه أصلا , لما ذكرنا قبل من قول عائشة رضي الله عنها: "إن يد السارق لم تكن تقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه" وسنستقصي الكلام في ذلك - إن شاء الله تعالى - في كلامنا " في مقدار ما يقطع فيه السارق " . وأما التناقض , فظاهر أيضا ; لأنه لا فرق بين صورة وصورة بلا برهان وكلاهما محرم تصويره , ومتوعد عليه بالعذاب الشديد يوم القيامة . وأما فساد احتجاجه , بأن الصليب يعبد , والصورة التي في الدراهم لا تعبد , فإن الهند يعبدون البقر كما يعبد النصارى الصليب , ويعظمونها كما يعظم الصليب , ولا فرق - فيلزمه أيضا , أن لا يقطع في سرقة البقر . فإن قالوا : إننا نحن لا نعبدها ؟ قلنا لهم : وإننا نحن أيضا لا نعبد الصليب , ولا نعظمه - والحمد لله رب العالمين - والعجب كل العجب من إسقاط أبي حنيفة القطع عن سارق الصليب , وهو يقتل المسلم إذا قتل عابد الصليب ؟ فلئن كان لعابد الصليب من الحرمة عندهم ما يستباح به دم المسلم , فإن لمال عابد الصليب من الحرمة ما تستباح به يد سارقه , والصليب مال من ماله , هذا على أن النهي قد صح: "أن لا يقتل مؤمن بكافر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " . نعم , وعن الله تعالى في القرآن , إذ يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} . وإذ يقول تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مالكم كيف تحكمون} . ولم يأت نهي قط عن قطع يد من سرق مال كافر ذمي بل أمر الله تعالى

بقطعه في عموم قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . وقد علم الله تعالى أن السارق يسرق من مسلم ومن ذمي , فنحن نقسم بالله تعالى أنه لو أراد استثناء سارق مال الذمي لما سكت عن ذلك , ولا نسيه , ولبينه , كما بين لنا { أن لا يقتل مؤمن بكافر } وبالله تعالى التوفيق .

احضار السرقة
2275 - مسألة : إحضار السرقة:
قال أبو محمد رحمه الله: قال المالكيون : من أقر بسرقة دراهم - كثيرة أو قليلة - أو غير ذلك , فإن القطع لا يجب بذلك إلا حتى يحضر ذلك الشيء الذي أقر بسرقته.
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا أيضا خطأ ; لأنه رد لما أمر الله تعالى به من قطع السارق , ولم يشترط إحضار السرقة {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} لكن الواجب قطعه ولا بد , ثم يلزمه إحضار ما سرق ليرد إلى صاحبه - إن عرف - أو ليكون في جميع مصالح المسلمين - إن لم يعرف صاحبه - فإن عدم الشيء المسروق ضمنه , على ما نذكر بعد هذا , إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد رحمه الله: ولا نعلم لمن خالف هذا حجة أصلا ؟ فإن تعلقوا : بما ناه عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب : أن طارقا كان جعله ثعلبة الشامي على المدينة يستخلفه , فأتي بإنسان متهم بسرقة , فجلده , فلم يزل يجلده حتى اعترف بالسرقة , فأرسل إلى ابن عمر فاستفتاه ؟ فقال ابن عمر لا تقطع - يده حتى يبرزها ؟ فهذا لا حجة لهم فيه ; لأن من أقر تحت العذاب وبالتهديد فلا قطع عليه , وسواء أبرز السرقة أو لم يبرزها ; لأنه قد يكون أودعت عنده , وهو يدري أنها سرقة أو لا يدري , فلا يكون على المودع في ذلك قطع أصلا . ويحتمل قول ابن عمر هذا - أي حتى يبرز - قولته مجردة من الإقرار بالضرب , مع أنه لا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم قولة لابن عمر قد خالفوها بلا برهان فإن ذكروا ما روينا - بالسند المذكور - إلى ابن وهب قال : أخبرني يحيى بن أيوب , قال : كتب إلي يحيى بن سعيد يقول : من اعترف بسرقة , ثم أتى - مع ذلك - بما يصدق اعترافه فذلك الذي تقطع يده , ومن اعترف على تهدد وتخوف , ثم لم يأت بما يصدق اعترافه , فإن ناسا يزعمون أن يقطعوا في مثل هذا . وبه - إلى ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ربيعة , قال : من اعترف بعد امتحان فلم يوجد ذلك عنده , ولم يوجد ما يصدقه من عمله , فإن اعترافه لم يكن متصلا , ولا إقامته على الاعتراف خشية أن يكون عليه من البلاء ما قد دفع عنه من البلاء باعترافه , فنرى أن لا يؤخذ باعترافه , إلا أن يأتي وجه البينة والمعرفة أنه صاحب تلك السرقة ؟ وهذا لا حجة لهم فيه ; لأن من أقر بسرقة , فلا يخلو من أن يكون أقر بلا تهديد ولا عذاب , أو أقر بتهديد وعذاب.

فإن أقر بتهديد وعذاب , فلا قطع عليه أصلا - أحضر السرقة , أو لم يحضرها - إذ قد يدري موضعها , أو جعلت عنده , فلا قطع عليه ؟ وإن كان أقر بلا تهديد ولا عذاب , فالقطع عليه - أخرج السرقة , أو لم يخرجها - لما ذكرنا قبل . وأما قول ربيعة " أن لا يؤخذ المكره باعتراف إلا أن يأتي وجه البينة والمعرفة أنه صاحب تلك السرقة " فقول صحيح لا شك فيه , أنه إذا جاء ببيان يتيقن به - دون شك - أنه سرقها , فالقطع واجب - وسواء حينئذ أقر تحت العذاب أو دون عذاب - وكذلك لو عذب أو أقر , وجاءت بينة تشهد بأنهم رأوه يسرق لوجب قطع يده بالسرقة , لا بإقراره , وقد قلنا : إن إحضار الشيء المسروق ليس بيانا في أنه هو سرقه , وإنما هو ظن , ولا يحل قطع يد مسلم بالظن , قال الله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث".
قال أبو محمد رحمه الله: وقد روينا عن أبي بكر الصديق بحضرة عمر بن الخطاب وسائر الصحابة - رضي الله عنهم - أنه قطع إلا قطع بإقرار مجرد دون إحضار السرقة , وأن السرقة إنما وجدت عند الصائغ , أو عنده , وقد يمكن أن توضع في رحله بغير علمه : حدثنا حماد نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر , وسفيان الثوري , كلاهما عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : إني سرقت , فرده , فقال : إني سرقت , فقال : شهدت على نفسك مرتين , فقطعه - قال عبد الرحمن : فرأيت يده في عنقه معلقة . وبه - إلى عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : رجل شهد على نفسه مرة واحدة ؟ قال : حسبه ؟ قال أبو محمد رحمه الله: إنما أوردنا هذا لئلا يشغبوا فيما يذكرونه من إحضار السرقة بما ذكرنا عن ابن عمر , فأوجدناهم عن علي أصح مما وجدوا لابن عمر قطعا , بغير إحضار السرقة , وكذلك عن عطاء - وإلا فلا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد رحمه الله: وقال بعض من لا يرى درء الحد عن السارق برجوعه : أنه إن أقر ثم رجع فلا قطع عليه , لكن يغرم السرقة الذي أقر أنه سرقها منه - وهذا تناقض وخطأ ; لأنه لم يقر له بشيء إلا على وجه السرقة ؟ قلنا : فلا يخلو إقراره ذلك ضرورة من أحد وجهين , لا ثالث لهما : إما أن يكون صادقا في أنه سرق منه ما ذكر - أو يكون كاذبا في ذلك , فإن كان صادقا فقد عطلوا الفرض , إذ لم ينفذوا عليه ما أمر الله تعالى به من قطع - يد السارق - وإن كان كاذبا فقد ظلموه , إذ غرموه ما لم يجب له عنده قط , ولا

صح إقراره به , فهم بين تعطيل الفرض , أو ظلم في إباحة مال محرم - وكلاهما لا يحل - وبالله تعالى التوفيق.

اختلاف الشهادة في ذلك
2276 - مسألة : اختلاف الشهادة في ذلك:
قال أبو محمد رحمه الله: قال الشافعي , وأبو يوسف , ومحمد بن الحسن , وأبو ثور : إن اختلف الشاهدان , فقال أحدهما : سرق بقرة , وقال الآخر : بل ثورا - أو قال أحدهما : سرق بقرة حمراء , وقال الآخر : بل سوداء - أو قال أحدهما : سرق يوم الخميس , وقال الآخر : بل يوم الجمعة , فلا قطع عليه - فإن قال أحدهما : سرق بقرة حمراء , وقال الآخر : بل سوداء فعليه القطع . وقال مالك : إن قال : أحد الشاهدين : سرق يوم الخميس , وقال الآخر : بل يوم الجمعة , وقال اثنان : زنى يوم الخميس , وقال اثنان : بل يوم الجمعة , فقد بطل عنه حد السرقة , وحد الزنى . قال : فلو قال أحدهما : قذف زيدا يوم الجمعة , وقال الآخر : قذفه يوم الخميس - أو قال أحدهما : شرب الخمر يوم الخميس , وقال الآخر : بل يوم الجمعة , فعليه حد القذف , وحد الخمر . وهذا كله تخليط , وإنما أوردناه لنري - بعون الله تعالى - من نصح نفسه , وأراد الله تعالى به خيرا , بطلان أقوالهم في التشبيه , الذي هو عندهم أصل لقياسهم الباطل , وأنه من ميزه لم يعجز أن يعارض عللهم بمثلها , أو بأقوى منها ؟ فنقول لجميعهم : أخبرونا عمن شهد عليه شاهدان بأنه سرق بقرة حمراء , وقال الآخر : بيضاء - وعمن شهد عليه شاهدان بأنه قذف زيدا , وقال أحدهما : أمس , وقال الآخر : بل اليوم - أو قال أحدهما : شرب خمرا أمس , وقال الآخر : بل اليوم - أهذه الشهادة على سرقة واحدة ؟ أو على سرقتين مختلفتين ؟ وعلى قذف واحد , أم على قذفين متغايرين ؟ وعلى شرب واحد , أم على شربين مفترقين ؟ فإن قالوا : بل على سرقة واحدة , وشرب واحد , وقذف واحد , كابروا العيان ; لأنه لا يشك ذو حس سليم في أن شرب يوم الخميس ليس هو شرب يوم الجمعة , وإنما هو شرب آخر - وأن سرقة بقرة صفراء ليست هي سرقة بقرة سوداء , وإنما هي سرقة أخرى ؟ وإن قالوا : بل هي سرقتان مختلفتان , وشربان مختلفان , وقذفان مختلفان متغايران ؟ قيل لهم : فأي فرق بين هذا وبين الشهادات بزنا مختلف , أو بسرقة ثور , أو بقرة , أو باختلاف الشهادة في المكان - وهذا ما لا سبيل لهم منه إلى التخلص أصلا , لا بنص قرآن , ولا سنة صحيحة ولا إجماع , ولا قول صاحب , ولا قياس , ولا رأي سديد - فسقط بيقين قول من فرق بين الأحكام التي ذكرنا , ولم يبق إلا قول من ساوى بينهما , فراعى الاختلاف في كل ذلك , أو لم يراع الاختلاف في شيء من ذلك.
قال أبو محمد رحمه الله: فوجدنا من راعى الاختلاف في كل ذلك يقول : إذا

اختلف الشاهدان في صفة المسروق , أو في زمانه , أو في مكانه فإنما حصل من قولهم فعلان متغايران , فإذ ذلك كذلك , فإنما حصل على فعل شاهد واحد , ولا يجوز القطع بشاهد واحد - وكذلك القذف , فلا يجوز إقامة حد قذف , ولا حد خمر , بشاهد واحد - فهذه حجتهم , ما لهم حجة غيرها . فنظرنا فيها فوجدناها لا تصح ; لأن الذي ينبغي أن يضبط في الشهادة , ويطلب به الشاهد , إنما هو ما لا تتم الشهادة إلا به , والذي إن نقص لم تكن شهادة , فهذا هو الذي إن اختلف الشاهد فيه بطلت الشهادة ; لأنها لم تتم . وأما ما لا معنى لذكره في الشهادة , ولا يحتاج إليه فيها , وتتم الشهادة مع السكوت عنه , فلا ينبغي أن يلتفت إليه - وسواء اختلف الشهود فيه , أو لم يختلفوا , وسواء ذكروه , أو لم يذكروه - واختلافهم فيه كاختلافهم في قصة أخرى ليست من الشهادة في شيء , ولا فرق , فلما وجب هذا كان ذكر اللون في الشهادة لا معنى له , وكان أيضا ذكر الوقت في الشهادة في الزنا وفي السرقة , وفي القذف , وفي الخمر لا معنى له - وكان أيضا ذكر المكان في كل ذلك لا معنى له , فكان اختلافهم في كل ذلك كاتفاقهم , كسكوتهم , ولا فرق ; لأن الشهادة في كل ذلك تامة دون ذكر شيء من ذلك , وإنما حكم الشهادة ؟ وحسب الشهود أن يقولوا : إنه زنى بامرأة أجنبية نعرفها , أولج ذكره في قبلها , رأينا ذلك فقط , وما نبالي قالوا : إنها سوداء , أو بيضاء , أو زرقاء أو كحلاء مكرهة , أو طائعة , أمس , أو اليوم , أو منذ سنة بمصر , أو ببغداد . وكذلك - لو اختلفوا في لون ثوبه حينئذ , أو لون عمامته . وكذلك - حسبهم أن يقولوا : سرق رأسا من البقر مختفيا بأخذه , ولا عليهما أن يقولا : أقرن , أو أعضب , أو أبتر , أو وافي الذنب أبيض أو أسود - وهكذا في القذف , وشرب الخمر , ولا فرق . فصح أن الشهادة في كل ذلك تامة مع اختلاف الشهود , وما لا يحتاج إلى ذكره في الشهادة , إذا اقتضت شهادتهم وجود الزنا منه , أو وجود السرقة , أو وجود القذف منه , أو وجود شرب الخمر منه فقط ; لأنهم قد اتفقوا في ذلك . وهذا هو الموجب للحد , فإنما أوجب الله تعالى الحد في كل ذلك بوقوع الزنا , ووجوب السرقة , أو القذف , وأثبت الأربعة الزنا فقد وجب الحد في ذلك بنص القرآن , والسنة ولم يقل الله تعالى قط , ولا رسوله صلى الله عليه وسلم لا تقبلوا الشهادة حتى يشهدوا على زنا واحد , في وقت واحد , في مكان واحد , وعلى سرقة واحدة لشيء واحد في وقت واحد , في مكان واحد {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} . وتالله , لو أراد الله تعالى ذلك لما أهمله , ولا أغفله حتى يبينه فلان وفلان , وحاش لله من هذا . فصح أن ما اشترطوه من ذلك خطأ لا معنى له - وبالله تعالى التوفيق : فليعلموا أن قولهم : لا نعلمه عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم ولا نذكره عن تابع , إلا شيئا ورد عن قتادة.

وحدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة , في رجل شهد عليه رجل أنه سرق بأرض , وشهد عليه آخر بأنه سرق بأرض أخرى ؟ قال : لا قطع عليه . وقد صح عن بعض التابعين ممن نعلمه أعلى من قتادة خلاف هذا : كما نا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة أنا هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه , قال : تجوز شهادة الرجل وحده في السرقة - وقد ذكرنا مثل هذا عن عبيد الله بن أبي بكرة - وإن كنا لا نقول به - ولكن لنريهم أن تمويههم بأنها شهادة واحدة على فعل واحد : كلام فاسد - وبالله تعالى التوفيق .

القطع في الضرورة
2277 - مسألة : القطع في الضرورة:
قال أبو محمد رحمه الله: نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي حدثنا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير قال : قال عمر بن الخطاب : لا تقطع في عذق , ولا في عام السنة . وبه - إلى معمر عن أبان : أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب في ناقة نحرت , فقال له عمر : هل لك في ناقتين عشراوين , مرتعتين , سمينتين , بناقتك ؟ فإنا لا نقطع في عام السنة - والمرتعتان : الموطأتان ؟ قال أبو محمد:من سرق من جهد أصابه , فإن أخذ مقدار ما يغيث به نفسه فلا شيء عليه , وإنما أخذ حقه , فإن لم يجد إلا شيئا واحدا ففيه فضل كثير , كثوب واحد أو لؤلؤة , أو بعير , أو نحو ذلك , فأخذه كذلك فلا شيء عليه أيضا ; لأنه يرد فضله لمن فضل عنه ; لأنه لم يقدر على فضل قوته منه , فلو قدر على مقدار قوته يبلغه إلى مكان المعاش فأخذ أكثر من ذلك وهو ممكن لا يأخذه , فعليه القطع ; لأنه سرق ذلك عن غير ضرورة , وإن فرضا على الإنسان أخذ ما اضطر إليه في معاشه , فإن لم يفعل فهو قاتل نفسه , وهو عاص لله قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وهو عموم لكل ما اقتضاه لفظه - وبالله تعالى التوفيق .

حكم من سرق من ذي رحم محرمة
2278 - مسألة : من سرق من ذي رحم محرمة:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس فيمن سرق من مال كل ذي رحم محرمة فقال مالك , وأبو حنيفة , والشافعي , وأحمد بن حنبل , وأصحابهم , وسفيان الثوري , وإسحاق : إن سرق الأبوان من مال ابنهما , أو بنتهما فلا قطع عليهما . قال الشافعي : وكذلك الأجداد والجدات - كيف كانوا - لا قطع عليهم فيما سرقوه من مال من تليه ولادتهم . وقال هؤلاء كلهم - حاشا مالكا , وأبا ثور : لا قطع على الولد , ولا على البنت فيما سرقاه من

حكم سرقة أحد الزوجين من الآخر واختلاف الناس في هذا
2279- مسألة : سرقة أحد الزوجين من الآخر:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة : لا قطع في ذلك - كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج قال : بلغني عن الشعبي قال : ليس على زوج المرأة في سرقة متاعها قطع . وقال أبو حنيفة , وأصحابه : لا قطع على الرجل فيما سرق من مال امرأته ولا على المرأة فيما سرقت من مال زوجها . وقال مالك , وأحمد بن حنبل , وإسحاق , وأبو ثور : على كل واحد منهما القطع فيما سرق من مال الآخر من حرز . وقال الشافعي ثلاثة أقوال : أحدها - كقول أبي حنيفة . والآخر - كقول مالك , والثالث - أن الزوج إذا سرق من مالها قطعت يده , وإن سرقت هي من ماله فلا قطع عليها .
قال أبو محمد: فلما اختلفوا كما ذكرنا نظرنا في ذلك : فوجدنا من لا يرى القطع يحتج : بما رويناه من طريق مسلم نا محمد بن رمح نا الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولدها وهي مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته". وهكذا رواه عبد الله بن عمر بن حفص

وحماد بن زيد , وأيوب السختياني , والضحاك بن عثمان , وأسامة بن زيد , كلهم عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم . ورواه سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد فيه : كما روينا بالسند المذكور إلى مسلم ثني حرملة ثني ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر هذا الحديث . وزاد فيه "والرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته". قالوا : فكل واحد من الزوجين أمين في مال الآخر , فلا قطع عليه كالمودع . وزاد بعض من لا يعبأ به في هذا الحديث زيادة لا نعرفها , ولفظا مبدولا , وهو "المرأة راعية في مال زوجها والرجل راع في مال امرأته".
قال أبو محمد رحمه الله: وكل هذا لا حجة لهم فيه أصلا . أما الخبر المذكور فحق واجب لا يحل تعديه , وهو أعظم حجة عليهم ; لأنه عليه السلام أخبر : أن كل من ذكرنا راع فيما ذكر , وأنهم مسئولون عما استرعوا من ذلك - فإذ هم مسئولون عن ذلك فبيقين يدري كل مسلم أنه لم تبح لهم السرقة , والخيانة , فيما استودعوه وأسلم إليهم , وأنهم في ذلك - إن لم يكونوا كالأجنبيين والأباعد ومن لم يسترع - فهم بلا شك أشد إثما , وأعظم جرما , وأسوأ حالة من الأجنبيين , وأن ذلك كذلك , فأقل أمورهم أن يكون عليهم ما على الأجنبيين ولا بد ؟ فهذا حكم هذا الخبر على الحقيقة . وأيضا - فإنهم لا يختلفون أن على من ذكرنا في الخيانة ما على الأجنبيين من إلزام رد ما خانوا وضمانه , وهم أهل قياس بزعمهم , فهلا قاسوا ما اختلف فيه من السرقة والقطع فيها على ما اتفق عليه من حكم الخيانة , ولكنهم قد قلنا إنهم لا النصوص اتبعوا ولا القياس أحسنوا ؟ وأيضا - فليس في هذا الخبر دليل أصلا على ترك القطع في السرقة , والقول في الزيادة التي زادوها سواء - كما ذكرنا - لو صحت ولا فرق . وأما قولهم " إن كليهما كالمودع , وكالمأذون له في الدخول " فأعظم حجة عليهم ; لأنهم لا يختلفون أن المودع إذا سرق مما لم يودع عنده لكن من مال لمودع آخر في حرزه , وأن المأذون له في الدخول لو سرق من مال محرز عنه للمدخول عليه الإذن له في الدخول لوجب القطع عليهما عندهم بلا خلاف . فيلزمهم بهذا التشبيه البديع بالضد أن لا يسقطوا القطع عن الزوجين فيما سرق أحدهما من الآخر إلا فيما اؤتمن عليه , ولم يحرز منه , وإن لم يجب القطع على كل واحد منهما فيما لم يأمنه صاحبه عليه , وأحرز عنه , كالمودع والمأذون له في الدخول ولا فرق - وهذا قياس لو صح : قياس ساعة من الدهر.
قال أبو محمد رحمه الله: فبطل كل ما موهوا به من ذلك - والحمد لله رب العالمين - ثم نظرنا في ذلك في قول من فرق بين الزوج والزوجة , فرأى عليه القطع إذا سرق من

مالها , ولم ير عليها القطع إذا سرقت من ماله. فوجدناهم يقولون " إن الرجل لا حق له في مال المرأة أصلا , فوجب القطع عليه إذا سرق منه شيئا ; لأنه في ذلك كالأجنبي " . فوجدنا المرأة لها في ماله حقوقا من : صداق , ونفقة , وكسوة , وإسكان , وخدمة , فكانت بذلك كالشريك - ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لهند بنت عتبة إذ أخبرته أن أبا سفيان لا يعطيها ما يكفيها وولدها , فقال لها عليه السلام: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". قالوا : فقد أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يدها على مال زوجها تأخذ منه ما يكفيها وولدها , فهي مؤتمنة عليه كالمستودع , ولا فرق . قالوا : والزوج بخلاف ذلك ; لأن الله تعالى قال: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} الآية . وقال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} فبين الله تعالى تحريم القليل من مالها والكثير عليه.
قال أبو محمد رحمه الله: أما قولهم - إن لها في ماله حقوقا من صداق ونفقة , وكسوة , وإسكان , وخدمة . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلق يدها على ماله حيث كان من حرز أو غير حرز , لتأخذ منه ما يكفيها وولدها بالمعروف - إذا لم يوفها وإياهم حقوقهم - فنعم , كل هذا حق واجب , وهكذا نقول . ولكن لا يشك ذو مسكة من حس سليم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلق يدها على ما لا حق لها فيه من مال زوجها , ولا على أكثر من حقها , فإذ لا شك في ذلك , فإباحة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لأخذ الحق والمباح ليس فيه دليل أصلا على إسقاط حدود الله تعالى على من أخذ الحرام غير المباح . ولو كان ذلك , لكان شرب العصير الحلال مسقطا للحد عنه , إذا تعدى الحلال منه إلى المسكر الحرام , ولا فرق بين الأمرين , فإذ ذلك كذلك فلها ما أخذت بالحق , وعليها ما افترض الله تعالى من القطع فيما أخذت بوجه السرقة للحق الواجب حكمه , وللمباح حكمه , وللباطل المحرم حكمه {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} . وهي في ذلك كالأجنبي - سواء سواء - يكون له حقوق عند السارق , فمباح له أن يأخذ حقه ومقدار حقه من مال الذي له عنده الحق من حرز , أو من غير حرز - نعم , ويقاتله عليه إن منعه , ويحل له بذلك دمه , وهو مأجور في كل ذلك , فإن تعمد أخذ ما ليس له بحق , فإن تعمد أخذه بإفساد طريق فهو محارب , له حكم المحارب , وإن أخذه مجاهرا غير مفسد في الأرض فله حكم الغاصب , وإن أخذه مختفيا فله حكم السارق , والمحارب . هذا والزوجة في مال زوجها كذلك ; لأن الله تعالى لم يخص إذ أمر بقطع السارق والسارقة , إلا أن تكون زوجة من مال زوجها , ولا يكون زوج من مال زوجته {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} . فصح يقينا - أن القطع فرض واجب على الأب والأم إذا سرقا من مال ابنهما , وعلى الابن والبنت إذا سرقا من مال أبيهما , وأمهما , ما لم يبح لهما أخذه . وهكذا

كل ذي رحم محرمة , أو غير محرمة , إذا سرق من مال ذي رحمه , أو من غير ذي رحمه , ما لم يبح له أخذه . فالقطع على كل واحد من الزوجين إذا سرقا من مال صاحبه ما لم يبح له أخذه كالأجنبي ولا فرق - إذا سرق ما لم يبح - وهو محسن إن أخذ ما أبيح له أخذه من حرز , أو من غير حرز - وبالله تعالى التوفيق.

هل يقطع السارق في أول مرة أم لا
2280 - مسألة : هل يقطع السارق في أول مرة أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عبد ربه بن أبي أمية : أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة حدثه , وابن سابط الأحول: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بعبد قد سرق فقيل يا رسول الله هذا عبد سرق وأخذت معه سرقته , وقامت البينة عليه فقال رجل : يا رسول الله هذا عبد بني فلان , أيتام , ليس لهم مال غيره , فتركه , قال : ثم أتي به الثانية سارقا , ثم الثالثة , ثم الرابعة , كل ذلك يقول فيه كما قيل له في الأول , قال : ثم أتي به الخامسة , فقطع يده , ثم أتي به السادسة , فقطع رجله , ثم السابعة , فقطع يده , ثم الثامنة , فقطع رجله". قال الحارث : أربع بأربع , فأعفاه الله أربعا وعاقبه أربعا
قال أبو محمد رحمه الله: هذا مرسل ولا حجة في مرسل . ولقد كان يلزم الحنفيين , والمالكيين , القائلين بأن المرسل كالمسند , أن يقولوا به , لا سيما وهم يقولون بوجوب درء الحدود بالشبهات , ولا شبهة أقوى من خبر وارد يعملون بمثله , إذا اشتهوا ؟ وتالله , إن هذا الخبر - على وهيه - لأرفع أو مثل خبر ابن الحبشي الذي خالفوا له ظاهر القرآن , وأيمن من خبر المسور الذي أسقطوا به ضمان ما أتلف بالباطل من مال المسروق منه , وخالفوا به القرآن في إيجابه تعالى الاعتداء على المعتدي بمثل ما اعتدى به , وأباحوا به المال بالباطل - وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رحمه الله: فقطع السارق واجب في أول مرة بعموم القرآن كما ذكرنا - وحسبنا الله ونعم الوكيل .

مقدار ما يجب فيه قطع السارق
2281 - مسألة : مقدار ما يجب فيه قطع السارق:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في مقدار ما يجب فيه قطع يد السارق فقالت طائفة : يقطع في كل ما له قيمة , قل أو كثر . وقالت طائفة : أما من الذهب فلا تقطع اليد فيه إلا في ربع دينار فصاعدا , وأما من غير الذهب ففي كل ما له قيمة , قلت أو كثرت . وقالت طائفة : لا تقطع اليد إلا في درهم أو ما يساوي درهما فصاعدا . وقالت طائفة:

ذكر إعيان الأحاديث الواردة في القطع باختصار
2282 - مسألة : ذكر أعيان الأحاديث الواردة في القطع باختصار
قال أبو محمد رحمه الله: أما حديث ابن عمر: "قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجن ثمنه ثلاثة دراهم" ؟ فلم يروه أحد إلا نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا رواه عنه الثقات الأئمة : أيوب السختياني , وموسى بن عقبة , وأيوب بن موسى , وحنظلة بن أبي سفيان الجمحي , وعبيد الله بن عمر بن حفص , وإسماعيل بن أمية , وإسماعيل بن علية , وحماد بن زيد , ومالك بن أنس , والليث بن سعد , ومحمد بن إسحاق , وجويرية بن أسماء , وغير هؤلاء ممن لا يلحق بهؤلاء , ولا يختلف في اللفظ , إلا أن بعضهم قال : قيمته - وبعضهم قال : ثمنه . ورواه بعض الثقات أيضا عن حنظلة بن أبي سفيان عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : قيمته خمسة دراهم . وجاء حديث لم يصح ; لأن راويه أبو حرمل - ولا يدرى من هو – "أن جارية سرقت ركوة خمر لم تبلغ ثلاثة دراهم , فلم يقطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم". وأما القطع في ربع دينار , فلم يرو إلا عن عائشة رضي الله عنها وروي عنها على ثلاثة أضرب : أحدها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا قطع إلا في ربع دينار". " والثاني - أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قطع في ربع دينار , أو قال : القطع في ربع دينار". والثالث - أنه عليه السلام يقطع في أقل من ثمن المجن - حجفة أو ترس لا في الشيء التافه , أو قطع في مجن - ولم يرو هذه الألفاظ باختلافها عنها - رضي الله عنها - إلا القاسم بن محمد , وعروة بن الزبير , وعمرة بنت عبد الرحمن , وامرأة عكرمة - لم تسم لنا - . فأما القاسم , فأوقفه على عائشة من لفظها , ولم يسنده , لكن أنها قالت : السارق تقطع يده في ربع دينار . وأنكر عبد الرحمن ابنه على من رفعه

وخطأه . وأما من قال : لا قطع إلا في ربع دينار , فلم يروه أحد نعلمه إلا يونس عن الزهري عن عروة , وعمرة عن عائشة مسندا , وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة مسندا , ومحمد بن عبد الرحمن عن عمرة عن عائشة مسندا . وأما الذين رووا القطع في ثمن المجن لا في التافه الذي هو أقل من ثمن المجن , وتحديد هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة , وامرأة عكرمة عن عائشة مسندا . وأما حديث العشرة دراهم أو الدينار , فليس فيه شيء أصلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي أن يجوز التمويه فيه على أحد , إنما فيه موصولا به ذكر العشرة دراهم من قول عبد الله بن عمرو بن العاص - ولا يصح عنه أيضا . ومن قول عبد الله بن عباس بن عبد الله - وهو قول سعيد بن المسيب , وأيمن كذلك - وهو عنهم صحيح , إلا حديثا موضوعا مكذوبا - لا يدرى من رواه - من طريق ابن مسعود مسندا : لا قطع إلا في ربع دينار , أو عشرة دراهم , وليس فيه - مع علته - ذكر القيمة أصلا .

ذكر ما يقطع من السارق
2283- مسألة : ذكر ما يقطع من السارق:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس فيما يقطع من السارق : فقالت طائفة : لا تقطع إلا اليد الواحدة فقط , ثم لا يقطع منه شيء . وقالت طائفة : لا يقطع منه إلا اليد والرجل من خلاف , ثم لا يقطع منه شيء . وقالت طائفة : تقطع اليد , ثم الرجل الأخرى . وقالت طائفة : تقطع يده , ثم رجله من خلاف , ثم رجله الثانية . واختلفوا أيضا : كيف تقطع اليد , وكيف تقطع الرجل , وماذا يفعل إذا لم يبق له ما يقطع , وأي اليدين تقطع ؟ وسنذكر - إن شاء الله تعالى - كل باب من هذه ألأبواب , والقائلين بذلك , وحجة كل طائفة , ليلوح الحق - ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم : فأما من قال : لا تقطع إلا يده فقط - فكما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج قلت لعطاء : سرق الأولى , قال : تقطع كفه , قلت : فما قولهم : أصابعه , قال : لم أدرك إلا قطع الكف كلها , قلت لعطاء : سرق الثانية , قال : ما أرى أن تقطع إلا في السرقة الأولى اليد فقط , قال الله تعالى: {فاقطعوا أيديهما} ولو شاء أمر بالرجل , ولم يكن الله تعالى نسيا - هذا نص قول عطاء . وأما من قال : تقطع اليد , ثم اليد , ولا تقطع الرجل - فروي عن ربيعة وغيره - وبه قال بعض أصحابنا . وأما من قال : تقطع يده , ثم رجله من خلاف فقط , ثم لا يقطع منه شيء : فكما , نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن أبي الضحى , قال : كان علي بن أبي طالب لا يزيد في السرقة على قطع اليد والرجل - قال وكيع : و نا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة : أن علي بن أبي طالب أتي بسارق فقطع يده , ثم أتي به فقطع رجله , ثم أتي

به الثالثة , فقال : إني أستحيي أن أقطع يده , فبأي شيء يأكل , أو أقطع رجله فعلى أي شيء يعتمد ؟ فضربه وحبسه . وبه - إلى وكيع نا إسرائيل عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عابد الأزدي قال : أتي عمر بن الخطاب برجل أقطع اليد والرجل - يقال له : سدوم - فأراد أن يقطعه , فقال علي بن أبي طالب : إنما عليه قطع يده ورجله , فحبسه عمر . حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار قال : كتب نجدة بن عامر إلى ابن عباس : السارق يسرق فتقطع يده , ثم يعود فتقطع يده الأخرى , قال الله تعالى: {فاقطعوا أيديهما} قال ابن عباس : بلى , ولكن يده ورجله من خلاف , قال عمرو بن دينار : سمعته من عطاء منذ أربعين سنة.
قال أبو محمد رحمه الله: هذا إسناد في غاية الصحة , ويحتمل قول ابن عباس هذا وجهين : أحدهما - بلى , إن الله تعالى قال هذا , ولكن الواجب قطع يده ورجله - ويحتمل أيضا - بلى , إن الله تعالى قال هذا - وهو الحق - ولكن السلطان يقطع اليد والرجل , وهذا الوجه الثاني - هو الذي لا يجوز أن يحمل قول ابن عباس على غيره ألبتة ; لأنه لا يجوز أن يكون ابن عباس يحقق أن هذا قول الله تعالى ثم يخالفه ويعارضه . إذ لا يحل ترك أمر الله تعالى إلا لسنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناسخة لما في القرآن , واردة من عند الله تعالى بالوحي , إلى نبيه عليه السلام . فمن الباطل الممتنع أن يخالف قول ابن عباس قول الله تعالى برأيه , أو بتقليده لرأي أحد دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ; وهو أبعد الناس من ذلك , وقد دعاهم إلى المباهلة في " العول " وغيره . وقال في أمر متعة الحج وفسخه بعمرة : ما أراكم إلا سيخسف الله بكم الأرض أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون : قال أبو بكر , وعمر ؟ ومن المحال أن يكون عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة في ذلك ولا يذكرها , وقد أعاذه الله تعالى من ذلك . ومن المحال أن يسمعه عطاء ويفهم عنه أن عنده في قطع الرجل سنة ينبغي لها ترك القرآن , ثم يأبى عطاء من قطع الرجل في السرقة - كما ذكرنا عنه - ويتمسك بالقرآن في ذلك , ويقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} لو شاء الله تعالى أمر بالرجل . فصح يقينا أن ابن عباس لم يرد بقوله " بلى , ولكن اليد والرجل " إلا لتصحيح : قطع اليدين فقط , على حكم الله تعالى في القرآن , وأن قوله " ولكن اليد والرجل " إنما أخبر عن فعل أهل زمانه فقط . وعن الزهري , وسالم , وغيره : إنما قطع أبو بكر الصديق رجله , وكان مقطوع اليد - قال الزهري : فلم يبلغنا في السنة إلا قطع اليد والرجل , لا يزاد على ذلك . وعن إبراهيم النخعي قال كانوا يقولون : لا يترك ابن آدم مثل البهيمة , ليس له يد يأكل بها , ويستنجي بها - وهو قول حماد بن أبي سليمان , وسفيان الثوري , وأحمد بن حنبل , وأصحابهم.

قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في قول من رأى قطع يد السارق الواحدة فقط ثم لا يقطع منه شيء - وقول من رأى قطع اليد بعد اليد فقط , ولم ير قطع الرجل في ذلك أصلا : فوجدناهم يقولون : قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا". وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده". وقالت عائشة رضي الله عنها: "لم تكن الأيدي تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه". فهذا القرآن , والآثار الصحاح الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءت بقطع الأيدي , لم يأت فيها للرجل ذكر . وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}. وقد بينا أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قطع رجل السارق شيء أصلا ولو صح لقلنا به , وما تعدينا . ولم يرو في قطع الرجل شيء إلا عن أبي بكر , وعمر , وعثمان , وعلي , ويعلى بن منية . فأما الرواية عن عثمان - فلا تصح . وأما الرواية عن أبي بكر - فقد جاء عنه أنه أراد قطع الرجل الثانية في السرقة الثالثة - وهم لا يقولون بهذا . وصح عن علي - أنه لم ير قطع الرجل الثانية , ولا اليد الثانية . فصح الاختلاف عنهم في ذلك رضي الله عنهم . وما نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم , ومحمد بن أبي بكر عن أبيه , قال : أراد أبو بكر قطع الرجل بعد اليد والرجل , فقال عمر : السنة في اليد - فهذا عمر رضي الله عنه لم ير السنة إلا في اليد.
قال أبو محمد رحمه الله: فانبلج الأمر ولله الحمد . وقد روينا من طريق البخاري نا يحيى بن بكير نا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس كان يحدث: "أن رجلا أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إني رأيت الليلة" - وذكر الحديث - وأن أبا بكر - رضي الله عنه - عبر تلك الرؤيا , وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي بكر رضي الله عنه أصبت بعضا وأخطأت بعضا" فكل أحد دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطئ ويصيب. فإن قال قائل : قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" قلنا : سنة الخلفاء رضي الله عنهم هي اتباع سنته عليه السلام , وأما ما عملوه - باجتهاد فلا يجب اتباع اجتهادهم في ذلك . وقد صح عن أبي بكر , وعمر , وعثمان , وعلي , وابن الزبير , وخالد بن الوليد , وغيرهم : القود من اللطمة

والحنفيون , والمالكيون , والشافعيون , لا يقولون بذلك . وأما نحن فليس الإجماع عندنا إلا الذي تيقن أنهم أولهم عن آخرهم قالوا به , وعملوه , وصوبوه , دون سكوت من أحد منهم , ولا خلاف من أحد منهم , فهذا حقا هو الإجماع - وبالله تعالى التوفيق . فإذ إنما جاء القرآن , والسنة , بقطع يد السارق لا بقطع رجله , فلا يجوز قطع رجله أصلا , وهذا ما لا إشكال فيه - والحمد لله . فوجب من هذا إذا سرق الرجل , أو المرأة , أن يقطع من كل واحد منهما يدا واحدة , فإن سرق أحدهما ثانية قطعت يده الثانية , بالنص من القرآن , والسنة , فإن سرق في الثالثة عذر , وثقف , ومنع الناس ضره , حتى يصلح حاله - وبالله تعالى التوفيق.

صفة قطع اليد
2284 - مسألة: صفة قطع اليد:
قد ذكرنا عن علي رضي الله عنه في قطع الأصابع من اليد , وقطع نصف القدم من الرجل . وذكرنا قول عمر رضي الله عنه وغيره في قطع كل ذلك من المفصل . وأما الخوارج - فرأوا في ذلك قطع اليد من المرفق , أو المنكب ؟ قال أبو محمد رحمه الله: واحتجوا في ذلك بقول الله تعالى: {فاقطعوا أيديهما}. قالوا : واليد في لغة العرب اسم يقع على ما بين المنكب إلى طرف الأصابع , وهذا - وإن كان أيضا كما ذكرنا عنهم - فإن اليد أيضا تقع على الكف , وتقع على ما بين الأصابع إلى المرفق , فإذ ذلك كذلك فإنما يلزمنا أقل ما يقع عليه اسم يد ; لأن اليد محرمة قطعها قبل السرقة , كما جاء النص بقطع اليد , فواجب أن لا يخرج من التحريم المتيقن المتقدم شيء , إلا ما تيقن خروجه , ولا يقين إلا في الكف , فلا يجوز قطع أكثر منها . وهكذا وجدنا الله تعالى إذ أمرنا في التيمم بما أمر , إذ يقول تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}. ففسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مراد الله تعالى بذكر الأيدي هاهنا , وأنه الكفان فقط , على ما قد أوردناه . وصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفرق بين حد الحر , وبين حد العبد على ما قد ذكرناه فإذ قد نص عليه السلام على أن حد العبد بخلاف حد الحر , فهذا عموم لا ينبغي أن يخص منه شيء بغير نص , ولا إجماع . فالواجب - إن سرق العبد - أن تقطع أنامله فقط , وهو نصف اليد فقط , وإن سرق الحر قطعت يده من الكوع هو المفصل - وأما في المحاربة فتقطع يد الحر من المفصل , ورجله من المفصل , وتقطع من العبد أنامله من اليد , ونصف قدمه من الساق - كما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه نأخذ من قول كل قائل

ما وافق النص , ونترك ما لم يوافقه - وبالله تعالى التوفيق . وأما أي اليدين تقطع ؟ فإن عبد الله بن ربيع ثنا , قال : ثنا ابن مفرج ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا سحنون ثنا ابن وهب عن مخرمة بن بكير بن الأشج عن أبيه عن نافع مولى ابن عمر , قال : سرق سارق بالعراق في زمان علي بن أبي طالب , فقدم ليقطع يده , فقدم السارق يده اليسرى - ولم يشعروا - فقطعت , فأخبر علي بن أبي طالب خبره فتركه ولم يقطع يده الأخرى - وبهذا يقول مالك , وأبو حنيفة - وقال بعض أصحابنا : على متولي القطع دية اليد - وقال قائلون : تقطع اليمنى . واحتجوا أن الواجب قطع اليمنى - واحتجوا في ذلك بقراءة ابن مسعود "والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما". والقراءة غير صحيحة , وادعوا إجماعا - وهو باطل يرده قطع علي الشمال عن اليمين واكتفاؤه بذلك , فلو وجب قطع اليمين لما أجزأ عن ذلك قطع الشمال , كما لا يجزئ الاستنجاء باليمين , ولا الأكل بالشمال , ولا نص إلا وجوب قطع اليد , أو الأيدي , في الكتاب والسنة , إلا أننا نستحب قطع اليمين , للأثر عنه - عليه السلام – أنه: "كان يجب التيمن في شأنه كله".

قطع اليد فيمن جحد العارية
2285 - مسألة : قطع اليد فيمن جحد العارية:
قال أبو محمد رحمه الله: روينا من طريق مسلم نا عبد بن حميد نا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة , قالت: "كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده , فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه , فكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها". وذكر الحديث . حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين , قالت: "كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع فتجحده , فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه فكلم أسامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا أسامة , ألا أراك تكلم في حد من حدود الله , ثم قام - عليه السلام - خطيبا فقال : إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه , وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه , والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها فقطع يد المخزومية" وعن نافع عن ابن عمر قال: "كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده , فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع يدها". قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سألت أبي , فقلت له : تذهب إلى هذا الحديث ؟ فقال : لا أعلم شيئا يدفعه , وقال : تقطع يد المستعير إذا جحد ثم أقر : حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا عثمان بن عبد الله بن الحسن بن حماد نا عمرو بن هاشم أبو مالك عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم عن نافع عن

ابن عمر قال: "إن امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه , قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لتتب إلى الله ورسوله , وترد ما تأخذ على القوم , فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها".
قال أبو محمد رحمه الله: وكان من اعتراض من انتصر لهذا القول أن قال في الحديث الذي رويتم : مختلف فيه , فروى بعضهم : أن تلك المخزومية سرقت : كما روينا من طريق مسلم نا محمد بن رمح نا الليث هو ابن سعد - عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: "أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت , فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فكلمه أسامة , فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتشفع في حد من حدود الله ؟ ثم قام فاختطب , فقال : يا أيها الناس إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه , وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد , وايم الله , لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". ومن طريق مسلم نا حرملة أخبرني ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة الفتح , فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقالوا : من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكلمه فيها أسامة بن زيد - فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : أتشفع في حد من حدود الله ؟ فقال أسامة : استغفر لي يا رسول الله - فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاختطب , فأثنى على الله تعالى بما هو أهله , ثم قال : أما بعد , فإنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه , وإن سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد , والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها , ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطع يدها". فهؤلاء يرون أنها سرقت . قالوا : ومن الدليل على أنها امرأة واحدة , وقصة واحدة , وأنها سرقت وأن من روى " استعارت " قد وهم : أن في جمهور هذه الآثار أنهم استشفعوا لها بأسامة بن زيد , وأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنكر ذلك عليه , ونهاه أن يشفع في حد من حدود الله تعالى . ومن المحال أن يكون أسامة بن زيد رضي الله عنه قد نهاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يشفع في حد من حدود الله تعالى ثم يعود فيشفع في حد آخر مرة أخرى ؟ وقالوا : إن المستعير خائن , ولا قطع على خائن , لا سيما وقد نا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب قال : سمعت ابن جريج

يحدث عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على الخائن , ولا على المختلس , ولا على المنتهب : قطع". قال: وتحتمل رواية من روى أنها استعارت فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطعها: أنهم أرادوا التعريف بأنها هي التي كانت استعارت الحلي وسرقت , فقطعت للسرقة لا للعارية . قالوا : وهذا كما روي: "أفطر الحاجم والمحجوم". "ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي خلف الصف فأمره بإعادة الصلاة", قالوا : وليس من أجل الحجامة أخبر بأنهما أفطرا , لكن بغير ذلك , وليس من أجل الصلاة خلف الصف أمره بالإعادة , لكن بغير ذلك ؟ قال أبو محمد رحمه الله: هذا كل ما شغبوا به قد تقصيناه , وكل ذلك لا حجة لهم في شيء منه على ما نبين - إن شاء الله تعالى . فنقول - وبالله تعالى التوفيق : أما كلامهم في اختلاف الرواية عن الزهري فلا متعلق لهم به ; لأن معمرا , وشعيب بن أبي حمزة , روياه عن الزهري - وهما في غاية الثقة والجلالة - وكذلك أيوب بن موسى , كلهم يقولون : إنها كانت تستعير المتاع فتجحده , فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يدها , وأخبر أنه حد من حدود الله تعالى - ولم يضطرب على معمر في ذلك , ولا على شعيب بن أبي حمزة - وإن كانا خالفهما : الليث , ويونس بن أبي يزيد , وإسماعيل بن أمية , وإسحاق بن راشد . فإن الليث قد اضطرب عليه أيضا , وكذلك على يونس بن يزيد , فإن الليث , ويونس , وإسماعيل , وإسحاق ليسوا فوق معمر , وشعيب , في الحفظ , وقد وافقهما ابن أخي الزهري عن عمه . وأما تنظيرهم في ذلك بالثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قولهم: "أفطر الحاجم والمحجوم". وبأمره صلى الله عليه وسلم الذي صلى خلف الصف بإعادة الصلاة . فما زادوا على أن فضحوا أنفسهم , واستحلوا في الكذب الذي لا يستسهله مسلم ; لأنهم يقولون : إنهما أفطرا ; لأنهما كانا يغتابان الناس ؟ فقيل لهم : فمن اغتاب الناس - وهو صائم - أفطر عندكم ؟ قالوا : لا . وهذه مضاحك وشماتة الأعداء واستخفاف بأوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الكذب عليه , أن يقول عليه السلام: "أفطر الحاجم والمحجوم" فيقولون هم : لم يفطر واحد منهما . فإن قيل لهم : أتكذبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله أفطرا ؟ قالوا أفطرا بغير ذلك , وهو الغيبة . فإن قيل لهم : أتفطر الغيبة ؟ قالوا : لا. فرجعوا إلى ما فروا عنه كيدا لأهل الإسلام , ولمن اغتر بهم من الضعفاء المخاذيل . وأما حديث : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المصلي خلف الصف وحده بإعادة الصلاة , فلو لم يرو أحد عشر من الصحابة بالأسانيد الثابتة أمره صلى الله عليه وآله وسلم بإقامة الصفوف , والتراص فيها , والوعيد على خلاف ذلك : لأمكن أن يعذروا بالجهل , فكيف ولا عذر لهم ؟

لأنه لا يجوز لمسلم أن يظن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأمته: "أفطر الحاجم والمحجوم". وأمر المصلي خلف الصف وحده , بإعادة الصلاة . ثم لا يبين لهم الوجه الذي أفطرا , به , ولا الوجه الذي أمر من أجله المصلي خلف الصف , بإعادة الصلاة . فهذا طعن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يحل لمسلم أن يظن أنه - عليه السلام - أمره بالإعادة لأمر لم يبينه علينا . وأما قولهم : إن المستعير الجاحد : خائن , ولا قطع على خائن , والحديث بذلك عن جابر - وقد ذكرنا قبل فساد هذا الخبر في صدر كلامنا في قطع السارق , وأن ابن جريج لم يسمعه من أبي الزبير , وأن أبا الزبير لم يسمعه من جابر ; لأنه قد أقر على نفسه بالتدليس . فسقط التعلق بهذا الخبر - والحمد لله رب العالمين ؟ قال أبو محمد رحمه الله: فنقول - وبالله تعالى نستعين : إن رواية من روى أنها استعارت فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقطع يدها , ورواية من روى أنها سرقت فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقطع يدها : صحيحان , لا مغمز فيهما ; لأن كليهما من رواية الثقات التي تقوم بها الحجة في الدين على ما أوردنا . والعجب كله فيمن يتعلل في رد هذه السنة بهذا الاضطراب , وهم يأخذون بحديث: "لا قطع إلا في ربع دينار". وبحديث "القطع في مجن ثمنه عشرة دراهم" وهما من الاضطراب بحيث قد ذكرناه , وذلك الاضطراب أشد من الاضطراب في هذا الخبر بكثير , أو يأخذ بخبر ابن عمر: "قطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مجن ثمنه ثلاثة دراهم" وليس فيه بيان أن ذلك حد القطع , وقد عارضه مثله في الصحة من القطع في ربع دينار.
قال أبو محمد رحمه الله: فإن في هذا الوجه من الاضطراب ليس علة في شيء من الأخبار , فلنقل بعون الله تعالى : إن في هاتين الروايتين اللتين إحداهما : استعارت المتاع فجحدت فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقطعها - وفي الأخرى : أنها سرقت فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقطع يدها : لا يخلو من أن يكونا في قصتين اثنتين , في امرأتين متغايرتين , أو يكونا في قصة واحدة , في امرأة واحدة ؟ فإن كانت في قصتين , وفي امرأتين , فقد انقطع الهذر , وبطل الشغب جملة , ويكون الكلام في شفاعة أسامة فيهما جميعا , على ما قد ذكرنا - من البيان - من أنه شفع في السرقة فنهي , ثم شفع في المستعيرة وهو لا يعلم أن حد ذلك أيضا القطع . على أننا لو شئنا القطع , فإنهما امرأتان متغايرتان , وقضيتان اثنتان , لكان لنا متعلق , بخلاف دعاويهم المجردة من كل علقة , إلا من المجاهرة بالباطل , والجسر على الكذب , لكان : كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج , قال : أخبرني عكرمة بن خالد

المخزومي أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي أخبره: "أن امرأة جاءت إلى امرأة فقالت : إن فلانة تستعيرك حليا - وهي كاذبة - فأعارتها إياه , فمكثت لا ترى حليها , فجاءت التي كذبت علي فيها فسألتها حليها , فقالت : ما استعرت منك شيئا , فرجعت إلى الأخرى فسألتها حليها , فأنكرت أن تكون استعارت منها شيئا , فجاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدعاها , فقالت : والذي بعثك بالحق ما استعرت منها شيئا , فقال: "اذهبوا فخذوه من تحت فراشها , فأخذ , وأمر بها فقطعت". قال ابن جريج : وأخبرني بشر بن تميم أنها أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد . قال ابن جريج : لا آخذ غيرها , لا آخذ غيرها , قال ابن جريج : وأخبرني عمرو بن دينار قال : أخبرني الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب قال: "سرقت امرأة , فأتي بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاءه عمرو بن أبي سلمة , فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : أي إنها عمتي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها". قال عمرو بن دينار : فلم أشك حين قال حسن : قال عمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنها عمتي , إنها بنت الأسود بن عبد الأسد.
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا ابن جريج يحكي عن عمرو بن دينار : أنه لا يشك أن التي سرقت بنت الأسود بن عبد الأسد , ويخبر عن بشر التيمي أن التي استعارت هي بنت سفيان بن عبد الأسد , وهما ابنتا عم مخزوميتان , عمهما أبو سلمة بن عبد الأسد - رضي الله عنه - زوج أم سلمة - رضي الله عنها - قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ولكنا نقول - وبالله تعالى التوفيق - : هبك أنها امرأة واحدة , وقصة واحدة , فلا حجة فيها ; لأن ذكر السرقة إنما هو من لفظ بعض الرواة , لا من لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وكذلك ذكر الاستعارة , وإنما لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتها". فهذا يخرج على وجهين , يعني ذكر السرقة : أحدهما - أن يكون الراوي يرى أن الاستعارة سرقة , فيخبر عنها بلفظ السرقة . والوجه الآخر - هو أن الاستعارة , ثم الجحد سرقة صحيحة لا مجازا ; لأن المستعير إذا أتى على لسان غيره , فإنه مستخف بأخذ ما أخذ من مال غيره , يوري بالاستعارة لنفسه أو لغيره , ثم يملكه مستترا مختفيا - فهذه هي السرقة نفسها دون تكلف , فكان هذا اللفظ خارجا عما ذكرنا أحسن خروج , وكان لفظ من روى " العارية " لا يحتمل وجها آخر أصلا ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فتقطع يد المستعير الجاحد كما تقطع من السارق - سواء سواء - من الذهب في ربع دينار لا في أقل , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا". وفي غير الذهب في كل ما له قيمة - قلت أو كثرت - ; لأنه قطع في مال أخذ اختفاء لا مجاهرة . وتقطع المرأة كالرجل , لإجماع الأمة كلها على أن حكم الرجل في ذلك كحكم المرأة , ومن مسقط القطع عنها , ومن موجب القطع عليها , ولا قطع في ذلك

إلا ببينة تقوم بالأخذ , والتمليك , مع الجحد , أو الإقرار بذلك , فإن عاد مرة أخرى قطعت اليد الأخرى ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يدها - وهذا عموم ; لأن المستعير طلبه العارية مستخفيا بمذهبه في أخذه , فكان سارقا , فوجب عليه القطع - وحسبنا الله ونعم الوكيل .

في قطع الدراهم
2286 - مسألة : قطع الدراهم:
نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا أحمد بن خالد نا أبو عبيد بن محمد الكشوري نا محمد بن يوسف الحذافي نا عبد الرزاق نا داود بن قيس أخبرني خالد بن أبي ربيعة أن ابن الزبير حين قدم مكة وجد رجلا يقرض الدراهم فقطع يده . حدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب نا عبد الجبار بن عمر عن أبي عبد الرحمن التيمي , قال : كنت عند عمر بن عبد العزيز وهو إذ ذاك أمير على المدينة - فأتي برجل يقطع الدراهم - وقد شهد عليه - فضربه , وحلقه , وأمر به فطيف به وأمره أن يقول : هذا جزاء من يقطع الدراهم , ثم أمر به أن يرد إليه , فقال : أما إني لم يمنعني من أن أقطع يدك إلا أني لم أكن تقدمت في ذلك قبل اليوم , وقد تقدمت في ذلك , فمن شاء فليقطع.
قال أبو محمد رحمه الله: وروينا من طريق سعيد بن المسيب أنه قال : وددت أني رأيت الأيدي تقطع في قرض الدنانير والدراهم ؟ قال أبو محمد رحمه الله: معنى هذا : أنه كانت الدراهم يتعامل بها عددا دون وزن , فكان من عليه دراهم أو دنانير يقرض بالجلم من تدويرها , ثم يعطيها عددا , ويستفضل الذي قطع من ذلك.
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا عمل ابن الزبير - وهو صاحب - لا يعرف له مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم - والحنفيون يجعلون نزحه زمزم من زنجي وقع فيها حجة وإجماعا لا يجوز خلافه في نصر باطلهم , في أن الماء ينجسه ما وقع فيه - وإن لم يغيره - وليس في خبرهم : أن زمزم لم تكن تغيرت , ولعلها قد كانت تغيرت , ولعل الماء كان فيها قدر أقل من قلتين كما يقول الشافعي . وكيف , وقد صح أن المؤمن لا ينجس , وهم يحتجون بهذا , وإسقاطهم السنة الثابتة في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غسل ميتا فليغتسل" فهم يحتجون بأن المؤمن لا ينجس حيث لا مدخل له فيه , وليس الغسل من غسل الميت تنجيسا من الميت , ولا كرامة , بل هو طاهر - إن كان مؤمنا - لكنها شريعة , كالغسل من الإيلاج - وإن كان كلا الفرجين طاهرا - وكالغسل من الاحتلام . فإن ذكروا - ما نا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب عن ابن لهيعة عن عبد الملك بن عبد العزيز أن عبد الله بن الزبير ضرب رجلا في قطع

الدنانير والدراهم ؟ قلنا - وبالله تعالى التوفيق : هذا لا يخالفه ما ذكرنا عنه قبل ; لأن هذا ليس فيه : أنه قرض مقدار ما يجب فيه القطع , فلا يلزمه قطع . وأما نحن فلا حجة عندنا في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يأت عنه عليه السلام إيجاب القطع في قرض الدنانير , والدراهم , ولا يقع عليه اسم سارق ولا مستعير - وبالله تعالى التوفيق .

في تحريم الخمر واختلاف الناس في حد شاربها
2287 - مسألة : في تحريم الخمر واختلاف الناس في حد شاربها:
قالت طائفة: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفرض فيها حدا وإنما فرضه من بعده . وقالت طائفة : لا حد فيها أصلا ; لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفرض فيها حدا . وقالت طائفة: بل فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها حدا , ثم اختلفوا - فقالت طائفة : ثمانين , وقالت طائفة : أربعين ؟ فأما من قال : لم يوقت فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حدا , فإنهم ذكروا في ذلك : ما نا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي نا خالد بن الحارث نا سفيان الثوري نا أبو حصين قال : سمعت عمير بن سعد النخعي يقول: "سمعت علي بن أبي طالب قال : ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر , فإنه لو مات وديته , وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يسنه".
قال أبو محمد رحمه الله: هكذا ناه عبد الرحمن بن عبد الله ؟ وبه - إلى البخاري نا قتيبة بن سعيد نا عبد الوهاب بن عبد المجيد عن أيوب السختياني عن عبد الله بن أبي مليكة عن عقبة بن الحارث أنه قال : جيء بالنعيمان - أو ابن النعيمان - فأمر من كان في البيت أن يضربوه , فكنت أنا فيمن ضربوه بالنعال . وبه - إلى البخاري نا قتيبة نا أبو ضمرة نا أنس بن عياض عن يزيد بن الهادي عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال: "أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل شرب , فقال : اضربوه , قال أبو هريرة : فمنا الضارب بيده , ومنا الضارب بنعله , والضارب بثوبه , فلما انصرف قال بعض القوم : أخزاك الله , قال : لا تقولوا هذا , لا تعينوا عليه الشيطان". وبه - إلى البخاري نا مكي بن إبراهيم عن أبي الجعد عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد قال: "كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وإمرة أبي بكر , وصدرا من خلافة عمر , فنقوم إليه بأيدينا , ونعالنا , وأرديتنا , حتى كان آخر إمرة عمر , فجلد أربعين , حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين". وبه - إلى البخاري نا يحيى بن بكير ثني الليث بن سعد نا خالد بن يزيد عن سعيد بن هلال عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب: "أن رجلا على عهد

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا , وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشرب , فأتي به يوما , فأمر به فجلد , فقال رجل من القوم : اللهم العنه , ما أكثر ما يؤتى به ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا تلعنوه , فوالله ما علمته إلا يحب الله ورسوله - فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلك سنته". ثم جلد أبو بكر في الخمر أربعين , ثم جلد عمر أربعين صدرا من إمارته , ثم جلد عثمان الحدين كليهما ثمانين وأربعين , ثم أثبت معاوية الحد ثمانين .
قال أبو محمد رحمه الله: فمن تعلق بزيادة عمر - رضي الله عنه - ومن زادها معه على وجه التعزير , وجعل ذلك حدا واجبا مفترضا . فيلزمه : أن يحرق بيت بائع الخمر , ويجعل ذلك حدا مفترضا ; لأن عمر فعله - وأن ينفي شارب الخمر أيضا ويجعله حدا واجبا ; لأن عمر فعله ؟ فإن قال : قد قال عمر : لا أغرب بعده أحدا ؟ قيل : وقد جلد عمر أربعين , وستين , في الخمر , بعد أن جلد الثمانين , بأصح إسناد يمكن وجوده . ويلزمهم أن يحلقوا شارب الخمر بعد الرابعة , كما فعل عمر , فلا يحدونه أصلا , ويلزمهم أن يوجبوا جلد ثمانين أيضا - ولا بد - على من فضل عليا على أبي بكر , أو على عمر , وعلى من فضل عمر على أبي بكر ; لأن عمر وعليا , قالا ذلك , بحضرة الصحابة . ويلزمهم أن يجلد حدا واجبا كل من كذب على الله تعالى , وعلى القرآن , وإلا فقد تناقضوا بالباطل - فظهر فساد قولهم.
قال أبو محمد رحمه الله: وصح بما ذكرنا : أن القول بجلد أربعين في الخمر هو قول أبي بكر , وعمر , وعثمان , وعلي , والحسن بن علي , وعبد الله بن جعفر , بحضرة جميع الصحابة رضي الله عنهم . وبه - يقول الشافعي , وأبو سليمان , وأصحابهما - وبه نأخذ - وبالله تعالى التوفيق .
ـــــــ
وجد في هامش نسخة رقم 14 زيادة غير موجودة في بقية النسخ وهاك نصها.
قال أبو محمد رحمه الله: الخمر حرام بنص القرآن , وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وإجماع الأمة , فمن استحلها ممن سمع النص في ذلك , وعلم بالإجماع فهو كافر , مرتد , حلال الدم , والمال - فأما القرآن فقوله تعالى {إنما الخمر } إلى قوله تعالى {فاجتنبوه} فأمر تعالى باجتناب الرجس جملة وأخبر تعالى أن الخمر من الرجس , ففرض اجتنابها ; لأن أوامر الله تعالى على الفرض حتى يأتي نص آخر يبين أنه ليس فرضا . وقال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ

هل يقتل شارب الخمر بعد أن يحد فيها ثلاث مرات أم لا؟
2288 - مسألة : هل يقتل شارب الخمر بعد أن يحد فيها ثلاث مرات أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في شارب الخمر يحد فيها ثم يشربها

فيحد فيها ثانية , ثم يشربها فيحد فيها ثالثة , ثم يشربها الرابعة ؟ فقالت طائفة : يقتل - وقالت طائفة : لا يقتل . فأما من قال يقتل : فكما نا أحمد بن قاسم نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا الحارث - هو ابن أبي أسامة - نا عبد الوهاب بن عطاء أنا قرة بن خالد عن الحسن بن عبد الله بن النصري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : ائتوني برجل أقيم عليه حد في الخمر , فإن لم أقتله فأنا كاذب ؟ وقال مالك , والشافعي , وأبو حنيفة , وغيرهم : أن لا قتل عليه - وذكروا ذلك عن عمر بن الخطاب , وسعد بن أبي وقاص .
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك : فوجدنا من رأى قتله : كما نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا موسى بن إسماعيل ثنا أبو سلمة نا أبان - هو ابن يزيد العطار - عن عاصم - هو ابن أبي النجود - عن أبي صالح السمان عن معاوية بن أبي سفيان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شربوا الخمر فاجلدوهم , ثم إن شربوا فاجلدوهم , ثم إن شربوا فاقتلوهم" حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن ذكوان - هو أبو صالح السمان - عن معاوية : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شارب الخمر "إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه , ثم إن شرب الرابعة فاضربوا عنقه". حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا محمد بن رافع نا عبد الرزاق نا معمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من شرب الخمر فاجلدوه , ثم إذا شرب فاجلدوه , ثم إذا شرب فاجلدوه , ثم إذا شرب في الرابعة - ذكر كلمة معناها – فاقتلوه". حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من شرب الخمر فاجلدوه , ثم إذا شرب فاجلدوه , ثم إذا شرب فاجلدوه , ثم إذا شرب فاقتلوه". قال أبو محمد رحمه الله: فهذان طريقان في نهاية الصحة - وقد روي من طريق آخر لا يعتمد عليها , ولو ظفر ببعضها المخالفون من الحاضرين لطاروا به كل مطير : من ذلك
ـــــــ
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فنص تعالى على تحريم الإثم . وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} . فصح أن الإثم حرام وأن في الخمر إثما وأن مواقعها مواقع إثم , فهو مواقع المحرم نصا - وأما من السنة فمعلوم مشهور.
تمت هذه النسخة والحمد لله كثيرا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.

ما ناه أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا محمد بن أيوب الصموت نا أحمد بن عمر بن عبد الخالق البزار نا محمد بن يحيى القطيعي نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن جميل بن زياد عن نافع عن ابن عمر , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من شرب الخمر فاجلدوه ثلاثا , فإن عاد في الرابعة فاقتلوه". حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - أنا جرير - هو ابن عبد الحميد - عن المغيرة بن مقسم عن عبد الرحيم بن إبراهيم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ونفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من شرب الخمر فاجلدوه , ثم إن شرب فاجلدوه , ثم إن شرب فاجلدوه , ثم إن شرب فاقتلوه" حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا محمد بن يحيى بن عبد الله نا محمد بن عبد الله الرقاشي نا يزيد بن زريع عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عتبة عن عروة بن مسعود عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شرب الخمر فاجلدوه , ثم إن شرب فاجلدوه , ثم إن شرب فاجلدوه , ثم إن شرب فاقتلوه". حدثنا يونس بن عبد الله بن مغيث أنا أبو بكر بن أحمد بن خالد نا أبي نا ابن وضاح نا أبو بكر بن أبي شيبة عن شبابة بن سوار عن ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا سكر فاجلدوه , ثم إذا سكر فاجلدوه , إذا سكر فاجلدوه , ثم إن سكر فاضربوا عنقه". حدثنا أحمد بن قاسم نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير نا إبراهيم بن عبد الله أنا هشام أنا مغيرة بن معبد بن خالد عن عبد بن عبد عن معاوية رفع الحديث قال: "من شرب الخمر فاضربوه , فإن عاد فاضربوه , فإن عاد فاقتلوه". قال أحمد بن زهير : هكذا قال عبد بن عبد - وعبد بن عبد أو أبو عبد الله الجدلي - قال أحمد بن زهير : سألت يحيى بن معين عن أبي عبد الله الجدلي ؟ قال : هو فلان ابن عبد , كوفي , ثقة , من قيس , لم يحفظ يحيى اسمه.
قال أبو محمد رحمه الله: وقد روى هذا الحديث أيضا شرحبيل بن أوس , وعبد الله بن عمرو بن العاص , وأبو غطيف الكندي - كلهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال أبو محمد رحمه الله: وأقل من هذا يجعلون فيما وافقهم نقل تواتر , كقول الحنفيين في شرب النبيذ المسكر , وكاعتماد المالكيين في إبطال السنن الثابتة في التوقيت في المسح على رواية أبي عبد الله الجدلي , وغير ذلك لهم كثير.
قال أبو محمد رحمه الله: فكانت الرواية في ذلك عن معاوية , وأبي هريرة

ثابتة , تقوم بها الحجة - وبالله تعالى التوفيق . فنظرنا فيما احتج به المخالفون , فوجدناهم يقولون : إن هذا الخبر منسوخ - وذكروا في ذلك : ما نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد نا عمي - هو يعقوب بن سعد - نا شريك عن محمد بن إسحاق عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا شرب الرجل فاجلدوه , فإن عاد فاجلدوه , فإن عاد فاجلدوه , فإن عاد الرابعة فاقتلوه , فأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برجل منا فلم يقتله". حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا محمد بن موسى نا زياد بن عبد الله البكائي ثني محمد بن إسحاق عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شرب الخمر فاضربوه , فإن عاد فاضربوه , فإن عاد فاضربوه , فإن عاد في الرابعة فاضربوا عنقه - فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيمان أربع مرات". فرأى المسلمون أن الحد قد رفع , وأن القتل قد رفع : حدثنا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا إسماعيل بن إسحاق نا أبو ثابت نا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد أخبرني ابن شهاب أن قبيصة بن ذؤيب حدثه أنه بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لشارب الخمر: "إن شرب فاجلدوه , ثم إن شرب فاجلدوه , ثم إن شرب فاجلدوه , ثم إن شرب فاقتلوه - فأتي برجل قد شرب ثلاث مرات , فجلده , ثم أتي به في الرابعة فجلده - ووضع القتل عن الناس". قال محمد بن عبد الملك : قد نا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي نا سعيد بن أبي مريم أنا سفيان بن عيينة قال : سمعت ابن شهاب يقول لمنصور بن المعتمر من وافد أهل العراق بهذا الخبر - يعني حديث قبيصة بن ذؤيب هذا . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد الفربري نا البخاري نا يحيى بن بكير ثني الليث ثني خالد بن يزيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب: "أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان اسمه عبد الله , وكان يلقب حمارا , وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد جلده في الشرب , فأتي به يوما فأمر به فجلد , فقال رجل من القوم : اللهم العنه , ما أكثر ما يؤتى به ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تلعنوه , فوالله ما علمته إلا يحب الله ويحب رسوله". وذكروا الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان , أو زنى بعد إحصان , أو نفس بنفس" فلا يجوز أن يقتل أحد لم يذكر في هذا الخبر.

قال أبو محمد رحمه الله: فلو أن المالكيين , والحنفيين , والشافعيين , احتجوا على أنفسهم بهذا الخبر في قتلهم من لم يبح الله تعالى قتله قط , ولا رسوله - عليه السلام : كقتل المالكيين بدعوى المريض , وقسامة اثنين في ذلك وقتلهم - والشافعيين من فعل فعل قوم لوط , ومن أقر بفرض صلاة وقال : لا أصلي . وكقتل الحنفيين , والمالكيين , الساحر . وكل هؤلاء لم يكفر , ولا زنى وهو محصن , ولا قتل نفسا . فهذا كله نقض احتجاجهم في قتل شارب الخمر في الرابعة , بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟
قال أبو محمد رحمه الله: هذا كل ما احتجوا به . وذكروا عن الصحابة : ما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن محمد بن راشد عن عبد الكريم بن أبي أمية بن أبي المخارق عن قبيصة بن ذؤيب أن عمر بن الخطاب جلد أبا محجن في الخمر ثماني مرات - وروي نحو ذلك عن سعيد أيضا - وكل ذلك لا حجة لهم فيه , على ما نبين إن شاء الله تعالى . أما حديث جابر بن عبد الله في نسخ الثابت من الأمر بقتل شارب الخمر في الرابعة فإنه لا يصح ; لأنه لم يروه عن ابن المنكدر أحد متصلا , إلا شريك القاضي , وزياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق عن ابن المنكدر - وهما ضعيفان . وأما حديث قبيصة بن ذؤيب فمنقطع , ولا حجة في منقطع . وأما حديث زيد بن أسلم الذي من طريق معمر عنه فمنقطع - ثم لو صح لما كانت فيه حجة ; لأنه ليس فيه , أن ذلك كان بعد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل , فإذ ليس ذلك فيه فاليقين الثابت لا يحل تركه للضعيف الذي لا يصح , ولو صح لكان ظنا - فسقط التعلق به جملة . ولو أن إنسانا يجلده النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر ثلاث مرات قبل أن يأمر بقتله في الرابعة , لكان مقتضى أمره صلى الله عليه وسلم استئناف جلده بعد ذلك ثلاث مرات ولا بد ; لأنه - عليه السلام - حين لفظ بالحديث المذكور أمر في المستأنف بضربه إن شرب , ثم بضربه إن شرب ثانية , ثم بضربه ثالثة , ثم بقتله رابعة - هذا نص حديثه وكلامه - عليه السلام . فإنما كان يكون حجة لو بين فيه أنه أتي به أربع مرات بعد أمره - عليه السلام - بقتله في الرابعة , وهكذا القول - سواء سواء - في حديث عمر الذي من طريق سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم.
قال أبو محمد رحمه الله: فأما نحن فنقول - وبالله تعالى التوفيق : إن الواجب ضم أوامر الله تعالى , وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم كلها بعضها إلى بعض , والانقياد إلى جميعها , والأخذ بها , وأن لا يقال في شيء منها : هذا منسوخ إلا بيقين . برهان ذلك : قول الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} . فصح أن كل ما أمر الله تعالى به , أو رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ففرض علينا الأخذ به , والطاعة له , ومن ادعى في شيء من ذلك نسخا , فقوله مطرح

لأنه يقول لنا : لا تطيعوا هذا الأمر من الله تعالى , ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم فواجب علينا عصيان من أمر بذلك , إلا أن يأتي نص جلي بين يشهد بأن هذا الأمر منسوخ , أو إجماع على ذلك , أو بتاريخ ثابت مبين أن أحدهما ناسخ للآخر . وأما نحن - فإن قولنا : هو أن الله تعالى قد تكفل بحفظ دينه وأكمله , ونهانا عن اتباع الظن , فلا يجوز ألبتة أن يرد نصان يمكن تخصيص أحدهما من الآخر , وضمه إليه , إلا وهو مراد الله تعالى منهما بيقين , وأنه لا نسخ في ذلك بلا شك أصلا - ولو كان في ذلك نسخ لبينه الله تعالى بيانا جليا , ولما تركه ملتبسا مشكلا , حاش لله من هذا ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فلم يبق إلا أن يرد نصان ممكن أن يكون أحدهما مخصوصا من الآخر ; لأنه أقل معان منه , وقد يمكن أن يكون منسوخا بالأعم , ويكون البيان قد جاء بأن الأخص قبل الأعم بلا شك - فهذا إن وجد فالحكم فيه النسخ ولا بد , حتى يجيء نص آخر أو إجماع متيقن على أنه مخصوص من العام الذي جاء بعده . برهان ذلك : أن الله تعالى قال في كتابه: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}. وقال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} والبيان - بلا شك - هو ما اقتضاه ظاهر اللفظ الوارد , ما لم يأت نص آخر , أو إجماع متيقن على نقله عن ظاهره , فإذا اختلف الصحابة فالواجب الرد إلى ما افترض الله تعالى الرد إليه , إذ يقول {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية . وقد صح أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله في الرابعة , ولم يصح نسخه , ولو صح لقلنا به - ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

حكم الخليطين من الأشربة
2289 - مسألة : الخليطين:
قد ذكرنا " فيما يحل ويحرم من الأشربة " أن التمر والرطب , والزهو والبسر , والزبيب , هذه الخمسة - خاصة دون سائر الأشياء - يحل أن ينبذ كل واحد منها على انفراده , ولا يحل أن ينبذ شيء منها مع شيء آخر - لا منها ولا من سائرها - في العالم . وأنه لا يحل أن يخلط نبيذ شيء - بعد طيبه أو قبل طيبه - لا بشيء آخر ولا بنبيذ شيء آخر - لا منها ولا من غيرها - أصلا , وأما ما عدا هذه الخمسة فجائز أن ينبذ منها الشيئان والأكثر معا , وأن يخلط نبيذ اثنين منها فصاعدا أو عصير اثنين فصاعدا , وبينا السنن الواردة في ذلك , فمن شرب من الخليطين المحرمين مما ذكرنا شيئا لا يسكر فقد شرب حراما كالدم , والبول , ولا حد في ذلك ; لأنه لم يشرب خمرا , ولا حد إلا في الخمر . لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ومن شرب الخمر فاجلدوه" وللآثار الثابتة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جلد في الخمر , ولقوله عليه السلام: "كل مسكر خمر" فإن لم يكن خمرا فلا حد فيه , وإنما فيه التعزير فقط ; لأنه أتى منكرا . وأما كل خليطين مما ذكرنا من غير ذلك إذا أسكر فهو خمر , وعلى شاربه حد الخمر , لما ذكرنا - وبالله تعالى التوفيق .

متى يحد السكران
2290 - مسألة : متى يحد السكران؟ أبعد صحوه أم في حال سكره:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا : فروي عن عمر بن عبد العزيز والشعبي , أنهما قالا : لا يحد حتى يصحو , وبه - قال سفيان الثوري , وأبو حنيفة . وقالت طائفة : يجلد حين يؤخذ . وما نعلم لمن قال : يؤخر حتى يصحو إلا أن قالوا : إن الجلد تنكيل وإيلام , والسكران لا يعقل ذلك.
قال أبو محمد رحمه الله: واحتج من رأى أن الحد حين يؤخذ بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق عتبة بن الحارث , وأنس بن مالك , وغيرهم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بالشارب فأقر , فضربه ولم ينتظر أن يصحو". والنظر لا يدخل على الخبر الثابت , فالواجب أن يحد حين يؤتى به , إلا أن يكون لا يحس أصلا , ولا يفهم شيئا , فيؤخر حتى يحس - وبالله تعالى التوفيق .

حكم من جالس شراب الخمر
2291 - مسألة : فيمن جالس شراب الخمر , أو دفع ابنه إلى كافر فسقاه خمرا:
قال أبو محمد رحمه الله: نا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن البصري : أن ابن عامر قال : لا أوتى برجل دفع ابنه إلى يهودي , أو نصراني , فسقاه خمرا إلا جلدت أباه الحد . وبه - إلى حماد بن سلمة أنا هشام بن عروة عن أبيه أن مروان بن الحكم أتي برجل صائم دعا قوما فسقاهم الخمر - ولم يشرب معهم - فجلدوا الحد , وجلده معهم ؟
قال أبو محمد رحمه الله: ليس هذا مما يعبأ به , وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام". وقد بينا - أن لا حد إلا على زان , أو مرتد , أو محارب , وقاذف , أو سارق , أو مستعير جاحد , أو شارب خمر . وأما من سقى غيره الخمر فلا حد عليه ; لأن بشرته حرام , ولم يأت بإباحتها بإيجاب الحد عليه , لا قرآن , ولا سنة صحيحة , ولا سقيمة , ولا إجماع , ولا قول صاحب ؟
قال أبو محمد رحمه الله: لقد يلزم من رأى القود بالقتل على الممسك إنسانا حتى قتل ظلما , ومن رأى الحد في التعريض قياسا على القذف , ومن رأى الحد على فاعل فعل قوم لوط قياسا على الزنى : أن يرى الحد على ساقي القوم الخمر قياسا على شاربها - وإلا فقد تناقضوا في قياسهم - وبالله تعالى التوفيق .

حكم من اضطر الى شرب الخمر
2292 - مسألة : من اضطر إلى شرب الخمر:
قال أبو محمد رحمه الله:

حد الذمي في الخمر
2293 - مسألة : حد الذمي في الخمر:
قال أبو محمد رحمه الله: قد بينا في مواضع جمة مقدار الحكم على أهل الذمة كالحكم على أهل الإسلام . لقول الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه}. ولقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}. قال الحسن بن زياد : لا حد على الذمي إلا أن يسكر , فإن سكر فعليه الحد ؟ قال أبو محمد رحمه الله: وهذا تقسيم لا وجه له ; لأنه لم يوجبه قرآن , ولا سنة , ولا إجماع - وبالله تعالى التوفيق .

يجوز بيع العصير ممن لا يوقن أنه يبقيه حتى يصير خمرا
ً
...
2294 - مسألة: جائز بيع العصير ممن لا يوقن أنه يبقيه حتى يصير خمرا:
قال أبو محمد رحمه الله: جائز بيع العصير ممن لا يوقن أنه يبقيه حتى يصير خمرا , فإن تيقن أنه يجعله خمرا لم يحل بيعه منه أصلا وفسخ البيع . لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وبيقين ندري أنه من باع العنب , أو التين , أو الخمر ممن يتخذه خمرا , فقد أعانه على الإثم والعدوان - وهذا محرم بنص القرآن , وإذ هو محرم فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
قال أبو محمد رحمه الله: ومن كسر إناء خمر , أو شق زق خمر , ضمنه ; لأنه لم يصح في ذلك أثر , وأموال الناس محرمة , وقد يغسل الإناء ويستعمل فيما يحل , فإفساده إفساد للمال . فإن قيل : إن أبا طلحة : وجماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - كسروا خوابي الخمر ؟ قلنا : لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس في ذلك

مسائل التعزير ومالا حد فيه
بيان أنه لا حد لله تعالى ولا لرسوله الا في سبعة أشياء
مسائل التعزير وما لا حد فيه
2295 - مسألة: إنه لا حد لله تعالى محدود ولا لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلا في سبعة أشياء:
قال أبو محمد رحمه الله: فقد قلنا : إنه لا حد لله تعالى محدود ولا لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلا في سبعة أشياء , وهي : الردة , والحرابة قبل أن يقدر عليه , والزنى , والقذف بالزنى , وشرب المسكر - سكر أو لم يسكر - والسرقة , وجحد العارية . وأما سائر المعاصي - فإن فيها التعزير فقط - وهو الأدب - ومن جملة ذلك أشياء , رأى فيها قوم من المتقدمين حدا واجبا نذكرها - إن شاء الله تعالى - ونذكر حجة من رأى فيها الحد وحجة من لم يره ليلوح الحق في ذلك - بعون الله تعالى - كما فعلنا في سائر كتابنا : وتلك الأشياء : السكر , والقذف بالخمر , والتعريض , وشرب الدم , وأكل الخنزير , والميتة , وفعل قوم لوط , وإتيان البهيمة , والمرأة تستنكح البهيمة , والقذف بالبهيمة , وسحق النساء , وترك الصلاة غير جاحد لها , والفطر في رمضان كذلك , والسحر . ونحن إن شاء الله تعالى ذاكرون كل ذلك بابا بابا .

حد السكر وكلام الامام أبي حنيفة في شرب نقيع الزبيب والتمر وعصير العنب
2296 - مسألة: السكر:
قال أبو محمد: أباح أبو حنيفة شرب نقيع الزبيب إذا طبخ , وشرب نقيع التمر إذا طبخ , وشرب عصير العنب إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه - وإن أسكر كل ذلك - فهو عنده حلال , ولا حد فيه ما لم يشرب منه القدر الذي يسكر - وإن سكر من شيء من ذلك فعليه الحد . وإن شرب نبيذ تين مسكر , أو نقيع عسل مسكر , أو عصير تفاح مسكر , أو شراب قمح , أو شعير , أو ذرة مسكر : فسكر من كل ذلك , أو لم يسكر , فلا حد في ذلك أصلا.
قال أبو محمد رحمه الله: وهم يقولون : إن الحدود لا تؤخذ قياسا أصلا ؟ فنقول

شرب الدم وأكل الخنزير والميتة
2297- مسألة : شرب الدم , وأكل الخنزير , والميتة:
قال أبو محمد رحمه الله: أنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج , قلت لعطاء : رجل وجد يأكل لحم الخنزير , وقال : اشتهيته - أو مرت به بدنة فنحرها , وقد علم أنها بدنة - أو امرأة أفطرت في رمضان - أو أصاب امرأته حائضا - أو قتل صيدا في الحرم متعمدا - أو شرب خمرا فترك بعض الصلاة فذكر جملة ؟ فقال عطاء : ما كان الله نسيا , لو شاء لجعل ذلك شيئا يسميه , ما سمعت في ذلك بشيء - ثم رجع إلى أن قال : إذا فعل ذلك مرة ليس عليه شيء , وإذا عاود ذلك : فلينكل - وذكر الذي قبل امرأته , والذي أصاب أهله في رمضان . وبه - إلى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة , قال : إذا أكل لحم الخنزير , ثم عرضت له التوبة , فإن تاب وإلا قتل . به - إلى معمر عن الزهري في رجل أفطر في رمضان , فقال : إذا كان فاسقا من الفساق : نكل نكالا موجعا , ويكفر أيضا - وإن كان فعل ذلك انتحالا لدين غير الإسلام , عرضت عليه التوبة . وبه - إلى عبد الرزاق عن سفيان الثوري في أكل لحم الخنزير في كل ذلك : حد كحد الخمر . والذي نعرفه من قول أبي حنيفة , ومالك , والشافعي , وأصحابهم , وأصحابنا : أنه يعزر فقط . فهذه في الخنزير خمسة أقوال : قول فيه : الحد كحد الخمر - وقول فيه : أنه لا شيء فيه أصلا - وهو قول سفيان الثوري - وأول قولي عطاء - والثالث : أنه يستتاب , فإن تاب وإلا قتل - وهو قول قتادة والرابع : أنه لا شيء عليه في أول مرة , فإن عاد عزر . وقولة خامسة : أنه يعزر ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا فيما يحتج به من رأى أن في ذلك حدا ؟ فلم نجد لهم شيئا إلا القياس , فلما كانت الخمر مطعومة محرمة , فيها حد محدود : وجب أن يكون كل مطعوم محرم , فيه حد محدود كالخمر , قياسا عليها - وهذا أصح قياس . في العالم إن صح قياس يوما ما . وطائفة قالت : لم يفرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الصحابة أجمعت على فرضه فصار واجبا بالإجماع . وطائفة قالت : إنما فرضت قياسا على حد القذف ; لأنها تؤدي إلى السكر , فيكون فيه القذف . فأما الفرقة التي قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض حد الخمر , فمن أصلهم أن يقاس المسكوت عنه على المنصوص عليه , وهؤلاء يقيسون مس الدبر على مس الذكر ; لأن كليهما عندهم فرج ؟

ولا يشك ذو حس سليم أنه لو صح القياس , فإن قياس شرب الدم , وأكل الخنزير , والميتة , على شرب الخمر أصح من قياس الدبر على الذكر ؟ وكلهم يقيسون حكم ماء الورد , والعسل , تموت فيه الفأرة , أو القطاة , فلا تغير منه لونا ولا طعما ولا ريحا , على السمن تموت فيه الفأرة - وقياس الخنزير , والدم , والميتة , على الخمر أصح من كل قياس لهم , ولو صح يوما ما . وأما القطاة فليست كالفأرة ; لأن القطاة تؤكل , والفأرة لا تؤكل , والقطاة تجزي في الحل والإحرام , ولا يحل قتلها هنالك - والفأرة لا تجزي , ويحل قتلها هنالك . وكذلك ماء الورد والعسل , ليس كالسمن ; لأن العسل عند بعضهم فيه الزكاة , والسمن لا زكاة فيه , وماء الورد لا ربا فيه عند بعضهم , والسمن فيه الربا عند جميعهم - فظهر تركهم القياس الذي به يحتجون , وأنهم لا يحسنونه , ولا يطردونه . وأما الطائفة التي تقول : إن الصحابة رضي الله عنهم فرضوا حد الخمر , والقياس أيضا لازم لهم , كما لزم الطائفة المذكورة . وأما الطائفة التي قالت : إن حد الخمر إنما فرض قياسا على حد القذف , والقياس لهؤلاء ألزم ; لأنه كما جاز أن يفرض حد الخمر قياسا على حد القذف , فكذلك يفرض حد أكل الخنزير , والميتة , وشرب الدم , قياسا على حد الخمر - وجمهورهم يجيزون القياس على المقيس . فوضح ما قلناه من فساد أقوالهم . ثم نظرنا في قول من قال : يستتاب , فإن تاب وإلا قتل , فوجدناه قد حكم له بحكم الردة عنده - وهذا خطأ ; لأنه قول بلا برهان , ولا يجوز أن يحكم على مسلم بالكفر من أجل معصية أتى بها إلا أن يأتي نص صحيح , أو إجماع متيقن , على أنه يكون بذلك كافرا , وأن ذلك الفعل كفر , وليس معنا نص , ولا إجماع , على أن آكل الخنزير , والميتة , والدم غير مستحل لذلك : كافر , ولكنه عاص , مذنب , فاسق , إلا أن يفعل ذلك مستحلا له , فيكون كافرا حينئذ ; لأن معاندة ما صح الإجماع عليه من نصوص القرآن , وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر لا خلاف فيه - فسقط هذا القول لما ذكرنا , ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة , فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام , وحسابهم على الله".

حكم تارك الصلاة حتى يخرج وقتها
2298 - مسألة : تارك الصلاة عمدا حتى يخرج وقتها:
قال أبو محمد رحمه الله: ذهب مالك , والشافعي إلى أن من قال : الصلاة حق فرض إلا أني لا أريد أن أصلي - فإنه يتأنى به حتى يخرج وقت الصلاة , ثم يقتل - وقال أبو حنيفة وأبو سليمان , وأصحابهما : لا قتل عليه , لكن يعزر حتى يصلي ؟
قال أبو محمد رحمه الله: أما مالك , والشافعي , فإنهما يريان تارك الصلاة الذي ذكرنا مسلما ; لأنهما يورثان ماله ولده , ويصليان عليه , ويدفنانه مع المسلمين , ولا يفرقان بينه وبين

امرأته , وينفذان وصيته , ويورثانه من مات قبله من ورثته من المسلمين , فإذ ذلك كذلك فقد سقط قولهما في قتله ; لأنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان , أو زنى بعد إحصان , أو نفس بنفس وتارك الصلاة متعمدا - كما ذكرنا - لا يخلو من أن يكون بذلك كافرا , أو يكون غير كافر - فإن كان كافرا , فهم لا يقولون بذلك ; لأنهم لو قالوه للزمهم أن يلزموه حكم المرتد في التفريق بينه وبين امرأته , وفي سائر أحكامه - فإذ ليس كافرا , ولا قاتلا , ولا زانيا محصنا , ولا محاربا , ولا محدودا في الخمر ثلاث مرات , فدمه حرام بالنص , فسقط قولهم بيقين لا إشكال فيه - والحمد لله رب العالمين . فإن احتجوا بالخبر الثابت الذي ذكرناه آنفا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" . وبقول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}. قالوا : ولا يجوز تخلية من لم يصل , ولم يزك . وذكروا ما روينا من طريق مسلم نا هداب بن خالد نا همام بن يحيى نا قتادة عن الحسن عن ضبة بن محصن عن أم سلمة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون , فمن عرف برئ ومن أنكر سلم , قال : فمن رضي وتابع , قالوا : أفلا نقاتلهم ؟ قال : لا , ما صلوا". ومن طريق مسلم نا داود بن رشيد نا الوليد بن مسلم نا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أخبرني مولى بني فزارة زريق بن حيان أنه سمع سليم بن قرظة ابن عم عوف بن مالك الأشجعي يقول سمعت عوف بن مالك يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم , وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم , قلنا : يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك ؟ قال : لا , ما أقاموا فيكم الصلاة , لا , ما أقاموا فيكم الصلاة" وذكر باقي الخبر . والحديثين اللذين فيهما "نهيت عن قتل المصلين فأولئك الذين نهاني الله عن قتلهم" و " لا لعله يكون يصلي " . ومن طريق مسلم نا قتيبة نا عبد الواحد - هو ابن زياد - عن عمارة بن القعقاع نا عبد الرحمن بن أبي النعم قال : سمعت أبا سعيد الخدري يقول: "بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها وذكر الحديث - وفيه فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين , ناشز الجبهة , كث اللحية , محلوق الرأس مشمر الإزار فقال : يا رسول الله اتق الله , فقال : ويلك , ألست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ؟

قال : ثم ولى الرجل , فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ قال : لعله يكون يصلي".
قال أبو محمد رحمه الله: ومن طريق مسلم نا هناد بن السري نا أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري قال: "بعث علي بن أبي طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهبية في تربتها فذكر الخبر . وفيه فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس , فقال : اتق الله يا محمد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن يطع الله إن لم أطعه ؟ أيأمنني على أهل الأرض , ولا تأمنني - ثم أدبر الرجل , فاستأذن رجل من القوم في قتله - يرون أنه خالد بن الوليد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من ضئضئ هذا قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم , يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان , يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية , لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد".
قال أبو محمد رحمه الله: فأخبر عليه السلام أنه يقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله , ويقيموا الصلاة , ويؤتوا الزكاة , فإذا فعلوا ذلك حرمت دماؤهم . فصح أنهم إن لم يفعلوا ذلك حلت دماؤهم , ونهى عن قتل الأئمة ما صلوا . فصح أنهم إن لم يصلوا قوتلوا . وصح أن القتل بالصلاة حرام , فوجب أنه بغير الصلاة حلال . وصح أنه نهى عن قتل المصلين . فصح أنه لم ينه عن قتل غير المصلين - ما نعلم لهم حجة في إباحة قتل من لا يصلي غير هذا - وكله لا حجة لهم فيه , على ما نبين إن شاء الله تعالى : أما الآية - فإن نصها قتال المشركين حتى يقيموا الصلاة , ويؤتوا الزكاة . ولا يختلف اثنان من الأمة في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يدعو المشركين إلى الإيمان حتى مات - إلى رضوان الله تعالى وكرامته - وأنه في كل ذلك لم يثقف من أجابه إلى الإسلام حتى يأتي وقت صلاة فيصلي , ثم حتى يحول الحول فيزكي , ثم يطلقه - هذا ما لا يقدر أحد على دفعه . وأما الأحاديث في ذلك : فأما حديث أم سلمة , وعوف بن مالك - رضي الله عنهما - فلا حجة لهم في ذلك , فإنه ليس فيه إلا المنع من قتل الولاة ما صلوا ولسنا معهم في مسألة القتال , وإنما نحن معهم في مسألة القتل صبرا وليس كل من جاز قتله إذا قدر عليه قتل - قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلى قوله تعالى : {المقسطين} فأمر الله تعالى بقتال البغاة من المؤمنين إلى أن يفيئوا , ثم حرم قتلهم إذا فاءوا . وهكذا كل من منع حقا من أي حق كان - ولو أنه فلس - وجب عليه لله تعالى , أو لآدمي , وامتنع دون أدائه فإنه قد حل قتاله ; لأنه باغ على أخيه , وباغ في الدين . وكذلك كل من امتنع من عمل لله تعالى لزمه وامتنع دونه , ولا فرق , فإذا قدر عليهم أجبروا على أداء ما عليهم بالتعزير والسجن . كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن أتى منكرا

فلا يزال يؤدب حتى يؤدي ما عليه أو يموت - غير مقصود إلى قتله - وحرمت دماؤهم بالنص والإجماع , وتارك الصلاة الممتنع منها واحد من هؤلاء , إن امتنع قوتل , وإن لم يمتنع لم يحل قتله ; لأنه لم يوجب ذلك نص ولا إجماع , بل يؤدب حتى يؤديها أو يموت كما قلنا - غير مقصود إلى قتله - ولا فرق . فصح أن هذين الحديثين - حديث أم سلمة , وحديث عوف - إنما هو في باب القتال للأئمة , لا في باب القتل المقدور عليه لا يصلي . وأما حديث أبي سعيد الخدري "لعله يصلي" فإنما فيه المنع من قتل من يصلي , وليس فيه قتل من لا يصلي أصلا , بل هو مسكوت عنه , وإذا سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم فلا يحل لأحد أن يقوله عليه السلام ما لم يقل , فيكذب عليه , ويخبر عن مراده بما لا علم له به فيتبوأ مقعده من النار ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وأما "نهيت عن قتل المصلين" و " أولئك الذين نهاني الله عنهم " فنعم , لا يحل قتل مصل إلا بنص وارد في قتله , وليس فيه ذكر لقتل من ليس مصليا إذا أقر بالصلاة , أصلا . وقد قلنا : إنه لا يحل لأحد أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل . ويقال لمن جسر على هذا : أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الذي تقول ؟ فإن قال : نعم , كذب جهارا , وإن قال : لم يقل , لكنه دل عليه ؟ قيل له : أين دليلك على ذلك ؟ فلا سبيل له إلى دليل أصلا , إلا ظنه الكاذب - فلم يبق لهم دليل أصلا , لا من قرآن , ولا من سنة ولا من إجماع , ولا قول صاحب , ولا قياس , ولا رأي صحيح - وما كان هكذا من الأقوال فهو خطأ بلا شك ؟ قال أبو محمد رحمه الله: وهذا الكلام كله إنما هو مع من قال بقتله , وهو عنده غير كافر - وأما من قال بتكفيره بترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها , فليس هذا مكان الكلام فيه معهم , فسيقع الكلام في ذلك متقصى في " كتاب الإيمان " من الجامع إن شاء الله عز وجل ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فإذ قد بطل هذا القول فإنا نقول - وبالله تعالى التوفيق - : إنه قد صح - على ما ذكرنا - في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع" فكان هذا أمرا بالأدب على من أتى منكرا - والامتناع من الصلاة , ومن الطهارة من غسل الجنابة , ومن صيام رمضان , ومن الزكاة , ومن الحج , ومن أداء جميع الفرائض كلها ومن كل حق لآدمي - بأي وجه كان - كل ذلك منكر , بلا شك وبلا خلاف من أحد من الأمة ; لأن كل ذلك حرام , والحرام منكر بيقين . فصح بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إباحة ضرب كل من ذكرنا باليد . وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن

لا يضرب في التعزير أكثر من عشرة على ما نورد في " باب كم يكون التعزير " إن شاء الله تعالى . فإذ ذلك كذلك فواجب أن يضرب كل من ذكرنا عشر جلدات فإن أدى ما عليه من صلاة أو غيرها , فقد برئ ولا شيء عليه , وإن تمادى على الامتناع فقد أحدث منكرا آخر بالامتناع الآخر , فيجلد أيضا عشرا - وهكذا أبدا , حتى يؤدي الحق الذي عليه لله تعالى أو يموت - غير مقصود إلى قتله - ولا يرفع عنه الضرب أصلا حتى يخرج وقت الصلاة وتدخل أخرى فيضرب ليصلي التي دخل وقتها , وهكذا أبدا إلى نصف الليل , فإذا خرج وقت العتمة ترك ; لأنه لا يقدر على صلاة ما خرج وقتها - ثم يجدد عليه الضرب إذا دخل وقت صلاة الفجر حتى يخرج وقتها - ثم يترك إلى أول الظهر , ويتولى ضربه من قد صلى , فإذا صلى غيره خرج هذا إلى الصلاة ويتولى الآخر ضربه - وبالله تعالى التوفيق - حتى يترك المنكر الذي يحدث أو يموت , فالحق قتله , وهو مسلم مع ذلك - وبالله تعالى التوفيق .

حكم من فعل فعل قوم لوط
2299 - مسألة : فعل قوم لوط:
قال أبو محمد رحمه الله: فعل قوم لوط من الكبائر الفواحش المحرمة : كلحم الخنزير , والميتة , والدم , والخمر , والزنى , وسائر المعاصي , من أحله أو أحل شيئا مما ذكرنا فهو كافر , مشرك حلال الدم والمال . وإنما اختلف الناس في الواجب عليه : فقالت طائفة : يحرق بالنار الأعلى والأسفل وقالت طائفة : يحمل الأعلى والأسفل إلى أعلى جبل بقرية - فيصب منه , ويتبع بالحجارة . وقالت طائفة : يرجم الأعلى والأسفل - سواء أحصنا أو لم يحصنا . وقالت طائفة : يقتلان جميعا . وقالت طائفة : أما الأسفل فيرجم - أحصن أم لم يحصن - وأما الأعلى فإن أحصن رجم , وإن لم يحصن جلد جلد الزنى . وقالت طائفة : الأعلى والأسفل كلاهما سواء - أيهما أحصن رجم , وأيهما لم يحصن جلد مائة , كالزنى . وقالت طائفة : لا حد عليهما ولا قتل , لكن يعزران . فالقول الأول - كما نا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب أخبرني ابن سمعان عن رجل أخبره قال : جاء ناس إلى خالد بن الوليد فأخبروه عن رجل منهم أنه ينكح كما توطأ المرأة , وقد أحصن ؟ فقال أبو بكر : عليه الرجم - وتابعه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من قوله : فقال علي : يا أمير المؤمنين إن العرب تأنف من عار المثل وشهرته , أنفا لا تأنفه من الحدود التي تمضي في الأحكام فأرى أن تحرقه بالنار ؟ فقال أبو بكر : صدق أبو الحسن وكتب إلى خالد بن الوليد : أن أحرقه بالنار ؟ ففعل . قال ابن وهب : لا أرى خالدا أحرقه بالنار إلا بعد أن قتله , لأن النار لا يعذب بها إلا الله تعالى . قال ابن حبيب من أحرق بالنار فاعل فعل قوم لوط لم يخطئ . وعن

ابن حبيب : نا مطرف بن عبد الله بن عبد العزيز بن أبي حازم عن محمد بن المنكدر , وموسى بن عقبة وصفوان بن سليم : أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق : أنه وجد في بعض سواحل البحر رجلا ينكح كما تنكح المرأة , وقامت عليه بذلك البينة , فاستشار أبو بكر في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أشدهم فيه يومئذ قولا علي بن أبي طالب قال : إن هذا ذنب لم يعص به من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم , أرى أن تحرقهما بالنار , فاجتمع رأي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار ؟ فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن أحرقه بالنار - ثم حرقهما ابن الزبير في زمانه - ثم حرقهما هشام بن عبد الملك - ثم حرقهما القسري بالعراق . حدثنا إسماعيل بن دليم الحضرمي قاضي ميورقة قال : نا محمد بن أحمد بن الخلاص نا محمد بن القاسم بن شعبان ني محمد بن إسماعيل بن أسلم نا محمد بن داود بن أبي ناجية نا يحيى بن بكير عن عبد العزيز بن أبي حازم عن داود بن أبي بكر , ومحمد بن المنكدر , وموسى بن عقبة , وصفوان بن سليم : أنه وجد في بعض ضواحي البحر رجلا ينكح كما تنكح المرأة - قال أبو إسحاق : كان اسمه الفجاءة - فاستشار أبو بكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر مثل حديث عبد الملك الذي ذكرنا حرفا حرفا نصا سواء . وأما من قال يصعد به إلى أعلى جبل في القرية : فكما نا أحمد بن إسماعيل بن دليم نا محمد بن أحمد بن الخلاص نا محمد بن القاسم بن شعبان نا أحمد بن سلمة بن الضحاك عن إسماعيل بن محمود بن نعيم نا معاذ نا عبد الرحمن نا حسان بن مطر نا يزيد بن مسلمة عن أبي نضرة عن ابن عباس سئل عن حد اللوطي فقال : يصعد به إلى أعلى جبل في القرية ثم يلقى منكسا ثم يتبع بالحجارة . وأما من قال : يرجم الأعلى والأسفل أحصنا أو لم يحصنا : فكما نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا ابن أبي ليلى عن القاسم بن الوليد المهراني عن يزيد بن قيس أن عليا رجم لوطيا . حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم أنه سمع مجاهدا , وسعيد بن جبير يحدثان عن ابن عباس أنه قال في البكر يوجد على اللوطية : أنه يرجم . وعن إبراهيم النخعي أنه قال : لو كان أحد ينبغي له أن يرجم مرتين لكان ينبغي للوطي أن يرجم مرتين . وعن ربيعة أنه قال : إذا أخذ الرجل لوطيا رجم , لا يلتمس به إحصان , ولا غيره . وعن الزهري أنه قال : على اللوطي الرجم أحصن أو لم يحصن . وحدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن

وهب أخبرني الشمر بن نمير , ويزيد بن عياض بن جعدبة , ومن أثق به , وكتب إلى ابن أبي سبرة , قال الشمر : عن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب , وقال يزيد بن عياض بن جعدبة : عن عبد الملك بن عبيد عن سعيد بن المسيب , وقال ابن أبي سبرة : سمعت أبا الزناد , وقال الذي يثق به : عن الحسن , ثم اتفق علي , وسعيد بن المسيب , وأبو الزناد , والحسن , كلهم مثل قول الزهري المذكور . وبه يقول الشافعي - وهو قول مالك , والليث , وإسحاق بن راهويه . وأما من قال : يقتلان : فكما روينا عن ابن عباس , قال : "اقتلوا الفاعل والمفعول به". وأما من قال : هو كالزنى يرجم المحصن منهما ويجلد غير المحصن مائة جلدة : فكما نا أحمد بن إسماعيل بن دليم نا محمد بن أحمد بن الخلاص نا محمد بن القاسم بن شعبان نا أحمد بن سلمة , والضحاك عن إسماعيل بن محمد بن نعيم نا معاذ بن الحارث نا عبد الرحمن بن قيس الضبي عن اليماني بن المغيرة نا عطاء بن أبي رباح , قال : شهدت عبد الله بن الزبير وأتي بسبعة أخذوا في اللواط فسأل عنهم ؟ فوجد أربعة قد أحصنوا , فأمر بهم فأخرجوا من الحرم - ثم رجموا بالحجارة حتى ماتوا , وجلد ثلاثة الحد - وعنده ابن عباس , وابن عمر , فلم ينكرا ذلك عليه . وعن الحسن البصري أنه قال في الرجل يعمل عمل قوم لوط : إن كان ثيبا رجم , وإن كان بكرا جلد . وأما من قال : إن الفاعل إن كان محصنا فإنه يرجم وإن كان غير محصن فإنه يجلد مائة وينفى سنة , وأما المنكوح فيرجم أحصن أو لم يحصن : فقول ذهب إليه أبو جعفر محمد بن علي بن يوسف - أحد فقهاء الشافعيين . وأما من قال : لا حد في ذلك : فكما نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر , وأبي إسحاق الشيباني , كلاهما عن الحكم بن عتيبة أنه قال فيمن عمل عمل قوم لوط : يجلد دون الحد . وبه يقول أبو حنيفة , ومن اتبعه , وأبو سليمان , وجميع أصحابنا
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا - كما ذكرنا - وجب أن ننظر فيما احتج به من رأى حرقه بالنار , فوجدناهم يقولون : إنه إجماع الصحابة , ولا يجوز خلاف إجماعهم . فإن قيل : فقد روي عن علي , وابن عباس , وابن الزبير , وابن عمر , بعد ذلك الرجم , وحد الزنى , وغير ذلك ؟ قيل : هذا لا يجوز , لأنه خلاف لما أجمعوا . فهذا كل ما ذكروا في ذلك , لا حجة لهم غير هذا . ووجدناه لا تقوم به حجة , لأنه لم يروه إلا ابن سمعان عن رجل أخبره - لم يسمعه - أن أبا بكر - وعبد الملك بن حبيب عن مطرف عن أبي حازم عن محمد بن المنكدر , وموسى بن عقبة , وصفوان بن سليم , وداود بن بكر : أن أبا بكر

وابن شعبان عن محمد بن العباس بن أسلم عن محمد بن داود بن أبي ناجية عن يحيى بن بكير عن ابن أبي حازم عن ابن المنكدر , وموسى بن عقبة , وصفوان بن سليم , وداود بن بكر : أن أبا بكر . فهذه كلها منقطعة ليس منهم أحد أدرك أبا بكر . وأيضا - فإن ابن سمعان مذكور بالكذب وصفه بذلك مالك بن أنس . ووجه آخر - وهو أن الإحراق بالنار قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك: كما نا عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك الخولاني نا محمد بن بكر نا أبو داود نا سعيد بن منصور نا المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي عن أبي الزناد عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره على سرية وقال : "إن وجدتم فلانا فأحرقوه بالنار , فوليت فناداني فرجعت , فقال : إن وجدتم فلانا فاقتلوه ولا تحرقوه , فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار". ثم نظرنا في قول من رأى قتلهم : فوجدناهم يحتجون : بما نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا الدبري نا أبو داود نا عبد الله بن محمد النفيلي نا عبد العزيز بن محمد - هو ابن محمد الدراوردي - عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به". حدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب أخبرني القاسم بن عبد الله بن عمر بن حفص ثني سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اقتلوا الفاعل والمفعول به". وبه - إلى ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك . وبه - إلى يحيى بن أيوب عن رجل حدثه عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من عمل عمل قوم لوط فاقتلوه" وهذا الرجل - هو عباد بن كثير .
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا كل ما موهوا به , وكله ليس لهم منه شيء يصح : أما حديث ابن عباس - فانفرد به عمرو بن أبي عمرو - هو ضعيف , وإبراهيم بن إسماعيل ضعيف . وأما حديث أبي هريرة - فانفرد به القاسم بن عبد الله بن عمر بن حفص - وهو مطرح في غاية السقوط . وأما حديث جابر - فعن يحيى بن أيوب - وهو ضعيف - عن عباد بن كثير - وهو شر منه . وأما حديث ابن أبي الزياد - فابن أبي الزناد ضعيف , ومحمد بن عبد الله مجهول - وهو أيضا مرسل . فسقط كل ما في هذا الباب . ولا يحل سفك دم يهودي - أو نصراني من أهل الذمة , نعم , ولا دم حربي بمثل هذه الروايات , فكيف دم فاسق أو تائب ؟ ولو صح شيء مما قلنا منها لقلنا به , ولما استجزنا خلافه أصلا - وبالله تعالى التوفيق . ثم نظرنا في قول من قال : يرجمان معا - أحصنا

أو لم يحصنا - فوجدناهم يحتجون : بأنه هكذا فعل الله بقوم لوط , قال الله تعالى: {وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك} . واحتجوا من الآثار التي ذكرنا آنفا : بما نا أحمد بن إسماعيل بن دليم نا محمد بن أحمد بن الخلاص نا محمد بن القاسم بن شعبان ثني محمد بن أحمد عن يونس بن عبد الأعلى , وأبي الربيع بن أبي رشدين نا عبيد الله بن رافع عن عاصم بن عبيد الله عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يعمل عمل قوم لوط فارجموا الأعلى والأسفل" وقال فيه : وقال: "أحصنا أو لم يحصنا". فهذا كل ما شغبوا به قد تقصيناه - وكله لا حجة لهم فيه على ما نبين - إن شاء الله تعالى . أما فعل الله تعالى في قوم لوط - فإنه ليس كما ظنوا , لأن الله تعالى قال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إنا أرسلنا عليهم حاصباً} إلى قوله تعالى: {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} . وقال تعالى: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}. قال تعالى: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} الآية , فنص تعالى نصا جليا على أن قوم لوط كفروا , فأرسل عليهم الحاصب . فصح : أن الرجم الذي أصابهم لم يكن للفاحشة وحدها , لكن للكفر ولها : فلزمهم أن لا يرجموا من فعل فعل قوم لوط , إلا أن يكون كافرا , وإلا فقد خالفوا حكم الله تعالى فأبطلوا احتجاجهم بالآية , إذ خالفوا حكمها . وأيضا - فإن الله تعالى أخبر : أن امرأة لوط أصابها ما أصابهم , وقد علم كل ذي مسكة عقل أنها لم تعمل عمل قوم لوط . فصح : أن ذلك حكم لم يكن لذلك العمل وحده , بلا مرية . فإن قالوا : إنها كانت تعينهم على ذلك العمل ؟ قلنا : فارجموا كل من أعان على ذلك العمل بدلالة أو قيادة وإلا فقد تناقضتم وأبطلتم احتجاجكم بالقرآن , وخالفتموه . وأيضا - فإن الله تعالى أخبر أنهم راودوه عن ضيفه , فطمس أعينهم , فيلزمهم ولا بد أن يسملوا عيون فاعلي فعل قوم لوط , لأن الله تعالى لم يرجمهم فقط , لكن طمس أعينهم , ثم رجمهم , فإذ لم يفعلوا هذا , فقد خالفوا حكم الله تعالى فيهم , وأبطلوا حجتهم . ويلزمهم أيضا - أن يطمسوا عيني كل من راود آخر . ويلزم أيضا - أن يحرقوا بالنار من أنقص المكيال والميزان , لأن الله تعالى أحرق بالنار قوم شعيب في ذلك . ويلزمهم - أن يقتلوا من عقر ناقة آخر , لأن الله تعالى أهلك قوم صالح إذ عقروا الناقة , إذ لا فرق بين عذاب الله تعالى قوم لوط بطمس العيون , والرجم - إذ أتوا تلك الفاحشة - وبين إحراق قوم شعيب إذ بخسوا المكيال والميزان - وبين إهلاكه قوم صالح إذ عقروا الناقة , قال الله تعالى: {ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها} إلى آخر السورة.

ثم نظرنا في قول من لم ير في ذلك حدا : فوجدناهم يحتجون بقول الله تعالى: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} إلى قوله: {إلا من تاب}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان وزنى بعد إحصان أو نفسا بنفس". وقال عليه السلام: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" فحرم الله تعالى دم كل امرئ - مسلم وذمي - إلا بالحق , ولا حق إلا في نص أو إجماع . وحرم النبي صلى الله عليه وسلم الدم إلا بما أباحه به من الزنى بعد الحصان , والكفر بعد الإيمان والقود والمحدود في الخمر ثلاثا , والمحارب قبل أن يتوب - وليس فاعل فعل قوم لوط واحدا من هؤلاء , فدمه حرام إلا بنص أو إجماع , وقد قلنا : إنه لا يصح أثر في قتله ؟ نعم , ولا يصح أيضا - في ذلك شيء عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - لأن الرواية في ذلك عن أبي بكر , وعلي , والصحابة إنما هي منقطعة : وإحداها - عن ابن سمعان عن مجهول . والأخرى عمن لا يعتمد على روايته . وأما الرواية عن ابن عباس , فإحداهما - عن معاذ بن الحارث عن عبد الرحمن بن قيس الضبي عن حسان بن مطر - وكلهم مجهولون - والرواية عن ابن الزبير , وابن عمر مثل ذلك عن مجهولين . فبطل أن يتعلق أحد في هذه المسألة عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - بشيء يصح - وأما من رأى دون الحد , فالحكم بن عتيبة ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فإذ قد صح ذلك أنه لا قتل عليه ولا حد , لأن الله تعالى لم يوجب ذلك ولا رسوله - عليه السلام - فحكمه أنه أتى منكرا - فالواجب بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيير المنكر باليد , فواجب أن يضرب التعزير الذي حده رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك لا أكثر , ويكف ضرره عن الناس فقط . كما روينا من طريق البخاري نا مسلم بن إبراهيم نا هشام - هو الدستوائي - نا يحيى هو ابن أبي كثير - عن عكرمة عن ابن عباس : قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء , وقال : أخرجوهم من بيوتكم , وأخرج فلانا , وأخرج فلانا". وأما السجن - فلقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . وبيقين يدري كل ذي حس سليم أن كف ضرر فعلة قوم لوط - الناكحين والمنكوحين - عن الناس عون على البر والتقوى , وإن إهمالهم عون على الإثم والعدوان , فوجب كفهم بما لا يستباح به لهم دم , ولا بشرة , ولا مال ؟ قال أبو محمد رحمه الله: فإن شنع بعض أهل القحة والحماقة أن يقول : إن ترك قتلهم ذريعة إلى هذا الفعل ؟ قيل لهم : وترككم أن تقتلوا كل زان ذريعة إلى إباحة الزنى منكم , وترككم أن تقتلوا المرتد - وإن تاب - تطريق منكم وذريعة إلى إباحتكم الكفر , وعبادة الصليب , وتكذيب القرآن والنبي - عليه السلام - وترككم قتل آكل الخنزير والميتة

والدم وشارب الخمر تطريق منكم وذريعة إلى إباحتكم أكل الخنزير والميتة والدم وشرب الخمر - وإنما هذا انتصار منهم بمثل ما يهذرون به {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إنما السبيل} الآية . ونعوذ بالله من أن نغضب له بأكثر مما غضب تعالى لدينه أو أقل من ذلك , أو أن نشرع - بآرائنا - الشرائع الفاسدة - ونحمد الله تعالى كثيرا على ما من به علينا من التمسك بالقرآن والسنة - وبالله تعالى التوفيق .

حكم من أتى بهيمة
2300 - مسألة : فيمن أتى بهيمة:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس فيمن أتى بهيمة : فقالت طائفة : حده حد الزاني يرجم إن أحصن , ويجلد إن لم يحصن . وقالت طائفة : يقتل ولا بد . وقالت طائفة : عليه أدنى الحدين أحصن أو لم يحصن . وقالت طائفة : عليه الحد إلا أن تكون البهيمة له . وقالت طائفة : يعزر إن كانت البهيمة له , وذبحت ولم تؤكل , وإن كانت لغيره لم تذبح . وقالت طائفة : فيها اجتهاد الإمام في العقوبة بالغة ما بلغت . وقالت طائفة : ليس فيه إلا التعزير دون الحد . فالقول الأول - كما نا أحمد بن عمر بن أنس نا أبو ذر نا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي نا إبراهيم بن خريم بن فهر الشاشي ثني عبد بن حميد نا يزيد بن هارون أنا سفيان بن حسين عن أبي علي الرحبي عن عكرمة قال : سئل الحسن بن علي - مقدمه من الشام - عن رجل أتى بهيمة , فقال : إن كان محصنا رجم . وعن عامر الشعبي أنه قال في الذي يأتي البهيمة , أو يعمل عمل قوم لوط , قال : عليه الحد . وعن الحسن البصري أنه قال في الذي يأتي البهيمة : إن كان ثيبا رجم , وإن كان بكرا جلد - وهو قول قتادة , والأوزاعي , وأحد قولي الشافعي . والقول الثاني - عن ابن الهادي , قال : قال ابن عمر في الذي يأتي البهيمة : لو وجدته لقتلته - وهو قول أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : تقتل البهيمة أيضا . والقول الثالث - عن معمر عن الزهري في الذي يأتي البهيمة , قال : عليه أدنى الحدين - أحصن أو لم يحصن . والقول الرابع - عن ربيعة أنه قال في الذي يأتي البهيمة : هو المبتغي ما لم يحلل الله له , فرأى الإمام فيه العقوبة بالغة ما بلغت , فإنه قد أحدث في الإسلام أمرا عظيما - وهو قول مالك . والقول الخامس - عن ابن عباس في الذي يأتي البهيمة : لا حد عليه - وعن الشعبي مثله . وعن عطاء في الذي يأتي البهيمة , فقال : ما كان الله نسيا : أن ينزل فيه , ولكنه قبيح , فقبحوا ما قبح الله - وهو قول أصحابنا - وأحد قولي الشافعي ؟
قال أبو محمد: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر : فنظرنا فيما قال به أهل القول الأول - فلم نجد لهم إلا أنهم قاسوه على الزنى , فقالوا : هو وطء محرم - والقياس كله باطل إلا أنه يلزم على من أولج في حياء بهيمة الغسل وإن لم ينزل , ويجعله كالوطء في الفرج , ولا

فرق. وفي القول الثاني - فوجدناهم يحتجون بما رويناه - كما نا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا الحارث بن أبي أسامة نا عبد الوهاب - هو ابن عطاء الخفاف - نا عباد - هو ابن منصور - عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الذي يأتي البهيمة: "اقتلوا الفاعل والمفعول به". حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا النفيلي - هو عبد الله بن محمد - نا عبد العزيز - هو ابن محمد الدراوردي - عن عمرو بن أبي عمرو بن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به , من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه" قلت : ما شأن البهيمة ؟ قال : ما أراه قال ذلك , إلا أنه كره أكل لحمها وقد عمل بها ذلك العمل . حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج نا محمد بن أيوب الصموت الرقي نا أحمد بن عمر بن عبد الخالق البزار نا إسماعيل بن مسعود الجحدري نا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك نا إبراهيم بن إسماعيل - هو ابن أبي حبيبة - عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقتلوا مواقع البهيمة , اقتلوا الفاعل والمفعول به , ومن عمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول". حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا قتيبة بن سعيد نا عبد العزيز بن محمد الدراوردي نا عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله من عمل عمل قوم لوط - ثلاث مرات - لعن الله من واقع بهيمة , من وجدتموه وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة" فقيل لابن عباس : ما شأن البهيمة ؟ قال : ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئا , ولكن أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره أن يؤكل من لحمها , أو ينتفع بها وقد عمل بها ذلك العمل ؟
قال أبو محمد: لا حجة لهم غير ما ذكرنا , وقد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا ضعف هذا الآثار لأن عباد بن منصور , وعمرو بن أبي عمرو , وإسماعيل بن إبراهيم ضعفاء كلهم ولو صحت لقلنا بها ولجارينا عليها ولما حل خلافها - فإذ لا تصح فلا يجوز القول بها إلا أنه قد كان لازما للحنفيين , والمالكيين القول بها على أصولهم , فإنهم احتجوا بأسقط منها في إيجاب حد الخمر ثمانين في مواضع جمة . ثم نظرنا في قول من قال : عليه أدنى الحدين - فوجدناه لا حجة له أصلا , ولا نعرف له وجها - فسقط . ثم نظرنا في قول من قال : "يحد وتقتل البهيمة" فوجدناه في غاية الفساد . ثم نظرنا في قول من قال : "عليه العقوبة برأي الإمام بالغة ما بلغت " فوجدناه خطأ , لأن الله تعالى قد زم الأمور ولم يهملها , ولم يطلق الأئمة على دماء الناس , ولا أعراضهم , ولا أبشارهم , ولا أموالهم , بل قد تقدم إليهم على لسان

حكم في قذف آخر بهيمة أو بفعل قوم لوط
2301 - مسألة : من قذف آخر ببهيمة , أو بفعل قوم لوط:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة : عليه حد القذف . كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : من قذف آخر ببهيمة جلد حد الفرية . قال أبو حنيفة , ومالك , والشافعي : ليس عليه حد الفرية ؟
قال أبو محمد رحمه الله: من جعل إتيان البهيمة زنى فقد طرد أصله , وكذلك من جعل فعل قوم لوط زنى فقد طرد أصله , إذ جعل في القذف بهما حد الزنى , وقد بينا أنهما ليسا زنى فالقذف بهما ليس هو القذف الموجب للحد , وإنما هو أذى فقط ففيه التعزير . وأما المالكيون - فإنهم وافقونا على أن فعل قوم لوط ليس زنى , وأن إتيان البهيمة ليس زنى , فساووا بينهما في هذا الباب , ثم إنهم جعلوا في القذف بفعل قوم لوط حد القذف بالزنى , ولم يجعلوا في القذف بإتيان البهيمة حد القذف بالزنى , وهذا تناقض . فإن قالوا : إن فعل قوم لوط أعظم من الزنى ؟ قيل لهم : هبكم أنه كالكفر , فهلا جعلتم في القذف بالكفر حد الزنى على هذا الأصل الفاسد ؟ وهذا لا مخلص منه ؟ فإن قالوا : هو زنى , ولكنه أعظم الزنى , فجعل فيه أعظم حدود الزنى , لأن المزني بها قد تحل يوما من الدهر , وفعل قوم لوط لا يحل المفعول به ذلك للفاعل أبدا , فهو أعظم بلا شك ؟ قيل لهم : هذا يبطل من وجوه : أحدها - أن الزاني بحريمته من نسب أو رضاع لا يحل له أبدا , فاجعلوا فيه أغلظ حدود الزنى على هذا الأصل . والثاني - أن يقال لهم : واطئ أجنبية في دبرها أتى ما لا يحل له أبدا , فإن تزوجها فاجعلوا فيه على هذا الأصل أغلظ حدود الزنى . والثالث - أن يقال لهم أيضا:

آتي البهيمة آتي ما لا يحل له أبدا , فقد ساوى فعل قوم لوط في هذه العلة التي عللتم بها قولكم , فهلا جعلتم فيه أغلظ الحدود في الزنى أيضا ؟ ولا فرق , ثم رجعنا إلى قولهم " إن فعل قوم لوط أعظم الزنى " ؟ فنقول لهم : إننا قد أوضحنا أن الزنى باللغة , وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع على فعل قوم لوط - وقد بينا أنه ليس زنى ولا أعظم من الزنى , لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الذنب أعظم ؟ فقال كلاما - معناه : الشرك , ثم قتل المرء ولده مخافة أن يطعم معه , ثم الزنى بحليلة الجار . فصح أن الزنى بحليلة الجار أعظم من فعل قوم لوط بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يحل لأحد رده - وبالله تعالى التوفيق .

حكم الشهادة فيما ذكر
2302 - . مسألة : الشهادة فيما ذكرنا:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس : قال قوم منهم الشافعي , وقوم من أصحابنا : إنه لا يقبل في فعل قوم لوط , وإتيان البهيمة أقل من أربعة شهود . وقال أبو حنيفة , وأصحابه : يقبل في ذلك اثنان ؟
قال أبو محمد: أما من جعل هذين الذنبين زنى فقد طرد أصله , وقد أوضحنا بالبراهين الواضحة أنهما ليسا من الزنى أصلا فليس لهما شيء مما خص به حكم الزنى . واحتج بعض أصحابنا في ذلك بأن قالوا : إن الأبشار محرمة إلا بنص أو إجماع , ولم يجمعوا على إباحة بشرة فاعل فعل قوم لوط , وبشرة آتي البهيمة بتعزير , ولا بغيره , إلا بأربعة شهود , فلا يجوز استباحتهما بأقل .
قال أبو محمد رحمه الله: فيلزم من راعى هذا أن لا يحكم بقود أصلا إلا بأربعة شهود , لأنه لم يجمع على إباحة دم المشهود عليه بالقتل بأقل من أربعة شهود عدول ؟ فإن قال بذلك كله قائل كان الكلام معه من غير هذا , وهو أن يقال له : قد صح الإجماع الصادق القاطع المتيقن على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقبول البينة في جميع الأحكام - أولها عن آخرها - وحد في بعض الأحكام عددا وسكت عن بعضها , فإذ لا شك في ذلك , فهذان الحكمان , وغيرهما , قد أيقنا أن الله تعالى أمرنا بإنفاذ الواجب في ذلك بشهادة البينة . فالواجب في ذلك قبول ما وقع عليه اسم بينة , إلا أن يمنع نص من شيء من ذلك فيوقف عنده , وقد منع النص من قبول الكافر والفاسق , وأخبر النص : أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل , وأن الصبيان غير مخاطبين بشيء من الأحكام , فخرج هؤلاء من حكم الشهادة حسبما أخرجهم النص فقط . وأيضا - فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية فصح أن هذا حكم

من الله تعالى وارد في كل ما يحكم به على أحد في دمه وماله , وبشرته , وفي كل حكم . فلولا النص الثابت: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بيمين الطالب مع الشاهد الواحد" وصح أنه عليه السلام لم يحكم بشهادة الشاهد الواحد دون يمين معها لوجب قبول شاهد واحد بالآية المذكورة , إلا حيث جاء النص باثنين أو أربعة . فلما كان هذان الحكمان لا يجوز فيهما تحليف الطالب , لأنها ليسا حقا واحدا , وإنما هما لله تعالى وجب أن لا يجوز فيهما إلا ما قال قائلون بإجازته - وهو شهادة اثنين , أو أربع نسوة , أو رجل وامرأتين كسائر الأحكام . وأما الزنى وحده فلا يقبل فيه أقل من أربعة بالنص الوارد في ذلك - وبالله تعالى التوفيق .

حكم السحق
2303 - مسألة : السحق:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في السحق : فقالت طائفة : تجلد كل واحدة منهما مائة - كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق ثني ابن جريج أخبرني ابن شهاب قال : أدركت علماءنا يقولون في المرأة تأتي المرأة ب " الرفعة " وأشباهها يجلدان مائة - الفاعلة والمفعول بها . وبه - إلى عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب بمثل ذلك . ورخصت فيه طائفة - كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق أنا ابن جريج أخبرني من أصدق عن الحسن البصري أنه كان لا يرى بأسا بالمرأة تدخل شيئا , تريد الستر تستغني به عن الزنى . وقال آخرون - هو حرام ولا حد فيه , وفيه التعزير ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا - كما ذكرنا - وجب أن ننظر في ذلك : فنظرنا في قول الزهري فلم نجد له حجة أصلا , إلا أن يقول قائل : كما جعل فعل قوم لوط أشد الزنى , فجعلوا فيه أعظم حد في الزنى , فكذلك هذا أقل الزنى , فجعل فيه أخف حد الزنى ؟ . قال أبو محمد رحمه الله: وهذا قياس لازم واجب على من جعل الرجم في فعل قوم لوط , لأنه أعظم من الزنى , ولا مخلص لهم من هذا أصلا , وأن يجعلوا " السحق " أيضا أشد الزنى , كفعل قوم لوط , فيلزمهم أن يجعلوا فيه الرجم , كما جعلوا في فعل قوم لوط ولا بد , لأن كلا الأمرين عدول بالفرج إلى ما لا يحل أبدا . ولكن القوم لا يحسنون القياس , ولا يعرفون الاستدلال , ولا يطردون أقوالهم , ولا يلزمون تعليلهم , ولا يتعلقون بالنصوص , وهلا قالوا هاهنا : إن الزهري أدرك الصحابة وكبار التابعين ؟ فلا يقول هذا إلا عنهم , ولا نعرف خلافا في ذلك ممن يرى تحريم هذا العمل , فيأخذون بقوله , كما كانوا يفعلون لو وافق تقليدهم

قال أبو محمد رحمه الله: وأما نحن فإن القياس باطل عندنا , ولا يلزم اتباع قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم " والسحق " " والرفعة " ليسا زنى , فإذ ليسا زنى فليس فيهما حد الزنى , ولا لأحد أن يقسم برأيه - أعلى وأخف - فيقسم الحدود في ذلك كما يشتهي بل هو تعد لحدود الله تعالى , وشرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى - وهو يقول تعالى : {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} . وإنما يلزم هذا من قامت عليه الحجة فتمادى على الخطأ ناصرا للتقليد ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وإذ لم يأت بمثل قول الزهري قرآن , ولا سنة صحيحة , فالأبشار محرمة والحدود , فلا حد في هذا أصلا - وبالله تعالى التوفيق . فإن ذكروا : ما ناه أحمد بن قاسم نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا محمد بن وضاح نا هشام بن خالد نا بقية بن الوليد ثني عثمان بن عبد الرحمن ني عنبسة بن سعيد نا مكحول عن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "السحاق زنى بالنساء بينهن" فإن هذا لا يصح , لأنه عن بقية - وهو ضعيف - ولم يدرك مكحولا , وواثلة , فهو منقطع . ثم لو صح لما كان فيه ما يوجب الحكم بالحد في ذلك , لأنه عليه السلام قد بين في حديث الأسلمي ما هو الزنى الموجب للحد , وإنما هو إتيان الرجل من المرأة حراما ما يأتي من أهله حلالا . وأخبر عليه السلام أن الأعضاء تزني , وأن الفرج يكذب ذلك أو يصدقه فصح أن لا زنى بين رجل وامرأة إلا بالفرج الذي هو الذكر في الفرج الذي هو مخرج الولد فقط . ولقد كان يلزم هذا الخبر من رأى برأيه أن فعل قوم لوط أعظم الزنى , فإنه ليس معهم فيه نص أصلا , ولو وجدوا مثل هذا لطغوا وبغوا . فسقط هذا جملة واحدة . ثم نظرنا في قول الحسن في إباحة ذلك - فوجدناه خطأ , لأن الله تعالى يقول: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} إلى قوله: {العادون}. وصح بالدليل من القرآن , وبالإجماع : أن المرأة لا تحل لملك يمينها وأنه منها ذو محرم , لأن الله تعالى أسقط الحجاب عن أمهات المؤمنين عن عبيدهن مع ذي محارمهن من النساء . فصح أن العبد من سيده ذو محرم فالمرأة إذا أباحت فرجها لغير زوجها فلم تحفظه , فقد عصت الله تعالى بذلك - وصح أن بشرتها محرمة على غير زوجها الذي أبيحت له بالنص , فإذا أباحت بشرتها لامرأة أو رجل غير زوجها فقد أباحت الحرام . وقد روينا من طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا زيد بن الحباب - هو العكلي - نا الضحاك بن عثمان - هو الحزامي - أخبرني زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه : أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل , ولا المرأة إلى عورة المرأة , ولا يفض الرجل إلى الرجل في ثوب واحد , ولا تفض المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد". حدثنا أحمد بن قاسم نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا محمد بن وضاح نا أبو بكر بن أبي شيبة نا أبو الأحوص - هو سلام بن سليم - عن منصور بن المعتمر عن أبي وائل - هو شقيق بن سلمة - عن عبد الله بن مسعود قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباشر المرأة المرأة في ثوب واحد - لعل أن تصفها إلى زوجها كأن ينظر إليها". وبه - إلى قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار - بندار - أنا محمد بن جعفر - غندر - نا شعبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء , والمتشبهات من النساء بالرجال".
قال أبو محمد رحمه الله: فهذه نصوص جلية على تحريم مباشرة الرجل الرجل , والمرأة المرأة , على السواء , فالمباشرة منها لمن نهى عن مباشرته عاص لله تعالى , مرتكب حراما على السواء , فإذا استعملت بالفروج كانت حراما زائدا , ومعصية مضاعفة , والمرأة إذا أدخلت فرجها شيئا غير ما أبيح لها من فرج زوجها , أو ما ترد به الحيض , فلم تحفظ فرجها , وإذ لم تحفظه فقد زادت معصية - فبطل قول الحسن في ذلك - وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد رحمه الله: فإذ قد صح - أن " المرأة المساحقة " للمرأة عاصية , فقد أتت منكرا , فوجب تغيير ذلك باليد , كما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من رأى منكرا أن يغيره بيده" فعليها التعزير
قال أبو محمد رحمه الله: فلو عرضت فرجها شيئا دون أن تدخله حتى ينزل فيكره هذا , ولا إثم فيه - وكذلك " الاستمناء " للرجال سواء سواء , لأن مس الرجل ذكره بشماله مباح , ومس المرأة فرجها كذلك مباح , بإجماع الأمة كلها , فإذ هو مباح فليس هنالك زيادة على المباح , إلا التعمد لنزول المني , فليس ذلك حراما أصلا , لقول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وليس هذا مما فصل لنا تحريمه فهو حلال , لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} إلا أننا نكرهه , لأنه ليس من مكارم الأخلاق , ولا من الفضائل . وقد تكلم الناس في هذا فكرهته طائفة وأباحته أخرى : كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبد الله بن عثمان عن مجاهد قال : سئل ابن عمر عن الاستمناء ؟ فقال : ذلك نائك نفسه . وبه - إلى سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي رزين عن أبي يحيى عن ابن عباس أن رجلا قال له : إني أعبث بذكري

حتى أنزل ؟ قال : أف , نكاح الأمة خير منه , وهو خير من الزنى . وإباحة قوم - كما روينا بالسند المذكور إلى عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني إبراهيم بن أبي بكر عن رجل عن ابن عباس أنه قال : وما هو إلا أن يعرك أحدكم زبه حتى ينزل الماء . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار - بندار - أنا محمد بن جعفر - غندر - نا شعبة عن قتادة عن رجل عن ابن عمر أنه قال : إنما هو عصب تدلكه . وبه - إلى قتادة عن العلاء بن زياد عن أبيه أنهم كانوا يفعلونه في المغازي " يعني الاستمناء " يعبث الرجل بذكره يدلكه حتى ينزل - قال قتادة : وقال الحسن في الرجل يستمني يعبث بذكره حتى ينزل , قال : كانوا يفعلون في المغازي . وعن جابر بن زيد أبي الشعثاء قال : هو ماؤك فأهرقه " يعني الاستمناء " . وعن مجاهد قال : كان من مضى يأمرون شبابهم بالاستمناء يستعفون بذلك - قال عبد الرزاق : وذكره معمر عن أيوب السختياني , أو غيره عن مجاهد عن الحسن : أنه كان لا يرى بأسا بالاستمناء . وعن عمرو بن دينار : ما أرى بالاستمناء بأسا ؟
قال أبو محمد رحمه الله: الأسانيد عن ابن عباس , وابن عمر في كلا القولين - مغموزة . لكن الكراهة صحيحة عن عطاء . والإباحة المطلقة صحيحة عن الحسن . وعن عمرو بن دينار , وعن زياد أبي العلاء , وعن مجاهد . ورواه من رواه من هؤلاء عمن أدركوا - وهؤلاء - كبار التابعين الذين لا يكادون يروون إلا عن الصحابة رضي الله عنهم ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وقد جاء في المرأة تفتض المرأة بأصبعها آثار : كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج عن عطاء عن علي بن أبي طالب , والحسن بن علي : أن الحسن أفتى في المرأة افتضت أخرى بأصبعها وأمسكها نسوة لذلك : أن العقل بينهن - وقضى علي بذلك . وبه - إلى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن منصور , ومغيرة , قال منصور عن الحكم بن عتيبة , وقال مغيرة عن إبراهيم , ثم اتفق الحكم , وإبراهيم عن علي , والحسن : أن الحسن أفتى في امرأة افتضت امرأة بأصبعها أن عليها والممسكات الصداق بينهن - هكذا قال المغيرة . وقال الحكم في روايته : على المفتضة وحدها - واتفقا أن عليا قضى بذلك . وعن الزهري - لو افتضت امرأة بأصبعها غرمت صداقها , كصداق امرأة من نسائها . وعن عياض بن عبيد الله قاضي أهل مصر : كتب إلى عمر بن عبد العزيز في صبي افترع صبية بأصبعه ؟ فكتب إليه عمر : لم يبلغني في هذا شيء , وقد جمعت لذلك , فاقض فيه برأيك , فقضى لها على الغلام بخمسين دينارا ؟

قال أبو محمد رحمه الله: هذا عن علي مرسل . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام". فلا يجوز أن يقضى هاهنا بصداق , لأنه ليس زواجا , ولا صداق إلا في نكاح زواج - إذ لم يوجبه في غير ذلك نص , ولا إجماع , فسواء كان المفتض بأصبعه رجلا أو امرأة : لا غرامة في ذلك أصلا , لأن الله تعالى لم يوجب في ذلك غرامة , ولا رسوله صلى الله عليه وسلم . فإن شنعوا - فإن هذا قول علي , والحسن بن علي ؟ قلنا لهم : فإن هذين الخبرين ليس فيهما إيجاب نكال على المفتض والمفتضة أصلا , وأنتم توجبون في ذلك الأدب , وهذا خلاف منكم لما تشنعون به من حكم علي , والحسن - رضي الله عنهما - وعار هذا وإثمه إنما يلزم من أوجب فرضا اتباع ما روي عن الصاحب , ثم هو مع ذلك أول مخالف له . وأما نحن فلا يلزم عندنا اتباع أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط , فلا حرج علينا في مخالفة ما لا نراه واجبا , ولكن على المفتض بأصبعه امرأة , والمفتضة بأصبعها امرأة , ومدخل شيء في دبر آخر : التعزير , لأن كل ما ذكرنا معصية ومنكر , لقول رسول الله : صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام". وهؤلاء قد انتهكوا بشرة محرمة , فأتوا منكرا , ومن أتى منكرا ففرض عليه تغييره باليد , كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فواجب على من فعل ذلك , أو غيره من المنكرات : التعزير على ما نذكره - إن شاء الله تعالى - بعد هذا .
قال أبو محمد رحمه الله: ولم يقل أحد نعلمه : إن في شيء من هذا حد زنى , ولا حدا محدودا , ولا فرق بينه وبين سائر ما أوجبوا فيه الحدود مما لا نص فيه يصح - وبالله تعالى التوفيق ؟

حكم السحر
2304 - مسألة : السحر:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في السحر : فقالت طائفة : يقتل الساحر ولا يستتاب - والسحر كفر - وهو قول مالك - وقال أبو حنيفة : يقتل الساحر . وقال الشافعي وأصحابنا : إن كان الكلام الذي يسحر به كفرا فالساحر مرتد , وإن كان ليس كفرا فلا يقتل , لأنه ليس كافرا . وذكر عن المتقدمين في ذلك أشياء : كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار , قال : إن عمر بن الخطاب كتب إلى جزي بن معاوية عم الأحنف بن قيس - وكان عاملا لعمر بن الخطاب - أن اقتل كل ساحر , وكان بجالة كاتب جزي , قال بجالة : فأرسلنا فوجدنا ثلاث سواحر , فضربنا أعناقهن . وبه - إلى عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن سالم بن أبي الجعد قال : إن قيس بن سعد قتل ساحرا وعن نافع عن ابن عمر : أن جارية لحفصة سحرتها فاعترفت بذلك فأمرت بها عبد الرحمن بن زيد فقتلها

فأنكر ذلك عليها عثمان , فقال له ابن عمر : ما تنكر على أم المؤمنين امرأة سحرت واعترفت ؟ فسكت عثمان . وعن أيوب السختياني عن نافع : أن حفصة سحرت فأمرت عبيد الله أخاها فقتل ساحرتين , وعن العطاف بن خالد المخزومي أبو صفوان قال : رأيت سالم بن عبد الله وهو واقف على جدار بيت لبني أخ له يتامى , أتاه غلمة أربعة , ومعهم غلام هو أشف منهم , فقال : يا أبا عمر انظر ما يصنع هذا ؟ قال : وماذا يصنع ؟ قال : فسل خيطا من ثوبه فقطعه - وسالم ينظر إليه - فجمعه بين أصبعين من أصابعه ثم تفل عليه مرتين أو ثلاثا , ثم مده , فإذا هو صحيح ليس به بأس , فسمعت سالما يقول : لو كان لي من الأمر شيء لصلبته . وعن يحيى بن سعيد الأنصاري : أن خالد بن المهاجر بن خالد قتل نبطيا سحر - يعني ذميا . وعن يحيى بن أبي كثير , قال : إن غلاما لعمر بن عبد العزيز أخذ ساحرة فألقاها في الماء فطفت , فكتب إليه عمر بن عبد العزيز : إن الله لم يأمرك أن تلقيها في الماء , فإن اعترفت فاقتلها . وعن ابن شهاب قال : يقتل ساحر المسلمين , ولا يقتل ساحر أهل الكتاب , "لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سحره رجل من اليهود يقال له : ابن أعصم , وامرأة من خيبر يقال لها : زينب , فلم يقتلهما"
قال أبو محمد رحمه الله: فهؤلاء - عمر بن الخطاب , وحفصة , وعبد الله ابناه , وعبيد الله ابنه , وعثمان , وقيس بن ربيعة . ومن التابعين سالم بن عبد الله , وخالد بن المهاجر , وعمر بن عبد العزيز , وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب . وأما من خالف هذا : فكما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن مالك بن أنس عن محمد بن عبد الرحمن - هو أبو الرجال - عن عمرة بنت عبد الرحمن : أن عائشة أم المؤمنين أعتقت جارية لها عن دبر , وأنها سحرتها واعترفت بذلك , وقالت : أحببت العتق , فأمرت بها عائشة ابن أخيها أن يبيعها من الأعراب ممن يسيء ملكتها , وقالت : ابتع بثمنها رقبة فأعتقها . وبه - إلى عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي الرجال عن عمرة , قالت : مرضت عائشة فطال مرضها , فذهب بنو أخيها إلى رجل , فذكروا له مرضها ؟ فقال : إنكم لتخبروني خبر امرأة مطبوبة , فذهبوا ينظرون , فإذا جارية لها قد سحرتها وكانت قد دبرتها , فقالت لها : ما أردت مني ؟ قالت : أردت أن تموتي حتى أعتق , قالت : فإن لله علي أن تباع من أشد العرب ملكة , فباعتها , وأمرت بثمنها أن يجعل في مثلها . وعن ربيعة بن عطاء أن رجلا عبدا سحر جارية عربية , وكانت تتبعه , فرفع إلى عروة بن محمد - وكان عامل عمر بن عبد العزيز - فكتب إليه عمر بن عبد العزيز : أن يبيعه بغير أرضها وأرضه , ثم ادفع ثمنه إليها - وقد ذكرنا عن عثمان - رضي الله عنه - إنكار قتل الساحر.

قال أبو محمد: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر , فنظرنا في قول من رأى قتل الساحر , فوجدناهم يقولون : قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} الآية قالوا : فسمى الله تعالى السحر كفرا بقوله : {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر} . قال : " فيعلمون " بدل من " كفروا " فتعليم السحر كفر . وأيضا بقوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} . وأيضا بقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} . وبقوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . وذكروا - ما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حد الساحر ضربه بالسيف". وبه - إلى عبد الرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان بن سليم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم السحر قليلا أو كثيرا كان آخر عهده من الله". حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا أحمد بن جهيم نا إبراهيم بن حماد نا إسماعيل بن إسحاق نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن أبي العلاء: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جانب عقبة ذات ليلة فنزل , فجعل يرتجز ويقول : جندب وما جندب والأقطع الخبر الخبر فلما أصبح قال أصحابه : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأينا راجزا أحسن رجزا منك الليلة , فما جندب , والأقطع ؟ قال : أما جندب فرجل من أمتي يضرب ضربة يبعث بها أمة وحده يوم القيامة وأما الأقطع فرجل تقطع يده فتدخل الجنة قبل جسده ببرهة من الدهر". فكانوا يرون أن الأقطع , زيد بن صوحان , قطعت يده يوم اليرموك قبل يوم الجمل مع علي - وأما جندب , فهو الذي قتل الساحر . وقال : نا حماد بن سلمة نا أبو عمران - هو الجوني - أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبة فجعل يدخل في بقرة ثم يخرج منها , فرآه جندب , فذهب إلى بيته فالتفع على سيفه , فلما دخل الساحر جوف البقرة ضربهما , قال: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} فاندفع الناس وتفرقوا وقالوا : حروري , فسجنه الوليد , وكتب به إلى عثمان بن عفان فكان يفتح له بالليل فيذهب إلى أهله , فإذا أصبح رجع إلى السجن - قال : فيرون أن جندبا صاحب الضربة ؟
قال أبو محمد رحمه الله: ما نعلم لهم شيئا غير ما ذكرنا , قد تقصيناه لهم غاية التقصي , وأتينا بما لم نذكره أيضا , وكل ذلك لا حجة لهم في شيء منه على ما نبين , إن شاء الله تعالى فنقول - وبالله تعالى التوفيق : أما ما ذكروه من أقوال الصحابة - رضي الله عنهم - فلا حجة لهم في شيء منه : أما قول عمر رضي الله عنه فإنه خبر صحيح عنه أخذوا

ما اشتهوا منه , وتركوا سائره , وهو خبر : نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر , وسفيان بن عيينة , كلاهما عن عمرو بن دينار قال : سمعت بجالة كاتب جزي يحدث أبا الشعثاء , وعمرو بن أوس عن صفة زمزم في إمارة المصعب بن الزبير قال : كنت كاتبا لجزي - عم الأحنف بن قيس - فأتى كتاب عمر قبل موته , بسنة : اقتلوا كل ساحر وفرقوا بين كل ذي رحم محرم من المجوس , وانههم عن الزمزمة , قال : فقتلنا ثلاث سواحر , قال : وصنع طعاما كثيرا وعرض السيف , ثم دعا المجوس فألقوا وقر بغل , أو بغلين من ورق أخلة , كانوا يأكلون بها , وأكلوا بغير زمزمة , قال : ولم يكن عمر أخذ من المجوس الجزية حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس أهل هجر فهكذا الحديث . والمالكيون , والحنفيون يخالفون عمر في هذا الخبر فيما لا يحل خلافه فيه من أمره : بأن يفرق بين كل ذي رحم محرم من المجوس , لأن هذا هو أمر الله تعالى إذ يقول تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} . فهو إذ يقول تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}. فقال الحنفيون والمالكيون : لا يفرق بين مجوسي وبين حريمته , وتؤخذ الجزية من كل من ليس كتابيا من العجم - فخالفوا القرآن , وعمر بن الخطاب , حيث لا يحل خلافه وقلدوه - بزعمهم - حيث حكم فيه بما أداه إليه اجتهاده , مما لم يرد فيه قرآن , ولا صحت به سنة - فهذا عكس الحقائق . والزمزمة - كلام تتكلم به المجوس عند أكلهم , لا بد لهم منه , ولا يحل في دينهم أكل دونه - وهو كلام تعظيم لله تعالى يتكلمون به في أفواههم خلقة وشفاههم مطبقة , لا يجوز عندهم خلاف ذلك - ولهم خشبات صغار يستعملونها عند ذلك - وأخلة يأكلون بها - وهذا حمق منهم وتكلف . وبالسند المذكور إلى عبد الرزاق عن عبد الرحمن عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب أخذ ساحرا فدفنه إلى صدره ثم تركه حتى مات . وهم لا يأخذون بهذا نفسه من حكم عمر في الساحر - وحتى لو التزموا قول عمر كله لكان إذ صح خلاف عائشة له في ذلك , ولما كان قوله أولى من قولها , ولا قولها أولى من قوله . فالواجب عند التنازع الرجوع إلى ما افترض الله تعالى الرجوع إليه : من القرآن , والسنة - فسقط تعلقهم بعمر في ذلك . وأما حديث قيس بن سعيد أنه قتل ساحرا ؟ فقد يمكن أن يكون ذلك الساحر كافرا أضر بمسلم فقتله - وهكذا نقول . وأيضا - فقد صح خلاف ذلك عن عائشة رضي الله عنها . فسقط تعلقهم بحديث قيس . وأما حديث حفصة , وابن عمر ؟ فقد قلنا : إنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم نظرنا في

الآثار التي ذكروا في ذلك : فوجدنا خبر الحسن مرسلا , ولا حجة في مرسل - ولو صح لما كان لهم فيه متعلق أصلا , لأنه إنما فيه حد الساحر : ضربه بالسيف , وليس فيه قتله , والضربة قد تخطئ فتجرح فقط , وقد تقتل - فهم قد خالفوا هذا الخبر وأوجبوا قتله ولا بد . وأما خبر جندب ففي غاية السقوط : أول ذلك - أنه مرسل لا يدرى ممن سمعه أبو العلاء . فلم يبق إلا الآية - فوجب النظر فيها , ففعلنا - بعون الله تعالى - وابتدأنا بأولها من قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}. وقولهم "يعلمون" بدل من " كفروا " . فنظرنا في ذلك - فوجدناه ليس كما ظنوا , وأن قولهم هذا دعوى بلا برهان , بل القول الظاهر هو أن الكلام تم عند قوله تعالى: {كفروا} وكملت القصة , وقامت بنفسها صحيحة تام {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}. ثم ابتدأ تعالى قصة أخرى مبتدأة , وهو : {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فيعلمون ابتداء كلام لا بدل . ثم لو صح : أن " يعلمون " بدل من " كفروا " ولم يحتمل غير ذلك أصلا , لما كان لهم فيه حجة ألبتة , لأن ذلك خبر من الله تعالى عن أن ذلك كان حكم الشياطين بعد أيام سليمان عليه السلام - وذلك شريعة لا تلزمنا , وحكم الله تعالى في الشياطين حكم خارج من حكمنا , وكل حكم لم يكن في شريعتنا فلا يلزمنا . بل قد صح : أن حكم " الجن " اليوم في شريعتنا غير حكمنا , كما قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح لهم الروث والعظام طعاما والروث حرام عندنا وحلال لهم , فكيف وإذا احتمل ظاهر الآية معنيين , فلا يجوز حملها على أحدهما دون الآخر , إلا ببرهان , وقد بينا أن كلا الوجهين لا حجة لهم فيه أصلا . وأيضا - فإن نص قولهم : إن الشياطين كفروا بتعليم الناس السحر - وهم يزعمون : أن الملكين يعلمان الناس السحر , ولا يكفر الملكان عندهم بذلك , فقد أقروا باختلاف حكم تعليم السحر , وأنه يكون كفرا , ولا يكون كفرا بذلك , فإذ قد قالوا ذلك , فمن أين لهم : أن حكم الساحر من الناس الكفر قياسا على الشياطين , دون أن لا يكون كفرا قياسا على الملكين ؟ فكيف والقياس كله باطل . ؟ فصح - أنه لا حجة لهم في تكفير الساحر من الناس : بأن الشياطين يكفرون بتعليمه - هذا لو صح لهم أن كفر الشياطين لم يكن إلا بتعليمهم الناس السحر خاصة - وهذا لا يصح لهم أبدا . بل قد كفروا قبل ذلك , فكان تعليمهم الناس السحر ضلالا زائدا , ومعصية حادثة أخرى , وهذا هو مقتضى ظاهر الآية الذي لا يجوز أن يحال عنه ألبتة , إلا بالدعوى العارية من البرهان - وبالله تعالى التوفيق . ثم صرنا إلى قول الله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} فوجدناهم لا حجة لهم فيه أصلا بوجه من الوجوه لأنه إنما في هذا الكلام النهي عن الكفر جملة , ولم يقولا : فلا تكفر بتعلمك السحر , ولا بعلمك السحر , هذا ما لا يفهم من الآية أصلا . وهكذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا

بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" إنما هو نهي أن يكفروا ابتداء , وعن أن يرتدوا فقط , لا أنهم بقتل بعضهم بعضا يكونون كفارا , وهذا بين لا خفاء به - وبالله تعالى التوفيق . وكل من أقحم في هذه الآية : أن قوله تعالى حاكيا عن القائلين: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} أن مرادهما لا تكفر بتعلمك ما نعلمك فقد كذب , وزاد في القرآن ما ليس فيه وما لا دليل عليه أصلا . ثم صرنا إلى قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} فوجدنا هذا أبعد من أن يكون لهم فيه شبهة يموهون بها من كل ما سلف , لأنه لم يختلف أحد من أهل السنة في أن من فرق بين امرأة وزوجها لا يكون كافرا بذلك ؟ بل قد وجدنا المالكيين , والحنفيين يفرقون بين المرء وزوجه بما لم يأذن الله تعالى به قط , ولا رسوله صلى الله عليه وسلم كالشروط الفاسدة , والتخيير , والتمليك والعنانة , وعدم النفقة . وأعجب من ذلك كله إباحة الحنفيين لمن طالت يده من الفساق , ولمن قصرت يده منهم أن يأتي إلى من عشق امرأة رجل من المسلمين أن يحمل السوط على ظهره حتى ينطق بطلاقها مكره , فإذا اعتدت أكرهها الفاسق على أن تتزوجه بالسياط أيضا , حتى تنطق بالرضا مكرهة , فكان ذلك عندهم نكاحا طيبا , وزواجا مباركا , ووطئا حلالا يتقرب به إلى الله تعالى . وتالله , ما في شريعة الله تعالى من التفريق بين المرء وزوجه أعظم إثما , ولا أشنع حراما وأبعد من رضاء الله تعالى , ولا أدنى , من رأي إبليس , ومن الشياطين , من هذا التفريق الذي أمضوه , وأجازوه , ونسأل الله تعالى العافية من مثل هذا وشبهه . وقد نجد النمام يفرق بين المرء وزوجه فلا يكون بذلك كافرا , فمن أين وقع لهم أن يكفروا الساحر بذلك ؟ فبطل تعلقهم بهذا النص جملة . وهكذا القول في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} إذ ليس كل ما ضر المرء يكون به كافرا , بل يكون عاصيا لله تعالى , لا كافرا ولا حلال الدم . ثم صرنا إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} إلى قوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فوجدناهم لا حجة لهم في تكفير الساحر , ولا في إباحة دمه أصلا , لأن هذه الصفة قد تكون في مسلم بإجماعهم معنا : كما روينا من طريق مسلم نا شيبان بن فروخ نا جرير بن حازم نا نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخر".
قال أبو محمد رحمه الله: وهم لا يختلفون في أن لباس الحرير ليس كفرا , ولا يحل قتل لابسه - فبطل تعلقهم بهذه الآية , ولله الحمد . فنظرنا أن يكون لهم في الآية متعلق أصلا , ولا في شيء من القرآن , ولا من السنن الصحاح , ولا في السنن الواهية

ولا في إجماع , ولا في قول صاحب , ولا في قياس , ولا نظر , ولا رأي سديد يصح , بل كل هذه الوجوه مبطلة لقولهم . فلما بطل قول من رأى أن يقتل الساحر جملة , وقول من ادعى أن السحر كفر بالجملة : وجب أن ننظر في القول الثالث : فوجدنا الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}. وقال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلى قوله: {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} . قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} الآية . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام". فصح بالقرآن والسنة : أن كل مسلم فدمه حرام إلا بنص ثابت أو إجماع متيقن - فنظرنا هل نجد في السحر نصا ثابتا بتبيان ما هو ؟ فوجدنا - من طريق مسلم نا هارون بن سعيد الأيلي نا ابن وهب أخبرني سليمان بن بلال عن ثور بن يزيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات , قيل : يا رسول الله وما هن ؟ قال : الشرك بالله , والسحر , وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق , وأكل مال اليتيم , وأكل الربا , والتولي يوم الزحف , وقذف المحصنات المؤمنات". فكان هذا بيانا جليا بأن السحر ليس من الشرك , ولكنه معصية موبقة كقتل النفس وشبهها , فارتفع الإشكال - ولله الحمد . وصح أن السحر ليس كفرا , وإذا لم يكن كفرا فلا يحل قتل فاعله , لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان , وزنى بعد إحصان , ونفس بنفس". فالساحر ليس كافرا كما بينا , ولا قاتلا , ولا زانيا محصنا , ولا جاء في قتله نص صحيح فيضاف إلى هذه الثلاث , كما جاء في المحارب , والمحدود في الخمر ثلاث مرات . فصح تحريم دمه بيقين لا إشكال فيه . ووجدنا أيضا - من طريق البخاري نا عبد الله بن محمد سمعت سفيان بن عيينة يقول : إن هشام بن عروة حدثهم عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر حتى يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن" قال ابن عيينة : وهذا أشد ما يكون من السحر فقال : يا عائشة - أعلمت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه ؟ أتاني رجلان , فقعد أحدهما عند رأسي , والآخر عند رجلي , فقال الذي عند رأسي للآخر : ما بال الرجل ؟ فقال : مطبوب , قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن أعصم - رجل من بني زريق حليف اليهود , وكان منافقا - قال : وفيم ؟ قال : في مشط ومشاطة , قال : وأين ؟ قال : في جف طلعة ذكر , تحت راعوفة في بئر ذروان , قال : فأتى البئر حتى استخرجه , قال : فهذه البئر التي رأيتها , كأن ماءها نقاعة الحناء , وكأن نخلها رءوس الشياطين , قال : فاستخرج , فقلت : أفلا تنشرت ؟ قال : أما الله فقد شفاني , وأكره أن أثير على الناس شرا".

قال أبو محمد: فهذا خبر صحيح , وقد عرف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من سحره , فلم يقتله . فإن قيل : فإن في هذا الحديث : أنه كان منافقا , وفي بعض رواياته : أنه كان يهوديا - وأنتم تقولون : إن الكافر إذا أضر بمسلم وجب قتله , وبرئت منه الذمة , وأن المنافق إذا عرف وجب قتله ؟ قلنا : إننا كذلك نقول , لأن البرهان قام بذلك . وأما الذمي - إذا أضر بمسلم , فلقول الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فإنما حرمت دماء أهل الكتاب بالتزام الصغار , فإذا فارقوا الصغار فقد برئت ذمتهم , وسقط تحريم دمائهم , وعادت حلالا كما كانت , لأن الله تعالى أباح دماءهم أبدا إلا بالصغار , فإذا لم يكن الصغار فدماؤهم لم تحرم , وهم إذا أضروا بمسلم فلم يصغر وهم وقد أصغروه , فدماؤهم حلال . وأما المنافق - فإذا عرف أنه كافر فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فافتلوه" فهذا المنافق أو اليهودي , نحن على يقين لا مرية فيه : أنه لم يكن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بعد بقتل من بدل دينه , ولا بقتل من لم يلتزم الصغار من أهل الذمة . برهان ذلك - لا يشك أنه من في قلبه مقدار ذرة من إيمان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتعمد عصيان ربه , فلو أمره ربه تعالى بقتلهم لأنفذ ذلك , فإذ لم يقتله عليه السلام , فبيقين نقطع ونبت أن ذلك كان قبل نزول الآية بقتل أهل الكتاب ما لم يؤدوا الجزية مع الصغار , وقبل أن ينزل عليه الأمر بقتل من بدل دينه . فإن قالوا : قولوا كذلك في الساحر ؟ قلنا : نعم , هكذا نقول , وهو أن الساحر بهذا الخبر حرام الدم , وكذلك اليهودي يضر بالمسلم , فكيف بسيد أهل الإسلام صلى الله عليه وسلم وكذلك من أعلن الإسلام وأسر الكفر . ثم صح أمر الله تعالى بتحريم دماء أهل الكتاب بالجزية مع الصغار , وإباحتها بعدم ذلك - وصح أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل من بدل دينه , فصرنا إلى ذلك , ولم يأت أمر صحيح بقتل الساحر , فبقي على تحريم الدم - فارتفع الإشكال جملة - وبالله تعالى التوفيق .

التعزير واختلاف الناس في مقداره
3205 - مسألة : التعزير:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في مقدار التعزير : فقالت طائفة : ليس له مقدار محدود , وجائز أن يبلغ به الإمام ما رآه , وأن يجاوز به الحدود - بالغا ما بلغ - وهو قول مالك - وأحد أقوال أبي يوسف وهو قول أبي ثور , والطحاوي من أصحاب أبي حنيفة . وقالت طائفة : التعزير مائة جلدة فأقل . وقالت طائفة : أكثر التعزير مائة جلدة إلا جلدة . وقالت طائفة : أكثر التعزير تسعة وسبعون سوطا فأقل - هو أحد أقوال أبي يوسف . وقالت

طائفة : أكثر التعزير خمسة وسبعون سوطا فأقل - وهو قول ابن أبي ليلى , وأحد أقوال أبي يوسف . وقالت طائفة : أكثر التعزير ثلاثون سوطا . وقالت طائفة : أكثر التعزير عشرون سوطا . وقالت طائفة : لا يتجاوز بالتعزير تسعة - وهو قول بعض أصحاب الشافعي . وقالت طائفة : أكثر التعزير عشرة أسواط فأقل , لا يجوز أن يتجاوز به أكثر من ذلك - وهو قول الليث بن سعد , وقول أصحابنا ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فمما روي في القول الأول : ما ناه أحمد بن عمر بن أنس نا الحسن بن يعقوب نا سعد بن فلحون نا يوسف بن يحيى نا عبد الملك بن حبيب قال : قال لي مطرف بن عبد الله ثقة : أتي هشام بن عبد الله المخزومي - وهو قاضي المدينة ومن صالح قضاتها - برجل خبيث معروف باتباع الصبيان قد لصق بغلام في ازدحام الناس حتى أفضى , فبعث به هشام إلى مالك , وقال : أترى أن أقتله ؟ قال : وكان هشام شديدا في الحدود , فقال مالك : أما القتل فلا , ولكن أري أن تعاقبه عقوبة موجعة , فقال : كم ؟ قال : ذلك إليك , فأمر به هشام فجلد أربع مائة سوط , وأبقاه في السجن , فما لبث أن مات , فذكروا ذلك لمالك , فما استنكر , ولا رأى أنه أخطأ ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وذكر محمد بن سحنون بن سعيد في كتابه الذي جمع فيه أحكام أبيه أيام ولايته قضاء مدينة القيروان لابن الأغلب , قال : شكا إلى أبي رجل يأتي زوجته أنه غيب عنه ابنته , وحال بينه وبينها ؟ فبعث في أبي الجارية , قال : أين ابنتك امرأة هذا ؟ فقال : والله ما أتتني ولا أدري أين هي ؟ ولا لها عندي علم , قال : فأمر به فحمله إلى وسط السوق , وضرب مائة سوط , ثم سجنه , ثم أخرجه مرة ثانية وجلده في وسط السوق مائة سوط - ثم أنا أشك أذكر الثالثة أو الرابعة أم لا ؟ قال : فمات الرجل من الضرب في السجن , ثم وجد ابنته في بعض الشعاب عند قوم من أهل الفساد . وأما القول الثاني - فكما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني هشام بن عروة عن أبيه أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب حدثه , قال : توفي عبد الرحمن بن حاطب وأعتق من صلى من رقيقه وصام , وكانت له نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه , فلم يرعه إلا حملها وكانت ثيبا , فذهب إلى عمر فزعا فحدثه ؟ فقال : أنت الرجل لا تأتي بخير , فأرسل إليها عمر فسألها , فقال : أحبلت ؟ قالت : نعم , من مرعوش بدرهمين , فصادف ذلك عنده : عثمان , وعليا , وعبد الرحمن بن عوف , فقال : أشيروا علي وكان عثمان جالسا فاضطجع , فقال علي , وعبد الرحمن : قد وقع عليها الحد , فقال : أشر علي يا عثمان ؟ قال : قد أشار عليك أخواك , قال : أشر علي أنت , قال عثمان : أراها تستهل به كأنها لا تعرفه , فليس الحد إلا على من علمه , فأمر بها عمر فجلدت مائة

ثم غربها , ثم قال : صدقت , والذي نفسي بيده ما الحد إلا على من علمه . وبه - إلى عبد الرزاق عن محمد بن راشد قال : سمعت مكحولا يحدث أن رجلا وجد في بيت رجل بعد العتمة ملففا في حصير , فضربه عمر مائة . وبه - إلى عبد الرزاق نا ابن جريج نا جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أنه كان إذا وجد الرجل مع المرأة في لحاف واحد , جلدهما مائة كل إنسان منهما . وبه - إلى عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال : أتي ابن مسعود برجل وجد مع امرأة في لحاف , فضربهما لكل واحد منهما أربعين سوطا , فذهب أهل المرأة وأهل الرجل فشكوا ذلك إلى عمر بن الخطاب ؟ فقال عمر لابن مسعود ما يقول هؤلاء ؟ قال : قد فعلت ذلك . وأما القول الثالث - فروينا عن سعيد بن المسيب , ورويناه أيضا عن ابن شهاب قال : إن عمر بن الخطاب ضرب رجلا دون المائة وجد مع امرأة في العتمة . وأما من قال ثلاثون سوطا فلما رويناه عن سفيان بن عيينة عن جامع عن شقيق قال : كان لرجل على أم سلمة أم المؤمنين حق فكتب إليها يخرج عليها فأمر عمر بأن يجلد ثلاثين جلدة . وأما من قال عشرون سوطا - فكما روينا عن وكيع , وعبد الرحمن , ثم اتفقا كلاهما عن سفيان الثوري عن حميد الأعرج عن يحيى بن عبد الله بن صيفي أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى لا يجلد في تعزير أكثر من عشرين سوطا ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك : - فنظرنا في قول من أسقط التعزير جملة , ومن رأى أنه يزاد فيه عشر جلدات , إذ لم يبق غير هذين القولين , إذ سائر الأقوال قد سقط التعلق بها جملة واحدة . فوجدنا المنع منه جملة , كما جاء عن عمر بن الخطاب , وعن عطاء هو كان الأصل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام". لكن لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع فإن لم يستطع فبلسانه" كان ذلك مطلقا لتغيير المنكر باليد , فكان هذا أمرا مجملا , لا ندري كيفية ذلك التغيير باليد كيف هو ؟ لأن التغيير باليد يكون بالسيف , وبالحجر , ويكون بالرمح , ويكون بالضرب - وهذا لا يقدم عليه إلا ببيان من الله تعالى على لسان رسوله عليه السلام . ثم نظرنا في قول مالك : فوجدناه أبعد الأقوال من الصواب , لأنه لم يتعلق بقرآن , ولا بسنة , ولا بدليل إجماع , ولا بقول أحد من الصحابة رضي الله عنهم , ولا برأي سديد : فنظرنا في ذلك , فوجدنا : ما نا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا عبد الله بن يوسف نا الليث هو ابن سعد

ني يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله عن سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله بن أبي بردة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله تعالى" فكان هذا بيانا جليا لا يحل لأحد أن يتعداه . وقد روينا - عن سفيان الثوري عن أبي حصين عن أبي عامر قال : أتي علي بن أبي طالب برجل وجد تحت فراش امرأة , فقال : اذهبوا به فقلبوه ظهرا لبطن في مكان منتن , فإنه كان في مكان شر منه . ومن طريق محمد بن المثنى نا الضحاك بن مخلد عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني عن رجل : أن رجلا جاء إلى علي بن أبي طالب بمستعد عليه , فقال : هذا احتلم على أمي البارحة ؟ فقال له علي : اذهب فأقمه في الشمس واضرب ظله ؟
قال أبو محمد رحمه الله: ومن أتى منكرات جمة , فللحاكم أن يضربه لكل منكر منها عشر جلدات فأقل - بالغا ذلك ما بلغ - لأن الأمر في التعزير جاء مجملا فيمن أتى منكرا أن يغير باليد , وليس هذا بمنزلة الزاني الذي قد صح الإجماع والنص أن الإيلاج والتكرار سواء - ولا كالشرب الذي قد صح الإجماع والنص على أن الجرعة والسكر سواء - ولا كالسرقة التي قد صح الإجماع بأن سارق ربع دينار وسارق أكثر من ذلك سواء - ولا كالقذف الذي قد صح النص بأن قاذف واحد أو أكثر من واحد سواء - وبالله تعالى التوفيق .

هل يقال ذوو الهيئات عثراتهم وكيف يتجاوز عن مسيء الأنصار رضي الله عنهم
2306 - مسألة : هل يقال ذوو الهيئات عثراتهم وكيف يتجاوز عن مسيء الأنصار رضي الله عنهم:
قال أبو محمد رحمه الله: نا عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك الخولاني نا محمد بن بكير البصري نا أبو داود السجستاني , وجعفر بن مسافر التنيسي نا ابن أبي فديك عن عبد الملك بن زيد - من ولد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود". حدثنا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا أبو عبد الله نا سعيد بن منصور نا أبو بكر بن نافع مولى العمريين قال : سمعت أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم , قالت عمرة : قالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم". حدثنا أحمد بن قاسم نا محمد بن قاسم بن أصبغ نا أبي نا جدي نا مضر بن محمد نا مخلد بن مالك نا عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال عن ابن أبي ذئب أخبرني عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنه جرح

مولى له فاستعدى عليه ابن حزم - وهو والي المدينة - فقال ابن حزم : سمعت جدتي عمرة عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم - أو زلاتهم" وأنت ذو هيئة , وقد أقلتك . حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا عمرو بن علي نا عبد الرحمن بن مهدي نا عبد الملك بن زيد المديني عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمرة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم". نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا محمد بن حاتم نا سويد - هو ابن نصر نا عبد الله - هو ابن المبارك - عن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تجاوزوا عن زلة ذي الهيئة".
قال أبو محمد رحمه الله: حديث عبد الملك كان يكون جيدا لولا أن محمد بن أبي بكر مقدر أنه لم يسمعه من عمرة , لأن هذا الحديث إنما هو عن أبيه أبي بكر عن عمرة - وأما أبو بكر بن نافع - فهو ضعيف ليس هو بشيء - وليس هو أبا بكر بن نافع مولى ابن عمر , ذلك عال ثقة , وهذا متأخر - وأحسنها كلها حديث عبد الرحمن بن مهدي فهو جيد والحجة به قائمة . ومن طريق مسلم نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر نا شعبة سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الأنصار كرشي وعيبتي , والناس سيكثرون ويقلون , فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم". حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا محمد بن يحيى أبو علي الصائغ نا شاذان - أخو عبدان - نا أبي نا شعبة بن الحجاج عن هشام بن زيد قال : سمعت أنس بن مالك يقول: "مر أبو بكر , والعباس , بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون , فقال : ما يبكيكم ؟ فقالوا : ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم منا , فدخل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بذلك , قال : فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد عصب رأسه بحاشية برد , فصعد المنبر - ولم يصعده بعد ذلك اليوم - فحمد الله وأثنى عليه , ثم قال: أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي , وقد قضوا الذي عليهم , وبقي الذي لهم , فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم". وبه - إلى البخاري نا أحمد بن يعقوب نا ابن المغلس قال : سمعت عكرمة يقول : سمعت ابن عباس يقول: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ملحفة متعصبا بها على منكبيه وعليه عصابة دسماء , حتى جلس على المنبر , فحمد الله وأثنى عليه , ثم قال : أما بعد : أيها الناس , فإن الناس يكثرون وتقل الأنصار , حتى يكونوا كالملح في الطعام". فإن قال قائل : فكيف تجمع هذه الآثار مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع" ومع ما حدثكموه

عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا عبدان - هو ابن عثمان - نا عبد الله بن المبارك نا يونس - هو ابن يزيد - عن الزهري أخبرني عروة عن عائشة , قالت: "ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه في شيء يؤتى إليه , حتى ينتهك من حرمات الله , فينتقم لله عز وجل".
قال أبو محمد رحمه الله: فنقول - وبالله تعالى التوفيق - : إن جميعها كلها حق ممكن ظاهر , وذلك ما كان من إساءة لا تبلغ منكرا وجب أن يتجاوز فيها عن الأنصاري في التعزير , ولم يخفف عن غيرهم , وما كان من حد خفيف أيضا من الأنصار ما لا يخفف عن غيرهم , مثل أن يجلد الأنصاري في الخمر بطرف الثوب , وغيره باليد , أو بالجريد , والنعال , ويقال ذو الهيئة - وهو الذي له هيئة علم وشرف - عثرة في جفا , ونحو ذلك ما لم يكن حدا أو منكرا , فلا بد من إقامة الحدود , والتعزير - وبالله تعالى التوفيق .

هل يقتل القرشي فيما يوجب القتل
2307 - مسألة : هل يقتل القرشي فيما يوجب القتل من رجم المحصن إذا زنى , والقود , والحرابة , والردة , وإذا شرب الخمر , بعد أن حد فيها ثلاث مرات أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: نا أحمد بن محمد بن الجسور نا أبو بكر أحمد بن الفضل الدينوري نا محمد بن جرير الطبري نا عبد الله بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ني عمي يعقوب بن إبراهيم ني شعبة بن الحجاج عن عبد الله بن أبي السفر عن عامر الشعبي عن عبد الله بن مطيع بن الأسود عن أبيه مطيع - أخي بني عدي بن كعب وكان اسمه العاص , فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مطيعا - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة يقول: "لا تغزى مكة بعد هذا العام أبدا ولا يقتل رجل من قريش بعد هذا العام صبرا". حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور نا أحمد بن الفضل بن بهرام نا محمد بن جرير ثني عبد الله بن محمد الزهري نا سفيان - هو ابن عيينة - عن زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن الشعبي قال : قال الحارث بن مالك بن البرصاء : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تغزى مكة بعد اليوم أبدا". حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور نا أحمد بن الفضل نا محمد بن جرير ثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي نا محمد بن عبيد عن زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن عامر الشعبي عن الحارث بن مالك بن برصاء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو يقول: "لا تغزى بعدها إلى يوم القيامة".
قال أبو محمد رحمه الله: الحارث هذا - هو الحارث بن مالك بن قيس بن عود بن جابر بن عبد مناف بن كنانة بن سجع بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة - لا يعرف للشعبي سماع من عبد الله بن مطيع - وعبد الله بن مطيع هذا قتل مع

عبد الله بن الزبير في الحصار الأول , ولا يعرف له أيضا سماع من الحارث بن مالك بن البرصاء - فحصل الخبران منقطعين , ولا حجة في منقطع . ثم لو صح لكان المراد بذلك أنه عليه السلام لا يغزوها أبدا , ولا يقتل هو قرشيا بعد ذلك اليوم صبرا , فهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وآله وسلم . وبرهان صحة هذا التأويل : هو قول الله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} فأخبر تعالى أننا سنقاتل فيه ونقتل ونقتل . روينا من طريق مسلم نا قتيبة بن سعيد , وأبو بكر بن أبي شيبة , وإسحاق - هو ابن إبراهيم - واللفظ لقتيبة , قال إسحاق : أخبرنا , وقال الآخران : نا جرير عن عبد العزيز بن رفيع عن عبيد الله ابن القبطية , قال : دخل الحارث بن أبي ربيعة , وعبد الله بن صفوان , وأنا معهما على أم سلمة أم المؤمنين فقالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث فإذا كان ببيداء من الأرض خسف بهم , فقلت : يا رسول الله فكيف بمن كان كارها ؟ قال : يخسف به معهم , ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته".
قال أبو محمد رحمه الله: أسقطنا من هذا الخبر كلاما لبعض رواته ليس من الحديث في شيء , وهو غلط , وهو أنه ذكر أن ذلك كان أيام ابن الزبير - وهو خطأ , لأن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها ماتت أيام معاوية , فإنما الغرض من الحديث كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا كلام من دونه فلا حجة فيه . ومن طريق مسلم نا عمرو بن محمد الناقد نا سفيان بن عيينة عن أمية بن صفوان سمع جده عبد الله بن صفوان يقول : أخبرتني حفصة أنها سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ليؤمن هذا البيت جيش يغزونه حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بهم بأوسطهم , وينادي أولهم آخرهم , ثم يخسف بهم فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم". ومن طريق مسلم ني محمد بن حاتم بن ميمون نا الوليد بن صالح نا عبيد الله بن عمرو نا يزيد بن أبي أنيسة عن عبد الملك العامري عن يوسف بن ماهك أخبرني عبد الله بن صفوان عن أم المؤمنين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيعود بهذا البيت قوم ليس لهم منعة ولا عدد ولا عدة يبعث إليهم جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم". قال يوسف : وأهل الشام يومئذ يسيرون إلى مكة . قال عبد الله بن صفوان : أما والله ما هو بهذا الجيش ؟ ومن طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا يونس بن محمد نا القاسم بن الفضل الحداني عن محمد بن زياد عن عبد الله بن الزبير قال : إن عائشة قالت: "عبث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منامه , فقلنا : يا رسول الله صنعت شيئا في منامك لم تكن تفعله , قال : العجب , إن ناسا من أمتي يؤمون هذا البيت لرجل من قريش قد لجأ بالبيت , حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم ؟ فقلنا : يا رسول الله , فإن الطريق قد تجمع الناس , قال : نعم , فيه

المستبصر , والمجبر , وابن السبيل , يهلكون مهلكا واحدا , ويصدرون مصادر شتى حتى يبعثهم الله على نياتهم".
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا خبر صحيح في غاية الصحة عن ثلاثة من أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن - وعن ابن الزبير - وهو صاحب – "قد أنذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن مكة تغزى بعده" . وأما قتل القرشي صبرا : فلما روينا من طريق مسلم نا محمد بن المثنى نا ابن أبي عدي عن عثمان بن غياث عن أبي عثمان النهدي عن أبي موسى الأشعري قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حائط من حوائط المدينة استفتح رجل فذكر الحديث . وفيه ثم استفتح رجل آخر فقال : افتح وبشره بالجنة على بلوى تكون , قال : فذهبت فإذا عثمان بن عفان قال : ففتحت له وبشرته بالجنة , فقلت الذي قال , فقال : اللهم صبرا والله المستعان". حدثنا عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك الخولاني نا محمد بن بكر نا أبو داود السجستاني نا مسدد نا يزيد بن زريع , ويحيى بن سعيد القطان - واللفظ له - قالا جميعا : نا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك حدثهم: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صعد أحدا فتبعه أبو بكر , وعمر , وعثمان , فرجف بهم , فضربه نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم برجله : اثبت أحد , فإنما عليك نبي , وصديق , وشهيدان".
قال أبو محمد رحمه الله: وأنذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن الكعبة يهدمها ذو السويقتين من الحبشة وهذا لا يكون إلا بعد غزوها - بلا شك - وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنها تغزى بعده , وصرح بأن عثمان تصيبه بلوى كما ترى - فهذا أنذر بأنه سيقتل , وهو قرشي . وصح يقينا : أن حديث الشعبي عن ابن مطيع , وعن الحارث بن برصاء , لو صح - وهو لا يصح - لكان معناه : أنه عليه السلام لا يغزوها بعد يومه ذلك أبدا إلى يوم القيامة , وأنه عليه السلام لا يقتل قرشيا صبرا بعد ذلك اليوم إلى يوم القيامة , وهكذا كان , فإذ هذا معنى ذلك الحديث لو صح - بلا شك - فقد ثبت أن القرشي كغير القرشي في أن يقتل إذا وجب عليه القتل صبرا , كما يقتل غيره , وأن الحدود تقام عليه , كما تقام على غير قرشي , ولا فرق , مع أن هذا أمر مجمع عليه بيقين لا شك فيه - وبالله تعالى التوفيق .

حكم من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الله تعالى
2308 - مسألة : من سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو الله تعالى , أو نبيا من الأنبياء , أو ملكا من الملائكة , أو إنسانا من الصالحين , هل يكون بذلك مرتدا - إن كان مسلما - أم لا ؟ وهل يكون بذلك ناقضا للعهد - إن كان ذميا - أم لا ؟
قال أبو محمد: اختلف الناس فيمن سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو نبيا من الأنبياء , ممن يقول : إنه مسلم : فقالت طائفة : ليس ذلك كفرا . وقالت طائفة : هو كفر

وتوقف آخرون في ذلك : فأما التوقف فهو قول أصحابنا . وأما من قال : إنه ليس كفرا - فإننا روينا بإسناد غاب عنا مكانه من روايتنا , إلا أن علي بن أبي طالب قال : لا أوتى برجل قذف داود عليه السلام بالزنا إلا جلدته حدين . وأما من قال : إنه كفر فأباح دمه بذلك - فإن عبد الله بن ربيع قال : نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا محمد بن العلاء نا أبو بكر نا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن أبي برزة قال : تغيظ أبو بكر على رجل , فقلت : من هو يا خليفة رسول الله ؟ قال: لم ؟ قلت له : لأضرب عنقه , إن أمرتني بذلك ؟ قال : أو كنت فاعلا , قال : قلت: نعم , قال : فذكرت كلمة معناها لأذهب عظم كلمتي التي قلت غضبه , ثم قال : ما كانت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . حدثنا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا الحميدي نا يعلى بن عبيد نا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي برزة , قال : مررت على أبي بكر الصديق وهو متغيظ على رجل من أصحابه , فقلت: يا خليفة رسول الله من هذا الذي تغيظ عليه ؟ قال : ولم تسأل عنه ؟ قلت لأضرب عنقه قال : فوالله لأذهب غضبه ما قلت , ثم قال : ما كان لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا محمد بن المثنى عن أبي داود الطيالسي نا شعبة عن عمرو بن مرة قال : سمعت أبا نصر - هو حميد بن هلال - يحدث عن أبي برزة , قال : أتيت على أبي بكر الصديق وقد أغلظ لرجل فرد عليه , فقلت : ألا أضرب عنقه ؟ فانتهرني وقال : إنها ليست لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا أبو داود نا عفان نا يزيد بن زريع نا يونس بن عبيد عن حميد بن هلال عن عبد الله بن مطرف بن الشخير عن أبي برزة الأسلمي قال : كنا عند أبي بكر فغضب على رجل من المسلمين , فاشتد غضبه جدا , فلما رأيت ذلك قلت : يا خليفة رسول الله أضرب عنقه ؟ فلما ذكرت القتل أضرب عن ذلك الحديث أجمع إلى غير ذلك من النحو , قال : فلما تفرقنا أرسل إلي فقال : يا أبا برزة ما قلت ؟ قال : ونسيت الذي قلت ؟ فقلت له : ذكرنيه ؟ فقال : أما تذكر ما قلت ؟ قلت : لا , والله , قال : رأيت حين رأيتني غضبت على الرجل , فقلت : أضرب عنقه يا خليفة رسول الله , أما تذكر ذلك , أو كنت فاعلا ذلك ؟ قلت : نعم , والله ولئن أمرتني فعلت , قال : والله ما هي لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال أبو محمد: فإن قيل - هذا خبر رواه عمرو بن مرة - مرة عن سالم بن أبي الجعد , ومرة عن أبي البحتري , وكلاهما عن أبي برزة ؟ قلنا : فكان ماذا ؟ كلهم

ثقة , سمعه من كل واحد فحدث به كذلك , وعمرو بن مرة من الجلالة والثقة بحيث لا يغمزه بمثل هذا إلا جاهل . فإن قيل : إن معنى قول أبي بكر هذا إنما هو ما كان لأحد أن يطاع في سفك دم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قلنا نعم , وأراد أيضا معنى آخر , كما روينا مبينا بلا إشكال : حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار أنا معاذ بن معاذ العنبري نا شعبة عن ثوبة العنبري قال : سمعت أبا السوار القاضي عبد الله بن قدامة يحدث عن أبي برزة قال : أغلظ رجل لأبي بكر الصديق , قلت : ألا أقتله ؟ فقال أبو بكر : ليس هذا إلا لمن شتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم - فبين أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنه لا يقتل من شتمه , لكن يقتل من شتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وقد علمنا أن دم المسلمين حرام إلا بما أباحه الله تعالى به , ولم يبحه الله تعالى قط , إلا في الكفر بعد الإيمان , أو زنا المحصن , أو قود بنفس مؤمنة , أو في المحاربة , وقطع الطريق , أو في المدافعة عن الظلمة , أو في الممانعة من حق , أو فيمن حد في الخمر ثلاث مرات , ثم شربها الرابعة فقط . وقد علمنا - أن من سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبيقين ندري أنه لم يزن , ولا شرب خمرا , ولا قصد ظلم مسلم , ولا قطع طريقا - فلم يبق إلا أنه عند أبي بكر كافر . حدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب عن خالد عن حميد عن عمر بن عبد الله عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه كان على الكوفة لعمر بن عبد العزيز , فكتب إلى عمر بن عبد العزيز : إني وجدت رجلا بالكوفة يسبك , وقامت عليه البينة , فهممت بقتله , أو قطع يديه , أو قطع لسانه , أو جلده ثم بدا لي أن أراجعك فيه - فكتب إليه عمر بن عبد العزيز : سلام عليك , أما بعد : والذي نفسي بيده لو قتلته لقتلتك به , ولو قطعته لقطعتك به , ولو جلدته لأقدته منك , فإذا جاءك كتابي هذا , فاخرج به إلى الكناسة فسبه كالذي سبني , أو اعف عنه , فإن ذلك أحب إلي , فإنه لا يحل قتل امرئ مسلم يسب أحدا من الناس إلا رجلا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم " وذهب أبو حنيفة , ومالك , والشافعي , وأحمد بن حنبل , وإسحاق بن راهويه , وسائر أصحاب الحديث , وأصحابهم , إلى أنه بذلك كافر مرتد.
قال أبو محمد: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر فيما احتجت به كل طائفة لقولها لنعلم الحق من ذلك فنتبعه - بعون الله تعالى وتأييده . فوجدنا من قال : لا يكون بذلك كافرا يحتجون بما روينا من طريق مسلم نا زهير بن حرب نا جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود لما كان يوم خيبر: "آثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناسا في القسمة فقال رجل : والله إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله تعالى فأتيت

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بما قال , فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان كالصرف , ثم قال : من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ؟ يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر". وبما روينا من طريق البخاري نا عمرو بن حفص بن غياث نا أبي عن الأعمش نا سفيان قال: قال عبد الله بن مسعود: "كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه , وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه: أما القائل في قسمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه قسمة ما عدل فيها , ولا أريد بها وجه الله تعالى , فقد قلنا : إن هذا كان يوم خيبر , وإن هذا كان قبل أن يأمر الله تعالى بقتل المرتدين , وليس في هذا الخبر أن قائل هذا القول ليس كافرا بقول ذلك , فإذ ليس ذلك في الخبر فلا متعلق لهم به . وأما حديث النبي الذي به ضربه قومه فأدموه , فكذلك أيضا , ومعنى دعاء ذلك النبي عليه السلام لهم بالمغفرة : إنما هو بأن يؤمنوا فيغفر الله تعالى لهم , ويبين أنهم كانوا كفارا به قوله "فإنهم لا يعلمون" فصح أنهم كانوا لا يعلمون بنبوته . فصح أن كلا الخبرين لا حجة لهم فيه . وأما سب الله تعالى - فما على ظهر الأرض مسلم يخالف في أنه كفر مجرد , إلا أن الجهمية , والأشعرية - وهما طائفتان لا يعتد بهما - يصرحون بأن سب الله تعالى , وإعلان الكفر , ليس كفرا , قال بعضهم : ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر , لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى - وأصلهم في هذا أصل سوء خارج عن إجماع أهل الإسلام - وهو أنهم يقولون : الإيمان هو التصديق بالقلب فقط - وإن أعلن بالكفر - وعبادة الأوثان بغير تقية ولا حكاية , لكن مختارا في ذلك الإسلام .
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا كفر مجرد ; لأنه خلاف لإجماع الأمة , ولحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة ومن بعدهم ; لأنه لا يختلف أحد - لا كافر ولا مؤمن - في أن هذا القرآن هو الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكر أنه وحي من الله تعالى , وإن كان قوم من الروافض ادعوا أنه نقص منه , وحرف , فلم يختلفوا أن جملته - كما ذكرنا . ولم يختلفوا في أن فيه التسمية بالكفر , والحكم بالكفر قطعا على من نطق بأقوال معروفة , كقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ}. فصح أن الكفر يكون كلاما . وقد حكم الله تعالى بالكفر على إبليس - وهو عالم بأن الله خلقه من نار وخلق آدم من طين - وأمره بالسجود لآدم وكرمه عليه - وسأل الله تعالى النظرة إلى يوم يبعثون . ثم يقال لهم : إذ ليس شتم الله تعالى كفرا عندكم , فمن أين قلتم : إنه دليل على الكفر ؟ فإن قالوا : لأنه محكوم على قائله بحكم الكفر ؟ قيل لهم : نعم , محكوم عليه بنفس قوله , لا بمغيب ضميره الذي لا يعلمه إلا الله تعالى

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29